لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
و"صيفي"، [واحق] . (1) وكان هؤلاء الثلاثة من خيار المسلمين، فخرج أبو عامر هاربًا هو وابن عبد ياليل، من ثقيف، (2) وعلقمة بن علاثة، من قيس، من رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لحقوا بصاحب الروم. فأما علقمة وابن عبد ياليل، (3) فرجعا فبايعا النبي صلى الله عليه وسلم وأسلما. وأما أبو عامر، فتنصر وأقام. قال: وبنى ناسٌ من المنافقين مسجد الضرار لأبي عامر، قالوا: "حتى يأتي أبو عامر يصلي فيه"، وتفريقًا بين المؤمنين، يفرقون به جماعتهم، (4) لأنهم كانوا يصلون جميعًا في مسجد قباء. وجاءوا يخدعون النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، ربما جاء السيلُ، فيقطع بيننا وبين الوادي، (5) ويحول بيننا وبين القوم، ونصلي في مسجدنا، (6) فإذا ذهب السيل صلينا معهم! قال: وبنوه على النفاق. قال: وانهار مسجدهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: وألقى الناس عليه التِّبن والقُمامة، (7) فأنزل الله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين) ، لئلا يصلي في مسجد قباء جميعُ المؤمنين = (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، أبي عامر = (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) .
17200- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن أبي جعفر، عن ليث: أن شقيقًا لم يدرك الصلاة في مسجد بني عامر، فقيل له: مسجد بني فلان لم يصلُّوا بعدُ! فقال: لا أحب أن أصلي فيه، فإنه بُني على ضرار، وكل مسجد بُنِيَ ضرارًا أو رياءً أو سمعة، فإن أصله ينتهي إلى المسجد الذي بني على ضرار.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تقم، يا محمد، في المسجد الذي بناه هؤلاء المنافقون، ضرارًا وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله. ثم أقسم جل ثناؤه فقال: (لمسجد أسِّس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم) ، أنت = (فيه) .
* * *
يعني بقوله: (أسس على التقوى) ، ابتدئ أساسه وأصله على تقوى الله وطاعته = (من أول يوم) ، ابتدئ في بنائه = (أحق أن تقوم فيه) ، يقول: أولى أن تقوم فيه مصلِّيًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " وأخيه "، والذي في المخطوطة كما أثبته غير مقروء قراءة ترتضي. وممكن أن تكون " وأخوه "، ولكنه عندئذ خطأ، صوابه أن يكون و " أخيه "، كما أثبته ناشر المطبوعة.
بيد أن السياق يدل على أن ما بين القوسين اسم ثالث، وهو اسم أخي حنظلة، وصيفي، ولم استطع أن أجد خبر ذلك.
وأما " صيفي "، فقد ذكره ابن حجر في الإصابة في ترجمة " صيفي "، وأنه كان ممن شهد أحدا، ونسب ذلك إلى ابن سعد والطبراني، ولم أجده في المطبوع من طبقات ابن سعد.
(2) الذي جاء في المخطوطة والمطبوعة: " ابن بالين "، وإن كان في المخطوطة غير منقوط.
وهو خطأ لا شك فيه عندي، وأن صوابه: " وابن عبد ياليل " كما أثبته. فإن ابن عبد البر في الاستيعاب: 105، في ترجمة " حنظلة الغسيل "، ذكر أن أبا عمر الفاسق لما فتحت مكة، لحق بهرقل هاربا إلى الروم، فمات كافرا عند هرقل، وكان معه هناك " كنانة بن عبد ياليل " و " علقمة بن علاثة "، فاختصما في ميراثه إلى هرقل، فدفعه إلى كنانة بن عبد ياليل، وقال لعلقمة: هما من أهل المدر، وأنت من أهل الوبر.
و" كنانة بن عبد ياليل الثقفي "، ترجم له ابن حجر في القسم الرابع، وذكره ابن سلام الجمحي، في طبقات فحول الشعراء ص: 217، في شعراء الطائف، ولم يورد له خبرا بعد ذكره.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " وابن بالين "، وفي المخطوطة غير منقوطة. انظر التعليق السالف.
(4) في المطبوعة: " بين جماعتهم "، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: " يقطع "، وأثبت ما في المخطوطة.
(6) في المطبوعة: " فنصلي "، وأثبت ما في المخطوطة.
(7) في المطبوعة: " النتن والقامة " والصواب ما في المخطوطة. و " التبن " عصيفة الزرع، فهو الذي يلقى. وأما " النتن " فالرائحة الكريهة، فكأنه ظن أن " النتن " مجاز لمعنى " الأقذار "، لنتن رائحتها! وهو باطل.(14/474)
وقيل: معنى قوله: (من أول يوم) ، مبدأ أول يوم كما تقول العرب: "لم أره من يوم كذا"، بمعنى: مبدؤه = و"من أول يوم"، يراد به: من أول الأيام، كقول القائل: "لقيت كلَّ رجل"، بمعنى كل الرجال.
* * *
واختلف أهل التأويل في المسجد الذي عناه بقوله: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) .
فقال بعضهم: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه منبره وقبره اليوم.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
17201- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن إبراهيم بن طهمان، عن عثمان بن عبيد الله قال: أرسلني محمد بن أبي هريرة إلى ابن عمر، أسأله عن المسجد الذي أسس على التقوى، أيّ مسجد هو؟ مسجد المدينة، أو مسجد قباء؟ قال: لا مسجد المدينة. (1)
17202-...... قال، حدثنا القاسم بن عمرو العنقزي، عن الدراوردي، عن عثمان بن عبيد الله، عن ابن عمر، وزيد بن ثابت، وأبي سعيد قالوا: المسجد الذي أسس على التقوى، مسجد الرسول. (2)
__________
(1) الأثر: 17201 - " إبراهيم بن طهمان الخراساني "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 3762، 3727، 4931.
و" عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع "، مولى سعيد بن العاص. رأى أبا هريرة، وأبا قتادة، وابن عمر، وأبا أسيد، يضفرون لحاهم. مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 156. وسيأتي في الأثرين التاليين رقم: 17202، 17203.
وأما قوله: " أرسلني محمد بن أبي هريرة "، فإني أرتاب فيه كل الارتياب، وأرجح أنه: " محرر بن أبي هريرة "، ولم أجد لأبي هريرة ولد يقال له " محمد "، بل ولده هم " المحرر بن هريرة "، و " وعبد الرحمن بن أبي هريرة "، و " بلال بن أبي هريرة ". ومضى " المحرر بن أبي هريرة " برقم: 2863، 16368 - 16370.
(2) الأثر: 17202 - " القاسم بن عمرو بن محمد العنقزي "، مولى قريش، سمع أباه. مترجم في الكبير 4 / 1 / 172، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 115، ولم يذكرا فيه جرحا.
" الدراوردي "، هو " عبد العزيز بن محمد بن عبيد الدراوردي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 10676، 15714.
و" عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع "، مضى في الأثر السالف.(14/476)
17203-...... قال، حدثنا أبي، عن ربيعة بن عثمان، عن عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع قال: سألت ابن عمر عن المسجد الذي أسس على التقوى؟ قال: هو مسجد الرسول. (1)
17204-...... قال، حدثنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد قال: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
17205-...... قال، حدثنا أبي، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن ذكوان، عن أبيه، عن خارجة بن زيد، عن زيد قال: هو مسجد الرسول.
17206- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، حدثنا حميد الخراط المدني قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن قال: مر بي عبد الرحمن بن أبي سعيد فقلت: كيف سمعت أباك يقول في المسجد الذي أسس على التقوى؟ فقال لي: [قال أبي] (2) أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلت عليه في بيت بعض نسائه، فقلت: يا رسول الله، أيُّ مسجدٍ الذي أسس على التقوى؟ قال: فأخذ كفًّا من حصباء فضرب به الأرض، ثم قال: هو مسجدكم هذا! = [فقلت] : (3) هكذا سمعت أباك يذكره. (4)
__________
(1) الأثر: 17203 - " ربيعة بن عثمان بن ربيعة التيمي "، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 264، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 476.
و" عثمان بن عبيد الله بن أبي رافع "، مضى في الأثرين السالفين.
(2) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من لفظ حديث مسلم. ولو قلت " قال قال أبي "، لكان مطابقا لما في المسند.
(3) في المخطوطة: " ثم هكذا سمعت أباك يذكر "، وفي المطبوعة حذف " ثم " وجعل " يذكر "، " يذكره ". فزدت ما بين القوسين إتماما للسياق. ونص روايته مسلم: " قالت فقلت: أشهد أني سمعت أباك هكذا يذكره ".
(4) الأثر: 17206 - رواه مسلم في صحيحه 9: 168، 169 من هذه الطريق نفسها، مع اختلاف يسير في بعض لفظه.
ورواه أحمد في مسنده 3: 24، من هذه الطريق، نفسها مع خلاف في بعض لفظه.(14/477)
17207- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أسامة بن زيد، عن عبد الرحمن بن أبي سعيد، عن أبيه قال: المسجد الذي أسس على التقوى، هو مسجدُ النبيِّ الأعظمُ.
17208- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن سعيد بن المسيب قال: إن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، هو مسجد المدينة الأكبر.
17209- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال، قال سعيد بن المسيب، فذكر مثله = إلا أنه قال: الأعظم.
17210- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان، عن ابن حرملة، عن سعيد بن المسيب قال: هو مسجد النبي صلى الله عليه وسلم.
17211- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد = قال: أحسبه عن أبيه = قال: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أسس على التقوى.
* * *
وقال آخرون: بل عني بذلك مسجد قُباء.
* ذكر من قال ذلك:
17212- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) ، يعني مسجد قُباء.
17213- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، نحوه.
17214- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية: (لمسجد أسس على التقوى من أول يوم) ، هو مسجد قباء.(14/478)
17215- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن صالح بن حيان، عن ابن بريدة قال: مسجد قُباء، الذي أسس على التقوى، بناه نبي الله صلى الله عليه وسلم. (1)
17216- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: المسجد الذي أسس على التقوى، مسجد قباء.
17217- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير: الذين بُني فيهم المسجدُ الذي أسس على التقوى، بنو عمرو بن عوف.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب قول من قال: هو مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، لصحة الخبَر بذلك عن رسول الله. (2)
* ذكر الرواية بذلك.
17218- حدثنا أبو كريب وابن وكيع = قال أبو كريب: حدثنا وكيع = وقال ابن وكيع: حدثنا أبي = عن ربيعة بن عثمان التيمي، عن عمران بن أبي أنس، رجل من الأنصار، عن سهل بن سعد قال، اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال أحدهما: هو مسجد النبيّ! وقال الآخر: هو مسجد قباء! فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه، فقال: هو مسجدي هذا = اللفظ لحديث أبي كريب، وحديث سفيان نحوه. (3)
__________
(1) الأثر: 17215 - " صالح بن حيان القرشي "، ضعيف الحديث، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 276، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 398، وميزان الاعتدال 1: 455.
" ابن بريدة "، هو " عبد الله بن بريدة بن الحصيب الأسلمي "، ثقة، مضى برقم: 12523.
(2) يعني الخبر الذي رواه أحمد ومسلم وأبو جعفر آنفا برقم: 17206، وما سيأتي من الأخبار.
(3) الأثر: 17218 - " ربيعة بن عثمان التيمي "، ثقة، مضى برقم: 17203.
و" عمران بن أبي أنس العامري المصري " ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 2 294.
وأما قول أبي جعفر " رجل من الأنصار "، فظني أن ذلك لأنه يقال إنه مولى " أبي خراش السلمي، أو الأسلمي "، قال ابن سعد: " كانوا يزعمون أنهم من بني عامر بن لؤى، والناس يقولون إنهم موالي، ثم انتموا بعد ذلك إلى اليمن ".
ولم أجدهم ذكروا له سماعا من سهل بن سعد الأنصاري، وهو خليق أن يروى عنه، لأن سهل بن سعد مات سنة 88، وعمران مات سنة 117.
و" سهل بن سعد بن مالك الساعدي الأنصاري "، له ولأبيه صحبة، روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بن كعب، وعاصم بن عدي، وعمرو بن عبسة، ومروان بن الحكم، وهو دونه.
وهذا الخبر تفرد به أحمد من هذه الطريق نفسها، في مسنده 5: 331، ثم رواه في ص: 335، من طريق عبد الله بن عامر، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، وانظر الخبر التالي.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 34، وقال: " رواه أحمد والطبراني باختصار، ورجالهما رجال الصحيح ".(14/479)
17219- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو نعيم، عن عبد الله بن عامر الأسلمي، عن عمران بن أبي أنس، عن سهل بن سعد، عن أبيّ بن كعب: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال: مسجدي هذا. (1)
17220- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، حدثني الليث، عن عمران بن أبي أنس، عن ابن أبي سعيد، عن أبيه، قال: تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، فقال رجل: هو مسجد قباء! وقال آخر: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله: هو مسجدي هذا. (2)
17221- حدثني بحر بن نصر الخولاني قال، قرئ على شعيب بن الليث،
__________
(1) الأثر: 17219 - " عبد الله بن عامر الأسلمي "، ضعيف، ذاهب الحديث، مضى برقم: 15586.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 117، من طريق أبي نعيم، عن عبد الله بن عامر الأسلمي، ومن طريق عبد الله بن الحارث الأسلمي، عن عبد الله بن عامر.
وهذا إسناد ضعيف، لضعف " عبد الله بن عامر الأسلمي ".
(2) الأثر: 17220 - هذا حديث صحيح، رواه الترمذي في كتاب التفسير، ورواه أحمد في مسنده 3: 8، 89، وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح. وقد روى هذا عن أبي سعيد من غير هذا الوجه، رواه أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد "، وهو ما سيرويه، أبو جعفر من رقم: 17222 - 17224.(14/480)
عن أبيه، عن عمران بن أبي أنس، عن سعيد بن أبي سعيد الخدري قال: تمارى رجلان، فذكر مثله. (1)
17222- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني سَحْبَل بن محمد بن أبي يحيى قال، سمعت عمي أنيس بن أبي يحيى يحدث، عن أبيه، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: المسجد الذي أسس على التقوى، مسجدي هذا، وفي كلٍّ خيرٌ. (2)
17223- حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثنا عبد العزيز، عن أنيس، عن أبيه، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (3)
17224- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا صفوان بن عيسى قال، أخبرنا أنيس بن أبي يحيى، عن أبيه، عن أبي سعيد: أن رجلا من بني خُدْرة
__________
(1) الأثر: 17221 - " بحر بن نصر بن سابق الخولاني "، شيخ أبي جعفر، مضى برقم: 10588، 10647.
وهذا الخبر، ذكره ابن كثير في تفسيره 4: 243، من مسند أحمد قال: " حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا ليث، عن عمران بن أبي أنس، عن سعيد بن أبي سعيد قال: تمارى رجلان ". ولم أستطع أن أستخرجه من المسند في ساعتي هذه، وقال ابن كثير: " تفرد به أحمد ".
(2) الأثر: 17222 - " سحبل بن محمد بن أبي يحيى سمعان الأسلمي "، هو " عبد الله بن محمد بن أبي يحيى "، وقد ينسب إلى جده. ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 156.
وفي بعض الكتب غير مضبوط " سحيل " بالياء، وضبطه في التقريب بفتح السين المهملة، وسكون الحاء، بعدها موحدة. وكان في المطبوعة: " سجل "، والصواب ما في المخطوطة.
و" أنيس بن أبي يحيى سمعان الأسلمي "، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 43، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 334.
وأبوه " سمعان "، " أبو يحيى، الأسلمي "، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 205، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 316.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 3: 23 من طريق: يحيى، عن أنيس بن أبي يحيى، بنحوه.
ثم رواه أيضا 3: 91 من طريق صفوان، عن أنيس، بنحوه (رواه أبو جعفر برقم: 17224) .
وإسناده صحيح. وسيأتي من طرق أخرى بعده.
(3) الأثر: 17223 - مكرر الذي قبله.(14/481)
ورجلا من بني عمرو بن عوف، امتريا في المسجد الذي أسس على التقوى، فقال الخدريُّ: هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال العوفي: هو مسجد قباء. فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه فقال: هو مسجدي هذا، وفي كلٍّ خيرٌ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: في حاضري المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، رجال يحبُّون أن ينظفوا مقاعدَهم بالماء إذا أتوا الغائط، والله يحبّ المتطهّرين بالماء.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17225- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن شهر بن حوشب قال: لما نزل: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الطُّهور الذي أثنى الله عليكم؟ قالوا: يا رسول الله، نغسل أثر الغائط. (2)
__________
(1) الأثر: 17224 - رواه أحمد في مسنده، كما أشرت إليه في التعليق على رقم: 17222.
و" صفوان بن عيسى الزهري "، من شيوخ أحمد، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 310، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 425.
(2) الأثر: 17225 - حديث شهر بن حوشب المرسل، سيأتي ذكره في التعليق على رقم: 17228، بعده.(14/482)
17226- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأهل قُباء: "إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطُّهور، فما تصنعون؟ " قالوا: إنا نغسل عنَّا أثر الغائط والبوْل.
17227- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: لما نزلت: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: يا معشر الأنصار، ما هذا الطُّهور الذي أثنى الله عليكم فيه؟ قالوا: إنا نَسْتطيب بالماء إذا جئنا من الغائط.
17228- حدثني جابر بن الكردي قال، حدثنا محمد سابق قال، حدثنا مالك بن مغول، عن سيَّارٍ أبي الحكم، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: قام علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أخبروني، فإن الله قد أثنى عليكم بالطُّهور خيرًا؟ فقالوا: يا رسول الله، إنا نجد عندنا مكتوبًا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء. (1)
__________
(1) الأثر: 17228 - حديث شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام، سيأتي من طرق، هذا ثم: 17229 - 17231، 17240.
" جابر بن الكردي بن جابر الواسطي "، شيخ الطبري، ثقة مضى برقم: 7216.
و"محمد بن سابق التميمي"، ثقة، قيل إنه ليس ممن يوصف بالضبط في الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 111، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 283، ولم يذكرا فيه جرحا.
و" مالك بن مغول بن عاصم البجلي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 5431، 10872، 14268.
و" سيار، أبو الحكم العنزي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 39.
و" شهر بن حوشب الأشعري "، ثقة، مضى برقم: 1489، 5244، 6650 - 6652، وبعدها كثير.
و" محمد بن عبد الله بن سلام بن الحارث الخزرجي الإسرائيبلي "، له رؤية ورواية محفوظة. مترجم في تعجيل المنفعة: 366، 367، والكبير 1 / 1 / 18، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 297، والاستيعاب: 234، 235، وأسد الغابة 4: 324، والإصابة، في ترجمته.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 6: 6، من طريق " يحيى بن آدم، حدثنا مالك - يعني ابن مغول - قال سمعت سيارا أبا الحكم غير مرة يحدث عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله. . . ".
ورواه البخاري في التاريخ الكبير 1 / 1 / 18 من طريق محمد بن يوسف، عن مالك بن مغول، بنحوه، ثم قال: " وقال إسحاق، عن جرير، عن ليث، عن رجل من الأنصار من أهل قباء: لما نزلت، بهذا ". فبين الاختلاف فيه على شهر بن حوشب، وأنه أبهم الرجل من الأنصار.
وأشار إليه الحافظ ابن عبد البر في ترجمته وقال: " حديثه مخرج في التفسير، ويختلف في إسناد حديثه هذا، ومنهم من يجعله مرسلا "، والمرسل هو رواية الطبري السالفة رقم: 17225، وقال ابن حجر في الإصابة: " قال ابن منده: رواه داود بن أبي هند، عن شهر مرسلا، لم يذكر محمد ولا أباه ".
ورواه ابن الأثير في أسد الغابة في ترجمته.
وسيأتي في رقم: 17230، قول يحيى بن آدم " ولا أعلم إلا عن أبيه ". فانظر التعليق على الأثر هناك.(14/483)
17229- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا [يحيى بن رافع] ، عن مالك بن مغول قال، سمعت سيارًا أبا الحكم غير مرة، يحدث، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قُباء قال: إن الله قد أثنى عليكم بالطهور خيرا = يعني قوله: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قالوا: إنا نجده مكتوبًا عندنا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء. (1)
17230- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا [يحيى بن رافع] ، قال، حدثنا مالك بن مغول، عن سيار، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام = قال يحيى: ولا أعلمه إلا عن أبيه = قال قال النبي صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا! قالوا: إنا نجده
__________
(1) الأثر: 17229 - " يحيى بن رافع "، هكذا جاء في الموضعين في مطبوعة الطبري ومخطوطته، ولا أدري كيف وقع هذا، فليس في هذه الطبقة من الرواة من أعرفه يقال له " يحيى بن رافع "، وأما "يحيى بن رافع الثقفي"، فهذا قديم جدا سمع عثمان وأبا هريرة، ومضى برقم: 5777، ولكنه لما وقع هكذا في الموضعين أثبته على حاله.
أما الذي لا أكاد أشك فيه، فالصواب أنه " يحيى بن آدم "، كما جاء في مسند أحمد، وكما ذكره الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة، والإصابة، وذكر أيضا رواية أبي هشام الرفاعي عن يحيى بن آدم، كما سترى بعد، من طريق البغوي.
وهذا الخبر، رواه ابن حجر في الإصابة، وقال: " أخرجه أحمد، والبخاري في تاريخه، وأبو بكر بن أبي شيبة، وابن قانع، والبغوي ". وانظر التعليق على رقم: 17228، وعلى رقم: 17230.(14/484)
مكتوبًا علينا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء. وفيه نزلت: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) . (1)
17231- حدثني عبد الأعلى بن واصل قال، حدثنا إسماعيل بن صبيح اليشكري قال، حدثنا أبو أويس المدني، عن شرحبيل بن سعد، عن عويم بن ساعدة، وكان من أهل بدر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: إني أسمع الله قد أثنى عليكم الثَّناء في الطهور، (2) فما هذا الطهور؟ قالوا: يا رسول الله، ما نعلم شيئًا، إلا أن جيرانًا لنا من اليهود رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا. (3)
__________
(1) الأثر: 17230 - هكذا " يحيى بن رافع "، والصواب المرجح " يحيى بن آدم " كما سلف في التعليق الماضي.
ومن هذا الطريق ذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة وتعجيل المنفعة، وفيه زيادة " ولا أعلمه إلا عن أبيه "، ونسبه إلى البغوي في الصحابة، ثم أعقبه بقوله: " قال قال أبو هشام (يعني الرفاعي) ، وكتبته من أصل كتاب يحيى بن آدم، ليس فيه عن أبيه " ثم قال: " وقال البغوي: حدث به الفريابي، عن مالك بن مغول، عن سيار، عن شهر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يذكر أباه ".
ثم قال: " روى سلمة بن رجاء، عن مالك بن مغول، فزاد فيه: عن أبيه. وقال أبو زرعة الرازي: الصحيح عندنا عن محمد، ليس فيه: عن أبيه ".
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 212، 213 على محمد بن عبد الله بن سلام، عن أبيه، ثم قال: " رواه الطبراني في الكبير، وفيه شهر بن حوشب، وقد اختلفوا فيه. ولكنه وثقه أحمد وابن معين، وأبو زرعة، ويعقوب بن أبي شيبة " ثم خرجه عن محمد بن عبد الله بن سلام، ثم قال: " رواه أحمد عن محمد بن عبد الله بن سلام، ولم يقل: عن أبيه، كما قال الطبراني. وفيه شهر أيضا ".
فهذا الذي ذكرته دال، أولا، على أن صواب الاسم " يحيى بن آدم "، لا " يحيى بن رافع " كما وقع في المخطوطة والمطبوعة. ودال أيضا على الاختلاف في هذا الخبر اختلافا يوجب النظر.
ثم بقي شيء آخر، لم أجد من ذكره في الكلام على هذا الخبر، أرجو أن أكون أصبت في ذكره وبيانه.
وذلك أن الثناء من الله على رجال يحبون أن يتطهروا، كانوا يلزمون المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم، وهو مسجد قباء بلا شك. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما سأل هؤلاء عن ثناء الله عليهم. وهؤلاء الرجال هم من بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، ومنزلهم بقباء. وهم قوم عرب على دينهم في الجاهلية، لم يذكر أحد أنهم كانوا يهودا.
وخبر شهر بن حوشب هذا، عن محمد بن عبد الله بن سلام، ذكر فيه ثناء الله على هؤلاء الرجال، وأن جوابهم كان: " إنا نجد عندنا مكتوبا في التوراة، الاستنجاء بالماء "، فظاهر هذا الخبر يدل على أن دينهم كان اليهودية. وذلك ما لم أجد قائلا قال به.
و" محمد بن عبد الله بن سلام "، وأبوه " عبد الله بن سلام بن الحارث "، من بني قينقاع، من اليهود، من ذرية يوسف النبي عليه السلام، وكان عبد الله بن سلام حليف القواقل من الخزرج، وهم بنو عمرو بن عوف بن الخزرج، وليسوا من " بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس " في شيء، ومنازل هؤلاء غير منازل هؤلاء. وفي إسلام عبد الله بن سلام (سيرة ابن هشام 2: 163) ، أنه قال، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهجرته: " فلما نزل بقباء، في بني عمرو بن عوف، أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها "، فعبد الله بن سلام، وولده لم يكن منهم أحد بقباء.
فقوله في الخبر رقم: 17228 " قام علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألا أخبروني. . . "، إلى آخر الخبر، مشكل جدا، لأن الخبر خبر محمد بن عبد الله بن سلام، والضمير فيه راجع إليه وإلى قومه أو حلفائه بني عمرو بن عوف بن الخزرج، وهذا لا يصح البتة، بدليل قوله في الذي يليه: أن ذلك كان " لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم على أهل قباء ".
وهذا الذي ذكرت اضطراب شديد في صلب الخبر، لا يرفعه شيء. ومهما يكن من أمر إسناده، واختلاف المختلفين فيه على شهر بن حوشب، فإن علته في سياقه، أشد من علته في إسناده عندي. والله أعلم من أين أتى هذا الاضطراب؟ والذي لا شك فيه: أنه بعيد جدا أن يكون هذا الجواب من كلام بني عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس، وأنه أشبه بأن يكون كلام أحد من حلفائهم اليهود.
وأوضح منه ما جاء في خبر عويم بن ساعدة (رقم: 17231) ، وهو: " ما نعلم شيئا، إلا أن جيرانا لنا من اليهود، رأيناهم يغسلون أدبارهم من الغائط، فغسلنا كما غسلوا ". فهذا أبين، وأقرب إلى سياق ما سئلوا عنه، وأدنى إلى رفع الاضطراب. والله تعالى أعلم.
(2) في المسند: " قد أحسن عليكم الثناء "، ولو قرئ ما في المخطوطة: " قد أسنى " بمعنى: رفع، لكان حسنا.
(3) الأثر: 17231 - " عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى بن هلال الأسدي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 11125.
و" إسماعيل بن صبيح اليشكري "، ثقة، مضى برقم: 2996، 8640، 11158.
و" أبو أويس المدني "، هو " عبد الله بن عبد الله بن أويس بن مالك الصبحي "، صدوق، ليس بحجة، مضى برقم: 8640.
و" شرحبيل بن سعد الخطمي "، قال أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: 8396: " الحق أنه ثقة، إلا أنه اختلط في آخر عمره، إذ جاوز المئة. وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند: 2104. وأخرج له ابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما، والكلام في تضعيفه شديد، وذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب، روايته عن عويم بن ساعدة فقال: " وفي سماعه من عويم بن ساعدة نظر، لأن عويما مات في حياة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويقال: في خلافة عمر رضي الله عنه ".
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 3: 422 من طريق حسين بن محمد، عن أبي أويس، بنحوه.
وذكره ابن كثير في تفسير 4: 41، ثم قال: " ورواه ابن خزيمة في صحيحه ". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 212، وقال: " رواه أحمد، والطبراني في الثلاثة. وفيه شرحبيل بن سعد، ضعفه مالك، وابن معين، وأبو زرعة، وثقه ابن حبان ".(14/485)
17232- حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا محمد بن سعيد قال، حدثنا إبراهيم بن محمد، عن شرحبيل بن سعد قال: سمعت خزيمة بن ثابت يقول: نزلت هذه الآية: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ، قال: كانوا يغسلون أدبارهم من الغائط.
17233- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي ليلى، عن عامر قال: كان ناس من أهل قُباء يستنجون بالماء، فنزلت: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) .
17234- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا شبابة بن سوار، عن شعبة، عن مسلم القُرِّيّ قال: قلت لابن عباس: أصبُّ على رأسي؟ = وهو محرم = قال: ألم تسمع الله يقول: (إن الله يحب التوّابين ويحب المتطهرين) ؟ (1)
17235- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن داود، وابن أبي ليلى، عن الشعبي، قال، لما نزلت: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل قباء: ما هذا الذي أثنى الله عليكم؟ قالوا: ما منَّا من أحدٍ إلا وهو يستنجي من الخلاء.
17236- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عبد الحميد المدني، عن إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعويم بن ساعدة: ما هذا الذي أثنى الله عليكم: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ؟ قال: نوشك أن نغسل الأدبار بالماء! (2)
__________
(1) الأثر: 17234 - " مسلم القري " بضم القاف وتشديد الراء، نسبة إلى بني قرة، من عبد القيس وهو مولاهم = هو: " مسلم بن مخراق العبدي الفريابي "، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 271، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 194.
(2) الأثر: 17236 - " عبد الحميد المدني ". ظني أنه " عبد الحميد بن سليمان الخزاعي، أبو عمر المدني الضرير "، روى عن أبي حازم، وأبي الزناد، وروى عنه هشيم، وهو من أقرانه، ضعيف الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 14.
و" إبراهيم بن إسماعيل الأنصاري "، ظني أيضا أنه " إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع بن جارية الأنصاري المدني "، روى عن الزهري وغيره، وهو ضعيف أيضا، كثير الوهم. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 271، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 84.
وفي تفسير ابن كثير 4: 241 " عن إبراهيم بن المعلى الأنصاري "، ولم أجد له ذكرا في كتب الرجال.(14/487)
17237- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن حصين، عن موسى بن أبي كثير قال: بدء حديث هذه الآية في رجال من الأنصار من أهل قباء: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ، فسألهم النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: نستنجي بالماء. (1)
17238- حدثني المثنى قال، حدثنا أصبغ بن الفرج قال، أخبرني ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن أبي الزناد قال: أخبرني عروة بن الزبير، عن عويم بن ساعدة، من بني عمرو بن عوف، ومعن بن عدي، من بني العجلان، وأبي الدحداح = فأما عويم بن ساعدة، فهو الذي بلغنا أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: مَنِ الذين قال الله فيهم: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم الرجال، منهم عويم بن ساعدة = لم يبلغنا أنه سمّى منهم رجلا غير عويم. (2)
__________
(1) الأثر: 17237 - " عبد الرحمن بن سعد "، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي "، مضى برقم: 10666، 10855، 17011.
و" أبو جعفر " هو " أبو جعفر الرازي "، مضى مرارا كثيرة.
و" حصين " هو " حصين بن عبد الرحمن السلمي "، مضى مرارا آخرها: 16671.
و" موسى بن أبي كثير الأنصاري "، ثقة، في الحديث: مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 293، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 7.
(2) الأثر: 17238 - " أصبغ بن الفرج بن سعيد بن نافع الأموي "، الفقيه المصري، ثقة كان وراق ابن وهب، وكان من أجل أصحابه، وكان من أعلم خلق الله كلهم برأي مالك، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 37، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 321.
وهذا الخبر جزء من حديث السقيفة (الفتح 12: 133) ، وعلق عليه الحافظ ابن حجر هناك، وذكر طرقه. وذكره في الإصابة في ترجمة " عويم بن ساعدة "، وذكر هذه الزيادة عن الإسماعيلي قال: " وزاد الإسماعيلي في روايته قال الزهري، فأخبرني عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقياهما، هما: عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي، فأما عويم، فهو الذي بلغنا. . . "، بنحوه.
وخبر السقيفة، رواه البخاري (الفتح 12: 128 - 139) من طريق عبد العزيز بن عبد الله، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن ابن عباس.
ورواه أحمد في مسنده رقم: 391، من طريق مالك بن أنس، عن ابن شهاب الزهري. (وفي المسند: " عويمر بن ساعدة "، وهو خطأ، صوابه: عويم بن ساعدة) .
ورواه ابن سعد الطبقات 3 / 2 / 31، مختصرا، وفيه نحو خبر لفظ أبي جعفر، من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن ابن شهاب، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس، وفيه " قال ابن شهاب: وأخبرني عروة بن الزبير أن الرجلين اللذين لقومهما، عويم بن ساعدة، ومعن بن عدي. فأما عويم بن ساعدة فهو الذي بلغنا. . . "، بنحوه.(14/488)
17239- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن حسان قال، حدثنا الحسن قال: لما نزلت هذه الآية: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا الذي ذكركم الله به في أمر الطهور، فأثنى به عليكم؟ قالوا: نغسل أثر الغائِطِ والبول.
17240- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مالك بن مغول قال، سمعت سيارًا أبا الحكم يحدّث، عن شهر بن حوشب، عن محمد بن عبد الله بن سلام قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة = أو قال: قدم علينا رسول الله = فقال: إن الله قد أثنى عليكم في الطهور خيرًا أفلا تخبروني؟ " قالوا: يا رسول الله، إنا نجد علينا مكتوبًا في التوراة، الاستنجاءُ بالماء = قال مالك: يعني قوله: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) . (1)
17241- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: لما نزلت هذه الآية: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، سألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما طهوركم هذا الذي ذكرَ الله؟
__________
(1) الأثر: 17240 - هذا مكرر الآثار السالفة من رقم: 17225، ثم رقم: 17228 - 17230، فانظر التعليق عليها هناك.(14/489)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109)
قالوا: يا رسول الله، كنا نستنجي بالماء في الجاهلية، فلما جاء الإسلام لم ندعْه. قال: فلا تدَعوه.
17242- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان في مسجد قُباء رجال من الأنصار يوضِّئون سَفِلَتهم بالماء، (1) يدخلون النخل والماء يجري فيتوضئون، فأثنى الله بذلك عليهم فقال: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا) ، الآية.
17243- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: أحدث قوم الوضوء بالماء من أهل قباء، فنزلت فيهم: (فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين) .
* * *
وقيل: (والله يحب المطهرين) ، وإنما هو: "المتطهِّرين"، ولكن أدغمت التاء في الطاء، فجعلت طاء مشددة، لقرب مخرج إحداهما من الأخرى. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله: (أفمن أسس بنيانه) .
فقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة: (أَفَمَنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ عَلَى تَقْوى مِنَ
__________
(1) قوله: " يوضئون سفلتهم " يعني، يغسلون أدبارهم. و " السفلة " بمعنى المقعدة والدبر، لم تذكر في كتب اللغة، والمذكور بهذا المعنى " السافلة ". وضبطتها " بفتح السين وكسر الفاء " قياسا على قولهم: " سفلة البعير "، وهي قوائمه، لأنها أسفل.
(2) انظر تفسير " المطهر " فيما سلف 4: 384.(14/490)
اللهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمَّنْ أُسِّسَ بُنْيَانُهُ) ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله في الحرفين كليهما.
* * *
وقرأت ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: "أَفَمَنْ أُسِّس أبُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أُسِّس بُنْيَانَهُ "، على وصف "من" بأنه الفاعل الذي أسس بنيانه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ. غير أن قراءته بتوجيه الفعل إلى "من"، إذ كان هو المؤسس، (2) أعجبُ إليّ.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: أيُّ هؤلاء الذين بنوا المساجد خير، أيها الناس، عندكم: الذين ابتدأوا بناء مسجدهم على اتقاء الله، بطاعتهم في بنائه، وأداء فرائضه ورضًى من الله لبنائهم ما بنوه من ذلك، وفعلهم ما فعلوه = خيرٌ، أم الذين ابتدأوا بناءَ مسجدهم على شفا جُرفٍ هارٍ؟
يعني بقوله: (على شفا جرف) ، على حرف جُرُف. (3)
* * *
و"الجرف"، من الركايا، ما لم يُبْنَ له جُولٌ (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " على وصف من بناء الفاعل "، وهو خلط في الكلام، صوابه ما في المخطوطة، وهو ما أثبته.
(2) في المطبوعة: " إذا كان من المؤسس" وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض صواب.
(3) انظر تفسير " الشفا " فيما سلف 7: 85، 86.
(4) في المطبوعة: " من الركي "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 269، وهذا نص كلامه.
و" الركايا " جمع " ركية "، وتجمع أيضا على " ركي "، بحذف التاء، وهي البئر. و " الجول " (بضم الجيم) ، هو جانب البئر والقبر إلى أعلاها من أسفلها.
وهذا التفسير الذي ذكره أبو عبيدة، لم أجده في تفسير الكلمة في كتب اللغة، ولكنه جائز صحيح المعنى، إن صحت روايته.(14/491)
(هار) ، يعني متهوِّر. وإنما هو "هائر"، ولكنه قلب، فأخرت ياؤها فقيل: "هارٍ"، كما قيل: "هو شاكي السلاح"، (1) و"شائك"، وأصله من "هار يهور فهو هائر"، وقيل: "هو من هارَ يهار"، إذا انهدم. ومن جعله من هذه اللغة قال: "هِرْت يا جرف"، ومن جعله "من هار يهور"، قال: "هُرْت يا جرف".
* * *
قال أبو جعفر: وإنما هذا مَثَلٌ. يقول تعالى ذكره: أيّ هذين الفريقين خير؟ وأيّ هذين البناءين أثبت؟ أمَن ابتدأ أساس بنائه على طاعة الله، وعلمٍ منه بأن بناءه لله طاعة، والله به راضٍ، أم من ابتدأه بنفاق وضلال، وعلى غير بصيرة منه بصواب فعله من خطئه، فهو لا يدري متى يتبين له خطأ فعله وعظيم ذنبه، فيهدمه، كما يأتي البناءُ على جرف ركيَّةٍ لا حابس لماء السيول عنها ولغيره من المياه، ثَرِيّةِ التراب متناثرة، (2) لا تُلْبِثه السيول أن تهدمه وتنثره؟
= يقول الله جل ثناؤه: (فانهار به في نار جهنم) ، يعني فانتثر الجرف الهاري ببنائه في نار جهنم. كما:-
17244- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (فانهار به) ، يعني قواعده = (في نار جهنم) . (3)
17245- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (فانهار به) ، يقول: فخرَّ به.
17246- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله) ، إلى قوله: (فانهار به في نار جهنم) ،
__________
(1) في المطبوعة: " شاك السلاح "، والصواب ما في المخطوطة بالياء في آخره.
(2) في المطبوعة: " ترى به التراب متناثرا "، غير ما في المخطوطة، إذ كانت غير منقوطة، ويقال: " أرض ثرية "، إذا كانت ذات ثرى وندى. و " ثريت الأرض فهي ثرية "، إذا نديت ولانت بعد الجدوبة واليبس.
(3) في المطبوعة، أسقط " يعني ".(14/492)
قال: والله ما تناهَى أنْ وقع في النار. ذكر لنا أنه تحفَّرت بقعة منها، (1) فرُؤي منها الدخان.
17247- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: بنو عمرو بن عوف. استأذنوا النبي صلى الله عليه وسلم في بنيانه، فأذن لهم، ففرغوا منه يوم الجمعة، فصلوا فيه الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد. قال: وانهار يوم الاثنين. قال: وكان قد استنظرهم ثلاثًا، السبت والأحد والاثنين = (فانهار به في نار جهنم) ، مسجد المنافقين، انهار فلم يتناهَ دون أن وقع في النار = قال ابن جريج: ذكر لنا أن رجالا حفروا فيه، فأبصروا الدخان يخرج منه.
17248- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد الله الداناج، عن طلق بن حبيب، عن جابر قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا) ، قال: رأيت المسجد الذي بني ضرارًا يخرج منه الدخان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. (2)
17249- حدثنا محمد بن مرزوق البصري قال، حدثنا أبو سلمة قال، حدثنا عبد العزيز بن المختار، عن عبد الله الداناج قال، حدثني طلق العنزي،
__________
(1) في المطبوعة: " أنه حفرت بقعة منه "، وأثبت ما في المخطوطة. وقوله " تحفرت " أي: صارت فيها حفرة، وكأنه غيرها لأنها لم تذكر في كتب اللغة، ولكنها قياس عربي عريق.
وقوله " منها " أي: من أرض مسجد الضرار.
(2) الأثر: 17248 - " عبد العزيز بن المختار الأنصاري، الدباغ "، ثقة، روى له الجماعة. مضى برقم: 1685.
و" عبد الله الداناج "، هو " عبد الله بن فيروز " و " دانا " بالفارسية، العالم. ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 136.
و" طلق بن حبيب العنزي "، ثقة، سمع جابرا. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 360، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 490.
وهذا خبر صحيح الإسناد، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 279، وقال: " أخرجه مسدد في مسنده، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، وصححه، وابن مردويه ". وسيأتي بإسناد آخر في الذي يليه.(14/493)
لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
عن جابر بن عبد الله قال: رأيت الدخان يخرج من مسجد الضرار. (1)
17250- حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا خلف بن ياسين الكوفي قال: حججت مع أبي في ذلك الزمان = يعني: زمان بني أمية = فمررنا بالمدينة، فرأيت مسجد القبلتين = يعني مسجد الرسول = وفيه قبلة بيت المقدس، فلما كان زمان أبي جعفر، قالوا: يدخل الجاهل فلا يعرف القبلة! فهذا البناءُ الذي ترون، جرى على يَدِ عبد الصمد بن علي. ورأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله في القرآن، وفيه حجر يخرج منه الدخان، وهو اليوم مَزْبَلة. (2)
* * *
قوله: (والله لا يهدي القوم الظالمين) ، يقول: والله لا يوفق للرشاد في أفعاله، من كان بانيًا بناءه في غير حقه وموضعه، ومن كان منافقًا مخالفًا بفعله أمرَ الله وأمرَ رسوله.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا يزال بنيان هؤلاء الذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا = (ريبة) ، يقول: لا يزال مسجدهم الذي بنوه = (ريبة في قلوبهم) ،
__________
(1) الأثر: 17249 - هو مكرر لأثر السالف.
" محمد بن مرزوق "، هو " محمد بن محمد بن مرزوق الباهلي ". شيخ الطبري، مضى برقم 28: 8224.
و" أبو سلمة "، هو: " موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي "، ثقة. مضى برقم: 15202.
(2) الأثر: 17250 - "سلام بن سالم الخزاعي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 252، 6529.
و" خلف بن ياسين الكوفي "، مضى برقم: 252، ورواية " سلام بن سالم الخراعي " عنه. وذكر أخي السيد أحمد هناك أنه قد يكون " خلف بن ياسين بن معاذ الزيات "، وهو كذاب. والظاهر أنه هو هو، لأن خلفا يروي في هذا الخبر عن أبيه، وأبوه " ياسين بن معاذ الزيات "، وهو أيضا ضعيف متروك الحديث، وكان من كبار فقهاء الكوفة، روى عن الزهري، ومكحول، وحماد بن أبي سليمان، وهو مترجم في لسان الميزان 6: 238، والكبير 4 / 2 / 429، وقال: " يتكلمون فيه، منكر الحديث "، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 312، وذكر أنه قد روى عنه ابنه خلف، ولكنه لم يترجم " خلف بن ياسين بن معاذ ". وهذا الخبر الشاهد بأن " ياسين " أبا "خلف"، كان على عهد بني أمية، ورواية خلف ابنه عنه، وشيوخ "ياسين" الذين روى عنهم، كل ذلك دال على صواب ما ذهب إليه أخي، من أن " خلف بن ياسين الكوفي "، هو " خلف بن ياسين بن معاذ الزيات ".(14/494)
يعني: شكًّا ونفاقًا في قلوبهم، يحسبون أنهم كانوا في بنائه مُحْسنين (1) = (إلا أن تقطع قلوبهم) ، يعني: إلا أن تتصدع قلوبهم فيموتوا = (والله عليم) ، بما عليه هؤلاء المنافقون الذين بنوا مسجد الضرار، من شكهم في دينهم، وما قصدوا في بنائهموه وأرادوه، وما إليه صائرٌ أمرهم في الآخرة، وفي الحياة ما عاشوا، وبغير ذلك من أمرهم وأمر غيرهم = (حكيم) ، في تدبيره إياهم، وتدبير جميع خلقه. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17251- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، يعني شكًّا = (إلا أن تقطع قلوبهم) ، يعني الموت.
17252- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ريبة في قلوبهم) ، قال: شكًّا في قلوبهم = (إلا أن تقطع قلوبهم) ، إلا أن يموتوا.
17253- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم) ، يقول: حتى يموتوا.
__________
(1) انظر تفسير " الريبة " فيما سلف ص: 275، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) ، (حكم) .(14/495)
17254- حدثني مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في قوله: (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال: إلا أن يموتوا. (1)
17255- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال: يموتوا.
17256- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال: يموتوا.
17257- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17258-...... قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة والحسن: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، قالا شكًّا في قلوبهم.
17259- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق الرازي قال، حدثنا أبو سنان، عن حبيب: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، قال: غيظًا في قلوبهم.
17260-...... قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال: يموتوا.
17261-...... قال، حدثنا إسحاق الرازي، عن أبي سنان، عن حبيب: (إلا أن تقطع قلوبهم) ،: إلا أن يموتوا.
17262-...... قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن السدي: (ريبة في قلوبهم) ، قال: كفر. قلت: أكفر مجمّع بن جارية؟ قال: لا ولكنها حَزَازة.
__________
(1) الأثر: 17254 - " مطر بن محمد الضبي "، انظر ما سلف رقم: 12198، 14610.(14/496)
17263- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن السدي: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، قال: حزازة في قلوبهم.
17264- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم) ، لا يزال ريبة في قلوبهم راضين بما صنعوا، كما حُبِّب العجل في قلوب أصحاب موسى. وقرأ: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ) ، [سورة البقرة: 93] قال: حبَّه = (إلا أن تقطع قلوبهم) ، قال: لا يزال ذلك في قلوبهم حتى يموتوا = يعني المنافقين.
17265- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن السدي، عن إبراهيم: (ريبة في قلوبهم) ، قال شكًّا. قال قلت: يا أبا عمران، تقول هذا وقد قرأت القرآن؟ قال: إنما هي حَزَازة.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (إلا أن تقطع قلوبهم) .
فقرأ ذلك بعض قرأة الحجاز والمدينة والبصرة والكوفة: (إِلا أَنْ تُقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) ، بضم التاء من "تقطع"، على أنه لم يسمَّ فاعله، وبمعنى: إلا أن يُقَطِّع الله قلوبهم.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة: (إِلا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ) ، بفتح التاء من "تقطع"، على أن الفعل للقلوب. بمعنى: إلا أن تنقطّع قلوبهم، ثم حذفت إحدى التاءين.
* * *
وذكر أن الحسن كان يقرأ: " إِلَى أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ "، بمعنى: حتى تتقطع قلوبهم. (1)
* * *
وذكر أنها في قراءة عبد الله: (وَلَوْ قُطِّعَتْ قُلُوبُهُمْ) ، وعلى الاعتبار بذلك
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 452.(14/497)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
قرأ من قرأ ذلك: (إلا أَنْ تُقَطَّع) ، بضم التاء.
* * *
قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أن الفتح في التاء والضم متقاربا المعنى، لأن القلوب لا تتقطع إذا تقطعت، إلا بتقطيع الله إياها، ولا يقطعها الله إلا وهي متقطعة. وهما قراءتان معروفتان، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرأة، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.
وأما قراءة ذلك: (إلَى أَنْ تَقَطَّعَ) ، فقراءةٌ لمصاحف المسلمين مخالفةٌ، ولا أرى القراءة بخلاف ما في مصاحفهم جائزةً.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله ابتاعَ من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بالجنة = (وعدًا عليه حقًّا) = يقول: وعدهم الجنة جل ثناؤه، وعدًا عليه حقًّا أن يوفِّي لهم به، في كتبه المنزلة: التوراة والإنجيل والقرآن، إذا هم وَفَوا بما عاهدوا الله، فقاتلوا في سبيله ونصرةِ دينه أعداءَه، فقَتَلوا وقُتِلوا = (ومن أوفى بعهده من الله) ، يقول جل ثناؤه: ومن أحسن وفاءً بما ضمن وشرط من الله = (فاستبشروا) ، يقول ذلك للمؤمنين: فاستبشروا، أيها المؤمنون، الذين صَدَقوا الله فيما عاهدوا، ببيعكم أنفسكم وأموالكم بالذي بعتموها من ربكم به، فإن ذلك هو الفوز العظيم، (1) كما:-
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.(14/498)
17266- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال: ما من مسلم إلا ولله في عنقه بَيْعة، وَفى بها أو مات عليها، في قول الله: (إن الله اشترى من المؤمنين) ، إلى قوله: (وذلك هو الفوز العظيم) ، ثم حَلاهم فقال: (التائبون العابدون) ، إلى: (وبشر المؤمنين) .
17267- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) ، يعني بالجنة.
17268-...... قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن يسار، عن قتادة: أنه تلا هذه الآية: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة) ، قال: ثامَنَهُم الله، فأغلى لهم الثمن. (1)
17269- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: أنه تلا هذه الآية: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم) ، قال: بايعهم فأغلى لهم الثمن.
17270- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: قال عبد الله بن رواحة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: اشترط لربِّك ولنفسك ما شئت! قال: اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، واشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسَكم وأموالكم. قالوا: فإذا فعلنا ذلك، فماذا لنا؟ قال: الجنة! قالوا: ربح البيعُ، لا نُقيل ولا نستقيل! (2) فنزلت: (إن الله اشترى من المؤمنين) ، الآية.
__________
(1) " ثامنت الرجل في المبيع "، إذا قاولته في ثمنه وفاوضته، وساومته على بيعه واشترائه.
(2) " أقاله البيع يقيله إقالة "، و " تقايلا البيعان "، إذا فسخا البيع، وعاد المبيع إلى مالكه، والثمن إلى المشتري، إذا كان قد ندم أحدهما أو كلاهما. وتكون " الإقالة " في البيعة والعهد. و " استقاله " طلب إليه أن يقيله.(14/499)
17271-...... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبيد بن طفيل العبسي قال، سمعت الضحاك بن مزاحم، وسأله رجل عن قوله: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) ، الآية، قال الرجل: ألا أحمل على المشركين فأقاتل حتى أقتل؟ قال: ويلك! أين الشرط؟ (التائبون العابدون) . (1)
__________
(1) الأثر: 17271 - " عبيد بن طفيل العبسي "، هو " الغطفاني "، " أبو سيدان "، و " عبس بن بغيض بن ريث بن غطفان "، ولكنه في كتب الرجال " الغطفاني ". وقد مضى برقم: 2547.(14/500)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
القول في تأويل قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله اشترى من المؤمنين التائبين العابدين أنفسهم وأموالهم = ولكنه رفع، إذ كان مبتدأ به بعد تمام أخرى مثلها. والعرب تفعل ذلك، وقد تقدَّم بياننا ذلك في قوله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [سورة البقرة: 18] ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
ومعنى: "التائبون"، الراجعون مما كرهه الله وسخطه إلى ما يحبُّه ويرضاه، (2) كما:-
17272- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قول الله: (التائبون) ، قال: تابوا إلى الله من الذنوب كلها. (3)
__________
(1) انظر ما سلف 1: 330، 331.
(2) انظر تفسير " تائب " فيما سلف من فهارس اللغة (توب) .
(3) الأثر: 17272 - " ثعلبة بن سهيل الطهوي "، ثقة، مضى برقم: 12273. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 175، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 464.(14/500)
17273- حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثني أبي، عن أبي الأشهب، عن الحسن: أنه قرأ (التائبون العابدون) ، قال: تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق.
17274- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب قال: قرأ الحسن: (التائبون العابدون) ، قال: تابوا من الشرك، وبرئوا من النفاق.
17275- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: التائبون من الشرك.
17276- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا جرير بن حازم قال: سمعت الحسن قرأ هذه الآية: (التائبون العابدون) ، قال الحسن: تابوا والله من الشرك، وبرئوا من النفاق.
17277- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (التائبون) ، قال: تابوا من الشرك، ثم لم ينافقوا في الإسلام.
17278- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج: (التائبون) ، قال: الذين تابوا من الذنوب، ثم لم يعودوا فيها.
* * *
وأما قوله: (العابدون) ، فهم الذين ذلُّوا خشيةً لله وتواضعًا له، فجدُّوا في خدمته، (1) كما:-
17279- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (العابدون) ، قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم.
17280- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل
__________
(1) انظر تفسير " العابد " فيما سلف من فهارس اللغة (عبد) .(14/501)
قال، قال الحسن في قول الله (العابدون) ، قال: عبدوا الله على أحايينهم كلها، في السراء والضراء.
17281- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (العابدون) ، قال: العابدون لربهم.
* * *
وأما قوله: (الحامدون) ، فإنهم الذين يحمدون الله على كل ما امتحنهم به من خير وشر، (1) كما:-
17282- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (الحامدون) ، قوم حمدوا الله على كل حال.
17283- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة قال، قال الحسن: (الحامدون) ، الذين حمدوا الله على أحايينهم كلها، في السرّاء والضرّاء.
17284- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (الحامدون) ، قال: الحامدون على الإسلام.
* * *
وأما قوله: (السائحون) ، فإنهم الصائمون، كما:-
17285- حدثني محمد بن عيسى الدامغاني وابن وكيع قالا حدثنا سفيان، عن عمرو، عن عبيد بن عمير =
17286- وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني عمرو بن الحارث، عن عمرو، عن عبيد بن عمير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن "السائحين" فقال: هم الصائمون. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الحمد " فيما سلف 1: 135 - 141 / 11: 249.
(2) الأثر: 17286 - قال ابن كثير في تفسيره 4: 249: " هذا مرسل جيد "، وذكره السيوطي في الدر المنثور 3: 281، من طريق عبيد بن عمير، عن أبي هريرة، ونسبه إلى الفريابي، ومسدد في مسنده، وابن جرير، والبيهقي في شعب الإيمان. بيد أن ابن جرير لم يرفعه من هذه الطريق إلى أبي هريرة كما ترى.(14/502)
17287- حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا حكيم بن حزام قال، حدثنا سليمان، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "السائحون" هم الصائمون.
17288- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: (السائحون) ، الصائمون. (1)
17289- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: (السائحون) ، الصائمون. (2)
17290-...... قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثني عاصم، عن زر، عن عبد الله، بمثله.
17291- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله قال، أخبرنا شيبان، عن أبي إسحاق، عن أبي عبد الرحمن قال: السياحةُ: الصيام.
17292- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن أشعث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (السائحون) ،: الصائمون.
17293- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه = وإسرائيل، عن أشعث = عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: (السائحون) ، الصائمون.
17294- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا إسرائيل، عن أشعث، عن سعيد بن جبير قال: (السائحون) ، الصائمون.
__________
(1) الأثران: 17287، 17288 - أولهما مرفوع، والآخر موقوف على أبي هريرة، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 281، ونسبه إلى ابن جرير وأبي الشيخ، وابن مردويه، وابن النجار، مرفوعا، وذكره السيوطي في تفسيره 4: 248، وقال: " وهذا الموقوف أصح ".
(2) الأثر: 17289 - خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 34، 35، عن عبد الله بن مسعود، ثم قال: " رواه الطبراني، وفيه عاصم بن بهدلة. وثقه جماعة، وضعفه آخرون، وبقية رجاله رجال الصحيح ".(14/503)
17295- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أشعث بن أبي الشعثاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
17296- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله.
17297-...... قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن إسحاق، عن عبد الرحمن قال: (السائحون) ، هم الصائمون.
17298- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (السائحون) ، قال: يعني بالسائحين، الصائمين.
17299- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: (السائحون) ، هم الصائمون.
17300- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (السائحون) ، الصائمون.
17301-...... قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: كل ما ذكر الله في القرآن ذكر السياحة، هم الصائمون. (1)
17302-...... قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن أبي سنان، عن ابن أبي الهذيل، عن أبي عمرو العبدي قال: (السائحون) ، الذين يُديمون الصيام من المؤمنين.
17303- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن: (السائحون) ، الصائمون.
17304- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن
__________
(1) في المطبوعة، حذف " ذكر " من قوله: " ذكر السياحة ". والعبارة مضطربة بعض الاضطراب. وانظر أجود منها في رقم: 17306.(14/504)
هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: (السائحون) ، الصائمون شهر رمضان.
17305- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك قال: (السائحون) ، الصائمون.
17306-...... قال، حدثنا أبو أسامة، عن جويبر، عن الضحاك قال: كل شيء في القرآن (السائحون) ، فإنه الصائمون.
17307- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك: (السائحون) ، الصائمون.
17308- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (السائحون) ، يعني الصائمين.
17309- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، ويعلى، وأبو أسامة، عن عبد الملك، عن عطاء قال: (السائحون) ، الصائمون.
17310- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء، مثله.
17311-...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله ابن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا عمرو: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانت السياحة في بني إسرائيل، وكان الرجل إذا ساح أربعين سنةً، رأى ما كان يرى السائحون قبله. فساح وَلَدُ بغيٍّ أربعين سنة، فلم ير شيئًا، فقال: أي ربِّ، أرأيت إن أساء أبواي وأحسنت أنا؟ قال: فَأرِي ما رَأى السائحون قبله = قال ابن عيينة: إذا ترك الطعام والشراب والنساء، فهو السائح.
17312- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة (السائحون) ، قوم أخذوا من أبدانهم، صومًا لله.
17313- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا(14/505)
إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله، عن عائشة قالت: سياحةُ هذه الأمة الصيام. (1)
* * *
وقوله: (الراكعون الساجدون) ، يعني المصلين، الراكعين في صلاتهم، الساجدين فيها، (2) كما:-
17314- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (الراكعون الساجدون) ، قال: الصلاة المفروضة.
* * *
وأما قوله: (الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر) ، فإنه يعني أنهم يأمرون الناس بالحق في أديانهم، واتباع الرشد والهدى، والعمل (3) = وينهونهم عن المنكر، وذلك نهيهم الناسَ عن كل فعل وقول نهى الله عباده عنه. (4)
* * *
وقد روي عن الحسن في ذلك ما:-
17315- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (الآمرون بالمعروف) ، لا إله إلا الله = (والناهون عن المنكر) ، عن الشرك.
17316- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل
__________
(1) الأثر: 17313 - " إبراهيم بن يزيد الخوزي "، متروك الحديث، مضى برقم: 7484، 16259.
و" الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث "، ثقة، مضى برقم: 16259، ولم يدرك أن يروي عن عائشة، فهو مرسل عن عائشة.
فهذا خبر ضعيف الإسناد جدا.
(2) انظر تفسير " الركوع "، و " السجود " فيما سلف من فهارس اللغة (ركع) ، (سجد) .
(3) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف ص: 347، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " المنكر" فيما سلف ص: 347، تعليق: 3، والمراجع هناك.(14/506)
قال، قال الحسن في قوله: (الآمرون بالمعروف) ، قال: أمَا إنهم لم يأمروا الناس حتى كانوا من أهلها = (والناهون عن المنكر) ، قال: أمَا إنهم لم ينهوا عن المنكر حتى انتهوا عنه.
17317- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، قال: كل ما ذكر في القرآن "الأمر بالمعروف"، و"النهي عن المنكر"، فالأمر بالمعروف، دعاءٌ من الشرك إلى الإسلام = والنهي عن المنكر، نهيٌ عن عبادة الأوثان والشياطين.
* * *
قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى قبل على صحة ما قلنا: من أن "الأمر بالمعروف" هو كل ما أمر الله به عباده أو رسوله صلى الله عليه وسلم، و"النهي عن المنكر"، هو كل ما نهى الله عنه عبادَه أو رسولُه. وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالة على أنها عُني بها خصوصٌ دون عموم، ولا خبر عن الرسول، ولا في فطرة عقلٍ، فالعموم بها أولى، لما قد بينا في غير موضع من كُتُبنا.
* * *
وأما قوله: (والحافظون لحدود الله) ، فإنه يعني: المؤدّون فرائض الله، المنتهون إلى أمره ونهيه، الذين لا يضيعون شيئًا ألزمهم العملَ به، ولا يرتكبون شيئًا نهاهم عن ارتكابه، (1) كالذي:-
17318- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (والحافظون لحدود الله) ، يعني: القائمين على طاعة الله. وهو شرطٌ اشترطه على أهل الجهاد، إذا وَفَوا الله بشرطه، وفى لهم بشرطهم. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الحفظ " فيما سلف 5: 167 / 8: 295 / 10: 562 / 11: 532.
= وتفسير " الحدود " فيما سلف: ص: 429، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: " إذا وفوا الله بشرطه، وفى لهم شرطهم "، وأثبت ما في المخطوطة.(14/507)
17319- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (والحافظون لحدود الله) ، قال: القائمون على طاعة الله.
17320- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن ثعلبة بن سهيل قال، قال الحسن في قوله: (والحافظون لحدود الله) ، قال: القائمون على أمر الله.
17321- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (والحافظون لحدود الله) ، قال: لفرائض الله.
* * *
وأما قوله: (وبشر المؤمنين) ، فإنه يعني: وبشّر المصدِّقين بما وعدهم الله إذا هم وفَّوا الله بعهده، أنه مُوفٍّ لهم بما وعدهم من إدخالهم الجنة، (1) كما:-
17322- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة بن خليفة قال، حدثنا عوف، عن الحسن: (إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم) ، حتى ختم الآية، قال الذين وفوا ببيعتهم = (التائبون العابدون الحامدون) ، حتى ختم الآية، فقال: هذا عملهم وسيرهم في الرخاء، ثم لقوا العدوّ فصدَقوا ما عاهدوا الله عليه.
* * *
وقال بعضهم: معنى ذلك: وبشر من فعل هذه الأفعال = يعني قوله: (التائبون العابدون) ، إلى آخر الآية = وإن لم يغزوا.
* ذكر من قال ذلك:
17323- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي إسحاق الفزاري، عن أبي رجاء، عن الحسن: (وبشر المؤمنين) ، قال: الذين لم يغزوا.
__________
(1) انظر تفسير " التبشير " فيما سلف ص: 174، تعليق 1، والمراجع هناك.(14/508)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)
القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما كان ينبغي للنبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا به= "أن يستغفروا"، يقول: أن يدعوا بالمغفرة للمشركين، ولو كان المشركون الذين يستغفرون لهم= "أولي قربى"، ذوي قرابة لهم= "من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم"، يقول: من بعد ما ماتوا على شركهم بالله وعبادة الأوثان، وتبين لهم أنهم من أهل النار، لأن الله قد قضى أن لا يغفر لمشرك، فلا ينبغي لهم أن يسألوا ربهم أن يفعل ما قد علموا أنه لا يفعله. فإن قالوا: فإن إبراهيم قد استغفر لأبيه وهو مشرك؟ فلم يكن استغفارُ إبراهيم لأبيه إلا لموعدة وعدها إياه. فلما تبين له وعلم أنه لله عدوٌّ، خلاه وتركه، وترك الاستغفار له، وآثر الله وأمرَه عليه، فتبرأ منه حين تبين له أمره. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي نزلت هذه الآية فيه.
فقال بعضهم: نزلت في شأن أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر له بعد موته، فنهاه الله عن ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
17324- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة، دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية، فقال: يا عم، قل: لا إله إلا الله، كلمةً
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة.(14/509)
أحاجُّ لك بها عند الله! فقال له أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك! فنزلت: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين"، ونزلت: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، [القصص: 56] .
17325- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، حدثني يونس، عن الزهري قال، أخبرني سعيد بن المسيب، عن أبيه، قال: لما حضرت أبا طالب الوفاةُ، جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجد عنده أبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عم قل: لا إله إلا الله، كلمةً أشهد لك بها عند الله! قال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية: يا أبا طالب، أترغب عن مِلَّة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيدُ له تلك المقالة، حتى قال أبو طالب آخرَ ما كلَّمهم: "هو على ملة عبد المطلب"، وأبى أن يقول: "لا إله إلا الله"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لأستغفرنَّ لك ما لم أنْهَ عنك! فأنزل الله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين"، وأنزل الله في أبي طالب، فقال لرسول الله: (إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) ، الآية. (1)
17326- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 17325 - هذا حديث صحيح. رواه البخاري وصححه (الفتح 3: 176، 177) من طريق إسحاق، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبي صالح، عن ابن شهاب الزهري، ورواه أيضا (الفتح 8: 258) من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، ثم رواه أيضا (الفتح: 8: 389) من طريق أبي اليمان، عن شعيب عن الزهري.
ورواه مسلم في صحيحه 1: 213 - 216، من طرق، أولها هذه الطريق التي رواها منه أبو جعفر.
ورواه أحمد في مسنده 5: 433، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري.
وكلها أسانيد صحاح.
وسيأتي برقم: 17328، عن سعيد بن المسيب، لم يرفعه عن أبيه، بغير هذا اللفظ.(14/510)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين"، قال: يقول المؤمنون: ألا نستغفر لآبائنا وقد استغفر إبراهيم لأبيه كافرًا؟ فأنزل الله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه"، الآية.
17327- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عمرو بن دينار: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربّي! فقال أصحابه: لنستغفرن لآبائنا كما استغفر النبي صلى الله عليه وسلم لعمه! فأنزل الله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" إلى قوله: "تبرأ منه".
17328- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: لما حضر أبا طالب الوفاةُ، أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده عبد الله بن أبي أمية وأبو جهل بن هشام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيْ عم، إنك أعظم الناس عليَّ حقًّا، وأحسنهم عندي يدًا، ولأنت أعظم عليَّ حقًّا من والدي، فقل كلمة تجب لي بها الشفاعة يوم القيامة، قل: لا إله إلا الله = ثم ذكر نحو حديث ابن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في سبب أمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه أراد أن يستغفر لها، فمنع من ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
17329- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل، عن عطية قال: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وقف على قبر أمّه حتى سخِنت عليه الشمس، رجاءَ أن يؤذن له فيستغفر لها، حتى نزلت:(14/511)
"ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى"، إلى قوله: "تبرأ منه".
17330-..... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى رَسْمَ = قال: وأكثر ظني أنه قال: قَبْرٍ (1) = فجلس إليه، فجعل يخاطبُ، ثم قام مُسْتَعْبِرًا، (2) فقلت: يا رسول الله، إنّا رأينا ما صنعت! قال: إني استأذنت ربي في زيارة قبر أمّي، فأذن لي، واستأذنته في الاستغفار لها فلم يأذن لي. فما رئي باكيًا أكثر من يومئذٍ. (3)
17331- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "ما كان للنبي والذين آمنوا"، إلى: "أنهم أصحاب الجحيم"، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يستغفر لأمّه، فنهاه الله عن ذلك، فقال: وإن إبراهيم خليل الله قد استغفر لأبيه! فأنزل الله: "وما كان استغفار إبراهيم"، إلى "لأواه حليم".
__________
(1) في المطبوعة: " أتى رسما - وأكبر ظني أنه قال: قبرا "، غير ما في المخطوطة، والصواب ما فيها لأنه ذكر المضاف " أتى رسم " ثم فصل وقال: " قبر "، فيما رجح من ظنه، يعني: " رسم قبر "، على الإضافة.
(2) في المخطوطة: " ثم قام مستغفرا "، والصواب ما في المطبوعة، وتفسير ابن كثير 4: 250، نقلا عن هذا الموضع من تفسير أبي جعفر.
(3) الأثر: 17330 - " علقمة بن مرثد الحضرمي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 11330.
و" سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمي "، ثقة، روى عن أبيه، ثقة، مضى برقم: 11330.
وأبوه "بريدة بن الحصيب الأسلمي "، صحابي، أسلم قبل بدر، ولم يشهدها. فهذا خبر صحيح الإسناد وذكره ابن كثير في تفسيره 4: 35، بهذا اللفظ.
ورواه أحمد في مسنده 5: 359، من طريق حسين بن محمد، عن خلف عن خليفة، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه بغير هذا اللفظ مطولا.
ورواه من طريق محارب بن دثار، عن ابن بريدة، عن أبيه (5: 355) ، ثم من طريق القاسم بن عبد الرحمن، عن أبي بريدة، عن أبيه (5: 356) .(14/512)
وقال آخرون: بل نزلت من أجل أن قومًا من أهل الإيمان كانوا يستغفرون لموتاهم من المشركين، فنهوا عن ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
17332- حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين"، الآية، فكانوا يستغفرون لهم، حتى نزلت هذه الآية. فلما نزلت، أمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم، ولم ينههم أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا، ثم أنزل الله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه"، الآية.
17333- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين"، الآية، ذكر لنا أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: يا نبي الله، إن من آبائنا من كان يُحْسِن الجوار، ويصل الأرحام، ويفك العاني، ويوفي بالذمم، أفلا نستغفر لهم؟ قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بلى! والله لأستغفرنّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه! قال: فأنزل الله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" حتى بلغ: "الجحيم"، ثم عذر الله إبراهيم فقال: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إيّاه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"،. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله قال: أوحي إليّ كلمات فدخلن في أذني، ووَقَرْنَ في قلبي: أمرت أن لا أستغفر لمن مات مشركًا، ومن أعطى فَضْلَ ماله فهو خيرٌ له، ومن أمسك فهو شرٌّ له، ولا يلوم اللهُ على كَفافٍ". (1)
__________
(1) " الكفاف " (بفتح الكاف) ، وهو من الرزق على قدر حاجة المرء، لا يفضل منه شيء.
وإذا لم يكن عند المرء فضل عن قوته، لم يلمه الله تعالى ذكره، على أن لا يعطي أحدا. وانظر مثل هذا المعنى فيما سلف رقم: 4173.(14/513)
واختلف أهل العربية في معنى قوله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين".
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ما كان لهم الاستغفار = وكذلك معنى قوله: (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ) ، وما كان لنفس الإيمان = (إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ) ، [يونس: 100] .
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: معناه: ما كان ينبغي لهم أن يستغفروا لهم. قال: وكذلك إذا جاءت "أن" مع "كان"، فكلها بتأويل: ينبغي، (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ) [آل عمران: 161] ما كان ينبغي له، ليس هذا من أخلاقه. قال: فلذلك إذا دخلت "أن" لتدل على الاستقبال، (1) لأن "ينبغي" تطلب الاستقبال.
* * *
وأما قوله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه"، فإن أهل العلم اختلفوا في السبب الذي أنزل فيه.
فقال بعضهم: أنزل من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا يستغفرون لموتاهم المشركين، ظنًّا منهم أنّ إبراهيم خليل الرحمن قد فعل ذلك، حين أنزل الله قوله خبرًا عن إبراهيم: (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم: 47] .
وقد ذكرنا الرواية عن بعض من حضرنا ذكره، وسنذكر عمن لم نذكره.
17334- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن علي قال: سمعت رجلا يستغفر لوالديه وهما مشركان، فقلت: أيستغفر الرجل لوالديه وهما مشركان؟ فقال: أولم يستغفر إبراهيم لأبيه؟ قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " تدل " بغير لام، والسياق يقتضي إثباتها.(14/514)
فأنزل الله: "وما كان استغفار إبراهيم" إلى "تبرأ منه". (1)
17335- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الخليل، عن علي: أن النبي صلى كان يستغفر لأبويه وهما مشركان، حتى نزلت: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه"، إلى قوله: "تبرأ منه". (2)
وقيل: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة"، ومعناه: إلا من بعد موعدة، كما يقال: "ما كان هذا الأمر إلا عن سبب كذا"، بمعنى: من بعد ذلك السبب، أو من أجله. فكذلك قوله: "إلا عن موعدة"، من أجل موعدة وبعدها. (3)
* * *
وقد تأوّل قوم قولَ الله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولى قربى"، الآية، أنّ النهي من الله عن الاستغفار للمشركين بعد مماتهم، لقوله: "من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم". وقالوا: ذلك لا يتبينه أحدٌ إلا بأن يموت على كفره، وأما وهو حيٌّ فلا سبيل إلى علم ذلك، فللمؤمنين أن يستغفروا لهم.
__________
(1) الأثر: 17334 - " أبو الخليل "، هو " عبد الله بن أبي الخليل الهمداني "، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 45، وابن سعد في الطبقات 6: 169، وقال: " روى عن علي ثلاثة أحاديث، من حديث ابن أبي إسحاق ". وفرق بينه وبين " عبد الله بن الخليل الحضرمي " (الطبقات 6: 170) ، وكذلك فعل ابن أبي حاتم وغيره.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم: 1085 من طريق وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، ومن طريق عبد الرحمن، عن سفيان، عنه، ورواه قبله رقم: 771، من طريق يحيى بن آدم، عن سفيان. وانظر الخبر التالي.
(2) الأثر: 17335 - رواه أحمد في المسند رقم: 771، من طريق يحيى بن آدم أيضا، ولكن بغير هذا اللفظ، وأن المستغفر رجل من المسلمين، كالذي سلف. وانظر بيانه في شرح أخي السيد أحمد.
(3) انظر تفسير " عن " بمعنى " بعد " فيما سلف 10: 313.(14/515)
* ذكر من قال ذلك:
17336- حدثنا سليمان بن عمر الرقي، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن سفيان الثوري، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: مات رجل يهودي وله ابنٌ مسلم، فلم يخرج معه، فذكر ذلك لابن عباس فقال: كان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًا، فإذا مات، وكله إلى شانه! ثم قال: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، لم يدعُ. (1)
17337- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا فضيل، عن ضرار بن مرة، عن سعيد بن جبير قال: مات رجل نصراني، فوكله ابنه إلى أهل دينه، فأتيت ابن عباس فذكرت ذلك له فقال: ما كان عليه لو مشى معه وأجنَّه واستغفر له؟ (2) ثم تلا "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعداها إياه"، الآية. (3)
* * *
وتأوّل آخرون "الاستغفارَ"، في هذا الموضع، بمعنى الصلاة. (4)
* ذكر من قال ذلك:
17338- حدثني المثني قال، ثنى إسحاق قال، حدثنا كثير
__________
(1) الأثر: 17336 - " الشيباني " هو " ضرار بن مرة "، " أبو سنان الشيباني " الأكبر، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 340، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 465. ومضى له ذكر في رقم: 10238، للتفريق بينه وبين " أبي سنان الشيباني " الأصغر، وهو " سعيد بن سنان البرجمي ".
وسيأتي في الخبر التالي، التصريح باسمه.
(2) " أجنه "، واراه في قبره.
(3) الأثر: 17337 - " ضرار بن مرة "، هو الشيباني، سلف في التعليق قبله. وفي لفظ هذا الخبر اضطراب ظاهر، فإن الخبر الأول قبله عن الشيباني، دال على النهي عن الاستغفار له بعد موته، وفي هذا الخبر، إذن بالاستغفار له بعد موته. ولا أدري من أين جاء هذا الاختلاف على الشيباني في لفظه.
(4) في المخطوطة: " بمعنى الصلاح "، والصواب في المطبوعة، كما دل عليه الأثر التالي.(14/516)
بن هشام، عن جعفر بن برقان قال، حدثنا حبيب بن أبي مرزوق، عن عطاء بن أبي رباح قال: ما كنت أدع الصلاةَ على أحدٍ من أهل هذه القبلة، ولو كانت حبشيةً حُبْلى من الزنا، لأني لم أسمع الله يَحْجُب الصلاة إلا عن المشركين، يقول الله: "ما كان للنبيّ والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين".
* * *
وتأوّله آخرون، بمعنى الاستغفار الذي هو دعاء.
* ذكر من قال ذلك:
17339- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عصمة بن زامل، عن أبيه قال: سمعت أبا هريرة يقول: رحم الله رجلا استغفر لأبي هريرة ولأمّه، قلت: ولأبيه؟ قال: لا إن أبي مات وهو مشرك. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن معنى "الاستغفار": مسألة العبد ربَّه غفرَ الذنوب. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت مسألة العبد ربَّه ذلك قد تكون في الصلاة وفي غير الصلاة، (2) لم يكن أحد القولين اللذين ذكرنا فاسدًا، لأن الله عمَّ بالنهي عن الاستغفار للمشرك، بعد ما تبين له أنه من أصحاب الجحيم، ولم يخصص عن ذلك حالا أباح فيها الاستغفار له.
* * *
__________
(1) الأثر: 17339 - " عصمة بن زامل الطائي "، مترجم في الكبير 4 / 1 / 63، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 20، ولسان الميزان 4: 168، 169، وقال: " روى عن أبيه، عن أبي هريرة.
وعنه وكيع، وجميل بن حماد الطائي. قال البرقاني: قلت للدارقطني: جميل بن حماد، عن عصمة بن زامل، فذكر هذا الإسناد. فقال: إسناد بدوي، يخرج اعتبارا ".
وكان في المطبوعة: " عصمة بن راشد "، غير ما في المخطوطة كأنه بحث فلم يجده، فظنه تحريفا.
وأبوه: " زامل بن أوس الطائي " مترجم في الكبير 2 / 1 / 405، وابن حاتم 1 / 2 / 617، ولسان الميزان 2: 469، وقال الدارقطني: إسناد يروى، يخرج اعتبارا. وذكره ابن حبان في الثقات.
(2) انظر تفسير الاستغفار، فيما سلف من فهارس اللغة (غفر)(14/517)
وأما قوله: "من بعد ما تبيَّن لهم أنهم أصحاب الجحيم"، فإن معناه: ما قد بيَّنتُ، من أنه: من بعد ما يعلمون بموته كافرًا أنه من أهل النار.
* * *
وقيل: "أصحاب الجحيم"، لأنهم سكانها وأهلها الكائنون فيها، كما يقال لسكان الدار: "هؤلاء أصحاب هذه الدار"، بمعنى: سكانها. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17340- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرازق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: "من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم"، قال: تبيّن للنبي صلى الله عليه وسلم أن أبا طالب حين ماتَ أن التوبة قد انقطعت عنه.
17341- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: "تبيَّن له" حين مات، وعلم أن التوبة قد انقطعت عنه = يعني في قوله: "من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم".
17342- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" الآية، يقول: إذا ماتوا مشركين، يقول الله: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ) ، (2) الآية، [المائدة: 72] .
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه".
قال بعضهم: معناه: فلما تبين له بموته مشركًا بالله، تبرأ منه، وترك الاستغفار له.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " أصحاب النار " وغيرها فيما سلف من فهارس اللغة (صحب) .
(2) في المخطوطة والمطبوعة: " ومن يشرك "، وهو سهو، والتلاوة ما أثبت.(14/518)
17343- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات = "فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرّأ منه".
17344- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات = فلما مات تبين له أنه عدوّ لله.
17345- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات لم يستغفر له.
17346- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، يعني: استغفر له ما كان حيًا، فلما مات أمسك عن الاستغفار له.
17347- حدثني مطر بن محمد الضبي قال، حدثنا أبو عاصم وأبو قتيبة مسلم بن قتيبة، قالا حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، في قوله: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، قال: لما مات.
17348- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
17349- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فلما تبين له أنه عدو لله"، قال: موته وهو كافر.
17350- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن شعبة. عن الحكم، عن مجاهد، مثله.(14/519)
17351-...... قال، حدثنا ابن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، قال: حين مات ولم يؤمن. (1)
17352- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن عمرو بن دينار: "فلما تبين له أنه عدوّ لله تبرأ منه"،: موته وهو كافر.
17353-..... قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، قال: لما مات.
17354- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، لما مات على شركه = "تبرأ منه".
17355- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه"، كان إبراهيم صلوات الله عليه يرجو أن يؤمن أبوه ما دام حيًا، فلما مات على شركه تبرّأ منه.
17356- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه"، قال: موته وهو كافر.
17357- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:
__________
(1) الأثر: 17351 - " ابن أبي غنية "، هو " يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية الخزاعي "، مضى مرارا، آخرها رقم: 11085.
وأبوه: " عبد الملك بن حميد بن أبي غنية "، يروى عن " الحكم بن عتيبة "، مضى أيضا رقم: 10597، 11085.
وكان في المطبوعة: " حدثنا البراء بن عتبة "، غير ما في المخطوطة، لأن الناسخ أساء نقطه، وصوابه ما أثبت.(14/520)
ما زال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات تبين له أنه عدوّ لله، فلم يستغفر له. (1)
17358-...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، أبو إسرائيل، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: "فلما تبين له أنه عدو لله"، قال: فلما مات.
* * *
وقال آخرون: معناه: فلما تبين له في الآخرة. وذلك أن أباه يتعلَّق به إذا أرادَ أن يجوز الصراط فيمرّ به عليه، حتى إذا كاد أن يجاوزه، حانت من إبراهيم التفاتةٌ، فإذا هو بأبيه في صورة قِرْد أو ضَبُع، فيخلِّي عنه ويتبرأ منه حينئذ. (2)
* ذكر من قال ذلك:
17359- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا عبد الله بن سليمان قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: إن إبراهيم يقولُ يوم القيامة: "ربِّ والدي، رَبِّ والدي"! فإذا كان الثالثة، أخذ بيده، فيلتفت إليه وهو ضِبْعانٌ، (3) فيتبرأ منه.
17360- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن عبيد بن عمير، قال: إنكم مجموعون يوم القيامة في صعيدٍ واحد، يسمعكم الداعي، وينفُذُكم البصر. قال: فتزفِرُ جهنم زفرةً لا يبْقى مَلك مُقَرَّب ولا نبيٌّ مرسل إلا وقع
__________
(1) الأثر: 17357 - " أحمد بن إسحاق الأهوازي "، شيخ أبي جعفر، مضى مرارا كثيرة، وهو إسناد دائر في التفسير. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: " محمد بن إسحاق " وهو خطأ محض.
(2) في المطبوعة: " فخلى عنه وتبرأ منه "، والصواب ما في المخطوطة.
(3) " الضبعان " (بكسر فسكون) ، وذكر الضباع، لا يكون بالألف والنون إلا للمذكر.
والأنثى " الضبع " (بفتح فضم) ، ويقال للذكر أيضا " ضبع ". وبالتذكير جاء في كلام الطبري آنفا وسيأتي في الذي يلي هذا الخبر.(14/521)
لركبتيه تُرْعَد فرائصُه! قال: فحسبته يقول: نَفْسي نفسي! ويضربُ الصِّراط على جهنم كحدِّ السيف، (1) دحْضِ مَزِلَّةٍ، (2) وفي جانبيه ملائكة معهم خطاطيف كشوك السَّعْدان. قال: فيمضون كالبرق، وكالريح، وكالطير، وكأجاويد الركاب، وكأجاويد الرجال، (3) والملائكة يقولون: "ربّ سلِّمْ سلِّم"، فناجٍ سالمٌ ومخدوش ناجٍ، ومكدوسٌ في النار، (4) يقول إبراهيم لأبيه: إني كنت آمرك في الدنيا فتعصيني، ولست تاركك اليوم، فخُذْ بحقْوي! (5) فيأخذ بِضَبْعَيْه، (6) فيمسخ ضَبُعًا، فإذا رأه قد مُسِخَ تبرَّأ منه. (7)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " فيضرب الصراط على جسر جهنم "، زاد " جسر "، وليست في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " وحضر من له "، وهو كلام خلو من كل معنى. وفي المخطوطة " دحصر مزله "، غير منقوطة، وعلى الصاد مثل الألف (أ) ، ومثلها على هاء " مزله "، وهو شك من الكاتب، ولو قرأها قارئ: " وخطر مزلة " لكان له شبه معنى، ولكن واو العطف فساد في الكلام. والصواب ما قرأته إن شاء الله، ويؤيده ما جاء في حديث أبي ذر: " إن خليلي صلى الله عليه وسلم قال: إن دون جسر جهنم طريقا ذا دحض ". و " الدحض " (بفتح الدال وسكون الحاء) الزلق. و " المزلة " (بفتح الزاي أو كسرها) الموضع الذي تزل فيه الأقدام. ويقال: " مزلة مدحاض ".
ثم وجدت صواب ما قرأت في المستدرك للحاكم 4: 583، كما سترى بعد.
(3) وقوله: " وكأجاويد الركاب، وكأجاويد الرجال "، " الأجاويد " جمع " أجواد "، وهي جمع " جواد "، وهو الفرس السابق الجيد، ثم يقال: " فرس جواد الشد "، إذا كان يجود بحضره وجريه جودا متتابعا، لا يكل. و " الركاب ": الإبل التي يسار عليها، واحدتها " راحلة "، ولا واحد لها من لفظها. وأما " الرجال "، فظني أنه جمع " رجيل "، و " الرجيل " من الخيل، الموطوء الركوب الذي لا يعرق. أو يكون جمع " رجل "، يعني الرجال العدائين، لأنه أتى في مجمع الزوائد: " كجري الفرس، ثم كسعي الرجل ".
بيد أن رواية اللسان في مادة (جود) قال: " وفي حديث الصراط: ومنهم من يمر كأجاويد الخيل "، ورواية الحاكم في المستدرك: " وكأجاويد الخيل والمراكب ".
(4) " مكدوس "، مدفوع فيها، من " الكدس "، وهو الصرع والإلقاء، " كدس به الأرض "، صرعه، وألصقه بها. و " كدسه ": طرده من ورائه وساقه. وهذه التي هنا هي إحدى الروايتين. والرواية الأخرى " مكردس ". و " المكردس " الذي جمعت يداه ورجلاه وأوثق، ثم ألقي على الأرض، كما يفعل بالأسير. وهذه رواية الحاكم في المستدرك.
(5) " الحقو " (بفتح الحاء وكسرها وسكون القاف) : مشد الإزار من الجنب
(6) " الضبع " (بفتح فسكون) : من الإنسان وغيره، وسط العضد بلحمه.
(7) الأثر: 17360 - حديث الصراط، رواه الحاكم في المستدرك 4: 582 - 584 من طريق هشام بن سعد، عن زيد بن المسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري، مطولا، وقال: " حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه بهذه السياقة "، وليس فيه ذكر أبينا إبراهيم عليه السلام.
ومن حديث الصراط ما خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 358، 359، من حديث عائشة، "ورواه أحمد، وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف، وقد وثق. وبقية رجاله رجال الصحيح ". وفي هذا الخبر ذكر ما أشرت إليه في التعليق ص: 522، " من قوله: " كأجاويد الخيل والركاب " وخرجه الهيثمي أيضا (10: 359، 360) ، عن عبد الله بن مسعود، خبرًا فيه " كجري الفرس، ثم كسعي الرجل " كما أشرت إليه في التعليق رقم: 2، ص: 522.(14/522)
وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ الله، وهو خبره عن إبراهيم أنه لما تبين له أن أباه لله عدوٌّ، يبرأ منه، وذلك حال علمه ويقينه أنه لله عدوٌّ، وهو به مشرك، وهو حالُ موته على شركه.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في "الأوّاه".
فقال بعضهم: هو الدعَّاء. (1)
* ذكر من قال ذلك:
17361- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله قال: "الأوّاه"، الدعّاء.
17362- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: "الأوّاه"، الدعّاء.
17363- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني جرير بن حازم، عن عاصم بن بهدلة، عن زرّ بن حبيش قال: سألت عبد الله عن "الأواه"، فقال: هو الدعّاء.
__________
(1) " الدعاء " (بتشديد العين) : الكثير الدعاء.(14/523)
17364- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله.
17365-..... قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عبد الكريم عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: "الأوّاه": الدعّاء.
17366-..... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله.
17367- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، وإسرائيل، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله، مثله. (1)
17368- حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع، قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند، قال: نُبِّئتُ عن عبيد بن عمير، قال: "الأوّاه": الدعاء.
17369- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا داود، عن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، عن أبيه قال: "الأوّاه": الدعّاء.
* * *
وقال آخرون: بل هو الرحيم.
* ذكر من قال ذلك:
17370- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العُبَيْدَيْنِ، قال: سئل عبد الله عن "الأوّاه"، فقال: الرحيم. (2)
__________
(1) الآثار: 17363 - 17367 - حديث زر، عن عبد الله بن مسعود، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 35، وقال: " رواه الطبراني، وفيه عاصم - يعني عاصم بن أبي النجود - وهو ثقة وقد ضعف ".
(2) الأثر: 17370 - خبر أبي العبيدين، عن عبد الله، رواه الطبري من رقم: 17370، 17378، 17386.
" سلمة "، هو " سلمة بن كهيل الحضرمي " ثقة، مضى مرارا، آخرها رقم: 14503.
و" مسلم البطين "، هو " مسلم بن عمران ". ثقة. مضى برقم: 14503 - 14056.
و" أبو العبيدين "، هو " معاوية بن سبرة بن حصين السوائي العامري الأعمى "، ثقة، كان ابن مسعود يدنيه ويقربه، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 329، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 387.
وهذا الخبر، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 35، مطولا وقال: " رواه كله الطبراني بأسانيد، ورجال الروايتين الأوليين، ثقات ".(14/524)
17371- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدث، عن أبي العبيدين، رجلٍ ضرير البصر: أنه سأل عبد الله عن "الأواه"، فقال: الرحيم. (1)
17372- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي = وحدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل = جميعًا، عن المسعوديّ، عن سلمة بن كهيل، عن أبي العبيدين: أنه سأل ابن مسعود، فقال: ما "الأواه"؟ قال: = الرحيم.
17373- حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الحكم،
__________
(1) الأثر: 17371 - " يحيى بن الجزار العرني "، ثقة، مضى برقم: 5425، 16406، 16405، 16408.(14/525)
عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين: أنه جاء إلى عبد الله = وكان ضرير البصر = فقال: يا أبا عبد الرحمن، من نسأل إذا لم نسألك؟ فكأن ابن مسعود رقَّ له، قال: أخبرني عن "الأوّاه"، قال: الرحيم.
17374- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين، قال: سألت عبد الله عن "الأواه"، فقال: هو الرحيم.
17375- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار قال جاء أبو العبيدين إلى عبد الله فقال له: ما حاجتك؟ قال: ما "الأواه"؟ قال: الرحيم.
17376-..... قال، حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، رجل من بني سَوَاءَة، قال: جاء رجل إلى عبد الله فسأله عن "الأوّاه"، فقال له عبد الله: الرحيم.
17377- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، وهانئ بن سعيد، عن حجاج، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن أبي العبيدين، عن عبد الله قال: "الأواه"، الرحيم.
17378- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار: أن أبا العبيدين، رجل من بين نمير = قال يعقوب: كان ضريرَ البصر، وقال ابن وكيع: كان مكفوفَ البصر = سأل ابن مسعود فقال: ما "الأواه"؟ قال: الرحيم.
17379- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، قال: "الأواه": الرحيم.
17380-..... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، مثله.
17381- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة، مثله.
17382- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن، قال: هو الرحيم.
17383- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نحدَّث أن "الأواه" الرحيم.
17384- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "إن إبراهيم لأواه"، قال: رحيم.
* * *
قال عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة، عن ابن مسعود مثل ذلك.(14/526)
17385- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: "الأواه": الرحيم.
17386- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن مسلم البطين، عن أبي العبيدين: أنه سأل عبد الله عن "الأواه"، فقال الرحيم.
17387-...... قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن شرحبيل قال: "الأواه": الرحيم.
17388- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: "الأواه": الرحيم بعباد الله.
17389-..... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو خيثمة زهير قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني، عن أبي ميسرة، عن عمرو بن شرحبيل، قال: "الأواه": الرحيم بلحن الحبشة.
* * *
وقال آخرون: بل هو الموقن. (1)
* ذكر من قال ذلك:
17390- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: "الأواه": الموقن.
17391- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن مبارك، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: "الأواه"، الموقن، بلسان الحبشة.
17392-..... قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن، عن
__________
(1) في المخطوطة في هذا الموضع، وفي أكثر المواضع التالية " الموفق "، وفي بعضها " الموقن "، والذي في المطبوعة أشبه بالصواب، فتركته على حاله، حتى أجد ما يرجحه.(14/527)
مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال، "الأواه"، الموقن، بلسانه الحبشة.
17393- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، قال: سمعت سفيان يقول: "الأواه"، الموقن = وقال بعضهم: الفقيه الموقن.
17394- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن عطاء، قال: "الأواه"، الموقن، بلسان الحبشة.
17395- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن رجل، عن عكرمة، قال: هو الموقن، بلسان الحبشة.
17396-..... قال، حدثنا ابن نمير، عن الثوري، عن مجالد، عن أبي هاشم، عن مجاهد، قال: "الأواه"، الموقن.
17397- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن مسلم، عن مجاهد قال: "الأواه"، الموقن.
17398-.... قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قابوس، عن أبي ظبيان، عن ابن عباس قال: "الأواه"، الموقن.
17399- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "أواه"، موقن.
17400- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "أواه"، قال: مؤتمن موقن.
17401- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "إن إبراهيم لأواه حليم"، قال: "الأواه": الموقن.
* * *
وقال آخرون: هي كلمة بالحبشة، معناها: المؤمن.
* ذكر من قال ذلك:(14/528)
17402- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "لأواه حليم"، قال: "الأواه"، هو المؤمن بالحبشية. (1)
17403- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "إن إبراهيم لأواه"، يعني: المؤمن التواب.
17404- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حسن بن صالح، عن مسلم، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "الأواه": المؤمن.
17405- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "الأواه"، المؤمن بالحبشية. (2)
* * *
وقال آخرون: هو المسبِّح، الكثير الذكر لله.
* ذكر من قال ذلك:
17406- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، قال: "الأواه": المسبِّح.
17407- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن حجاج، عن الحكم، عن الحسن بن مسلم بن يناق: أن رجلا كان يكثر ذكر الله ويسبِّح، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إنه أوَّاه.
17408- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حيان، عن ابن لهيعة، عن الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر قال: "الأواه"، الكثير الذكر لله.
* * *
وقال آخرون: هو الذي يكثر تلاوة القرآن.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " بالحبشة "، والصواب ما أثبت، كما سيأتي في المخطوطة في التالية.
(2) في المطبوعة فقط: " بالحبشة "، وأثبت ما في المخطوطة.(14/529)
* ذكر من قال ذلك:
17409- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا المنهال بن خليفة، عن حجاج بن أرطأة، عن عطاء، عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دفن ميتًا، فقال: يرحمك الله، إن كنت لأواهًا! = يعني: تلاءً للقرآن. (1)
* * *
وقال آخرون: هو من التأوُّه.
* ذكر من قال ذلك:
17410- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي يونس القشيري، عن قاصّ كان بمكة: أن رجلا كان في الطواف، فجعل يقول: أوّه! (2) قال: فشكاه أبو ذر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: دعه إنه أوَّاه!
17411- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي =، عن شعبة، عن أبي يونس الباهلي قال: سمعت رجلا بمكة كان أصله روميًّا، يحدّث عن أبي ذر، قال: كان رجل يطوف بالبيت ويقول في دعائه: "أوَّه! أوّه"، فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنه أوَّاه! = زاد أبو كريب في حديثه، قال: فخرجت ذات ليلة فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يدفن ذلك الرجل ليلا ومعه المصباح. (3)
17412- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن جعفر بن سليمان قال، حدثنا عمران، عن عبيد الله بن رباح، عن كعب، قال: "الأواه":
__________
(1) " تلاء " على وزن " فعال " بتشديد العين، من " التلاوة "، يعني كثير التلاوة للقرآن.
(2) " أوه " بتشديد الواو، وفيها لغات أخرى.
(3) الأثران: 17410، 17411 - " أبو يونس القشيري "، أو " الباهلي "، هو " حاتم بن أبي صغيرة "، ثقة، مضى برقم: 15180.(14/530)
إذا ذكر النار قال: أوّه.
17413- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد العمِّي، عن أبي عمران الجوني، عن عبد الله بن رباح، عن كعب قال: كان إذا ذكر النار قال: أوّه. (1)
17414- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان قال، أخبرنا أبو عمران قال، سمعت عبد الله بن رباح الأنصاري يقول، سمعت كعبًا يقول: "إن إبراهيم لأواه"، قال: إذا ذكر النار قال: "أوّهْ من النار".
* * *
وقال آخرون: معناه أنه فقيهٌ.
* ذكر من قال ذلك:
17415- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "إن إبراهيم لأوّاه"، قال: فقيه.
* * *
وقال آخرون: هو المتضرع الخاشع.
* ذكر من قال ذلك:
17416- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسٌ، قال رجل: يا رسول الله، ما
__________
(1) الأثر: 17413 - " عبد العزيز بن عبد الصمد العمي " ثقة، مضى برقم: 3302.
وكان في المطبوعة والمخطوطة، " عبد العزيز، عن عبد الصمد العمي "، وهو خطأ محض، وكان في المطبوعة وحدها " القمي "، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة.
و" أبو عمران الجوني "، هو " عبد الملك بن حبيب الأزدي "، ثقة، مضى برقم: 80، 13042.
و"عبد الله بن رباح الأنصاري"، ثقة، مضى برقم: 48، 13042.
و" كعب "، هو " كعب الأحبار " المشهور.(14/531)
"الأوَّاه"، قال: المتضرع، قال: "إن إبراهيم لأوّاه حليم".
17417- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن عبد الحميد، عن شهر، عن عبد الله بن شداد، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الأوّاه": الخاشعُ المتضرِّع". (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي قاله عبد الله بن مسعود، الذي رواه عنه زرٌّ: أنه الدعَّاء. (2)
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الله ذكر ذلك، ووصف به إبراهيم خليله صلوات الله عليه، بعد وصفه إياه بالدعاء والاستغفار لأبيه، فقال: "وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدوٌّ لله تبرأ منه"، وترك الدعاء والاستغفار له. ثم قال: إن إبراهيم لدعَّاء لربه، شاكٍ له، حليمٌ عمن سبَّه وناله بالمكروه. وذلك أنه صلوات الله عليه وعد أباه بالاستغفار له، ودعاءَ الله له بالمغفرة، عند وعيد أبيه إياه، وتهدُّده له بالشتم، بعد ما ردَّ عليه نصيحته في الله وقوله: (أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَاإِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لأرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا) ، فقال له صلوات الله عليه، (سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا) ، [مريم: 46-48] . فوفى لأبيه بالاستغفار له، حتى تبيَّن له أنه عدو لله، فوصفه الله بأنه دَعّاء لربه، حليم عمن سَفِه عليه.
* * *
__________
(1) الأثران: 17416، 17417 - " عبد الحميد بن بهرام الفزاري "، ثقة، متكلم في روايته عن شهر بن حوشب. مضى مرارا. انظر رقم: 1605، 4221، 6650 - 6652.
و" شهر بن حوشب "، ثقة، متكلم فيه، مضى مرارا.
و" عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي "، تابعي ثقة، مضى برقم: 5088. وهذا مرسل.
(2) انظر ما سلف من رقم 17361 - 17368.(14/532)
وأصله من "التأوّه"، وهو التضرع والمسألة بالحزن والإشفاق، كما روى عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم (1) = وكما روى عقبة بن عامر، الخبَرَ الذي حدَّثنيه:-
17418- يحيى بن عثمان بن صالح السهمي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن لهيعة قال، حدثني الحارث بن يزيد، عن علي بن رباح، عن عقبة بن عامر: أنه قال لرجل يقال له "ذو البجادين": "إنه أواه"! وذلك أنه رجل كان يكثر ذكر الله بالقرآن والدعاء، ويرفَعُ صوته. (2)
__________
(1) انظر رقم: 171416، 1717.
(2) الأثر: 17418 - " يحيى بن عثمان بن صالح القرشي السهمي، المصري " شيخ الطبري طعن عليه؛ لأنه كان يحدث من غير كتبه. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 175.
وأبوه: " عثمان بن صالح بن صفوان السهمي المصري "، ثقة، متكلم فيه. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 154 قال أبو حاتم: " كان شيخا صالحا سليم الناحية، قيل: كان يلقن؟ قال: لا ".
و" ابن لهيعة " مضى مرارا، وذكر الكلام فيه.
و" الحارث بن زبيد الحضرمي المصري "، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 283. وابن أبي حاتم 1 / 2 / 93.
و" علي بن رباح بن قصير اللخمي المصري "، ثقة، مضى برقم: 4747، 10341.
و" عقبة بن عامر الجهني "، صحابي، ولي إمرة مصر.
و" ذو البجادين "، هو " عبد الله بن عبد نهم المزني "، وهو مترجم في الإصابة، في اسمه هذا، وفي الاستيعاب: 349، في " عبد الله ذو البجادين المزني "، وفي مثله في أسد الغابة 3: 123.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 4: 159، من هذه الطريق نفسها، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 369، وقال: " رواه أحمد، والطبراني، وإسنادهما حسن ". وخرجه الحافظ بن حجر في الإصابة قال: " وأخرجه أحمد، وجعفر بن محمد الغريابي في كتاب الذكر، من طريق ابن لهيعة. . . " وساق الإسناد والخبر.
وفي أمر " عبد الله ذي البجادين "، إشكال هذا موضع عرضه مختصرا، وذلك أن صاحب الإصابة، ذكر في ترجمته أنه كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم في هجرته، وذكر خبرا، رواه الهجري في نوادره (مخطوط) قال:
" قال عبد الله بن ذي البجادين المزني، وساق بالنبيّ صلى الله عليه وسلم ساندا في الغَائر من الرَّكوبة، من الأبيض، جبل العرج في مُهاجَره: تَعَرَّضِي مَدَارِجًا وَسُومِي ... تَعَرُّضَ الجوْزاء لِلنُّجُومِ
هذَا أبُو القاسمِ فاسْتَقِيمي
وذكر الحافظ هذا الشعر في خبره، وذكر صاحب لسان العرب خبر دلالته لنبينا صلى الله عليه وسلم في مادة (بجد) ، وذكر الشعر في مادة (درج) ، و (عرض) ، وفيه خبر الهجري، و (سوم) .
والرجز يقوله لناقته، يقول لها: " تعرضي "، أي: خذي يمنة ويسرة، وتنكبي الثنايا الغلاظ بين الجبال، وهي " المدارج " - و " سومي " من السوم، وهو سرعة المر، مع قصد الصوب في السير - " تعرض الجوزاء "؛ لأن الجوزاء تمر على جنب معارضة، ليست بمستقيمة في السماء.
ويقال في سبب تسميته " ذا البجادين " أنه حين أراد المسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم قطعت أمه بجادا باثنين، فاتزر بواحد، وارتدى بالآخر. ويقال إنه لما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عبد الله لأبيه: " دعني أدله على الطريق "! فأبى، ونزع ثيابه عنه وتركه عريانا. فاتخذ بجادا من شعر وطرحه على عورته، ثم لحقهم، وأخذ بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم، وأنشأ يرتجز، بما ذكرناه من رجزه.
والذي رأيناه في السير، أن دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم في مهاجره هو: " عبد الله بن أريقط الليثي "، و " عبد الله " هذا لم يكن مسلما، ولا وجد من طريق صحيح أنه أسلم بعد ذلك، وكان مستأجرا.
(ابن هشام 2: 136 / الروض الأنف 2: 28، ثم ترجمته في الإصابة وغيرها) . وهو بلا شك غير ذي البجادين، لأن ذا البجادين، مزني؛ ولأنه مات في تبوك، ولأنهم ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينزل في قبر أحد، إلا خمسة، منهم عبد الله المزني، ذو البجادين.
فإذا عرف هذا تباعد الإشكال الموهم أنهما رجل واحد، واحتاج أمر دلالة ذي البجادين، إلى إيضاح لم تذكره كتب السير.(14/533)
ولذلك قيل للمتوجع من ألم أو مرض: "لا تتأوه"، (1) كما قال المُثَقِّب العَبْدي:
إذَا ما قُمْتُ أَرْحَلُها بِلَيْلٍ ... تَأَوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزِينِ (2)
ومنه قول الجَعْديَ:
ضَرُوحٍ مَرُوحٍ تُتْبِعُ الْوُرْقَ بَعْدَما ... يُعَرِّسْنَ شَكْوَى، آهَةً وَتَنَمَّرَا (3)
__________
(1) في المطبوعة: " لم تتأوه "، فعل ذلك لأن كاتب المخطوطة خلط في كتابه " لا "، فاجتهد الناشر، والصواب ما أثبت.
(2) ديوانه: 29، المفضليات: 586، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 270 طبقات فحول الشعراء: 231، واللسان (أوه) ، ومر ذكره هذا البيت، في التعليق على بيت من القصيدة فيما سلف 2: 548 تعليق: 1. وعنى بذلك ناقته، تحن إلى ديارها وأوطانها.
(3) ديوانه: 33، 52، وجمهرة أشعار العرب: 146، والمعاني الكبير: 315، من قصيدة النابغة، التي سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، فلما بلغ قوله: بَلَغْنا السَّمَاءَ مَجْدُنا وجُدُودُنا ... وَإنا لَنَبْغِي بَعْدَ ذَلكَ مَظْهَرا
فقال له: أين المظهر يا أبا ليلى؟ فقال: الجنة! قال: أجل، إن شاء الله ثم أنشده ما فيها من الحكمة قال: " لا يفضض الله فاك "، فبقي عمره أحسن الناس ثغرا، كلما سقطت سن عادت أخرى، وكان النابغة معمرا.
وقوله: " ضروح "، أي تضرح برجلها، رمحت بها، أراد نشاطها وإبعادها في سيرها. ويروى " خنوف " و " طروح " = و " مروح " شديدة النشاط، من المرح. وقوله " تتبع الورق "، هكذا في المخطوطة، ورواية ديوانه " تبعث الورق "، و " تعجل الورق "، وذلك أن تذعرها، فتجعلها عن التعريس، وهما روايتان واضحتا المعنى. وأما رواية التفسير، فإن صحت، فقد أراد أنها تتبع الشكوى والتأوه، فتنزعج فتذعر. و " الورق " عني بها القطا. و " القطا " ورق الألوان. وكان في المطبوعة " الودق " وهو خطأ. وقوله: " وتنمرا "، كان في المطبوعة: " وتشمرا "، وهو خطأ لا شك فيه، والمخطوطة غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. و " التنمر " الغضب. ورواية الديوان وغيره " وتذمرا "، وهي أوضح وأبين. وقوله: " آهة "، أي تأوهًا.
ورواية العجز في الديوان: " يعرس تشكوا آهة وتذمرا "، والذي في المخطوطة مطابق لما في المعاني الكبير لابن قتيبة " شكوى ".(14/534)
ولا تكاد العرب تنطق منه: بـ "فعل يفعل"، وإنما تقول فيه: "تَفَعَّلَ يَتَفَعَّل"، مثل: "تأوّه يتأوه"، "وأوّه يؤوِّه".
كما قال الراجز:
فَأَوَّهَ الرّاعِي وَضَوْضَى أكْلُبُه (1)
وقالوا أيضًا: "أوْهِ منك! "، ذكر الفراء أن أبا الجرّاح أنشده:
فَأَوْهِ مِنَ الذِّكْرَى إذَا مَا ذَكَرْتُها ... وَمِنْ بُعْدِ أَرْضٍ بَيْنَنَا وَسَمَاءِ (2)
قال: وربما أنشدنا: (فَأَوٍّ مِنَ الذِّكْرَى) ، بغيرها. ولو جاء "فعل" منه على الأصل لكان: "آه، يَئوهُ أوْهًا".
* * *
= ولأن معنى ذلك: "توجَّع، وتحزّن، وتضرع"، اختلف أهل التأويل فيه الاختلافَ الذي ذكرتُ. فقال من قال: معناه "الرحمة": أن ذلك كان
__________
(1) لم أعرف قائله. " ضوضى "، ضجت وصاحت. وفي الحديث حين ذكر رؤيته صلى الله عليه وسلم النار، أعاذنا الله من عذابها: " أنه رأى فيها قوما إذا أتاهم لهبها ضوضوا "، أي أحدثوا ضوضاء من صياحهم وجلبتهم.
(2) لسان العرب (أوه) ، لم أعرف قائله، وذكر اختلاف روايته هناك.(14/535)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115)
من إبراهيم على وجه الرِّقة على أبيه، والرحمة له، ولغيره من الناس.
وقال آخرون: إنما كان ذلك منه لصحة يقينه، وحسن معرفته بعظمة الله، وتواضعه له.
وقال آخرون: كان لصحة إيمانه بربِّه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند تلاوته تنزيل الله أحد الذي أنزله عليه.
وقال آخرون: كان ذلك منه عند ذكر رَبِّه.
= وكلُّ ذلك عائد إلى ما قلتُ، وتَقَارَبَ معنى بعض ذلك من بعض، لأن الحزين المتضرِّع إلى ربه، الخاشع له بقلبه، ينوبه ذلك عند مسألته ربَّه، ودعائه إياه في حاجاته، وتعتوره هذه الخلال التي وجَّه المفسرون إليها تأويل قول الله: "إن إبراهيم لأوّاه حليمٌ".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان الله ليقضي عليكم، في استغفاركم لموتاكم المشركين، بالضلال، بعد إذ رزقكم الهداية، ووفقكم للإيمان به وبرسوله، حتى يتقدَّم إليكم بالنهي عنه، فتتركوا الانتهاء عنه. فأما قبل أن يبين لكم كراهية ذلك بالنهي عنه، ثم تتعدوا نهيه إلى ما نهاكم عنه، فإنه لا يحكم عليكم بالضلال، لأن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهيّ، فأما من لم يؤمر ولم ينه، فغير كائنٍ مطيعًا أو عاصيًا فيما لم يؤمَرْ به ولم ينه عنه = "إن الله بكل شيء عليم"، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما خالط أنفسكم عند نهي الله إياكم من الاستغفار لموتاكم المشركين، من الجزع على ما سلف منكم(14/536)
من الاستغفار لهم قبل تقدمه إليكم بالنهي عنه، وبغير ذلك من سرائر أموركم وأمور عباده وظواهرها، فبيَّن لكم حلمه في ذلك عليكم، ليضع عنكم ثِقَل الوَجْد بذلك. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
17419- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون"، قال: بيانُ الله للمؤمنين في الاستغفار للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعتُه ومعصيته، فافعلوا أو ذَرُوا.
17420- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون"، قال: بيانُ الله للمؤمنين: أن لا يستغفروا للمشركين خاصة، وفي بيانه طاعتُه ومعصيته عامة، فافعلوا أو ذَرُوا.
17421-..... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
17422- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: "وما كان الله ليضل قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون"، قال: يبين الله للمؤمنين في أن لا يستغفروا للمشركين في بيانه في طاعته وفي معصيته، فافعلوا أو ذروا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.(14/537)
إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله، أيها الناس له سلطان السماوات والأرض وملكهما، وكل من دونه من الملوك فعبيده ومماليكه، بيده حياتهم وموتهم، يحيي من يشاء منهم، ويميت من يشاء منهم، فلا تجزعوا، أيها المؤمنون، من قتال من كفر بي من الملوك، ملوك الروم كانوا أو ملوك فارس والحبشة، أو غيرهم، واغزوهم وجاهدوهم في طاعتي، فإني المعزُّ من أشاء منهم ومنكم، والمذلُّ من أشاء.
وهذا حضٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين على قتال كلّ من كفر به من المماليك، وإغراءٌ منه لهم بحربهم.
وقوله: (وما لكم من دون الله من وليّ ولا نصير) ، يقول: وما لكم من أحد هو لكم حليفٌ من دون الله يظاهركم عليه، إن أنتم خالفتم أمرَ الله فعاقبكم على خلافكم أمرَه، يستنقذكم من عقابه = (ولا نصير) ، ينصركم منه إن أراد بكم سوءًا. يقول: فبالله فثقوا، وإياه فارهبوا، وجاهدوا في سبيله من كفر به، فإنه قد اشترى منكم أنفسكم وأموالكم بأن لكم الجنة، تقاتلون في سبيله فتَقْتُلُون وتُقْتَلُون. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.(14/538)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
القول في تأويل قوله: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لقد رزق الله الإنابة إلى أمره وطاعته، نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين ديارَهم وعشيرتَهم إلى دار الإسلام، وأنصار رسوله في الله (1) = الذين اتبعوا رَسول الله في ساعة العسرة منهم من النفقة والظهر والزاد والماء (2) = (من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم) ، يقول: من بعد ما كاد يميل قلوب بعضهم عن الحق، ويشك في دينه ويرتاب، بالذي ناله من المشقة والشدّة في سفره وغزوه (3) = (ثم تاب عليهم) ، يقول: ثم رزقهم جلّ ثناؤه الإنابة والرجوع إلى الثبات على دينه، وإبصار الحق الذي كان قد كاد يلتبس عليهم = (إنه بهم رءوف رحيم) ، يقول: إن ربكم بالذين خالط قلوبَهم ذلك لما نالهم في سفرهم من الشدة والمشقة رءوف بهم = (رحيم) ، أن يهلكهم، فينزع منهم الإيمان بعد ما قد أبلَوْا في الله ما أبلوا مع رسوله، وصبروا عليه من البأساء والضراء. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17423- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عاصم قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " المهاجر " فيما سلف ص: 434، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " العسرة " فيما سلف 6: 28، 29.
(3) انظر تفسير " الزيغ " فيما سلف 6: 183، 184.
= وتفسير " فريق " فيما سلف 12: 388، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " رؤوف " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (رأف) ، (رحم) .(14/539)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (في ساعة العسرة) ، في غزوة تبوك.
17424- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: (في ساعة العسرة) ، قال: خرجوا في غزوةٍ، (1) الرجلان والثلاثة على بعير. وخرجوا في حرٍّ شديد، وأصابهم يومئذ عطش شديد، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها، ويشربون ماءه، (2) وكان ذلك عسرة من الماء، وعسرة من الظهر، وعسرة من النفقة. (3)
17425- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ساعة العسرة) ، قال: غزوة تبوك، قال: "العسرة"، أصابهم جَهْدٌ شديد، حتى إن الرجلين ليشقَّان التمرة بينهما، وأنهم ليمصُّون التمرة الواحدة، ويشربون عليها الماء.
17426- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (الذين اتبعوه في ساعة العسرة) ، قال: غزوة تبوك.
17427-...... قال، حدثنا زكريا بن عدي، عن ابن مبارك، عن معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر: (الذين اتبعوه في ساعة العسرة) ، قال: عسرة الظهر، وعسرة الزاد، وعسرة الماء. (4)
__________
(1) في المطبوعة: " في غزوة تبوك "، زاد من عنده، وليست في المخطوطة، وهي بلا شك غزوة تبوك.
(2) في المطبوعة: " ماءها "، والذي في المخطوطة صواب أيضا.
(3) الأثر: 17424 - " عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب الهاشمي "، منكر الحديث ليس بمتقن، لا يحتجون بحديثه من جهة حفظه. مضى برقم: 487، وانظر الخبر رقم: 17427.
(4) الأثر: 17427 - " زكريا بن عدي بن زريق التميمي "، ثقة، مضى برقم: 1566، 15446، 16945. وكان في المطبوعة: " زكريا بن علي "، والصواب ما في المخطوطة، ولكن لم يحسن قراءته.
" عبد الله بن محمد بن عقيل "، سلف برقم: 17424.(14/540)
17428- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوا في ساعة العسرة) ، الآية، الذين اتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك قِبَل الشأم في لهَبَانِ الحرّ على ما يعلم الله من الجهد، أصابهم فيها جهدٌ شديد، حتى لقد ذُكر لنا أن الرجلين كانا يشقّان التمرة بينهما، وكان النفر يتناولون التمرة بينهم، يمصُّها هذا ثم يشرب عليها، ثم يمصُّها هذا ثم يشرب عليها، فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوهم.
17429- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن عتبة بن أبي عتبة، عن نافع بن جبير بن مطعم، عن عبد الله بن عباس: أنه قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه في شأن العسرة، فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلا أصابنا فيه عطش، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع، حتى إن كان الرجل ليذهب يلتمسُ الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع، حتى إن الرجل لينحر بعيره، فيعصر فَرْثه فيشربه، (1) ويجعل ما بقي على كبده، فقال أبو بكر: يا رسول الله، إن الله قد عوّدك في الدعاء خيرًا، فادع لنا! قال: تحب ذلك؟ قال: نعم! فرفع يديه، فلم يَرْجِعهما حتى قالت السماء، فأظلّت، ثم سكبت، (2) فملأوا ما معهم، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها، (3)
__________
(1) " الفرث "، سرجين الكرش ما دام في الكرش.
(2) " قالت السماء "، أي: أقبلت بالسحاب، وكان في المطبوعة: "مالت " وأثبت ما في المخطوطة. وهو مطابق لما في مجمع الزوائد، وفي ابن كثير، وغيره " سالت " وليست بشيء. وهذا تعبير عزيز جيد.
وقوله: " فأظلت "، أي: جاء السحاب بالظل، وفي ابن كثير وغيره " فأهطلت "، وليست بشيء. وفي مجمع الزوائد: " فأطلت "، وكأنه تصحيف.
(3) في المطبوعة: " ثم رجعنا ننظر فلم نجدها، جاوزت العسكر "، غير ما كان في المخطوطة، وهو صواب مطابق لما في المراجع. وقوله: " ذهبنا ننظر "، العرب تضع " ذهب " في الكلام ظرفا للفعل، انظر ما سلف 11: 128، تعليق: 1، ثم ص: 250، في كلام أبي جعفر، والتعليق: 1، ثم رقم: 16206.(14/541)
جاوزت العسكر. (1)
17430- حدثني إسحاق بن زيادة العطار قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثنا عبد الله بن وهب قال، حدثنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، عن نافع بن جبير، عن ابن عباس قال: قيل لعمر بن الخطاب رحمة الله عليه: حدِّثنا عن شأن جيش العسرة! فقال عمر: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 17429 - " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري ". ثقة متقن، مضى مرارا، آخرها رقم: 13570، 16732.
و" سعيد بن أبي هلال الليثي المصري "، ثقة، مضى مرارا، آخرها رقم: 13570.
و" عتبة بن أبي عتبة ". هو " عتبة بن مسلم التيمي "، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 374.
و" نافع بن جبير بن مطعم ". تابعي ثقة، أحد الأئمة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 82، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 451.
ورجال إسناد هذا الخبر ثقات.
وهذا الخبر خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 194، 195، وقال: " رواه البزار، والطبراني في الأوسط، ورجال البزار ثقات ". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 286، ونسبه إلى ابن جرير، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم وصححه، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي في الدلائل.
وهو في دلائل النبوة لأبي نعيم ص: 190 في باب " ذكر ما كان في غزوة تبوك ".، بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير في تفسيره 4: 257، 258، والبغوي بهامشه.
(2) الأثر: 17430 - " إسحاق بن زياد العطار "، شيخ الطبري، مضى برقم: 14146، ولم نجد له ذكرا، وقد مضى هناك: " إسحاق بن زياد العطار النصري " بغير تاء في " زياد " في المطبوعة والمخطوطة. وغير ممكن فصل القول في ذلك، ما لم نجد له ترجمة تهدي إلى الصواب.(14/542)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)
القول في تأويل قوله: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) }(14/542)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (لقد تاب الله على النبيّ والمهاجرين والأنصار) = (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا) ، وهؤلاء الثلاثة الذين وصفهم الله في هذه الآية بما وصفهم به فيما قيل، هم الآخرون الذين قال جل ثناؤه: (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) [سورة التوبة: 106] ، فتاب عليهم عز ذكره وتفضل عليهم.
وقد مضى ذكر من قال ذلك من أهل التأويل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: ولقد تاب الله على الثلاثة الذين خلفهم الله عن التوبة، فأرجأهم عمَّن تاب عليه ممن تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما:-
17431- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عمن سمع عكرمة في قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: خُلِّفوا عن التوبة.
17432- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أما قوله: (خلفوا) ، فخلِّفوا عن التوبة.
* * *
(حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت) ، يقول: بسعتها، (2) غمًّا وندمًا على تخلفهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم = (وضاقت عليهم أنفسهم) ، بما نالهم من الوَجْد والكرْب بذلك = (وظنوا أن لا ملجأ) ، يقول: وأيقنوا بقلوبهم أن لا شيء لهم يلجأون إليه مما نزل بهم من أمر الله من البلاء، (3)
__________
(1) انظر ما سلف ص: 464 - 467.
(2) انظر تفسير " رحب " فيما سلف. ص: 179.
(3) انظر تفسير " الظن " فيما سلف 2: 17 - 20، 265 / 5: 352.
= وتفسير " الملجأ " فيما سبق ص: 298.(14/543)
بتخلفهم خِلافَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينجيهم من كربه، ولا مما يحذرون من عذاب الله، إلا الله، ثم رزقهم الإنابة إلى طاعته، والرجوع إلى ما يرضيه عنهم، لينيبوا إليه، ويرجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه = (إن الله هو التواب الرحيم) ، يقول: إن الله هو الوهّاب لعباده الإنابة إلى طاعته، الموفقُ من أحبَّ توفيقه منهم لما يرضيه عنه = (الرحيم) ، بهم، أن يعاقبهم بعد التوبة، أو يخذل من أراد منهم التوبةَ والإنابةَ ولا يتوب عليه. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17433- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر في قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومُرارة بن الربيع، وكلهم من الأنصار. (2)
17434- حدثني عبيد بن محمد الوراق قال، حدثنا أبو أسامة، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بنحوه = إلا أنه قال: ومرارة بن الربيع، أو: ابن ربيعة، شكّ أبو أسامة. (3)
__________
(1) انظر تفسير " التواب "، " والرحيم "، فيما سلف من فهارس اللغة (ثوب) ، (رحم) .
(2) الأثر: 17433 - " مرارة بن ربيعة "، المشهور: " مرارة بن الربيع "، ولكنه هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة هنا. ثم جاء في الأخبار التالية " الربيع ". وقد مضى مثل هذا الاختلاف وأشد منه فيما سلف في التعليق على رقم 17177، 17178، 17183. وذكر ابن كثير في تفسيره 4: 264، وذكر هذا الخبر فقال: " وكذا في مسلم: ربيعة، في بعض نسخه، وفي بعضها: مرارة بن الربيع ".
(3) الأثر: 17434 - " عبيد بن محمد الوراق "، هو " عبيد بن محمد بن القاسم بن سليمان بن أبي مريم "، " أبو محمد الوراق النيسابوري "، سكن بغداد، وحدث بها عن موسى بن هلال العبدي وأبي النضر هاشم بن القاسم، والحسن بن موسى الأشيب، ويعقوب بن محمد الزهري، وبشر بن الحارث. كان ثقة، مات سنة 255، ولم أجد له ترجمة في غير تاريخ بغداد 11: 97، وروى عنه الطبري في موضعين من تاريخه 2: 202، 250، روى عن روح بن عبادة.
وكان في المطبوعة: " عبيد بن الوراق "، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأن الناسخ كتب " عبيد بن محمد " كلمة واحدة مشتبكة الحروف.
وأما " مرارة بن الربيع " أو " ابن ربيعة "، فانظر التعليق السالف.(14/544)
17435- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعامر: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: أرْجئوا، في أوسط "براءة".
17436- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: الذين أرجئوا في أوسط "براءة"، قوله: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ) ، [سورة التوبة: 106] هلال بن أمية، ومرارة بن رِبْعيّ، وكعب بن مالك. (1)
17437- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، الذين أرجئوا في وسط "براءة".
17438- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: كلهم من الأنصار: هلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، وكعب بن مالك.
17439-...... قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: الذين أرجئوا.
17440-...... قال، حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: (الثلاثة الذين خلفوا) ، كعب بن مالك وكان شاعرا، ومرارة بن الربيع، وهلال ابن أمية، وكلهم أنصاريّ. (2)
17441-...... قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: كلهم من الأنصار: هلال بن أمية، ومرارة بن الربيع، وكعب بن مالك.
__________
(1) الأثر: 17436 - " مرارة بن ربعي "، هكذا في المخطوطة كما أثبته، وفي المطبوعة " ابن ربيعة " ولكن هكذا، جاء هنا، كالذي مضى في رقم: 17177، 17178، فانظر التعليق هناك.
(2) في المطبوعة: " أنصار "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.(14/545)
17442- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هاشم، عن جويبر، عن الضحاك قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، كلهم من الأنصار.
17443- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، إلى قوله: (ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم) ، كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، تخلفوا في غزوة تبوك. ذكر لنا أن كعب بن مالك أوثق نفسه إلى سارية، فقال: لا أطلقها = أو لا أطلق نفسي (1) = حتى يُطلقني رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله: والله لا أطلقه حتى يطلقه ربُّه إن شاء! وأما الآخر فكان تخلف على حائط له كان أدرك، (2) فجعله صدقة في سبيل الله، وقال: والله لا أطعمه! وأما الآخر فركب المفاوز يتبع رسول الله، ترفعه أرض وتَضَعه أخرى، وقدماه تَشَلْشَلان دمًا. (3)
17444- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك قال: (الثلاثة الذين خلفوا) ، هلال بن أمية، وكعب بن مالك، ومرارة بن ربيعة.
17445-...... قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن سلام أبي الأحوص، عن سعيد بن مسروق، عن عكرمة: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، قال: هلال بن أمية، ومرارة، وكعب بن مالك.
17446- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون،
__________
(1) في المطبوعة: " لا أطلقها، أو لا أطلق نفسي "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) " الحائط "، هو البستان من النخيل، إذا كان عليه حائط، وهو الجدار. ويقال لها أيضا " حديقة "، لإحداق سوره بها. فإذا لم يكن عليها حائط، فهي " ضاحية "، لبروزها للعين. و " أدرك الثمر "، أي بلغ نضجه.
(3) " تشلشلان "، " تتشلشلان "، على حذف إحدى التائين. " تشلشل الماء والدم "، إذا تبع قطران بعضه بعضا في سيلانه متفرقا.(14/546)
عن عمر بن كثير بن أفلح قال: قال كعب بن مالك: ما كنت في غَزاة أيسر للظهر والنفقة مني في تلك الغَزاة! قال كعب بن مالك: لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: "أتجهز غدًا ثم ألحقه"، فأخذت في جَهازي، فأمسيت ولم أفرغ. فلما كان اليوم الثالث، أخذت في جهازي، فأمسيت ولم أفرغ، فقلت: هيهات! سار الناس ثلاثًا! فأقمت. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم، جعل الناس يعتذرون إليه، فجئت حتى قمت بين يديه، فقلت: ما كنت في غَزاة أيسر للظهر والنفقة مني في هذه الغزاة! فأعرض عني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الناس أن ألا يكلمونا، وأمِرَتْ نساؤنا أن يتحوَّلن عنَّا. قال: فتسوَّرت حائطا ذات يوم، فإذا أنا بجابر بن عبد الله، فقلت: أيْ جابر! نشدتك بالله، هل علمتَني غششت الله ورسوله يومًا قطُّ؟ فسكت عني فجعل لا يكلمني. (1) فبينا أنا ذات يوم، إذ سمعت رجلا على الثنيَّة يقول: كعب! كعب! حتى دنا مني، فقال: بشِّروا كعبًا. (2)
17447- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، وهو يريد الروم ونصارى العرب بالشام، حتى إذا بلغ تبوك، أقام بها بضع عشرة ليلة، ولقيه بها وفد أذْرُح ووفد أيلة، فصَالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجزية، ثم قَفَل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك ولم يجاوزها، وأنزل الله: (لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوا في ساعة العسرة) ، الآية،
__________
(1) انظر " جعل "، وأنها من حروف الاستعانة فيما سلف 11: 250، في كلام الطبري، والتعليق هناك رقم: 1، والتعليق على الأثر رقم: 13862.
(2) الأثر: 17446 - " عمر بن كثير بن أفلح المدني "، مولى أبي أيوب الأنصاري، ثقة، ذكره ابن حبان في أتباع التابعين، وكأنه لم يصح عنده لقيه للصحابة. وذكر غيره أنه روى عن كعب بن مالك. وابن عمر، وسفينة. ومضى برقم: 12223.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 4: 454، 455، من هذه الطريق نفسها بنحوه.(14/547)
والثلاثة الذين خلفوا: رَهْطٌ منهم: كعب بن مالك، وهو أحد بني سَلِمة، ومرارة بن ربيعة، وهو أحد بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، وهو من بني واقف، وكانوا تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الغزوة في بضعة وثمانين رجلا. فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، صَدَقه أولئك حديثهم، واعترفوا بذنوبهم، وكذب سائرهم، فحلفوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حبسهم إلا العذر، فقبل منهم رسول الله وبايعهم، ووكَلَهم في سرائرهم إلى الله، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلام الذين خُلِّفوا، وقال لهم حين حدَّثوه حديثهم واعترفوا بذنوبهم: قد صدقتم، فقوموا حتى يقضى الله فيكم. فلما أنزل الله القرآن، تاب على الثلاثة، وقال للآخرين: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم) ، حتى بلغ: (لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [سورة التوبة: 95، 96] .
= قال ابن شهاب: وأخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب بن مالك = وكان قائد كعبٍ من بنيه حين عَمي = قال: سمعت كعب بن مالك يحدِّث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. قال كعب: لم أتخلَّف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط، إلا في غزوة تبوك، غير أني قد تخلفت في غزوة بدر، ولم يعاتبْ أحدًا تخلف عنها، إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيرَ قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد. ولقد شهدتُ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة، حين تواثقنا على الإسلام، وما أحبُّ أن لي بها مشهد بدر، وإن كانت بدر أذكرَ في الناس منها. (1)
= فكان من خبري حين تخلفت عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك،
__________
(1) قوله: " أذكر " أي أشهر ذكرا.(14/548)
أني لم أكن قط أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة، والله ما جمعت قبلها راحلتين قطُّ حتى جمعْتُهما في تلك الغزوة. فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديد، واستقبل سفرًا بعيدًا ومفاوِزَ، واستقبل عدوًّا كثيرًا، فجلَّى للمسلمين أمرهم ليتأهَّبُوا أهبة غزوهم، فأخبرهم بوجهه الذي يريد، والمسلمون مع النبي صلى الله عليه وسلم كثير، ولا يجمعهم كتاب حافظٌ = يريد بذلك: الديوان = قال كعب: فما رجلٌ يريد أن يتغيّب إلا يظنَّ أن ذلك سيخفى، ما لم ينزل فيه وَحْيٌ من الله. وغزا رسول الله تلك الغزوة حين طابت الثمار والظلال، وأنا إليهما أصعَرُ. (1) فتجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون معه، وطفقت أغدو لكي أتجهز معهم، [فأرجع ولم أقض شيئًا، وأقول في نفسي: "أنا قادر على ذلك إذا أردت! "، فلم يزل ذلك يتمادى بي، حتى استمرّ بالناس الجدُّ. فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديًا والمسلمون معه] ، (2) ولم أقض من جَهازي شيئًا، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئًا. فلم يزل ذلك يتمادى [بي] ، (3) حتى أسرعوا وتفارط الغزْوُ، (4) وهممت أن أرتحل فأدركهم، فيا ليتني فعلت، فلم يُقْدَر ذلك لي. فطفقت إذا خرجت في الناس بعد خروج النبي صلى الله عليه وسلم يحزنني أنّي لا أرى لي أسوةً إلا رجلا مغموصًا عليه في النفاق، (5) أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء. ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك، فقال وهو جالس في القوم بتبوك: ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سَلِمَة: يا رسول الله، حبسه بُرْداه، والنظر في عِطْفيْه! (6) [فقال معاذ بن جبل: بئس ما قلت! والله يا رسول الله، ما علمنا عليه إلا خيرًا] ! (7) فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبينا هو على ذلك، رأى رجلا مُبَيِّضًا يزول به السرابُ، (8) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كن أبا خيثمة! فإذا هو أبو خيثمة الأنصاري، وهو الذي تصدَّق بصاع التمر، فلمزه المنافقون. (9)
= قال كعب: فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجَّه قافلا من تبوك، حضرني بثِّي، (10) فطفقت أتذكر الكذب، وأقول: "بم أخرج من سَخَطه غدًا"؟ وأستعين على ذلك بكل ذي رأي من أهلي. فلما قيل: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظَلّ قادمًا! "، زاح عني الباطل، (11) حتى عرفت أني لن أنجو منه بشيء أبدًا، فأجمعت صدقه، (12) وصَبح رسول الله صلى الله عليه وسلم قادمًا، (13) وكان إذا قدم من سفر، بدأ بالمسجد فركع فيه ركعتين، ثم جلس للناس. فلما فعل ذلك، جاءه المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له، وكانوا
__________
(1) " أصعر "، أي: أميل، على وزن " أفعل " التفضيل، وأصله من " الصعر " (بفتحتين) ، وهو ميل في الوجه، كأنه يلتفت إليه شوقا.
(2) الذي بين القوسين ساقط من المخطوطة، وأثبته من رواية مسلم في صحيحه. وكان في المطبوعة: ". . . لكي أتجهز معهم، فلم أقضي من جهازي شيئا "، أما المخطوطة، فكان فيها ما يدل على أن الناسخ قد أسقط من الكلام: ". . . لكي أتجهز معهم والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا ".
(3) الزيادة بين القوسين، من صحيح مسلم.
(4) " تفارط الغزو "، أي فات وقته، ومثله " تفرط "، وفي الحديث: " أنه نام عن العشاء حتى تفرطت "، أي: فات وقتها.
(5) " أسوة "، أي: قدوة ومثلا. و " المغموص عليه "، من قولهم " غمص عليه قولا قاله "، أي: عابه عليه، وطعن به عليه. ويعني: مطعونا في دينه، متهما بالنفاق.
(6) " النظر في عطفيه "، كناية عن إعجابه بنفسه، واختياله بحسن لباسه. و " العطفان "، الجانبان، فهو يتلفت من شدة خيلائه.
(7) الزيادة بين القوسين، من صحيح مسلم. وظاهر أن الناسخ أسقطها في نسخه.
(8) " المبيض " (بتشديد الباء وكسرها) ، هو لا بس البياض. و " يزول به السراب "، أي: يرفعه ويخفضه، وإنما يحرك خياله.
(9) " لمزه "، عابه وحقره.
(10) في المطبوعة: " حضرني همي "، لم يحسن قراءة المخطوطة، والذي فيها مطابق لرواية مسلم في صحيحه. و " البث "، أشد الحزن. وذلك أنه إذا اشتد حزن المرء، احتاج أن يفضي بغمه وحزنه إلى صاحب له يواسيه، أو يسليه، أو يتوجع له.
(11) " أظل قادما "، أي: أقبل ودنا قدومه، كأنه ألقى على المدينة ظله. وقوله: " زاح عني الباطل "، أي: زال وذهب وتباعد.
(12) " أجمعت صدقه "، أي: عزمت على ذلك كل العزم، " أجمع صدقه " و " أجمع على صدقه "، سواء.
(13) في المطبوعة: " وأصبح "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في صحيح مسلم.(14/549)
بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله. حتى جئتُ، فلما سلمت تبسم تبسُّم المغْضَب، ثم قال: تعالَ! فجئت أمشي حتى جلست بين يديه، فقال لي: ما خلَّفك؟ ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟ قال قلت: يا رسول الله، إني والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سَخَطه بعذرٍ، لقد أعطيتُ جدلا (1) ولكني والله لقد علمت لئن حدَّثتك اليوم حديثَ كذبٍ ترضى به عني، ليوشكنّ الله أن يُسْخِطَك عليّ، ولئن حدثتك حديث صِدْق تَجدُ عليّ فيه، (2) إني لأرجو فيه عفوَ الله، (3) والله ما كان لي عُذْر! والله ما كنت قطُّ أقوى ولا أيسرَ مني حين تخلفت عنك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمّا هذا فقد صَدَق، قم حتى يقضي الله فيك! فقمت، وثار رجال من بني سلمة فاتبعوني وقالوا: والله ما علمناك أذنبت ذنبًا قبل هذا! لقد عجزتَ في أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون، (4) فقد كان كافِيَك ذنبك استغفارُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لك! قال: فوالله ما زالوا يؤنِّبونني حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكذّبَ نفسي! قال: ثم قلت لهم: هل لَقي هذا معي أحدٌ؟ قالوا: نعم، لقيه معك رجلان قالا مثلَ ما قلت، وقيل لهما مثل ما قيل لك. قال: قلت من هما؟ قالوا: مرارة بن ربيع العامري، (5) وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدرًا، فيهما أسوة. (6) قال: فمضيت حين ذكروهما لي. (7)
= ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيُّها الثلاثة، (8) من بين من تخلّف عنه. قال: فاجتنبنا الناسُ وتغيَّروا لنا، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف. فلبثنا على ذلك خمسين ليلةً، فأمّا صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأمّا أنا فكنت أشبَّ القوم وأجلدهم، فكنت أخرج وأشهد الصلاة وأطوف في الأسواق، ولا يكلمني أحدٌ، وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة، فأقول في نفسي: "هل حرك شفتيه بردّ السلام أم لا؟ "، ثم أصلي معه، وأسارقه النظر، فإذا أقبلتُ على صلاتي نظر إلي، وإذا التفت نحوه أعرض عني، حتى إذا طال ذلك عليّ من جفوة المسلمين، مشيت حتى تسوَّرت جدار حائط أبي قتادة = وهو ابن عمي، وأحبُّ الناس إليّ = فسلمت عليه، فوالله ما ردّ علي السلام! فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله، هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟ فسكت. قال: فعُدْت فناشدته، فسكت، فعدت فناشدته، فقال: الله ورسوله أعلم! ففاضت عيناي، وتولَّيت حتى تسوَّرت الجدار.
= فبينا أنا أمشي في سوق المدينة، إذا بنبطيّ من نَبَط أهل الشام ممن قدم بالطعام يبيعه بالمدينة، يقول: من يدلُّ على كعب بن مالك؟ قال: فطفق الناس يشيرون
__________
(1) " الجدل "، اللدد في الخصومة، والقدرة عليها، وعلى مقابلة الحجة بالحجة.
(2) " تجد " من " الوجد "، وهو الغضب والسخط.
(3) هكذا في المخطوطة: " عفو الله " ومثله في مسند أحمد 3: 460 وفي صحيح مسلم " عقبى الله "، أي: أن يعقبني خيرا، وأن يثبتني عليه.
(4) في المطبوعة حذف " في " من قوله: " لقد عجزت في أن لا تكون "، وهي ثابتة في المخطوطة، وهي مطابقة لما في صحيح مسلم. وأما الذي في المطبوعة، فهو مطابق لما في البخاري من رواية غيره.
(5) في المطبوعة: " ابن الربيع "، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر روايته في مسلم " مرارة بن ربيعة "، وما قالوا في اختلاف رواه مسلم. وما قالوه أيضا في روايته " العامري "، وأن صوابها " العمري " نسبة إلى بني عمرو بن عوف.
(6) في المطبوعة: " لي فيهما أسوة "، زاد من عنده ما ليس في المخطوطة، ولا في صحيح مسلم. وإنما هو من رواية البخاري، بغير هذا الإسناد.
(7) " مضيت "، أي: أنفذت ما رأيت. من قولهم: " مضى في الأمر مضاء "، نفذ، و " أمضاه " أنفذه.
(8) قوله: " أيها الثلاثة "، أي: خصصنا بذلك دون سائر المعتذرين. وهذه اللفظة تقال في الاختصاص، وتختص بالمخبر عن نفسه والمخاطب، تقول: " أما أنا فأفعل هذا، أيها الرجل "، يعني نفسه. انظر ما سلف 3: 147، تعليق: 1، في الخبر رقم: 2182.(14/551)
له، حتى جاءني، فدفع إليَّ كتابًا من ملك غسان، وكنت كاتبًا، فقرأته، فإذا فيه: "أما بعدُ، فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم يجعلك الله بدار هَوَانٍ ولا مَضْيَعةٍ، فالحق بنا نُوَاسِك".
= قال: فقلت حين قرأته: وهذا أيضًا من البلاء!! فتأمَّمتُ به التنُّور فسجرته به. (1) حتى إذا مضت أربعون من الخمسين، واستلبث الوحي، (2) إذا رسولُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم يأتيني فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك. قال فقلت: أطلِّقها، أم ماذا أفعل؟ قال: لا بل اعتزلها فلا تقربها. قال: وأرسل إلى صاحبي بذلك. قال: فقلت لامرأتي: الحقي بأهلك فكوني عندهم حتى يقضي الله في هذا الأمر. (3)
= قال: فجاءت امرأة هلالٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، إن هلال بن أمية شيخ ضائع ليس له خادمٌ، فهل تكره أن أخدُمَه؟ فقال: لا ولكن لا يقرَبَنْكِ! قالت فقلت: إنه والله ما به حركة إلى شيء! ووالله
__________
(1) " فتأممت "، وهكذا في المخطوطة أيضا، وفي رواية البخاري " فتيممت ". وأما في صحيح مسلم، " فتياممت "، وقال النووي: " هكذا هو في حميع النسخ ببلادنا، وهي لغة في: تيممت، ومعناها: قصدت ". وأما القاضي عياض، فقال في مشارق الأنوار (أمم) : " ومثله: فتيممت بها التنور، كذا رواه البخاري. ولمسلم: فتأممت، وكلاهما بمعنى، سهل الهمزة في رواية، وحققها في أخرى = أي: قصدت ".
ثم انظر تفسير " الأم " و " التأمم " في تفسير أبي جعفر فيما سلف 5: 558 / 8: 407 / 9: 471.
وفي المطبوعة: " فتأممت به "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في مسلم والبخاري، إلا أن في مسلم " فسجرتها بها "، وفي البخاري: " فسجرته بها ". وأنث " بها "، إرادة لمعنى الصحيفة، وهي الكتاب، ثم رجع بالضمير إلى " الكتاب ".
" والتنور "، الكانون الذي يخبز فيه.
و" سجر التنور "، أوقده وأحماه وأشبع وقوده، وأراد: أنه زاد التنور التهابا، بإلقائه الصحيفة في ناره. وهذا كلام معجب، أراد به أن يسخر من رسالة ملك غسان إليه.
(2) " استلبث "، أي: أبطأ وتأخر.
(3) في المطبوعة: " تكوني عندهم "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في صحيح مسلم. وفي البخاري بغير هذا الإسناد: " فتكوني ".(14/553)
ما زال يبكي مُنْذ كان من أمره ما كان إلى يومه هذا! قال: فقال لي بعض أهلي: لو استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في امرأتك، فقد أذن لامرأة هلال أن تخدُمه؟ قال فقلت: لا أستأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما يدريني ماذا يقول لي إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شابٌّ!
= فلبثت بعد ذلك عشر ليالٍ، فكمل لنا خمسون ليلةً من حين نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا. (1) قال: ثم صليت صلاة الفجر صباحَ خمسين ليلة على ظهر بيتٍ من بيوتنا، فبينا أنا جالس على الحال التي ذكر الله منّا، (2) قد ضاقت عليّ نفسي وضاقت عليّ الأرض بما رحبت، سمعتُ صوت صارخٍ أوْفى على جبل سَلْع، (3) يقول بأعلى صوته: يا كعب بن مالك أبشر! قال: فخررت ساجدًا، وعرفت أن قد جاء فرجٌ. قال: وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بتوبة الله علينا حين صلى صلاة الفجر، (4) فذهب الناس يبشروننا، (5) فذهب قِبَلَ صاحبي مبشرون، وركض رجل إلي فرسًا، وسعى ساعٍ من أسْلَم قِبَلي وأوفى على الجبل، وكان الصوت أسرعَ من الفرس. فلما جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت له ثوبيَّ فكسوتهما إياه ببشارته، والله ما أملك غيرهما يومئذ، واستعرت ثوبين فلبستهما، وانطلقت أتأمم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (6)
__________
(1) في صحيح مسلم " حين نهي عن كلامنا "، وضبط " نهي " بالبناء للمجهول، ورواية أبي جعفر، تصحح ضبطه بالبناء للمعلوم أيضا.
(2) في المطبوعة: " التي ذكر الله عنا "، غير ما في المخطوطة، هو مطابق لما في صحيح مسلم، وهو العربي العريق.
(3) " أوفى عليه "، صعده وارتفع عليه، فأشرف على الوادي منه واطلع.
(4) " آذن " أعلم الناس بها. ورواية مسلم: " فآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس "، والذي هنا مطابق لرواية البخاري، بغير هذا الإسناد.
(5) " ذهب "، سلف ما كتبته عن الاستعانة بقولهم: " ذهب " و " جعل ". انظر رقم: 17429، ص: 541، تعليق 3، والمراجع هناك.
(6) انظر ص: 553، تعليق: 1.(14/554)
فتلقَّاني الناس فوجًا فوجًا يهنئوني بالتوبة ويقولون: لِتَهْنِكَ توبة الله عليك! (1) حتى دخلت المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد حوله الناس، فقام إليّ طلحة بن عبيد الله يُهَرول حتى صافحني، وهنأني، والله ما قام رجل من المهاجرين غيره = قال: فكان كعب لا ينساها لطلحة (2) = قال كعب: فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، وهو يبرُقُ وجهه من السرور: أبشر بخير يومٍ مرَّ عليك منذ ولدتك أمك! فقلت: أمن عندك، يا رسول الله، أم من عند الله؟ قال: لا بل من عند الله! وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهه، حتى كأن وجه قطعة قمر، وكنا نعرف ذلك منه.
= قال: فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله، إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقةً إلى الله وإلى رسوله. (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمسك بعض مالك، فهو خيرٌ لك! قال فقلت: فإني أمسك سهمي الذي بخيبر. وقلت: يا رسول الله، إن الله إنما أنجاني بالصدق، وإنّ من توبتي أن لا أحدِّث إلا صدقًا ما بقيت! قال: فوالله ما علمت أحدًا من المسلمين ابتلاه الله في صِدْق الحديث، منذ ذكرت ذلك لرسول الله عليه السلام، أحسن مما ابتلاني، (4)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " لتهنك "، وهي كذلك في رواية البخاري بغير هذا الإسناد، وفي صحيح مسلم المطبوع: " لتهنئك "، وذكره القاضي عياض في مشارق الأنوار (هنأ) فقال: " ولتهنك توبة الله، يهمز، ويسهل ". وقد ذكر صاحب لسان العرب (هنأ) أن العرب تقول: " ليهنئك الفارس " بجزم الهمزة، و " ليهنيك الفارس " بياء ساكنة، ولا يجوز " ليهنك " كما تقول العامة "، والذي قاله ونسبه للعامة، صواب لا شك فيه عندي.
(2) قال الحافظ في الفتح: " قالوا: سبب ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان آخى بينه وبين طلحة، لما آخى بين المهاجرين والأنصار. والذي ذكره أهل المغازي أنه كان أخا الزبير، لكن كان الزبير أخا طلحة في أخوة المهاجرين، فهو أخو أخيه ".
(3) " انخلع من ماله "، أي: خرج من جميع ماله، وتعرى منه كما يتعرى إنسان إذا خلع ثوبه. وأراد: إخراجه متصدقا به.
(4) " أبلاه " أي: أنعم عليه.(14/555)
والله ما تعمَّدت كِذْبَةً منذ قلت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني أرجو أن يحفظني الله فيما بقي. قال: فأنزل الله: (لقد تابَ الله على النبي) ، حتى بلغ: (وعلى الثلاثة الذين خُلِّفوا) ، إلى: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) .
= قال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمةٍ قطُّ بعد أن هَدَاني للإسلام أعظمَ في نفسي من صدقي رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبته، (1) فأهلك كما هلك الذين كذبوه، فإن الله قال للذين كذبوا، حين أنزل الوحي، شَرَّ ما قال لأحدٍ: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) ، إلى قوله: (لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) ، [سورة التوبة: 95، 96] .
= قال كعب: خُلِّفنا، أيها الثلاثة، (2) عن أمر أولئك الذين قَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم توبتهم حين حَلفوا له، فبايعهم واستغفر لهم، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمْرَنا حتى قضى الله فيه. فبذلك قال الله: (وعلى الثلاثة الذين خلفوا) ، وليس الذي ذكر الله مما خُلِّفنا عن الغزو، (3) إنما هو تخليفه إيّانا، (4) وإرجاؤه أمرَنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه. (5)
__________
(1) " أن لا أكون "، " لا " زائدة، كالتي في قوله تعالى: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة: الأعراف: 12] . انظر ما سلف في تفسير الآية 12: 323 - 325.
(2) في المطبوعة: " خلفنا " دون " كنا "، لم يحسن قراءة المخطوطة، وما أثبته مطابق لرواية مسلم في صحيحه.
(3) في صحيح مسلم: " مما خلفنا، تخلفنا عن الغزو "، والذي هنا وفي المخطوطة، مطابق لما فيه رواية البخاري بغير هذا الإسناد.
(4) في المطبوعة: " ختم الجملة بقوله: " فقبل منهم " بالجمع، خالف ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في صحيح مسلم والبخاري.
(5) الأثر: 17447 - حديث كعب بن مالك، سيرويه أبو جعفر من طرق سأبينها بعد. أما روايته هذه من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب، فهو إسناد مسلم في صحيحه 17: 87، 98، وانظر التعليق على الأخبار التالية. وانظر الأثرين السالفين رقم: 16147، 17091، والتعليق عليهما.(14/556)
17448- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب بن مالك = وكان قائد كعب من بنيه حين عَمِي = قال: سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فذكر نحوه. (1)
17449- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن عبد الرحمن بن كعب، عن أبيه قال: لم أتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غَزاة غَزاها إلا بدرًا، ولم يعاتب النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحدًا تخلف عن بدر، ثم ذكر نحوه. (2)
17450- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن شهاب الزهري، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري، ثم السلمي، عن أبيه، أن أباه عبد الله بن كعب، وكان قائد أبيه كعب حين أصيب بصره = قال: سمعت أبي كعبَ بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وحديث صاحبيه، قال: ما تخلفت عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها، غير أني كنت تخلفت عنه في غزوة بدر، ثم ذكر نحوه. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 17448 - من هذه الطريق رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 86 - 93) ، وأحمد في مسنده 3: 459، 460، الحديث بطوله.
(2) الأثر: 17449 - من هذه الطريق، طريق معمر، رواه أحمد في مسنده 6: 387 - 390. وانظر أيضا ما رواه أحمد في مسنده 3: 456، روايته من طريق يعقوب بن إبراهيم، عن ابن أخي الزهري محمد بن عبد الله، عن عمه محمد بن مسلم الزهري، الحديث بطوله، وصحيح مسلم 17: 98 - 100.
(3) الأثر: 17450 - سيرة ابن هشام 4: 175 - 181، الحديث بطوله.(14/557)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين، معرِّفَهم سبيل النجاة من عقابه، والخلاصِ من أليم عذابه: (يا أيها الذين آمنوا) ، بالله ورسوله = (اتقوا الله) ، وراقبوه بأداء فرائضه، وتجنب حدوده = (وكونوا) ، في الدنيا، من أهل ولاية الله وطاعته، تكونوا في الآخرة = (مع الصادقين) ، في الجنة. يعني: مع من صَدَق اللهَ الإيمانَ به، فحقَّق قوله بفعله، ولم يكن من أهل النفاق فيه، الذين يكذِّب قيلَهم فعلُهم.
وإنما معنى الكلام: وكونوا مع الصادقين في الآخرة باتقاء الله في الدنيا، كما قال جل ثناؤه: (ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين) [سورة النساء: 69] .
* * *
وإنما قلنا ذلك معنى الكلام، لأن كون المنافق مع المؤمنين غيرُ نافعه بأيّ وجوه الكون كان معهم، إن لم يكن عاملا عملهم. وإذا عمل عملهم فهو منهم، وإذا كان منهم، كان وجْهُ الكلام أن يقال: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، (1) ولتوجيه الكلام إلى ما وجَّهنا من تأويله، فسَّر ذلك من فسَّره من أهل التأويل بأن قال: معناه: وكونوا مع أبي بكر وعمر، أو: مع النبي صلى الله عليه وسلم، والمهاجرين رحمة الله عليهم.
* * *
* ذكر من قال ذلك أو غيره في تأويله:
__________
(1) في المطبوعة: " كان لا وجه في الكلام أن يقال "، غير ما في المخطوطة، والذي فيها ما أثبته، وهو مستقيم صحيح. والذي جاء به من عنده مفسد للكلام.(14/558)
17451- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم، عن نافع في قول الله: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
17452- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن زيد بن أسلم، عن نافع قال: قيل للثلاثة الذين خُلِّفوا: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، محمدٍ وأصحابه.
17453- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن عبد الرحمن المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع أبي بكر وعمر وأصحابهما، رحمةُ الله عليهم.
17454-...... قال، حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا إسحاق بن بشر الكاهلي قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن أبي هاشم الرمّاني، عن سعيد بن جبير في قول الله: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع أبي بكر وعمر، رحمة الله عليهما. (1)
17455- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (اتقوا الله وكونوا مع الصادقين) ، قال: مع المهاجرين الصادقين.
* * *
وكان ابن مسعود فيما ذكر عنه يقرؤه: (وَكُونُوا مِن الصَّادِقينَ) ، ويتأوّله: أنّ ذلك نَهْىٌ من الله عن الكذب.
* ذكر الرواية عنه بذلك:
17456- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة،
__________
(1) الأثر: 17454 - " أبو هاشم الرماني " ثقة، روى له الجماعة. مختلف في اسمه، مضى برقم: 10818.(14/559)
عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود يقول: قال ابن مسعود: إن الكذب لا يحلُّ منه جدٌّ ولا هزلٌ، اقرءوا إن شئتم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ) ، قال: وكذلك هي قراءة ابن مسعود: (من الصادقين) ، فهل ترون في الكذب رُخْصَة؟
17457-...... قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة، عن عبد الله، نحوه.
17458-...... قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا عبيدة يحدِّث عن عبد الله قال: الكذب لا يصلح منه جدٌّ ولا هزل، اقرءوا إن شئتم. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مِنَ الصَّادِقِينَ) = وهي كذلك في قراءه عبد الله = فهل ترون من رخصة في الكذب؟
17459- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله قال: لا يصلح الكذب في هزلٍ ولا جدٍّ. ثم تلا عبد الله: (اتقوا الله وكونوا) ، ما أدري أقال: (من الصادقين) أو (مع الصادقين) ، وهو في كتابي: (مع الصادقين) .
17460-...... قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن مجاهد، عن أبي معمر، عن عبد الله، مثله.
17461-...... قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: والصحيح من التأويل في ذلك، هو التأويل الذي ذكرناه عن نافع والضحاك. وذلك أنّ رسوم المصاحف كلّها مجمعة على: (وكونوا مع الصادقين) ، وهي القراءة التي لا أستجيز لأحدٍ القراءةَ بخلافها.
* * *(14/560)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
وتأويل عبد الله، رحمة الله عليه، في ذلك على قراءته، تأويلٌ صحيح، غير أن القراءة بخلافها.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلا إِلا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لم يكن لأهل المدينة، مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم = (ومن حولهم من الأعراب) ، سُكّان البوادي، الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهم من أهل الإيمان به، أن يتخلفوا في أهاليهم ولا دارٍ لهم، (1) ولا أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه في صحبته في سفره والجهاد معه، ومعاونته على ما يعانيه في غزوه ذلك. (2) يقول: إنه لم يكن لهم هذا = (بأنهم) ، من أجل أنهم، وبسبب أنهم = (لا يصيبهم) ، في سفرهم إذا كانوا معه = (ظمأ) ، وهو العطش = (ولا نصب) ، يقول: ولا تعب = (ولا مخمصة في سبيل الله) ، يعني: ولا مجاعة في إقامة دين الله ونصرته، وهدْم مَنَار الكفر (3) = (ولا يطئون موطئًا) ، يعني: أرضًا، يقول: ولا يطأون أرضًا =
__________
(1) في المطبوعة: " ولا دارهم "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " رغب " فيما سلف 3: 89.
(3) انظر تفسير " المخمصة " فيما سيأتي ص: 564، تعليق: 1.
= وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .(14/561)
(يغيظ الكفار) ، وطؤهم إياها (1) = (ولا ينالون من عدوّ نيلا) ، يقول: ولا يصيبون من عدوّ الله وعَدُوّهم شيئًا في أموالهم وأنفسهم وأولادهم = إلا كتب الله لهم بذلك كله، ثوابَ عمل صالح قد ارتضاه (2) = (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) ، يقول: إن الله لا يدع محسنًا من خلقه أحسن في عمله فأطاعه فيما أمره، وانتهى عما نهاه عنه، أن يجازيه على إحسانه، ويثيبه على صالح عمله. (3) فلذلك كتبَ لمن فعل ذلك من أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب ما ذكر في هذه الآية، الثوابَ على كلّ ما فعل، فلم يضيِّع له أجرَ فعله ذلك.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في حكم هذه الآية.
* * *
فقال بعضهم: هي محكمة، وإنما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، لم يكن لأحدٍ أن يتخلف إذا غزا خِلافَه فيقعد عنه، إلا من كان ذا عُذْرٍ. فأما غيره من الأئمة والولاة، فإن لمن شاء من المؤمنين أن يتخلَّف خلافه، إذا لم يكن بالمسلمين إليه ضرورة.
* ذكر من قال ذلك:
17462- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه) ، هذا إذا غزا نبيُّ الله بنفسه، فليس لأحد أن يتخلف. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: لولا أن أشقَّ على أمتي ما تخلَّفت خلف سريّة تغزو في سبيل الله، لكني لا أجد سَعةً، فأنطلق بهم معي، ويشقّ علي = أو: أكره = أن أدعهم بعدي.
17463- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، سمعت
__________
(1) انظر تفسير " الغيظ " فيما سلف 7: 215 / 114: 16.
(2) انظر تفسير " كتب " فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) .
(3) انظر تفسير " المحسن " فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) .(14/562)
الأوزاعي، وعبد الله بن المبارك، والفزاري، والسبيعي، وابن جابر، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، إلى آخر الآية، إنها لأوّل هذه الأمة وآخرها من المجاهدين في سبيل الله.
* * *
وقال آخرون هذه الآية: نزلت وفي أهل الإسلام قلة، فلما كثروا نسخها الله، وأباح التخلف لمن شاء، فقال: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [سورة التوبة: 122]
* ذكر من قال ذلك:
17464- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، فقرأ حتى بلغ: (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) ، قال: هذا حين كان الإسلام قليلا فلما كثر الإسلام بعدُ قال: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، إلى آخر الآية.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن الله عنى بها الذين وصفهم بقوله: (وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ) ، [سورة التوبة: 90] . ثم قال جل ثناؤه: (ما كان لأهل المدينة) ، الذين تخلفوا عن رسول الله، ولا لمن حولهم من الأعراب الذين قعدوا عن الجهاد معه، أن يتخلفوا خِلافَه ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ندب في غزوته تلك كلَّ من أطاق النهوض معه إلى الشخوص، إلا من أذن له، أو أمره بالمقام بعده. فلم يكن لمن قدر على الشخوص التخلُّف. فعدّد جل ثناؤه من تخلف منهم، فأظهر نفاقَ من كان تخلُّفه منهم نفاقًا، وعذر من كان تخلفه لعُذْرٍ، وتاب على من كان تخلُّفه تفريطًا من غير شك ولا ارتياب(14/563)
في أمر الله، إذ تاب من خطأ ما كان منه من الفعل. فأما التخلف عنه في حال استغنائه، فلم يكن محظورًا، إذا لم يكن عن كراهةٍ منه صلى الله عليه وسلم ذلك. وكذلك حكم المسلمين اليوم إزاء إمامهم. فليس بفرضٍ على جميعهم النهوضُ معه، إلا في حال حاجته إليهم، لما لا بُدَّ للإسلام وأهله من حضورهم واجتماعهم واستنهاضه إياهم، فيلزمهم حينئذ طاعته.
وإذا كان ذلك معنى الآية، لم تكن إحدى الآيتين اللتين ذكرنا ناسخةً للأخرى، إذ لم تكن إحداهما نافيةً حكم الأخرى من كل وجوهه، ولا جاء خبر يوجِّه الحجة بأن إحداهما ناسخة للأخرى.
* * *
وقد بينا معنى "المخمصة"، وأنها المجاعة بشواهده، وذكرنا الرواية عمن قال ذلك في موضعٍ غير هذا، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. (1)
* * *
وأما "النيل"، فهو مصدر من قول القائل: "نالني ينالني"، و"نلت الشيء فهو مَنيل". وذلك إذا كنت تناله بيدك، وليس من "التناول". وذلك أن "التناول" من "النوال"، يقال منه: "نُلْتُ له، أنول له"، من العطيّة.
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: "النيل" مصدر من قول القائل: "نالني بخير ينولني نوالا"، و"أنالني خيرًا إنالةً". وقال: كأن "النيل" من الواو أبدلت ياء لخفتها وثقل الواو. وليس ذلك بمعروف في كلام العرب، بل من شأن العرب أن تصحِّح الواو من ذوات الواو، إذا سكنت وانفتح ما قبلها، كقولهم: "القَوْل"، و"العَوْل"، و"الحول"، ولو جاز ما قال، لجاز "القَيْل". (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المخمصة " فيما سلف 9: 532 - 534.
(2) انظر تفسير " النيل " فيما سلف 3: 20 / 6: 587 / 12: 408، 469 / 13: 133 ولم يفسر " النيل " فيما سلف بمثل هذا البيان في هذا الموضع. وهذه ملاحظة نافعة في استخراج المنهج الذي ألف به أبو جعفر تفسيره هذا.(14/564)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
القول في تأويل قوله: {وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ"، وسائر ما ذكر = (ولا ينالون من عدوٍّ نيلا) = (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة) ، في سبيل الله (1) = (ولا يقطعون) ، مع رسول الله في غزوه = (واديًا) إلا كتب لهم أجر عملهم ذلك، جزاءً لهم عليه، كأحسن ما يجزيهم على أحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها وهم مقيمون في منازلهم، كما:-
17465- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة) ، الآية، قال: ما ازداد قوم من أهليهم في سبيل الله بُعْدًا إلا ازدادوا من الله قربًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولم يكن المؤمنون لينفروا جميعًا. (2)
* * *
وقد بينا معنى "الكافة" بشواهده، وأقوال أهل التأويل فيه، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
__________
(1) لم يكن في المخطوطة ولا المطبوعة: " ولا كبيرة "، وزدتها لأنها حق الكلام.
(2) انظر تفسير " النفر " فيما سلف 8: 536 / 14: 254، 399.
(3) انظر تفسير " الكافة " فيما سلف 4: 257، 258 / 14: 242.(14/565)
ثم اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عناه الله بهذه الآية، وما "النفر"، الذي كرهه لجميع المؤمنين؟
فقال بعضهم: وهو نَفْرٌ كان من قوم كانوا بالبادية، بعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمون الناس الإسلام، فلما نزل قوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، انصرفوا عن البادية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، خشية أن يكونوا ممن تخلف عنه، وممن عُنِي بالآية. فأنزل الله في ذلك عذرهم بقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، وكره انصرافَ جميعهم من البادية إلى المدينة.
* ذكر من قال ذلك:
17466- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، قال: ناسٌ من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، خرجوا في البوادي، فأصابوا من الناس معروفًا، ومن الخصب ما ينتفعون به، ودَعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى، فقال الناس لهم: ما نراكم إلا قد تركتم أصحابكم وجئتمونا! فوجدوا في أنفسهم من ذلك حرجًا، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال الله: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يبتغون الخير = (ليتفقهوا) ، وليسمعوا ما في الناس، وما أنزل الله بعدهم = (ولينذروا قومهم) ، الناس كلهم = (إذا رجعوا اللهم لعلهم يحذرون) .
17467- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله = إلا أنه قال في حديثه: فقال الله: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، خرج بعض، وقعد بعضٌ يبتغون الخير.
17468-...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحو حديثه عن أبي حذيفة.(14/566)
17469- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحو حديث المثنى عن أبي حذيفة = غير أنه قال في حديثه: ما نراكم إلا قد تركتم صاحبكم! وقال: (ليتفقهوا) ، ليسمعوا ما في الناس.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان المؤمنون لينفروا جميعًا إلى عدوّهم، ويتركوا نبيهم صلى الله عليه وسلم وحده، كما:-
17470- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، قال: ليذهبوا كلهم = فلولا نفر من كل حي وقبيلة طائفة، وتخلف طائفة = (ليتفقهوا في الدين) ، ليتفقه المتخلفون مع النبي صلى الله عليه وسلم في الدين = ولينذر المتخلفون النافرين إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
17471- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، يقول: ما كان المؤمنون لينفروا جميعًا، ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده = (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يعني عصبة، يعني السرايا، ولا يتَسرَّوا إلا بإذنه، فإذا رجعت السرايا وقد نزل بعدهم قرآن، تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا: "إن الله قد أنزل على نبيكم بعدكم قرآنا، وقد تعلمناه". فيمكث السرايا يتعلَّمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم، [ويبعث سرايا أخر، فذلك قوله: (ليتفقهوا في الدين) ، يقول يتعلمون ما أنزل الله على نبيه] ، (1) ويعلموا السرايا إذا رجعت
__________
(1) ما بين القوسين، ليس في المخطوطة، وزاده ناشر المطبوعة من الدر المنثور 3: 292، فيما أرجح.(14/567)
إليهم لعلهم يحذرون. (1)
17472- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، إلى قوله: (لعلهم يحذرون) ، قال: هذا إذا بعث نبيُّ الله الجيوشَ، أمرهم أن لا يُعَرُّوا نبيه، وتقيم طائفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تتفقه في الدين، وتنطلق طائفة تدعو قومها، وتحذرهم وقائع الله فيمن خلا قبلهم.
17473- حدثنا الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، الآية، كان نبي الله إذا غزا بنفسه لم يحلَّ لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه، إلا أهل العذر. وكان إذا أقام فأسرت السرايا، لم يحلّ لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه. فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن، تلاه نبي الله على أصحابه القاعدين معه. فإذا رجعت السرية، قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا"، فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين، وهو قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، يقول: إذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم = (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يعني بذلك: أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعًا ونبيُّ الله قاعد، ولكن إذا قعد نبيُّ الله، تسرَّت السرايا، وقعد معه عُظْمُ الناس.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ما هؤلاء الذين نفروا بمؤمنين، ولو كانوا مؤمنين لم ينفر جميعهم، ولكنهم منافقون. ولو كانوا صادقين أنهم مؤمنون، لنفر بعضٌ ليتفقه في الدين، ولينذر قومه إذا رجع إليهم.
__________
(1) كان في المطبوعة: " ويعلمونه "، وفي الدر: " ويعلموه "، وفي المخطوطة: " ويعلموا " عطفا على قوله: " ليفقهوا ".(14/568)
* ذكر من قال ذلك:
17474- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، فإنها ليست في الجهاد، ولكن لما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مُضَر بالسِّنين أجدبت بلادهم، وكانت القبيلة منهم تُقْبل بأسرها حتى يحلُّوا بالمدينة من الجهْد، ويعتلُّوا بالإسلام وهم كاذبون، فضيَّقوا على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأجهدوهم، وأنزل الله يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم ليسوا مؤمنين، فردّهم رسول الله عشائرهم، وحذّر قومهم أن يفعلوا فعلهم، فذلك قوله: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون) .
* * *
وقد روي عن ابن عباس في ذلك قول ثالثٌ، وهو ما:-
17475- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، إلى قوله: (لعلهم يحذرون) ، قال: كان ينطلق من كل حيّ من العرب عصابةٌ، فيأتون النبي صلى الله عليه وسلم، فيسألونه عما يريدونه من دينهم، ويتفقهون في دينهم، ويقولون لنبي الله: ما تأمرنا أن نفعله، وأخبرنا ما نقول لعشائرنا إذا انطلقنا إليهم؟ قال: فيأمرهم نبيّ الله بطاعة الله وطاعة رسوله، ويبعثهم إلى قومهم بالصلاة والزكاة. وكانوا إذا أتوا قومهم نادوا: "إن من أسلم فهو منَّا"، وينذرونهم، حتى إن الرجل ليعرِّف أباه وأمه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم وينذرون قومهم. (1) فإذا رجعوا إليهم، يدعونهم إلى الإسلام، وينذرونهم النار، ويبشرونهم بالجنة.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت هذه الجملة في المخطوطة والمطبوعة، وهي جملة غريبة التركيب، أخشى أن يكون سقط منها شيء(14/569)
وقال آخرون: إنما هذا تكذيب من الله لمنافقين أزرَوْا بأعراب المسلمين وغيرهم، (1) في تخلُّفهم خِلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم ممن قد عذره الله بالتخلف.
* ذكر من قال ذلك:
17476- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن سليمان الأحول، عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية: (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ) ، إلى: (إن الله لا يضيع أجر المحسنين) ، قال ناس من المنافقين: هلك من تخلف! فنزلت: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، إلى: (لعلهم يحذرون) ، ونزلت: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ) ، الآية [سورة الشورى: 16] .
17477- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا سليمان الأحول، عن عكرمة، قال: سمعته يقول: لما نزلت: (إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما) [سورة التوبة: 39] ، و (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ) ، إلى قوله: (ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون) ، قال المنافقون: هلك أصحاب البدو الذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه! وقد كان ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو، إلى قومهم يفقهونهم، فأنزل الله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، إلى قوله: (لعلهم يحذرون) ، ونزلت: (وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ) ، الآية.
* * *
واختلف الذين قالوا: "عُنى بذلك النهيُ عن نَفْر الجميع في السرية، وترك
__________
(1) في المطبوعة: " بأعراب المسلمين وعزروهم "، والصواب ما في المخطوطة.(14/570)
النبيّ عليه السلام وحده" في المعنيِّين بقوله: (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) .
فقال بعضهم: عُنى به الجماعة المتخلفة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقالوا: معنى الكلام: فهلا نفر من كل فرقة طائفة للجهاد، ليتفقه المتخلفون في الدين، ولينذروا قومهم الذين نفروا في السرية إذا رجعوا إليهم من غزوهم؟ وذلك قول قتاده، وقد ذكرنا رواية ذلك عنه، من رواية سعيد بن أبي عروبة، (1) وقد:-
17478- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) الآية، قال: ليتفقه الذين قعدوا مع نبي الله = (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) ، يقول: لينذروا الذين خرجوا إذا رجعوا إليهم.
17479- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن وقتادة: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، قالا كافة، ويَدَعوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك: لتتفقه الطائفة النافرة دون المتخلفة، وتحذر النافرةُ المتخلفةَ.
* ذكر من قال ذلك:
17480- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) ، قال: ليتفقه الذين خرجوا، بما يُريهم الله من الظهور على المشركين والنصرة، وينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف رقم: 17472.(14/571)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: تأويلُه: وما كان المؤمنون لينفروا جميعًا ويتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحده، وأن الله نهى بهذه الآية المؤمنين به أن يخرجوا في غزو وجهادٍ وغير ذلك من أمورهم، ويدعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وحيدًا. ولكن عليهم إذا سَرَّى رسول الله سرية أن ينفر معها من كل قبيلة من قبائل العرب = وهي الفرقة (1) = (طائفة) ، وذلك من الواحد إلى ما بلغ من العدد، (2) كما قال الله جل ثناؤه: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة) ، يقول: فهلا نفر من كل فرقةٍ منهم طائفة؟ (3) وهذا إلى هاهنا، على أحد الأقوال التي رويت عن ابن عباس، وهو قول الضحاك وقتادة.
وإنما قلنا: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الله تعالى ذكره حظر التخلف خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المؤمنين به من أهل المدينة مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن الأعراب، لغير عذر يُعذرون به، إذا خرج رسول الله لغزوٍ وجهادِ عدوٍّ قبل هذه الآية بقوله: (ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله) ، ثم عقب ذلك جل ثناؤه بقوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، فكان معلومًا بذلك = إذْ كان قد عرّفهم في الآية التي قبلها اللازمَ لهم من فرض النَّفْر، والمباحَ لهم من تركه في حال غزو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشخوصه عن مدينته لجهاد عدوّ، وأعلمهم أنه لا يسعهم التخلف خِلافه إلا لعذر، بعد استنهاضه بعضهم وتخليفه بعضهم = أن يكون عَقِيب تعريفهم ذلك، تعريفُهم الواجبَ عليهم عند مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمدينته،
__________
(1) انظر تفسير " الفريق " و " الفرقة " فيما سلف: ص: 539، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " طائفة " فيما سلف: ص: 403، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " لولا " فيما سلف 11: 356، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/572)
وإشخاص غيره عنها، كما كان الابتداءُ بتعريفهم الواجب عند شخوصه وتخليفه بعضهم.
* * *
وأما قوله: (ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) ، (1) فإن أولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: ليتفقه الطائفة النافرة بما تعاين من نصر الله أهلَ دينه وأصحابَ رسوله، على أهل عداوته والكفر به، فيفقه بذلك من مُعاينته حقيقةَ علم أمر الإسلام وظهوره على الأديان، من لم يكن فقهه، ولينذروا قومهم فيحذروهم أن ينزل بهم من بأس الله مثل الذي نزل بمن شاهدوا وعاينوا ممن ظفر بهم المسلمون من أهل الشرك = إذا هم رجعوا إليهم من غزوهم = (لعلهم يحذرون) ، (2) يقول: لعل قومهم، إذا هم حذروهم ما عاينوا من ذلك، يحذرون فيؤمنون بالله ورسوله، حذرًا أن ينزل بهم ما نزل بالذين أخبِروا خبرَهم.
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصواب، وهو قول الحسن البصري الذي رويناه عنه، (3) لأن "النفر" قد بينا فيما مضى، أنه إذا كان مطلقًا بغير صلة بشيء، أنَّ الأغلب من استعمال العرب إياه في الجهاد والغزو. (4) فإذا كان ذلك هو الأغلب من المعاني فيه، وكان جل ثناؤه قال: (فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين) ، علم أن قوله: (ليتفقهوا) ، إنما هو شرط للنفر لا لغيره، إذْ كان يليه دون غيره من الكلام.
* * *
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون معناه: ليتفقه المتخلِّفون في الدين؟
قيل: ننكر ذلك لاستحالته. وذلك أن نَفْر الطائفة النافرة، لو كان سببًا لتفقه المتخلفة، وجب أن يكون مقامها معهم سببًا لجهلهم وترك التفقه، وقد علمنا أن
__________
(1) انظر تفسير " التفقه " فيما سلف ص: 413، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الحذر " فيما سلف 10: 575 / 14: 331.
(3) انظر ما سلف رقم: 17480.
(4) انظر ما سلف ص: 251 - 256.(14/573)
مقامهم لو أقاموا ولم ينفروا لم يكن سببًا لمنعهم من التفقه.
* * *
وبعدُ، فإنه قال جل ثناؤه: (ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم) ، عطفًا به على قوله: (ليتفقهوا في الدين) ، ولا شك أن الطائفة النافرة لم ينفروا إلا والإنذار قد تقدّم من الله إليها، وللإنذار وخوف الوعيد نَفرتْ، فما وجْهُ إنذار الطائفة المتخلفة الطائفةَ النافرةَ، وقد تساوتا في المعرفة بإنذار الله إياهما؟ ولو كانت إحداهما جائزٌ أن توصف بإنذار الأخرى، لكان أحقَّهما بأن يوصف به، الطائفة النافرة، لأنها قد عاينت من قدرة الله ونصرة المؤمنين على أهل الكفر به، ما لم تعاين المقيمة. ولكن ذلك إن شاء الله كما قلنا، من أنها تنذر من حَيِّها وقبيلتها من لم يؤمن بالله إذا رجعت إليه: أن ينزل به ما أنزل بمن عاينته ممن أظفر الله به المؤمنين من نُظَرائه من أهل الشرك.
* * *(14/574)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: "يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، قاتلوا من وليكم من الكفار دون من بَعُد منهم. (1) يقول لهم: ابدأوا بقتال الأقرب فالأقرب إليكم دارًا، دون الأبعد فالأبعد. وكان الذين يلون المخاطبين بهذه الآية يومئذ، الروم، لأنهم كانوا سكان الشأم يومئذ، والشأم كانت أقرب إلى المدينة من العراق. فأما بعد أن فتح الله على المؤمنين البلاد، فإن الفرض على
__________
(1) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .(14/574)
أهل كل ناحية، قتالُ من وليهم من الأعداء دون الأبعد منهم، ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى من نواحي بلاد الإسلام، فإن اضطروا إليهم، لزمهم عونهم ونصرهم، لأن المسلمين يدٌ على من سواهم.
* * *
ولصحة كون ذلك كذلك، تأوّل كلُّ من تأوّل هذه الآية، أنّ معناها إيجاب الفرض على أهل كل ناحية قتالَ من وليهم من الأعداء.
* ذكر الرواية بذلك:
17481- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن شبيب بن غرقدة البارقي، عن رجل من بني تميم قال، سألت ابن عمر عن قتال الديلم قال: عليك بالروم! (1)
17482- حدثنا ابن بشار، وأحمد بن إسحاق، وسفيان بن وكيع قالوا، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، قال: الديلم.
17483- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن: أنه كان إذا سئل عن قتال الروم والديلم، تلا هذه الآية: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) .
17484- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا عمران أخي قال: سألت جعفر بن محمد بن علي بن الحسين فقلت: ما ترى في قتال الديلم؟ فقال:
__________
(1) الأثر: 17481 - " شبيب بن غرقدة البارقي "، والمشهور " السلمي "، مضى برقم: 3008، 3009، وهو تابعي ثقة. وهكذا جاء في المخطوطة كما أثبته، ولكن ناشر المطبوعة كتبه هكذا " عن شبيب بن غرقدة، عن عروة البارقي، عن رجل من بني تميم "، وهو لا يصح أبدا، لأن " عروة البارقي "، هو: " عروة بن أبي الجعد البارقي "، وهو صحابي معروف، مضى أيضا برقم: 3008. والذي حدث هناك أيضا أنه زاد في الإسناد " عروة "، واستظهر أخي أنه زيادة في الإسناد، وهو الصواب، ويؤيده ما حدث في هذا الموضع، من ناسخ أو ناشر. وعذره فيما أظن شهرة " شبيب بن غرقدة " أنه " السلمي "، وأنه يروي عن " عروة البارقي "، فلما رأى " شبيب بن غرقدة البارقي "، ظن أنه خطأ في الإسناد فأضاف " عن عروة " بين " غرقدة "، و " البارقي ".(14/575)
قاتلوهم ورابطوهم، فإنهم من الذين قال الله: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) . (1)
17485- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن الربيع، عن الحسن: أنه سئل عن الشأم والديلم، فقال: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، الديلم.
17486- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، سمعت أبا عمرو، وسعيد بن عبد العزيز يقولان: يرابط كل قوم ما يليهم من مَسَالحهم وحصونهم، ويتأوَّلان قول الله: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) .
17487- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، قال: كان الذين يلونهم من الكفار العربُ، فقاتلهم حتى فرغ منهم. فلما فرغ قال الله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) ، حتى بلغ، (وَهُمْ صَاغِرُونَ) ، [سورة التوبة: 29] . قال: فلما فرغ من قتال من يليه من العرب، أمره بجهاد أهل الكتاب. قال: وجهادهم أفضل الجهاد عند الله.
* * *
وأما قوله: (وليجدوا فيكم غلظة) ، فإن معناه: وليجد هؤلاء الكفار الذين تقاتلونهم = (فيكم) ، أي: منكم شدةً عليهم (2) = (واعلموا أن الله مع المتقين) ، يقول: وأيقنوا، عند قتالكم إياهم، أن الله معكم، وهو ناصركم عليهم، فإن اتقيتم الله وخفتموه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فإن الله ناصر من اتقاه ومعينه.
* * *
__________
(1) الأثر: 17484 - " يعقوب بن عبد الله القمي "، مضى مرارا، آخرها رقم: 16960.
وهو يروي عن أخويه: " عبد الرحمن، وعمران "، ولم أجد لأخيه " عمران " ترجمة.
(2) انظر تفسير " الغلظة " فيما سلف 7: 341 / 14: 360.(14/576)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أنزل الله سورة من سور القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، فمن هؤلاء المنافقين الذين ذكرهم الله في هذه السورة من يقول: أيها الناس، أيكم زادته هذه السورة إيمانًا؟ يقول: تصديقًا بالله وبآياته. يقول الله: (فأما الذين آمنوا) ، من الذين قيل لهم ذلك = (فزادتهم) ، السورة التي أنزلت = (إيمانا) ، وهم يفرحون بما أعطاهم الله من الإيمان واليقين. (1)
* * *
فإن قال قائل: أو ليس "الإيمان"، في كلام العرب، التصديق والإقرارُ؟ (2) قيل: بلى!
فإن قيل: فكيف زادتهم السورة تصديقًا وإقرارًا؟
قيل: زادتهم إيمانًا حين نزلت، لأنهم قبل أن تنزل السورة لم يكن لزمهم فرضُ الإقرار بها والعمل بها بعينها، إلا في جملة إيمانهم بأن كل ما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله فحقٌّ. فلما أنزل الله السورة، لزمهم فرض الإقرار بأنها بعينها من عند الله، ووجب عليهم فرض الإيمان بما فيها من أحكام الله وحدوده وفرائضه، فكان ذلك هو الزيادة التي زادتهم نزول السورة حين نزلت من الإيمان والتصديق بها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " استبشر " فيما سلف 7: 396.
(2) انظر تفسير " الإيمان " فيما سلف من فهارس اللغة (أمن) .(14/577)
وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17488- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيمانا) ، قال: كان إذا نزلت سورة آمنوا بها، فزادهم الله إيمانًا وتصديقًا، وكانوا يستبشرون.
17489- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فزادتهم إيمانًا) ، قال: خشيةً.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وأما الذين في قلوبهم مرض) ، نفاق وشك في دين الله، (1) فإن السورة التي أنزلت = (زادتهم رجسًا إلى رجسهم) ، وذلك أنهم شكوا في أنها من عند الله، فلم يؤمنوا بها ولم يصدّقوا، فكان ذلك زيادة شكٍّ حادثةٍ في تنزيل الله، لزمهم الإيمان به عليهم، بل ارتابوا بذلك، فكان ذلك زيادة نَتْنٍ من أفعالهم، إلى ما سلف منهم نظيره من النتن والنفاق. وذلك معنى قوله: (فزادتهم رجسا إلى رجسهم) (2) = (وماتوا) ، يعني: هؤلاء المنافقين أنهم هلكوا = (وهم كافرون) ، يعني: وهم كافرون بالله وآياته.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المرض " فيما سلف 1: 278 - 281 / 10: 404 / 14: 12.
(2) انظر تفسير " الرجس " فيما سلف ص: 425، تعليق: 5، والمراجع هناك(14/578)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126)
القول في تأويل قوله: {أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءه قوله: (أولا يرون) .
فقرأته عامة قرأة الأمصار: (أو لا يرون) ، بالياء، بمعنى: أو لا يرى هؤلاء الذين في قلوبهم مرضُ النفاق؟
وقرأ ذلك حمزة: (أَوَ لا تَرَوْنَ) ، بالتاء، بمعنى: أو لا ترون أنتم، أيها المؤمنون، أنهم يفتنون؟
قال أبو جعفر: والصواب عندنا من القراءة في ذلك، الياءُ، على وجه التوبيخ من الله لهم، لإجماع الحجة من قرأة الأمصار عليه، وصحة معناه.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: أو لا يرى هؤلاء المنافقون أنَّ الله يختبرهم في كل عام مرة أو مرتين، بمعنى أنه يختبرهم في بعض الأعوام مرة، وفي بعضها مرتين (1) = (ثم لا يتوبون) ، يقول: ثم هم مع البلاء الذي يحلّ بهم من الله، والاختبار الذي يعرض لهم، لا ينيبون من نفاقهم، ولا يتوبون من كفرهم، ولا هم يتذكرون بما يرون من حجج الله ويعاينون من آياته، فيتعظوا بها، ولكنهم مصرُّون على نفاقهم؟
واختلف أهل التأويل في معنى "الفتنة" التي ذكر الله في هذا الموضع أن هؤلاء المنافقين يفتنون بها.
فقال بعضهم: ذلك اختبارُ الله إياهم بالقحط والشدة.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص: 286، تعليق: 3، والمراجع هناك.(14/579)
17490- حدثنا ابن وكيع، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: بالسَّنة والجوع.
17491- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (يفتنون) ، قال: يبتلون = (في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: بالسنة والجوع.
17492- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أو لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: يبتلون بالعذاب في كل عام مرة أو مرتين.
17493- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: بالسنة والجوع.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: أنهم يختبرون بالغزو والجهاد.
* ذكر من قال ذلك:
17494- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أوَ لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: يبتلون بالغزو في سبيل الله في كل عام مرة أو مرتين.
17495- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، مثله.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: أنهم يختبرون بما يُشيع المشركون من الأكاذيب على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فيفتتن بذلك الذين في قلوبهم مرض.(14/580)
* ذكر من قال ذلك:
17496- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن جابر، عن أبي الضحى، عن حذيفة: (أوَ لا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين) ، قال: كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين، فيضل بها فئامٌ من الناس كثير.
17497- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن جابر، عن أبي الضحى، عن حذيفة، قال: كان لهم في كل عام كذبة أو كذبتان.
* * *
وأولى الأقوال في ذلك بالصحة أن يقال: إن الله عجَّب عبادَه المؤمنين من هؤلاء المنافقين، ووبَّخ المنافقين في أنفسهم بقلّة تذكرهم، وسوء تنبههم لمواعظ الله التي يعظهم بها. وجائزٌ أن تكون تلك المواعظُ الشدائدَ التي ينزلها بهم من الجوع والقحط = وجائزٌ أن تكون ما يريهم من نُصرة رسوله على أهل الكفر به، ويرزقه من إظهار كلمته على كلمتهم = وجائزٌ أن تكون ما يظهر للمسلمين من نفاقهم وخبث سرائرهم، بركونهم إلى ما يسمعون من أراجيف المشركين برسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه = ولا خبر يوجب صحةَ بعض ذلك دون بعض، من الوجه الذي يجب التسليم له. ولا قول في ذلك أولى بالصواب من التسليم لظاهر قول الله وهو: أو لا يرون أنهم يختبرون في كل عام مرة أو مرتين، بما يكون زاجرًا لهم، ثم لا ينزجرون ولا يتعظون؟(14/581)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وإذا ما أنزلت سورة) ، من القرآن، فيها عيبُ هؤلاء المنافقين الذين وصفَ جل ثناؤه صفتهم في هذه السورة، وهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم = (نظر بعضهم إلى بعض) ، فتناظروا = (هل يراكم من أحد) ، إن تكلمتم أو تناجيتم بمعايب القوم يخبرهم به، ثم قاموا فانصرفوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستمعوا قراءة السورة التي فيها معايبهم. ثم ابتدأ جل ثناؤه قوله: (صرف الله قلوبهم) ، فقال: صرف الله عن الخير والتوفيق والإيمان بالله ورسوله قلوبَ هؤلاء المنافقين (1) = (ذلك بأنهم قوم لا يفقهون) ، يقول: فعل الله بهم هذا الخذلان، وصرف قلوبهم عن الخيرات، من أجل أنهم قوم لا يفقهون عن الله مواعظه، استكبارًا، ونفاقا. (2)
* * *
واختلف أهل العربية في الجالب حرفَ الاستفهام.
فقال بعض نحويي البصرة، قال: (نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد) ، كأنه قال: "قال بعضهم لبعض"، لأن نظرهم في هذا المكان كان إيماءً وشبيهًا به، (3) والله أعلم.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما هو: وإذا ما أنزلت سورة قال بعضهم لبعض: هل يراكم من أحد؟
__________
(1) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف 3: 194 / 11: 286 / 13: 112.
(2) انظر تفسير " الفقه " فيما سلف ص: 573، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة " وتنبيها به "، وصواب قراءته ما أثبت.(14/582)
وقال آخر منهم: هذا "النظر" ليس معناه "القول"، ولكنه النظر الذي يجلب الاستفهام، كقول العرب: "تناظروا أيهم أعلم"، و"اجتمعوا أيهم أفقه"، أي: اجتمعوا لينظروا = فهذا الذي يجلب الاستفهام.
* * *
17498- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن أبي حمزة، عن ابن عباس قال: لا تقولوا: "انصرفنا من الصلاة"، فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا: "قد قضينا الصلاة".
17499-...... قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمير بن تميم الثعلبي، عن ابن عباس قال: لا تقولوا: "انصرفنا من الصلاة"، فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم. (1)
17500-...... قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال: لا تقولوا: "انصرفنا من الصلاة"، فإن قومًا انصرفوا فصرف الله قلوبهم، ولكن قولوا: "قد قضينا الصلاة".
17501-...... حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض) ، الآية، قال: هم المنافقون.
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما:-
17502- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد) ، ممن
__________
(1) الأثر: 17499 - " عمير بن تميم الثعلبي "، هكذا في المخطوطة أيضا، لم أجد له ترجمة في غير الجرح والتعديل 3 / 1 / 378 في " عمير بن قميم الثعلبي " بالقاف. وقال المعلق إنه في إحدى النسخ " عمير بن قثم التغلبي ". وفي الثقات والكنى للدولابي " بن تميم ". وقال ابن أبي حاتم: (قال يحيى بن سعيد، وأبو نعيم، هو " أبو هلال الطائي "، وقال وكيع: هو " أبو تهلل ". روى عن ابن عباس، روى عنه أبو إسحاق الهمداني، ويونس بن أبي إسحاق، سمعت أبي يقول ذلك) .(14/583)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)
سمع خبرَكم، رآكم أحدٌ أخبره؟ (1) إذا نزل شيء يخبر عن كلامهم. قال: وهم المنافقون. قال: وقرأ: (وَإِذَا مَا أُنزلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا) ، حتى بلغ: (نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد) أخبره بهذا؟ أكان معكم أحد؟ سمع كلامكم أحد يخبره بهذا؟
17503- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إسحاق الهمداني، عمن حدثه، عن ابن عباس قال: لا تقل: "انصرفنا من الصلاة"، فإن الله عيَّر قومًا فقال: (انصرفوا صرف الله قلوبهم) ، ولكن قل: "قد صلَّينا".
* * *
القول في تأويل قوله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للعرب: (لقد جاءكم) ، أيها القوم، رسول الله إليكم = (من أنفسكم) ، تعرفونه، لا من غيركم، فتتهموه على أنفسكم في النصيحة لكم (2) = (عزيز عليه ما عنتم) ، أي: عزيز عليه عنتكم، وهو دخول المشقة عليهم والمكروه والأذى (3) = (حريص عليكم) ، يقول: حريص على هُدَى ضُلالكم وتوبتهم ورجوعهم إلى الحق (4) = (بالمؤمنين رءوف) ،: أي رفيق = (رحيم) . (5)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: " من يسمع خبركم ولكم أحد أخبره "، وما في المطبوعة مطابق لما في الدر المنثور 3: 293، وهو شبيه بالصواب إن شاء الله.
(2) انظر تفسير " من أنفسهم " فيما سلف 7: 369.
(3) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز)
= وتفسير " العنت " فيما سلف 4: 360 / 7: 140 - 144 / 8: 206.
(4) انظر تفسير " الحرص " فيما سلف 9: 284.
(5) انظر تفسير " رؤوف " فيما سلف 3: 171: 251 / 14: 539.
= وتفسير " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (رحم) .(14/584)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17504- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه في قوله: (لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، قال: لم يصبه شيء من شركٍ في ولادته.
17505- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن جعفر بن محمد في قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ، قال: لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية. قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: إني خرجت من نكاحٍ، ولم أخرج من سفاح.
17506- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، بنحوه.
17507- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، قال: جعله الله من أنفسهم، فلا يحسدونه على ما أعطاه الله من النبوة والكرامة. (1)
* * *
وأما قوله: (عزيز عليه ما عنتم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: ما ضللتم.
* ذكر من قال ذلك:
17508- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، عن ابن عباس في قوله: (عزيز عليه ما عنتم) ، قال: ما ضللتم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " ولا يحسدونه " بالواو، والسياق يقتضي ما أثبت.(14/585)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: عزيز عليه عَنت مؤمنكم.
* ذكر من قال ذلك:
17509- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (عزيز عليه ما عنتم) ، عزيزٌ عليه عَنَت مؤمنهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ ابن عباس. وذلك أن الله عمَّ بالخبر عن نبيّ الله أنه عزيز عليه ما عنتَ قومَه، ولم يخصص أهل الإيمان به. فكان صلى الله عليه وسلم [كما جاء الخبرُ من] الله به، عزيزٌ عليه عَنَتُ جمعهم. (1)
* * *
فإن قال قائل: وكيف يجوز أن يوصف صلى الله عليه وسلم بأنه كان عزيزًا عليه عنتُ جميعهم، وهو يقتل كفارَهم، ويسبي ذراريَّهم، ويسلبهم أموالهم؟
قيل: إن إسلامهم، لو كانوا أسلموا، كان أحبَّ إليه من إقامتهم على كفرهم وتكذيبهم إياه، حتى يستحقوا ذلك من الله. وإنما وصفه الله جل ثناؤه بأنه عزيزٌ عليه عنتهم، لأنه كان عزيزًا عليه أن يأتوا ما يُعنتهم، وذلك أن يضلُّوا فيستوجبوا العنت من الله بالقتل والسبي.
* * *
وأما "ما" التي في قوله: (ما عنتم) ، فإنه رفع بقوله: (عزيز عليه) ، لأن معنى الكلام ما ذكرت: عزيز عليه عنتكم.
* * *
وأما قوله: (حريص عليكم) ، فإن معناه: ما قد بيَّنت، وهو قول أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المخطوطة، بياض بين " كما "، و " الله به " بقدر كلمتين، وفي المطبوعة أتم الكلام هكذا: " كما وصفه الله به، عزيزا عليه "، والزيادة بين القوسين استظهار مني، وسائره كنص المخطوطة.(14/586)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
17510- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (حريص عليكم) ، حريص على ضالهم أن يهديه الله.
17510م- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (حريص عليكم) ، قال: حريص على من لم يسلم أن يسلم.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن تولى، يا محمد، هؤلاء الذين جئتهم بالحق من عند ربك من قومك، فأدبروا عنك ولم يقبلوا ما أتيتهم به من النصيحة في الله، وما دعوتهم إليه من النور والهدى (1) = (فقل حسبي الله) ، يكفيني ربي (2) = (لا إله إلا هو) ، لا معبود سواه = (عليه توكلت) ، وبه وثقت، وعلى عونه اتكلت، وإليه وإلى نصره استندت، فإنه ناصري ومعيني على من خالفني وتولى عني منكم ومن غيركم من الناس (3) = (وهو رب العرش العظيم) ، الذي يملك كلَّ ما دونه، والملوك كلهم مماليكه وعبيده. (4)
وإنما عنى بوصفه جل ثناؤه نفسه بأنه رب العرش العظيم، الخبرَ عن جميع ما دونه أنهم عبيده، وفي ملكه وسلطانه، لأن "العرش العظيم"، إنما يكون للملوك، فوصف نفسه بأنه "ذو العرش" دون سائر خلقه، وأنه الملك العظيم دون غيره، وأن من دونه في سلطانه وملكه، جارٍ عليه حكمه وقضاؤه.
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(2) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص: 340، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص: 291، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " العرش " فيما سلف 12: 482.(14/587)
17511- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (فإن تولوا فقل حسبي الله) ، يعني الكفار، تولوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه في المؤمنين.
17512- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عبيد بن عمير قال: كان عمر رحمة الله عليه لا يُثْبت آيةً في المصحف حتى يَشْهَدَ رجلان، فجاء رجل من الأنصار بهاتين الآيتين: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه) ، فقال عمر: لا أسألك عليهما بيّنةً أبدًا، كذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم!
17513- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، عن زهير، عن الأعمش، عن أبي صالح الحنفي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله رحيم يحبّ كل رحيم، يضع رحمته على كل رحيم. قالوا: يا رسول الله، إنا لنرحم أنفسنا وأموالنا = قال: وأراه قال: وأزواجنا =؟ قال: ليس كذلك، ولكن كونوا كما قال الله: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم) . أراهُ قرأ هذه الآية كلها. (1)
17514- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف، عن ابن عباس، عن أبيّ بن كعب قال: آخر آية نزلت من القرآن: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، إلى آخر الآية.
__________
(1) الأثر: 17513 - " أحمد بن عبد الله بن يونس التيمي "، ثقة، مضى مرارا آخرها رقم: 16095.
و" زهير "، هو " زهير بن معاوية بن حديج الجعفي "، ثقة، مضى مرارا، آخرها رقم: 12794.
و" أبو صالح الحنفي " تابعي ثقة، مضى برقم: 3226، 13291 - 13293 وهذا خبر مرسل.(14/588)
17515- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، عن أبيّ قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ، الآية. (1)
17516- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن أبيّ قال: أحدثُ القرآن عهدًا بالله هاتان الآيتان: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم) ، إلى آخر الآيتين. (2)
17517- حدثني أبو كريب قال، حدثنا يونس بن محمد قال، حدثنا أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن أبي بن كعب قال: أحدث القرآن عهدًا بالله، الآيتان: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم) ، إلى آخر السورة. (3)
* * *
آخر تفسير سورة التوبة (4) تم الجزء الرابع عشر من تفسير الطبري
ويليه الجزء الخامس عشر وأوله:
تفسير السورة التي يذكر فيها يونس
__________
(1) الأثران: 17514، 17515 - " علي بن زيد بن جدعان "، سيئ الحفظ، مضى مرارا آخرها رقم: 13493، 16736.
و" يوسف بن مهران البصري "، ثقة، مضى مرارا، آخرها: 13495. وهذا الخبر رواه عبد الله بن أحمد في مسند أبيه 5: 117، من طريق محمد بن أبي بكر، عن بشر بن عمر، عن شعبة، بمثله.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 36، وقال: " رواه عبد الله بن أحمد، والطبراني، وفيه علي بن زيد بن جدعان، وهو ثقة سيء الحفظ، وبقية رجاله ثقات ".
(2) الأثر: 17516 - مكرر الذي قبله، ولكنه مرسل عن أبي.
(3) الأثر: 17517 - مرسل، قتادة لم يرو عن أبي بن كعب.
(4) بعد هذا في المخطوطة ما نصه: " والحمد لله رب العالمين يتلوه إن شاء الله تعالى تفسير السورة التي يذكر فيها يونس ".(14/589)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1)
سورة يونس
القول في تأويل قوله تعالى: {الر}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم تأويله: أنا الله أرى.
* ذكر من قال ذلك:
17518- حدثنا يحيى بن داود بن ميمون الواسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي روق، عن الضحاك، في قوله: (الر) ، أنا الله أرى. (1)
17519- حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قوله: (الر) ، قال: أنا الله أرى.
* * *
وقال آخرون: هي حروف من اسم الله الذي هو "الرحمن".
*ذكر من قال ذلك:
17520- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا علي بن
__________
(1) الأثر: 17518 - " يحيى بن داود بن ميمون الواسطي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 4451، 11545.(15/589)
الحسين قال حدثني أبي، عن يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس: (الر) و (حم) و (نون) حروف "الرَّحمن" مقطعةً.
17521- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عيسى بن عبيد عن الحسين بن عثمان قال: ذكر سالم بن عبد الله: (الر) و (حم) و (نون) ، فقال: اسم "الرحمن" مقطع = ثم قال: "الرحمن".
17522- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا مندل عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: (الر) و (حم) و (نون) ، هو اسم "الرحمن".
17523- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو الكلبي، عن أبي عوانة، عن إسماعيل بن سالم، عن عامر: أنه سئل عن: (الر) و (حم) و (ص) ، قال: هي أسماء من أسماء الله مقطعة بالهجاء، فإذا وصلتها كانت اسمًا من أسماء الله تعالى.
* * *
وقال آخرون: هي اسم من أسماء القرآن.
*ذكر من قال ذلك:
17524- حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (الر) ، اسم من أسماء القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا اختلاف الناس، وما إليه ذهب كل قائل في الذي قال فيه وما الصواب لدينا من القول في ذلك في نظيره، وذلك في أول "سورة البقرة"، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)
وإنما ذكرنا في هذا الموضع القدرَ الذي ذكرنا، لمخالفة من ذكرنا قوله في هذا، قوله في (الم) ، فأما
__________
(1) انظر ما سلف 1: 205 - 224.(15/10)
الذين وفَّقوا بيْن معاني جميع ذلك، فقد ذكرنا قولهم هناك، مكتفًي عن الإعادة ههنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) }
قال أبو جعفر: اختلف في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تلك آيات التوراة.
* ذكر من قال ذلك:
17525- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن مجاهد: (تلك آيات الكتاب الحكيم) ، قال: التوراة والإنجيل.
17526-. . . . قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة: (تلك آيات الكتاب) ، قال: الكُتُب التي كانت قبل القرآن.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: هذه آيات القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوّله: "هذه آيات القرآن"، ووجّه معنى (تلك) إلى معنى "هذه"، وقد بينا وجه توجيه (تلك) إلى هذا المعنى في "سورة البقرة"، بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
و (الآيات) ، الأعلام= و (الكتاب) ، اسم من أسماء القرآن، وقد بينا كل ذلك فيما مضى قبل. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " ومكتفيًا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(2) انظر ما سلف 1: 225 - 228.
(3) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أي) .
وتفسير " الكتاب " فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) .(15/11)
أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
وإنما قلنا: هذا التأويل أولى في ذلك بالصواب، لأنه لم يجيء للْتوراة والإنجيل قبلُ ذكرٌ ولا تلاوةٌ بعدُ، فيوجه إليه الخبر.
فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل الكلام: والرحمن، هذه آيات القرآن الحكيم.
* * *
ومعنى (الحكيم) ، في هذا الموضع، "المحكم"، صرف "مُفْعَل" إلى "فعيل"، كما قيل: (عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، بمعنى مؤلم، (1) وكما قال الشاعر: (2)
*أمِنْ رَيْحانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ* (3)
وقد بينا ذلك في غير موضع من الكتاب. (4)
فمعناه إذًا: تلك آيات الكتاب المحكم، الذي أحكمه الله وبينه لعباده، كما قال جل ثناؤه: (الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [سورة هود: 1]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أكان عجبًا للناس إيحاؤنا القرآن على رجل منهم بإنذارهم عقابَ الله على معاصيه، كأنهم لم يعلموا أنَّ الله قد أوحى
__________
(1) انظر تفسير " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) .
(2) هو عمرو بن معديكرب الزبيدي.
(3) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 1: 283.
(4) انظر ما سلف 1: 283، 284، وغيره من المواضع في فهارس مباحث العربية والنحو وغيرها.(15/12)
من قبله إلى مثله من البشر، فتعجَّبوا من وحينا إليه. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17527- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لما بعث الله محمدًا رسولا أنكرت العرب ذلك، أو من أنكر منهم، فقالوا: اللهُ أعظمُ من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد! فأنزل الله تعالى: (أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى رجل منهم) ، وقال: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلا رِجَالا) [سورة يوسف: 109] .
17528- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: عجبت قريش أن بُعث رجل منهم. قال: ومثل ذلك: (وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا) [سورة الأعراف: 65] ، (وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا) ، [سورة الأعراف: 73] ، قال الله: (أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ) ، [سورة الأعراف: 69] .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: أما كان عجبًا للناس أن أوحينا إلى رجل منهم: أن أنذر الناس، وأن بشر الذين آمنوا بالله ورسوله: (أن لهم قدم صدق) ، عطفٌ على (أنذر) .
__________
(1) انظر تفسير " الوحي " و " الإنذار " فيما سلف من فهارس اللغة (وحي) ، (نذر) .(15/13)
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (قدم صدق) ، فقال بعضهم: معناه: أن لهم أجرًا حسنًا بما قدَّموا من صالح الأعمال.
* ذكر من قال ذلك:
17529- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، قال: ثواب صِدق.
17530-. . . . قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير عن مجاهد: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، قال: الأعمال الصالحة.
17531- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، يقول: أجرًا حسنًا بما قدَّموا من أعمالهم.
17532- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن حبان، عن إبراهيم بن يزيد، عن الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث، عن مجاهد: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، قال: صلاتهم وصومهم، وصدقتُهم، وتسبيحُهم. (1)
17533- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قدم صدق) ، قال: خير.
17534- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قدم صدق) ، مثله.
17535- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج،
__________
(1) الأثر: 17532 - " زيد بن حباب التميمي "، مضى مرارًا، آخرها رقم: 11490. وكان في المطبوعة: " يزيد بن حبان "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فتصرف أسوأ التصرف.
و" إبراهيم بن يزيد الخوزي "، ضعيف، مضى مرارًا، آخرها رقم: 17313.
و" الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث "، ثقة، مضى برقم: 16259، 17313.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " الوليد بن عبد الله، عن أبي مغيث "، وهو خطأ محض.(15/14)
عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17536-. . . . قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: (قدم صدق) ، ثواب صدق = (عند ربهم) .
17537- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
17538- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق) ، قال: "القدم الصدق"، ثواب الصّدق بما قدّموا من الأعمال.
* * *
وقال آخرون: معناه: أن لهم سابق صدق في اللوح المحفوظ من السعادة.
* ذكر من قال ذلك:
17539- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح عن علي، عن ابن عباس قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، يقول: سبقت لهم السعادة في الذِّكر الأَوّل.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنّ محمدًا صلى الله عليه وآله وسلم شفيع لهم، قَدَمَ صدق.
* ذكر من قال ذلك:
17540- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل بن عمرو بن الجون، عن قتادة = أو الحسن =: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، قال: محمدٌ شفيعٌ لهم. (1)
17541- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
__________
(1) الأثر: 17540 - " فضيل بن عمرو بن الجون "، لم أجد له ترجمة. ولا أدري أهو " فضيل بن عمرو الفقيمي "، أو غيره! .(15/15)
قوله: (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) : أي سلَفَ صدقٍ عند ربهم.
17542- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن زيد بن أسلم، في قوله: (أن لهم قدم صدق عند ربهم) ، قال: محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: معناه: أن لهم أعمالا صالحة عند الله يستوجبون بها منه الثوابَ.
* * *
وذلك أنه محكيٌّ عن العرب: "هؤلاء أهْلُ القَدَم في الإسلام" أي هؤلاء الذين قدَّموا فيه خيرًا، فكان لهم فيه تقديم. ويقال: "له عندي قدم صِدْق، وقدم سوء"، وذلك ما قدَّم إليه من خير أو شر، ومنه قول حسان بن ثابت:
لَنَا القَدَمُ العُلْيَا إِلَيْكَ وَحَلْفُنَا ... لأَوّلِنَا فِي طَاعَةِ اللهِ تَابِعُ (1)
وقول ذي الرمة:
لَكُمْ قَدَمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أَنَّهَا ... مَعَ الحَسَبِ العَادِيِّ طَمَّتْ عَلَى البَحْرِ (2)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: وبشر الذين آمنوا أنّ لهم تقدِمة خير من الأعمال الصالحة عند ربِّهم.
* * *
__________
(1) مضى البيت وتخريجه فيما سلف 13: 209، وروايته هناك: " لنا القدم الأولى ".
(2) ديوانه 272، من قصيدته في مدح بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري، يقول بعده: خِلاَلَ النَّبِيِّ المُصْطَفَى عِنْدَ رَبِّهِ ... وَعُثْمَانَ وَالفَارُوقِ بَعْدَ أَبِي بَكْرِ
ورواية ديوانه: " طمت على الفخر ".(15/16)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2) }
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة: (إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ) ، بمعنى: إن هذا الذي جئتنا به= يعنون القرآن= لسحر مبين.
* * *
وقرأ ذلك مسروق، وسعيد بن جبير، وجماعة من قراء الكوفيين: (إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ) .
* * *
وقد بينت فيما مضى من نظائر ذلك: أن كل موصوف بصفةٍ، يدل الموصوف على صفته، وصفته عليه. (1)
والقارئ مخيَّرٌ في القراءة في ذلك، وذلك نظير هذا الحرف: (قال الكافرون إن هذا لسحر مبين) ، و "لساحر مبين". (2)
وذلك أنهم إنما وصفوه بأنه "ساحر"، ووصفهم ما جاءهم به أنه "سحر" يدل على أنهم قد وصفوه بالسحر. وإذْ كان ذلك كذلك، فسواءٌ بأيِّ ذلك قرأ القارئ، لاتفاق معنى القراءتين.
* * *
وفي الكلام محذوف، استغني بدلالة ما ذكر عما ترك ذكره، وهو: "فلما بشرهم وأنذرهم وتلا عليهم الوحي"= قال الكافرون: إن هذا الذي جاءنا به لسحرٌ مبين.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: أكان للناس عجبًا أن أوحينا إلى
__________
(1) في المطبوعة: " نزل الموصوف "، وفي المخطوطة: " ترك "، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 11: 216، 217.(15/17)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
رجل منهم: أن أنذر الناس، وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم؟ فلما أتاهم بوحي الله وتلاه عليهم، قال المنكرون توحيد الله ورسالة رسوله: إن هذا الذي جاءنا به محمدٌ لسحر مبين أي: يبين لكم عنه أنه مبطِلٌ فيما يدعيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الذي له عبادة كل شيء، ولا تنبغي العبادة إلا له، هو الذي خلق السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام، وانفرد بخلقها بغير شريك ولا ظهيرٍ، ثم استوى على عرشه مدبرًا للأمور، وقاضيًا في خلقه ما أحبّ، لا يضادُّه في قضائه أحدٌ، ولا يتعقب تدبيره مُتَعَقِّبٌ، ولا يدخل أموره خلل. (2) = (ما من شفيع إلا من بعد إذنه) ، يقول: لا يشفع عنده شافع يوم القيامة في أحد، إلا من بعد أن يأذن في الشفاعة (3) " = (ذلكم الله ربكم) ، يقول جل جلاله: هذا الذي هذه صفته، سيِّدكم ومولاكم، لا من لا يسمع ولا يبصر ولا يدبِّر ولا يقضي من الآلهة والأوثان = (فاعبدوه) ،
__________
(1) انظر تفسير " السحر " و " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (سحر) ، (بين) .
(2) انظر تفسير " الاستواء " فيما سلف 1: 428 - 431 / 12: 483 = وتفسير " العرش " فيما سلف 12: 482 / 14: 587.
(3) انظر تفسير " الشفاعة " فيما سلف 12: 481، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " الإذن " فيما سلف 14: 112، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/18)
يقول: فاعبدوا ربكم الذي هذه صفته، وأخلصوا له العبادة، وأفردوا له الألوهية والربوبية، بالذلة منكم له، دون أوثانكم وسائر ما تشركون معه في العبادة = (أفلا تذكرون) ، يقول: أفلا تتعظون وتعتبرون بهذه الآيات والحجج، (1) فتنيبون إلى الإذعان بتوحيدِ ربكم وإفراده بالعبادة، وتخلعون الأنداد وتبرؤون منها؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17543- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يدبر الأمر) ، قال: يقضيه وحدَه.
17544- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (يدبر الأمر ما من شفيع إلا من بعد إذنه) ، قال: يقضيه وحده.
17545- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يدبر الأمر) قال: يقضيه وحده.
17546-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17547- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف 12: 493، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/19)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إلى ربكم الذي صفته ما وصَفَ جل ثناؤه في الآية قبل هذه، معادُكم، أيها الناس، يوم القيامة جميعًا. (1) (وعد الله حقا) = فأخرج (وعد الله) مصدَّرًا من قوله: (إليه مرجعكم) ، لأنه فيه معنى "الوعد"، ومعناه: يعدكم الله أن يحييكم بعد مماتكم وعدًا حقًّا، فلذلك نصب (وعد الله حقا) = (إنه يبدأ لخلق ثم يعيده) يقول تعالى ذكره: إن ربكم يبدأ إنشاء الخلق وإحداثه وإيجاده = (ثم يعيده) ، يقول: ثم يعيده فيوجده حيًّا كهيئته يوم ابتدأه، بعد فنائه وبَلائِه. (2) كما:-
17548- حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يبدأ الخلق ثم يعيده) ، قال: يحييه ثم يميته= قال أبو جعفر: وأحسبه أنا قال: "ثم يحييه".
17549- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: (يبدأ الخلق ثم يعيده) ، قال: يحييه ثم يميته، ثم يحييه.
17550- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
__________
(1) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف 12: 287، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " البدء " و " العود " فيما سلف 12: 382 - 388.(15/20)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إنه يبدأ الخلق ثم يعيده) ،: يحييه، ثم يميته، ثم يبدؤه، ثم يحييه.
17551-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
* * *
وقرأت قراء الأمصار ذلك: (إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ) ، بكسر الألف من (إنه) ، على الاستئناف.
* * *
وذكر عن أبي جعفر الرازي أنه قرأه (أَنَّهُ) بفتح الألف من (أنه) .
* * *
= كأنه أراد: حقًّا أنه يبدأ الخلق ثم يعيده، ف "أنّ" حينئذ تكون رفعًا، كما قال الشاعر: (1)
أحَقًّا عِبَادَ اللهِ أَنْ لَسْتُ زَائِرًا ... رُبَى جَنَّة إِلا عَلَيَّ رَقِيبُ (2)
* * *
وقوله: (ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالقسط) ، يقول: ثم يعيده من بعد مماته كهيئته قبل مماته عند بعثه من قبره= (ليجزي الذين آمنوا) ليثيب من صدّق الله ورسوله وعملوا ما أمرهم الله به من الأعمال، واجتنبوا ما نهاهم عنه، على أعمالهم الحسنة (3) = (بالقسط) يقول: ليجزيهم على الحسن من أعمالهم التي عملوها في الدنيا الحسنَ من الثواب، والصالحَ من الجزاء في الآخرة= وذلك هو "القسط"، و"القسط" العدلُ والإنصاف، (4) كما:-
17552- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) في المطبوعة: " أبا حبة إلا على رقيب "، وهو تحريف لما في المخطوطة، وهو فيها هكذا، غير منقوط: " رباحه "، وصواب قراءته ما أثبت.
(3) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) .
(4) انظر تفسير " القسط " فيما سلف 12: 379، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/21)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بالقسط) ، بالعدل.
* * *
وقوله: (والذين كفروا لهم شَرَاب من حميم) ، فإنه جل ثناؤه ابتدأ الخبر عما أعدَّ الله للذين كفروا من العذاب، وفيه معنى العطف على الأول. لأنه تعالى ذكره عمَّ بالخبر عن معادِ جميعهم، كفارهم ومؤمنيهم، إليه. ثم أخبر أن إعادتهم ليجزي كلَّ فريق بما عمل المحسنَ منهم بالإحسان، والمسيءَ بالإساءة. ولكن لما كان قد تقدم الخبر المستأنفُ عما أعدّ للذين كفروا من العذاب، ما يدلُّ سامعَ ذلك على المرادِ، ابتدأ الخبر، والمعنيُّ العطف فقال: والذين جحدوا الله ورسولَه وكذبوا بآيات الله= (لهم شراب) في جهنم (من حميم) وذلك شراب قد أُغلي واشتدّ حره، حتى إنه فيما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم ليتساقطُ من أحدهم حين يدنيه منه فروةُ رأسه، وكما وصفه جل ثناؤه: (كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ) ، [سورة الكهف: 29] .
* * *
وأصله: "مفعول" صرف إلى "فعيل"، وإنما هو "محموم": أي مسخّن، وكل مسخَّن عند العرب فهو حميم، (1)
ومنه قول المرقش:
وَكُلُّ يَوْمٍ لَهَا مِقْطَرَةٌ ... فِيهَا كِبَاءٌ مُعَدٌّ وَحَمِيمْ (2)
يعني ب "الحميم"، الماء المسخَّن.
* * *
وقوله: (عذاب أليم) ، يقول: ولهم مع ذلك عذاب موجع، (3) سوى الشراب من الحميم، بما كانوا يكفرون بالله ورسوله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حميم " فيما سلف 11: 448، 449.
(2) سلف البيت وتخريجه وشرحه 11: 448، وروايته هناك: " في كل ممسي ".
(3) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .(15/22)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض= (هو الذي جعل الشمس ضياء) ، بالنهار= (والقمر نورًا) بالليل. ومعنى ذلك: هو الذي أضاء الشمسَ وأنار القمر= (وقدّره منازل) ، يقول: قضاه فسوّاه منازلَ، لا يجاوزها ولا يقصر دُونها، على حالٍ واحدةٍ أبدًا. (1)
* * *
وقال: (وقدّره منازل) ، فوحّده، وقد ذكر "الشمس" و"القمر"، فإن في ذلك وجهين:
أحدهما: أن تكون "الهاء" في قوله: (وقدره) للقمر خاصة، لأن بالأهلة يُعرف انقضاءُ الشهور والسنين، لا بالشمس.
والآخر: أن يكون اكتفي بذكر أحدهما عن الآخر، كما قال في موضع آخر: (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ) ، [سورة التوبة: 62] ، وكما قال الشاعر: (2)
رَمَانِي بِأَمْرٍ كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي ... بَرِيًّا، وَمِنْ جُولِ الطَّوِيِّ رَمَانِي (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التقدير " فيما سلف 11: 560.
(2) هو ابن أحمر، أو: الأزرق بن طرفة بن العمرد الفراصي.
(3) معاني القرآن للفراء 1: 458، اللسان (جول) ، وغيرهما. وكانت بينه وبين رجل حكومة في بئر، فقال خصمه: " إنه لص ابن لص "، فقال هذا الشعر، وبعده: دَعَانِي لِصًّا فِي لُصُوصٍ، ومَا دَعَا ... بِهَا وَالِدِي فِيمَا مَضَى رَجُلاَن
ورواية البيت على الصواب: " ومن أجل الطوى "، و " الطوى ": البئر. و " الجول " و " الجال " ناحية من نواحي البئر إلى أعلاها من أسفلها.(15/23)
إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
وقوله: (لتعلموا عدد السنين والحساب) ، يقول: وقدّر ذلك منازل = (لتعلموا) ، أنتم أيها الناس = (عدد السنين) ، دخول ما يدخل منها، أو انقضاءَ ما يستقبل منها، وحسابها= يقول: وحساب أوقات السنين، وعدد أيامها، وحساب ساعات أيامها= (ما خلق الله ذلك إلا بالحق) ، يقول جل ثناؤه: لم يخلق الله الشمس والقمر ومنازلهما إلا بالحق. يقول الحق تعالى ذكره: خلقت ذلك كله بحقٍّ وحدي، بغير عون ولا شريك= (يفصل الآيات) يقول: يبين الحجج والأدلة (1) = (لقوم يعلمون) ، إذا تدبروها، حقيقةَ وحدانية الله وصحةَ ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم، من خلع الأنداد، والبراءة من الأوثان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، منبِّهًا عبادَه على موضع الدّلالة على ربوبيته، وأنه خالق كلِّ ما دونه: إن في اعتقاب الليل النهارَ، واعتقاب النهار الليلَ،. إذا ذهب هذا جاء هذا، وإذا جاء هذا ذهب هذا، (2) وفيما خلق الله في السموات من الشمس والقمر والنجوم، وفي الأرض من عجائب الخلق الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شيء= (لآيات) ، يقول: لأدلة وحججًا وأعلامًا واضحةً= (لقوم يتقون) الله، فيخافون وعيده ويخشون عقابه على إخلاص العبادة لربهم.
__________
(1) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف: 14: 152، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير "الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي)
(2) وتفسير " اختلاف الليل والنهار " فيما سلف 3: 272، 273.(15/24)
فإن قال قائل: أوَ لا دلالة فيما خلق الله في السموات والأرض على صانعه، إلا لمن اتقى الله؟
قيل: في ذلك الدلالة الواضحةُ على صانعه لكل من صحَّت فطرته، وبرئ من العاهات قلبه. ولم يقصد بذلك الخبرَ عن أن فيه الدلالة لمن كان قد أشعرَ نفسه تقوى الله وإنما معناه: إن في ذلك لآيات لمن اتَّقى عقاب الله، فلم يحمله هواه على خلاف ما وضحَ له من الحق، لأن ذلك يدلُّ كل ذي فطرة صحيحة على أن له مدبِّرًا يستحقّ عليه الإذعان له بالعبودة، دون ما سواه من الآلهة والأنداد.
* * *(15/25)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين لا يخافون لقاءَنا يوم القيامة، فهم لذلك مكذِّبون بالثواب والعقاب، متنافسون في زين الدنيا وزخارفها، راضُون بها عوضًا من الآخرة، مطمئنين إليها ساكنين (1) = والذين هم عن آيات الله = وهي أدلته على وحدانيته، وحججه على عباده، في إخلاص العبادة له = (غافلون) ، معرضون عنها لاهون، (2) لا يتأملونها تأمُّل ناصح لنفسه، فيعلموا بها حقيقة ما دلَّتهم عليه، ويعرفوا بها بُطُول ما هم عليه مقيمون= (أولئك مأواهم النار) ، يقول جل ثناؤه: هؤلاء الذين هذه صفتهم = (مأواهم) ، مصيرها إلى النار نار
__________
(1) انظر تفسير " الاطمئنان " فيما سلف 13: 418، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف 13: 281، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/25)
جهنم في الآخرة (1) = (بما كانوا يكسبون) ، في الدنيا من الآثام والأجْرام، ويجْترحون من السيئات. (2)
* * *
والعرب تقول: "فلان لا يرجو فلانًا": إذا كان لا يخافه.
ومنه قول الله جل ثناؤه: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) . [سورة نوح: 13] ، (3) ومنه قول أبي ذؤيب:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يُرْج لَسْعَهَا ... وَخَالَفهَا فِي بَيْتِ نُوب عَوَاسِلِ (4)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17553- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واطمأنوا بها) ، قال: هو مثل قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) .
17554- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) ، قال: هو مثل قوله: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا) [سورة هود: 15] .
17555- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17556- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن
__________
(1) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف 14: 425، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الكسب " فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) .
(3) انظر تفسير "الرجاء" فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) .
(4) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 9: 174.(15/26)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
آياتنا غافلون) ، قال: إذا شئتَ رأيتَ صاحب دُنْيا، لها يفرح، ولها يحزن، ولها يسخط، ولها يرضى.
17557- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها) ، الآية كلها، قال: هؤلاء أهل الكفر. ثم قال: (أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات) ، إن الذين صدَّقوا الله ورسوله= (وعملوا الصالحات) ، وذلك العمل بطاعة الله والانتهاء إلى أمره (1) = (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، يقول: يرشدهم ربهم بإيمانهم به إلى الجنة، كما:-
17558- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم تجري من تحتهم الأنهار في جنات النعيم) بلغنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: إن المؤمن إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة حَسَنة فيقول له: ما أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ صِدْقٍ! فيقول: أنا عملك! فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة. وأما الكافر إذا خرج من قبره صُوِّر له عمله في صورة سيئة وشارة سيئة (2)
__________
(1) انظر تفسير " الصالحات " فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) .
(2) في المطبوعة: " وبشارة "، والصواب ما أثبته من المخطوطة.(15/27)
فيقول: ما أنت؟ فوالله إني لأراك امرأ سَوْء! فيقول: أنا عملك! فينطلق به حتى يدخله النار.
17559- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، قال: يكون لهم نورًا يمشون به.
17560- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح. عن مجاهد، مثله.
17561-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17562- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله= وقال ابن جريج: (يهديهم ربهم بإيمانهم) ، قال: يَمْثُل له عمله في صورة حسنة وريحٍ طيبة، يعارِض صاحبه ويبشره بكل خير، فيقول له: من أنت؟ فيقول: أنا عملك! فيجعل له نورًا من بين يديه حتى يدخله الجنة، فذلك قوله: (يهديهم ربهم بإيمانهم) . والكافر يَمْثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة، فيلازم صاحبه ويُلازُّهُ حتى يقذفه في النار. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: بإيمانهم، يهديهم ربهم لدينه. يقول: بتصديقهم هَدَاهم.
* ذكر من قال ذلك:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
(1) في المطبوعة: " ويلاده"؛ بالدال، وأثبت في المخطوطة. " لازه يلازه ملازاة ولزازًا" قارنه ولزمه ولصق به(15/28)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . (1)
* * *
وقوله: (تجري من تحتهم الأنهار) ، يقول: تجري من تحت هؤلاء المؤمنين الذين وصف جل ثناؤه صفتهم، أنهار الجنة= (في جنات النعيم) ، يقول في بساتين النعيم، الذي نعَّم الله به أهل طاعته والإيمان به. (2)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (تجري من تحتهم الأنهار) ، وإنما وصف جل ثناؤه أنهار الجنة في سائر القرآن أنها تجري تحت الجنات؟ وكيف يمكن الأنهار أن تجري من تحتهم، إلا أن يكونوا فوق أرضها والأنهار تجري من تحت أرضها؟ وليس ذلك من صفة أنهار الجنة، لأن صفتها أنها تجري على وجه الأرض في غير أخاديد؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ، وإنما معنى ذلك: تجري من دونهم الأنهار إلى ما بين أيديهم في بساتين النعيم، وذلك نظير قول الله: (قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) [سورة مريم: 24] . ومعلوم أنه لم يجعل "السري" تحتها وهي عليه قاعدة= إذ كان "السري" هو الجدول= وإنما عني به: جعل دونها: بين يديها، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن قيل فرعون، (أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي) ، [سورة الزخرف: 51] ، بمعنى: من دوني، بين يديّ.
* * *
__________
(1) لم يذكر شيئًا بعد قوله: " ذكر من قال ذلك "، وفي هامش المخطوطة " كذا "، وهو دليل على أنه سقط قديم.
(2) انظر تفسير " جنات النعيم " فيما سلف 10: 461، 462.(15/29)
وأما قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، فإن معناه: دعاؤهم فيها: سبحانك اللهم، (1) كما:-
17563- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرت أن قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، قال: إذا مرّ بهم الطيرُ يشتهونه (2)
قالوا: سبحانك اللهم! وذلك دعواهم، فيأتيهم الملك بما اشتهوا، فيسلم عليهم فيردّون عليه، فذلك قوله: (وتحيتهم فيها سلام) . قال: فإذا أكلوا حمدوا الله ربّهم، فذلك قوله: (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين) .
17564- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (دعواهم فيها سبحانك اللهم) ، يقول: ذلك قولهم فيها= (وتحيتهم فيها سلام) .
17565- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله الأشجعي قال: سمعت سفيانا يقول: (دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام) ، قال: إذا أرادوا الشيء قالوا: "اللهم"، فيأتيهم ما دَعَوا به.
* * *
وأما قوله: (سبحانك اللهم) ، فإن معناه: تنزيها لك، يا رب، مما أضاف إليك أهل الشرك بك، من الكذب عليك والفِرْية. (3)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17566- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي.
__________
(1) انظر تفسير " الدعوى " فيما سلف 12: 303، 304.
(2) في المطبوعة: " فيشتهونه " بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف 14، 213، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/30)
عن غير واحدٍ عطيةُ فيهم: "سبحان الله" تنزيهٌ لله.
17567- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت موسى بن طلحة قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "سبحان الله"، قال: إبراء الله عن السوء.
17568- حدثنا أبو كريب، وأبو السائب، وخلاد بن أسلم قالوا، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا قابوس، عن أبيه: أن ابن الكوّاء سأل عليًّا رضي الله عنه عن "سبحان الله"، قال: كلمة رضيها الله لنفسه.
17569- حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان بن سعيد الثوري، عن عثمان بن عبد الله بن موهب الطلحي، عن موسى بن طلحة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "سبحان الله"، فقال: تنزيهًا لله عن السوء. (1)
17570- حدثني علي بن عيسى البزار قال، حدثنا عبيد الله بن محمد قال، حدثنا عبد الرحمن بن حماد قال، حدثني حفص بن سليمان قال، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة عن أبيه، عن طلحة بن عبيد الله قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير "سبحان الله"، فقال: هو تنزيه الله من كل سوء. (2)
__________
(1) الأثر: 17567، 17569 - " سفيان " بن سعيد، هو الثوري الإمام المشهور.
و" عثمان بن عبد الله بن وهب التيمي "، مولى آل طلحة ينسب إلى جده يقال: " عثمان بن وهب " تابعي ثقة، روى عن ابن عمر، وأبي هريرة، وأم سلمة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 155.
و" موسى بن طلحة بن عبيد الله التيمي "، تابعي ثقة، روى عن أبيه وغيره من الصحابة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 286، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 147.
وهو خبر مرسل، وسيأتي موصولا في الذي يليه، ولكنها أخبار لا يقوم إسنادها.
(2) الأثر: 17570 - " علي بن عيسى البزار "، شيخ الطبري، هو " علي بن عيسى بن يزيد البغدادي الكراجكي، ثقة، مضى برقم: 2168.
و" عبيد الله بن محمد بن حفص التميمي، العيشي "، من ولد عائشة بنت طلحة، ثقة، مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 335.
و" عبد الرحمن بن حماد بن عمران بن موسى بن طلحة بن عبيد الله "، منكر الحديث، لا يحتج به.
مترجم في لسان الميزان 3: 412، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 226، ومي زان الاعتدال 2: 102.
و" حفص بن سليمان الأسدي البزار "، ضعيف الحديث، مضى برقم: 5753، 11458.
و" طلحة بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي "، وثقه ابن معين وغيره، وقال البخاري: " منكر الحديث "، وقال في كتاب الضعفاء الصغير ص: 46: " وليس بالقوي "، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 477.
وأبوه: " يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي "، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 283، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 160.
وهذا خبر هالك الإسناد، كما رأيت.(15/31)
17571- حدثني محمد بن عمرو بن تمام الكلبي قال، حدثنا سليمان بن أيوب قال: حدثني أبي، عن جدي، عن موسى بن طلحة، عن أبيه قال: قلت: يا رسول الله، قول "سبحان الله"؟ قال: تنزيه الله عن السوء. (1)
* * *
= (وتحيتهم) ، يقول: وتحية بعضهم بعضًا= (فيها سلام) ، أي: سَلِمْتَ وأمِنْتَ مما ابتُلي به أهل النار. (2)
* * *
والعرب تسمي الملك "التحية"، ومنه قول عمرو بن معد يكرب:
أَزُورُ بِهَا أَبَا قَابُوسَ حَتَّى ... أُنِيخَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بِجُنْدِي (3)
__________
(1) الأثر: 17571 - " محمد بن عمرو بن تمام الكلبي، المصري "، أبو الكروس، شيخ الطبري، مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 1 / 34.
و" سليمان بن أيوب بن سليمان بن عيسى بن موسى بن طلحة " روى نسخة عن أبيه عن آبائه عامة، أحاديثه لا يتابع عليها، وروى أحاديث مناكير. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم من التهذيب وابن أبي حاتم 2 / 1 / 101.
وهذا خبر ضعيف الإسناد أيضًا.
(2) انظر تفسير " التحية " فيما سلف 8: 586 - 590.
(3) من قصيدة طويلة له، رواها أبو علي القالي في أماليه 3: 147 - 150، واللسان (حيا) ، مع اختلاف في الرواية.(15/32)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
ومنه قول زهير بن جناب الكلبي:
مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الفَتَى ... قَدْ نِلْتُهُ إلا التَّحِيَّهْ
* * *
وقوله: (وآخر دعواهم) ، يقول: وآخر دعائهم (1) = (أن الحمد لله رب العالمين) ، يقول: وآخر دعائهم أن يقولوا: الحمد لله رب العالمين"، ولذلك خففت "أن" ولم تشدّد لأنه أريد بها الحكاية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو يعجل الله للناس إجابةَ دعائهم في الشرّ، وذلك فيما عليهم مضرّة في نفس أو مال= (استعجالهم بالخير) ، يقول: كاستعجاله لهم في الخير بالإجابة إذا دعوه به= (لقضي إليهم أجلهم) ، يقول: لهلكوا، وعُجِّل لهم الموت، وهو الأجل. (2)
* * *
وعني بقوله: (لقضي) ، لفرغ إليهم من أجلهم، (3) ونُبذ إليهم، (4) كما قال أبو ذؤيب:
__________
(1) انظر تفسير " الدعوى " فيما سلف ص: 30، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الأجل " فيما سلف 13: 290، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " قضى " فيما سلف 13: 290، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: " وتبدى لهم "، غير ما في المخطوطة إذ لم يحسن قراءته.(15/33)
وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ، أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ (1)
* * *
= (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) ، يقول:
فندع الذين لا يخافون عقابنا، ولا يوقنون بالبعث ولا بالنشور، (2) = (في طغيانهم) ، يقول: في تمرّدهم وعتوّهم، (3) (يعمهون) يعني: يترددون. (4)
وإنما أخبر جل ثناؤه عن هؤلاء الكفرة بالبعث بما أخبر به عنهم، من طغيانهم وترددهم فيه عند تعجيله إجابة دعائهم في الشرّ لو استجاب لهم، أن ذلك كان يدعوهم إلى التقرُّب إلى الوثن الذي يشرك به أحدهم، أو يضيف ذلك إلى أنه من فعله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17572- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قولُ الإنسان إذا غضب لولده وماله: "لا باركَ الله فيه ولعنه"!
17573- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قولُ الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: "اللهم لا تبارك فيه والعنه"!
__________
(1) سلف البيت وتخريجه وشرحه 2: 542.
(2) انظر تفسير " يذر " فيما سلف من فهارس اللغة (وذر) .
= وتفسير " الرجاء " فيما سلف ص: 26، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الطغيان " فيما سلف 13: 291، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " العمه " فيما سلف 13: 291، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/34)
فلو يعجّل الله الاستجابة لهم في ذلك، كما يستجاب في الخير لأهلكهم.
17574- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قول الإنسان لولده وماله إذا غضب عليه: "اللهم لا تبارك فيه والعنه" = (لقضي إليهم أجلهم) قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته.
17575- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: قول الرجل لولده إذا غضب عليه أو ماله: "اللهم لا تبارك فيه والعنه"! قال الله: (لقضي إليهم أجلهم) ، قال: لأهلك من دعا عليه ولأماته. قال: (فنذر الذين لا يرجون لقاءنا) ، قال يقول: لا نهلك أهل الشرك، ولكن نذرهم في طغيانهم يعمهون.
17576- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قوله: (ولو يعجل الله للناس الشر استعجالهم بالخير) ، قال: هو دعاء الرجل على نفسه وماله بما يكره أن يستجاب له.
17577- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لقضي إليهم أجلهم) ، قال: لأهلكناهم. وقرأ: (مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ) ، [سورة فاطر: 45] . قال: يهلكهم كلهم.
* * *
ونصب قوله: (استعجالهم) ، بوقوع (يعجل) عليه، كقول القائل: "قمت اليوم قيامَك" بمعنى: قمت كقيامك، وليس بمصدّرٍ من (يعجل) ، لأنه لو كان مصدّرًا لم يحسن دخول "الكاف" = أعني كاف التشبيه = فيه. (1)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 458.(15/35)
وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)
واختلفت القراء في قراءة قوله: (لقضي إليهم أجلهم) .
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: (لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ) ، على وجه ما لم يسمَّ فاعله، بضم القاف من "قضي"، ورفع "الأجل".
* * *
وقرأ عامة أهل الشأم: (لَقَضَى إِلَيْهِمْ أَجَلَهُمْ) ، بمعنى: لقضى الله إليهم أجلهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهما قراءتان متفقتا المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، غير أني أقرؤه على وجه ما لم يسمَّ فاعله، لأن عليه أكثر القراء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أصاب الإنسان الشدة والجهد (1) = (دعانا لجنبه) ، يقول: استغاث بنا في كشف ذلك عنه = (لجنبه) ، يعني مضطجعًا لجنبه. = (أو قاعدًا أو قائمًا) بالحال التي يكون بها عند نزول ذلك الضرّ به = (فلما كشفنا عنه ضره) ، يقول: فلما فرّجنا عنه الجهد الذي أصابه (2) = (مرّ كأن لم يدعنا إلى ضر مسه) ، يقول: استمرَّ على طريقته الأولى قبل أن يصيبه الضر، (3) ونسي ما كان فيه من الجهد والبلاء أو تناساه، وترك الشكر لربه الذي
__________
(1) انظر تفسير " المس " فيما سلف 14: 64، تعليق: 2، والمراجع هناك. = وتفسير " الضر " فيما سلف من فهارس اللغة (ضرر) .
(2) انظر تفسير " الكشف " فيما سلف 11: 354 / 13: 73.
(3) انظر تفسير " مر " فيما سلف 13: 304، 305.(15/36)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13)
فرّج عنه ما كان قد نزل به من البلاء حين استعاذ به، وعاد للشرك ودَعوى الآلهةِ والأوثانِ أربابًا معه. يقول تعالى ذكره: (كذلك زيّن للمسرفين ما كانوا يعملون) ، يقول: كما زُيِّن لهذا الإنسان الذي وصفنا صفتَه، (1) استمرارُه على كفره بعد كشف الله عنه ما كان فيه من الضر، كذلك زُيّن للذين أسرفوا في الكذِب على الله وعلى أنبيائه، فتجاوزوا في القول فيهم إلى غير ما أذن الله لهم به، (2) ما كانوا يعملون من معاصي الله والشرك وبه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17578- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (دعانا لجنبه) ، قال: مضطجعًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أهلكنا الأمم التي كذبت رسل الله من قبلكم أيها المشركون بربهم (3) = (لما ظلموا) ، يقول: لما أشركوا وخالفوا أمر الله ونهيه (4) = (وجاءتهم رسلهم) من عند الله، (بالبينات) ، وهي الآيات والحجج
__________
(1) انظر تفسير " التزيين " فيما سلف 14: 245، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الإسراف " فيما سلف 12: 458، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " القرون " فيما سلف 11: 263.
(4) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) .(15/37)
ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
التي تُبين عن صِدْق من جاء بها. (1)
ومعنى الكلام: وجاءتهم رسلهم بالآيات البينات أنها حق = (وما كانوا ليؤمنوا) يقول: فلم تكن هذه الأمم التي أهلكناها ليؤمنوا برسلهم ويصدِّقوهم إلى ما دعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبادة له = (وكذلك نجزي المجرمين) ، يقول تعالى ذكره: كما أهلكنا هذه القرون من قبلكم، أيها المشركون، بظلمهم أنفسَهم، وتكذيبهم رسلهم، وردِّهم نصيحتَهم، كذلك أفعل بكم فأهلككم كما أهلكتهم بتكذيبكم رسولكم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وظلمكم أنفسكم بشرككم بربكم، إن أنتم لم تُنيبوا وتتوبوا إلى الله من شرككم فإن من ثواب الكافر بي على كفره عندي، أن أهلكه بسَخَطي في الدنيا، وأوردُه النار في الآخرة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) }
قال أبو جعفر يقول تعالى ذكره: ثم جعلناكم، أيها الناس، خلائف من بعد هؤلاء القرون الذين أهلكناهم لما ظلموا، تخلفونهم في الأرض، وتكونون فيها بعدهم (2) (لننظر كيف تعملون) ، يقول: لينظر ربكم أين عملكم من عمل من هلك من قبلكم من الأمم بذنوبهم وكفرهم بربهم، تحتذون مثالهم فيه، فتستحقون من العقاب ما استحقوا، أم تخالفون سبيلَهم فتؤمنون بالله ورسوله وتقرّون بالبعث بعد الممات، فتستحقون من ربكم الثواب الجزيل، كما:-
17579- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
__________
(1) انظر تفسير " البينات " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(2) انظر تفسير " الخلائف " فيما سلف 13: 122، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/38)
عن قتادة قوله: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) ، ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: صدق ربُّنا، ما جعلنا خُلفاء إلا لينظر كيف أعمالُنا، فأرُوا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار، والسر والعلانية.
17580- حدثني المثنى قال، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة فهد قال، حدثنا حماد عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن عوف بن مالك رضي الله عنه قال لأبي بكر رضي الله عنه: رأيتُ فيما يرى النائم كأن سببًا دُلِّي من السماء، فانتُشِط رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1)
ثم دُلِّي فانتُشِط أبو بكر، ثم ذُرِع الناس حول المنبر، (2)
ففضَل عمر رضي الله عنه بثلاث أذرع إلى المنبر. فقال عمر: دعنا من رؤياك، لا أرَبَ لنا فيها! فلما استخلف عمر قال: يا عوف، رؤياك! قال: وهل لك في رؤياي من حاجة؟ أو لم تنتهرني! قال: ويحك! إني كرهت أن تنعَى لخليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه! فقصّ عليه الرؤيا، حتى إذا بلغ: " ذُرِع الناس إلى المنبر بهذه الثلاث الأذرع"، قال: أمّا إحداهن، فإنه كائن خليفةً. وأما الثانية، فإنه لا يخاف في الله لومة لائم. وأما الثالثة، فإنه شهيد. قال: فقال يقول الله: (ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون) ، فقد استخلفت يا ابن أم عمر، فانظر كيف تعمل.
وأما قوله: "فإني لا أخاف في الله لومة لائم" فما شاء الله.
وأما قوله: "فإني شهيد" فأنَّى لعمر الشهادة، والمسلمون مُطِيفون به! ثم قال: إن الله على ما يشاء قدير. (3)
* * *
__________
(1) " انتشط " (بالبناء للمجهول) ، أي: انتزع، جذب إلى السماء ورفع إليها، من قولهم: " نشط الدلو من البئر "، إذا نزعها وجذبها من البئر صعدا بغير بكرة.
(2) "ذرع الناس"، أي: قدر ما بينهم وبين المنبر بالذراع. يقال: "ذرع الثوب "، إذا قدره بالذراع.
(3) الأثر: 17580 - " زيد بن عوف القطعي "، " أبو ربيعة "، " فهد "، متروك، وقد مضى برقم: 5623، 14215، 14218، 14221. وكان في المطبوعة هنا: " يزيد بن عوف، أبو ربيعة، بهذا "، ومثله في تفسير ابن كثير 4: 287، وهو اتفاق غريب على الخطأ! .
وهذا الخبر، رواه ابن سعد بغير هذا اللفظ، بإسناد حسن في كتاب الطبقات الكبير 3 / 1 / 239.(15/39)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا قرئ على هؤلاء المشركين آيات كتاب الله الذي أنزلنَاه إليك، يا محمد (1) = (بينات) ، واضحات، على الحق دالاتٍ (2) = (قال الذين لا يرجون لقاءنا) ، يقول: قال الذين لا يخافون عقابنا، ولا يوقنون بالمعاد إلينا، ولا يصدّقون بالبعث، (3) لك = (ائت بقرآن غير هذا أو بدّله) ، يقول: أو غيِّره (4) = (قل) لهم، يا محمد = (ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي) ، أي: من عندي. (5)
* * *
والتبديل الذي سألوه، فيما ذكر، أن يحوّل آية الوعيد آية وعد، وآية الوعد وعيدًا والحرامَ حلالا والحلال حرامًا، فأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم أن ذلك ليس إليه، وأن ذلك إلى من لا يردّ حكمه، ولا يُتَعَقَّب قضاؤه، وإنما هو رسول مبلّغ ومأمور مُتّبع.
* * *
وقوله: (إن أتبع إلا ما يوحى إليّ) ، يقول: قل لهم: ما أتبع في كل ما آمركم
__________
(1) انظر تفسير " تلا " فيما سلف 13: 502، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " بينات " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(3) انظر تفسير " الرجاء " فيما سلف ص: 34، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " التبديل " فيما سلف 11: 335 / 12: 62، وفهارس اللغة (بدل) .
(5) انظر تفسير " تلقاء " فيما سلف 12: 466.(15/40)
قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
به أيها القوم، وأنهاكم عنه، إلا ما ينزله إليّ ربي، ويأمرني به (1) = (إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم) ، يقول: إني أخشى من الله إن خالفت أمره، وغيَّرت أحكام كتابه، وبدّلت وَحيه، فعصيته بذلك، عذابَ يوم عظيمٍ هَوْلُه، وذلك: يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتَضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه، معرِّفَه الحجةَ على هؤلاء المشركين الذين قالوا له: (ائت بقرآن غير هذا أو بدله) = (قل) لهم، يا محمد = (لو شاء الله ما تلوته عليكم) ، أي: ما تلوت هذا القرآن عليكم، أيها الناس، بأن كان لا ينزله عليَّ فيأمرني بتلاوته عليكم (3) = (ولا أدراكم به) ، يقول: ولا أعلمكم به= (فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله) يقول: فقد مكثت فيكم أربعين سنة من قبل أن أتلوَه عليكم، ومن قبل أن يوحيه إليّ ربي = (أفلا تعقلون) ، أني لو كنت منتحلا ما ليس لي من القول، كنت قد انتحلته في أيّام شبابي وحَداثتي، وقبل الوقت الذي تلوته عليكم؟ فقد كان لي اليوم، لو لم يوح إليّ وأومر بتلاوته عليكم، مندوحةٌ عن معاداتكم، ومتّسَعٌ، في الحال التي كنت بها
__________
(1) انظر تفسير " الوحي " فيما سلف من فهارس اللغة (وحي) .
(2) هذا تضمين لآية سورة الحج: 2.
(3) انظر تفسير " تلا " فيما سلف ص: 40، رقم: 1.(15/41)
منكم قبل أن يوحى إلي وأومر بتلاوته عليكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17581- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولا أدراكم به) ، ولا أعلمكم.
17582- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) ، يقول: لو شاء الله لم يعلمكموه.
17583- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) ، يقول: ما حذَّرتكم به.
17584- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله) ، وهو قول مشركي أهل مكة للنبي صلى الله عليه وسلم. ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به فقد لبثت فيكم عمرًا من قبله أفلا تعقلون) ، لبث أربعين سنة.
17585- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدراكم به) ، ولا أعلمكم به.
17586- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن، أنه كان يقرأ: (وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ) ، يقول: ما أعلمتكم به. (1)
17587- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول،
__________
(1) في المخطوطة: " ولا أدرأكم "، وفي المطبوعة: " ولا أدراتكم "، بغير همز، والصواب ما أثبت، كما نص عليه ابن خالويه في شواذ القراءات ص: 56: " بالهز والتاء "، ومعاني القرآن للفراء.(15/42)
أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ولا أدراكم به) ، يقول: ولا أشعركم الله به.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه القراءة التي حكيت عن الحسن، عند أهل العربية غلطٌ.
* * *
وكان الفرّاء يقول في ذلك: قد ذكر عن الحسن أنه قال: (وَلا أَدْرَأْتُكُمْ بِهِ) . قال: فإن يكن فيها لغة سوى "دريت" و "أدريت"، فلعل الحسن ذهب إليها. وأما أن تصلح من "دريت" أو "أدريت" فلا لأن الياء والواو إذا انفتح ما قبلهما وسكنتا صحتا ولم تنقلبا إلى ألف، مثل "قضيت" و"دعوت". ولعل الحسن ذهب إلى طبيعته وفصاحته فهمزها، لأنها تضارع "درأت الحد"، وشبهه. وربما غلطت العرب في الحرف إذا ضارعه آخر من الهمز فيهمزون غير المهموز. وسمعت امرأة من طيّ تقول: "رثَأْتُ زوجي بأبيات"، ويقولون: " لبّأتُ بالحجّ" و"حلأت السويق"، فيغلطون، لأن "حلأت"، قد يقال في دفع العطاش، من الإبل، و"لبأت": ذهبت به إلى "اللبأ" لِبَأ الشاء، و "رثأت زوجي"، ذهبت به إلى "رثأت اللبن "، إذا أنت حلبت الحليب على الرائب، فتلك "الرثيثة". (1)
* * *
وكان بعض البصريين يقول: لا وجه لقراءة الحسن هذه لأنها من "أدريت" مثل "أعطيت"، إلا أن لغةً لبني عقيل (2)
: "أعطَأتُ"، يريدون: "أعطيت"، تحوّل الياء ألفًا، قال الشاعر: (3)
__________
(1) هذا نص الفراء بتمامه في معاني القرآن 1: 459، مع خلاف يسير في حروف قليلة.
(2) في المطبوعة: " لغة بني عقيل "، والصواب ما في المخطوطة، باللام.
(3) هو حريث بن عناب (بالنون) الطائي.(15/43)
لَقَدْ آذَنَتْ أَهْلُ الْيَمَاَمَةِ طَيِّئٌ ... بِحَرْبٍ كَنَاصَاةِ الأَغَرِّ المُشَهَّرِ (1)
يريد: كناصية، حكي ذلك عن المفضّل، وقال زيد الخيل:
لَعَمْرُكَ مَا أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقَا ... عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا (2)
فقال "بقا"، وقال الشاعر: (3)
لَزَجَرْتُ قَلْبًا لا يَرِيعُ لِزَاجِرٍ ... إِنَّ الغَوِيَّ إِذَا نُهَا لَمْ يَعْتِبِ (4)
يريد "نُهِي". قال: وهذا كله على قراءة الحسن، وهي مرغوب عنها، قال: وطيئ تصيِّر كل ياء انكسر ما قبلها ألفًا، يقولون: "هذه جاراة"، (5)
وفي "الترقوة" "ترقاة" و"العَرْقوة" "عرقاة". قال: وقال بعض طيئ: "قد لَقَت فزارة"، حذف الياء من "لقيت" لما لم يمكنه أن يحوّلها ألفًا، لسكون التاء، فيلتقي ساكنان. وقال: زعم يونس أن "نَسَا" و"رضا" لغة معروفة، قال الشاعر:
__________
(1) نوادر أبي زيد: 124، والمعاني الكبير: 1048، واللسان (نصا) .
(2) نوادر أبي زيد: 68، وقبله أُنْبِئْتُ أَنَّ ابْنًا لِتَيْمَاءَ هَهَنَا ... تَغَنَّى بِنَا سَكْرَانَ أَوْ مُتَسَاكِرًا
يَحُضُّ عَلَيْنَا عَامِرًا، وِإَخالُنَا ... سَنُصْبِحُ أَلْفًا ذَا زَوَائِدَ، عامِرًا
قال أو زيد: " يقول: لا أخشى ما بقي قيس يسوق إبلا، لأني أغير عليهم ".
(3) هو لبيد.
(4) ديوانه قصيدة رقم: 61، والأغاني 15: 134 (ساسي) ، من مرثية أخيه أربد، وقبله: طَرِبَ الفُؤَادُ وَلَيْتَهُ لَمْ يُطْرَبِ ... وَعَنَاهُ ذِكْرَى خُلَّةٍ لم تَصْقَبِ
سَفَهًا، وَلَوْ أنّي أطَعتُ عَوَاذِلِي ... فيما يُشِرْنَ بِهِ بِسَفْحِ المِذْنِبِ
لَزَجَرْتُ قَلْبًا. . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والذي أثبته هو نص المخطوطة، أما المطبوعة، فإنه لم يحسن معرفة الشعر، فكتبه هكذا: " زجرت له: و " أعتب "، آب إلى رضى من يعاتبه.
(5) يعني في " جارية ".(15/44)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
(1)
وَأُبْنِيْتُ بِالأَعْرَاض ذَا الْبَطْنِ خالِدًا ... نَسَا أوْ تَنَاسَى أَنْ يَعُدَّ المَوَالِيَا
* * *
ورُوي عن ابن عباس في قراءة ذلك أيضًا روايةٌ أخرى، وهي ما:-
17588- حدثنا به المثنى قال، حدثنا المعلى بن أسد قال، حدثنا خالد بن حنظلة عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْذَرْتُكُمْ بِهِ) .
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نستجيزُ أن نعدوها، (2) هي القراءة التي عليها قراء الأمصار: (قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ) ، بمعنى: ولا أعلمكم به، ولا أشعركم به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء المشركين الذين نسبوك فيما جئتهم به من عند ربّك إلى الكذب: أيُّ خلق أشدُّ تعدّيًا، (3) وأوضع لقيله في غير موضعه، (4) ممن اختلق على الله كذبًا، وافترى عليه باطلا = (5) (أو كذب بآياته) يعني بحججه ورسله وآيات كتابه؟ (6) يقول له
__________
(1) لم أعرف قائله، ولم أجد البيت في مكان آخر.
(2) في المطبوعة: " لا أستجيز أن تعدوها "، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " أي خلق أشر بعدنا "، وهو كلام ساقط جدًا، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقولة.
(4) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) .
(5) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف 13: 135، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(6) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) .(15/45)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)
جل ثناؤه: قل لهم: ليس الذي أضفتموني إليه بأعجب من كذبكم على ربكم، وافترائكم عليه، وتكذيبكم بآياته = (إنه لا يفلح المجرمون) ، يقول: إنه لا ينجح الذين اجترموا الكفر في الدنيا يوم القيامة، إذا لقوا ربّهم، ولا ينالون الفلاح. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويعبُد هؤلاء المشركون الذين وصفت لك، يا محمد صفتهم، من دون الله الذي لا يضرهم شيئًا ولا ينفعهم، في الدنيا ولا في الآخرة، وذلك هو الآلهة والأصنام التي كانوا يعبدونها = (ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله) ، يعني: أنهم كانوا يعبدونها رجاء شفاعتها عند الله (2) قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله: (قل) لهم (أتنبئون الله بما لا يعلم في السموات ولا في الأرض) ، يقول: أتخبرون الله بما لا يكون في السموات ولا في الأرض؟ (3) وذلك أن الآلهة لا تشفع لهم عند الله في السموات ولا في الأرض. وكان المشركون يزعمون أنها تشفع لهم عند الله. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وآله: قل لهم: أتخبرون الله أن ما لا يشفع في السموات ولا في الأرض يشفع لكم فيهما؟ وذلك باطلٌ
__________
(1) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف 14: 415، تعليق: 4، والمراجع هناك.
= وتفسير " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة (جرم) .
(2) انظر تفسير " الشفاعة " فيما سلف ص: 18، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) .(15/46)
وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
لا تعلم حقيقته وصحته، بل يعلم الله أن ذلك خلاف ما تقولون، وأنها لا تشفع لأحد، ولا تنفع ولا تضر = (سبحان الله عما يشركون) ، يقول: تنزيهًا لله وعلوًّا عما يفعله هؤلاء المشركون، (1) من إشراكهم في عبادته ما لا يضر ولا ينفع، وافترائهم عليه الكذب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان الناس إلا أهل دين واحد وملة واحدة فاختلفوا في دينهم، فافترقت بهم السبل في ذلك = (ولولا كلمة سبقت من ربك) ، يقول: ولولا أنه سبق من الله أنه لا يهلك قوما إلا بعد انقضاء آجالهم = "لقضي بينهم فيما فيه يختلفون" يقول: لقضي بينهم بأن يُهلِك أهل الباطل منهم، وينجي أهل الحق. (2)
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين في معنى ذلك في "سورة البقرة"، وذلك في قوله: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ) ، [سورة البقرة: 213] ، وبينا الصواب من القول فيه بشواهده، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
17589- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
__________
(1) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف ص، 30، تعليق: 3، والمراجع هناك.
= وتفسير " تعالى " فيما سلف 13: 317، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " قضى " فيما سلف من فهارس اللغة (قضى) .
(3) انظر ما سلف 4: 275 - 280.(15/47)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) ، حين قتل أحدُ ابني آدم أخاه.
17590- حدثني المثنى قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
17591- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويقول هؤلاء المشركون: هلا أنزل على محمد آيةٌ من ربه (1) = يقول: عَلَمٌ ودليلٌ نعلم به أن محمدًا محق فيما يقول؟ (2) قال الله له: (فقل) يا محمد (إنما الغيب لله) ، أي: لا يُعلم أحدٌ يفعل ذلك إلا هو جل ثناؤه، لأنه لا يعلم الغيب =وهو السرُّ والخفيّ من الأمور (3) = إلا الله، فانتظروا أيها القوم، قضاءَ الله بيننا، بتعجيل عقوبته للمبطل منا، وإظهاره المحقَّ عليه، إني معكم ممن ينتظر ذلك. ففعل ذلك جل ثناؤه فقضى بينهم وبينه بأن قتلهم يوم بدرٍ بالسيف.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " لولا " فيما سلف من فهارس مباحث العربية والنحو وغيرها.
(2) انظر تفسير " آية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) .
(3) انظر تفسير " الغيب " فيما سلف من فهارس اللغة (غيب) .(15/48)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا رزقنا المشركين بالله فرجًا بعد كرب، ورخاء بعد شدّة أصابتهم.
وقيل: عنى به المطر بعد القحط، و"الضراء": وهي الشدة، و"الرحمة": هي الفرج. يقول: (إذا لهم مكر في آياتنا) ، استهزاء وتكذيبٌ، (1) كما:-
17592- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إذا لهم مكر في آياتنا) قال: استهزاء وتكذيب.
17593-. . . قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17594- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقوله: (قل الله أسرع مكرًا) يقول تعالى ذكره:: (قل) لهؤلاء المشركين المستهزئين من حججنا وأدلتنا، يا محمد = (الله أسرع مكرًا) ، أي: أسرع مِحَالا بكم، (2) واستدراجًا لكم وعقوبةً، منكم، من المكر في آيات الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف 14: 230، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " الضراء " فيما سلف 12: 573، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير " المس " فيما سلف ص: 36، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " المكر " فيما سلف 13: 502، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) " المحال " (بكسر الميم) : الكيد والمكر.(15/49)
هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)
والعرب تكتفي ب "إذا" من "فعلت" و "فعلوا"، فلذلك حُذِف الفعل معها. (1) وإنما معنى الكلام: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) ، مكروا في آياتنا فاكتفى من "مكروا"، ب "إذا لهم مكر".
* * *
= (إن رسلنا يكتبون ما تمكرون) ، يقول: إن حفظتنا الذين نرسلهم إليكم، أيها الناس، يكتبون عليكم ما تمكرون في آياتنا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي يسيركم، أيها الناس، في البر على الظهر وفي البحر في الفلك = (حتى إذا كنتم في الفلك) ، وهي السفن (2) = (وجرين بهم) يعني: وجرت الفلك بالناس = (بريح طيبة) ، في البحر= (وفرحوا بها) ، يعني: وفرح ركبان الفلك بالريح الطيبة التي يسيرون بها.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 459، 460.
(2) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف 12: 502.(15/50)
و"الهاء" في قوله: "بها" عائدة على "الريح الطيبة".
* * *
= (جاءتها ريح عاصف) ، يقول: جاءت الفلك ريحٌ عاصف، وهي الشديدة.
* * *
والعرب تقول: " ريح عاصف، وعاصفة"، و "وقد أعصفت الريح، وعَصَفت " و"أعصفت"، في بني أسد، فيما ذكر، قال بعض بني دُبَيْر: (1)
حَتَّى إِذَا أَعْصَفَتْ رِيحٌ مُزَعْزِعَةٌ ... فِيهَا قِطَارٌ وَرَعْدٌ صَوْتُهُ زَجِلُ (2)
* * *
= (وجاءهم الموج من كل مكان) يقول تعالى ذكره: وجاء ركبانَ السفينة الموجُ من كل مكان = (وظنوا أنهم أحيط بهم) ، يقول: وظنوا أن الهلاك قد أحاط بهم وأحدق (3) = (دعوا الله مخلصين له الدين) ، يقول: أخلصوا الدعاء لله هنالك، دون أوثانهم وآلهتهم، وكان مفزعهم حينئذٍ إلى الله دونها، كما:-
17595- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (دعوا الله مخلصين له الدين) ، قال: إذا مسّهم الضرُّ في البحر أخلصوا له الدعاء.
17596- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة في قوله: (مخلصين له الدين) ، = "هيا شرا هيا" (4) تفسيره: يا حي يا قوم.
17597- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
__________
(1) لم أعرف قائله. و " بنو دبير " من بني أسد.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 460 " مزعزعة "، شديدة الهبوب، تحرك الشجر توشك أن تقتلعه.
و" قطار " جمع " قطر "، وهو المطر. و " رعد زجل " رفيع الصوت متردده عاليه.
(3) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف 14: 289، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) هكذا جاءت الكلمة، ولم أستطع أن أعرف ما هي، وهي أعجمية بلا ريب.(15/51)
قوله: (وإذا أذقنا الناس رحمة من بعد ضراء مستهم) إلى آخر الآية، قال: هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا كان الضر لم يدعوا إلا الله، فإذا نجاهم إذا هم يشركون.
* * *
= (لئن أنجيتنا) من هذه الشدة التي نحن فيها = (لنكونن من الشاكرين) ، لك على نعمك، وتخليصك إيانا مما نحن فيه، بإخلاصنا العبادة لك، وإفراد الطاعة دون الآلهة والأنداد.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (هو الذي يسيركم) فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق: (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ) من "السير" بالسين.
* * *
وقرأ ذلك أبو جعفر القاري: (هُوَ الَّذِي يَنْشُرُكُمْ) ، من "النشر"، وذلك البسط، من قول القائل: "نشرت الثوب"، وذلك بسطه ونشره من طيّه.
* * *
فوجّه أبو جعفر معنى ذلك إلى أن الله يبعث عباده فيبسطهم برًّا وبحرًا = وهو قريب المعنى من "التسيير".
* * *
وقال: (وجرين بهم بريح طيبة) ، وقال في موضع آخر: (في الفلك المشحون) ، فوحد [سورة يس: 41] .
* * *
والفلك: اسم للواحدة، والجماع، ويذكر ويؤنث. (1)
* * *
قال: (وجرين بهم) ، وقد قال (هو الذي يسيركم) فخاطب، ثم عاد
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 460.(15/52)
فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
إلى الخبر عن الغائب. وقد بينت ذلك في غير موضع من الكتاب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وجواب قوله: (حتى إذا كنتم في الفلك) = (وجاءتها ريح عاصف) .
* * *
وأما جواب قوله: (وظنوا أنهم أحيط بهم) ف (دعوا الله مخلصين له الدين) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما أنجى الله هؤلاء الذين ظنُّوا في البحر أنهم أحيط بهم، من الجهد الذي كانوا فيه، أخلفوا الله ما وعدُوه، وبغوا في الأرض، فتجاوزوا فيها إلى غير ما أذن الله لهم فيه، من الكفر به، والعمل بمعاصيه على ظهرها. (2)
يقول الله: يا أيها الناس، إنما اعتداؤكم الذي تعتدونه على أنفسكم، وإياها تظلمون. وهذا الذي أنتم فيه = (متاع الحياة الدنيا) ، يقول: ذلك بلاغ تبلغون به في عاجل دنياكم. (3)
* * *
وعلى هذا التأويل، "البغي" يكون مرفوعًا بالعائد من ذكره في قوله: (على
__________
(1) انظر ما سلف 1: 154، 196 / 3: 304، 305 / 6: 238، 464 / 8: 447 / 11: 264، ومواضع أخر، اطلبها في فهارس النحو والعربية وغيرهما.
(2) انظر تفسير " البغي " فيما سلف 12: 403، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف 14: 340، تعليق 3، والمراجع هناك.(15/53)
أنفسكم) (1) ويكون قوله (متاع الحياة الدنيا) ، مرفوعًا على معنى: ذلك متاع الحياة الدنيا، كما قال: (لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلاغٌ) ، [سورة الأحقاف: 35] ، بمعنى: هذا بلاغ.
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: إنما بغيكم في الحياة الدنيا على أنفسكم، لأنكم بكفركم تكسبونها غضبَ الله، متاع الحياة الدنيا، كأنه قال: إنما بغيكم متاعُ الحياة الدنيا، فيكون "البغي" مرفوعًا ب "المتاع"، و "على أنفسكم" من صلة "البغي".
* * *
وبرفع "المتاع" قرأت القراء سوى عبد الله بن أبي إسحاق، فإنه نصبه، بمعنى: إنما بغيكم على أنفسكم متاعًا في الحياة الدنيا، فجعل "البغي" مرفوعًا بقوله: (على أنفسكم) ، و"المتاع" منصوبًا على الحال. (2)
* * *
وقوله: (ثم إلينا مرجعكم) يقول: ثم إلينا بعد ذلك معادكم ومصيركم، وذلك بعد الممات (3) = يقول: فنخبركم يوم القيامة بما كنتم تعملون في الدنيا من معاصي الله، ونجازيكم على أعمالكم التي سلفت منكم في الدنيا. (4)
* * *
__________
(1) قراءتنا في مصحفنا اليوم، في مصر وغيرها، بنصب " متاع "، وهي القراءة الأخرى التي سيذكرها أبو جعفر، ولكنه جرى فيما سلف على تفسير قراءة الرفع.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 461، في تأويل القراءتين.
(3) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص: 20، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص: 46، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/54)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنما مثل ما تباهون في الدنيا وتفاخرون به من زينتها وأموالها، مع ما قد وُكِّلَ بذلك من التكدير والتنغيص وزواله بالفناء والموت، = كمثل ماءٍ أنزلناه من السماء، يقول: كمطر أرسلناه من السماء إلى الأرض = (فاختلط به نبات الأرض) ، يقول: فنبت بذلك المطر أنواعٌ من النبات، مختلطٌ بعضها ببعض، كما:-
17598- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (إنما مَثَل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض) ، قال: اختلط فنبت بالماء كل لون مما يأكل الناس، كالحنطة والشعير وسائر حبوب الأرض والبقول والثمار، وما يأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي. (1)
* * *
وقوله: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) يعني: ظهر حسنها وبهاؤها (2) = (وازينت) ، يقول: وتزينت (3) = (وظن أهلها) ، يعني: أهل الأرض
__________
(1) انظر تفسير " الأنعام " فيما سلف 13: 280، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الزخرف " فيما سلف 12: 55، 56.
(3) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف ص: 37، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/55)
= (أنهم قادرون عليها) ، يعني: على ما أنبتت.
* * *
وخرج الخبر عن "الأرض" والمعنى للنبات، إذا كان مفهوما بالخطاب ما عُنِي به.
* * *
وقوله: (أتاها أمرنا ليلا أو نهارًا) ، يقول: جاء الأرض= "أمرنا"، يعني: قضاؤنا بهلاك ما عليها من النبات = إما ليلا وإما نهارًا = (فجعلناها) ، يقول: فجعلنا ما عليها = (حصيدًا) يعني: مقطوعة مقلوعة من أصولها. (1)
* * *
= وإنما هي "محصودة" صرفت إلى "حصيد".
* * *
= (كأن لم تغن بالأمس) ، يقول: كأن لم تكن تلك الزروع والنبات على ظهر الأرض نابتةً قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس.
* * *
وأصله: من "غَنِيَ فلان بمكان كذا، يَغْنَى به"، إذا أقام به، (2) كما قال النابغة الذبياني:
غَنِيَتْ بِذَلِكَ إِذْ هُمُ لَكَ جِيرَةٌ ... مِنْهَا بِعَطْفِ رِسَالَةٍ وَتَوَدُّد (3)
* * *
يقول: فكذلك يأتي الفناء على ما تتباهون به من دنياكم وزخارفها، فيفنيها ويهلكها كما أهلك أمرُنا وقضاؤنا نبات هذه الأرض بعد حسنها وبهجتها، حتى صارت كأن لم تغن بالأمس، كأن لم تكن قبل ذلك نباتًا على ظهرها.
يقول الله جل ثناؤها: (كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون) ، يقول: كما
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 277.
(2) انظر تفسير " غني بالمكان " فيما سلف 12: 569، 570.
(3) ديوانه: 65، وسيأتي في التفسير 12: 66 (بولاق) ، وغيرهما، من قصيدته المشهورة التي وصف فيها المتجردة، وقبله: فِي إثْرِ غانيةٍ رَمَتْكَ بِسَهْمِاَ ... فأَصَابَ قَلْبَكَ غَيْرَ أَنْ لَمْ تَقْصِدِ
وكان في المطبوعة: " إذ هم لي جيرة "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لرواية ديوانه.(15/56)
بينَّا لكم أيها الناس، مثل الدنيا وعرّفناكم حكمها وأمرها، كذلك نُبين حججنا وأدلَّتنا لمن تفكَّر واعتبر ونظر. (1)
وخصَّ به أهل الفكر، لأنهم أهل التمييز بين الأمور، والفحص عن حقائق ما يعرض من الشُّبَه في الصدور.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17599- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها) ، الآية،: أي والله، لئن تشبَّثَ بالدنيا وحَدِب عليها، لتوشك الدنيا أن تلفظه وتقضي منه.
17600- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وازينت) ، قال: أنبتت وحسُنَت.
17601- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال: سمعت مروان يقرأ على المنبر هذه الآية: (حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَّنَ أَهْلُهَا أَنَّهمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا وَمَا كَانَ اللهُ لِيُهْلِكَهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا) ، قال: قد قرأتها، وليست في المصحف. فقال عباس بن عبد الله بن العباس: هكذا يقرؤها ابن عباس. فأرسلوا إلى ابن عباس فقال: هكذا أقرأني أبيُّ بن كعب. (2)
__________
(1) انظر تفسير " تفصيل الآيات " فيما سلف ص: 24، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 17601 - " الحارث "، هو: " الحارث بن أبي أسامة "، ثقة، مضى مرارًا.
و" عبد العزيز "، هو: " عبد العزيز " بن أبان الأموي، كذاب خبيث، وضاع للأحاديث، مضى مرارًا، آخرها رقم: 14333.
وأما " عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام "، فلم أجحد له ذكرا في التوراة.
وأبوه " أبو بكر بن عبد الرحمن "، " راهب قريش "، ثقة، عالم، عاقل، سخي، كثير الحديث، أحد فقهاء المدينة السبعة. ترجم له ابن حجر في التهذيب، وابن سعد في الطبقات 5: 153 والزبيري في نسب قريش: 303، 304. وذكر ابن سعد ولده فقال: " فولد أبو بكر: عبد الرحمن لا بقية له = وعبد الله، وعبد الملك، وهشاما. . . ". ولم يذكر ذلك الزبيري في نسب قريش، ولكنه ذكر قصة قال في أولها " فقال لابنه عبد الله اذهب إلى عمك المغيرة بن عبد الرحمن. . . " ثم قال في نفس القصة بعد قليل: " فذهب عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الرحمن ": " وسماه ابن سعد لما عد أولاد، أبي بكر بن عبد الرحمن: عبد الرحمن "، ولكن نص ابن سعد مخالف لما قال الحافظ ابن حجر فهما عنده رجلان بلا شك في ذلك. ولم أجد ما أستقصي من الأخبار حتى أفضل في هذا الاختلاف. و " عبد الله بن أبي بكر بن عبد الرحمن "، ليس بثقة. و " مروان "، هو: " مروان بن الحكم ". وهذا الخبر كما ترى، هالك الإسناد من نواحيه. والقراءة التي فيه إذا صحت من غير هذا الطريق الهالك، فهي قراءة تفسير، كما هو معروف، وكما أشرنا إليه مرارًا في أشباهها. ولا يجل لقارئ أنة يقرأ بمثلها على أنها نص التلاوة، لشذوذها، ولمخالفتها رسم المصحف بالزيادة، بغير حجة يجب التسليم لها.(15/57)
17602- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (كأن لم تغن بالأمس) ، يقول: كأن لم تعشْ، كأن لم تَنْعَم.
17603- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل قال سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن يقول: في قراءة أبيّ: (كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ وَمَا أَهْلَكْنَاهَا إِلا بِذُنُوبِ أَهْلِهَا كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (1)
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (وازينت) .
فقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والعراق: (وَازَّيَّنَتْ) بمعنى: وتزينت، ولكنهم أدغموا التاء في الزاي لتقارب مخرجيهما، وأدخلوا ألفا ليوصل إلى قراءته، إذ كانت التاء قد سكنت، والساكن لا يُبْتَدأ به.
* * *
وحكي عن أبي العالية، وأبي رجاء، والأعرج، وجماعة أخر غيرهم، أنهم قرءوا ذلك: (وَأَزْيَنَتْ) على مثال "أفعلت".
* * *
__________
(1) الأثر: 17603 - " أبو أسامة "، هو " حماد بن أسامة بن يزيد القرشي "، ثقة، روى له الجماعة مضى مرارًا.
" وإسماعيل "، هو " إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا. وأما " أبو سلمة بن عبد الرحمن "، فلم يسمع من أبي بن كعب. فهو إسناد مرسل.(15/58)
وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك: (وَازَّيَّنَتْ) لإجماع الحجة من القراء عليها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لعباده: أيها الناس، لا تطلبوا الدنيا وزينتَها، فإن مصيرها إلى فناءٍ وزوالٍ، كما مصير النبات الذي ضربه الله لها مثلا إلى هلاكٍ وبَوَارٍ، ولكن اطلبوا الآخرة الباقية، ولها فاعملوا، وما عند الله فالتمسوا بطاعته، فإن الله يدعوكم إلى داره، وهي جناته التي أعدَّها لأوليائه، تسلموا من الهموم والأحزان فيها، وتأمنوا من فناء ما فيها من النَّعيم والكرامة التي أعدَّها لمن دخلها، وهو يهدي من يشاء من خلقه فيوفقه لإصابة الطريق المستقيم، وهو الإسلام الذي جعله جل ثناؤه سببًا للوصول إلى رضاه، وطريقًا لمن ركبه وسلك فيه إلى جِنانه وكرامته، (1) كما:-
17604- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: "الله"، السلام، ودارُه الجنة.
17605- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا
__________
(1) انظر تفسير " الهداية " و " الصراط المستقيم " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) ، (سرط) ، (قوم) .(15/59)
معمر، عن قتادة في قوله: (والله يدعو إلى دار السلام) ، قال: "الله" هو السلام، ودارُه الجنة.
17606- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، قيل لي: "لتنم عينُك، وليعقِل قلبك، ولتسمع أُذُنك" فنامت عيني، وعقل قلبي، وسمعت أذني. ثم قيل: " سيّدٌ بنى دارًا، ثم صنع مأدُبة، ثم أرسل داعيا، فمن أجاب الداعي دخل الدار، وأكل من المأدبة، ورضي عنه السيد. ومن لم يجب الداعي، لم يدخل الدار، ولم يأكل من المأدبة، ولم يرضَ عنه السيد"، فالله السيد، والدار الإسلام، والمأدبة الجنة، والداعي محمد صلى الله عليه وسلم". (1)
17607- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) ، ذكر لنا أن في التوراة مكتوبًا:" يا باغي الخير هلمّ، ويا باغي الشرِّ انتَهِ".
17608- حدثني الحسين بن سلمة بن أبي كبشة قال، حدثنا عبد الملك بن عمرو قال، حدثنا عباد بن راشد، عن قتادة قال، حدثني خُلَيد العَصَريّ، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا وبجَنَبَتَيْها ملكان يناديان، يسمعُه خلق الله كلهم إلا الثَّقلين (2)
__________
(1) الأثر: 17606 - " أبو قلابة "، هو: " عبد الله بن زيد الجرمي "، أحد أعلام التابعين، مضى مرارًا. فهذا خبر " مرسل "، وسيأتي نحوه متصلا في تخريج الأثر رقم: 17609.
(2) " الجنبة " (بفتح الجيم والنون، وبفتحها وإسكان النون) الناحية، ورواة الحديث يروون " الجنبة " فتحتين، وأهل اللغة يؤثرون سكون النون. ويستدلون على ذلك بقول أبي صعترة البولاني: فما نُطْفَةٌ مِنْ حَبِّ مُزْنٍ تَقَاذَفَتْ ... به جَنْبَتَا الجُودِيِّ والليلُ دَامِسُ
بِأَطْيَبِ مَنْ فِيهَا، وَمَا ذُقْتُ طَعْمَهُ، ... وَلكِنَّنِي فِيما تَرَى العَيْنُ فَارِسُ
والذي رواه أهل الحديث جيد صحيح.(15/60)
: "يا أيها الناس هلمُّوا إلى ربِّكم، إنّ ما قلَّ وكفى خير مما كثر وأَلْهَى". قال: وأنزل ذلك في القرآن في قوله: (والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) . (1)
17609- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن جابر بن عبد الله قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: إني رأيت في المنام كأنَّ جبريل عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلا! فقال: اسْمَع سمعتْ أُذنك، واعقل عَقَل قلبك، إنما مَثَلك ومَثَل أمتك، كمثل ملك اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مأدُبة، ثم بعث رسولا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه.
__________
(1) الأثر: 17608 - " الحسين بن سلمة بن إسماعيل بن يزيد بن أبي كبشة الأزدي الطحان "، شيخ الطبري، ثقة. روى عنه الترمذي وابن ماجه وغيرهما، مترجم في التهذيب، وأبي ابن حاتم 1 / 2 / 54. و " عبد الملك بن عمرو "، هو " أبو عامر العقدي "، ثقة، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: 12795. و" عباد بن راشد التميمي "، ثقة وليس بالقوي، روى له البخاري مقرونا بغيره، مضى برقم: 11060، 12527. و" خليد بن عبد الله العصري "، روى عن أبي الدرداء، وقال ابن حبان في الثقات، وذكره: يقال إن هذا مولى لأبي الدرداء. وفرق البخاري في الكبير بين " خليد مولى أبي الدرداء "، و " خليد بن عبد الله العصري "، وكذلك ابن أبي حاتم. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 181، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 383. وهذا خبر صحيح الإسناد، ورواه أحمد في مسنده مطولا 5: 197، من طريق همام، عن قتادة، عن خليد العصري. وزيادته: " وَلَا آبَت شمس قَطُّ إلا بعث بِجَنْبَتَيْهَا مَلَكَان يُناديان، يُسْمِعان أهل الأرض إلا الثَّقلين: اللهمّ أعطِ مُنْفقًا خلفًا، وأعط مُمْسكًا تَلَفًا ". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 304، مطولًا، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.(15/61)
فالله الملك، والدار الإسلام، والبيتُ الجنَّة، وأنت يا محمد الرسولُ، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 17069 - " خالد بن يزيد الجمحي المصري " ثقة مضى مرارًا، آخرها رقم: 13377. و"سعيد بن أبي هلال الليثي المصري "، ثقة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 17429، روايته عن جابر مرسلة، وحديثه عن جابر أورده البخاري معلقًا، متابعة. وفي الترمذي: " سعيد بن أبي هلال، لم يدرك جابرًا ". فهذا خبر مرسل عن جابر، وصله الحاكم في المستدرك 2: 338 من طريق " عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال قال: سمعت أبا جعفر محمد بن على بن الحسين، وتلا هذه الآية: " والله يدعو إلى دار السلام ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم" فقال: حدثني جابر بن عبد الله "، ثم قال الحاكم: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي ".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 304، وزاد نسبته إلى ابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، بمثل لفظ الحاكم وإسناده. وكان في المطبوعة: " أكل منها "، وهو موافق لما في سائر المراجع، وأثبت ما في المخطوطة، لأنه واضح لا إشكال في قراءته، ولا في معناه.(15/62)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
القول في تأويل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: للذين أحسنوا عبادَة الله في الدنيا من خلقه، فأطاعوه فيما أمر ونَهَى، (الحسنى) .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى "الحسنى"، و"الزيادة" اللتين وعدهما المحسنين من خلقه.
فقال بعضهم: "الحسنى"، هي الجنة، جعلها الله للمحسنين من خلقه جزاء = "والزيادة عليها"، النظر إلى الله.
* ذكر من قال ذلك:(15/62)
17610- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن أبي بكر الصديق: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. (1)
17611- حدثنا سفيان قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه الله. (2)
17612- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) الأثر: 17610 - " عامر بن سعد البجلي "، تابعي ثقة، له في الصحيح حديث واحد، وروايته عن أبي بكر الصديق، مرسلة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 321. وهذا الخبر، أخرجه الآجري في الشريعة ص: 257، من طرق، مرسلًا.
(2) الأثر: 17611 - " سعيد بن نمران الناعطي "، روى عن أبي بكر الصديق، روى عنه عامر بن سعد العجلي، وكان سعيد بن نمران الناعطي، من أصحاب علي بن أبي طالب، وضمه إلى عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب، حين ولاه اليمن، وشهد اليرموك، وكان ابنه مسافر بن سعيد بن نمران من أصحاب المختار، مترجم في الكبير 2 / 1 / 473، وابن أبي حاتم، 2 / 1 / 68، وابن سعد 6: 56، وقال البخاري " سمع أبا بكر "، ولكن العجيب أن ابن حجر ترجم له في لسان الميزان 3: 46، وقال: " مجهول "، وكذلك قال الذهبي في ميزان الاعتدال 1: 392. فأخشى أن يكون ذلك تجاوزًا من الذهبي وابن حجر، وأنهما عنيا بقولهما " مجهول " أن حال روايته وسماعه من أبي بكر هو المجهول، لا سعيد بن نمران نفسه. وإلا فكيف يكون مجهولا، وهو مذكور مترجم، وله عند الطبري في تاريخه ذكر 4: 126، في حوادث سنة 14، في فتح اليرموك ثم في سنة 17 (4: 194) في خبر سعد بن أبي وقاص وعمر بن الخطاب، وأن سعدًا " أرسل إلى قوم من نساب العرب وذوي رأيهم وعقلائهم منهم سعيد بن نمران، ومشعلة بن نعيم ". وفي باب ذكر الكتاب من بدء أمر الإسلام (تاريخ الطبري 7: 198) : " وكان يكتب لعلي، سعيد بن نمران الهمداني، ثم ولّى قضاء الكوفة لابن الزبير ". وذكره وكيع أيضًا في أخبار القضاة 2: 396، 397، وقال: " لما قدم علي الكوفة، ولى سعيد بن نمران الهمداني ثم عزله، وولى مكانه عبيدة السلماني" ثم قال في ص 397: " فاستقضى ابن الزبير سعيد بن نمران الهمداني، فقضى ثلاث سنين ". وذكر كتابته لعلي، الجهشياري في الوزراء والكتاب ص: 23. فثبت بهذا أنه معروف مشهور، وأما " المجهول "، فهو حال سماعه من أبي بكر، لولا ما قاله البخاري من أنه سمع أبا بكر.
ومهما يكن من أمر، فهذا خبر في إسناده نظر. خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 306، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن خزيمة، وابن المنذر، وأبي الشيخ، والدارقطني، وابن منده في الرد على الجهمية، واللالكائي والآجري، والبيهقي، كلاهما في الرؤية.(15/63)
عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه ربهم.
17613- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد قال: في هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: "الزيادة"، النظر إلى وجه الرحمن.
17614- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مسلم بن نذير، عن حذيفة: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) قال: النظر إلى وجه ربهم. (1)
17615- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا شريك قال: سمعت أبا إسحاق يقول في قول الله: (وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه الرحمن.
17616- حدثني علي بن عيسى قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا أبو بكر الهذلي قال: سمعت أبا تميمة الهُجَيْمِيّ، يحدَّث عن أبي موسى الأشعري قال: إذا كان يومُ القيامة بعث الله إلى أهل الجنة مناديًا ينادي: "هل أنجزكم الله ما وعدكم"! فينظرون إلى ما أعد الله لهم من الكرامة، فيقولون: نعم! فيقول: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، النظرُ إلى وجه الرحمن. (2)
17617- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن
__________
(1) الأثر: 17614 - " مسلم بن نذير السعدي "، ويقال: " مسلم بن يزيد "، ويقال إن " يزيد " جده. روى عن حذيفة، روى عنه أبو إسحاق السبيعي، وهو من أهل الكوفة، كان قليل الحديث، ويذكرون أنه كان يؤمن بالرجعة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 273، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 197، 199 في " مسلم بن يزيد السعدي ". وابن سعد 6: 159. و " نذير " بضم النون، على التصغير.
(2) الأثر: 17616 - " أبو بكر الهذلي "، ضعيف بمرة، مضى مرارًا آخرها رقم: 14690. و " أبو تميمة الهجيمي "، هو " طريف بن مجالد "، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/356، وابن أبي حاتم 2/1/492، وهذا خبر ضعيف الإسناد، وسيأتي في الأثرين التاليين.(15/64)
المبارك، عن أبي بكر الهذلي قال: أخبرنا أبو تميمة الهجيمي قال، سمعت أبا موسى الأشعري يخطب على منبر البصرة يقول: إن الله يبعث يوم القيامة مَلَكًا إلى أهل الجنة فيقول: "يا أهل الجنة، هل أنجزكم الله ما وعدكم"! فينظرون، (1) فيرون الحليّ والحُلل والثمار والأنهار والأزواجَ المطهَّرة، فيقولون: "نعم، قد أنجزنا الله ما وعدنا"! ثم يقول الملك: "هل أنجزكم الله ما وعدكم"؟ ثلاث مرات، فلا يفقدون شيئًا مما وُعِدوا، فيقولون: "نعم"! فيقول: "قد بقى لكم شيءٌ، إن الله يقول: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، ألا إن الحسنى الجنة، والزيادة النظرُ إلى وجه الله". (2)
17618- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني شبيب، عن أبان، عن أبي تميمة الهجيمي: أنه سمع أبا موسى الأشعري يحدّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يبعث يوم القيامة مناديًا ينادي أهل الجنة بصوت يسمع أوّلهم وآخرهم: (3) "إن الله وعدكم الحسنى وزيادةً، فالحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن". (4)
__________
(1) في المطبوعة: " فينظرون، إلى ما أعد الله لهم من الكرامة، فيرون "، زاد على المخطوطة ما ليس فيها، أظنه فعله متابعًا لما جاء في الأثر السالف.
(2) الأثر: 17617 - هو مكرر الذي قبله مطولا، وهو ضعيف بمرة، لضعف " أبي بكر الهذلي "، كما سلف.
(3) في المخطوطة " يسمع ألهم آخرهم "، وكأن الصواب ما في المطبوعة.
(4) الأثر: 17618 - " شبيب بن سعيد التيمي الحبطي "، أحاديثه مستقيمة، ومضى برقم: 6613، 12085، غير أن ابن وهب حدث عنه بأحاديث مناكير، قال ابن عدي: " ولعل شبيبًا لما قدم مصر في تجارته، كتب عنه ابن وهب من حفظه، فغلط ووهم. وأرجو أن لا يتعمد الكذب وإذا حدث عنه ابنه أحمد، فكأنه شبيب آخر يعني = يجود ". و " أبان "، هو " أبان بن أبي عياش فيروز "، مولى عبد القيس، كان رجلا صالحًا سخيًّا، فيه غفلة، يهم في الحديث ويخطئ فيه حتى أسقطوا روايته، وحتى قال فيه شعبة: " لأن أشرب من بول حماري أحب إلي من أن أقول: حدثني أبان = ولأن يزني الرجل، خير من أن يروى من أبان ". ومضى برقم: 6728. فهذا أيضًا خبر هالك الإسناد. وخبر أبي موسى الأشعري، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 305، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والدارقطني في الرؤية، وابن مردويه.(15/65)
17619- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه ربهم. وقرأ: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) ، قال: بعد النظر إلى وجْه ربهم.
17620- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة قال، أخبرنا ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى في قوله: (وزيادة) ، قال: قيل له: أرأيت قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ؟ قال: إن أهل الجنة إذا دخلوا الجنة فأُعطوا فيها ما أُعْطُوا من الكرامة والنعيم، قال: نودوا: "يا أهل الجنة، إن الله قد وعدكم الزيادة، فيتجلى لهم" = قال ابن أبي ليلى: فما ظنك بهم حين ثَقُلت موازينهم، وحين صارت الصُّحف في أيمانهم، وحين جاوزوا جسر جهنم ودخلوا الجنة، وأعطوا فيها ما أعطوا من الكرامة والنعيم؟ كل ذلك لم يكن شيئًا فيما رأوا!. (1)
17621-. . . . قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، وسليمان بن المغيرة، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه ربهم.
17622-. . . . قال: حدثنا الحجاج، ومعلّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ قال لهم: إنه قد بقي من حقكم شيءٌ لم تُعْطَوْه! قال: فيتجلى لهم تبارك وتعالى. قال: فيصغر عندهم كل شيء أعطوه. قال: ثم قال: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: الحسنى الجنة، والزيادة النظر إلى وجه ربهم، ولا يرهقُ وجوههم قترٌ ولا ذلةٌ بعد ذلك.
__________
(1) الأثر: 17620 - الآثار من رقم: 17619 إلى رقم: 17623، راجع آخر التعليق التالي.(15/66)
17623- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ثابت البناني، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، النظر إلى وجه الله.
17624- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قول الله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، النظر إلى الربّ.
17625- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهلُ النارِ النارَ، نودوا: " يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا "! قالوا: ما هو؟ ألم تبيّض وجوهنا، وتُثْقِل موازيننا، وتُدخلنا الجنة، وتُنْجِنَا من النار؟ فيكشف الحجابُ، فيتجلى لهم، فوالله ما أعطاهم شيئًا أحب إليهم من النظر إليه = ولفظ الحديث لعمرو.
17626- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن صهيب قال، تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: "إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، وأهل النار النار، نادى منادٍ: "يا أهل الجنة، إنّ لكم عند الله موعدًا يريد أن ينجزكُمُوه". فيقولون: "وما هو؟ ألم يُثقل الله موازيننا، ويبيِّض وجوهنا؟ ثم ذكر سائر الحديث نحو حديث عمرو بن علي، وابن بشار، عن عبد الرحمن. (1)
__________
(1) الأثر: 17626 - هذا خبر صحيح، رواه مسلم في صحيحه 3: 16، 17، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن حماد بن سلمة، ومن طريق يزيد بن هارون عن حماد. ورواه أبو داود الطياليسي في مسنده ص:186 رقم 2315، روايته عن حماد بن سلمة. ورواه أحمد في مسنده (4: 332، 333) من ثلاث طرق، من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد، ومن طريق يزيد بن هارون عن حماد، ومن طريق عفان عن حماد = ثم رواه في مسنده (6: 15) من طريق يزيد، عن حماد. ورواه ابن ماجه في سننه ص 67، رقم: 187 من طريق حجاج بن المنهال، عن حماد. ورواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن حماد، ثم قال: " حديث حماد بن سلمة، هكذا رواه غير واحد عن حماد بن سلمة مرفوعا، وروى سليمان بن المغيرة هذا الحديث عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قوله، ولم يذكر فيه: عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم ". وهذا الذي أشار إليه الترمذي، هو ما رواه أبو جعفر من رقم: 17619 - 17623. ورواه الآجري في الشريعة: 261 من طريق يزيد بن هارون عن حماد، ومن طريق هناد بن السري، عن قبيصة بن عقبة، عن حماد.(15/67)
17627-. . . . قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن نمران، عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: النظر إلى وجه الله تبارك وتعالى. (1)
17628-. . . . قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عامر بن سعد، مثله.
17629- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، بلغنا أن المؤمنين لما دَخلوا الجنة ناداهم منادٍ: إن الله وعدكم الحسنى وهي الجنة، وأما الزيادة، فالنظر إلى وجه الرحمن.
17630- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
17631- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن عطاء، عن كعب بن عجرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: الزيادة، النظرُ إلى وجه الرحمن تبارك وتعالى. (2)
__________
(1) الأثر: 17627 - " سعيد بن نمران " مضى برقم: 17611، ولم يذكر أن أبا إسحاق السبيعي، سمع من سعيد بن نمران، وظاهر أن بينهما " عامر بن سعد "، كما سلف في الآثار من رقم: 17610 - 17613.
(2) الأثر: 17631 - " إبراهيم بن المختار التميمي "، " حبويه "، " أبو إسماعيل الرازي ".
روى عن شعبة، ومالك، وابن جريج، وغيرهم. قال ابن معين: " ليس بذاك "، وقال البخاري: " فيه نظر "، وقال ابن حبان في الثقات: " يتقي حديثه من رواية ابن حميد عنه ". مترجم في التهذيب والكبير 1 / 1 / 329، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 138، وميزان الاعتدال 1: 31. و" عطاء "، هو " عطاء بن أبي مسلم الخراساني " وهو " عطاء بن ميسرة "، مضى مرارًا. وروى عن الصحابة مرسلا، كابن عباس، وعدي بن عدي الكندي، والمغيرة بن شعبة، وأبي هريرة، وأبي الدرداء، وأنس، وكعب بن عجرة، ومعاذ بن جبل، وغيرهم. فهذا خبر ضعيف الإسناد لضعف " إبراهيم بن المختار "، ولأنه من مرسل عطاء عن كعب بن عجرة.(15/68)
17632-. . . . قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن عبد الرحمن بن سابط قال: "الحسني"، النضرة = و"الزيادة"، النظر إلى وجه الله.
17633- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، سمعت زهيرًا، عمن سمع أبا العالية قال، حدثنا أبيّ بن كعب: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن قول الله (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: الحسنى: الجنة، والزيادة النظر إلى وجه الله. (1)
* * *
وقال آخرون في "الزيادة"، بما:-
17634- حدثنا به يحيى بن طلحة قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: "الزيادة"، غرفة من لؤلؤة واحدةٍ لها أربعة أبواب. (2)
17635- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الحكم، عن علي رضي الله عنه، نحوه، إلا أنه قال: فيها أربعة أبواب.
17636-. . . .قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم بن عتيبة، عن علي رضي الله عنه، مثل حديث يحيى بن طلحة، عن فضيل، سواءً.
* * *
__________
(1) الأثر: 17633 - هذا خبر ضعيف إسناده، لجهالة من روى عن أبي العالية.
(2) الأثر: 17634 - " الحكم "، هو " الحكم بن عتيبة الكندي " مضى مرارًا، والثابت سماعه من التابعين، فإنه ولد سنة 50، ومات سنة 113، وكان فيه تشيع إلا أن ذلك لم يظهر منه. فهذا حديث ضعيف لإرساله عن علي.(15/69)
وقال آخرون: "الحسنى" واحدةٌ من الحسنات بواحدة =
و"الزيادة"، التضعيف إلى تمام العشر.
* ذكر من قال ذلك.
17637- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: هو مثل قوله: (وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ) ، [سورة ق: 35] ، يقول: يجزيهم بعملهم، ويزيدهم من فضله. وقال: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ، [سورة الأنعام: 160] .
17638- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن علقمة بن قيس: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال قلت: هذه الحسنى، فما الزيادة؟ قال: ألم تر أن الله يقول: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ؟
17639- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول في هذه الآية: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: الزيادة: بالحسنة عشر أمثالها، إلى سبعمائة ضعف.
* * *
* وقال آخرون: "الحسنى" حسنة مثل حسنة = و"الزيادة" زيادة مغفرة من الله ورضوان.
* ذكر من قال ذلك:
17640- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (للذين أحسنوا الحسنى) ، مثلها حسنى = "وزيادة"، مغفرة ورضوان.
* * *
وقال آخرون: "الزيادة"، ما أعطوا في الدنيا.(15/70)
*ذكر من قال ذلك:
17641- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، قال: "الحسنى"، الجنة = "وزيادة" ما أعطاهم في الدنيا، لا يحاسبهم به يوم القيامة. وقرءوا: (وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا) ، [سورة العنكبوت: 27] ، قال: ما آتاه مما يحب في الدنيا، عجل له أجره فيها.
* * *
وكان ابن عباس يقول في قوله: (للذين أحسنوا الحسنى) ، بما:-
17642- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (للذين أحسنوا الحسنى) ، يقول: للذين شهدوا أن لا إله إلا الله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تبارك وتعالى وَعَد المحسنين من عباده على إحسانهم الحسنى، أن يجزيهم على طاعتهم إيّاه الجنة، وأن تبيض وجوههم، ووعدهم مع الحسنى الزيادة عليها. ومن الزيادة على إدخالهم الجنة أن يكرمهم بالنظر إليه، وأن يعطيهم غُرفا من لآلئ، وأن يزيدَهم غفرانا ورضوانًا، كل ذلك من زيادات عطاء الله إياهم على الحسنى التي جعلها الله لأهل جناته. وعمّ ربنا جل ثناؤه بقوله: (وزيادة) ، الزيادات على "الحسنى"، فلم يخصص منها شيئًا دون شيء، وغير مستنكَرٍ من فضل الله أن يجمع ذلك لهم، بل ذلك كله مجموع لهم إن شاء الله. فأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يُعَمَّ، كما عمَّه عز ذكره.
* * *(15/71)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) ، لا يغشى وجوههم كآبة، ولا كسوف، حتى تصير من الحزن كأنما علاها قترٌ.
* * *
و"القتر" الغبار، وهو جمع "قَتَرَةٍ" ومنه قول الشاعر: (1)
مُتَوَّجٌ بِرِداءِ المُلْكِ يَتْبَعُهُ ... مَوْجٌ تَرَى فَوْقَهُ الرَّاياتِ وَالْقَتَرَا (2)
يعني ب "القتر" الغبار.
* * *
= (ولا ذلة) ، ولا هوان (3) = (أولئك أصحاب الجنة) ، يقول: هؤلاء الذين وصفت صفتهم، هم أهل الجنة وسكانها، (4)
ومن هو فيها (5) = (هم فيها خالدون) ، يقول: هم فيها ماكثون أبدًا، لا تبيد، فيخافوا زوال نعيمهم، ولا هم بمخرجين فتتنغَّص عليهم لذَّتُهم. (6)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
__________
(1) هو الفرزدق.
(2) ديوانه: 290، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 277، واللسان (قتر) ، وغيرها، ورواية ديوانه " معتصب برداء الملك "، وهذا بيت من قصيدة مدح فيها بشر بن مروان، وقبله: كُلُّ امْرِئٍ لِلْخَوْفِ أَمَّنَهُ ... بِشْرُ بْنُ مَرْوَانَ وَالمَذْعُورُ مَنْ ذَعَرَا
فَرْعٌ تَفَرَّعَ فِي الأَعْياصِ مَنْصِبُهُ ... والعامِرَيْنِ، لَهُ العِرنَيْنُ مِنْ مُضَرَا
(3) انظر تفسير " الذلة " فيما سلف 13: 133، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " أصحاب الجنة " فيما سلف من فهارس اللغة (صحب) .
(5) في المطبوعة: " ومن هم فيها "، غير ما في المخطوطة لغير طائل.
(6) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .(15/72)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
وكان ابن أبي ليلى يقول في قوله: (ولا يرهق وجوههم قتر) ما:-
17643- حدثنا محمد بن منصور الطوسي قال، حدثنا عفان قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: (ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة) ، قال: بعد نظرهم إلى ربِّهم. (1)
17644- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج، ومعلَّى بن أسد قالا حدثنا حماد بن زيد، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، بنحوه.
17645- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: (ولا يرهق وجوههم قتر) ، قال: سوادُ الوجوه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين عملوا السيئات في الدنيا، فعصوا الله فيها، وكفروا به وبرسوله (2) = (جزاء سيئة) ، من عمله السيئ الذي عمله في الدنيا = (بمثلها) ، من عقاب الله في الآخرة = (وترهقهم ذلة) ، يقول: وتغشاهم ذلة وهوان، بعقاب الله إياهم (3)
= (ما لهم من الله من عاصم) ، يقول: ما لهم من الله من مانع يمنعهم، إذا عاقبهم، يحول بينه وبينهم.
* * *
__________
(1) الأثر: 17643 - " محمد بن منصور بن داود الطوسي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 6653.
(2) انظر تفسير " كسب " فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) ، (سوأ) .
(3) انظر تفسير " الرهق " فيما سلف قريبًا ص: 72.
= وتفسير " ذلة " فيما سلف ص: 72، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/73)
وبنحو الذي قلنا قوله:"وترهقهم ذلة" قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17646- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وترهقهم ذلة) ، قال: تغشاهم ذلة وشدّة.
* * *
واختلف أهل العربية في الرافع ل "لجزاء".
فقال بعض نحويي الكوفة: رُفع بإضمار "لهم"، كأنه قيل: ولهم جزاء السَّيئة بمثلها، كما قال: (فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) ، [سورة البقرة: 196] ، والمعنى: فعليه صيام ثلاثة أيام، قال: وإن شئت رفعت الجزاءَ بالباء في قوله: (وجزاء سيئة بمثلها) . (1)
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: "الجزاء" مرفوع بالابتداء، وخبره (بمثلها) . قال: ومعنى الكلام: جزاء سيئة مثلها، وزيدت "الباء"، كما زيدت في قوله: " بحسبك قول السُّوء".
وقد أنكر ذلك من قوله بعضُهم، فقال: يجوز أن تكون "الباء" في "حسب" [زائدة (2) ]
لأن التأويل: إن قلت السوء فهو حسبك = فلما لم تدخل في الخبر، (3) أدخلت في "حسب"، "بحسبك أن تقوم": إن قمت فهو حسبك. (4) فإن مُدح ما بعد "حسب" أدخلت "الباء"، فيما بعدها، كقولك: "حسبك بزيد"،
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 461، وفي المطبوعة: " وجزاء سيئة بمثلها " بالواو، وفي معاني القرآن للفراء " فجزاء " بالفاء، ولا أجد في القرآن آية فيها مثل ذلك بالواو أو بالفاء، وإنما عني هذه الآية بعينها.
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " لم تدخل في الجزاء "، وهو خطأ لا ريبة فيه.
(4) أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء.(15/74)
ولا يجوز "بحسبك زيد"، لأن زيدًا الممدوح، فليس بتأويل خبَرٍ. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يكون "الجزاء" مرفوعًا بإضمارٍ، بمعنى: فلهم جزاء سيئة بمثلها، لأن الله قال في الآية التي قبلها: (للذين أحسنوا الحسنى وزيادة) ، فوصف ما أعدَّ لأوليائه، ثم عقب ذلك بالخبر عما أعدّ الله لأعدائه، فأشبهُ بالكلام أن يقال: وللذين كسبوا السيئات جزاء سيئة، وإذا وُجِّه ذلك إلى هذا المعنى، كانت الباء صلة للجزاء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كأنما ألبست وجوه هؤلاء الذين كسبوا السيئات (2)
= (قِطَعًا من الليل) ، وهي جمع "قطعة".
* * *
وكان قتادة يقول في تأويل ذلك ما:-
17647- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا) ، قال: ظلمة من الليل.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله تعالى: (قطعًا) فقرأته عامة قراء الأمصار: (قِطَعًا) بفتح الطاء، على معنى جمع "قطعة"،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع أيضًا: " فليس بتأويل جزاء "، وهو فساد لا شك فيه.
(2) انظر تفسير " الإغشاء " فيما سلف 12: 483، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/75)
وعلى معنى أنَّ تأويل ذلك: كأنما أُغشِيَت وَجْه كل إنسان منهم قطعةٌ من سواد الليل، ثم جمع ذلك فقيل: كأنما أغشيت وجوههم قطعا من سواد، إذ جُمِع "الوجه".
* * *
وقرأه بعض متأخري القراء: "قِطْعًا" بسكون الطاء، بمعنى: كأنما أغشيت وجوههم سوادًا من الليل، وبقيةً من الليل، ساعةً منه، كما قال: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) ، [سورة هود: 81 /سورة الحجر: 65] ، أي: ببقية قد بقيت منه.
ويعتلُّ لتصحيح قراءته كذلك، أنه في صحف أبيّ: (وَيَغْشَى وُجُوهَهُمْ قِطْعٌ مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمٌ) . (1)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا يجوز خلافها عندي، قراءةُ من قرأ ذلك بفتح الطاء، لإجماع الحجة من قراء الأمصار على تصويبها، وشذوذ ما عداها. وحسبُ الأخرى دلالةً على فسادها، خروج قارئها عما عليه قراء أهل أمصار الإسلام. (2)
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن كان الصواب في قراءة ذلك ما قلت، فما وجه تذكير "المظلم" وتوحيده، وهو من نعت "القطع"، و"القطع"، جمع لمؤنث؟
قيل: في تذكير ذلك وجهان: (3)
أحدهما: أن يكون قَطْعًا من "الليل" (4) . وإن يكون من نعت "الليل"، فلما كان نكرةً، و"الليل" معرفةً، نصب على القَطْع،
فيكون معنى الكلام حينئذ: كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل المظلم = ثم حذفت الألف واللام
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 462.
(2) في المطبوعة: " أهل الأمصار والإسلام "، وهو عبث سخيف.
(3) في المطبوعة: " في تذكيره "؛ بالهاء مضافة، وهو عبث أيضًا.
(4) " القطع " (بفتح فسكون) ، الحال، كما سلف مرارًا شرحه وبيانه، وانظر ما سلف 11: 455 / 12: 477، وفهارس المصطلحات. وقد بين الطبري في هذا الموضع بأحسن البيان عن معنى " القطع "، وقد سلف كلامنا فيه مرارًا.(15/76)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28)
من "المظلم"، فلما صار نكرة وهو من نعت "الليل "، نصب على القطع. وتسمي أهل البصرة ما كان كذلك "حالا"، والكوفيون "قطعًا".
والوجه الآخر: على نحو قول الشاعر: (1)
* لَوْ أَنَّ مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا * (2)
والوجه الأوّل أحسن وجهيه.
وقوله: (أولئك أصحاب النار) ، يقول: هؤلاء الذين وصفت لك صفتهم أهلُ النار الذين هم أهلها (3)
= (هم فيها خالدون) ، يقول: هم فيها ماكثون. (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويوم نجمع الخلق لموقف الحساب جميعًا، (5) ثم نقول حينئذ للذين أشركوا بالله الآلهةَ والأندادَ: = (مكانَكم) ، أي:
__________
(1) هو أبو ذؤيب.
(2) ديوانه: 113، في آخر قصيدة له، ورواية الديوان: لَوْ كان مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا ... أَحْيَى أُبُوَّتَكِ الشُّمَّ الأَمَادِيحُ
وهذا لا شاهد فيه، ويروى: * لَوْ كان مِدْحَةَ حَيٍّ مُنْشِرٌ أَحَدًا *
وهذا شاهد.
(3) انظر تفسير " أصحاب النار " فيما سلف من فهارس اللغة (صحب) .
(4) انظر تفسير " الخلود "، فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(5) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف 13: 529، تعليق: 4، والمراجع هناك.(15/77)
امكثوا مكانكم، وقفوا في موضعكم، أنتم، أيها المشركون، وشُركاؤكم الذين كنتم تعبدونهم من دون الله من الآلهة والأوثان = (فزيّلنا بينهم) ، يقول: ففرقنا بين المشركين بالله وما أشركوه به.
* * *
= [من قولهم: "زِلْت الشيء أزيلُه "، إذا فرّقت بينه] وبين غيره وأبنته منه. (1) وقال: "فزيّلنا" إرادة تكثير الفعل وتكريره، ولم يقل: "فزِلْنا بينهم".
* * *
وقد ذكر عن بعضهم أنه كان يقرؤه: (فَزَايَلْنَا بَيْنَهُمْ) ، كما قيل: (وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ) ، [سورة لقمان: 18] ، والعرب تفعل ذلك كثيرًا في "فعَّلت"، يلحقون فيها أحيانًا ألفًا مكان التشديد، فيقولون: "فاعلت" إذا كان الفعل لواحدٍ. وأما إذا كان لاثنين، فلا تكاد تقول إلا "فاعلت". (2)
* * *
= (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) ، وذلك حين (تبرَّأ الذين اتَّبعوا من الذين اتُّبعوا ورأوا العذاب وتقطَّعت بهم الأسباب، لما قيل للمشركين: "اتبعوا ما كنتم تعبدون من دون الله"، ونصبت لهم آلهتهم، قالوا: "كنا نعبد هؤلاء"!، فقالت الآلهة لهم: (ما كنتم إيانا تعبدون) ، كما:-
17648- حدثت عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: يكون يومَ القيامة ساعةٌ فيها شدة، تنصب لهم الآلهة التي كانوا يعبدون، فيقال: "هؤلاء الذين كنتم تعبدون من دون الله"، فتقول الآلهة: "والله ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نعقل، ولا نعلم أنكم كنتم تعبدوننا"! فيقولون: "والله لإيّاكم
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين، استظهار من نص اللغة لا بد منه، وكان الكلام في المخطوطة سردًا واحدًا، وهو فساد من الناسخ. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 492.
(2) انظر بيان هذا أيضًا في معاني القرآن للفراء 1: 492، فهو نحو منه.(15/78)
فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29)
كنا نعبد"! فتقول لهم الآلهة: (فكفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إنْ كنا عن عبادتكم لغافلين) .
17649- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (ويوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم وشركاؤكم فزيلنا بينهم) ، قال: فرّقنا بينهم = (وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون) ! قالوا: بلى، قد كنا نعبدكم! فقالوا: (كفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم إن كنا عن عبادتكم لغافلين) ، ما كنا نسمع ولا نبصر ولا نتكلم! فقال الله: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) ، الآية.
* * *
وروي عن مجاهد، أنه كان يتأول "الحشر" في هذا الموضع، الموت.
17650- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش قال: سمعتهم يذكرون عن مجاهد في قوله: (ويوم نحشرهم جميعًا) ، قال: الحشر: الموت.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بتأويله، لأن الله تعالى ذكره أخبر أنه يقول يومئذ للذين أشركوا ما ذكر أنه يقول لهم، ومعلومٌ أن ذلك غير كائن في القبر، وأنه إنما هو خبَرٌ عما يقال لهم، ويقولون في الموقف بعد البعث.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) }
قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شركاء المشركين من الآلهة والأوثان لهم يوم القيامة، إذ قال المشركون بالله لها: إياكم كنا نعبد = (كفى(15/79)
هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
بالله شهيدًا بيننا وبينكم) ، أي إنها تقول: حسبُنا الله شاهدًا بيننا وبينكم، أيها المشركون، فإنه قد علم أنّا ما علمنا ما تقولون = (إنا كنا عن عبادتكم لغافلين) ، يقول: ما كنا عن عبادتكم إيانا دون الله إلا غافلين، لا نشعر به ولا نعلم، (1) كما:-
17651- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) ، قال: كُلُّ شيء يعبد من دون الله. (2)
17652- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17653- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد: (إن كنا عن عبادتكم لغافلين) ، قال: يقول ذلك كُلُّ شيء كان يُعْبد من دون الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) }
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة قوله: (هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ) ، بالباء، بمعنى: عند ذلك تختبر كلّ نفس ما قدمت من خيرٍ أو شٍّر. (3)
وكان ممن يقرؤه ويتأوّله كذلك، مجاهدٌ.
__________
(1) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص: 25، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: " قال ذلك كل شيء "، زاد " ذلك " وأثبت ما في المخطوطة، وهو لا بأس به.
(3) في المطبوعة: " بما قدمت " بالباء، لم يحسن قراءة المخطوطة. وانظر تفسير " الابتلاء " فيما سلف من فهارس اللغة (بلا)(15/80)
17654- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت) ، قال: تختبر.
17655- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17656- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة وبعض أهل الحجاز: (تَتْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ) ، بالتاء. (1)
* * *
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه وتأويله: هنالك تتبع كل نفس ما قدَّمت في الدنيا لذلك اليوم. (2)
وروي بنحو ذلك خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، من وجْه وسَنَدٍ غير مرتضى أنه قال: يَمْثُل لكل قوم ما كانوا يعبدون من دون الله يوم القيامة، فيتَّبعونهم حتى يوردوهم النار. قال: ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (هنالك تتلو كل نفس ما أسلفت) . (3)
* * *
وقال بعضهم: بل معناه: يتلو كتاب حسناته وسيئاته. يعني يقرأ، كما قال جل ثناؤه: (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا) ، [سورة الإسراء: 13] .
* * *
وقال آخرون: "تَتْلو" تعاين. (4)
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر هذه القراءة وتفسيرها فيما سلف 2: 411.
(2) انظر تفسير " يتلو " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا) .
(3) " لم أجد نص الخبر في غير هذا المكان. مسندًا ولا غير مسند.
(4) في المطبوعة في المواضع كلها " تبلو " بالباء، وفي المخطوطة غير منقوطة، والصواب بالتاء، وذلك بين أيضًا من سياق التفسير لهذه القراءة.(15/81)
17657- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (هنالك تَتْلو كل نفس ما أسلفت) ، قال: ما عملت. تتلو: تعاينه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنهما قراءتان مشهورتان، قد قرأ بكل واحدة منهما أئمة من القراء، وهما متقاربتا المعنى. وذلك أن من تبع في الآخرة ما أسلفَ من العمل في الدنيا، هجم به على مَوْرده، فيخبر هنالك ما أسلفَ من صالح أو سيئ في الدنيا، وإنّ مَنْ خَبَر من أسلف في الدنيا من أعماله في الآخرة، فإنما يخبرُ بعد مصيره إلى حيث أحلَّه ما قدم في الدنيا من علمه، فهو في كلتا الحالتين مُتَّبع ما أسلف من عمله، مختبر له، فبأيتهما قرأ القارئ كما وصفنا، فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.
* * *
وأما قوله: (وردّوا إلى الله مولاهم الحق) ، فإنه يقول: ورجع هؤلاء المشركون يومئذٍ إلى الله الذي هو ربهم ومالكهم، الحقّ لا شك فيه، دون ما كانوا يزعمون أنهم لهم أرباب من الآلهة والأنداد = (وضل عنخم ما كانوا يفترون) ، يقول: وبطل عنهم ما كانوا يتخرَّصون من الفرية والكذب على الله بدعواهم أوثانهم أنها لله شركاء، وأنها تقرِّبهم منه زُلْفَى، (1) كما:-
17658- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وردوا إلى الله مولاهم الحق وضلّ عنهم ما كانوا يفترون) ، قال: ما كانوا
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.(15/82)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)
يدعون معه من الأنداد والآلهة، ما كانوا يفترون الآلهة، وذلك أنهم جعلوها أندادًا وآلهة مع الله افتراءً وكذبًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الأوثانَ والأصنامَ = (من يرزقكم من السماء) ، الغيثَ والقطر، ويطلع لكم شمسها، ويُغْطِش ليلها، ويخرج ضحاها = ومن الأرض أقواتَكم وغذاءَكم الذي ينْبته لكم، وثمار أشجارها = (أم من يملك السمع والأبصار) يقول: أم من ذا الذي يملك أسماعكم وأبصاركم التي تسمعون بها: أن يزيدَ في قواها، أو يسلبكموها، فيجعلكم صمًّا، وأبصاركم التي تبصرون بها: أن يضيئها لكم وينيرها، أو يذهب بنورها، فيجعلكم عُمْيًا لا تبصرون = (ومن يخرج الحي من الميت) ، يقول: ومن يخرج الشيء الحي من الميت = (ويخرج الميت من الحي) ، يقول: ويخرج الشيء الميت من الحيّ.
* * *
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين من أهل التأويل، والصواب من القول عندنا في ذلك بالأدلّة الدالة على صحته، في "سورة آل عمران"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 6: 304 - 312.(15/83)
فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)
= (ومن يدبر الأمر) ، وقل لهم: من يُدبر أمر السماء والأرض وما فيهن، وأمركم وأمرَ الخلق (1) ؟ = (فسيقولون الله) ، يقول جل ثناؤه: فسوف يجيبونك بأن يقولوا: الذي يفعل ذلك كله الله = (فقل أفلا تتقون) ، يقول: أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم ربًّا غيرَ من هذه الصفة صفتُه، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئًا، ولا يملك لكم ضرًا ولا نفعا، ولا يفعل فعلا؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلا الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لخلقه: أيها الناس، فهذا الذي يفعل هذه الأفعال، فيرزقكم من السماء والأرض، ويملك السمع والأبصار، ويخرج الحي من الميت والميت من الحي، ويدبر الأمر; = (الله ربُّكم الحق) ، لا شك فيه = (فماذا بعد الحق إلا الضلال) ، يقول: فأي شيء سوى الحق إلا الضلال، وهو الجور عن قصد السبيل؟ (2)
يقول: فإذا كان الحقُّ هو ذا، فادعاؤكم غيره إلهًا وربًّا، هو الضلال والذهاب عن الحق لا شك فيه= (فأنى تصرفون) ، يقول: فأيّ وجه عن الهدى والحق تُصرفون، وسواهما تسلكون، وأنتم مقرُّون بأن الذي تُصْرَفون عنه هو الحق؟ (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " تدبير الأمر " فيما سلف ص: 18، 19.
(2) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) .
(3) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف 14: 582، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/84)
كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كما قد صُرِف هؤلاء المشركون عن الحق إلى الضلال = (كذلك حقت كلمة ربك) ، يقول: وجب عليهم قضاؤه وحكمه في السابق من علمه = (على الذين فسقوا) ، فخرجوا من طاعة ربهم إلى معصيته وكفروا به (1) = (أنهم لا يؤمنون) ، يقول: لا يصدِّقون بوحدانية الله ولا بنبوة نبيه صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) .(15/85)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد = (هل من شركائكم) ، يعني من الآلهة والأوثان = (من يبدأ الخلق ثم يعيده) ، يقول: من ينشئ خَلْق شيء من غير أصل، فيحدث خلقَه ابتداءً = (ثم يعيده) ، يقول: ثم يفنيه بعد إنشائه، ثم يعيده كهيئته قبل أن يفنيَه، فإنهم لا يقدرون على دعوى ذلك لها. وفي ذلك الحجة القاطعة والدِّلالة الواضحة على أنهم في دعواهم أنها أربابٌ، وهي لله في العبادة شركاء، كاذبون مفترون.
فقل لهم حينئذ، يا محمد: الله يبدأ الخلق فينشئه من غير شيء، ويحدثه من(15/85)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35)
غير أصل، ثم يفنيه إذا شاء، ثم يعيده إذا أراد كهيئته قبل الفناء = (فأنى تؤفكون) ، يقول: فأيّ وجه عن قصد السبيل وطريق الرُّشد تُصْرَفون وتُقْلَبُون؟ (1) كما:-
17659- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فأنى تؤفكون) ، قال: أنى تصرفون؟
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين في تأويل قوله: (أنى تؤفكون) ، والصواب من القول في ذلك عندنا، بشواهده في "سورة الأنعام". (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لا يَهِدِّي إِلا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ (35) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد لهؤلاء المشركين = (هل من شركائكم) ، الذين تدعون من دون الله، وذلك آلهتهم وأوثانُهم، (من يهدي إلى الحق) يقول: من يرشد ضالا من ضلالته
__________
(1) انظر تفسير " الأفك " فيما سلف 10: 486 / 11: 554 / 14: 208.
(2) انظر ما سلف 11: 554، وقوله أنه ذكر في سورة الأنعام، وهم من أبي جعفر، فإنه لم يفصل بيان معنى " الأفك "، إلا في سورة المائدة (10: 485، 468) . ولم يذكر قط اختلاف المختلفين في تفسيره. فأخشى أن يدل هذا النص، على أن أبا جعفر كان قد باعد بين أطراف تفسيره، فكان ينسى الموضع الذي فصل فيه أحيانًا، بل لعل هذا يدل أيضًا على أنه كان قد شرع في التفسير مطولا، كما ذكر في ترجمته، ثم اختصره هذا الاختصار. ويدل أيضًا، إذا صح ما قلته، على أنه كان قد أعد مادة كتابه إعدادًا تامًا، ثم أدخل في كتابة تفسيره تعديلا كبيرًا، فلم يثبت فيه كل ما كان أعده له. والله تعالى أعلم.(15/86)
إلى قصد السبيل، ويسدِّد جائرًا عن الهدى إلى واضح الطريق المستقيم؟ فإنهم لا يقدرون أن يدَّعوا أن آلهتهم وأوثانهم تُرشد ضالا أو تهدي جائرًا. وذلك أنهم إن ادَّعوا ذلك لها أكذبتهم المشاهدة، وأبان عجزَها عن ذلك الاختبارُ بالمعاينة. فإذا قالوا "لا" وأقرُّوا بذلك، فقل لهم. فالله يهدي الضالَّ عن الهدى إلى الحق= (أفمن يهدي) أيها القوم ضالا إلى الحقّ، وجائرًا عن الرشد إلى الرشد= (أحق أن يتبع) ، إلى ما يدعو إليه (أمْ مَنْ لا يهدِّي إِلا أن يُهدى) ؟
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة: (أَمَّنْ لا يَهْدِّي) بتسكين الهاء، وتشديد الدال، فجمعوا بين ساكنين (1) = وكأنّ الذي دعاهم إلى ذلك أنهم وجَّهوا أصل الكلمة إلى أنه: أم من لا يهتدي، ووجدوه في خطّ المصحف بغير ما قرءوا، (2) وأن التاء حذفت لما أدغمت في الدال، فأقرُّوا الهاء ساكنة على أصلها الذي كانت عليه، وشدَّدوا الدال طلبًا لإدغام التاء فيها، فاجتمع بذلك سكون الهاء والدال. وكذلك فعلوا في قوله: (وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعَدُّوا فِي السَّبْتِ) ، [سورة النساء: 154] ، (3) وفي قوله: (يَخْصِّمُون) ، [سورة يس: 49] . (4)
* * *
وقرأ ذلك بعض قراء أهل مكة والشام والبصرة= " (يَهَدِّي) بفتح الهاء وتشديد الدال. وأمُّوا ما أمَّه المدنيون من الكلمة، غير أنهم نقلوا حركة التاء من "يهتدي": إلى الهاء الساكنة،، فحرَّكوا بحركتها، وأدغموا التاء في الدال فشدّدوها.
* * *
__________
(1) انظر ما قاله في شبه هذه القراءة فيما سلف 9: 362.
(2) في المطبوعة: " بغير ما قرروا "، والصواب ما في المخطوطة.
(3) انظر ما سلف في هذه القراءة 9: 362.
(4) انظر ما سيأتي في هذه القراءة 23: 11 (بولاق) .(15/87)
وقرأ ذلك بعض قراء الكوفة: (يَهِدِّي) ، بفتح الياء، وكسر الهاء، وتشديد الدال، بنحو ما قصدَه قراء أهل المدينة، غير أنه كسر الهاء لكسرة الدال من "يهتدي"، استثقالا للفتحة بعدها كسرةٌ في حرف واحدٍ.
* * *
وقرأ ذلك بعدُ، عامة قراء الكوفيين (1) (أَمْ مَنْ لا يَهْدِي) ، بتسكين الهاء وتخفيف الدال. وقالوا: إن العرب تقول: "هديت" بمعنى "اهتديت"، قالوا: فمعنى قوله: (أم من لا يهدي) : أم من لا يَهْتَدي إلا أن يهدى.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءة في ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ: (أَمْ مَنْ لا يَهَدِّي) بفتح الهاء وتشديد الدال، لما وصفنا من العلة لقارئ ذلك كذلك، وأن ذلك لا يدفع صحته ذو علم بكلام العرب، وفيهم المنكر غيره. وأحقُّ الكلام أن يقرأ بأفصح اللغات التي نزل بها كلامُ الله.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع، أم من لا يهتدي إلى شيء إلا أن يهدي؟
* * *
وكان بعض أهل التأويل يزعم أن معنى ذلك: أم من لا يقدر أن ينتقل عن مكانه إلا أن يُنْقل.
* * *
وكان مجاهد يقول في تأويل ذلك ما:-
17660- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (أفمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدّي إلا أن يهدي) ، قال: الأوثان، الله يهدي منها ومن غيرها من شاء لمن شاء.
__________
(1) في المطبوعة: " وقرأ ذلك بعض عامة قرأة، الكوفيين " جعل " بعد "، " بعض "، فأفسد الكلام وأسقطه.(15/88)
وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
17661- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (أمن لا يهدي إلا أن يهدي) ، قال: قال: الوثن.
* * *
وقوله: (فما لكم كيف تحكمون) ، ألا تعلمون أن من يهدي إلى الحق أحقُّ أن يتبع من الذي لا يهتدي إلى شيء، إلا أن يهديه إليه هادٍ غيره، فتتركوا اتّباع من لا يهتدي إلى شيء وعبادته، وتتبعوا من يهديكم في ظلمات البر والبحر، وتخلصوا له العبادة فتفردوه بها وحده، دون ما تشركونه فيها من آلهتكم وأوثانكم؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما يتبع أكثر هؤلاء المشركين إلا ظنا، يقول: إلا ما لا علم لهم بحقيقته وصحته، بل هم منه في شكٍّ وريبة (1) = (إن الظن لا يغني من الحق شيئًا) ، يقول: إن الشك لا يغني من اليقين شيئًا، ولا يقوم في شيء مقامَه، ولا ينتفع به حيث يُحتاج إلى اليقين (2) = (إن الله عليم بما يفعلون) ، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بما يفعل هؤلاء المشركون، من اتباعهم الظن، وتكذيبهم الحق اليقين، وهو لهم بالمرصاد، حيث لا يُغني عنهم ظنّهم من الله شيئًا. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الظن " فيما سلف من فهارس اللغة (ظنن) .
(2) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف 14: 179، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .(15/89)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما ينبغي لهذا القرآن أن يفترى من دون الله، يقول: ما ينبغي له أن يتخرَّصه أحد من عند غير الله. (1) وذلك نظير قوله: (وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يُغَلَّ) [سورة آل عمران: 161] ، (2) بمعنى: ما ينبغي لنبي أن يغلَّه أصحابُه.
وإنما هذا خبرٌ من الله جل ثناؤه أن، هذا القرآن من عنده، أنزله إلى محمد عبده، وتكذيبٌ منه للمشركين الذين قالوا: "هو شعر وكهانة"، والذين قالوا: "إنما يتعلمه محمد من يحنّس الروميّ". (3)
يقول لهم جل ثناؤه: ما كان هذا القرآن ليختلقه أحدٌ من عند غير الله، لأن ذلك لا يقدر عليه أحدٌ من الخلق= (ولكن تصديق الذي بين يديه) ، أي: يقول تعالى ذكره: ولكنه من عند الله أنزله مصدِّقًا لما بين يديه، أي لما قبله من الكتب التي أنزلت على أنبياء الله، كالتوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه= (وتفصيل الكتاب) ، يقول: وتبيان الكتاب الذي كتبه الله على أمة محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وفرائضه التي فرضها عليهم في
__________
(1) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .
= وتفسير " ما كان " فيما سلف 7: 353 / 14: 509 - 514، 561، 565.
(2) هذه قراءة أهل المدينة والكوفة، بضم الباء وفتح العين، بالبناء للمجهول، وهي غير قراءتنا في مصحفنا. وقد سلف بيانها وتفسيرها واختلاف المختلفين فيها فيما سلف 7: 353، 354. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 464.
(3) في المطبوعة: " يعيش الرومي "، وأثبت ما في المخطوطة، وذاك تصرف لا خير فيه.(15/90)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)
السابق من علمه= يقول: (لا ريب فيه) لا شك فيه أنه تصديق الذي بين يديه من الكتاب وتفصيل الكتاب من عند رب العالمين، لا افتراءٌ من عند غيره ولا اختلاقٌ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أم يقول هؤلاء المشركون: افترى محمد هذا القرآن من نفسه فاختلقه وافتعله؟ قل يا محمد لهم: إن كان كما تقولون إني اختلقته وافتريته، فإنكم مثلي من العَرب، ولساني مثل لسانكم، وكلامي [مثل كلامكم] ، (2) فجيئوا بسورة مثل هذا القرآن.
* * *
و"الهاء" في قوله "مثله"، كناية عن القرآن.
وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: معنى ذلك: قل فأتوا بسورة مثل سورته= ثم ألقيت "سورة"، وأضيف "المثل" إلى ما كان مضافًا إليه "السورة"، كما قيل: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: 82] يراد به: واسأل أهل القرية.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف ص: 57، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " الريب " فيما سلف 14: 459، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " العالمين " فيما سلف 13: 84، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) في المخطوطة: " ولساني مثل لسانكم، وكلامي فجيئوا" أسقط من الكلام ما وضعته بين القوسين استظهارًا، أما المطبوعة، فقد جعلها: " ولساني وكلامي مثل لسانكم "، فأساء.(15/91)
وكان بعضهم ينكر ذلك من قوله، ويزعم أن معناه: فأتوا بقرآن مثل هذا القرآن.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن "السورة" إنما هي سورة من القرآن، وهي قرآن، وإن لم تكن جميع القرآن. فقيل لهم: (فأتوا بسورة مثله) ، ولم يقل: "مثلها"، لأن الكناية أخرجت على المعنى= أعني معنى "السورة"= لا على لفظها، لأنها لو أخرجت على لفظها لقيل: "فأتوا بسورة مثلها".
* * *
= (وادعوا من استطعتم من دون الله) ، يقول: وادعوا، أيها المشركون على أن يأتوا بسورة مثلها مَنْ قدرتم أن تدعوا على ذلك من أوليائكم وشركائكم = (من دون الله) ، يقول: من عند غير الله، فأجمِعُوا على ذلك واجتهدوا، فإنكم لا تستطيعون أن تأتوا بسورةٍ مثله أبدًا.
* * *
وقوله: (إن كنتم صادقين) ، يقول: إن كنتم صادقين في أن محمدًا افتراه، فأتوا بسورة مثله من جميع من يعينكم على الإتيان بها. فإن لم تفعلوا ذلك، فلا شك أنكم كَذَبَةٌ في زعمكم أن محمدًا افتراه، لأن محمدًا لن يَعْدُوَ أن يكون بشرًا مثلكم، فإذا عجز الجميع من الخلق أن يأتوا بسورةٍ مثله، فالواحد منهم عن أن يأتي بجميعه أعجز.
* * *(15/92)
بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)
القول في تأويل قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما بهؤلاء المشركين يا محمد، تكذيبك ولكن بهم التكذيب بما لم يحيطوا بعلمه ممَّا أنزل الله عليك في هذا القرآن، (1) من وعيدهم على كفرهم بربهم= (ولما يأتهم تأويله) ، يقول: ولما يأتهم بعدُ بَيان ما يؤول إليه ذلك الوعيد الذي توعّدهم الله في هذا القرآن (2) = (كذلك كذب الذين من قبلهم) ، يقول تعالى ذكره: كما كذب هؤلاء المشركون، يا محمد، بوعيد الله، كذلك كذّب الأمم التي خلت قبلهم بوعيد الله إياهم على تكذيبهم رسلهم وكفرهم بربهم = (فانظر كيف كان عاقبة الظالمين) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فانظر، يا محمد، كيف كان عُقْبى كفر من كفر بالله، ألم نهلك بعضهم بالرجفة، وبعضهم بالخسْف وبعضهم بالغرق؟ (3) يقول: فإن عاقبة هؤلاء الذي يكذبونك ويجحدون بآياتي من كفار قومك، كالتي كانت عاقبة من قبلهم من كفرة الأمم، إن لم ينيبوا من كفرهم، ويسارعوا إلى التوبة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف ص: 51، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " التأويل " فيما سلف 12: 478، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف 13: 43، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/93)
وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن قومك، يا محمد، من قريش، من سوف يؤمن به يقول: من سوف يصدِّق بالقرآن ويقرُّ أنه من عند الله= (ومنهم من لا يؤمن به) أبدًا، يقول: ومنهم من لا يصدق به ولا يقرُّ أبدًا= (وربك أعلم بالمفسدين) يقول: والله أعلم بالمكذّبين به منهم، الذين لا يصدقون به أبدًا، من كل أحدٍ، لا يخفى عليه، وهو من وراء عقابه. فأما من كتبتُ له أن يؤمن به منهم، فإني سأتوب عليه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإن كذبك، يا محمد، هؤلاء المشركون، وردُّوا عليك ما جئتهم به من عند ربك، فقل لهم: أيها القوم، لي ديني وعملي، ولكم دينكم وعملكم، لا يضرني عملكم، ولا يضركم عملي، وإنما يُجازَى كل عامل بعمله= (أنتم بريئون مما أعمل) ، لا تُؤْاخذون بجريرته= (وأنا برئ مما تعملون) ، لا أوخذ بجريرة عملكم. (2) وهذا كما
__________
(1) انظر تفسير " الفساد " فيما سلف 14: 86، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " بريء " فيما سلف 14: 12، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/94)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42)
قال جل ثناؤه: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) [سورة الكافرون: 1-3] .
* * *
وقيل: إن هذه الآية منسوخة، نسخها الجهاد والأمر بالقتال.
*ذكر من قال ذلك:
17662- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم) الآية، قال: أمرَه بهذا، ثم نَسَخه وأمرَه بجهادهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ومن هؤلاء المشركين من يستمعون إلى قولك= (أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون) ، يقول: أفأنت تخلق لهم السمع، ولو كانوا لا سمع لهم يعقلون به، أم أنا؟
وإنما هذا إعلامٌ من الله عبادَه أن التوفيق للإيمان به بيده لا إلى أحد سواه. يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كما أنك لا تقدر أن تسمع، يا محمد، من سلبته السمع، فكذلك لا تقدر أن تفهم أمري ونهيي قلبًا سلبته فهم ذلك، لأني ختمتُ عليه أنه لا يؤمن.
* * *(15/95)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المشركين، مشركي قومِك، من ينظر إليك، يا محمد، ويرى أعلامك وحُججَك على نبوتك، ولكن الله قد سلبه التوفيقَ فلا يهتدي، ولا تقدر أن تهديه، كما لا تقدر أن تحدِث للأعمى بصرًا يهتدي به= (أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون) ، يقول: أفأنت يا محمد، تحدث لهؤلاء الذين ينظرون إليك وإلى أدلتك وحججك، فلا يوفَّقون للتصديق بك أبصارًا، لو كانوا عُمْيًا يهتدون بها ويبصرون؟ فكما أنك لا تطيق ذلك ولا تقدر عليه ولا غيرك، ولا يقدر عليه أحدٌ سواي، فكذلك لا تقدر على أن تبصِّرهم سبيلَ الرشاد أنت ولا أحدٌ غيري، لأن ذلك بيدي وإليّ.
وهذا من الله تعالى ذكره تسليةٌ لنبيه صلى الله عليه وسلم عن جماعةٍ ممن كفر به من قومه وأدبر عنه فكذب، وتعزية له عنهم، وأمرٌ برفع طمعه من إنابتهم إلى الإيمان بالله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله لا يفعل بخلقه ما لا يستحقون منه، لا يعاقبهم إلا بمعصيتهم إيّاه، ولا يعذبهم إلا بكفرهم به = (ولكن الناس) ، يقول: ولكن الناس هم الذين يظلمون أنفسهم، باجترامهم ما يورثها غضبَ الله وسخطه.(15/96)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
وإنما هذا إعلام من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه لم يسلُبْ هؤلاء الذين أخبر جلّ ثناؤه عنهم أنهم لا يؤمنون الإيمانَ ابتداءً منه بغير جرم سلف منهم= وإخبارٌ أنه إنما سلبهم ذلك باستحقاقٍ منهم سَلْبَه، لذنوبٍ اكتسبوها، فحق عليهم قول ربهم، وطبع على قلوبهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويوم نحشر هؤلاء المشركين فنجمعهم في موقف الحساب، (1) كأنهم كانوا قبل ذلك لم يلبثوا إلا ساعة من نهار يتعارفون فيما بينهم، (2) ثم انقطعت المعرفة، وانقضت تلك الساعة= يقول الله: (قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله وما كانوا مهتدين) ، قد غُبن الذين جحدوا ثوابَ الله وعقابه وحظوظَهم من الخير وهلكوا (3) = (وما كانوا مهتدين) يقول: وما كانوا موفّقين لإصابة الرشد مما فعلوا من تكذيبهم بلقاء الله، لأنه أكسبهم ذلك ما لا قِبَل لهم به من عذاب الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الحشر" فيما سلف ص: 77، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " اللبث " فيما سلف ص: 41.
(3) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف 14: 344، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/97)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإما نرينّك، يا محمد، في حياتك بعضَ الذي نعد هؤلاء المشركين من قومك من العذاب= (أو نتوفينك) قبل أن نريك ذلك فيهم (1) = (فإلينا مرجعهم) ، يقول: فمصيرهم بكل حال إلينا، ومنقلبهم (2) = (ثم الله شهيد على ما يفعلون) ، يقول جل ثناؤه: ثم أنا شاهد على أفعالهم التي كانوا يفعلونها في الدنيا، وأنا عالم بها لا يخفى عليّ شيء منها، (3) وأنا مجازيهم بها عند مصيرهم إليّ ومرجعهم، جزاءهم الذي يستحقُّونه، كما:-
17663- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإما نرينك بعض الذي نعدهم) ، من العذاب في حياتك= (أو نتوفينك) ، قبل= (فإلينا مرجعهم) .
17664- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
17665- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف 14: 15، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص 54، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الشهيد " فيما سلف من فهارس اللغة (شهد) .(15/98)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكل أمة خلت قبلكم، أيها الناس، رسول أرسلته إليهم، كما أرسلت محمدًا إليكم، يدعون من أرسلتهم إليهم إلى دين الله وطاعته= (فإذا جاء رسولهم) ، يعني: في الآخرة، كما:-
17666- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ولكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم) ، قال: يوم القيامة.
* * *
وقوله: (قضى بينهم بالقسط) ، يقول قضي حينئذ بينهم بالعدل (1) = (وهم لا يظلمون) ، من جزاء أعمالهم شيئًا، ولكن يجازي المحسن بإحسانه. والمسيءُ من أهل الإيمان، إما أن يعاقبه الله، وأما أن يعفو عنه، والكافر يخلد في النارِ. فذلك قضاء الله بينهم بالعدل، وذلك لا شكّ عدلٌ لا ظلمٌ.
17667- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قضى بينهم بالقسط) ، قال: بالعدل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: ويقول هؤلاء المشركون من قومك، يا محمد = (متى هذا الوعد) ، الذي تعدنا أنه يأتينا من
__________
(1) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ص: 21، تعليق: 4، والمراجع هناك.(15/99)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)
عند الله؟ وذلك قيام الساعة = (إن كنتم صادقين) ، أنت ومن تبعك، فيما تعدوننا به من ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "قل"، يا محمد، لمستعجليك وعيدَ الله، القائلين لك: متى يأتينا الوعد الذي تعدنا إن كنتم صادقين؟ = (لا املك لنفسي) ، أيها القوم، أي: لا اقدرُ لها على ضرٍّ ولا نفع في دنيا ولا دين (1) = (إلا ما شاء الله) ، أن أملكه، فأجلبه إليها بأذنه.
يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: فإذْ كنت لا أقدر على ذلك إلا بإذنه، فأنا عن القدرة على الوصول إلى علم الغيب ومعرفة قيام الساعة أعجز واعجز، إلا بمشيئته وإذنه لي في ذلك = (لكل أمة أجل) ، يقول: لكل قوم ميقاتٌ لانقضاء مدتهم وأجلهم، فإذا جاء وقت انقضاء أجلهم وفناء أعمارهم (2)
= (لا يستأخرون) ، عنه (ساعة) ، فيمهلون ويؤخرون، (ولا يستقدمون) ، قبل ذلك، لأن الله قضى أن لا يتقدم ذلك قبل الحين الذي قدَّره وقضاه. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملك " فيما سلف 13: 302، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف من فهارس اللغة (أمم) .
= وتفسير " الأجل " فيما سلف ص: 33، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " استأجر " و " استقدم " فيما سلف 12: 404، 405.(15/100)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء المشركين من قومك: أرأيتم إن أتاكم عذاب الله بياتًا، يقول: ليلا أو نهارا، (1)
وجاءت الساعة وقامت القيامة، أتقدرون على دفع ذلك عن أنفسكم؟ يقول الله تعالى ذكره: ماذا يستعجلُ من نزول العذاب، (2) المجرمون الذين كفروا بالله، وهم الصالون بحرِّه دون غيرهم، ثم لا يقدرون على دفعه عن أنفسهم؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أهنالك إذا وقع عذابُ الله بكم أيها المشركون "آمنتم به"، يقول: صدّقتم به في حالٍ لا ينفعكم فيها التصديق، وقيل لكم حينئذ: آلآنَ تصدّقون به، وقد كنتم قبل الآن به تستعجلون، وأنتم بنزوله مكذبون؟ فذوقوا الآن ما كنتم به تكذّبون.
* * *
ومعنى قوله: (أثم) ، في هذا الموضع: أهنالك، وليست "ثُمَّ" هذه هاهنا التي تأتي بمعنى العطف. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " البيات " فيما سلف 12: 299، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الاستعجال " فيما سلف ص: 33.
(3) انظر تفسير " ثم " فيما سلف 2: 535 وفيه تفسير " ثم " المفتوحة، بمعنى: هنالك. وقد قال الطبري في تفسيره 8: 351: " وقيل إن " ثم " ههنا بمعنى " ثم " بفتح التاء فتكون ظرفا، والمعنى: أهنالك، وهو مذهب الطبري. وقال أبو حيان في تفسيره 5: 167 " وقال الطبري في قوله: أثم، بضم الثاء أن معناه: أهنالك، وليست " ثم " هذه ههنا التي تأتي بمعنى العطف، وما قاله الطبري دعوى ".(15/101)
ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ثم قيل للذين ظلموا) ، أنفسهم، بكفرهم بالله= (ذوقوا عذاب الخلد) ، تجرّعوا عذابَ الله الدائم لكم أبدًا، الذي لا فناء له ولا زوال (1) = (هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون) ، يقول: يقال لهم: فانظروا هل تجزون، أي: هل تثابون = (إلا بما كنتم تكسبون) ، يقول: إلا بما كنتم تعملون في حياتكم قبل مماتكم من معاصي الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويستخبرك هؤلاء المشركون من قومك، يا محمد، (3)
فيقولون لك: أحق ما تقول، وما تعدنا به من عذاب الله في الدار الآخرة جزاءً على ما كنا نكسِب من معاصي الله في الدنيا؟ قل لهم يا محمد: "أي وربي إنه لحق "، لا شك فيه، وما أنتم بمعجزي الله إذا أراد ذلك بكم، بهربٍ، أو امتناع، بل أنتم في قبضته وسلطانه وملكه، إذ أراد فعل ذلك بكم، فاتقوا الله في أنفسكم. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص: 49، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " الخلد " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(2) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) ، (كسب) .
(3) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص: 54، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف 14: 131، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/102)
وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أن لكل نفس كفرت بالله = و"ظلمها"، في هذا الموضع، عبادتُها غيرَ من يستحق عبادته، (1) وتركها طاعة من يجب عليها طاعته= (ما في الأرض) ، من قليل أو كثير= (لافتدت به) ، يقول: لافتدت بذلك كلِّه من عذاب الله إذا عاينته (2) = وقوله: (وأسروا الندامة لما رأوا العذاب) ، يقول: وأخفتْ رؤساء هؤلاء المشركين من وضعائهم وسفلتهم الندامةَ حين أبصرُوا عذاب الله قد أحاط بهم، وأيقنوا أنه واقع بهم = (وقضي بينهم بالقسط) ، يقول: وقضى الله يومئذ بين الأتباع والرؤساء منهم بالعدل (3) = (وهم لا يظلمون) ، وذلك أنه لا يعاقب أحدًا منهم إلا بجريرته، ولا يأخذه بذنب أحدٍ، ولا يعذِّب إلا من قد أعذر إليه في الدنيا وأنذر وتابع عليه الحجج.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) }
قال أبو جعفر: يقول جل ذكره: ألا إنّ كل ما في السموات وكل ما في الأرض من شيء، لله مِلْك، لا شيء فيه لأحدٍ سواه. يقول: فليس لهذا الكافر
__________
(1) في المطبوعة: " من يستحق عبادة "، غير ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " الافتداء " فيما سلف من فهارس اللغة (فدى) .
(3) انظر تفسير " القسط " فيما سلف ص: 99، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/103)
هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57)
بالله يومئذٍ شيء يملكه فيفتدي به من عذاب ربّه، وإنما الأشياء كلها للذي إليه عقابه. ولو كانت له الأشياء التي هي في الأرض ثم افتدى بها، لم يقبل منه بدلا من عذابه، فيصرف بها عنه العذاب، فكيف وهو لا شيء له يفتدى به منه، وقد حقَّ عليه عذاب الله؟ يقول الله جل ثناؤه: (ألا إن وعد الله حق) ، يعني أن عذابه الذي أوعد هؤلاء المشركين على كفرهم حقٌّ، فلا عليهم أن لا يستعجلوا به، فإنه بهم واقع لا شك = (ولكن أكثرهم لا يعلمون) ، يقول: ولكن أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون حقيقةَ وقوع ذلك بهم، فهم من أجل جهلهم به مكذِّبون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الله هو المحيي المميت، لا يتعذّر عليه فعلُ ما أراد فعله من إحياء هؤلاء المشركين إذا أراد إحياءهم بعد مماتهم، ولا إماتتهم إذا أراد ذلك، وهم إليه يصيرون بعد مماتهم، فيعاينون ما كانوا به مكذبين من وعيدِ الله وعقابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لخلقه: (يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم) ، يعني: ذكرى تذكركم عقابَ الله وتخوّفكم وعيده (1) = (من
__________
(1) انظر تفسير " الموعظة " فيما سلف 8: 528، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/104)
قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
ربكم) ، يقول: من عند ربكم، لم يختلقها محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يفتعلها أحد، فتقولوا: لا نأمن أن تكون لا صحةَ لها. وإنما يعني بذلك جلّ ثناؤه القرآن، وهو الموعظة من الله.
وقوله: (وشفاء لما في الصدور) ، يقول: ودواءٌ لما في الصدور من الجهل، يشفي به الله جهلَ الجهال، فيبرئ به داءهم، ويهدي به من خلقه من أراد هدايته به = (وهدى) ، يقول: وهو بيان لحلال الله وحرامه، ودليلٌ على طاعته ومعصيته = (ورحمة) ، يرحم بها من شاء من خلقه، فينقذه به من الضلالة إلى الهدى، وينجيه به من الهلاك والردى. وجعله تبارك وتعالى رحمة للمؤمنين به دون الكافرين به، لأن من كفر به فهو عليه عمًى، وفي الآخرة جزاؤه على الكفر به الخلودُ في لظًى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد لهؤلاء المكذِّبين بك وبما أنزل إليك من عند ربك= (1) (بفضل الله) ، أيها الناس، الذي تفضل به عليكم، وهو الإسلام، فبيَّنه لكم، ودعاكم إليه = (وبرحمته) ، التي رحمكم بها، فأنزلها إليكم، فعلَّمكم ما لم تكونوا تعلمون من كتابه، وبصَّركم بها معالم دينكم، وذلك القرآن = (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، يقول: فإن الإسلام الذي دعاهم إليه، والقرآن الذي أنزله عليهم، خيرٌ مما يجمعون من حُطَام الدنيا وأموالها وكنوزها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " لهؤلاء المشركين بك "، وهو فاسد جدًا، ورجحت أن الصواب ما أثبت.(15/105)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17668- حدثني علي بن الحسن الأزدي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال: بفضل الله القرآن (وبرحمته) أن جعَلَكم من أهله. (1)
17669- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل، عن منصور، عن هلال بن يساف: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال: بالإسلام الذي هداكم، وبالقرآن الذي علّمكم.
17670- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف: (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال: بالإسلام والقرآن= (فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، من الذهب والفضَّة.
17671- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال: "فضل الله"، الإسلام، و"رحمته"، القرآن.
17672- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال: الإسلام والقرآن.
__________
(1) الأثر: 17668- " علي بن الحسن الأزدي " شيخ الطبري، مضى برقم: 10258، وأننا لم نجد له ترجمة. وكان في المطبوعة هنا "بن الحسين" وهو خطأ، وقع مثله عندنا في هامش التعليق علىالأثر المذكور 9: 98، تعليق: 1(15/106)
17673- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف مثله.
17674- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال، مثله.
17675- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، أما فضله فالإسلام، وأما رحمته فالقرآن.
17676- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال: فضله: الإسلام، ورحمته القرآن.
17677- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قل بفضل الله وبرحمته) ، قال: القرآن.
17678- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وبرحمته) ، قال: القرآن.
17679- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، قوله: (هو خير مما يجمعون) ، قال: الأموال وغيرها.
17680- حدثنا علي بن داود قال، حدثني أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (قل بفضل الله وبرحمته) يقول: فضله: الإسلام، ورحمته: القرآن.
17681- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن هلال: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال: بكتاب الله، وبالإسلام= (هو خير مما يجمعون) .
* * *(15/107)
وقال آخرون: بل "الفضل": القرآن= و"الرحمة"، الإسلام.
*ذكر من قال ذلك:
17682- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، قال: (بفضل الله) ، القرآن، (وبرحمته) ، حين جعلهم من أهل القرآن.
17683- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، قال: "فضل الله"، القرآن، و"رحمته"، الإسلام.
17684- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون، قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قوله: (قل بفضل الله وبرحمته) قال: (بفضل الله) القرآن، (وبرحمته) ، الإسلام.
17685- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا) ، قال: كان أبي يقول: فضله القرآن، ورحمته الإسلام.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (فبذلك فليفرحوا) .
فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار: (فَلْيَفْرَحُوا) بالياء (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) بالياء أيضًا على التأويل الذي تأولناه، من أنه خبر عن أهل الشرك بالله. يقول: فبالإسلام والقرآن الذي دعاهم إليه، فليفرح هؤلاء المشركون، لا بالمال الذي يجمعون، فإن الإسلام والقرآن خيرٌ من المال الذي يجمعون، وكذلك:-
17686- حدثت عن عبد الوهاب بن عطاء، عن هارون، عن أبي التيّاح:(15/108)
(فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون) ، يعني الكفار.
* * *
ورُوي عن أبيّ بن كعب في ذلك ما:-
17687- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أسلم المنقري، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب: أنه كان يقرأ: (فَبِذَلِكَ فَلْتَفْرَحُوا هُوَ خُيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ، بالتاء.
17688- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الأجلح، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبي بن كعب، مثل ذلك.
* * *
وكذلك كان الحسن البصري يقول: غير أنه فيما ذُكر عنه كان يقرأ قوله: (هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) ، بالياء; الأول على وجه الخطاب، والثاني على وجه الخبر عن الغائب.
* * *
وكان أبو جعفر القارئ، فيما ذكر عنه، يقرأ ذلك نحو قراءة أبيّ، بالتاء جميعًا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ما عليه قراء الأمصار من قراءة الحرفين جميعًا بالياء: (فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) لمعنيين:
أحدهما: إجماع الحجة من القراء عليه.
والثاني: صحته في العربية، وذلك أن العرب لا تكاد تأمر المخاطب باللام والتاء، وإنما تأمره فتقول: "افعل ولا تفعل".
وبعدُ، فإني لا أعلم أحدًا من أهل العربية إلا وهو يستردئ أمر المخاطب باللام، ويرى أنها لغة مرغوب عنها، غير الفراء، فإنه كان يزعم أن الّلام في(15/109)
الأمر [هي البناء الذي خلق له] ، (1) واجهتَ به أم لم تُوَاجِهْ، إلا أن العرب حذفت اللام من فعل المأمور المواجَه، لكثرة الأمر خاصةً في كلامهم، كما حذَفوا التاء من الفعل. قال: وأنت تعلم أن الجازم والناصب لا يقعان إلا على الفعل الذي أوله الياء والتاء والنون والألف، فلما حُذِفت التاء ذهبت اللام، وأُحدِثَت الألف في قولك: "اضرب" و"افرح"، لأن الفاء ساكنة، فلم يستقم أن يستأنف بحرف ساكنٍ، فأدخلوا ألفًا خفيفة يقع بها الابتداء، كما قال: (ادَّارَكُوا) ، [سورة الأعراف: 38] (2)
و (اثَّاقَلْتُمْ) ، [سورة التوبة: 38] . (3)
وهذا الذي اعتلّ به الفراء عليه لا له، وذلك أن العَرب إن كانت قد حذفت اللام في المواجَه وتركتها، فليس لغيرها إذا نطق بكلامها أن يُدْخِل فيها ما ليس منه ما دام متكلِّمًا بلغتها. فإن فعل ذلك، كان خارجًا عن لغتها، وكتابُ الله الذي أنزله على محمد بلسانها، (4) فليس لأحدٍ أن يتلوه إلا بالأفصح من كلامها، وإن كان معروفًا بعضُ ذلك من لغة بعضها، فكيف بما ليس بمعروف من لغة حيّ ولا قبيلة منها؟ وإنما هو دعوى لا تثبتُ بها [حجّة] ولا صحة. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " أن اللام في ذي التاء الذي خلق له "، وهو كلام ساقط بمرة واحدة. وكان في المخطوطة: " أن اللام هي البناء. . . "، والزيادة التي بين القوسين من عندي، لأن الناسخ أسقط: كما هو ظاهر. واستظهرت ذلك من كتاب الفراء، وهذا كله نصه، كما سيأتي.
(2) في المطبوعة: " ادراكتم "، وفي المخطوطة " قالوا: ادراكوا واثاقلتم "، وأثبت نص الفراء.
(3) هذا كله نص الفراء في معاني القرآن 1: 469.
(4) في المطبوعة: " وكلام الله "، والجيد ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: " لا ثبت بها ولا حجة "، وفي المخطوطة: " لا تثبت بها ولا صحة " فزدت " حجة " بين القوسين، لاقتضاء السياق إياها.(15/110)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنزلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد لهؤلاء المشركين: (أرأيتم) أيها الناس = (ما أنزل الله لكم من رزق) ، يقول: ما خلق الله لكم من الرزق فخَوَّلكموه، وذلك ما تتغذون به من الأطعمة = (فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، يقول: فحللتم بعضَ ذلك لأنفسكم، وحرمتم بعضه عليها، وذلك كتحريمهم ما كانوا يحرِّمونه من حُروثهم التي كانوا يجعلونها لأوثانهم، كما وصفهم الله به فقال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا) [سورة الأنعام: 136] .
ومن الأنعام ما كانوا يحرّمونه بالتبحير والتسيبب ونحو ذلك، مما قدّمناه فيما مضى من كتابنا هذا. (1)
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل] يا محمد (آلله أذن لكم) بأن تحرِّموا ما حرَّمتم منه (أم على الله تفترون) ،: أي تقولون الباطل وتكذبون؟ (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17689- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: إن أهل الجاهلية كانوا يحرمون أشياء أحلها الله من الثياب وغيرها، وهو قول الله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه
__________
(1) انظر ما سلف 11: 116 - 134.
(2) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .(15/111)
حرامًا وحلالا) وهو هذا. فأنزل الله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ) الآية [سورة الأعراف: 32] .
17690- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم) إلى قوله: (أم على الله تفترون) ، قال: هم أهل الشرك.
17691- حدثني القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس، قوله: (فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، قال: الحرث والأنعام = قال ابن جريج قال، مجاهد: البحائر والسُّيَّب.
17692- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فجعلتم منه حرامًا وحلالا) قال: في البحيرة والسائبة.
17693- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، الآية، يقول: كل رزق لم أحرِّم حرَّمتموه على أنفسكم من نسائكم وأموالكم وأولادكم، آلله أذن لكم فيما حرمتم من ذلك، أم على الله تفترون؟
17694- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، فقرأ حتى بلغ: (أم على الله تفترون) ، وقرأ: (وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا) [سورة الأنعام: 139] ، وقرأ: (وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ) حتى بلغ: (لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا) [سورة الأنعام: 138] فقال: هذا قوله: جعل لهم رزقًا، فجعلوا منه حرامًا وحلالا وحرموا بعضه وأحلوا بعضه.(15/112)
وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
وقرأ: (ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنْثَيَيْنِ) ، أيّ هذين حرم على هؤلاء الذين يقولون وأحل لهؤلاء، (نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا) ، إلى آخر الآيات، [سورة الأنعام: 144] .
17695- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حرامًا وحلالا) ، هو الذي قال الله: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيبًا) إلى قوله: (سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ) ، [سورة الأنعام: 136] .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما ظن هؤلاء الذين يتخرَّصون على الله الكذبَ فيضيفون إليه تحريم ما لم يحرّمه عليهم من الأرزاق والأقوات التي جعلها الله لهم غذاءً، أنَّ الله فاعلٌ بهم يوم القيامة بكذبهم وفريتهم عليه؟ أيحسبون أنه يصفح عنهم ويغفر؟ كلا بل يصليهم سعيرًا خالدين فيها أبدًا = (إن الله لذو فضل على الناس) ، يقول: إن الله لذو تفضُّل على خلقه بتركه معاجلة من افترى عليه الكذب بالعقوبة في الدنيا، وإمهاله إياه إلى وروده عليه في القيامة(15/113)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
= (ولكن أكثرهم لا يشكرون) ، يقول: ولكن أكثر الناس لا يشكرونه على تفضُّله عليهم بذلك، وبغيره من سائر نعمه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وما تكون) ، يا محمد= (في شأن) ، يعني: في عمل من الأعمال= (وما تتلوا منه من قرآن) ، يقول: وما تقرأ من كتاب الله من قرآن (1)
(ولا تعملون من عمل) ، يقول: ولا تعملون من عمل أيها الناس، من خير أو شر= (إلا كنَّا عليكم شهودًا) ، يقول: إلا ونحن شهود لأعمالكم وشئونكم، إذ تعملونها وتأخذون فيها. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك رُوي القول عن ابن عباس وجماعة.
ذكر من قال ذلك:
17696- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إذ تفيضون فيه) ، يقول: إذ تفعلون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا.) .
(2) انظر تفسير " الإفاضة " فيما سلف 4: 170.(15/114)
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تشيعون في القرآن الكذبَ.
*ذكر من قال ذلك:
17697- حدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: (إذ تفيضون فيه) ، يقول: تشيعون في القرآن من الكذب. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ تفيضون في الحق.
*ذكر من قال ذلك:
17698- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيقة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إذ تفيضون فيه) ، في الحق ما كان.
17699-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17700- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأنه تعالى ذكره أخبر أنه لا يعمل عباده عملا إلا كان شاهدَه، ثم وصل ذلك بقوله: (إذ يفيضون فيه) ، فكان معلومًا أن قوله: (إذ تفيضون فيه) إنما هو خبرٌ منه عن وقت عمل العاملين أنه له شاهد= لا عن وَقْت تلاوة النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، لأن ذلك لو كان خبرًا عن شهوده تعالى ذكره وقتَ إفاضة القوم في القرآن، لكانت القراءة بالياء: "إذ يفيضون فيه" خبرًا منه عن المكذبين فيه.
فإن قال قائل: ليس ذلك خبرًا عن المكذبين، ولكنه خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، (2) أنه شاهده إذْ تلا القرآن.
__________
(1) في المطبوعة: " فتشيعون " بالفاء، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " ولكن خطاب "، بحذف الهاء، وأثبتها من المخطوطة.(15/115)
=فإن ذلك لو كان كذلك لكان التنزيل: (إذ تفيضون فيه) ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم واحدٌ لا جمع، كما قال: (وما تتلوا منه من قرآن) ، فأفرده بالخطاب= ولكن ذلك في ابتدائه خطابَه صلى الله عليه وسلم بالإفراد، ثم عَوْده إلى إخراج الخطاب على الجمع نظير قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) ، [سورة الطلاق: 1] ، وذلك أن في قوله: (إذا طلقتم النساء) ، دليلا واضحًا على صرفه الخطابَ إلى جماعة المسلمين مع النبي صلى الله عليه وسلم مع جماعة الناس غيره، لأنه ابتدأ خطابه، ثم صرف الخطابَ إلى جماعة الناس، والنبي صلى الله عليه وسلم فيهم.
=وخبرٌ عن أنه لا يعمل أحدٌ من عباده عملا إلا وهو له شاهد، (1) يحصى عليه ويعلمه كما قال: (وما يعزب عن ربك) ، يا محمد، عمل خلقه، ولا يذهب عليه علم شيء حيث كان من أرض أو سماء.
* * *
وأصله من "عزوب الرجل عن أهله في ماشيته"، وذلك غيبته عنهم فيها، يقال منه: "عزَبَ الرَّجل عن أهله يَعْزُبُ ويَعْزِبُ".
* * *
=لغتان فصيحتان، قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القراء. وبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما واستفاضتهما في منطق العرب، غير أني أميل إلى الضم فيه، لأنه أغلب على المشهورين من القراء.
* * *
وقوله: (من مثقال ذرة) ، يعني: من زنة نملة صغيرة.
* * *
يحكى عن العرب: "خذ هذا فإنه أخف مثقالا من ذاك، أي: أخفُّ وزنًا. (2)
* * *
__________
(1) قوله: " وخبر عن أنه لا يعمل أحد " معطوف على قوله في أول هذه الفقرة: " إنما هو خبر عن وقت عمل العاملين. . . ".
(2) انظر تفسير " المثقال " فيما سلف 8: 360، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 278، وهو نص كلامه.(15/116)
و"الذرّة" واحدة: "الذرّ"، و"الذرّ"، صغار النمل. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وذلك خبَرٌ عن أنه لا يخفى عليه جل جلاله أصغر الأشياء، وإن خف في الوزن كلّ الخفة، ومقاديرُ ذلك ومبلغه، ولا أكبرها وإن عظم وثقل وزنه، وكم مبلغ ذلك. يقول تعالى ذكره لخلقه: فليكن عملكم أيها الناس فيما يرضي ربَّكم عنكم، فإنّا شهود لأعمالكم، لا يخفى علينا شيء منها، ونحن محصُوها ومجازوكم بها.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (ولا أصغر من ذلك ولا أكبر) .
فقرأ ذلك عامة القراء بفتح الراء من (أَصْغَرَ) و (أَكْبَرَ) على أن معناها الخفض، عطفًا بالأصغر على الذرة، وبالأكبر على الأصغر، ثم فتحت راؤهما، لأنهما لا يُجْرَيان.
* * *
وقرأ ذلك بعض الكوفيين: [وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ] رفعًا، عطفًا بذلك على معنى المثقال، لأن معناه الرفع. وذلك أن (مِنْ) لو ألقيت من الكلام، لرفع المثقال، وكان الكلام حينئذٍ: "وما يعزُب عن ربك مثقالُ ذرة ولا أصغرُ من مثقال ذرة ولا أكبرُ"، وذلك نحو قوله: (مِنْ خَالِقٍ غَيْرِ اللهِ) ، و (غَيْرُ اللهِ) ، [سورة فاطر: 3] . (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ بالفتح، على وجه الخفض والردّ على الذرة، لأن ذلك قراءة قراء الأمصار، وعليه عَوَامٌّ القراء،
__________
(1) انظر تفسير " الذرة " فيما سلف 8: 360، 361.
(2) لم يذكر أبو جعفر قراءة الرفع في هذه الآية، في موضعها من تفسير " سورة فاطر "، فيما سيأتي 22: 77 (بولاق) ، وسأشير إلى ذلك في موضعه هناك. وهذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر، تفسيره في مواضع، كما أشرت إليه في كثير من تعليقاتي.(15/117)
وهو أصحُّ في العربية مخرجًا، وإن كان للأخرى وجهٌ معروفٌ.
* * *
وقوله: (إلا في كتاب) ، يقول: وما ذاك كله إلا في كتاب عند الله = (مبين) ، عن حقيقة خبر الله لمن نظر فيه. (1) أنه لا شيء كان أو يكون إلا وقد أحصاه الله جل ثناؤه فيه، وأنه لا يعزُب عن الله علم شيء من خلقه حيث كان من سمائه وأرضه.
* * *
17701- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وما يعزب) ، يقول: لا يغيب عنه.
17702- حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا عبد الله قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد، عن ابن عباس: (وما يعزب عن ربك) ، قال: ما يغيب عنه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .(15/118)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن أنصار الله لا خوف عليهم في الآخرة من عقاب الله، لأن الله رضي عنهم فآمنهم من عقابه = ولا هم يحزنون على ما فاتهم من الدنيا.
* * *
و"الأولياء" جمع "ولي"، وهو النصير، وقد بينا ذلك بشواهده. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) ، ولكن ههنا تفصيل في معنى " أولياء الله "، لم يسبق له نظير.(15/118)
واختلف أهل التأويل فيمن يستحق هذا الاسم.
فقال بعضهم: هم قومٌ يُذْكَرُ الله لرؤيتهم، لما عليهم من سيما الخير والإخبات.
*ذكر من قال ذلك:
17703- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان قال، حدثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، قال: الذين يُذْكَرُ الله لرؤيتهم.
17704- حدثنا أبو كريب وأبو هشام قالا حدثنا ابن يمان، عن أشعث بن إسحاق، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. (1)
17705- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن أبي الضحى، مثله.
17706- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن العلاء بن المسيب، عن أبيه: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، قال: الذي يُذْكَر الله لرؤيتهم.
17707-. . . . قال، حدثنا ابن مهدي وعبيد الله، عن سفيان، عن العلاء بن المسيب، عن أبي الضحى قال: سمعته يقول في هذه الآية: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، قال: من الناس مَفَاتِيح، (2) إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم.
__________
(1) الأثر: 17704 - " أشعث بن سعد بن مالك القمي "، ثقة، مضى برقم: 78، وهذا خبر مرسل.
(2) " مفاتيح "، جمع " مفتاح "، وهو الذي يفتح به الباب. وهذا مجاز، إنما أراد أنهم يفتحون باب الخير للناس، وأعظم الخير ذكر الله سبحانه وتعالى.(15/119)
17708-. . . . قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن سَهْل أبي الأسد، عن سعيد بن جبير، قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن "أولياء الله"، فقال: الذين إذا رُؤُوا ذُكر الله. (1)
17709-. . . . قال، حدثنا زيد بن حباب، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي وائل، عن عبد الله: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، قال: الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله لرؤيتهم
17710-. . . . قال، حدثنا أبو يزيد الرازي، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر اللهُ.
17711- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا فرات، عن أبي سعد، عن سعيد بن جبير قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن "أولياء الله"، قال: هم الذين إذا رُؤُوا ذُكِر الله.
17712-. . . . قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام، عن عبد الله بن أبي الهذيل في قوله: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، الآية، قال: إن ولي الله إذا رُئِي ذُكِر الله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
17713- حدثنا أبو هاشم الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 17708 - " سهل أبو الأسد القراري الحنفي " ثقة، مترجم في الكبير 2 / 2 / 100، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 206، وكان في المطبوعة: " سهل بن الأسد "، وهو تصرف من الناشر وفساد، غير ما في المخطوطة. و " القراري "، بالقاف، قال البخاري: " وقرار، قبيلة "، وهي من حنيفة، من بكر ومما يذكر في كتب الرجال " سهل الفزاري " بالفاء " وسهل بن قلان القراري بالقاف وهو عندهم مجهول، وأخشى أن يكون هو " سهل القراري "، انظر أيضًا ابن أبي حاتم 2 / 1 / 206، وميزان الاعتدال 1: 431، ولسان الميزان 3: 123. ومهما يكن، فهذا خبر مرسل، عن سعيد بن جبير.(15/120)
أبي عن عمارة بن القعقاع الضبي، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله عبادًا يغبطهم الأنبياء والشهداء! قيل: من هم يا رسول الله؟ فلعلنا نحبُّهم! قال: هم قوم تحابُّوا في الله من غير أموالٍ ولا أنساب، وجوههم من نور، على منابر من نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . (1)
17714- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عمارة، عن أبي زرعة، عن عمر بن الخطاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من عباد الله لأناسًا ما هم بأنبياء ولا شهداء، يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة بمكانهم من الله! قالوا: يا رسول الله، أخبرنا من هم وما أعمالهم؟ فإنا نحبهم لذلك! قال: هم قوم تحابُّوا في الله بروح الله، على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوا الله إن وجوههم لنورٌ، وإنهم لعلى نور، لا يخافون إذا خاف الناس، ولا يحزنون إذا حزن الناس. وقرأ هذه الآية: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) . (2)
__________
(1) الأثر: 17713 - " ابن فضيل "، هو " محمد بن فضيل بن غزوان الضبي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: 14247. وكان في المطبوعة والمخطوطة " أبو فضيل " وهو خطأ، صوابه من تفسير ابن كثير 4: 314، إذ نقل هذا الخبر عن هذا الموضع من التفسير. وأبوه: " فضيل بن غزوان الضبي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 14247. و" عمارة بن القعقاع الضبي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 14203، 14209، 14715. و" أبو زرعة بن عمرو بن جرير بن عبد الله البجلي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة. مضى مرارًا آخرها رقم: 14715، وكان في المطبوعة والمخطوطة: " أبو زرعة، عن عمرو بن حمزة "، ومثله في المخطوطة، و"حمزة " سيئة الكتابة وإنما هي " جرير "، دخل حرف منها على حرف. وقد مضى الخطأ في اسمه مرارًا. وهذا إسناد صحيح.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 310، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي.
(2) الأثر: 17714 - سلف بيان رجاله في الإسناد السابق، إلا أن أبا زرعة بن عمرو بن جرير، لم يرو عن عمر إلا مرسلا، فهو إسناد جيد إلا أنه منقطع.(15/121)
17715- حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب، عن عبد الرحمن بن غنم، عن أبي مالك الأشعري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يأتي من أفْنَاء الناس ونوازع القبائل، (1) قوم لم تَصل بينهم أرحام متقاربة، (2) تحابُّوا في الله، وتصافَوْا في الله، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور، فيجلسهم عليها، يفزع الناس فلا يفزعون، وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. (3)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: "الولي" = أعني
__________
(1) "أفناء الناس" أخلاطهم، ومن لا يدري من أي قبيلة هو. و"نوازع القبائل" جمع "نازع" على غير قياس، وهم الغرباء الذين يجاورون قبائل ليسوا منهم. وإنما قلت: "جمع على غير قياس " لأن المشهور "نزاع القبائل" كما ورد في حديث آخر. و"فاعل" الصفة للمذكر، لا يجمع عندهم على "فواعل" إلا سماعًا، نحو "فوارس" و"هوالك".
(2) في المطبوعة: "لم يتصل "، والصواب من المخطوطة ومسند أحمد
(3) الأثر: 17715- " بحر بن نصر بن سابق الخولاني المصري " شيخ الطبري، ثقة مضى برقم: 3841، 10588، 10647، وكان في المطبوعة هنا " الحسن بن نصر الخولاني " لا أدري من أين جاء به هكذا، فأصاب بعض الصواب؟ وهذا عجب. أما المخطوطة، ففيها ا"لحسن بن الخولاني "، والصواب ما أثبت. وروايته عن "يحيى بن حسان" مضت برقم: 2643، إلا أنه وقع هناك خطأ أيضًا في اسمه، فكتب " يحيى بن نصر"، وقد خبطنا في تصحيفه خبط عشواء، والصواب " بحر بن نصر " فليصحح هناك. و"يحيى بن حسان التنيسي المصري "، ثقة، مضى برقم: 2643، والراوي عنه هناك " بحر بن نصر" أيضًا، كما سلف. و"عبد الحميد بن بهرام الفزاري "، ثقة، وثقه أحمد وغيره، مضى مرارًا، آخرها رقم: 17417. و"شهر بن حوشب" مضى مرارًا كثيرة، ومضى توثيقه، وثقه أخي أحمد السيد، رحمه الله وغفر له. و" عبد الرحمن بن غنم الأشعري "، مختلف في صحبته، ويعد من الطبقة الأولى من التابعين، بعثه عمر بن الخطاب يفقه الناس، ولازم معاذ بن جبل، وكان أفقه أهل الشام، وهو الذي فقه عامة التابعين بالشام، وكان له جلالة وقدر. وأبو مالك الأشعري " هو المشهور بكنيته، والمختلف في اسمه، صحابي، مترجم في الإصابة والتهذيب وسائر الكتب. وهذا خبر صحيح الإسناد. رواه أحمد في مسنده مطولا 5: 343، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 310، وزاد نسبته إلى ابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي.(15/122)
الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63)
"ولي الله"= هو من كان بالصفة التي وصفه الله بها، وهو الذي آمن واتقى، كما قال الله (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:
17716- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (ألا إنّ أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، من هم يا ربّ؟ قال: (الذين آمنوا وكانوا يتقون) ، قال: أبى أن يُتَقَبَّل الإيمان إلا بالتقوى. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين صدقوا لله ورسوله، وما جاء به من عند الله، وكانوا يتَّقون الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه.
* * *
وقوله: (الذين آمنوا) من نعت "الأولياء"، ومعنى الكلام: ألا إن أولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
* * *
فإن قال قائل: فإذ كان معنى الكلام ما ذكرت عندك، أفي موضع رفع (الذين آمنوا) أم في موضع نصب؟
قيل: في موضع رفع. وإنما كان كذلك، وإن كان من نعت "الأولياء"، لمجيئه بعد خبر "الأولياء"، والعرب كذلك تفعل خاصة في "إنّ"، إذا جاء نعت الاسم الذي عملت فيه بعد تمام خبره رفعوه فقالوا: "إن أخاك قائم الظريفُ"،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة " أن يتقبل"، والصواب ما أثبت.(15/123)
لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
كما قال الله: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ) ، [سورة سبأ: 48] ، وكما قال: (إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) ، [سورة ص: 64] . (1)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك، مع أن إجماع جميعهم على أن ما قلناه هو الصحيح من كلام العرب. وليس هذا من مواضع الإبانة عن العلل التي من أجلها قيل ذلك كذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: البشرى من الله في الحياة الدنيا وفي الآخرة، لأولياء الله الذين آمنوا وكانوا يتقون. (2)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في "البشرى"، التي بشر الله بها هؤلاء القوم ما هي؟ وما صفتها؟ فقال بعضهم: هي الرؤية الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة.
*ذكر من قال ذلك:
17717- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن ذكوان، عن شيخ، عن أبى الدرداء، قال: سألت رسول الله
__________
(1) انظر معاني القرآن 1: 470، 471.
(2) انظر تفسير " البشرى " فيما سلف 14: 508، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/124)
صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرَى له. (1)
17718- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال: أخبرنا الأوزاعي قال، أخبرني يحيى بن أبي كثير قال، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال: سأل عبادةُ بن الصامت رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن هذه الآية: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك =أو قال: غيرك=. قال: هي الرؤية الصالحة يراها الرجل الصالح، أو تُرَى له. (2)
__________
(1) الأثر: 17717 - حديث أبي الدرداء، رواه أبو جعفر من طرق، أصنفها في هذا الموضع لأحيل عليها في تخريج الآثار، أثرًا أثرًا.
1 - طريق ذكوان (أبي صالح السمان) ، عن شيخ، عن أبي الدرداء، رقم: 17717، 17733.
2 - طريق ذكوان (أبي صالح السمان) ، عن أبي الدرداء، بلا واسطة، رقم: 17735، 17741.
3 - طريق عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء، بخمسة أسانيد، رقم: 17722، 17723، 17724، 17734، 17737.
4 - طريق عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء، بلا واسطة، رقم: 17736، 17743.
5 - طريق عمرو بن دينار، عن فقيه من أهل مصر، عن أبي الدرداء، رقم: 17738.
6 - طريق عمرو بن دينار، عن أبي الدرداء، بلا واسطة، رقم: 17743.
وهذا تفسير الإسناد رقم: 17717.
" سليمان "، هو الأعمش "، " سليمان بن مهران "، تابعي ثقة، مضى مرارًا.
و" شيخ "، مجهول، وظاهر أنه تابعي. وعلة هذا الإسناد، جهالة " الشيخ " الذي روى عنه أبو صالح السمان، وسائر الإسناد صحيح حسن. وسيأتي في رقم: 17722، 17734، 17736، 17737، برواية أبي صالح، عن عطاء بن يسار في الطريق الثانية، والثالثة كما فصلتها آنفا.
(2) الأثر: 17718 - حديث عبادة بن الصامت من ثلاث طرق:
1 - طريق يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بسبعة أسانيد، رقم:
17718، 17719، 17720، 17721، 17731، 17739، 17740.
2 - طريق حميد بن عبد الله المزني، عن عبادة بن الصامت، بإسنادين، رقم: 17725، 17756.3 - طريق أيوب بن خالد بن صفوان، عن عبادة رقم: 17730. وهذا تفسير إسنادنا هذا." العباس بن الوليد بن مزيد الآملي البيروتي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 13461. وأبوه: " الوليد بن مزيد الآملي البيروتي " ثقة، قال الأوزاعي شيخه: " كتبه صحيحة "، مضى برقم: 11821، 13461. و" الأوزاعي "، هو الإمام المشهور." ويحيى بن أبي كثير الطائي "، ثقة، مضى برقم: 9189، 11505، 12760." وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري "، ثقة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 12822.وانظر التعليق على رقم: 17720 في سماع أبي سلمة من عبادة بن الصامت.وهذا إسناد لم أجده عن طريق الأوزاعي، وانظر التعليق على سائر حديث عبادة بن الصامت في الأرقام التي ذكرتها آنفا.(15/125)
17719- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو داود عمن ذكره، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: (الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هي الرؤية الصالحة يراها المسلم أو تُرى له. (1)
17720- حدثنا أبو قلابة قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (2)
__________
(1) الأثر: 17719 - هذا الإسناد لم أجده في سنن أبي داود، يضعفه جهالة الراوي عن يحيى بن أبي كثير، ويسنده سائر الآثار التي رويت عن ثقات، عن يحيى بن أبي كثير.
(2) الأثر: 17720 - " أبو قلابة "، هو " عبد الملك بن محمد بن عبد الله الرقاشي الضرير " شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم: 4331، 5623."ومسلم، " هو " مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: 13518." وأبان "، هو " أبان بن يزيد العطار "، ثقة. مضى مرارًا آخرها رقم: 13518." وأبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف "، لم يسمع من عبادة بن الصامت، يدل على ذلك الأثر التالي، وقوله فيه: " نبئت عن عبادة بن الصامت ". فقد ذكر المزي: " أنه لم يسمع من طلحة، وعبادة بن الصامت. فأما عدم سماعه من طلحة فرواه ابن أبي خيثمة والدوري عن ابن معين. وأما عدم سماعه من عبادة، فقاله ابن خراش. ولئن كان كذلك، فلم يسمع أيضًا من عثمان ولا من أبي الدرداء، فإن كلا منهما مات قبل طلحة "، التهذيب في ترجمته.فإذا صح هذا، وهو صحيح عن الأرجح، فأخبار أبي سلمة هذه من عبادة بن الصامت أخبار ضعاف لانقطاعها. ولذلك لم يخرج منها شيء في الصحاح.ومن هذه الطريق، رواه أحمد في مسنده 5: 315، عن عفان، عن أبان، عن يحيى.ورواه الدارمي في سننه 2: 123، من طريق مسلم بن إبراهيم، عن أبان، وانظر التعليق على رقم: 17718، وسيأتي رقم: 17740.(15/126)
17721- حدثنا ابن المثنى، وأبو عثمان بن عمر قالا حدثنا علي بن يحيى، عن أبي سلمة قال: نُبّئت أن عبادة بن الصامت سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، فقال: سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. (1)
__________
(1) الأثر: 17721 - هذا إسناد مختل في المطبوعة والمخطوطة على السواء، وهو باطل لا شك في بطلانه. وأظنه اضطراب على الناسخ من أصل أبي جعفر.
فقوله " قالا "، يدل على أن الخبر روي عن " ابن المثنى " وعن " أبي عثمان بن عمر "، وأن هذا الثاني شيخ الطبري. ولم أجد في شيوخه من هذه كنيته منسوبًا إلى أبيه " عمر ".
وأخرى أنه قال " حدثنا علي بن يحيى "، وهو باطل أيضًا، فليس في الرواة عن أبي سلمة " علي بن يحيى ".
ولا أكاد أشك أن " أبا عثمان " شيخ الطبري، هو " أبو عثمان "، " أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي "، مضى برقم: 876، 3030.
وأن الذي روى عنه " محمد بن المثنى "، هو فيما أرجح، " عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي "، وقد سلفت روايته عنه في رقم: 15225.
ولكن لست أدري، أروى أيضًا " أبو عثمان المقدمي" شيخ الطبري، عن " عثمان بن عمر بن فارس " أم لم يرو عنه، وإن كنت أرجح أنه خليق أن يروى عنه.
وأما قوله: " علي بن يحيى "، فظاهر أن صوابه: " علي، عن يحيى، عن أبي سلمة "، يعني " علي بن المبارك "، عن " يحيى بن أبي كثير " كما سيأتي في الإسناد رقم: 17739.
وإذن، فأخشى أن يكون صواب هذا الإسناد هو:
" حدثنا ابن المثنى، وأبو عثمان قالا، حدثنا عثمان بن عمر، حدثنا علي، عن يحيى، عن أبي سلمة ".
وبذلك يستقم هذا الإسناد الهالك الذي وقع في المطبوعة والمخطوطة.
وتجد هذا الإسناد نفسه، عن محمد بن المثنى، عن عثمان بن عمر بن فارس إلى أبي سلمة، في تاريخ الطبري 2: 208.
ومهما يكن من شيء، فهو بعد ذلك إسناد منقطع، لأن أبا سلمة لم يسمع من عبادة بن الصامت، كما سلف في رقم: 17720.
ثم انظر التعليق على رقم: 17739، فيما سيأتي.(15/127)
17722- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، قال: سأل رجلٌ أبا الدرداء عن هذه الآية فقال: لقد سألتني عن شيء ما سمعت أحدًا سأل عنه بعد رجل سأل عنه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل المسلم أو ترى له، بشراه في الحياة الدنيا، وبشراه في الآخرة الجنة. (1)
17723- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا عثمان بن سعيد، عن سفيان، عن ابن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، فقال: ما سألني عنها أحدٌ منْذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم غيرَك، إلا رجلًا
__________
(1) الأثر: 17722 - هذا حديث أبي الدرداء من الطريق الثالثة، التي ذكرتها في التعليق على رقم: 17717.
" أبو معاوية " الضرير هو " محمد بن خازم "، إمام ثقة، مضى مرارًا.
و" الأعمش "، هو " سليمان بن مهران " الإمام. مضى قريبًا رقم: 17717.
و"أبو صالح" هو "ذكوان"، مضى برقم: 17717
و" عطاء بن يسار " تابعي ثقة، مضى مرارًا، يروي عن أبي الدرداء مباشرة. ولكنه روى الخبر هنا عن رجل من أهل مصر، وكان عطاء قد قدم مصر، ومات بالإسكندرية.
فهذا خبر في إسناده علة، لجهالة الذي روى عنه أبو الدرداء. وقد ذكر الحافظ ابن حجر في فتح الباري 12: 331، رواية الخبر عن عطاء بن يسار، وقال: " ذكر ابن أبي حاتم، عن أبيه أن هذا الرجل ليس بمعروف "، ولكن في نسخة " الفتح " خطأ، فإنه كتب " من طريق عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن عبادة "، والصواب " عن أبي الدرداء ".
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده من طريق أبي معاوية عن الأعمش في موضعين من مسنده 6: 447، 452.
وانظر التعليق على رقم: 17717.(15/128)
واحدًا! سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلها الله غيرك إلا رجلًا واحدًا، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. (1)
17724- حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، سمع عطاء بن يسار يخبر، عن رجل من أهل مصر: أنه سأل أبا الدرداء عن: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، ثم ذكر نحو حديث سعيد بن عمرو السكوني، عن عثمان بن سعيد. (2)
17725- حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال، حدثني يحيى بن سعيد قال، حدثنا عمر بن عمرو بن عبد الأحموسيّ، عن حميد بن عبد الله المزني قال: أتَى رجلٌ عبادةَ بن الصامت فقال: آية في كتاب الله أسألك عنها، قول الله تعالى: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"؟ فقال عبادة: ما سألني عنها أحدٌ قبلك! سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال مثل ذلك:
__________
(1) الأثر: 17723 - " سعيد بن عمرو بن سعيد السكوني "، شيخ الطبري، مضى مرارًا، آخرها رقم: 14266. وكان في المخطوطة سيئ الكتابة، يشبه أن يكون " محمد بن عمرو "، والصواب ما في المطبوعة.
و" عثمان بن سعيد "، لعله: " عثمان بن سعيد بن دينار القرشي "، ثقة مترجم في التهذيب.
و" سفيان "، هو " سفيان بن عيينة ".
و" ابن المنكدر "، هو " محمد بن المنكدر "، أحد الأئمة الأعلام مضى مرارًا برقم: 3829، 10869.
وهذا إسناد صحيح إلى عطاء، كسائر الأسانيد السالفة، إلا ما فيه من جهالة الرجل من أهل مصر.
رواه أحمد في مسنده 6: 447، من طريق سفيان بن عيينة، عن ابن المنكدر.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير من سننه، وفي كتاب الرؤيا، من طريق ابن أبي عمر العدني، عن سفيان.
وانظر التعليق على رقم: 17717، وسيأتي من طريق أخرى بعد هذه رقم: 17724، وانظر أيضًا التعليق على رقم: 17743.
(2) الأثر: 17724 - هو مكرر الأثر السالف.
" عمرو بن عبد الحميد الآملي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 3759، 10378.(15/129)
ما سألني عنها أحدٌ قبلك، الرؤيا الصالحة يراها العبدُ المؤمن في المنام أو تُرَى له. (1)
17726- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الرؤيا الحسنة، هي البشرى، يراها المسلم، أو تُرَى له. (2)
17727-. . . . قال، حدثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي صالح
__________
(1) الأثر: 17725 - حديث عبادة بن الصامت، هذه هي الطريق الثانية التي أشرت إليها في التعليق على رقم: 17718، وسيأتي من طريق أخرى رقم: 17756.
" أبو حميد الحمصي "، " أحمد بن المغيرة "، هو " أحمد بن محمد بن المغيرة بن سيار " أو " أحمد بن محمد بن سيار "، هكذا يذكر في التفسير أحيانًا، شيخ الطبري، مضى مرارًا منها: 3473، 5753، 8164، 8984.
و" يحيى بن سعيد "، هو العطار الشامي الدمشقي، ضعفوه، مضى برقم: 5753، 9224، ولكن أخي السيد أحمد في التعليق على رقم: 5753، مال إلى توثيقه.
و" عمر بن عمرو بن عبد الأحموسي " ويقال في اسمه: " عمرو "، صالح الحديث، من ثقات الشاميين، أدرك عبد الله بن بسر، ويروي عن أبي عمرو الأنصاري، والمخارق بن أبي المخارق الذي يروي عن ابن عمر، روى عنه يحيى بن سعيد العطار، مترجم في ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 127، وتعجيل المنفعة: 313.
و" الأحموسي "، ضبطه الحافظ بالضم، والواو بعد الميم.
وأما " حميد بن عبد الله المزني "، فهكذا هو في المخطوطة، وفي مسند أحمد 5: 325 " حميد بن عبد الرحمن اليزني "، وفي ابن أبي حاتم " حميد بن عبد الله المدني ". وأما في التاريخ الكبير للبخاري، فاقتصر على " حميد بن عبد الله " غير منسوب إلى بلدة أو قبيلة. وأمر نسبته، لم أستطع أن أفصل فيه، لقلة ما ذكر عنه. وأما الاختلاف في اسم أبيه، فلم أجده في غير مسند أحمد، فلا أدري أهو خطأ في نسخة المسند أم لا. قال البخاري: " حميد بن عبد الله، سمع عبد الرحمن بن أبي عوف، ومالك بن أبي رشيد، سمع منه محمد بن الوليد الزبيدي، وصفوان بن عمرو، وعمر الأحموسي "، ومثله في ابن أبي حاتم.
مترجم في الكبير 1 \ 2 \ 352، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 224، ولم يذكر فيه جرحًا.
وهذا خبر منقطع بين حميد، وعبادة بن الصامت.
(2) الأثر: 17726 - حديث أبي هريرة، رواه الطبري من: طريق ابن سيرين، عن أبي هريرة، وطريق أبي صالح، عن أبي هريرة.
"أبو بكر "، هو "أبو بكر بن عياش". ثقة مضى مرارًا، آخرها رقم 14805.
و"هشام" هو " هشام بن حسان الأزدي القردوسي "، أحد الأعلام، مضى مرارًا كثيرة، كان من أحفظ الناس عن ابن سيرين.
فهذا خبر صحيح الإسناد. وانظر التخريج في الخبرين التاليين.(15/130)
قال، قال أبو هريرة: الرؤيا الحسنة بشرى من الله، وهي المبشِّرات. (1)
17728- حدثنا محمد بن حاتم المؤدب قال، حدثنا عمار بن محمد قال، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لهم البشرى في الحياة الدنيا"، الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح أو تُرَى له = وهي في الآخرة الجنة. (2)
17729- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن يزيد قال، حدثنا رشدين بن سعد، عن عمرو بن الحارث، عن أبي السَّمْح، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لهم البشرى في الحياة الدنيا" الرؤيا الصالحة يُبَشَّر بها العبد جزء من تسعة وأربعين جزءًا من النبوّة. (3)
__________
(1) الأثر: 17727 - هذا حديث موقوف على أبي هريرة.
"أبو بكر " هو " أبو بكر بن عياش "، كما سلف.
و" أبو حصين " هو: " عثمان بن عاصم بن حصين الأسدي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة.
و" أبو صالح " هو " ذكوان" السمان، مضى قريبًا برقم: 17717. وهذا خبر موقوف صحيح الإسناد، وسيأتي بعده مرفوعًا.
(2) الأثر: 17728 - " محمد بن حاتم بن سليمان الزمي "، المؤدب، شيخ أبي جعفر، ثقة، روى عنه الترمذي، والنسائي، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم. مترجم في التهذيب،وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 238، وتاريخ بغداد 2: 268.
و"عمار بن محمد الثوري "، ابن أخت " سفيان الثوري "، لا بأس به، روى عنه أحمد، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو كريب، وثقه ابن سعد وابن معين، والبخاري وقال: " كان أوثق من سيف "، وسيف أخوه، كان شيخًا كذابًا خبيثًا يضع الحديث. وقال ابن حبان في عمار: " فحش خطأه وكثر وهمه، فاستحق الترك " وظني أن ابن حبان قد غالى فيه علوا شديدًا. ومع ذلك فأخشى أن يكون قوله هذا تفسيرا لقول البخاري إنه أوثق من سيف أخيه الكذاب، وكأنه ضعفه شيئًا، لا يبلغ منه مبلغ الترك والإسقاط، مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 1 \ 29، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 393.
وإسناد هذا الخبر، إسناد صالح. وأما الإسناد الجيد الصحيح، فهو إسناد مسلم في صحيحه 15: 23، حديث الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " رؤيا المسلم يراها أو ترى له، جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ".
(3) الأثر: 17729 - حديث عبد الله بن عمرو، سيأتي من طريق أخرى رقم: 17754.
و" محمد بن يزيد " الذي روى عنه أبو كريب، لم يبين هنا، وأظنه " محمد بن يزيد الحزامي البزاز " روى عن ابن المبارك، والوليد بن مسلم، وضمرة بن ربيعة، وشريك، وابن عيينة. روى عنه البخاري في التاريخ، وأبو كريب، مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 1 \ 261، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 128، وميزان الاعتدال 3: 150، ولم يذكر فيه البخاري جرحًا.
وأما " رشدين بن سعد المصري "، فهو ضعيف الحديث، مضى تضعيفه برقم: 19، 1938، 2176، 2195. و " أبو كريب " يروي عن " رشدين " مباشرة، كما سلف في الآثار التي ذكرتها.
و" عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري "، ثقة حافظ، مضى مرارًا، آخرها رقم: 13570.
وأما " أبو السمح "، فهو " دراج بن سمعان "، مولى عبد الله بن عمرو بن العاص. ثقة، متكلم فيه، ورجح أخي السيد أحمد رحمه الله توثيقه فيما سلف، رقم: 3187، 5518. وكان في المطبوعة: " عن أبي الشيخ " وهو خطأ صرف. وفي المخطوطة مثله رسمًا غير منقوط. والصواب ما أثبت، كما سيأتي في رقم: 17754.
و" عبد الرحمن بن جبير المصري "، الفقيه، ثقة، روى عن عبد الله بن عمرو، وعقبة بن عامر، وعمرو بن غيلان بن سلمة الثقفي، وأبي الدرداء،. كان عبد الله بن عمرو به معجبًا. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 221.
وهذا خبر ضعيف الإسناد، لضعف " رشدين بن سعد ": وسيأتي بإسناد صالح فيما سيأتي رقم: 17754.(15/131)
17730- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن أيوب بن خالد بن صفوان، عن عبادة بن الصامت أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، فقد عرفنا بشرى الآخرة، فما بشرى الدنيا؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له، وهي جزء من أربعة وأربعين جزءًا = أو ستين جزءًا = من النبوة. (1)
__________
(1) الأثر: 17730 - حديث عبادة بن الصامت، هذا هو الطريق الثالث من طرقه.
" موسى بن عبيدة الربذي "، ضعيف لا تحل الرواية عنه، مضى مرارًا، آخرها رقم: 16229.
و" أيوب بن خالد بن صفوان الأنصاري "، ثقة، متكلم فيه. روى عن جابر بن عبد الله، وعن التابعين، مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 1 \ 412، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 245، وفرق البخاري في تاريخه، وابن أبي حاتم بينه وبين " أيوب بن خالد بن أبي أيوب الأنصاري، " وكذلك فرق بينهما أبو زرعة، قال الحافظ ابن حجر " وجعلها ابن يونس واحدًا. قلت: وسبب ذلك أن خالد بن صفوان والد أيوب، وأمه عمرة بنت أبي أيوب الأنصاري، فهو جده لأمه، فالأشبه قول ابن يونس، فقد سبق إليه البخاري ". وقد رأيت أن البخاري قد فرق بينهما في تاريخه، فلا أدري من أين قال ذلك الحافظ ابن حجر؟
وهذا إسناد ضعيف، لضعف " موسى بن عبيدة "، وهو إسناد منقطع أيضًا، لأن " أيوب بن خالد " لم يرو عن عبادة بن الصامت.
وكان في المطبوعة: " أو سبعين جزءًا من النبوة "، وأثبت ما في المخطوطة.(15/132)
17731- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا أبو عمرو قال، حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا"، فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ من أمتي قبلك! هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. (1)
17732- حدثنا أحمد بن حماد الدولابي قال، حدثنا سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، عن أم كرز الكعبية: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ذهبت النبوّة وبقيت المبشّرات. (2)
__________
(1) الأثر: 17731 - حديث عبادة بن الصامت، هذه هي الطريق الأول من طرقه، كما فصلتها في رقم: 17718، وهو إسناد آخر للخبر رقم: 17718.
(2) الأثر: 17732 - " أحمد بن حماد بن سعيد الدولابي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 2593، 3571.
و" سفيان "، هو " ابن عيينة ".
و" عبيد الله بن أبي يزيد المكي "، ثقة، مضى برقم: 20، 3778، 10274، 14673 - 14677.
وأبوه " أبو يزيد المكي "، ثقة، مضى برقم: 20.
و" سباع بن ثابت "، حليف لبني زهرة، عدّه ابن حجر وابن الأثير في الصحابة، مترجم، فيهما، وفي ابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 312، ولم يذكر له صحبة. وكان في المخطوطة وحدها " سباع بن أبي ثابت "، والصواب ما في المطبوعة.
وهذا الخبر من طريق سفيان بن عيينة، بهذا الإسناد، ورواه ابن ماجة في سننه ص: 1283، رقم: 3896، والدارمي في سننه 2: 123، بمثله. ورواه أحمد في مسنده 6: 381، من طريق سفيان بن عيينة أيضًا، وروى معه ثلاثة أحاديث بالإسناد نفسه وفيه " عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه عن سباع بن ثابت "، فقال أبو عبد الرحمن ولده: " سمعت أبي يقول: سفيان يهم في هذه الأحاديث. عبيد الله، سمعها من سباع بن ثابت "، ثم ساق أحد الأحاديث الأربعة من طريق عفان، عن حماد بن زيد، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال حدثني سباع بن ثابت "، مصرحًا بالتحديث.
وذكر ابن أبي حاتم في ترجمة " سباع بن ثابت " أن عبيد الله بن أبي يزيد، روى عن سباع بن ثابت " من رواية ابن جريج، وحماد بن زيد، عنه. وقال: " وأما ابن عيينة، فيروى عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه عن سباع بن ثابت ".
وهذا خبر صحيح، على ما فيه من الاختلاف، وإنما الوهم فيه من سفيان.(15/133)
17733- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن عيينة، عن الأعمش، عن ذكوان، عن رجل، عن أبي الدرداء، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا"، قال: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له، وفي الآخرة الجنة. (1)
17734- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن رجل كان بمصر، قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، فقال أبو الدرداء: ما سألني عنها أحد منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرى له، وفي الآخرة الجنة. (2)
17735-. . . . قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي الدرداء قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، قال: ما سألني عنها أحد غيرُك، هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له. (3)
__________
(1) الأثر: 17733 - حديث أبي الدرداء، من الطريق الأولى التي بينتها في التعليق على رقم: 17717، وروايته هنا من طريق الأعمش، عن أبي صالح ذكوان. وانظر التعليق على رقم: 17717.
ومن هذه الطريق رواها أحمد في مسنده 6: 445، بإسناده عن عبد الرازق، عن سفيان.
(2) الأثر: 17734 - حديث أبي الدرداء، من الطريق الثالثة التي بينتها في رقم: 17717، وهو مكرر رقم 17722، وقد خرجته هناك.
(3) الأثر: 17735 - هذه هي الطريق الثانية لحديث أبي الدرداء أيضًا، ولكنه رواية أبي صالح ذكوان، عن أبي الدرداء مباشرة، كما سيأتي برقم: 17741، وقد فصلت ذلك في التعليق على رقم 17717. وهذه هي الطريق التي أشار إليها الترمذي في سننه، في كتاب التفسير، تذييلا على الخبر الذي رواه أبو جعفر برقم: 17724.
و" عاصم "، هو " عاصم بن بهدلة "، و" عاصم بن أبي النجود "، وهو ثقة، روى له الجماعة، روى له الشيخان مقرونًا بغيره، لأنه كان في حفظه شيء. فأخشى أن يكون هذا الذي انفرد به مما ساء حفظه فيه. وانظر التعليق على سائر حديث أبي الدرداء.(15/134)
17736-. . . . قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء في قوله: "لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة"، قال: سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له، وفي الآخرة الجنة. (1)
17737-. . . . قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح = قال ابن عيينة: ثم سمعته من عبد العزيز، عن أبي صالح السمان= عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر قال: سألت أبا الدرداء عن هذه الآية: "لهم البشرى في الحياة الدنيا"، قال: ما سألني عنها أحدٌ منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما سألني عنها أحدٌ منذ أنزلت عليَّ إلا رجلٌ واحدٌ، هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. (2)
17738-. . . . قال، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن حاتم بن أبي صغيرة، عن عمرو بن دينار: أنه سأل رجلا من أهل مصر فقيهًا، قدم عليهم في بعض تلك المواسم، قال قلت: ألا تخبرني عن قول الله تعالى ذكره: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ؟ قال: سألت عنها أبا الدرداء، فأخبرني أنه سأل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد أو تُرَى له. (3)
__________
(1) الأثر: 17736 - هذه هي الطريق الرابعة لحديث أبي الدرداء، وهي رواية أبي صالح السمان " ذكوان "، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء، بلا واسطة. و" عطاء بن يسار "، يروي عن أبي الدرداء.
وإسناده حسن. وانظر ما قلته في التعليق على رقم: 17717، وما سيأتي في رقم: 17743.
(2) الأثر: 17737 - حديث أبي الدرداء من الطريق الثالثة التي بينتها في رقم: 17717.
وهذا الخبر سمعه ابن عيينة من عمرو بن دينار، عن عبد العزيز بن رفيع، ثم سمعه من عبد العزيز بن رفيع مباشرة.
" وعبد العزيز بن رفيع الأسدي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 14810.
ومن هذه الطريق، رواه الترمذي في السنن، في كتاب التفسير، تعقيبًا للأثر السالف برقم: 17724. ورواه أحمد في مسنده 6: 447، من حديث سفيان بن عيينة، عن عبد العزيز بن رفيع، ليس بينهما " عمرو بن دينار ".
(3) الأثر: 17738 - هذه هي الطريق الخامسة، لحديث أبي الدرداء.
" عبد الله بن أبي بكر بن حبيب السهمي "، ثقة، مضى برقم: 10885.
و" حاتم بن أبي صغيرة "، ثقة، مضى برقم: 17410، 17411.
و" عمرو بن دينار "، لم يسمع من أبي الدرداء، ولكنه رواه هنا عن مجهول، وهو " فقيه من أهل مصر ". فهو حديث ضعيف.(15/135)
17739-. . . . قال، حدثنا أبي، عن علي بن مبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبادة بن الصامت، قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) قال: "هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له. (1)
17740- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم وأبو الوليد الطيالسي قالا حدثنا أبان قال، حدثنا يحيى، عن أبي سلمة، عن عبادة بن الصامت، قال: قلت: يا رسول الله، قال الله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، فقال: لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحدٌ قبلك = أو: أحدٌ من أمتي = قال: "هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو تُرَى له. (2)
17741-. . . . قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، قال: سمعت أبا الدرداء، وسئل عن:
__________
(1) الأثر: 17739 - " حديث عبادة بن الصامت، من الطريق الأولى التي بينتها في رقم: 17718.
وقد فصلت الحديث عنه في التعليق على رقم: 17721، ذلك الإسناد المختل، وفي رقم: 17720، وبينت علته هناك.
ومن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده 5: 315.
وابن ماجه في سننه ص: 1283، رقم: 3898.
والحاكم في المستدرك 2: 340، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وقد بينت قبل أن أبا سلمة بن عبد الرحمن لم يسمع من عبادة بن الصامت، فهو إسناد منقطع. فهذه علته، وإن كان سائر الإسناد صحيحًا.
(2) الأثر: 17740 - حديث عبادة من الطريق الأولى، كالذي قبله، وهو مكرر رقم: 17720، وقد خرجته هناك.(15/136)
(الذين آمنوا وكانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: ما سألني عنها أحدٌ قبلك، هي الرؤيا الصالحة يراها العبد أو تُرى له. (1)
17742- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبيد الله بن أبي يزيد، عن نافع بن جبير، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، في قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال: هي الرؤيا الحسنة يراها الإنسان أو تُرَى له. (2)
17743-. . . . وقال: ابن جريج عن عمرو بن دينار، عن أبي الدرداء = أو ابن جريج، عن محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال: هي الرؤيا الصالحة. (3)
17744-. . . . وقال ابن جريج، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: هي الرؤيا يراها الرجل.
17745- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له.
__________
(1) الأثر: 17741 - حديث أبي الدرداء من الطريق الثانية، وهو مكرر رقم: 17735، وخرجته هناك.
(2) الأثر: 17742 - " عبيد الله بن أبي يزيد المكي "، ثقة، مضى قريبًا رقم: 17732 ونافع بن جبير بن مطعم النوفلي" تابعي مشهور وأحد الأئمة. مضى برقم 17429. وهذا الخبر، رواه نافع عن صحابي لم يصرح باسمه، لعله أبو هريرة، وجهالة الصحابي لا تضر. فهو حديث صحيح إن شاء الله.
(3) الأثر: 17743 - حديث أبي الدرداء هذا من طريقين:طريق عمرو بن دينار عن أبي الدرداء، بلا واسطة، وهي الطريق السادسة التي بينتها في رقم: 17717." وعمرو بن دينار " لم يسمع من أبي الدرداء، كما بينت في رقم: 17738، فهو ضعيف لانقطاعه.
وطريق محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن أبي الدرداء، وهي الطريقة الرابعة. وقد سلف بيانها في تخريج الخبر رقم: 17736، وانظر أيضًا حديث محمد بن المنكدر، عن عطاء بن يسار، عن رجل من أهل مصر، عن أبي الدرداء، رقم: 17723، 17724.(15/137)
17746- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها العبد الصالح.
17747-. . . . قال، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد قال: هي الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له.
17748-. . . . قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن طلحة القناد، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال: هي الرؤيا الحسنة يراها العبد المسلم لنفسه أو لبعض إخوانه. (1)
17749- قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كانوا يقولون: الرؤيا من المبشِّرات.
17750- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم عنها، فقال: "ما سألني عنها أحدٌ من أمتي منذ أنزلت عليّ قبلك! قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل لنفسه أو تُرَى له. (2)
17751-. . . . قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن العوام، عن إبراهيم التيمي، أن ابن مسعود قال: ذهبت النبوة، وبقيت المبشِّرات! قيل: وما المبشرات؟ قال: الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له. (3)
17752- قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، في قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، فهو قوله لنبيه: (وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا) ، [سورة الأحزاب: 47] . قال: هي
__________
(1) الأثر: 17748 - هذا خبر موقوف على ابن عباس.
(2) الأثر: 17750 - هذا خبر مرسل.
(3) الأثر: 17751 - هذا خبر موقوف على ابن مسعود، صحيح الإسناد.(15/138)
الرؤيا الحسنة يراها المؤمن أو تُرَى له.
17753-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن يزيد، عن عطاء في قوله: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال: هي رؤيا الرجل المسلم يبشَّر بها في حياته.
17754- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث أن درَّاجًا أبا السمح حدثه، عن عبد الرحمن بن جبير، عن عبد الله بن عمرو، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) : الرؤيا الصالحة يبشَّر بها المؤمن، جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوّة. (1)
17755- حدثني يونس قال، أخبرنا أنس بن عياض، عن هشام، عن أبيه في هذه الآية: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، قال: هي الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو تُرَى له.
17756- حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا أبو المغيرة قال، حدثنا صفوان قال، حدثنا حميد بن عبد الله: أن رجلا سأل عبادة بن الصامت عن قول الله تعالى: (لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة) ، فقال عبادة: لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ قبلك، ولقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألتني فقال لي: يا عبادة لقد سألتني عن أمر ما سألني عنه أحدٌ من أمتي! تلك
__________
(1) الأثر: 17754 - حديث عبد الله بن عمرو، مضى من طريق أخرى ضعيفة، برقم: 17729. " عمرو بن الحارث المصري "، ثقة، مضى برقم: 17729.
و" دراج بن سمعان "، " أبو السمح "، ثقة، مضى أيضًا برقم: 17729، وتوثيق أخي السيد أحمد رحمه الله، له. وقد رواه أحمد مطولا في سنده، برقم: 7044، من طريق حسن بن الأشيب، عن لهيعة، عن دراج أبي السمح، وقال أخي: " إسناده صحيح ".وخرجه في مجمع الزوائد 7: 175، وقال: " رواه أحمد من طريق ابن لهيعة عن دراج " وحديثهما حسن، وفيهما ضعف. وبقية رجاله ثقات ". وهذه الطريق الأخرى من رواية ابن وهب، أوثق من طريق ابن لهيعة. وخرجه الهيثمي أيضًا في مجمع الزوائد 7: 36، وقال نحوه.(15/139)
الرؤيا الصالحة يراها المؤمن لنفسه أو تُرى له. (1)
* * *
وقال آخرون: هي بشارة يبشَّر بها المؤمن في الدنيا عند الموت.
*ذكر من قال ذلك:
17757- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، وقتادة: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال: هي البشارة عند الموت في الحياة الدنيا.
17758- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يعلى، عن أبي بسطام، عن الضحاك: (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، قال: يعلم أين هو قبل الموت.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنّ لأوليائه المتقين البشرى في الحياة الدنيا، ومن البشارة في الحياة الدنيا الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له = ومنها بشرى الملائكة إياه عند خروج نفسه برحمة الله، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أن الملائكة التي تحضره عند خروج نفسه، تقول لنفسه: اخرجي إلى رحمة الله ورضوانه". (2)
__________
(1) الأثر: 17756 - هذه هي الطريق الثانية لحديث عبادة بن الصامت، التي ذكرتها في رقم: 17718.
" محمد بن عوف بن سفيان الطائي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 5445، 12194، 13108 " وأبو المغيرة "، هو " عبد القدوس بن الحجاج الخولاني "، ثقة، مضى برقم: 10371، 12194، 13108. " وصفوان " هو: " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، ثقة، مضى برقم: 7009، 12807، 13108 رواه أحمد من هذا الطريق نفسها في السند 5: 325، عن أبي المغيرة، عن صفوان، عن حميد بن عبد الرحمن اليزني. " وحميد بن عبد الله "، مضى برقم: 17725، ويشبه هناك " المزني "، وذكرت أن في ابن أبي حاتم " المدني "، وفي المسند " اليزني "، كما رأيت. ثم اختلاف آخر، في المسند " حميد بن عبد الرحمن اليزني "، ولكني لم أجد هذا الاختلاف في شيء من الدواوين، فأخشى أن يكون خطأ ناسخ من نساخ المسند. وسلف في رقم: 17725. أن هذا إسناد منقطع بين " حميد بن عبد الله "، وعبادة بن الصامت.
(2) حديث بغير إسناد، لم أستطع أن أجده بلفظه في مكان قريب.(15/140)
ومنها: بشرى الله إياه ما وعده في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من الثواب الجزيل، كما قال جل ثناؤه: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) الآية، [سورة البقرة: 25] .
وكل هذه المعاني من بشرى الله إياه في الحياة الدنيا بشره بها، ولم يخصص الله من ذلك معنى دون معنى، فذلك مما عمه جل ثناؤه: أن (لهم البشرى في الحياة الدنيا) ، وأما في الآخرة فالجنة.
* * *
وأما قوله: (لا تبديل لكلمات الله) ، فإن معناه: إن الله لا خُلْفَ لوعده، ولا تغيير لقوله عما قال، ولكنه يُمْضي لخلقه مواعيدَه وينجزها لهم، (1) وقد:-
17759- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع قال: أطال الحجاج الخطبة، فوضع ابن عمر رأسَه في حِجْري، فقال الحجاج: إن ابن الزبير بدّل كتاب الله! فقعد ابن عمر فقال: لا تستطيع أنت ذاك ولا ابن الزبير! لا تبديل لكلمات الله! فقال الحجاج: لقد أوتيت علمًا إن نفعك! (2) = قال أيوب: فلما أقبل عليه في خاصّة نفسه سكَتَ. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " تبديل الكلمات " فيما سلف 2: 62، تعليق: 1، 3، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " لقد أوتيت علما أن تفعل "، وهو بين الفساد، صوابه من المستدرك للحاكم.
(3) الأثر: 17759 - رواه الحاكم في المستدرك 2: 339، 340، من طريق أبي النعمان، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، بمثله، ليس فيه كلمة أيوب. وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. وهذا خبر عظيم القدر فيه أخلاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ظاهرة كما علمهم رسولهم، من ترك هيبة الجبابرة، ومن إنكار المنكر من القول والعمل، ومن اليقظة لمعاني الكلام ومقاصد الأعمال، ومن تعليم الناس جهرة أخطاء أمرائهم والولاة عليهم، ومن الصبر على أذى هؤلاء الجبابرة إذا كان الأذى يمسهم في خاصة أنفسهم. فأما إذا كان الأمر أمر الله وأمر رسوله، وأمر الكتاب المنزل بالحق إلى الديانين والجبابرة جميعًا، يأمرهم وينهاهم على السواء، فهم لا يخافون جبارًا قد عود سيفه سفح الدماء، ودرب لسانه على اللذع والقرص واللجاجة. فرحم الله أمة كان هؤلاء النبلاء، أئمتها وهداتها!(15/141)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)
وقوله: (ذلك هو الفوز العظيم) ، يقول تعالى ذكره: هذه البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة = "وهي الفوز العظيم"، يعني الظفر بالحاجة والطَّلبة والنجاة من النار. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا يحزنكَ، يا محمد، قول هؤلاء المشركين في ربهم ما يقولون، وإشراكهم معه الأوثان والأصنام (2) = فإنّ العزة لله جميعًا، يقول تعالى ذكره: فإن الله هو المنفرد بعزة الدنيا والآخرة، لا شريك له فيها، وهو المنتقم من هؤلاء المشركين القائلين فيه من القول الباطل ما يقولون، فلا ينصرهم عند انتقامه منهم أحدٌ، لأنه لا يُعَازُّه شيء (3) = (هو السميع العليم) ، يقول: وهو ذو السمع لما يقولون من الفرية والكذب عليه، وذو علم بما يضمرونه في أنفسهم ويعلنونه، مُحْصًى ذلك عليهم كله، وهو لهم بالمرصاد. (4)
* * *
وكسرت "إن" من قوله: (إن العزة لله جميعًا) لأن ذلك خبرٌ من الله مبتدأ، ولم يعمل فيها "القول"، لأن "القول"، عني به قول المشركين، وقوله: (إن العزة لله جميعًا) ، لم يكن من قِيل المشركين، ولا هو خبرٌ عنهم أنهم قالوه. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف 14: 439، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الحزن " فيما سلف 10: 108، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " العزة " فيما سلف 10: 421، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " السميع " و " العليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) .
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 471، 472 وفيه تفصيل موقع " إن " بعد " القول " وشبهه.(15/142)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ (66) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألا إن لله يا محمد كلَّ من في السموات ومن في الأرض، ملكًا وعبيدًا، لا مالك لشيء من ذلك سواه. يقول: فكيف يكون إلهًا معبودًا من يعبُده هؤلاء المشركون من الأوثان والأصنام، وهي لله ملك، وإنما العبادة للمالك دون المملوك، وللرب دون المربوب؟ = (وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء) ، يقول جل ثناؤه: وأيُّ شيء يتبع من يدعو من دون الله = يعني: غير الله وسواه = شركاء. ومعنى الكلام: أيُّ شيءٍ يتبع من يقول لله شركاء في سلطانه وملكه كاذبًا، والله المنفرد بملك كل شيء في سماء كان أو أرض؟ = (إن يتبعون إلا الظن) ، يقول: ما يتبعون في قيلهم ذلك ودعواهم إلا الظن، يقول: إلا الشك لا اليقين (1) = (وإن هم إلا يخرصون) ، يقول: وإن هم إلا يتقوّلون الباطل تظنِّيًا وتَخَرُّصا للإفك، (2) عن غير علمٍ منهم بما يقولون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الظن " فيما سلف من فهارس اللغة (ظنن) .
(2) في المطبوعة: " تظننا " وأثبت ما في المخطوطة معجما، على قلة إعجام الحروف فيها.
" والتظني "، هو " التظنن "، وإنما قلبت نونه الآخرة ياء لتوالي النونات وثقل تواليها، وهو كثير فاش في كلام العرب.(15/143)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
القول في تأويل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنّ ربكم أيها الناس الذي استوجب عليكم العبادة، هو الرب الذي جعل لكم الليل وفصله من النهار، لتسكنوا فيه مما كنتم فيه في نهاركم من التَّعب والنَّصب، وتهدءوا فيه من التصرف والحركة للمعاش والعناء الذي كنتم فيه بالنهار (1) = (والنهار مبصرًا) ، يقول:: وجَعَل النهار مبصرًا، فأضاف "الإبصار" إلى "النهار"، وإنما يُبْصَر فيه، وليس "النهار" مما يبصر، ولكن لما كان مفهوما في كلام العرب معناه، خاطبهم بما في لغتهم وكلامهم،
وذلك كما قال جرير:
لَقَدْ لُمْتِنَا يَا أُمَّ غَيْلانَ فِي السُّرَى ... وَنِمتِ، وَمَا لَيْلُ الْمَطِيِّ بِنَائِمِ (2)
فأضاف "النوم" إلى "الليل" ووصفه به، ومعناه نفسه، أنه لم يكن نائمًا فيه هو ولا بَعِيره.
* * *
يقول تعالى ذكره: فهذا الذي يفعل ذلك هو ربكم الذي خلقكم وما تعبدون، لا ما لا ينفع ولا يضر ولا يفعل شيئًا.
* * *
وقوله: (إن في ذلك لآيات لقوم يسمعون) ، يقول تعالى ذكره: إن في اختلاف حال الليل والنهار وحال أهلهما فيهما، دلالةً وحججًا على أن الذي له العبادة خالصا بغير شريك، هو الذي خلق الليل والنهار، وخالف بينهما، بأن جعل هذا للخلق
__________
(1) انظر تفسير " جعل " فيما سلف في فهارس اللغة (جعل) .
(2) ديوانه: 554، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 279، من قصيدة له طويلة، أجاب بها الفرزدق.(15/144)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68)
سكنًا، وهذا لهم معاشًا، دون من لا يخلق ولا يفعل شيئًا، ولا يضر ولا ينفع.
* * *
وقال: (لقوم يسمعون) ، لأن المراد منه: الذين يسمعون هذه الحجج ويتفكرون فيها، فيعتبرون بها ويتعظون. ولم يرد به: الذين يسمعون بآذانهم، ثم يعرضون عن عبره وعظاته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (68) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال هؤلاء المشركون بالله من قومك، يا محمد: (اتخذ الله ولدًا) ، وذلك قولهم: "الملائكة بنات الله". يقول الله منزهًا نفسه عما قالوا وافتروا عليه من ذلك: "سبحان الله"، تنزيهًا لله عما قالوا وادَّعوا على ربهم (1) = "هو الغني" يقول: الله غنيٌّ عن خلقه جميعًا، فلا حاجة به إلى ولد، (2) لأن الولد إنما يَطْلُبه من يطلبه، ليكون عونًا له في حياته وذكرًا له بعد وفاته، والله عن كل ذلك غنيٌّ، فلا حاجة به إلى معين يعينه على تدبيره، ولا يبيدُ فيكون به حاجة إلى خلف بعده = (له ما في السموات وما في الأرض) ، يقول تعالى ذكره: لله ما في السموات وما في الأرض مِلْكًا، والملائكةُ عباده وملكه، فكيف يكون عبد الرجل وملكه له ولدًا؟ يقول: أفلا تعقلون أيها القوم خطأ ما تقولون؟ = (إن عندكم من سلطان بهذا) ، يقول: ما عندكم أيها القوم،
__________
(1) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف ص: 47، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الغني " فيما سلف 12: 126، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/145)
قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
بما تقولون وتدّعون من أن الملائكة بنات الله، من حجة تحتجون بها = وهي السلطان (1) = أتقولون على الله قولا لا تعلمون حقيقته وصحته، وتضيفون إليه ما لا يجوز إضافته إليه، جهلا منكم بما تقولون، بغير حجة ولا برهان؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد، لهم (إن الذين يفترون على الله الكذب) ، فيقولون عليه الباطل، ويدّعون له ولدًا (2) = (لا يفلحون) ، يقول: لا يَبْقَون في الدنيا (3)
، ولكن لهم متاع في الدنيا يمتعون به، وبلاغ يتبلغون به إلى الأجل الذي كُتِب فناؤهم فيه (4) = (ثم إلينا مرجعهم) ، يقول: ثم إذا انقضى أجلهم الذي كتب لهم، إلينا مصيرهم ومنقلبهم (5)
= (ثم نذيقهم العذاب الشديد) ، وذلك إصلاؤهم جهنم (6) = (بما كانوا يكفرون) بالله في الدنيا، فيكذبون رسله، ويجحدون آياته.
* * *
ورفع قوله: (متاع) بمضمر قبله إما "ذلك"، وإما "هذا". (7)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف 12: 523، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .
(3) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص: 46،، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف ص: 53،، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص: 98، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(6) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص: 102، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(7) انظر معاني القرآن للفراء 1: 472، وفيه ": إما (هو) ، وإما (ذاك) ".(15/146)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (واتل) على هؤلاء المشركين الذي قالوا: (اتخذ الله ولدًا) ، من قومك (1) = (نبأ نوح) ، يقول: خبر نوح (2) (إذ قال لقومه يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي) ، يقول: إن كان عظم عليكم مقامي بين أظهركم وشقّ عليكم، (3) = (وتذكيري بآيات الله) ، يقول، ووعظي إياكم بحجج الله، وتنبيهي إياكم على ذلك (4) = (فعلى الله توكلت) ، يقول: إن كان شق عليكم مقامي بين أظهركم، وتذكيري بآيات الله، فعزمتم على قتلي أو طردي من بين أظهركم، فعلى الله اتكالي وبه ثقتي، وهو سَنَدي وظهري (5) = (فأجمعوا أمركم) ، يقول: فأعدُّوا أمركم، واعزموا على ما تنوُون عليه في أمري. (6)
* * *
يقال منه: "أجمعت على كذا"، بمعنى: عزمت عليه، (7)
ومنه قول النبي
__________
(1) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا) .
(2) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف ص: 102، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " كبر " فيما سلف 11: 336، 337.
(4) انظر تفسير " التذكير " فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر) .
(5) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف 14: 587، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(6) في المطبوعة: " وما تقدمون عليه "، وفي المخطوطة: " وما سومون " غير منقوطة، وهو وهم من الناسخ، والصواب الذي أرجحه، ما أثبت، لأن " الإجماع " هو إحكام النية والعزيمة.
(7) انظر معاني القرآن للفراء 1: 473، وقد فصل القول فيه هناك.(15/147)
صلى الله عليه وسلم:: "من لم يُجْمِع على الصوم من الليل فلا صَوْم له"، بمعنى: من لم يعزم، (1) ومنه قول الشاعر: (2)
يَا لَيْتَ شِعْرِي وَالْمُنَى لا تَنْفَعُ ... هَلْ أَغْدُوَنْ يَوْمًا وَأَمْرِي مُجْمَعُ (3)
* * *
وروي عن الأعرج في ذلك ما:-
17760- حدثني بعض أصحابنا، عن عبد الوهاب، عن هارون، عن أسيد، عن الأعرج: (فأجمعوا أمركم وشركاءكم) ، يقول: أحكموا أمركم، وادعوا شركاءكم. (4)
ونصب قوله: (وشركاءكم) ، بفعل مضمر له، وذلك: "وادعوا شركاءكم"، وعطف ب"الشركاء" على قوله: (أمركم) ، على نحو قول الشاعر:
__________
(1) هذا حديث رواه بلا إسناد. أخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة، من حديث حفصة أم المؤمنين. انظر سنن أبي داود 2: 441، 442، رقم: 2454.
(2) لم أعرف قائله، ولكني أظنه لأبي النجم، هكذا أذكر.
(3) نوادر أبي زيد: 133، معاني القرآن للفراء 1: 473، اللسان (جمع) ، (زفا) ، وبعده فيما روى أبو زيد: وَتَحْتَ رَحْلِي زَفَيَانٌ مَيْلَعُ
حَرْفٌ، إذَا مَا زُجِرَتْ تَبَوَّعُ.
(4) الأثر: 17760 - " عبد الوهاب "، هو " عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي "، مضى مرارًا كثيرة، آخرها رقم: 14229. " وهارون " هو " هارون بن موسى " الأعور النحوي، مضى برقم: 4985، 11693، 15514، 15515." وأسيد "، هو " أسيد بن أبي أسيد، يزيد "، البراد. روى الحروف عن الأعرج، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1/ 49، ولم يزد على أن قال " أسيد، حدثنا موسى، حدثنا هارون، عن أسيد سمع عكرمة، وعن الأعرج في القراءة "، لم يذكر له نسبًا. وفي ابن أبي حاتم 1 / 1 / 316، في ترجمة " أسيد بن يزيد المدني "، وقال: " روى عن الأعرج، روى عنه هارون النحوي". ثم أتبعه بترجمة " أسيد بن أبي أسيد البراد "، وقال: " واسم أبي أسيد يزيد "، ولم يذكر له رواية عن الأعرج، ولا في الرواة عنه هارون النحوي، فجعلهما رجلين. بيد أني رأيت ابن الجزري في طبقات القراء 1: 381 في ترجمة " الأعرج "، وهو " عبد الرحمن بن هرمز " قال: " وروى عنه الحروف أسيد بن أبي أسيد ". وانظر هذا الاختلاف في التهذيب، وما قاله الحافظ ابن حجر هناك.(15/148)
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (1)
فالرمح لا يُتَقلَّد، ولكن لما كان فيما أظهر من الكلام دليلٌ على ما حذف، اكتفي بذكر ما ذكر منه مما حذف، (2) فكذلك ذلك في قوله: (وشركاءكم) .
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته قراء الأمصار: (وَشُرَكَاءَكُمْ) نصبًا، وقوله: (فَأَجْمِعُوا) ، بهمز الألف وفتحها، من: "أجمعت أمري فأنا أجمعه إجماعًا.
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرؤه: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ) ، بفتح الألف وهمزها = (وَشُرَكَاؤُكُمْ) ، بالرفع على معنى: وأجمعوا أمركم، وليجمع أمرَهم أيضًا معكم شركاؤكم. (3)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك قراءةُ من قرأ: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) ، بفتح الألف من "أجمعوا"، ونصب "الشركاء"، لأنها في المصحف بغير واو، ولإجماع الحجة على القراءة بها، ورفض ما خالفها، ولا يعترض عليها بمن يجوز عليه الخطأ والسهو.
* * *
وعني ب"الشركاء"، آلهتهم وأوثانهم.
* * *
وقوله: (ثم لا يكن أمركم عليكم غمة) ، يقول: ثم لا يكن أمركم عليكم ملتبسًا مشكلا مبهمًا.
* * *
__________
(1) مضى البيت وتخريجه في مواضع، آخرها 13: 434، تعليق: 2، والمراجع هناك، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 473.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " فاكتفى " بالفاء، والصواب حذفها، وإنما خلط الناسخ.
(3) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1: 473.(15/149)
= من قولهم: "غُمَّ على الناس الهلال"، وذلك إذا أشكل عليهم فلم يتبيَّنوه، ومنه قول [العجاج] : (1)
بَلْ لَوْ شَهِدْتِ النَّاسَ إِذْ تُكُمُّوا ... بِغُمّةٍ لَوْ لَمْ تُفَرَّجْ غُمُّوا (2)
وقيل: إن ذلك من "الغم"، لأن الصدر يضيق به، ولا يتبين صاحبه لأمره مَصدرًا يَصْدُرُه يتفرَّج عليه ما بقلبه، (3) ومنه قول خنساء:
وَذِي كُرْبَةٍ رَاخَى ابْنُ عَمْرٍو خِنَاقَه ... وَغُمَّتَهُ عَنْ وَجْهِهِ فَتَجَلَّتِ (4)
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما:
17761- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أمركم عليكم غمة) ، قال: لا يكبر عليكم أمركم.
* * *
وأما قوله: (ثم اقضوا إليّ) ، فإن معناه: ثم امضوا إليّ ما في أنفسكم وافرغوا منه، كما:-
17762- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون) ، قال: اقضوا إليّ ما كنتم قاضين.
17763- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (ثم اقضوا إليّ ولا تنظرون) ، قال: اقضوا إليّ ما في أنفسكم.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " ومنه قول رؤبة "، وأنا أرجح أنه خطأ من الناسخ، فلذلك وضعته بين القوسين، وإنما نقل هذا أبو جعفر من مجاز القرآن لأبي عبيدة، وهو فيه على الصواب " العجاج ".
(2) ديوانه: 63، واللسان (غمم) ، (كمم) ، وغيرها. أول رجز له طويل في ديوانه، ذكر فيه مسعود بن عمرو العتكي، وما أصابه وقومه من تميم رهط العجاج، وسلف بيان ذلك 13: 75، تعليق: 2، في شرح بيت من هذا الرجز. وقوله: " تكموا " من قوله: " تكممه "، أي غطاه وغشاه، ثم لما توالت الميمات في " تكمموا "، قلبت الأخيرة ياء، كما قيل في " التظنن " و " التظني "، فلما أسند إليه الواو، قال: " تكموا ".
(3) في المطبوعة: " يتفرج عنه "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(4) ديوانها: 22، وروايته " ومُخْتَنِقٍ رَاخَى ابنُ عَمْرٍو " من رثائها في أخيها صخر.(15/150)
17764- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
واختلف أهل المعرفة بكلام العرب في معنى قوله: (ثم اقضوا إليّ) . (1) .
فقال بعضهم: معناه: امضوا إلي، كما يقال: "قد قضى فلان"، يراد: قد مات ومَضَى.
* * *
وقال آخرون منهم: بل معناه: ثم افرغوا إليّ، وقالوا: "القضاء"، الفراغ، والقضاء من ذلك. قالوا: وكأنّ "قضى دينه " من ذلك، إنما هو فَرَغ منه.
* * *
وقد حُكي عن بعض القراء أنه قرأ ذلك: (ثُمَّ أَفْضُوا إِلَيَّ) ، بمعنى: توجَّهوا إليّ حتى تصلوا إليّ، من قولهم: "قد أفْضَى إليّ الوَجَع وشبهه". (2)
* * *
وقوله: (ولا تنظرون) ، يقول: ولا تؤخرون.
* * *
=من قول القائل: "أنظرت فلانًا بما لي عليه من الدين". (3)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن قول نبيه نوح عليه السلام لقومه: إنه بنُصرة الله له عليهم واثق، ومن كيدهم وبوائقهم غير خائف (4) =وإعلامٌ منه لهم أن آلهتهم لا تضرّ ولا تنفع، يقول لهم: أمضوا ما تحدّثون أنفسكم به فيَّ، على عزم منكم صحيح، واستعينوا من شايعكم عليّ بآلهتكم التي تدْعون من دون الله،
__________
(1) انظر تفسير " قضى " فيما سلف ص: 33، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر بيان هذه القراءة في معاني القرآن للفراء 1: 474.
(3) انظر تفسير " الإنظار " فيما سلف 13: 322، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: " من كيدهم وتواثقهم "، وهي قراءة فاسدة، صوابها ما أثبت. والمخطوطة غير منقوطة. و " البوائق "، جمع " بائقة ". يعني: غوائلهم وشرهم وظلمهم وبغيهم عليه.(15/151)
فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)
ولا تؤخروا ذلك، فإني قد توكلت على الله، وأنا به واثق أنكم لا تضروني إلا أن يشاء ربي.
وهذا وإن كان خبرًا من الله تعالى عن نوح، فإنه حثٌّ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم على التأسّي به، وتعريفٌ منه سبيلَ الرشاد فيما قلَّده من الرسالة والبلاغ عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) }
يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نبيه نوح عليه السلام لقومه: (فإن توليتم) ، أيها القوم، عني بعد دعائي إياكم، وتبليغ رسالة ربي إليكم، مدبرين، فأعرضتم عمّا دعوتكم إليه من الحقّ، والإقرار بتوحيد الله، وإخلاص العبادة له، وترك إشراك الآلهة في عبادته، فتضيعٌ منكم وتفريطٌ في واجب حق الله عليكم، لا بسبب من قبلي، فإني لم أسألكم على ما دعوتكم إليه أجرًا، ولا عوضًا أعتاضه منكم بإجابتكم إياي إلى ما دعوتكم إليه من الحق والهدى، ولا طلبت منكم عليه ثوابًا ولا جزاءً = (إن أجري إلا على الله) يقول جل ثناؤه: إن جزائي وأجر عملي وثوابه إلا على ربي، لا عليكم، أيها القوم، ولا على غيركم = (وأمرت أن أكون من المسلمين) ، وأمرني ربي أن أكون من المذعنين له بالطاعة، المنقادين لأمره ونهيه، المذللين له، ومن أجل ذلك أدعوكم إليه، وبأمره آمركم بترك عبادة الأوثان. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التولي " و " الأجر "، و " الإسلام " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) ، (أجر) ، (سلم) .(15/152)
فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فكذب نوحًا قومه فيما أخبرهم به عن الله من الرسالة والوحي = "فنجيناه ومن معه " ممن حمل معه = في "الفلك"، يعني في السفينة (1) = "وجعلناهم خلائف"، يقول: وجعلنا الذين نجينا مع نوح في السفينة خلائف في الأرض من قومه الذين كذبوه (2) بعد أن أغرقنا الذين كذبوا بآياتنا، = يعني حججنا وأدلتنا على توحيدنا، ورسالة رسولنا نوح.
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "فانظر"، يا محمد = كيف كان عاقبة المنذرين" وهم الذين أنذرهم نوحٌ عقابَ الله على تكذيبهم إياه وعبادتهم الأصنام. يقول له جل ثناؤه: انظر ماذا أعقبهم تكذيبهم رسولَهم، فإن عاقبة من كذَّبك من قومك إن تمادوا في كفرهم وطغيانهم على ربهم، نحو الذي كان من عاقبة قوم نوح حين كذبوه. (3)
يقول جل ثناؤه: فليحذروا أن يحلّ بهم مثل الذي حلّ، بهم إن لم يتوبوا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف 12: 502 / 15: 55.
(2) انظر تفسير "الخلافة" فيما سلف ص: 38، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف ص: 93، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/153)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم، فأتوهم ببينات من الحجج والأدلّة على صدقهم، وأنهم لله رسل، وأن ما يدعونهم إليه حقّ = (فما كانوا ليؤمنوا بما كذبوا به من قبل) ، يقول: فما كانوا ليصدّقوا بما جاءتهم به رسلهم بما كذب به قوم نوح ومن قبلَهم من الأمم الخالية من قبلهم = (كذلك نطبع على قلوب المعتدين) ، يقول تعالى ذكره: كما طبعنا على قلوب أولئك فختمنا عليها، فلم يكونوا يقبَلون من أنبياء الله نصيحتَهم، ولا يستجيبون لدعائهم إيّاهم إلى ربهم، بما اجترموا من الذنوب واكتسبوا من الآثام (1) = كذلك نطبع على قلوب من اعتدى على ربّه فتجاوز ما أمره به من توحيده، وخالف ما دعاهم إليه رسلهم من طاعته، (2) عقوبة لهم على معصيتهم ربَّهم من هؤلاء الآخرين من بعدهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم بعثنا من بعد هؤلاء الرسل الذين أرسلناهم من بعد نوح إلى قومهم، موسى وهارون ابني عمران، إلى فرعون مصر
__________
(1) انظر تفسير " الطبع " فيما سلف 14: 424، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الاعتداء " فيما سلف من فهارس اللغة (عدا) .(15/154)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77)
وملئه، يعني: وأشراف قومه وسادتهم (1) = (بآياتنا) ، يقول: بأدلتنا على حقيقة ما دعوهم إليه من الإذعان لله بالعُبُودة، والإقرار لهما بالرسالة = (فاستكبروا) ، يقول: فاستكبروا عن الإقرار بما دعاهم إليه موسى وهارون (2) = (وكانوا قومًا مجرمين) ، يعني: آثمين بربهم، بكفرهم بالله. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (فلما جاءهم الحق من عندنا) ، يعني: فلما جاءهم بيانُ ما دعاهم إليه موسى وهارون، وذلك الحجج التي جاءهم بها، وهي الحق الذي جاءهم من عند الله = (قالوا إن هذا لسحر مبين) ، يعنون أنه يبين لمن رآه وعاينه أنه سحر لا حقيقة له (4) = (قال موسى) ، لهم: = (أتقولون للحق لما جاءكم) ، من عند الله = (أسحر هذا) ؟ .
* * *
واختلف أهل العربية في سبب دخول ألف الاستفهام في قوله: (أسحر هذا) ؟ فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت فيه على الحكاية لقولهم، لأنهم قالوا: (أسحر هذا) ؟ فقال: أتقولون: (أسحر هذا) ؟
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف 13: 36، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الاستكبار " فيما سلف 13: 114، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) قوله " آثمين بربهم "، تعبير سلف مرارًا في كلام أبي جعفر، وبينته وفسرته فيما سلف انظر 12: 303، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " السحر " فيما سلف 13: 49، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/155)
وقال بعض نحويي الكوفة: إنهم قالوا: "هذا سحر"، ولم يقولوه بالألف، لأن أكثر ما جاء بغير ألف. قال: فيقال: فلم أدخلت الألف؟ فيقال: قد يجوز أن تكون من قِيلهم وهم يعلمون أنه سحر، كما يقول الرجل للجائزة إذا أتته: أحقٌّ هذا؟ وقد علم أنه حق. قال: وقد يجوز أن تكون على التعجّب منهم: أسحر هذا؟ ما أعظمه! (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى ذلك في هذا بالصواب عندي أن يكون المفعولُ محذوفًا، ويكون قوله: (أسحر هذا) ، من قيل موسى، منكرًا على فرعون وملئه قولَهم للحق لما جاءهم: " سحر"، فيكون تأويل الكلام حينئذ: قال موسى لهم: (أتقولون للحق لما جاءكم) = وهي الآيات التي أتاهم بها من عند الله حجة له على صدقه = سحرٌ، أسحرٌ هذا الحقّ الذي ترونه؟ فيكون "السحر" الأوّل محذوفًا، اكتفاءً بدلالة قول موسى (أسحر هذا) ، على أنه مرادٌ في الكلام، كما قال ذو الرمة.
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ، أَوْ حِينَ نَصَّبَت ... لَهُ مِنْ خَدَّا آذَانِهَا وَهْوَ جَانِحُ (2)
يريد: أو حين أقبل، ثم حذف اكتفاءً بدلالة الكلام عليه، وكما قال جل ثناؤه: (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ) [سورة الإسراء: 7] ، والمعنى: بعثناهم ليسوءوا وجوهكم = فترك ذلك اكتفاء بدلالة الكلام عليه، في أشباه لما ذكرنا كثيرة، يُتْعب إحصاؤها.
* * *
وقوله: (ولا يفلح الساحرون) ، يقول: ولا ينجح الساحرون ولا يَبْقون. (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 474.
(2) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 1: 327، تعليق: 2.
(3) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص: 146، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/156)
قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال فرعون وملأه لموسى: (أجئتنا لتلفتنا) ، يقول: لتصرفنا وتلوينا = (عمّا وجدنا عليه آباءنا) ، من قبل مجيئك، من الدين.
* * *
= يقال منه: "لفت فلانٌ [عنق فلان" إذا لواها، كما قال رؤبة] : (1)
*لَفْتُا وَتْهِزِيعًا سَواءَ اللَّفْتِ* (2)
"التهزيع": الدق، و"اللفت"، اللّي، كما:-
17765- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (لتلفتنا) ، قال: لتلوينا عما وجدنا عليه آباءنا.
* * *
وقوله: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، يعني العظمة، وهي "الفعلياء" من "الكبر". ومنه قول ابن الرِّقاع:
__________
(1) كان في المخطوطة والمطبوعة: " كما قال ذو الرمة "، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه ما أثبت، كما دل عليه مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 280، وأنا أرجح أن ذلك من الناسخ، لا من أبي جعفر، لأنه نقل عن أبي عبيدة. وانظر مثل هذا فيما سلف ص: 150، تعليق: 1: فوضعت الصواب بين القوسين.
(2) ديوانه 24، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 280، اللسان (هزع) ، من رجز ذكر فيه نفسه، يقول قبله، مشبها نفسه بالأسد: فَإنْ تَرَيْنِي أَحْتَمِي بِالسَّكْتِ
فَقَدْ أَقُومُ بِالْمَقَامِ الثَّبْتِ
أشْجَعَ مِنْ ذي لِبَدٍ بِخَبْتِ
يَدُقُّ صُلْباتِ العِظَامِ رَفْتِي
و" الرفت "، الدق والكسر. وقوله " سواء اللفت "، أي " سوى اللفت " " سواء " (بفتح السين) و " سوى " (بكسر السين) ، بمعنى: غير.(15/157)
سُؤْدَدًا غَيْرَ فَاحِش لا يُدَا ... نِيهِ تِجِبَّارَةٌ وَلا كِبْرِياءُ (1)
* * *
17766- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، قال: الملك.
17767-. . . . قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مجاهد: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، قال: السلطان في الأرض.
17768-. . . . قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، قال: بلغني، عن مجاهد قال: الملك في الأرض.
17769-. . . . قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) ، قال: الطاعة.
17770- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتكون لكما الكبرياء في الأرض) قال: الملك.
17771-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17772- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
__________
(1) لم أجد البيت في مكان آخر، وكان في المطبوعة: " تجباره "، ومثله في المخطوطة، أما ضبطه فقد شغلني، لأن أصحاب اللغة لم يذكروا في مصادر " الجبروت " سوى " التجبار " (بفتح فسكون) بمعنى الكبر. فكأن قارئه يقرؤه كما في المطبوعة والمخطوطة " تجباره " (بفتح فسكون) ، مضافا إلى الهاء. وظني أن الضبط الذي ذهبت إليه أجود، وإن لم يذكروه في المصادر في كتب اللغة التي بين أيدينا. ومصدر " تِفِعَّال " (بكسر التاء والفاء وتشديد العين) ، هو قياس التصدير في " تَفَعَّل " لكنها صارت مسموعة لا يقاس على ما جاء منها الشافية 1: 166) ، نحو " تِمِلَّاق " ودخول التاء في مثله في المصادر جائز في العربية. وبالضبط الذي ضبطته يستقيم وزن الشعر، فأخشى أن يكون هذا المصدر على هذا الميزان، مما أغفلته كتب اللغة.(15/158)
17773- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد قال: السلطان في الأرض.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال كلها متقارباتُ المعاني، وذلك أن الملك سلطان، والطاعة ملك، غير أن معنى "الكبرياء"، هو ما ثبت في كلام العرب، ثم يكون ذلك عظمة بملك وسلطان وغير ذلك.
* * *
وقوله: (وما نحن لكما بمؤمنين) ، يقول: "وما نحن لكما" يا موسى وهارون "بمؤمنين"، يعني بمقرِّين بأنكما رسولان أرسلتما إلينا.
* * *(15/159)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال فرعون لقومه: ائتوني بكل من يسحر من السحرة، عليم بالسحر (1) = (فلما جاء السحرة) ، فرعونَ = قال موسى: (ألقوا ما أنتم ملقون) ، من حبالكم وعصيِّكم.
* * *
وفي الكلام محذوف قد ترك، وهو: "فأتوه بالسحرة، فلما جاء السحرة"، ولكن اكتفى بدلالة قوله: (فلما جاء السحرة) ، على ذلك، فترك ذكره.
وكذلك بعد قوله: (ألقوا ما أنتم ملقون) ، محذوفٌ أيضًا قد ترك ذكرُه، وهو: (فألقوا حبالهم وعصيهم) = (فلما ألقوا قال موسى) ، ولكن اكتفى بدلالة ما ظَهَر من الكلام عليه، فتُرك ذكره.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السحر " فيما سلف ص: 155: تعليق: 4، والمراجع هناك.
= وتفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .(15/159)
فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ألقوا ما هم ملقوه، قال لهم موسى: ما جئتم به السحر.
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء الحجاز والعراق (مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ) على وجه الخبر من موسى عن الذي جاءت به سحرة فرعون، أنه سحرٌ. كأن معنى الكلام على تأويلهم: قال موسى: الذي جئتم به أيّها السحرة، هو السحر.
* * *
وقرأ ذلك مجاهد وبعض المدنيين البصريين: (مَا جِئْتُمْ بِهِ آلسِّحْرُ) على وجه الاستفهام من موسى إلى السحرة عما جاؤوا به، أسحر هو أم غيره؟ (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب، قراءة من قرأه على وجه الخبر لا على الاستفهام، لأن موسى صلوات الله وسلامه عليه، لم يكن شاكا فيما جاءت به السحرة أنه سحر لا حقيقة له، فيحتاج إلى استخبار السحرة عنه، أي شيء هو؟
وأخرى أنه صلوات الله عليه قد كان على علم من السحرة، إنما جاء بهم فرعون ليغالبوه على ما كان جاءهم به من الحق الذي كان الله آتاه، فلم يكن
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 475، وفيه تفصيل مفيد.(15/160)
يذهب عليه أنهم لم يكونوا يصدِّقونه في الخبر عمّا جاءوه به من الباطل، فيستخبرهم أو يستجيز استخبارهم عنه، ولكنه صلوات الله عليه أعلمهم أنه عالم ببطول ما جاؤوا به من ذلك بالحق الذي أتاه، (1)
ومبطلٌ كيدهم بحَدِّه. (2)
وهذه أولى بصفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخرى.
* * *
فإن قال قائل: فما وجه دخول الألف واللام في "السحر" إن كان الأمر على ما وصفت، وأنت تعلم أن كلام العرب في نظير هذا أن يقولوا: "ما جاءني به عمرو درهمٌ = والذي أعطاني أخوك دينار"، ولا يكادون أن يقولوا (3)
: الذي أعطاني أخوك الدرهم = وما جاءني به عمرو الدينار؟
قيل له: بلى، كلام العرب إدخال "الألف واللام " في خبر "ما" و"الذي" إذا كان الخبر عن معهود قد عرفه المخاطَب والمخاطِب، بل لا يجوز إذا كان ذلك كذلك إلا بالألف واللام، لأنّ الخبر حينئذ خبرٌ عن شيء بعينه معروف عند الفريقين، وإنما يأتي ذلك بغير "الألف واللام"، (4) إذا كان الخبر عن مجهول غير معهود ولا مقصود قصدَ شيء بعينه، فحينئذ لا تدخل الألف واللام في الخبر. (5) وخبرُ موسى كان خبرًا عن معروف عنده وعند السحرة، وذلك أنها كانت نسبت ما جاءهم به موسى من الآيات التي جعلها الله عَلَمًا له على صدقه
__________
(1) في المخطوطة: " ما جاؤوا به من ذلك الحق الذي أتاه "، وأرجح أن ناسخ المخطوطة قد أسقط شيئًا من الكلام، ولكن ما في المطبوعة يؤدي عن معناه، وذلك بزيادة الباء في " بالحق "، وإن كانت الجملة عندي ضعيفة.
(2) في المطبوعة: " بجده " بالجيم، والصواب بالحاء. و " الحد " الشدة والبأس والسطوة.
(3) هكذا في المخطوطة " لا يكادون أن يقولوا "، وبعد " يقولوا " حرف " ط " دلالة على الخطأ، وليس خطأ. وقد عقد ابن هشام في شواهد التوضيح لمشكلات الجامع الصحيح: 98 - 102، فصلا جيدًا في وقوع خبر " كاد " مقرونا به " أن "، وذكر شواهده في الحديث وفي الشعر، واحتج لذلك أحسن الاحتجاج.
(4) في المطبوعة والمخطوطة أسقط " واللام ".
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 475.(15/161)
ونبوته، إلى أنه سحرٌ، فقال لهم موسى: السحرُ الذي وصفتم به ما جئتكم به من الآيات أيها السحرة، هو الذي جئتم به أنتم، لا ما جئتكم به أنا. ثم أخبرهم أن الله سيبطله. فقال: (إن الله سيبطله) ، يقول: سيذهب به، فذهب به تعالى ذكره، بأن سلط عليه عصا موسى قد حوّلها ثعبانًا يتلقَّفه، حتى لم يبق منه شيء = (إن الله لا يصلح عمل المفسدين) ، يعني: أنه لا يصلح عمل من سعى في أرض الله بما يكرهه، وعمل فيها بمعاصيه. (1)
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: (مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ) .
* * *
وفي قراءة ابن مسعود: (مَا جِئْتُمْ بِهِ سِحْرٌ) ، (2) وذلك مما يؤيد قراءة من قرأ بنحو الذي اخترنا من القراءة فيه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإفساد " فيما سلف من فهارس اللغة (فسد) .
(2) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء 1: 475.(15/162)
وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن موسى أنه قال للسحرة: (ويحق الله الحق) ، يقول: ويثبت الله الحق الذي جئتكم به من عنده، فيعليه على باطلكم، ويصححه = "بكلماته"، يعني: بأمره (1) = (ولو كره المجرمون) ، يعني الذين اكتسبوا الإثم بربِّهم، (2) بمعصيتهم إياه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلم يؤمن لموسى، مع ما أتاهم به من الحجج والأدلّة (إلا ذرية من قومه) خائفين من فرعون وملئهم.
ثم اختلف أهل التأويل في معنى الذرية في هذا الموضع.
فقال بعضهم: الذرية في هذا الموضع: القليل.
*ذكر من قال ذلك:
17774- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فما آمن لموسى إلا ذرّية من قومه) ، قال، كان ابن عباس يقول: "الذرية": القليل.
17775- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) ، "الذرية"، القليل، كما قال الله تعالى: (كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ) [سورة الأنعام: 133]
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل لطول الزمان، لأن الآباء ماتوا وبقي الأبناء، فقيل لهم "ذرية"، لأنهم كانوا ذرية من هلك ممن أرسل إليهم موسى عليه السلام. (3)
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " يحق الحق بكلماته " فيما سلف 13: 407، تعليق: 2، 3، والمراجع هناك.
(2) انظر بيان معنى " أثم بربه " فيما سلف ص: 155، تعليق: 3:، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الذرية " فيما سلف 12: 127، 128، تعليق: 1، والمراجع هناك.
وانظر تفسير بمعنى " القليل " في معاني القرآن للفراء 1: 476.(15/163)
17776- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) ، قال: أولاد الذين أرسل إليهم من طول الزمان، ومات آباؤهم.
17777- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد=
17778- وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
17779- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه) ، قال: أولاد الذين أرسل إليهم موسى، من طول الزمان ومات آباؤهم.
17780- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) ، قال: أبناء أولئك الذين أرسل إليهم، فطال عليهم الزمان وماتت آباؤهم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما آمن لموسى إلا ذرية من قوم فرعون.
*ذكر من قال ذلك:
17781- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم) ، قال: كانت الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل، من قوم فرعون يسير، منهم: امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه.
* * *(15/164)
وقد روي عن ابن عباس خبرٌ يدل على خلاف هذا القول، وذلك ما:-
17782- حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (ذرية من قومه) ، يقول: بني إسرائيل.
* * *
=فهذا الخبر، ينبئ عن أنه كان يرى أن "الذرية" في هذا الموضع، (1) هم بنو إسرائيل دون غيرهم من قوم فرعون.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية، القولُ الذي ذكرته عن مجاهد، وهو أن "الذرية"، في هذا الموضع أريد بها ذُرّية من أرسل إليه موسى من بني إسرائيل، فهلكوا قبل أن يقرُّوا بنبوته لطول الزمان، فأدركت ذريّتهم، فآمن منهم من ذكر الله، بموسى.
وإنما قلت: "هذا القولُ أولى بالصواب في ذلك"، لأنه لم يجر في هذه الآية ذكرٌ لغير موسى، فَلأن تكون "الهاء"، في قوله: "من قومه"، من ذكر موسى لقربها من ذكره، أولى من أن تكون من ذكر فرعون، لبعد ذكره منها، إذ لم يكن بخلاف ذلك دليلٌ، من خبرٍ ولا نظرٍ.
وبعدُ، فإن في قوله: (على خوف من فرعون وملئهم) ، الدليلُ الواضح على أن الهاء في قوله: (إلا ذرية من قومه) ، من ذكر موسى، لا من ذكر فرعون، لأنها لو كانت من ذكر فرعون لكان الكلام، "على خوف منه"، ولم يكن (على خوف من فرعون) .
* * *
وأما قوله: (على خوف من فرعون) ، فإنه يعني على حال خوف ممن آمن من ذرية قوم موسى بموسى = فتأويل الكلام: فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، من بني إسرائيل، وهم خائفون من فرعون وملئهم أن يفتنوهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " ينبئ عنه "، وأثبت ما في المخطوطة.(15/165)
وقد زعم بعض أهل العربية أنه إنما قيل: "فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه"، لأن الذين آمنوا به إنما كانت أمهاتهم من بني إسرائيل، وآباؤهم من القبط، فقيل لهم "الذرية"، من أجل ذلك، كما قيل لأبناء الفرس الذين أمهاتهم من العرب وآباؤهم من العجم: "أبناء". (1) .
والمعروف من معنى "الذرية" في كلام العرب: أنها أعقاب من نسبت إليه من قبل الرجال والنساء، كما قال جل ثناؤه: (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ) ، [سورة الإسراء: 3] ، وكما قال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ) ثم قال بعد: (وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ) ، [سورة الأنعام: 84، 85] ، فجعل من كان من قبل الرجال والنساء من ذرية إبراهيم.
* * *
وأما قوله: (وملئهم) ، فإن "الملأ": الأشراف. (2) وتأويل الكلام: على خوف من فرعون ومن أشرافهم.
* * *
واختلف أهل العربية فيمن عُني بالهاء والميم اللتين في قوله: (وملئهم) ، فقال بعض نحويي البصرة: عُني بها الذرية. وكأنّه وجَّه الكلام إلى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه، على خوف من فرعون) وملأ الذرِّية من بني إسرائيل.
* * *
وقال بعض نحويي أهل الكوفة: (3)
عني بهما فرعون. قال: وإنما جاز ذلك وفرعون واحد، لأن الملك إذا ذكر بخوفٍ أو سفر أو قدوم من سفر، (4) ذهب الوهم إليه وإلى من معه. وقال: ألا ترى أنك تقول: "قدم الخليفة فكثر الناس"، تريد، بمن معه = "وقدم فغلت الأسعار"، لأنك تنوي بقدومه قدوم من معه. (5)
* * *
__________
(1) هو الفراء في معاني القرآن 1: 476.
(2) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: 155 تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: " نحويي الكوفة "، وأثبت ما في المخطوطة ".
(4) في المطبوعة: "الخوف"، والصواب من معاني القرآن للفراء. أما المخطوطة فقد أسقط ناسخها وكتب: "لأن الملك، وقال: ألا ترى".
(5) في المطبوعة ": لأنا ننوي بقدومه. . . "، وفي المخطوطة: " لأنا ننوي بقدومه وقدوم من معه "، وهو خطأ، وأثبت ما في معاني القرآن للفراء.(15/166)
قال: وقد يكون أن تريد أن بـ "فرعون" آل فرعون، وتحذف "الآل"، (1) فيجوز، كما قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، [سورة يونس: 82] ، يريد أهل القرية، والله أعلم. قال: ومثله قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) ، [سورة الطلاق: 1] . (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال: "الهاء والميم" عائدتان على "الذرية". ووجَّه معنى الكلام إلى أنه: على خوف من فرعون، وملأ الذرية = لأنه كان في ذرية القرن الذين أرسل إليهم موسى من كان أبوه قبطيًا وأمه إسرائيلية. فمن كان كذلك منهم، كان مع فرعون على موسى.
* * *
وقوله: (أن يفتنهم) ، يقول: كان إيمان من آمن من ذرية قوم موسى على خوف من فرعون = "أن يفتنهم" بالعذاب، فيصدّهم عن دينهم، ويحملهم على الرجوع عن إيمانهم والكفر بالله. (3)
وقال: (أن يفتنهم) ، فوحَّد ولم يقل: "أن يفتنوهم"، لدليل الخبر عن فرعون بذلك: أن قومه كانوا على مثل ما كان عليه، لما قد تقدم من قوله: (على خوف من فرعون وملئهم) .
* * *
وقوله: (وإن فرعون لعال في الأرض) ، يقول تعالى ذكره: وإن فرعون لجبّارٌ مستكبر على الله في أرضه = "وإنه لمن المسرفين"، وإنه لمن المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، (4) وذلك كفره بالله وتركه الإيمان به، وجحودُه وحدانية الله، وادّعاؤه لنفسه الألوهة، وسفكه الدماء بغير حِلِّها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة، " وبحذف "، وفي المخطوطة: " فتحذف آل فرعون "، وهو خطأ، صوابه من معاني القرآن.
(2) هذا الذي مضى نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 476، 477.
(3) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف من فهارس اللغة (فتن) .
(4) انظر تفسير " الإسراف " فيما سلف ص: 37، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/167)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل موسى نبيِّه لقومه: يا قوم إن كنتم أقررتم بوحدانية الله، وصدقتم بربوبيته = (فعليه توكلوا) ، يقول: فبه فثقوا، ولأمره فسلموا، (1)
فإنه لن يخذل وليّه، ولن يسلم من توكل عليه (2) = (إن كنتم مسلمين) ، يقول: إن كنتم مذعنين لله بالطاعة، فعليه توكلوا. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقال قوم يا موسى لموسى: (على الله توكلنا) ، أي به وثقنا، وإليه فوَّضنا أمرنا.
* * *
وقوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، يقول جل ثناؤه مخبرًا عن قوم موسى أنهم دعوا ربهم فقالوا: يا ربنا لا تختبر هؤلاء القوم الكافرين، ولا تمتحنهم بنا! (4) = يعنون قوم فرعون.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي سألوه ربَّهم من إعاذته ابتلاء قوم فرعون بهم.
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص: 147، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: " ويسلم "، وفي المخطوطة: " ولم يسلم "، والصواب ما أثبت.
(3) انظر تفسير " الإسلام " فيما سلف من فهارس اللغة (سلم) .
(4) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف من فهارس اللغة (فتن) .(15/168)
فقال بعضهم: سألوه أن لا يظهرهم عليهم، فيظنُّوا أنهم خيرٌ منهم، وأنهم إنما سُلِّطوا عليهم لكرامتهم عليه وهوان الآخرين.
*ذكر من قال ذلك:
17783- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن أبي مجلز، في قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال: لا يظهروا علينا، فيروا أنهم خير منا.
17784- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حدير، عن أبى مجلز في قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال: قالوا: لا تظهرهم علينا فيروا أنهم خيرٌ منّا.
17785- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال: لا تسلّطهم علينا، فيزدادوا فتنة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
*ذكر من قال ذلك:
17786- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، لا تسلطهم علينا فيفتنونا.
17787- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال: لا تسلطهم علينا فيضلونا.
17788- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله = وقال أيضًا: فيفتنونا.
17789- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن(15/169)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون، ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: "لو كانوا على حقّ ما سُلِّطنا عليهم ولا عُذِّبوا"، فيفتتنوا بنا.
17790- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال: لا تعذبنا بأيدي قوم فرعون ولا بعذاب من عندك، فيقول قوم فرعون: "لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا"، فيفتتنوا بنا.
17791- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله: (لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، قال: لا تصبنا بعذاب من عندك ولا بأيديهم، فيفتتنوا ويقولوا: "لو كانوا على حق ما سُلِّطنا عليهم ولا عذِّبوا".
17792- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين) ، لا تبتلنا ربنا فتجهدنا، وتجعله فتنة لهم، هذه الفتنة. وقرأ: (فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ) ، [سورة الصافات: 63] ، قال المشركون، حين كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ويرمونهم، أليس ذلك فتنة لهم وسوءًا لهم، وهي بلية للمؤمنين؟.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن القوم رغبوا إلى الله في أن يُجيرهم من أن يكونوا محنة لقوم فرعون وبلاءً، وكلُّ ما كان من أمر كان لهم مصدَّة عن اتباع موسى والإقرار به، وبما جاءهم به، فإنه لا شك أنه كان لهم "فتنة"، وكان من أعظم الأمور لهم إبعادًا من الإيمان بالله ورسوله. وكذلك من المصدَّة كان لهم عن الإيمان: أن لو كان قوم موسى عاجلتهم من الله محنةٌ(15/170)
وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
في أنفسهم، من بلية تنزل بهم، فاستعاذ القوم بالله من كل معنى يكون صادًّا لقوم فرعون عن الإيمان بالله بأسبابهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونجِّنا يا ربنا برحمتك، فخلِّصنا من أيدي القوم الكافرين، قوم فرعون، لأنهم كان يستعبدونهم ويستعملونهم في الأشياء القَذِرة من خدمتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأوحينا إلى موسى وأخيه أن اتخذا لقومكما بمصر بيوتًا.
* * *
= يقال منه: "تبوَّأ فلان لنفسه بيتًا"، إذا اتخذه. وكذلك تبوَّأ مصْحفًا"، إذا اتخذه، "وبوأته أنا بيتًا": إذا اتخذته له. (1)
* * *
= (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، يقول: واجعلوا بيوتكم مساجدَ تصلُّون فيها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " بوأ " فيما سلف 7: 164 / 12: 541.(15/171)
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) . (1)
فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.
*ذكر من قال ذلك:
17793- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: مساجد.
17794- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: أمروا أن يتخذوها مساجد.
17795-. . . . قال حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال، حدثنا زهير قال، حدثنا خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس في قول الله تعالى: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: كانوا يَفْرَقُون من فرعون وقومه أن يصلُّوا، فقال لهم: (اجعلوا بيوتكم قبلة) ، يقول: اجعلوها مسجدًا حتى تصلوا فيها.
17796- حدثنا ابن وكيع وابن حميد، قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: خافوا، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17797- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: (واجعلوا بيوتكم قبلة) قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17798- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شبل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17799- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: كانوا لا يصلون إلا في البِيَع، وكانوا لا يصلون إلا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
__________
(1) انظر تفسير " القبلة " فيما سلف 3: 131.(15/172)
17800-. . . . قال، حدثنا جرير عن ليث، عن مجاهد قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17801- قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: كانت بنو إسرائيل تخاف فرعون، فأمروا أن يجعلوا بيوتهم مساجد يصلون فيها.
17802- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، يقول: مساجد.
17803-. . . . قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: كانوا يصلون في بيوتهم يخافون.
17804- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن أبي سنان، عن الضحاك: (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) ، قال: مساجد.
17805- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: كانوا خائفين، فأمروا أن يصلوا في بيوتهم.
17806- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد، في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: قال أبي (1) اجعلوا في بيوتكم مساجدكم تصلُّون فيها، تلك "القبلة".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا مساجدكم قِبَل الكعبة.
__________
(1) في المطبوعة وحدها: " قال قال أبو زيد "، يعني، أباه زيدًا، والقائل هو " ابن زيد ". وأثبت ما في المخطوطة.(15/173)
*ذكر من قال ذلك:
17807- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، يعني الكعبة.
17808- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) ، قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: لا نستطيع أن نظْهرَ صلاتنا مع الفراعنة! فأذن الله لهم أن يصلوا في بيوتهم، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قِبَل القبلة.
17809- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قال ابن عباس في قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، يقول: وجِّهوا بيوتكم، "مساجدكم" نحو القبلة، ألا ترى أنه يقول: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ) [سورة النور: 36] .
17810- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: قِبَل القبلة.
17811- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (بيوتكم قبلة) ، قال: نحو الكعبة، حين خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد مستقبلةً الكعبة يصلون فيها سرًّا.
17812- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، ثم ذكر مثله سواء.
17813-. . . . قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:(15/174)
(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) ، مساجد.
17814-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد: في قوله: (أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا) ، قال: مصر، "الإسكندرية".
17815- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتًا واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: وذلك حين منعهم فرعون الصلاة، فأمروا أن يجعلوا مساجدهم في بيوتهم، وأن يوجهوا نحو القبلة.
17816- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (بيوتكم قبلة) ، قال: نحو القبلة.
17817- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق، عن أبي سنان، عن الضحاك: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوءا لقومكما بمصر بيوتا) قال: مساجد = (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: قبل القبلة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضًا.
*ذكر من قال ذلك:
17818- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، قال: يقابل بعضها بعضًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، القول الذي قدمنا بيانه، وذلك أن الأغلب من معاني "البيوت" = وإن كانت المساجد بيوتًا = البيوت المسكونة، إذا ذكرت باسمها المطلق دون المساجد. لأن "المساجد" لها اسم هي به معروفة، خاصٌّ لها، وذلك "المساجد". فأمّا "البيوت" المطلقة بغير وصلها بشيء، ولا إضافتها إلى شيء، فالبيوت المسكونة.(15/175)
وكذلك "القبلة" الأغلب من استعمال الناس إيّاها في قبل المساجد وللصلوات.
فإذا كان ذلك كذلك، وكان غير جائز توجيه معاني كلام الله إلا إلى الأغلب من وجوهها المستعمل بين أهل اللسان الذي نزل به، دون الخفيّ المجهول، ما لم تأت دلالة تدل على غير ذلك = ولم يكن على قوله: (واجعلوا بيوتكم قبلة) ، دلالةٌ تقطع العذرَ بأن معناه غير الظاهر المستعمل في كلام العرب = لم يجز لنا توجيهه إلى غير الظاهر الذي وصفنا.
وكذلك القول في قوله (قبلة)
* * *
= (وأقيموا الصلاة) ، يقول تعالى ذكره: وأدوا الصلاة المفروضة بحدودها في أوقاتها. (1) . وقوله: (وبشر المؤمنين) ، يقول جل ثناؤه لنبيه عليه الصلاة والسلام: وبشر مقيمي الصلاة المطيعي الله، يا محمد، المؤمنين بالثواب الجزيل منه. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " إقامة الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) .
(2) انظر تفسير " التبشير " فيما سلف ص: 124، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/176)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال موسى يا ربَّنا إنك أعطيت فرعون وكبراء قومه وأشرافهم (1) = وهم "الملأ" = "زينة"، من متاع الدنيا وأثاثها (2) = (وأموالا) من أعيان الذهب والفضة = (في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك) ، يقول موسى لربه: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك ليضلُّوا عن سبيلك.
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم: (لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ، بمعنى: ليضلوا الناسَ، عن سبيلك، ويصدّوهم عن دينك.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (لِيَضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ) ، بمعنى: ليضلوا هم عن سبيلك، فيجورُوا عن طريق الهدى. (3)
* * *
فإن قال قائل: أفكان الله جل ثناؤه، أعطَى فرعون وقومه، ما أعطاهم من زينة الدنيا وأموالها، ليضلوا الناس عن دينه = أو ليضلُّوا هم عنه=؟ فإن كان لذلك أعطاهم ذلك، فقد كان منهم ما أعطاهم لذلك، (4) فلا عتب عليهم في ذلك؟
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: 166، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف 12: 389.
(3) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء 1: 477.
(4) في المطبوعة: " ما أعطاه لأجله "، وأثبت ما في المخطوطة.(15/177)
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمت. (1)
وقد اختلف أهل العلم بالعربية في معنى هذه "اللام" التي في قوله: (ليضلوا) .
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: ربنا فَضَلوا عن سبيلك، كما قال: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) ، [سورة القصص: 8] ، أي فكان لهم = وهم لم يلتقطوه ليكون لهم عدوًا وحزنًا، وإنما التقطوه فكان لهم. قال: فهذه "اللام" تجيء في هذا المعنى. (2)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: هذه "اللام"، "لام كي" (3) = ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم، كي يضلوا = ثم دعا عليهم.
* * *
وقال آخر: هذه اللامات في قوله: (ليضلوا) و (ليكون لهم عدوًا) ، وما أشبهها بتأويل الخفض: آتيتهم ما أتيتهم لضَلالهم = والتقطوه لكونه = لأنه قد آلت الحالة إلى ذلك. والعرب تجعل "لام كي"، في معنى "لام الخفض"، و"لام الخفض" في معنى "لام كي"، لتقارب المعنى، قال الله تعالى: (سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ) (4) [سورة التوبة: 95] أي لإعراضكم، ولم يحلفوا لإعراضهم، وقال الشاعر: (5)
سَمَوْتَ وَلَمْ تَكُنْ أَهْلا لِتَسْمُو ... وَلَكِنَّ المُضَيِّعَ قَدْ يُصَابُ
قال: وإنما يقال: "وما كنت أهلا للفعل"، ولا يقال "لتفعل" إلا قليلا. قال: وهذا منه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة، أسقط الناسخ فكتب: " فلا عتب عليهم في ذلك بخلاف ما توهمت "، وقد أصاب ناشر المطبوعة فيما استظهره من السياق.
(2) أي معنى العاقبة والمآل.
(3) هو الفراء في معاني القرآن 1: 477.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: " يحلفون بالله " بغير السين، وهذا حق التلاوة.
(5) لم أعرف قائله.(15/178)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنها "لام كي" = ومعنى الكلام: ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من زينة الحياة الدنيا والأموال لتفتنهم فيه، ويضلوا عن سبيلك عبادَك، عقوبة منك. وهذا كما قال جل ثناؤه: (لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ) ، [سورة الجن: 16-17] .
* * *
وقوله: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) ، هذا دعاء من موسى، دعا الله على فرعون وملئه أن يغير أموالهم عن هيئتها، ويبدلها إلى غير الحال التي هي بها، وذلك نحو قوله: (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا) ، [سورة النساء: 47] . يعني به: من قبل أن نغيرها عن هيئتها التي هي بها.
* * *
= يقال منه: "طَمَسْت عينَه أَطْمِسْها وأطمُسُها طَمْسًا وطُمُوسا". وقد تستعمل العرب "الطمس" في العفوّ والدثور، وفي الاندقاق والدروس، (1) كما قال كعب بن زهير:
مِنْ كُلِّ نَضَّاحَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلامِ مَجْهُول (2)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك في هذا الموضع. فقال جماعة منهم فيه مثل قولنا.
*ذكر من قال ذلك:
17820- حدثني زكريا بن يحيى بن زائدة قال، حدثنا حجاج قال، حدثني ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: بلغنا عن القرظي في قوله: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: اجعل سُكّرهم حجارة. (3)
17821- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) انظر تفسير " الطمس " فيما سلف 8: 444، 445.
(2) سلف البيت وتخريجه وشرحه 4: 424 / 8: 444.
(3) سقط من الترقيم سهوًا، رقم: 17819.(15/179)
ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن محمد بن كعب القرظي قال: اجعل سكرهم حجارة.
17822- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (اطمس على أموالهم) قال: اجعلها حجارة.
17823- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر عن الربيع بن أنس في قوله: (اطمس على أموالهم) ، قال: صارت حجارة.
17824- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: بلغنا أن زروعهم تحوَّلت حجارة.
17825- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: بلغنا أن حَرْثًا لهم صارت حجارة. (1)
17826- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: يقولون: صارت حجارة.
17827- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق. قال: حدثنا يحيى الحماني قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: صارت حجارة.
17828- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: بلغنا أن حروثًا لهم صارت حجارة.
17829- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ربنا اطمس على
__________
(1) في المطبوعة: " حروثًا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضًا.(15/180)
أموالهم) ، قال: جعلها الله حجارةً منقوشة على هيئة ما كانت.
17830- حدثنا يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: قد فعل ذلك، وقد أصابهم ذلك، طمَس على أموالهم، فصارت حجارةً، ذهبهم ودراهمهم وعَدَسهم، وكلُّ شيء.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أهلكها.
*ذكر من قال ذلك:
17831- حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ربنا اطمس على أموالهم) ، قال: أهلكها.
17832- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17833- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17834- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ربنا اطمس على أموالهم) ، يقول: دمِّر عليهم وأهلك أموالهم.
* * *
وأما قوله: (واشدد على قلوبهم) ، فإنه يعني: واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح بالإيمان، كما:-
17835- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: وقال موسى قبل أن يأتي فرعون: "ربنَا اشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم"، فاستجاب الله له، وحال بين فرعون وبين الإيمان حتى أدركه الغرق، فلم ينفعه الإيمان.
17836- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي(15/181)
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (واشدد على قلوبهم) ، يقول: واطبع على قلوبهم = (حتى يروا العذاب الأليم) ، وهو الغرق.
17837- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واشدد على قلوبهم) ، بالضلالة.
17838-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واشدد على قلوبهم) ، قال: بالضلالة.
17839- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17840- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (واشدد على قلوبهم) ، يقول: أهلكهم كفارًا.
* * *
وأما قوله: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) ، فإن معناه: فلا يصدقوا بتوحيد الله ويقرُّوا بوحدانيته، حتى يروا العذاب الموجع، (1) كما:-
17841- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلا يؤمنوا) ، بالله فيما يرون من الآيات = (حتى يروا العذابَ الأليم) .
17842- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17843-. .. . قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17844- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
__________
(1) انظر تفسير " الأليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .(15/182)
عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17845- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال: سمعت المنقري يقول: (فلا يؤمنوا) ، يقول: دعا عليهم. (1)
* * *
واختلف أهل العربية في موضع: (يؤمنوا) .
فقال بعض نحويي البصرة: هو نصبٌ، لأن جواب الأمر بالفاء، أو يكون دُعاء عليهم إذ عصوا. وقد حكي عن قائل هذا القول أنه كان يقول: هو نصبٌ، عطفًا على قوله: (ليضلوا عن سبيلك) .
* * *
وقال آخر منهم، (2) وهو قول نحويي الكوفة: موضعه جزمٌ، على الدعاء من موسى عليهم، بمعنى: فلا آمنوا، كما قال الشاعر: (3)
فَلا يَنْبَسِطْ مِنْ بَيْن عَيْنَيْكَ مَا انزوَى ... وَلا تَلْقَنِي إِلا وَأَنْفُكَ رَاغِمُ (4)
بمعنى: "فلا انبسط من بين عينيك ما انزوى"، "ولا لقيتني"، على الدعاء.
* * *
__________
(1) الأثر: 17845 - "المنقري "، هكذا في المطبوعة. وفي المخطوطة: " المعري " غير منقوطة، وقد أعياني أن أعرف من يعني.
(2) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 281.
(3) هو الأعشى.
(4) ديوانه: 58، من قصيدته في هجاء يزيد بن مسهر الشيباني، يقول له: فَهَانَ عَلَيْنَا مَا يَقُولُ ابْنُ مُسْهرٍ ... بِرَغْمِكَ إذْ حَلّتْ عَلَيْنَا اللَّهَازِمُ
يَزِيدُ يَغُضُّ الطَّرْفَ دُونِي، كَأَنَّمَا ... زَوَى بَيْنَ عَيْنَيْهِ عَلَى المَحَاجِمُ
فَلاَ يَنبَسِطْ. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فأقسم بالله الذي أنا أعبده ... لتصطفقن يوما عليك المآتم
.(15/183)
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: هو دعاء، كأنه قال: اللهم فلا يؤمنوا. قال: وإن شئت جعلتها جوابًا لمسألته إياه، لأن المسألة خرجت على لفظ الأمر، فتجعل: (فلا يؤمنوا) ، في موضع نصب على الجواب، وليس يسهل. قال: ويكون كقول الشاعر: (1)
يَا نَاقُ سِيرِي عَنَقًا فَسِيحَا ... إِلَى سُلَيْمَانَ فَنَسْتَريحَا (2)
قال: وليس الجواب يسهلُ في الدعاء، لأنه ليس بشرط. (3)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنه في موضع جزم على الدعاء، بمعنى: فلا آمنوا = وإنما اخترت ذلك لأن ما قبله دعاءٌ، وذلك قوله: (ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم) ، فإلحاق قوله: (فلا يؤمنوا) ، إذ كان في سياق ذلك بمعناه أشبهُ وأولى.
* * *
وأما قوله: (حتى يروا العذاب الأليم) ، فإنّ ابن عباس كان يقول: معناه: حتى يروا الغرق = وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك من بعض وجوهها فيما مضى. (4)
17846- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال ابن عباس: (فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) ، قال: الغرق.
* * *
__________
(1) هو أبو النجم.
(2) سيبويه 1: 421، معاني القرآن للفراء 1: 478، وغيرهما. وسيأتي في التفسير 13: 159 (بولاق) . من أرجوزة له في سليمان بن عبد الملك، لم أجدها مجموعة في مكان. و "العنق "، ضرب من السير. و" الفسيح " الواسع البليغ.
(3) هذا الذي سلف نص كلام الفراء في معاني القرآن 1: 477، 478.
(4) انظر ما سلف رقم: 18735، 18736.(15/184)
قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عن إجابته لموسى صلى الله عليه وسلم وهارون دعاءهما على فرعون وأشراف قومه وأموالهم. يقول جل ثناؤه: (قال) الله لهما: (قد أجيبت دعوتكما) ، في فرعون وملئه وأموالهم.
* * *
فإن قال قائل: وكيف نسبت "الإجابة" إلى اثنين و"الدعاء"، إنما كان من واحد؟
قيل: إن الداعي وإن كان واحدًا، فإن الثاني كان مؤمِّنًا، وهو هارون، فلذلك نسبت الإجابة إليهما، لأن المؤمِّن داعٍ. (1) وكذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17847- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن رجل، عن عكرمة في قوله: (قد أجيبت دعوتكما) ، قال: كان موسى يدعو، وهارون يؤمن، فذلك قوله: (قد أجيبت دعواتكما) .
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية، أن العرب تخاطب الواحد خطاب الاثنين، وأنشد في ذلك: (2)
فَقُلْتُ لِصَاحِبي لا تُعْجَلانَا ... بِنزعِ أُصُولِهِ وَاجْتَزَّ شِيحَا (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 478.
(2) هو مضرس بن ربعى الأسدي.
(3) الصاحبي: 186، ابن يعيش 10: 49، واللسان (جزز) ، وسيأتي في التفسير 26: 103، (بولاق) . من كلمة له، لم أجدها مجموعة في مكان، ومنها أبيات في حماسة ابن الشجري 27، 204، يقولها في الشواء، يقول قبل البيت: وَفِتْيَانٍ شَوَيْتُ لَهُمْ شِوَاءً ... سَريعَ الشَّيِّ كنْتُ بِهِ نَجِيحَا
فَطِرْتُ بِمُنْصُلِي في يَعْمَلاَتٍ ... دَوَامِي الأَيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا
وقُلْتُ لِصَاحِبي: لا تَحْبِسَانَا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ويروى " لا تحبسنا "، ولا شاهد فيها، ويروى " واجدز " (بتشديد الزاي) وقلب " التاء دالا، ورواية الطبري الآتية: " لا تحبسانا " أيضًا.
" النجيح ": المجد السريع. واليعملات: النوق. و" الدوامي ": قد دميت أيديها من طول السير وشدته. و" السريح ": خرق أو جلود تشد على أخفاف الإبل إذا دميت. ويقول لصاحبه: لا تحبسنا عن الشيء = أو: لا تجعلنا نعجل عليك بالدعاء، بطول تلبثك في نزع الحطب من أصوله، بل خذ ما من تيسر قضبانه وعيدانه، وائتنا به لنشوي.(15/185)
17848- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زكريا بن عدي، عن ابن المبارك، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قال: (قد أجيبت دعوتكما) قال: دعا موسى، وأمن هارون.
17849- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وزيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب قال: دعا موسى، وأمَّن هارون.
17850-. . . . قال: حدثنا أبو معاوية، عن شيخ له، عن محمد بن كعب قال: دعا موسى وأمّن هارون.
17851- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: (قد أجيبت دعوتكما) ، قال: دعا موسى، وأمن هارون.
17852- قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وعبد الله بن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، قال: دعا موسى وأمَّن هارون، فذلك قوله: (قد أجيبت دعوتكما) .(15/186)
17853- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا الثوري، عن رجل، عن عكرمة في قوله: "قد أجيبت دعوتكما" قال: كان موسى يدعو وهارون يؤمّن، فذلك قوله: (قد أجيبت دعوتكما) .
17854- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: (قد أجيبت دعوتكما) لموسى وهارون = قال ابن جريج: قال عكرمة: أمّن هارون على دعاء موسى فقال الله: (قد أجيبت دعوتكما فاستقيما) .
17855- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: كان هارون يقول: آمين فقال الله: (قد أجيبت دعوتكما) فصار التأمين دعوة صار شريكه فيها.
* * *
وأما قوله: (فاستقيما) ، فإنه أمرٌ من الله تعالى لموسى وهارون بالاستقامة والثبات على أمرهما، من دعاء فرعون وقومه إلى الإجابة إلى توحيد الله وطاعته، إلى أن يأتيهم عقاب الله الذي أخبرهما أنه أجَابَهما فيه، (1) كما:-
17856- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: (فاستقيما) : فامضيا لأمري، وهي الاستقامة = قال ابن جريج: يقولون: إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة. (2)
* * *
وقوله: (ولا تتبعانّ سبيل الذين لا يعلمون) ، (3) يقول: ولا تسلكانّ طريق
__________
(1) انظر تفسير " الاستقامة "، فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) .
(2) هكذا في المطبوعة والدر المنثور: " بعد هذه الدعوة "، وفي المخطوطة: " بعد هذه الآية "، إلا أن " الآية " سيئة الكتابة.
(3) انظر تفسير " اتبع " و " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة (اتبع) ، (سبل) . وما سيأتي بعد قليل في تفسير الآية التالية.(15/187)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90)
الذين يجهلون حقيقة وعدي، فتستعجلان قضائي، فإن وعْدي لا خلف له، وإن وعيدي نازلٌ بفرعون وعذابي واقع به وبقومه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقطعنا ببني إسرائيل البحر حتى جاوزوه (1) = (فأتبعهم فرعون) ، يقول: فتَبعهم فرعون (وجنوده) .
= يقال منه "أتْبَعته" و"تبعته"، بمعنى واحد.
وقد كان الكسائي فيما ذكر أبو عبيد عنه يقول: إذا أريد أنه أتبعهم خيرًا أو شرًّا فالكلام "أتبعهم" بهمز الألف، وإذا أريد: اتبع أثرهم، أو اقتدى بهم، فإنه من "اتّبعت" مشددة التاء غير مهموزة الألف.
* * *
(بغيًا) على موسى وهارون ومن معهما من قومهما من بني إسرائيل (2) = (وعدْوًا) ، يقول: واعتداء عليهم،
* * *
وهو مصدر من قولهم: "عدا فلان على فلان في الظلم، يعدو عليه عَدْوًا" مثل "غزا يغزو غزوا". (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " جاوز " فيما سلف 5: 345 / 13: 80.
(2) انظر تفسير " البغي " فيما سلف ص: 53، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " العدوان " فيما سلف 14: 151، تعليق: 4، والمراجع هناك.(15/188)
وقد روى عن بعضهم أنه كان يقرأ: (بَغْيًا وَعُدُوًّا) ، وهو أيضًا مصدر من قولهم: "عَدَا يَعدُو عُدُوًّا"، مثل: "علا يعلو عُلُوًّا". (1)
* * *
= (حتى إذا أدركه الغرق) يقول: حتى إذا أحاط به الغرق (2) = وفي الكلام متروك، قد ترك ذكره لدلالة ما ظهر من الكلام عليه، وذلك: "فأتبعهم فرعون وجنوده بغيًا وعدوًا فيه"= فغرقناه (حتى إذا أدركه الغرق) .
* * *
وقوله: (قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) ، يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل فرعون حين أشفى على الغرق، (3) وأيقن بالهلكة: (آمنت) ، يقول: أقررت، (أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) .
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأ بعضهم، وهو قراءة عامّة المدينة والبصرة: (أَنَّهُ) بفتح الألف من "أنه"، على إعمال "آمَنْتُ" فيها ونصبها به.
* * *
وقرأ آخرون: (آمَنْتُ إِنَّهُ) بكسر الألف من "إنه" على ابتداء الخبر. وهي قراءة عامة الكوفيين. (4)
* * *
والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، وبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 12: 35، 36.
(2) انظر تفسير " الإدراك " فيما سلف 12: 13 - 21.
(3) في المطبوعة: " أشرف على الغرق "، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. " أشفى على الموت أو غيره "، أشرف عليه، وهو من " الشفى "، وهو حرف كل شيء وحده.
(4) انظر هاتين القراءتين في معاني القرآن للفراء 1: 478.(15/189)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
17857- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد قال: اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف، وهم اثنان وسبعون، وخرجوا مع موسى من مصر حين خرجوا وهم ست مائة ألف، فلما أدركهم فرعون فرأوه قالوا: يا موسى أين المخرجُ؟ فقد أدركنا، قد كنا نلقى من فرعون البلاء؟ فأوحى الله إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فِرْق كالطود العظيم، (1) ويبس لهم البحرُ، وكشف الله عن وجه الأرض، وخرج فرعون على فرس حِصان أدهَم على لونه من الدُّهم ثمان مائة ألف سوى ألوانها من الدوابّ، وكانت تحت جبريل عليه السلام فرسٌ ودِيق ليس فيها أنثى غيرها، (2) وميكائيل يسوقهم، لا يشذُّ رجل منهم إلا ضمّه إلى الناس. فلما خرج آخر بني إسرائيل، دنا منه جبريل ولَصِق به، فوجد الحصان ريح الأنثى، فلم يملك فرعون من أمره شيئًا، وقال: أقدموا، فليس القومُ أحقُّ بالبحر منكم! ثم أتبعهم فرعون، حتى إذا همّ أوّلهم أن يخرجوا، ارتطم ونادى فيها: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) ، ونودي: (آلآن وقد عصيتَ قبلُ وكنت من المفسدين) ،
17858- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: =
=وعن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يرفعه أحدهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن جبرائيل كان يدسُّ في فم فرعون
__________
(1) تضمين آية سورة الشعراء: 63
(2) " وديق ": مريدة للفحل تشتهيه، وانظر ما سلف 2: 52.(15/190)
الطين مخافة أن يقول لا إله إلا الله. (1)
17859- حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جعل جبرائيل عليه السلام يدسُّ = أو: يحشو = في فم فرعون الطين، مخافة أن تدركه الرحمة.
17860- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن كثير بن زاذان، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: قال لي جبريل: يا محمد، لو رأيتني وأنا أغطُّه وأدسُّ من الحَالِ في فيه، مخافة أن تدركه رحمة الله فيغفر له! = يعني فرعون. (2)
__________
(1) الأثران: 17858، 17859 - خبر ابن عباس رواه أحمد من هذا الطريق، طريق شعبة، عن عدي بن ثابت، وعطاء بن السائب، في مسنده رقم: 2144، 3154. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: 341 رقم: 2618.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 340، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه إلا أن أكثر أصحاب شعبة أوقفوه على ابن عباس "، وواقفه الذهبي. وانظر الموقوف فيما سيأتي: 17865، ورواه الترمذي في كتاب التفسير وقال: " حسن غريب صحيح ".
وانظر ما سيأتي رقم: 17862.
(2) الأثر: 17860 - " حكام "، هو " حكام بن سلم الكناني "، ثقة، ولكن قال أحمد فيه: " كان حسن الهيئة قدم علينا، وكان يحدث عن عنبسة أحاديث غرائب "، مضى مرارًا. " وعنبسة "، هو " عنبسة بن سعيد الضريس "، ثقة، لا بأس به. مضى مرارًا. " وكثير بن زاذان النخعي "، قال ابن معين: " لا أعرفه "، وقال أبو حاتم وأبو زرعة، " هذا شيخ مجهول "، لا نعلم أحدًا حدث عنه إلا ما روى ابن حميد، عن هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عنه ". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 151،، وميزان الاعتدال 2: 353، وقال: " عن عاصم بن ضمرة، له حديث منكر ".
و" أبو حازم "، هو " سلمان الأشجعي "، ثقة. مضى برقم: 7616.
فهذا خبر ضعيف جدا، لضعف كثير بن زاذان. وخرج نحوه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 36، عن أبي هريرة وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه: قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري، وضعفه جماعة ".وقوله: " أغطه "، أي: أغطسه في الماء وأغمسه. و " الحال "، الطين الأسود والحمأة، وهو " حال البحر ". وكان في المطبوعة " وحمئة "، غير ما في المخطوطة، لأنه لم يعرف معناه، فظنه خطأ.(15/191)
17861- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما أغرق الله فرعون قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) ، فقال جبريل: يا محمد لو رأيتني وأنا آخذ من حَالِ البحر وأدَسِّيه في فيه، مخافة أن تدركه الرحمة. (1)
17862- حدثني المثنى قال، حدثني عمرو، عن حكام قال، حدثنا شعبة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لما قال فرعون "لا إله إلا الله"، جعل جبريل يحشوا في فيه الطين والتراب. (2)
17863- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: أخبرني من سمع ميمون بن مهران يقول في قوله: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) ، قال: أخذ جبرائيل من حمأة البحر فضرب بها
__________
(1) الأثر: 17861 - " علي بن زيد بن جدعان "، مضى مرارًا، آخرها رقم: 17154 - 17516، وثقه أخي السيد أحمد رحمه الله في المسند رقم 783، وفيما مضى من تعليقه على بعض أحاديث الطبري. ولكني رأيت الأئمة يضعفونه، - لا أنهم يكذبونه - ويرونه إلى اللين أدنى، وأنه كان يقلب الأحاديث وكان يحدث بالحديث اليوم ثم يحدث غدا، فكأنه ليس بذاك، وكان يسوء حفظه، فأخشى أن يكون أخي جازف في توثيقه، ولكني أرجح أنه يعتبر بحديثه، ويكتب حديثه، ولكن لا يحتج به، وإنما روى له مسلم مقرونًا بغيره. فهذا غاية علي بن زيد فيما أرى، والله أعلم. " ويوسف بن مهران "، مضى مرارًا رقم: 13494. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم: 2203 من طريق يونس، عن حماد بن سلمة، ورقم: 2821 من طريق سليمان بن حرب، عن حماد. وصححه أخي رحمه الله في الموضعين. وخرجه الترمذي في كتاب التفسير من سننه، من هذه الطريق نفسها، وقال: " هذا حديث حسن " وكان في المطبوعة: " آخذ من حمأة البحر "، وأثبت ما في المخطوطة،
وقوله: " وأدسيه في فيه " (بتشديد السين) من قولهم " دساه " إذا غيبه أو أخفاه. وأصله " دسسه " مضعفا، ثم توالت السينات، فقلبت أخراهن ياء. وكذلك جاء في المسند رقم: 2821، وهو في المطبوعة " أدسه "، وفي المخطوطة كما أثبتها، إلا أنها غير منقوطة.
(2) الأثر: 17862 - سلف تخريجه في رقم: 17858، 17859.(15/192)
فاه = أو قال: ملأ بها فاه = مخافة أن تدركه رحمه الله.
17864- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا الحسين بن علي، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: خطب الضحاك بن قيس، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إن فرعون كان عبدًا طاغيًا ناسيًا لذكر الله، فلما أدركه الغرق قال: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) ، قال الله: (آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين) .
17865-. . . . قال، حدثني أبي، عن شعبة، عن عدي بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن فرعون لما أدركه الغرق جعل جبريل يحشو في فيه التراب خشية أن يغفر له. (1)
17866-. . . . قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن عيسى بن المغيرة، عن إبراهيم التيمي: أن جبريل عليه السلام قال: ما حسدتُ أحدًا من بني آدم الرحمة إلا فرعون، (2)
فإنه حين قال ما قال، خشيت أن تصل إلى الربّ فيرحمه، فأخذت من حَمْأة البحر وزَبَده، فضربت به عينيه ووجهه.
17867-. . . . قال، أخبرنا أبو خالد الأحمر، عن عمر بن يعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال جبريل عليه السلام: لقد حشوت فاه الحمأة مخافة أن تدركه الرحمة.
* * *
__________
(1) الأثر: 17865 - هذا الخبر الموقوف على ابن عباس، كما سلف في تخريج رقم: 17858، 17859. وكان في المطبوعة: " يحثو " بالثاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " ما خشيت على أحد "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب المحض، وأساء في التغيير.(15/193)
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
القول في تأويل قوله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، معرِّفًا فرعون قبح صَنيعه أيّام حياته وإساءته إلى نفسه أيام صحته، بتماديه في طغيانه، ومعصيته ربه، حين فزع إليه في حال حلول سَخطه به ونزول عقابه، مستجيرًا به من عذابه الواقع به، لما ناداه وقد علته أمواج البحر، وغشيته كرَبُ الموت: (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين) له، المنقادين بالذلة له، المعترفين بالعبودية = الآن تقرُّ لله بالعبودية، وتستسلم له بالذلة، وتخلص له الألوهة، وقد عصيته قبل نزول نقمته بك، فأسخطته على نفسك، وكنت من المفسدين في الأرض، الصادِّين عن سبيله؟ فهلا وأنت في مَهَلٍ، وباب التوبة لك منفتح، أقررت بما أنت به الآن مقرٌّ؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لفرعون: اليوم نجعلك على نَجْوةٍ من الأرض ببدنك، ينظر إليك هالكًا من كذّب بهلاكك = (لتكون لمن خلقك آية) ، يقول: لمن بعدك من الناس عبرة يعتبرون بك،، فينزجرون عن معصية الله، والكفر به والسعي في أرضه بالفساد.(15/194)
= و"النجوة"، الموضع المرتفع على ما حوله من الأرض، ومنه قوله أوس بن حجر:
فَمَنْ بِعَقْوَتِهِ كَمَنْ بِنْجْوَتِهِ ... وَالمُسْتَكِنُّ كَمَنْ يَمْشِي بِقِرْوَاحِ (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر قال ذلك:
17868- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد وغيره قال: قالت بنو إسرائيل لموسى: إنه لم يمت فرعون! قال: فأخرجه الله إليهم ينظرون إليه مثل الثور الأحمر.
17869- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد الجريري، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد قال = وكان من أكثر الناس = أو: أحدث الناس = عن بنى إسرائيل؛ قال: فحدّثنا أن أول جنود فرعون لما انتهى إلى البحر، هابت الخيلُ اللِّهْبَ. (2)
قال: ومثل لحصان منها فرس وَديق، (3) فوجد ريحها = أحسبه أنا قال: = فانسلَّ فاتَّبعته. قال: فلما تتامّ آخر جنود فرعون في البحر، وخرج آخرُ بني إسرائيل، أُمر البحر فانطَبق عليهم، فقالت بنو إسرائيل: ما مات فرعون، وما كان ليموت أبدًا! فسمع الله تكذيبهم نبيَّه، قال:
__________
(1) ديوانه، قصيدة: 4، بيت: 15، يصف السحاب والمطر بالشدة، يغشي كل مكان وكل أحد. " عقوة الدار "، ساحتها وما حولها. و" المستكن "، الذي اختبأ في كن. و "القرواح "، البارز الذي ليس يستره من السماء والشمس شيء.
(2) في المخطوطة: " اللهث "، والذي في المطبوعة هو الصواب إلا أن ضبطه بكسر اللام وسكون الهاء. و " اللهب " المهواة بين الجبلين، وهو الصدع الذي صدع في البحر، وانظر قوله تعالى: {فكان كل فرق كالطود العظيم} .
(3) "فرس وديق "، مريدة للفحل تشتهيه، انظر ما سلف ص: 190، تعليق: 2.(15/195)
فرمى به على الساحل كأنه ثور أحمرُ، يتراءآه بنو إسرائيل.
17870- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب، عن عبد الله بن شداد: (فاليوم ننجيك ببدنك) ، قال: "بدنه"، جسده، رمى به البحرُ.
17871- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن مجاهد،: (فاليوم ننجيك ببدنك) ، قال: بجسدك.
17872- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17873- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17874- حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا الأصبغ بن زيد، عن القاسم بن أبي أيوب قال، حدثني سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما جاوز موسى البحرَ بجميع من معه، التقى البحرُ عليهم = يعني على فرعون وقومه = فأغرقهم، فقال أصحاب موسى: إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق، ولا نؤمن بهلاكه! فدعا ربّه فأخرجه فنبذه البحر، حتى استيقنوا بهلاكه.
17875- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) ، يقول: أنكر ذلك طوائف من بني إسرائيل، فقذفه الله على ساحل البحر ينظرون إليه.
17876- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (لتكون لمن خلفك آية) ، قال: لما أغرق الله فرعون لم تصدِّق طائفة من الناس بذلك، فأخرجه الله آيةً وعظةً.
17877- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا(15/196)
ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي السليل، عن قيس بن عباد، أو غيره، بنحو حديث ابن عبد الأعلى، عن معمر.
17878- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: (فاليوم ننجيك ببدنك) ، قال: بجسدك.
17879- قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، بلغني عن مجاهد: (فاليوم ننجيك ببدنك) ، قال: بجسدك. (1)
17880- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كذّب بعض بني إسرائيل بموت فرعون، فرمى به على ساحل البحر ليراه بنو إسرائيل، قال أحمر: كأنه ثور. (2)
* * *
وقال آخرون: تنجو بجسدك من البحر، فنخرجه منه. (3)
*ذكر من قال ذلك:
17881- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية) ، يقول: أنجى الله فرعون لبني إسرائيل من البحر، فنظروا إليه بعد ما غرق.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه قوله: (ببدنك) ؟ وهل يجوز أن ينجيه بغير بدنه، فيحتاج الكلام إلى أن يقال فيه (ببدنك) ؟
قيل: كان جائزًا أن ينجيه بهيئته حيًّا كما دخل البحر. فلما كان جائزًا
__________
(1) الأثر: 17879 - " محمد بن بكر بن عثمان البرساني "، مضى مرارًا، وروايته عن ابن جريج، وفي المطبوعة: " محمد بن بكير "، وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " قال: كأنه ثور أحمر "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(3) في المطبوعة: " فتخرج منه "، وأثبت ما في المخطوطة.(15/197)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
ذلك قيل:/ (فاليوم ننجيك ببدنك) ، ليعلم أنه ينجيه بالبدن بغير روح، ولكن ميّتًا.
* * *
وقوله: (وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون)
، يقول تعالى ذكره: (وإن كثيرًا من الناس عن آياتنا) ، يعني: عن حججنا وأدلتنا على أن العبادة والألوهة لنا خالصةٌ (1) = (لغافلون) ، يقول: لساهون، لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أنزلنا بني إسرائيل منازلَ صِدْق. (3)
* * *
قيل: عني بذلك الشأم وبيت المقدس.
وقيل: عُنِي به الشأم ومصر.
*ذكر من قال ذلك:
17882- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، وأبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: (مبوّأ صدق) ، قال: منازل صدق، مصر والشأم.
__________
(1) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .
(2) انظر تفسير " الغفلة " فيما سلف ص: 80،، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " بوأ " فيما سلف ص: 171، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/198)
17883- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (مبوَّأ صدق) ، قال: بوّأهم الله الشأم وبيت المقدس.
17884- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق) ، الشام. وقرأ: (إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) [سورة الأنبياء: 71]
* * *
وقوله: (ورزقناهم من الطيبات) ، يقول: ورزقنا بني إسرائيل من حلال الرزق = وهو (الطيب) . (1)
* * *
وقوله: (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم) ، يقول جل ثناؤه: فما اختلف هؤلاء الذين فعلنا بهم هذا الفعل من بني إسرائيل، حتى جاءهم ما كانوا به عالمين. وذلك أنهم كانوا قبل أن يبعث محمد النبيّ صلى الله عليه وسلم مجمعين على نبوّة محمدٍ والإقرار به وبمبعثه، غير مختلفين فيه بالنعت الذي كانوا يجدونه مكتوبًا عندهم، فلما جاءهم ما عرفوا كفر به بعضهم وآمن به بعضهم، والمؤمنون به منهم كانوا عددًا قليلا. فذلك قوله: فما اختلفوا حتى جاءهم المعلوم الذي كانوا يعلمونه نبيًّا لله = فوضع (العلم) مكان (المعلوم) .
* * *
وكان بعضهم يتأول (العلم) ههنا، كتابَ الله ووحيَه.
*ذكر من قال ذلك:
17885- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (فما اختلفوا حتى جاءهم العلم) ، (2) قال: (العلم) ، كتاب الله الذي
__________
(1) انظر تفسير " الطيب " فيما سلف من فهارس اللغة (طيب) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة: ". . . حتى جاءهم العلم بغيا بينهم "، وليس هذا من تلاوة هذه الآية، ولا هو في تفسيرها، فحذفته. وأشباهها من الآيات التي ورد فيها ذكر العلم والبغي فيه في سورة آل عمران: 19 / سورة الشورى: 14 / سورة الجاثية: 17، وآثرت حذف هذه الزيادة من هذا الموضع، لأني لم أجد أبا جعفر ذكر هذا الخبر في تفسير شيء من هذه الآيات، والظاهر أن المعنى أخذ بعضه ببعض، فزاد ابن زيد في التفسير من نظائر الآية في السور الأخرى.(15/199)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94)
أنزله، وأمره الذي أمرهم به، وهل اختلفوا حتى جاءهم العلم بغيًا بينهم؟ أهل هذه الأهواء، هل اقتتلوا إلا على البغي قال: و"البغي" وجهان: وجه النفاسة في الدنيا ومن اقتتل عليها من أهلها، وبغى في "العلم"، يرى هذا جاهلا مخطئًا، ويرى نفسه مصيبًا عالمًا، فيبغي بإصابته وعلمه عَلَى هذا المخطئ.
* * *
وقوله: (إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن ربَّك، يا محمد، يقضي بين المختلفين من بني إسرائيل فيك يوم القيامة، فيما كانوا فيه من أمري في الدنيا يختلفون، بأن يدخل المكذبين بك منهم النار، والمؤمنين بك منهم الجنة، فذلك قضاؤه يومئذ فيما كانوا فيه يختلفون من أمر محمد صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن كنت يا محمد في شك من حقيقة ما اخترناك فأنزلنا إليك، (2) من أن بني إسرائيل لم يختلفوا في نبوّتك قبل أن تبعث رسولا إلى خلقه، لأنهم يجدونك عندهم مكتوبًا، ويعرفونك بالصفة التي أنت بها موصوف في كتابهم في التوراة والإنجيل
__________
(1) انظر تفسير " القضاء " فيما سلف من فهارس اللغة (قضى) .
(2) في المطبوعة: " ما أخبرناك وأنزل إليك "، وأثبت الصواب من المخطوطة.(15/200)
= (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، من أهل التوراة والإنجيل، كعبد الله بن سلام ونحوه، من أهل الصدق والإيمان بك منهم، دون أهل الكذب والكفر بك منهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17886- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله: (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال: التوراة والإنجيل، الذين أدركوا محمدا صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فآمنوا به، يقول: فاسألهم إن كنت في شك بأنك مكتوب عندهم.
17887- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال: هو عبد الله بن سلام، كان من أهل الكتاب، فآمن برسول الله صلى الله عليه وسلم.
17888- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) قال: هم أهل الكتاب.
17889- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال: سمعت الضحاك يقول: (فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، يعني أهل التقوى وأهلَ الإيمان من أهل الكتاب، ممن أدرك نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل: أو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من خبَرِ الله(15/201)
أنه حقٌّ يقين، حتى قيل له: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ؟
قيل: لا وكذلك قال جماعة من أهل العلم.
17890- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك) ، فقال: لم يشك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسأل.
17891- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال: ما شك وما سأل.
17892- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير = ومنصور، عن الحسن في هذه الآية، قال: لم يشك صلى الله عليه وسلم ولم يسأل.
17893- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل.
17894- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك) ، قال: بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا أشك ولا أسأل.
* * *
فإن قال: فما وجه مخرج هذا الكلام، إذنْ، إن كان الأمر على ما وصفت؟ قيل: قد بيّنا في غير موضع من كتابنا هذا، استجازة العرب قول القائل منهم لمملوكه: "إن كنت مملوكي فانته إلى أمري" والعبد المأمور بذلك لا يشكُّ سيدُه القائل له ذلك أنه عبده. كذلك قول الرجل منهم لابنه: "إن كنت(15/202)
ابني فبرَّني"، وهو لا يشك في ابنه أنه ابنه، وأنّ ذلك من كلامهم صحيح مستفيض فيهم، وذكرنا ذلك بشواهده، وأنّ منه قول الله: (وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ) ، [سورة المائدة: 116] ، وقد علم جل ثناؤه أن عيسى لم يقل ذلك. (1) وهذا من ذلك، لم يكن صلى الله عليه وسلم شاكًّا في حقيقة خبر الله وصحته، والله تعالى ذكره بذلك من أمره كان عالمًا، ولكنه جل ثناؤه خاطبه خطاب قومه بعضهم بعضًا، إذْ كان القرآن بلسانهم نزل.
* * *
وأما قوله: (لقد جاءك الحق من ربك) الآية، فهو خبرٌ من الله مبتدأ.
يقول تعالى ذكره: أقسم لقد جاءك الحق اليقين من الخبر بأنك لله رسولٌ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى يعلمون صحّة ذلك، ويجدون نعتك عندهم في كتبهم = (فلا تكونن من الممترين) ، يقول: فلا تكونن من الشاكين في صحة ذلك وحقيقته. (2)
* * *
ولو قال قائل: إن هذه الآية خوطب بها النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد بها بعضُ من لم يكن صحَّت، بصيرته بنبوته صلى الله عليه وسلم، ممن كان قد أظهر الإيمان بلسانه، تنبيها له على موضع تعرف حقيقة أمره الذي يزيل اللبس عن قلبه، كما قال جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا) ، [سورة الأحزاب: 1] ، كان قولا غيرَ مدفوعةٍ صحته.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 11: 236، 237، ومعاني القرآن للفراء 1: 479.
(2) انظر تفسير " الامتراء " فيما سلف 12: 61، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/203)
وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) }
قال أبو جعفر: ويقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ولا تكونن يا محمدُ، من الذين كذَّبوا بحجج الله وأدلته، فتكون ممن غُبن حظه، وباع رحمةَ الله ورضاه، بسَخَطه وعقابه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين وجبت عليهم يا محمد = "كلمة ربك"، هي لعنته إياهم بقوله: (أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) ، [سورة هود: 18] ، فثبتت عليهم.
* * *
يقال منه: "حق على فلان كذا يحقُّ عليه"، إذا ثبت ذلك عليه ووجب. (2)
* * *
وقوله: (لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية) ، يقول: لا يصدقون بحجج الله، ولا يقرُّون بوحدانية ربهم، ولا بأنك لله رسول = (ولو جاءتهم كل آية) ، وموعظة وعبرة، فعاينوها، حتى يعاينوا العذاب الأليم، كما لم يؤمن فرعون وملؤه،
__________
(1) انظر تفسير " الآية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .
= وتفسير " الخسران فيما سلف من فهارس اللغة (خسر) .
(2) انظر تفسير " حق " فيما سلف ص: 85(15/204)
إذ حقَّت عليهم كلمة ربّك حتى عاينوا العذاب الأليم، فحينئذ قال: (آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ) ، [سورة يونس: 90] ، حين لم ينفعه قيلُه، فكذلك هؤلاء الذين حقت عليهم كلمة ربك من قومك من عبدة الأوثان وغيرهم، لا يؤمنون بك فيتبعونك، إلا في الحين الذي لا ينفعهم إيمانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17895- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (أن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) ، قال: حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه.
17896- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون) ، حقّ عليهم سَخَط الله بما عصوه.
* * *(15/205)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فهلا كانت قرية آمنت؟ (1) وهي كذلك فيما ذكر في قراءة أبيّ.
ومعنى الكلام: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب، ونزول سَخَط الله بها، بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه، فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيّه، واستحقاقه سَخَط الله
__________
(1) انظر " لولا " بمعنى " هلا " 2: 552، 553 / 11: 266، 343، 356.(15/205)
بمعصيته = إلا قوم يونس، فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نزول العقوبة وحلول السخط بهم.
فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب بساحتهم، وأخرجهم منهم، وأخبر خلقه أنه نفعهم أيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم.
* * *
فان قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت من أن قوله: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها) ، بمعنى: فما كانت قرية آمنَت، بمعنى الجحود، فكيف نصب "قوم" وقد علمت أن ما قبل الاستثناء إذا كان جحدًا كان ما بعده مرفوعًا، وأن الصحيح من كلام العرب: "ما قام أحدٌ إلا أخوك"، و"ما خرج أحدٌ إلا أبوك"؟
قيل: إن ذلك فيما يكون كذلك إذا كان ما بعد الاستثناء من جنس ما قبله، وذلك أن "الأخ " من جنس "أحد"، وكذلك "الأب"، ولكن لو اختلف الجنسان حتى يكون ما بعد الاستثناء من غير جنس ما قبله، كان الفصيح من كلامهم النصبُ، وذلك لو قلت: "ما بقي في الدار أحدٌ إلا الوتدَ"، و"ما عندنا أحدٌ إلا كلبًا أو حمارًا"، لأن "الكلب"، و"الوتد"، و"الحمار"، من غير جنس "أحد"، ومنه قول النابغة الذبياني:
عَيَّتْ جَوَابًا وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ
ثم قال:
إِلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيَّنُها ... وَالنُّؤْي كَالْحَوْضِ بِالْمَظْلُومَةِ الجَلَدِ (1)
فنصب "الأواري" إذ كان مستثنى من غير جنسه. فكذلك نصب (قوم يونس) ، لأنهم أمة غير الأمم الذين استثنوا منهم، ومن غير جنسهم
__________
(1) سلف الشعر وشرحه 9: 203، تعليق: 3، 4، والمراجع هناك.(15/206)
وشكلهم، وإن كانوا من بني آدم. وهذا الاستثناء الذي يسميه بعض أهل العربية الاستثناء المنقطع، (1) ولو كان (قوم يونس) بعض "الأمة" الذين استثنوا منهم، كان الكلام رفعًا، ولكنهم كما وصفت.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17897- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها) ، يقول: لم تكن قرية آمنت فنفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله، إلا قرية يونس.
قال ابن جريج: قال مجاهد: فلم تكن قرية آمنت فنفعها إيمانها كما نفع قوم يونس إيمانهم إلا قوم يونس.
17898- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) ، يقول: لم يكن هذا في الأمم قبلهم لم ينفع قريةً كفرت ثم آمنت حين حضرها العذابُ، فتُرِكت، إلا قوم يونس، لما فقدوا نبيَّهم وظنوا أن العذاب قد دنا منهم، قذف الله في قلوبهم التوبة، ولبسوا المسوح، [وفرقوا] بين كل بهيمة وولدها، (2) ثم عجُّوا إلى الله أربعين ليلةً. فلما عرف الله الصِّدق من قلوبهم، والتوبة والندامة على ما مضى منهم، كشف الله عنهم العذاب بعد أن تدلَّى عليهم. قال: وذكر لنا أن قوم يونس كانوا بنينوى أرضِ الموصل.
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 479، 480، وفيه زيادة بيان.
(2) في المطبوعة: " وألهوا بين كل بهيمة. . . "، ولا معنى له، وفي المخطوطة: " وألفوا " غير منقوطة، وقد أعياني أن أجد لقراءتها وجهًا ارتضيه، فوضعت (وفرقوا) بين قوسين، لأن هذه الكلمة بهذا المعنى ولا شك، كما يتبين من الآثار التالية، ومن رواية هذا الأثر عن قتادة في الدر المنثور 3: 317 وفيه مكان هذه الكلمة المبهمة: " وفرقوا " كالتي أثبت بين القوسين.(15/207)
17899- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إلا قوم يونس) ، قال: بلغنا أنهم خرجوا فنزلوا على تل، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها، يدعون الله أربعين ليلة، حتى تاب عليهم.
17900- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: غشَّى قوم يونس العذابُ، كما يغشِّي الثوبُ القبرَ. (1)
17901- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن صالح المري، عن قتادة، عن ابن عباس: إن العذاب كان هبط على قوم يونس، حتى لم يكن بينهم وبينه إلا قدر ثلثي ميل، فلما دَعَوْا كشف الله عنهم.
17902- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = وإسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء = جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا) ، قال: كما نفع قوم يونس. زاد أبو حذيفة في حديثه، قال: لم تكن قرية آمنت حين رأت العذاب فنفعها إيمانها، إلا قوم يونس متعناهم.
17903- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال، حدثنا رجل قد قرأ القرآن في صدره، في إمارة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، (2) فحدّث عن قوم يونس حين أنذر قومه فكذّبوه، فأخبرهم أن العذاب يصيبهم، وفارقهم. (3) فلما رأوا ذلك وغشيهم العذاب، [لكنهم] خرجوا من مساكنهم، (4)
وصعدوا في مكان رفيع، وأنهم
__________
(1) معنى هذا: كما يغشي القبر بالثوب، إذا أدخل فيه صاحبه، كما جاء في رواية هذا الأثر في الدر المنثور 3: 318، باللفظ الذي ذكرته. وانظر ما سيأتي رقم: 17905.
(2) قوله: " قرأ القرآن في صدره "، أي جمعه، فحفظه جميعًا.
(3) في المطبوعة: " ففارقهم " بالفاء، والصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة: " لكنهم "، ولا معنى لها، وفي المخطوطة: " لكنهم " غير منقوطة، ولست أدري ما صوابها، والمشكل أنه جاء مثلها فيما يلي، واستعصت علي قراءتها في الموضعين - فوضعتها بين القوسين في الموضوعين.(15/208)
جأروا إلى ربهم ودعوه مخلصين له الدين: أن يكشف عنهم العذاب، وأن يرجعَ إليهم رسولهم. قال: ففي ذلك أنزل: (فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين) ، فلم تكن قرية غشيها العذاب ثم أمسك عنها، إلا قوم يونس خاصة. فلما رأى ذلك يونس، [لكنه] ذهب عاتبًا على ربه، (1) وانطلق مغاضبًا وظنّ أن لن يُقدرَ عليه، حتى ركب في سفينة، فأصاب أهلَها عاصفُ الريح = فذكر قصة يونس وخبره.
17904- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال: " لما رأوا العذاب ينزل، فرَّقوا بين كل أنثى وولدها من الناس والأنعام، ثم قاموا جميعًا فدعوا الله، وأخلصوا إيمانهم، فرأوا العذاب يكشف عنهم. قال يونس حين كشف عنهم العذاب: أرجع إليهم وقد كذَبْتُهم! وكان يونس قد وعدهم العذاب بصبح ثالثةٍ، فعند ذلك خرج مغضبًا وساء ظنُّه. (2)
17905- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن عبد الملك، عن سعيد بن جبير قال: لما أرسل يونس إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه. قال: فدعاهم فأبوا، فقيل له: أخبرهم أن العذاب مصبِّحهم، فقالوا: إنا لم نجرب عليه كذبًا، فانظروا، فإن بات فيكم فليس بشيء، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبحكم. فلما كان في جوف الليل أخذ عُلاثَةً فتزوّد منها شيئًا، (3) ثم خرج، فلما أصبحوا تغشَّاهم العذاب،
__________
(1) انظر التعليق السالف.
(2) انظر تفسير " ساء ظنه " فيما سلف 3: 585، تعليق: 1 / 13: 95، تعليق: 4.
(3) في المطبوعة: " أخذ مخلاته فتزود فيها شيئًا "، خالف رسم المخطوطة، وفيها رسم ما أثبته غير منقوط. و " العلاثة " (بضم العين) : الأقط المخلوط بالسمن.(15/209)
كما يتغشَّى الإنسان الثوبَ في القبر، ففرقوا بين الإنسان وولده، وبين البهيمة وولدها، ثم عجُّوا إلى الله فقالوا: آمنا بما جاء به يونس وصدّقنا! فكشف الله عنهم العذاب، فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا، قال: جَرَّبوا عليّ كذبًا! فذهب مغاضبًا لربه حتى أتى البحر.
17906- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون قال، حدثنا ابن مسعود في بيت المال، قال: إن يونس عليه السلام كان قد وعد قومه العذاب، وأخبرهم أنه يأتيهم إلى ثلاثة أيام، ففرَّقوا بين كل والدة وولدها، ثم خرجوا فجأروا إلى الله واستغفروه. فكف الله عنهم العذاب، وغدا يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا، وكان من كذب ولم تكن له بيِّنةٌ قُتِل، فانطلق مغاضبًا.
17907- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا صالح المرى، عن أبي عمران الجوني، عن أبي الجلد جيلان قال: لما غشّى قوم يونس العذاب، مشوا إلى شيخ من بقية علمائهم فقالوا له: إنه قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال: قولوا: "يا حيُّ حين لا حيَّ، ويا حي محييَ الموتى، ويا حيُّ لا إله إلا أنت"! فكشف عنهم العذاب، ومُتِّعوا إلى حين. (1)
17908- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: بلغني في حرف ابن مسعود: "فلولا"، يقول (فَهَلا) .
* * *
وقوله: (لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا) ، يقول: لما صدّقوا رسولهم، وأقروا بما جاءهم به بعد ما أظلّهم العذاب وغشيهم أمْرُ الله
__________
(1) الأثر: 17907 - " أبو الجلد "، هو " جيلان بن أبي فروة الأسدي "، مضى برقم 434، 723، 1913.(15/210)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)
ونزل بهم البلاء، كشفنا عنهم عَذَاب الهوان والذلّ في حياتهم الدنيا (1) = (ومتعناهم إلى حين) ، يقول: وأخَّرنا في آجالهم ولم نعاجلهم بالعقوبة، وتركناهم في الدنيا يستمتعون فيها بآجالهم إلى حين مماتهم، ووقت فناء أعمارهم التي قَضَيْتُ فَنَاءها. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكر لنبيه: (ولو شاء) ، يا محمد = (ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا) ، بك، فصدَّقوك أنك لي رسول، وأن ما جئتهم به وما تدعوهم إليه من توحيد الله وإخلاص العبودة له، حقٌّ، ولكن لا يشاء ذلك، لأنه قد سبق من قضاء الله قبل أن يبعثك رسولا أنه لا يؤمن بك، ولا يتّبعك فيصدقوك بما بعثك الله به من الهدى والنور، إلا من سبقت له السعادةُ في الكتاب الأوّل قبل أن تخلق السموات والأرض وما فيهن، وهؤلاء الذين عجبوا من صِدْق إيحائنا إليك هذا القرآن لتنذر به من أمرتك بإنذاره، ممَّن قد سبق له عندي أنهم لا يؤمنون بك في الكتاب السابق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17909- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
__________
(1) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف 14: 330، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف من فهارس اللغة (متع) .(15/211)
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعًا) ، (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ) ، [سورة يونس: 100] ، ونحو هذا في القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميعُ الناس ويتابعوه على الهدى، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأَوّل (1) ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاء في الذّكر الأول.
* * *
فإن قال قائل: فما وجه قوله: (لآمن من في الأرض كلهم جميعًا) ، فـ "الكل" يدل على "الجميع"، و"الجميع" على "الكل"، فما وجه تكرار ذلك، وكل واحدة منهما تغني عن الأخرى؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك:
فقال بعض نحويي أهل البصرة: جاء بقوله "جميعًا" في هذا الموضع توكيدًا، كما قال: (لا تتخذوا إلهين اثنين) ، [سورة النحل: 51] ، ففي قوله: "إلهين" دليل على "الاثنين".
وقال غيره: جاء بقوله "جميعًا" بعد "كلهم"، لأن "جميعًا" لا تقع إلا توكيدًا، و"كلهم" يقع توكيدًا واسمًا، فلذلك جاء ب "جميعًا" بعد "كلهم". قال: ولو قيل إنه جمع بينهما ليعلم أن معناهما واحد، لجاز ههنا. قال: وكذلك: (إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ) ، العدد كله يفسر به، فيقال: "رأيت قومًا أربعة"، فلما جاء "باثنين"، وقد اكتفى بالعدد منه، لأنهم يقولون: "عندي درهم ودرهمان"، فيكفي من قولهم: "عندي درهم واحد، ودرهمان اثنان"، فإذا قالوا: "دراهم" قالوا: "ثلاثة"، لأن الجمع يلتبس، و"الواحد" و"الاثنان" لا يلتبسان،
__________
(1) في المطبوعة: " لا يؤمن من قومه "، زاد ما ليس في المخطوطة، فحذفته.(15/212)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
ثم بُنِي الواحد والتثنية على بناء [ما] في الجميع، (1) لأنه ينبغي أن يكون مع كل واحدٍ واحدٌ، لأن "درهمًا" يدل على الجنس الذي هو منه، و"واحد" يدل على كل الأجناس. وكذلك "اثنان" يدلان على كل الأجناس، و"درهمان"، يدلان على أنفسهما، فلذلك جاء بالأعداد، لأنه الأصل.
* * *
وقوله: (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) ، يقولُ جل ثناؤه لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم: إنه لن يصدقك يا محمد، ولن يتبعك ويقرّ بما جئت به إلا من شاء ربك أن يصدّقك، لا بإكراهك إياه، ولا بحرصك على ذلك = (أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين) لك، مصدقين على ما جئتهم به من عند ربك؟ يقول له جل ثناؤه: فاصدَعْ بما تؤْمر، وأعرض عن المشركين الذين حقَّت عليهم كلمة ربّك أنَّهم لا يؤمنون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وما كان لنفس خلقتُها من سبيل إلى تصديقك، يا محمد، إلا بأن آذن لها في ذلك، (2) فلا تجهدنّ نفسك في طلب هداها، وبلِّغها وعيدَ الله، وعرِّفها ما أمرك ربك بتعريفها، ثم خلِّها، فإن هداها بيد خالقها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " لم يثن الواحدة والتثنية على تنافي الجمع "، وهو لا معنى له. وفي المخطوطة: " ثم بنى الواحد والتثنية على تنافي الجمع "، هكذا غير منقوطة، واستظهرت قراءتها كما أثبتها، بزيادة " ما " بين " بناء "، و" في الجميع ". ومع ذلك فبقى في بيان معنى هذا الكلام، شيء في نفسي، أخشى أن يكون سقط منه شيء، فإنه غير واضح عندي.
(2) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف ص: 18، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/213)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101)
وكان الثوري يقول في تأويل قوله: (إلا بإذن الله) ، ما:-
17910- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان في قوله: (وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله) ، قال: بقضاء الله.
* * *
وأما قوله: (ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون) ، فإنه يقول تعالى ذكره: إن الله يهدي من يشاء من خلقه للإيمان بك يا محمد، ويأذن له في تصديقك فيصدقك ويتبعك، ويقرّ بما جئت به من عند ربك = (ويجعل الرجس) ، وهو العذابُ، وغضب الله (1) (على الذين لا يعقلون) ، يعني الذين لا يعقلون عن الله حججه ومواعظه وآياته التي دلّ بها جل ثناؤه على نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم، وحقيقة ما دعاهم إليه من توحيد الله، وخَلْع الأنداد والأوثان.
17911- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ويجعل الرجس) ، قال: السَّخَط.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك، السائليك الآياتِ على صحّة ما تدعوهم إليه من توحيد الله وخلع الأنداد والأوثان: انظروا، أيها القوم، ماذا في السمواتِ من الآيات الدّالة على حقيقة ما أدعوكم إليه من توحيد الله، من شمسها وقمرها، واختلافِ ليلها ونهارِها، ونزول الغيث بأرزاق العبادِ من سحابها = وفي الأرض من جبالها، وتصدُّعها بنباتها، وأقوات أهلها، وسائر صنوف عجائبها، فإن في ذلك لكم إن عقلتم وتدبَّرتم موعظة ومعتبرًا،
__________
(1) انظر تفسير " الرجس " فيما سلف 14: 579، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/214)
فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102)
ودلالةً على أن ذلك من فعل من لا يجوز أن يكون له في ملكه شريك، ولا له على تدبيره وحفظه ظهير يُغْنيكم عما سواه من الآيات.
يقول الله جل ثناؤه: (وما تُغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون) ، يقول جل ثناؤه: وما تغني الحجج والعبر والرسل المنذرة عبادة الله عقابه، (1) عن قوم قد سبق لهم من الله الشقاء، وقضى لهم في أم الكتاب أنهم من أهل النار، لا يؤمنون بشيء من ذلك ولا يصدِّقون به. (ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم) ؟ (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، محذِّرًا مشركي قومه من حلول عاجل نقمه بساحتهم نحوَ الذي حلَّ بنظرائهم من قبلهم من سائر الأمم الخالية من قبلهم، السالكة في تكذيب رسل الله وجحود توحيد ربِّهم سبيلَهم: فهل ينتظر، يا محمد، هؤلاء المشركون من قومك المكذِّبون بما جئتهم به من عند الله، إلا يومًا يعاينون فيه من عذاب الله مثل أيام أسلافهم الذي كانوا على مثل الذي هم عليه من الشرك والتكذيب، الذين مضوا قبلهم فخَلَوْا من قوم نوح وعاد وثمود؟ قل لهم، يا محمد، إن كانوا ذلك ينتظرون: فانتظروا عقابَ الله إياكم، ونزول سخطه بكم، إني من المنتظرين هلاككم وبوارَكم بالعقوبة التي تحلُّ بكم من الله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف ص: 89، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " النذير " فيما سلف 10: 85.(15/215)
ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
*ذكر من قال ذلك:
17912- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، قوله: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم) ، يقول: وقائع الله في الذين خلوا من قبلهم قوم نوح وعادٍ وثمود.
17913- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله: (فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم قل فانتظروا إني معكم من المنتظرين) ، قال: خوَّفهم عذابه ونقمته وعقوبته، ثم أخبرهم أنه إذا وقع من ذلك أمرٌ أنجى الله رسله والذين آمنوا معه، فقال الله: (ثم ننجي رسلنا والذين آمنوا كذلك حقًّا علينا ننجي المؤمنين) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك: انتظروا مثل أيام الذين خلوا من قبلكم من الأمم السالفة الذين هلكوا بعذاب الله، فإن ذلك إذا جاء لم يهلك به سواهم، ومن كان على مثل الذي هم عليه من تكذيبك، ثم ننجّي هناك رسولَنَا محمدًا صلى الله عليه وسلم ومن آمن به وصدّقه واتبعه على دينه، كما فعلنا قبل ذلك برُسلنا الذين أهلكنا أممهم، فأنجيناهم ومن آمن به معهم من عذابنا حين حقّ على أممهم = (كذلك حقا علينا ننج المؤمنين) ، يقول: كما فعلنا بالماضين من رسلنا فأنجيناها والمؤمنين معها وأهلكنا أممها، كذلك نفعل بك، يا محمد، وبالمؤمنين، فننجيك وننجي المؤمنين بك، حقًّا علينا غير شك.
* * *(15/216)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلَا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المشركين من قومك الذين عجبوا أن أوحيت إليك: إن كنتم في شك، أيها الناس، من ديني الذي أدعوكم إليه، فلم تعلموا أنه حقّ من عند الله: فإني لا أعبد الذين تعبدون من دون الله من الآلهة والأوثان التي لا تسمع ولا تبصر ولا تغني عني شيئًا، فتشكُّوا في صحته.
وهذا تعريض ولحنٌ من الكلام لطيفٌ. (1)
وإنما معنى الكلام: إن كنتم في شك من ديني، فلا ينبغي لكم أن تشكوا فيه، وإنما ينبغي لكم أن تشكوا في الذي أنتم عليه من عبادة الأصنام التي لا تعقل شيئًا ولا تضر ولا تنفع. فأما ديني فلا ينبغي لكم أن تشكُّوا فيه، لأني أعبد الله الذي يقبض الخلق فيميتهم إذ شاء، وينفعهم ويضرُّهم إن شاء. (2) وذلك أن عبادة من كان كذلك لا يستنكرها ذو فطرة صحيحة. وأما عبادة الأوثان فينكرها كل ذي لبٍّ وعقلٍ صحيح.
* * *
وقوله: (ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم) ، يقول: ولكن أعبد الله الذي يقبض
__________
(1) " اللحن "، التعريض والإماء دون التصريح، وذلك بأن تعدل الكلام عن جهته، فيكون أجود له وأشد إثارة لفطنة سامعه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " وينفعهم ويضر من يشاء "، وكأنه سهو من الناسخ، فإن السياق يقتضي ما أثبت.(15/217)
وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106)
أرواحكم فيميتكم عند آجالكم (1) = (وأمرت أن أكون من المؤمنين) ، يقول: وهو الذي أمرني أن أكون من المصدّقين بما جاءني من عنده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "وأمرت أن أكون من المؤمنين"، و"أن أقم " و"أن" الثانية عطفٌ على "أن" الأولى.
ويعني بقوله: (أقم وجهك للدين) ، أقم نفسك على دين الإسلام، (2) (حنيفًا) مستقيمًا عليه، غير معوَجّ عنه إلى يهوديةٍ ولا نصرانيةٍ، ولا عبادة وثن (3) = (ولا تكونن من المشركين) ، يقول: ولا تكونن ممن يشرك في عبادة ربه الآلهةَ والأندادَ، فتكون من الهالكين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ (106) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تدع، يا محمد، من دون معبودك وخالقك شيئًا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة، ولا يضرك في دين ولا دنيا، يعني بذلك الآلهة والأصنام. يقول: لا تعبدها راجيا نفعها أو خائفًا ضرَّها، فإنها
__________
(1) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف ص: 98، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الوجه " فيما سلف 2: 510 - 512، 526 - 546 / 10: 23، وما بعدها.
(3) انظر تفسير " الحنيف " فيما سلف 12: 283، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/218)
لا تنفع ولا تضر = "فإن فعلت"، ذلك، فدعوتها من دون الله = (فإنك إذًا من الظالمين) ، يقول: من المشركين بالله، الظالمي أنفُسِهم. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " الظالم لنفسه "، والسياق لا يليق به هذا، وظني أنه سهو من الناسخ، فلذلك أبدلت به ما أثبت.(15/219)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يصبك الله، يا محمد، بشدة أو بلاء، (1) فلا كاشف لذلك إلا ربّك الذي أصابك به، دون ما يعبده هؤلاء المشركون من الآلهة والأنداد (2) = (وإن يردك بخير) ، يقول: وإن يردك ربك برخاء أو نعمة وعافية وسرور (3) = (فلا رادّ لفضله) ، يقول: فلا يقدر أحدٌ إن يحول بينك وبين ذلك، ولا يردّك عنه ولا يحرمكه; لأنه الذي بيده السّرّاء والضرّاء، دون الآلهة والأوثان، ودون ما سواه = (يصيب به من يشاء) ، يقول: يصيب ربك، يا محمد بالرخاء والبلاء والسراء والضراء، من يشاء ويريد (4) (من عباده وهو الغفور) ، لذنوب من تاب وأناب من عباده من كفره وشركه إلى الإيمان به وطاعته = (الرحيم) بمن آمن به منهم وأطاعه، أن يعذبه بعد التوبة والإنابة. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص: 49، تعليق: 1، والمراجع هناك.
وتفسير " الضر " فيما سلف من فهارس اللغة (ضرر) .
(2) انظر تفسير " الكشف " فيما سلف 11: 354 / 13: 73 / 15: 36، 205.
(3) انظر تفسير " الخير " فيما سلف من فهارس اللغة (خير) .
(4) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف من فهارس اللغة (صوب) .
(5) انظر تفسير " الغفور " و " الرحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) .(15/219)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، للناس: (يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم) ، يعني: كتاب الله، فيه بيان كل ما بالناس إليه حاجة من أمر دينهم = (فمن اهتدى) ، يقول: فمن استقام فسلك سبيل الحق، وصدّق بما جاء من عند الله من البيان = (فإنما يهتدي لنفسه) ، يقول: فإنما يستقيم على الهدى، ويسلك قصد السبيل لنفسه، فإياها يبغي الخيرَ بفعله ذلك لا غيرها (1) = (ومن ضل) ، يقول: ومن اعوج عن الحق الذي أتاه من عند الله، وخالف دينَه، وما بعث به محمدًا والكتابَ الذي أنزله عليه = (فإنما يضل عليها) ، يقول: فإن ضلاله ذلك إنما يجني به على نفسه لا على غيرها، لأنه لا يؤخذ بذلك غيرها، ولا يورد بضلاله ذلك المهالكَ سوى نفسه. ولا تزر وازرة وزر أخرى (2) = (وما أنا عليكم بوكيل) ، يقول: وما أنا عليكم بمسلَّط على تقويمكم، إنما أمركم إلى الله، وهو الذي يقوّم من شاء منكم، وإنما أنا رسول مبلّغ أبلغكم ما أرسلتُ به إليكم. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الاهتداء " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .
(2) انظر تفسير " الضلال " فيما سلف من فهارس اللغة (ظلل) .
(3) انظر تفسير " وكيل " فيما سلف 12: 33، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/220)
وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واتبع، يا محمد وحي الله الذي يوحيه إليك، وتنزيله الذي ينزله عليك، فاعمل به، واصبر على ما أصابك في الله من مشركي قومك من الأذى والمكاره، وعلى ما نالك منهم، حتى يقضي الله فيهم وفيك أمره بفعلٍ فاصلٍ = (وهو خير الحاكمين) ، يقول: وهو خير القاضين وأعدل الفاصلين. (1) فحكم جل ثناؤه بينه وبينهم يوم بَدْرٍ،، وقتلهم بالسيف، وأمر نبيه صلى الله عليه وسلم فيمن بقي منهم أن يسلك بهم سبيل من أهلك منهم، أو يتوبوا ويُنيبوا إلى طاعته، كما:-
17914- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وما أنت عليهم بوكيل واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين) ، قال: هذا منسوخ = (حتى يحكم الله) ، حكم الله بجهادهم، وأمره بالغلظة عليهم. (2)
__________
(1) انظر تفسير " الحكم " فيما سلف 12: 561، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي مخطوطتنا بعد هذا ما نصه:
" آخر تفسير سورة يونس عليه السلام والحمد لله وحده، وصلى الله على محمد وآله.
يتلوه تفسير السورة التي يذكر فيها هود ".
يتلوه:
" بسم الله الرحمن الرحيم ربّ يسِّرْ "(15/221)
آخر تفسير سورة يونس(15/222)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1)
تفسير سورة هود تفسير السورة التي يذكر فيها هود بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) }
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف أهل التأويل في تأويل قوله: (الر) ، والصواب من القول في ذلك عندنا بشواهده، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله: (كتاب أحكمت آياته) ، يعني: هذا الكتاب الذي أنزله الله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وهو القرآن.
* * *
ورفع قوله: "كتاب" بنيّة: " هذا كتاب".
فأما على قول من زعم أن قوله: (الر) ، مرادٌ به سائر حروف المعجم التي نزل بها القرآن، وجعلت هذه الحروف دلالةً على جميعها، وأن معنى الكلام: " هذه الحروف كتاب أحكمت آياته" = فإن الكتاب على قوله، ينبغي أن يكون مرفوعًا بقوله: (الر) .
* * *
وأما قوله: (أحكمت آياته ثم فصلت) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله، فقال بعضهم: تأويله: أحكمت آياته بالأمر والنهي، ثم فصلت بالثَّواب والعقاب.
*ذكر من قال ذلك:
17915- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرني
__________
(1) انظر ما سلف 1: 205 - 224 / 6: 149 - 12: 293، 294 / 15: 7.(15/224)
أبو محمد الثقفي، عن الحسن في قوله: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت) ، قال: أحكمت بالأمر والنهي، وفصلت بالثواب والعقاب. (1)
17916- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الكريم بن محمد الجرجاني، عن أبي بكر الهذلي، عن الحسن: (الر كتاب أحكمت آياته) ، قال: أحكمت في الأمر والنهى، وفصلت بالوعيد. (2)
17917- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن رجل، عن الحسن: (الر كتاب أحكمت آياته) ، قال: بالأمر والنهي = (ثم فصلت) ، قال: بالثواب والعقاب.
* * *
وروي عن الحسن قولٌ خلاف هذا. وذلك ما:-
17918- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن أبي بكر، عن الحسن، قال= وحدثنا عباد بن العوام، عن رجل، عن الحسن قال: (أحكمت) ، بالثواب والعقاب = (ثم فصلت) ، بالأمر والنهي.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (أحبكمت آياته) من الباطل، ثم فصلت، فبين منها الحلال والحرام.
*ذكر من قال ذلك:
17919- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير) ، أحكمها الله من الباطل، ثم فصلها بعلمه، فبيّن حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
* * *
__________
(1) الأثر: 17915 - " أبو محمد الثقفي "، الراوي عن الحسن، لم أعلم من يكون.
(2) الأثر: 17916 - " عبد الكريم بن محمد الجرجاني "، قاضي جرجان، روى عن قيس بن الربيع، وأبي حنيفة، وزهير بن معاوية، وابن جريج، وغيرهم. روى عنه أبو يوسف القاضي، وابن عيينة، وهما أكبر منه، والشافعي، وغيرهم. مات سنة نيف وسبعين ومائة، فلا أدري أيدرك محمد بن حميد أن يروي عنه أم لا؟ مترجم في التهذيب.(15/226)
17920- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (أحكمت آياته ثم فصلت) ، قال: أحكمها الله من الباطل، ثم فَصَّلها، بيَّنها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معناه: أحكم الله آياته من الدَّخَل والخَلَل والباطل، ثم فصَّلها بالأمر والنهي.
وذلك أن "إحكام الشيء " إصلاحه وإتقانه = و"إحكام آيات القرآن"، إحكامها من خلل يكون فيها، أو باطل يقدر ذو زيغ أن يطعن فيها من قِبَله. (1)
وأما "تفصيل آياته " فإنه تمييز بعضها من بعض، بالبيان عما فيها من حلال وحرام، وأمرٍ ونهي. (2)
* * *
وكان بعض المفسرين يفسر قوله: (فصلت) ، بمعنى: فُسِّرت، وذلك نحو الذي قلنا فيه من القول.
*ذكر من قال ذلك:
17921- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ثم فصلت) ، قال: فُسِّرت.
17922- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فصلت) ، قال: فُسّرت.
17923-. . . . قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال، بلغني عن مجاهد: (ثم فصلت) ، قال: فسّرت.
17924- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
__________
(1) انظر تفسير " الإحكام " فيما سلف 6: 170، 174 - 182.
(2) انظر تفسير " تفصيل الآيات " فيما سلف ص: 91، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/227)
أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2)
17925-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عنة ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17926- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال قتادة: معناه: بُيِّنَتْ، وقد ذكرنا الرواية بذلك قبلُ، وهو شبيه المعنى بقول مجاهد.
* * *
وأما قوله: (من لدن حكيم خبير) ، فإن معناه: (حكيم) بتدبير الأشياء وتقديرها، خبير بما تؤول إليه عواقبُها. (1)
17927- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (من لدن حكيم خبير) ، يقول: من عند حكيم خبير. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم فُصّلت بأن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له، وتخلعوا الآلهة والأنداد. ثم قال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للناس (إنني لكم) ، من عند الله = (نذير) ينذركم عقابه على معاصيه وعبادة الأصنام = (وبشير) ، يبشركم بالجزيل من الثواب على طاعته وإخلاص العبادة والألُوهَةِ له. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حكيم " و " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة (حكم) ، (خبر) .
(2) انظر تفسير " من لدن " فيما سلف 6: 362.
(3) انظر تفسير " النذير " فيما سلف ص: 215، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير " البشير " فيما سلف من فهارس اللغة (بشر) .(15/228)
وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم فصلت آياته، بأن لا تعبدوا إلا الله، وبأن استغفروا ربكم. ويعني بقوله: (وأن استغفروا ربكم) ، وأن اعملوا أيها الناس من الأعمال ما يرضي ربكم عنكم، فيستر عليكم عظيمَ ذنوبكم التي ركبتموها بعبادتكم الأوثان والأصنام، وإشراككم الآلهة والأنداد في عبادته. (1)
وقوله: (ثم توبوا إليه) ، يقول: ثم ارجعوا إلى ربكم بإخلاص العبادة له دون ما سواه من سائر ما تعبدون من دونه بعد خلعكم الأنداد وبراءتكم من عبادتها. (2)
ولذلك قيل: (وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه) ، ولم يقل: "وتوبوا إليه"، لأن "التوبة" معناها الرجوع إلى العمل بطاعة الله، والاستغفار: استغفار من الشرك الذي كانوا عليه مقيمين، والعملُ لله لا يكون عملا له إلا بعد ترك الشرك به، فأما الشرك فإنّ عمله لا يكون إلا للشيطان، فلذلك أمرهم تعالى ذكره بالتوبة إليه بعد الاستغفار من الشرك، لأن أهل الشرك كانوا يرون أنهم يُطِيعون الله بكثير من أفعالهم، وهم على شركهم مقيمون.
وقوله: (يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى) ، يقول تعالى ذكره للمشركين الذين خاطبهم بهذه الآيات: استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، فإنكم إذا فعلتم ذلك
__________
(1) انظر تفسير " الاستغفار " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) .
(2) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة (توب) .(15/229)
بسط عليكم من الدنيا ورزقكم من زينتها، وأنسأ لكم في آجالكم إلى الوقت الذي قضى فيه عليكم الموت. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17928- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يمتعكم متاعًا حسنًا إلى أجل مسمى) ، فأنتم في ذلك المتاع، فخذوا بطاعة الله ومعرفة حقّه، فإن الله منعم يحبّ الشاكرين، وأهل الشكر في مزيدٍ من الله، وذلك قضاؤه الذي قضى.
* * *
وقوله: (إلى أجل مسمى) ، يعني الموت.
17929- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلى أجل مسمى) ، قال: الموت.
17930- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إلى أجل مسمى) ، وهو الموت.
17931- حدثنا الحسن قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (إلى أجل مسمى) ، قال: الموت.
* * *
وأما قوله: (ويؤت كل ذي فضل فضله) ، فإنه يعني: يثيب كل من تفضَّل بفضل ماله أو قوته أو معروفه على غيره محتسبًا بذلك، مريدًا به وجه الله = أجزلَ ثوابه وفضله في الآخرة، كما:-
17932- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف من فهارس اللغة (متع) .
= وتفسير " الأجل المسمى " فيما سلف من فهارس اللغة (أجل) .(15/230)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويؤت كل ذي فضل فضله) ، قال: ما احتسب به من ماله، أو عمل بيده أو رجله، أو كَلِمة، أو ما تطوَّع به من أمره كله.
17933- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال=
17934-. . . . وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه= إلا أنه قال: أو عملٍ بيديه أو رجليه وكلامه، وما تطوَّل به من أمره كله.
17935- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: وما نطق به من أمره كله.
17936- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ويؤت كل ذي فضل فضله) ، أي: في الآخرة.
* * *
وقد روي عن ابن مسعود أنه كان يقول في تأويل ذلك ما:-
17937- حدثت به عن المسيب بن شريك، عن أبي بكر، عن سعيد بن جبير، عن ابن مسعود، في قوله: (ويؤت كل ذي فضل فضله) ، قال: من عمل سيئة كتبت عليه سيئة، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات. فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا بقيت له عشر حسنات. وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة، وبقيت له تسع حسنات. ثم يقول: هلك من غلب آحادُه أعشارَه!!
* * *
وقوله: (وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) ، يقول تعالى ذكره: وإن أعرضوا عما دعوتُهم إليه، (1) من إخلاص العبادة لله، وترك عبادة
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) .(15/231)
إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
الآلهة، وامتنعوا من الاستغفار لله والتوبة إليه، فأدبروا مُوَلِّين عن ذلك، (فإني) ، أيها القوم، (أخاف عليكم عذاب يوم كبير) ، شأنُه عظيمٍ هَوْلُه، وذلك يوم تجزى كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون.
* * *
وقال جل ثناؤه: (وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير) ، ولكنه مما قد تقدّمه قولٌ، والعرب إذا قدَّمت قبل الكلام قولا خاطبت، ثم عادت إلى الخبر عن الغائب، ثم رجعت بعدُ إلى الخطاب، وقد بينا ذلك في غير موضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إلى الله) ، أيها القوم، مآبكم ومصيركم، (2)
فاحذروا عقابه إن توليتم عما أدعوكم إليه من التوبة إليه من عبادتكم الآلهة والأصنام، فإنه مخلدكم نارَ جهنم إن هلكتم على شرككم قبل التوبة إليه = (وهو على كل شيء قدير) ، يقول: وهو على إحيائكم بعد مماتكم، وعقابكم على إشراككم به الأوثانَ وغير ذلك مما أراد بكم وبغيركم قادرٌ. (3)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 13: 314، تعليق، 3: والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف ص: 146، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة (قدر) .(15/232)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) }
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة قوله: (ألا أنهم يثنون صدورهم) ، فقرأته عامة الأمصار: (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ، على تقدير "يفعلون" من "ثنيت"، و"الصدور" منصوبة.
واختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله، فقال بعضهم: ذلك كان من فعل بعض المنافقين، كان إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم غطَّى وجهه وثَنَى ظهره.
*ذكر من قال ذلك:
17938- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن عبد الله بن شداد في قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم) ، قال: كان أحدهم إذا مرّ برسول الله صلى الله عليه وسلم قال بثوبه على وجهه، وثنى ظهره. (1)
17939- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) ، قال: من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: كان المنافقون
__________
(1) قوله: " قال بثوبه على وجهه "، أي: أخذ ثوبه وحاول أن يغطي به وجهه حتى لا يراه صلى الله عليه وسلم. و " قال " حرف من اللغة، يستخدم في معان كثيرة، ويراد به تصوير الحركة.
انظر ما سلف 2: 546، 547 / الأثر: 5796 ج 5 ص 400، تعليق: 1 / الأثر 12523 ج 10 ص 572، تعليق: 1 / الأثر 17429، ج 14 ص: 541، تعليق: 2.(15/233)
إذا مرُّوا به ثنى أحدهم صدره، ويطأطئ رأسه. فقال الله: (ألا إنهم يثنون صدورهم) ، الآية.
17940- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن حصين قال: سمعت عبد الله بن شداد يقول في قوله: (يثنون صدورهم) ، قال: كان أحدهم إذا مر بالنبي صلى الله عليه وسلم، ثَنَى صدره، وتغشَّى بثوبه، كي لا يراه النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: بل كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله وظنًّا أن الله يخفى عليه ما تضمره صدورهم إذا فعلوا ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
17941- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم) قال: شكًا وامتراءً في الحق، ليستخفوا من الله إن استطاعوا.
17942- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم) ، شكًّا وامتراءً في الحق. (ليستخفوا منه) ، قال: من الله إن استطاعوا.
17943- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم) ، قال: تضيق شكًّا.
17944- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد: (يثنون صدورهم) ، قال: تضيق شكًّا وامتراءً في الحق. قال: (ليستخفوا منه) ، قال: من الله إن استطاعوا
17945- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.(15/234)
17946- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم) ، قال: من جهالتهم به، قال الله: (ألا حين يستغشون ثيابهم) ، في ظلمة الليل، في أجواف بيوتهم= (يعلم) ، تلك الساعة (ما يسرون وما يعلنون إنه عليم بذات الصدور) .
17947- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه ألا حين يستغشون ثيابهم) ، قال: كان أحدهم يحنى ظهره، ويستغشي بثوبه.
* * *
وقال آخرون: إنما كانوا يفعلون ذلك لئلا يسمعوا كتاب الله. (1)
*ذكر من قال ذلك:
17948- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إلا إنهم يثنون صدورهم) الآية، قال: [كانوا يحنون صدورهم لكيلا يسمعوا كتاب الله، قال تعالى: (ألا حين] يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون) وذلك أخفى ما يكون ابن آدم، إذا حنى صدره واستغشى بثوبه، وأضمر همَّه في نفسه، فإن الله لا يخفى ذلك عليه. (2)
17949- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يستغشون ثيابهم) ، قال: أخفى ما يكون الإنسان إذا أسرَّ في نفسه شيئًا وتغطَّى بثوبه، فذلك أخفى ما يكون، والله يطلع على ما في نفوسهم، والله يعلم ما يسرُّون وما يعلنون.
* * *
وقال آخرون: إنما هذا إخبارٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم عن المنافقين
__________
(1) في المطبوعة: " كلام الله تعالى "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) ما بين القوسين ساقط من المخطوطة.(15/235)
الذين كانوا يضمرون له العداوة والبغضاء، ويبدون له المحبة والمودة، أنهم معه وعلى دينه. (1) يقول جل ثناؤه: ألا إنهم يطوون صدورهم على الكفر ليستخفوا من الله، ثم أخبر جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرائرهم وعلانيتهم.
* * *
وقال آخرون: كانوا يفعلون ذلك إذا ناجى بعضهم بعضًا.
*ذكر من قال ذلك:
17950- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم ليستخفوا منه) ، قال: هذا حين يناجي بعضهم بعضًا. وقرأ: (ألا حين يستغشون ثيابهم) الآية.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك: (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ) ، على مثال: "تَحْلَولِي الثمرة"، "تَفْعَوْعِل".
17951- حدثنا. . . قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن جريج، عن ابن أبي مليكة قال: سمعت ابن عباس يقرأ (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) ، قال: كانوا لا يأتون النساء ولا الغائط إلا وقد تغشوا بثيابهم، كراهة أن يُفْضُوا بفروجهم إلى السماء. (2)
17952- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سمعت محمد بن عباد بن جعفر يقول، سمعت ابن عباس يقرؤها: (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) ، قال: سألته عنها فقال: كان ناس يستحيون أن يتخلَّوا فيُفْضُوا إلى السماء، وأن يصيبوا فيْفضُوا إلى السماء.
* * *
وروي عن ابن عباس في تأويل ذلك قول آخر، وهو ما:-
__________
(1) في المطبوعة: " وأنهم " بالواو، وما في المخطوطة صواب جيد.
(2) الأثر: 17951 - في المطبوعة: " حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة "، وهذا ليس في المخطوطة، بل الذي فيها ما أثبته: " حدثنا قال.... حدثنا أبو أسامة "، بياض بين الكلامين وفوقه كتب " كذا "، يعني، هكذا البياض بالأصل.(15/236)
17953- حدثنا به محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، أخبرت، عن عكرمة: أن ابن عباس قرأ (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) ، وقال ابن عباس: "تثنوني صدورهم"، الشكُّ في الله، وعمل السيئات = (يستغشون ثيابهم) ، يستكبر، أو يستكنّ من الله، والله يراه، يعلم ما يسرُّون وما يعلنون.
17954- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قرأ: (أَلا إِنَّهُمْ تَثْنَونِي صُدُورُهُمْ) ، قال عكرمة: "تثنوني صدورهم"، قال: الشك في الله، وعمل السيئات، فيستغشي ثيابه، ويستكنّ من الله، والله يراه ويعلم ما يسرُّون وما يعلنون
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار، وهو: (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ) ، على مثال "يفعلون"، و"الصدور" نصب، بمعنى: يحنون صدورهم ويكنُّونها، (1) كما:-
17955- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يثنون صدورهم) ، يقول: يكنُّون. (2)
17956- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ألا إنهم يثنون صدورهم) ، يقول: يكتمون ما في قلوبهم = (ألا حين يستغشون ثيابهم) ، يعلم ما عملوا بالليل والنهار.
17957- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ألا انهم يثنون صدورهم) ، يقول: (تَثْنَوْنِي صُدُورُهُمْ) .
__________
(1) في المطبوعة: " يكبونها " و " يكبون "، بالباء في الموضعين، والصواب ما في المخطوطة وهي منقوطة هناك فيهما.
(2) في المطبوعة: " يكبونها " و " يكبون "، بالباء في الموضعين، والصواب ما في المخطوطة وهي منقوطة هناك فيهما.(15/237)
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي تأوّله الضحاك على مذهب قراءة ابن عباس، إلا أن الذي حدثنا، هكذا ذكر القراءة في الرواية.
* * *
فإذا كانت القراءة التي ذكرنا أولى القراءتين في ذلك بالصواب، لإجماع الحجة من القراء عليها. فأولى التأويلات بتأويل ذلك، تأويلُ من قال: إنهم كانوا يفعلون ذلك جهلا منهم بالله أنه يخفى عليه ما تضمره نفوسهم، أو تناجوه بينهم.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن قوله: (ليستخفوا منه) ، بمعنى: ليستخفوا من الله، وأن الهاء في قوله، (منه) ، عائدة على اسم الله، ولم يجر لمحمّدٍ ذكر قبلُ، فيجعل من ذكره صلى الله عليه وسلم وهي في سياق الخبر عن الله. فإذا كان ذلك كذلك، كانت بأن تكون من ذكر الله أولى. وإذا صحّ أن ذلك كذلك، كان معلومًا أنهم لم يحدِّثوا أنفسهم أنهم يستخفون من الله، إلا بجهلهم به. فأخبرهم جل ثناؤه أنه لا يخفى عليه سرُّ أمورهم وعلانيتها على أيّ حالٍ كانوا، تغشَّوا بالثياب، أو أظهروا بالبَرَاز، (1)
فقال: (ألا حين يستغشون ثيابهم) ، يعني: يتغشَّون ثيابهم، يتغطونها ويلبسون.
* * *
يقال منه: "استغشى ثوبه وتغشّاه"، قال الله: (وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ) [سورة نوح: 7] ، وقالت الخنساء:
أَرْعَى النُّجُومَ وَمَا كُلِّفْتُ رِعْيَتِهَا ... وَتَارَةً أَتَغَشَّى فَضْلَ أَطْمَارِي (2)
* * *
__________
(1) " البراز " (بفتح الباء) : الفضاء البعيد الواسع، ليس فيه شجر ولا ستر.
(2) ديوانها: 109، من شعرها في مراثي أخيها صخر، تقول قبله: إنِّي أَرِقْتُ فبِتُّ اللَّيْلَ سَاهِرَةً ... كَأَنَّمَا كٌحِلَتْ عَيْنِي بِعُوَّارِ
" العوار " القذى. وقولها: " أرعى النجوم "، تراقبها، من غلبة الهم عليها ليلا، فهي ساهرة تأنس بتطويح البصر في السماوات. و " الأطمار "، أخلاق الثياب. تقول: طال حدادها وحزنها، فلا تبالي أن يكون لها جديد، فهي في خلقان ثيابها، فإذا طال سهرها وغلبها ما غلبها، تغطت بأطمارها فعل الحزين، وبكت أو انطوت على أحزانها.(15/238)
= (يعلم ما يسرون) ، يقول جل ثناؤه: يعلم ما يسرُّ هؤلاء الجهلة بربهم، الظانُّون أن الله يخفى عليه ما أضمرته صدورهم إذا حنوها على ما فيها، وثنوها، وما تناجوه بينهم فأخفوه (1) = (وما يعلنون) ، سواء عنده سرائرُ عباده وعلانيتهم = (إنه عليم بذات الصدور) ، يقول تعالى ذكره: إن الله ذو علم بكل ما أخفته صدور خلقه، من إيمان وكفر، وحق وباطل، وخير وشر، وما تستجنُّه مما لم تُجنُّه بعدُ، (2) كما:-
17958- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (ألا حين يستغشون ثيابهم) ، يقول: يغطون رءوسهم.
* * *
قال أبو جعفر، فاحذروا أن يطلع عليكم ربكم وأنتم مضمرون في صُدُوركم الشكّ في شيء من توحيده أو أمره أو نهيه، أو فيما ألزمكم الإيمان به والتصديق، فتهلكوا باعتقادكم ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإسرار " فيما سلف: 103.
(2) انظر تفسير " ذات الصدور " فيما سلف 13: 570، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/239)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وما من دابّة في الأرض إلا على الله رزقها) ، وما تدبّ دابّة في الأرض.
* * *
و"الدابّة" "الفاعلة"، من دبّ فهو يدبّ، وهو دابٌّ، وهي دابّة. (1)
* * *
(إلا على الله رزقها) ، يقول: إلا ومن الله رزقها الذي يصل إليها، هو به متكفل، وذلك قوتها وغذاؤها وما به عَيْشُها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17959- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد، في قوله: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) ، قال: ما جاءها من رزقٍ فمن الله، وربما لم يرزقها حتى تموت جوعًا، ولكن ما كان من رزقٍ فمن الله.
17960- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) ، قال: كل دابة
__________
(1) انظر تفسير " الدابة " فيما سلف 14: 21، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/240)
17961- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها) ، يعني: كلّ دابة، والناسُ منهم.
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من أهل البصرة يزعم أن كل مالٍ فهو "دابة" (1) = وأن معنى الكلام: وما دابة في الأرض = وأن "من" زائدة. (2)
* * *
وقوله: (ويعلم مستقرها) ، حيث تستقر فيه، وذلك مأواها الذي تأوي إليه ليلا أو نهارًا = (ومستودعها) الموضع الذي يودعها، إما بموتها، فيه، أو دفنها. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17962- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن التيمي، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: (مستقرها) حيث تأوي = (ومستودعها) ، حيث تموت.
17963- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ويعلم مستقرها) ، يقول: حيث تأوى = (ومستودعها) ، يقول: إذا ماتت.
__________
(1) في المطبوعة: " كل ماش فهو دابة "، والذي أثبته هو نص المخطوطة، و " المال " عند العرب، الإبل والأنعام، وسائر الحيوان مما يقتنى. وهذا وجه. ولكن الذي في مجاز القرآن، وهذا نص كلامه، فهو " كل آكل "، ولا قدرة لي على الفصل في صواب ما قاله أبو عبيدة، لأن نسخة المجاز المطبوعة، ربما وجد فيها خلاف لما نقل عن أبي عبيدة في الكتب الأخرى.
(2) هذا نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 285.
(3) انظر تفسير " المستقر "، و " المستودع " فيما سلف 1: 539 / 11: 434، 562 - 572 / 12: 358، 359.(15/241)
17964- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن ليث، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: (يعلم مستقرها ومستودعها) ، قال: "المستقر"، حيث تأوي = و"المستودع"، حيث تموت.
* * *
وقال آخرون: (مستقرّها) ، في الرحم = (ومستودعها) ، في الصلب.
*ذكر من قال ذلك:
17965- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويعلم مستقرها) ، في الرحم= (ومستودعها) ، في الصلب، مثل التي في "الأنعام". (1)
17966- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه عن ابن عباس، قوله: (ويعلم مستقرها ومستودعها) ، فالمستقر ما كان في الرحم، والمستودع ما كان في الصلب.
17967- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ويعلم مستقرها) ، يقول: في الرحم = (ومستودعها) ، في الصلب.
* * *
وقال آخرون: "المستقر " في الرحم = و"المستودع"، حيث تموت.
*ذكر من قال ذلك:
17968- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي ويعلى، وابن فضيل، عن إسماعيل، عن إبراهيم، عن عبد الله: (ويعلم مستقرها ومستودعها) ، قال: "مستقرها"، الأرحام = و"مستودعها": الأرض التي تموت فيها.
17969-. . . . قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي،
__________
(1) انظر تفسير " سورة الأنعام " 11: 562 - 572. والآثار هناك.(15/242)
عن مرة، عن عبد الله: (ويعلم مستقرها ومستودعها) ، "المستقر" الرحم، و"المستودع" المكان الذي تموت فيه.
* * *
وقال آخرون: (مستقرها) ، أيام حياتها = (ومستودعها) ، حيث تموت فيه.
* ذكر من قال ذلك:
17970- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قالأخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس قوله: (ويعلم مستقرها ومستودعها) ، قال: (مستقرها) ، أيام حياتها، و (مستودعها) : حيث تموت، ومن حيث تبعث.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه فيه، لأن الله جل ثناؤه أخبر أن ما رزقت الدواب من رزق فمنه، فأولى أن يتبع ذلك أن يعلم مثواها ومستقرها دون الخبر عن علمه بما تضمنته الأصلاب والأرحام.
* * *
ويعني بقوله: (كل في كتاب) ، [مبين] ، عدد كل دابة، (1) ومبلغ أرزاقها، وقدر قرارها في مستقرها، ومدة لبثها في مستودعها. كل ذلك في كتاب عند الله مثبت مكتوب = (مبين) ، يبين لمن قرأه أن ذلك مثبت مكتوب قبل أن يخلقها ويوجدها. (2)
وهذا إخبارٌ من الله جل ثناؤه الذين كانوا يثنون صدورهم ليستخفوا منه، أنه قد علم الأشياء كلها، وأثبتها في كتاب عنده قبل أن يخلقها ويوجدها، يقول لهم تعالى ذكره: فمن كان قد علم ذلك منهم قبل أن يوجدهم، فكيف يخفى عليه ما تنطوي عليه نفوسهم إذا ثنوا به صدورهم، واستغشوا عليه ثيابهم؟
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين، لأني رجحت أنه حق الكلام، وأن الناسخ ظن أنه تكرار فتركه.
(2) انظر تفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .(15/243)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي إليه مرجعكم أيها الناس جميعًا، (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) ، يقول: أفيعجز من خلق ذلك من غير شيء أن يعيدكم أحياءً بعد أن يميتكم؟
* * *
وقيل: إن الله تعالى ذكره خلق السموات والأرض وما فيهن في الأيام الستة، فاجتُزِئَ في هذا الموضع بذكر خلق السموات والأرض، من ذكر خلق ما فيهنّ.
17971- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد، عن عبد الله بن رافع، مولى أم سلمة، عن أبي هريرة قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال: خلق الله التربة يوم السبت، وخلق الجبال فيها يوم الأحد، وخلق الشجر فيها يوم الاثنين، وخلق المكروه يوم الثلاثاء، وخلق النور يوم الأربعاء، وبثّ فيها من كل دابة يوم الخميس، وخلق آدم بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل. (1)
__________
(1) الأثر: 17971 - هذا حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه 17: 123، ورواه أحمد في مسنده 2: 327، رقم: 8323 من ترقيم أخي رحمة الله عليه، في الجزء الذي لم يطبع من المسند. ورواه أبو جعفر في تاريخه 1: 28، 29، 32، جميعها من طريق القاسم بن بشر بن معروف، والحسين بن علي الصدائي، عن حجاج، فهو صدر إسناد آخر غير هذا الإسناد، وإن اتفق سائره. هذا وقد نبتت نابتة تريد أن تبطل نحو هذا الحديث بالرأي، ثم بالطعن في الصحابي الجليل أبي هريرة. وسلك بعضهم إلى هذا مسلكا معيبا عند أهل العلم، في استجلاب ضروب من الملفقات، يريد بها مذمة رجل من أصحاب رسول الله، غير متثبت من الأصل الذي يبنى عليه. فاللهم احفظ دينك من أهوائنا، فما أهلك الدين والدنيا غير الهوى المسلط على عقولنا ونفوسنا. وفي هذا الأمر مقال ليس هذا مكانه.(15/244)
17972- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (في ستة أيام) ، قال: بدأ خلق الأرض في يومين، وقدّر فيها أقواتها في يومين.
17973- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن كعب قال: بدأ الله خلق السموات والأرض يوم الأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، وفرغ منها يوم الجمعة، فخلق آدم في آخر ساعة من يوم الجمعة. قال: فجعل مكان كل يوم ألف سنة.
17974- وحدثت عن المسيب بن شريك، عن أبي روق، عن الضحاك: (وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) ، قال: من أيام الآخرة، كل يوم مقداره ألف سنة. ابتدأ في الخلق يوم الأحد، وختم الخلق يوم الجمعة، فسميت "الجمعة"، وسَبَت يوم السبت فلم يخلق شيئًا
* * *
وقوله: (وكان عرشه على الماء) ، يقول: وكان عرشه على الماء قبل أن يخلق السموات والأرض وما فيهن، (1) كما:-
17975- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وكان عرشه على الماء) ، قبل أن يخلق شيئًا.
17976- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
__________
(1) انظر تفسير " العرش " فيما سلف 12: 482 / 14: 587 / 15: 18.(15/245)
17977- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
17978- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وكان عرشه على الماء) ، ينبئكم ربكم تبارك وتعالى كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض.
17979- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وكان عرشه على الماء) ، قال: هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السماء والأرض.
17980- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن يعلى بن عطاء. عن وكيع بن حُدُس، عن عمه أبي رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربُّنا قبل أن يخلق السموات والأرض؟ قال: في عَمَاءٍ، (1)
ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء. (2)
17981- حدثنا ابن وكيع، ومحمد بن هارون القطان الرازقي قالا حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن وكيع بن
__________
(1) " العماء "، في كلام العرب، السحاب. قال أبو عبيد القاسم بن سلام: " وإنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المعقول عنهم، ولا ندري كيف كان ذلك العماء ". وهذه كلمة عالم يعقل عن ربه، ولا يتنكر لخبر رسوله المبلغ عنه، العارف بصفاته، ويقاس عليه مثله مما ورد في أحاديث بدء الخلق وأشباهها، ما صح إسناد الخبر عن نبي الله، بأبي هو وأمي. ونقل الترمذي في سننه عن أحمد، عن يزيد بن هارون: " العماء: أي ليس معه شيء ".
(2) الأثر: 17980 - " حماد "، هو " حماد بن سلمة "، مضى مرارًا. " ويعلى بن عطاء العامري الطائفي "، ثقة، مضى برقم: 2858، 11527، 11529، 16579. " ووكيع بن حدس "، أو " ابن عدس " أبو مصعب العقيلي الطائفي، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 178، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 36. " وأبو رزين العقيلي "، هو " لقيط بن عامر بن المنتفق " أو " لقيط بن صبرة "، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، مضى برقم: 3223 مضى التفريق هناك بينه وبين " لقيط بن صبرة "، وهذا الخبر رواه الطبري في تاريخه 1: 19 من هذه الطريق نفسها. ورواه أحمد في مسنده 4: 11 من طريق يزيد بن هارون عن حماد، وص: 12 من طريق بهز، عن حماد.
ورواه الترمذي في التفسير، من طريق يزيد بن هارون، وقال: " هذا حديث حسن ". ورواه ابن ماجه في سننه 1: 64، رقم: 182، من طريق يزيد. انظر الأثر التالي رقم: 17981.(15/246)
حُدُس، عن عمه أبي رزين قال: قلت: يا رسول الله، أين كان ربنا قبل أن يخلق خلقه؟ قال: كان في عَماء ما فوقه هواء، وما تحته هواء، ثم خلق عرشه على الماء. (1)
17982- حدثنا خلاد بن أسلم قال، أخبرنا النضر بن شميل قال، أخبرنا المسعودي قال، أخبرنا جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن ابن حصين، وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتى قومٌ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا عليه، فجعل يبشِّرهم ويقولون: أعطنا! حتى ساء ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرجوا من عنده. وجاء قوم آخرون فدخلوا عليه، فقالوا: جئنا نسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونتفقه في الدين، ونسأله عن بدء هذا الأمر؟ قال: فاقبلوا البشرى إذ لم يقبلها أولئك الذين خرجوا! قالوا: قبلنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان الله ولا شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب في الذكر قبل كل شيء، ثم خلق سبع سماوات. ثم أتاني آت فقال: تلك ناقتك قد ذهبت، فخرجتُ ينقطع دونها السَّراب، (2)
__________
(1) الأثر: 17981 - هو مكرر الأثر السالف، ومضى تخريجه هناك.
" محمد بن هارون القطان الرازقي "، شيخ الطبري، هكذا جاء في المخطوطة أيضًا، ومثله في التاريخ بغير " الرازقي "، ولم أجد ذلك في الذي بين يدي من الكتب. وشيخ الطبري الذي مر مرارًا هو " محمد بن هارون بن إبراهيم الربعي الحربي البزاز "، أبو نشيط "، وجائز أن يكون وضع " القطان " مكان " البزاز " فهما متقاربان في المعنى. أما " الرازقي "، فهذا مشكل. إنما يقال له " الحربي " أو " الربعي " وقد مضى " أبو نشيط " برقم: 9511، 10371، 14294.
(2) هكذا في المخطوطة: " ينقطع دونها السراب "، وهو صواب، ودليله رواية أحمد في مسنده " فإذا السراب ينقطع بيني وبينها "، بمعنى " ينتهي "، كما يقال: " منقطع الوادي أو الرمل "، حيث ينتهي إليه طرفه. يريد: ينتهي الطرف إلى منتهى السراب من قبل بصره، فهو لا يراها. وروى صاحب اللسان حديث أبي ذر " فإذا هي يقطع دونها السراب " (بضم الياء وفتح القاف وتشديد الطاء) ، وقال: أي تسرع إسراعًا كثيرًا تقدمت به وفاتت، حتى إن السراب يظهر دونها، أي من ورائها، لبعدها في البر. أما الحافظ ابن حجر في شرح حديث عمران بن حصين هذا، فقد شرح رواية البخاري وهي " فإذا هي يقطع دونها السراب " وقال: يقطع، بفتح أوله، أي: يحول بيني وبين رؤيتها السراب "، (الفتح 6: 207) .(15/247)
ولوددتُ أنّي تركتها. (1)
17983- حدثنا محمد بن منصور قال، حدثنا إسحاق بن سليمان قال، حدثنا عمرو بن أبي قيس، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله: (وكان عرشه على الماء) ، قال: كان عرش الله على الماء، ثم اتخذ لنفسه جنّةً، ثم اتخذ دونها أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة قال: (ومن دونهما جنتان) ، [سورة الرحمن: 62] ، قال: وهي التي
__________
(1) الأثر: 17982 - " خلاد بن أسلم "، " أبو بكر الصفار "، شيخ الطبري، مضى برقم: 3004، 11512." والنضر بن شميل المازني النحوي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 11512، 16767. " والمسعودي "، هو " عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة "، مضى مرارًا، آخرها رقم: 15349." وجامع بن شداد المحاربي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 8289." وصفوان بن محرز بن زياد المازني "، ثقة، روى له الخمسة. مضى برقم: 6496، 12866. " وابن حصين "، هو " عمران بن حصين الخزاعي "، صحابي. هذا الخبر رواه الطبري في تاريخه 1:19 بهذا الإسناد نفسه ورواه البخاري مطولا من طريق الأعمش، عن جامع بن شداد، ورواه مختصرًا من طريق سفيان، عن جامع بن شداد (الفتح 6: 205 - 207) ، ومن طريق سفيان (الفتح 8: 76) . ورواه أحمد في مسنده من طرق، من طريق سفيان عن جامع مختصرًا (4: 426، 436) ومن طريق الأعمش، عن جامع مطولا (4: 431، 432) وهو إسناد البخاري بنحو لفظه. وروايته من هذه الطرق الصحاح، تقيم رواية المسعودي، لأن " المسعودي " قد تكلموا فيه، وأنه اختلط بأخرة، والمرضي من حديثه ما سمعه القدماء منه. وكأن " النضر بن شميل " ممن روى عنه قديمًا. وقد رواه الحاكم في المستدرك 2: 341 من طريق روح بن عبادة عن المسعودي نفسه، عن جامع بن شداد، عن صفوان بن محرز، عن بريدة الأسلمي الصحابي، بلفظه وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي. ولا أدري متى سمع روح بن عبادة من المسعودي. فإن الاختلاف في " بريدة " و " عمران بن حصين "، يحتاج إلى فضل تحقيق.(15/248)
(لا تَعْلَمُ نَفْس) = أو قال: وهما التي لا تعلم نفس (مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، [سورة السجدة: 17] . قال: وهي التي لا تعلم الخلائق ما فيها = أو: ما فيهما = يأتيهم كل يوم منها = أو: منهما = تحفة.
17984- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن قول الله: (وكان عرشه على الماء) ، قال: على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. (1)
17985- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير قال: سُئل ابن عباس عن قوله: (وكان عرشه على الماء) ، على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح. (2)
17986- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن سعيد، عن ابن عباس، مثله. (3)
17987-. . . . قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا مبَشّر الحلبي، عن أرطاة بن المنذر قال: سمعت ضمرة يقول: إن الله كان عرشه على الماء، وخلق السموات والأرض بالحق، وخلق القلم فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه، ثم إن ذلك الكتاب سبّح الله ومجّده ألف عام قبل أن يخلق شيئًا من الخلق. (4)
__________
(1) الأثر: 17984 - رواه الحاكم في المستدرك 2: 341، من طريق الأعمش، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه " ووافقه الذهبي.
وسيأتي في الذي يليه من طريق الأعمش، عن سعيد بن جبير، بلا واسطة. والأعمش يروي عن سعيد بن جبير. ورواه الطبري في تاريخه من هذه والطريق نفسها 1: 20، 21.
(2) الأثر: 19786 - هو مكرر الأثرين السالفين، من طريق الأعمش، عن سعيد بن جبير، بلا واسطة، ورواه بها الطبري في تاريخه 1: 21.
(3) الأثر: 19786 - مكرر الثرين السالفين، ورواه الطبري في تاريخه منها 1: 21.
(4) الأثر: 17987 - " مبشر الحلبي "، هو " مبشر بن إسماعيل الحلبي "، روى له الجماعة، مضى برقم: 17001، وكان في المطبوعة: " ميسر "، وهو خطأ.
و" أرطاة بن المنذر السكوني "، ثقة، من أتباع التابعين، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 58 وابن أبي حاتم 1 / 1 / 326. " وضمرة بن حبيب بن صهيب الزبيدي " ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 338، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 467. وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 21 من هذه الطريق نفسها.(15/249)
17988- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال حدثني عبد الصمد بن معقل قال: سمعت وهب بن منبه يقول: إن العرش كان قبل أن يخلق الله السموات والأرض، ثم قبض من صَفاة الماء [قبضة] ، (1) ثم فتح القبضة فارتفع دخانًا (2) ، ثم قضاهُنّ سبع سماوات في يومين. ثم أخذ طينة من الماء فوضعها مكان البيت، ثم دحا الأرض منها، ثم خلق الأقوات في يومين والسموات في يومين وخلق الأرض في يومين، ثم فرغ من آخر الخلق يوم السابع. (3)
* * *
وقوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ، يقول تعالى ذكره: وهو الذي خلق السموات والأرض أيها الناس، وخلقكم في ستة أيام = (ليبلوكم) ، يقول: ليختبركم (4) = (أيكم أحسن عملا) ، يقول: أيكم أحسن له طاعة، كما:-
17989- حدثنا عن داود بن المحبر قال، حدثنا عبد الواحد بن زيد، عن كليب بن وائل، عن عبد الله بن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه تلا
__________
(1) في المطبوعة: " ثم قبض قبضة من صفاء الماء "، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة، فغيرها. وزدت " قبضة " بين قوسين، من رواية هذا الخبر، بغير هذا الإسناد، في تاريخ الطبري. " وصفاة الماء "، كأنه عنى بها " الزبدة البيضاء " المذكورة في الأثر رقم: 2044، 7428، وفي الدر المنثور 3: 322، من حديث الربيع بن أنس: " كان عرشه على الماء، فلما خلق السماوات والأرض، قسم ذلك الماء قسمين، فجعل صفاء (صفاة) تحت العرش، وهو البحر المسجور، فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور، فينزل منه مثل الطل، وتنبت منه الأجسام ".
(2) في المطبوعة: " ثم قبض قبضة من صفاء الماء "، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة، فغيرها. وزدت " قبضة " بين قوسين، من رواية هذا الخبر، بغير هذا الإسناد، في تاريخ الطبري. " وصفاة الماء "، كأنه عنى بها " الزبدة البيضاء " المذكورة في الأثر رقم: 2044، 7428، وفي الدر المنثور 3: 322، من حديث الربيع بن أنس: " كان عرشه على الماء، فلما خلق السماوات والأرض، قسم ذلك الماء قسمين، فجعل صفاء (صفاة) تحت العرش، وهو البحر المسجور، فلا تقطر منه قطرة حتى ينفخ في الصور، فينزل منه مثل الطل، وتنبت منه الأجسام ".
(3) في الأثر: 17988 - رواه الطبري في تاريخه 1: 20 من طريق محمد بن سهل بن عسكر، عن إسماعيل بن عبد الكريم، مختصرًا.
(4) انظر تفسير " البلاء " فيما سلف 13: 448، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/250)
هذه الآية: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ، قال: أيكم أحسن عقلا وأورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله؟ (1)
17990- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملا) ، يعني الثقلين.
* * *
وقوله: (ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن قلت لهؤلاء المشركين من قومك: إنكم مبعوثون أحياء من بعد مماتكم! فتلوت عليهم بذلك تنزيلي ووحيي = (ليقولن إن هذا إلا سحر مبين) ، أي: ما هذا الذي تتلوه علينا مما تقول، إلا سحر لسامعه، مبينٌ لسامعه عن حقيقته أنه سحر. (2)
* * *
وهذا على تأويل من قرأ ذلك: (إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ) ،
* * *
__________
(1) الأثر: 17989 - " داود بن المحبر الطائي الثقفي "، صاحب " كتاب العقل "، شبه لا شيء، كان لا يدري ما الحديث، هكذا قال أحمد بن حنبل. وهو ضعيف صاحب مناكير، وذكروا كتاب العقل، فقال الدارقطني: " كتاب العقل، وضعه أربعة، أولهم ميسرة بن عبد ربه، ثم سرقه منه داود بن المحبر، فركبه بأسانيد غير أسانيد ميسرة. وسرقه عبد العزيز بن أبي رجاء، فركبه بأسانيد أخر. ثم سرقه سليمان بن عيسى السجزي، فأتى بأسانيد أخر ". وقال الحاكم: " حدثونا عن الحارث بن أبي أسامة عنه بكتاب العقل، وأكثر ما أودع في ذلك الكتاب من الحديث الموضوع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ". مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 223، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 424." وعبد الواحد بن يزيد البصري "، القاص، شيخ الصوفية منكر الحديث، ضعيف بمرة، مترجم في تعجيل المنفعة ص: 266، وميزان الاعتدال 2: 157، وابن أبي حاتم 3/1/20. " وكليب بن وائل بن هبار التيمي اليشكري "، روى عن ابن عمر. ثقة، وضعفه أبو زرعة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 229، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 167. فهذا حديث ضعيف بمرة، ولا أصل له.
(2) في المطبوعة: " إلا سحر لسامعه مبين حقيقته أنه سحر "، وفي المخطوطة: " إلا سحر لسامعه عن حقيقته أنه سحر "، وبين " سحر " و " لسامعه " حرف " ط " دلالة على الخطأ. وصواب العبارة ما أثبته إن شاء الله. وانظر تفسير " السحر " فيما سلف ص: 159، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .(15/251)
وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
وأما من قرأ: (إِنْ هَذَا إِلا سَاحِرٌ مُبِينٌ) ، فإنه يوجّه الخبر بذلك عنهم إلى أنهم وَصَفوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه فيما أتاهم به من ذلك ساحرٌ مبين.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا الصواب من القراءة في ذلك في نظائره، فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته ههنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن أخرنا عن هؤلاء المشركين من قومك، يا محمد، العذابَ فلم نعجله لهم، وأنسأنا في آجالهم = إلى (أمة معدودة) ، ووقت محدود وسنين معلومة.
* * *
وأصل "الأمة" ما قد بينا فيما مضى من كتابنا هذا، أنها الجماعة من الناس تجتمع على مذهب ودين، ثم تستعمل في معان كثيرة ترجع إلى معنى الأصل الذي ذكرت. (2) وإنما قيل للسنين "المعدودة" والحين، في هذا الموضع ونحوه: أمة، لأن فيها تكون الأمة. (3)
* * *
وإنما معنى الكلام: ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى مجيء أمة وانقراض أخرى قبلها.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 11: 216، 217، 265.
(2) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف 13: 285، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " معدودة " فيما سلف 3: 417 / 4: 208، وما بعدها.(15/252)
وبنحو الذي قلنا من أن معنى "الأمة" في هذا الموضع، الأجل والحين، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
17991- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم = قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس. وحدثنا الحسن بن يحيي قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) ، قال: إلى أجل محدود.
17992- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عاصم، عن أبي رزين، عن ابن عباس، بمثله.
17994- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إلى أمة معدودة) ، قال: أجل معدود.
17995- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: إلى أجل معدود.
17996- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلى أمة معدودة) ، قال: إلى حين.
17997- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17998-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17999- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) ، يقول: أمسكنا(15/253)
عنهم العذاب = (إلى أمة معدودة) ، قال ابن جريج، قال مجاهد: إلى حين.
18000- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ولئن أخرنا عنهم العذاب إلى أمة معدودة) ، يقول: إلى أجل معلوم. (1)
* * *
وقوله: (ليقولن ما يحبسه) ، يقول: "ليقولن" هؤلاء المشركون "ما يحبسه"؟ أي شيء يمنعه من تعجيل العذاب الذي يتوعَّدنا به؟ (2) تكذيبًا منهم به، وظنًّا منهم أن ذلك إنَّما أخر عنهم لكذب المتوعّد كما:-
18002- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال قوله: (ليقولن ما يحبسه) ، قال: للتكذيب به، أو أنه ليس بشيء.
* * *
وقوله: (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم) ، يقول تعالى ذكره تحقيقًا لوعيده وتصحيحًا لخبره: (ألا يوم يأتيهم) العذابُ الذي يكذبون به = (ليس مصروفًا عنهم) ، يقول: ليس يصرفه عنهم صارف، ولا يدفعه عنهم دافع، ولكنه يحل بهم فيهلكهم (3) = (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) ، يقول: ونزل بهم وأصابهم الذي كانوا به يسخرون من عذاب الله. (4) وكان استهزاؤُهم به الذي ذكره الله، قيلهم قبل نزوله (ما يحبسه) ،و "هلا تأتينا"؟. (5)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان بعض أهل التأويل يقول.
__________
(1) تجاوزت في الترقيم رقم: 18001، سهوًا.
(2) انظر تفسير " الحبس " فيما سلف 11: 172.
(3) انظر تفسير " الصرف " فيما سلف 11: 286 / 13: 112 / 14: 582 / 15: 84.
(4) انظر تفسير " حاق " فيما سلف 11: 172. = وتفسير " الاستهزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (هزأ) .
(5) في المطبوعة: " نقلا بأنبيائه "، وهذا خلط لا معنى له. وفي المخطوطة: " ونعلا بأنبيائه "، والكلمة الأولى سيئة الكتابة، وسائر الحروف غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها إن شاء الله.(15/254)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9)
*ذكر من قال ذلك:
18003- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون) ، قال: ما جاءت به أنبياؤهم من الحق.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نزعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن أذَقنا الإنسان منّا رخاء وسعةً في الرزق والعيش، فبسطنا عليه من الدنيا (1) = وهي "الرحمة " التي ذكرها تعالى ذكره في هذا الموضع = (ثم نزعناها منه) ، يقول: ثم سلبناه ذلك، فأصابته مصائب أجاحته فذهبت به (2) = (إنه ليئوس كفور) ، يقول: يظل قَنِطًا من رحمة الله، آيسًا من الخير.
* * *
وقوله: "يئوس"، " فعول"، من قول القائل: "يئس فلان من كذا، فهو يئوس"، إذا كان ذلك صفة له. (3) .
وقوله: "كفور"، يقول: هو كفُور لمن أنعم عليه، قليل الشكر لربّه المتفضل عليه، بما كان وَهَب له من نعمته. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص: 146، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " النزع " فيما سلف 12: 437 / 13: 17.
(3) انظر تفسير " اليأس " فيما سلف 9: 516.
(4) انظر تفسير " الكفر " فيما سلف من فهارس اللغة (كفر) .(15/255)
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
*ذكر من قال ذلك:
18004- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور) ، قال: يا ابن آدم، إذا كانت بك نعمة من الله من السعة والأمن والعافية، فكفور لما بك منها، وإذا نزعت منك نبتغي قَدْعك وعقلك (1) فيئوس من روح الله، قنوطٌ من رحمته، كذلك المرء المنافق والكافر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولئن نحن بسطنا للإنسان في دنياه، ورزقناه رخاءً في عيشه، ووسعنا عليه في رزقه، وذلك هي النّعم التي قال الله جل ثناؤه: (ولئن أذقناه نعماء) (2) = وقوله: (بعد ضراء مسته) ، يقول: بعد ضيق من العيش كان فيه، وعسرة كان يعالجها (3) (ليقولنّ ذهب السيئات عني) ، يقول تعالى ذكره: ليقولن عند ذلك: ذهب الضيق والعسرة عني، وزالت الشدائد والمكاره = (إنه لفرح فخور) ، يقول تعالى ذكره: إن الإنسان لفرح بالنعم
__________
(1) في المطبوعة: " يبتغي لك فراغك، فيؤوس. . . "، غير ما في المخطوطة، وكان فيها هكذا: " يسعى فرعك وعقلك فيؤوس "، وصواب قراءتها ما أثبت. و " القدع ": الكف والمنع.
(2) انظر تفسير " النعماء " فيما سلف من فهارس اللغة (نعم) .
(3) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص: 219، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير " الضراء " فيما سلف ص: 49، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/256)
التي يعطاها مسرور بها (1)
= (فخور) ، يقول: ذو فخر بما نال من السعة في الدنيا، وما بسط له فيها من العيش، (2) وينسى صُرُوفها، ونكدَ العَوَائص فيها، (3) ويدع طلب النعيم الذي يبقى، والسرور الذي يدوم فلا يزول.
18005- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: (ذهب السيئات عني) ، غِرَّةً بالله وجراءة عليه = (إنه لفرح) ، والله لا يحب الفرحين= (فخور) ، بعد ما أعطي، وهو لا يشكر الله.
* * *
ثم استثنى جل ثناؤه من الإنسان الذي وصفه بهاتين الصفتين: "الذين صبروا وعملوا الصالحات". وإنما جاز استثناؤهم منه لأن "الإنسان" بمعنى الجنس ومعنى الجمع. وهو كقوله: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) ، [سورة العصر: 1-3] ، (4)
فقال تعالى ذكره: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) ، فإنهم إن تأتهم شدّة من الدنيا وعسرة فيها، لم يثنهم ذلك عن طاعة الله، ولكنهم صبروا لأمره وقضائه. فإن نالوا فيها رخاء وسعةً، شكروه وأدَّوا حقوقه بما آتاهم منها. يقول الله: (أولئك لهم مغفرة) يغفرها لهم، ولا يفضحهم بها في معادهم = (وأجر كبير) ، يقول: ولهم من الله مع مغفرة ذنوبهم، ثوابٌ على أعمالهم الصالحة التي عملوها في دار الدنيا، جزيلٌ، وجزاءٌ عظيم.
18006- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (إلا الذين صبروا) ، عند البلاء، (وعملوا الصالحات) ، عند النعمة
__________
(1) انظر تفسير " فرح " فيما سلف 14: 289.
(2) انظر تفسير " فخور " فيما سلف 8: 350.
(3) في المطبوعة: " نكد العوارض "، غير ما في المخطوطة، و " العوائص " جمع " عائص " أو " عائصة "، ومثله " العوصاء "، وكله معناه: الشدة والعسر والحاجة.
(4) انظر معاني القرآن للفراء في تفسير الآية. ومن هنا سأرجع إلى النسخة المخطوطة من معاني القرآن، لأن بقية الكتاب لم تطبع بعد. والنسخة التي أرجع إليها هي المخطوطة بدار الكتب المصرية تحت رقم: ب 24986، مصورة عن نسخة مكتبة " بغداد لي وهبي " بالمكتبة السليمانية، بالآستانة.(15/257)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)
= (ألئك لهم مغفرة) ، لذنوبهم = (وأجر كبير) ، قال: الجنة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنزلَ عَلَيْهِ كَنز أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلعلك يا محمد، تارك بعض ما يوحي إليك ربك أن تبلغه من أمرك بتبليغه ذلك، وضائقٌ بما يوحى إليك صدرُك فلا تبلغه إياهم، مخافة (أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) ، له مصدّق بأنه لله رسول! يقول تعالى ذكره: فبلغهم ما أوحيته إليك، فإنك إنما أنت نذير تُنْذرهم عقابي، وتحذرهم بأسي على كفرهم بي، وإنما الآيات التي يسألونكها عندي وفي سلطاني، أنزلها إذا شئت، وليس عليك، إلا البلاغ والإنذار = (والله على كل شيء وكيل) ، يقول: والله القيم بكل شيء وبيده تدبيره، فانفذ لما أمرتك به، ولا تمنعك مسألتهم إياك الآيات، من تبليغهم وحيي والنفوذ لأمري. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18007- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قال الله لِنبيه: فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.(15/258)
أن تفعل فيه ما أمرت، وتدعو إليه كما أرسلت. قالوا: (لولا أنزل عليه كنز) ، لا نرى معه مالا أين المال؟ = (أو جاء معه ملك) ، ينذر معه؟ = (إنما أنت نذير) ، فبلغ ما أمرت.
* * *(15/259)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: كفاك حجةً على حقيقة ما أتيتهم به، ودلالةً على صحة نبوّتك، هذا القرآن، من سائر الآيات غيره، إذ كانت الآيات إنما تكون لمن أعطيها دلالة على صدقه، لعجز جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها. وهذا القرآن، جميع الخلق عَجَزَةٌ عن أن يأتوا بمثله، (1) فان هم قالوا: "افتريته"، أي: اختلقته وتكذَّبته. (2)
* * *
= ودلّ على أن معنى الكلام ما ذكرنا، قوله: (أم يقولون افتراه) إلى آخر الآية. ويعني تعالى ذكره بقوله: (أم يقولون افتراه) ، أي: أيقولون افتراه؟
* * *
= وقد دللنا على سبب إدخال العرب "أم" في مثل هذا الموضع. (3)
* * *
= فقل لهم: يأتوا بعشر سُور مثل هذا القرآن "مفتريات"، يعني مفتعلات مختلقات، إن كان ما أتيتكم به من هذا القرآن مفترىً، وليس بآية معجزةٍ
__________
(1) في المطبوعة: " جميع الخلق عجزت "، غير ما في المخطوطة، فأفسد الكلام إفسادًا.
(2) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .
(3) انظر تفسير " أم " فيما سلف 2: 492 / 3: 97 / ثم 14: 165، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/259)
كسائر ما سُئلته من الآيات، كالكنز الذي قلتم: هَلا أنزل عليه؟ أو الملك الذي قلتم: هلا جاء معه نذيرًا له مصدقًا! فإنكم قومي، وأنتم من أهل لساني، وأنا رجل منكم، ومحال أن أقدر أخلق وحدي مائة سورة وأربع عشرة سورة، ولا تقدروا بأجمعكم أن تفتروا وتختلقوا عشر سور مثلها، ولا سيما إذا استعنتم في ذلك بمن شئتم من الخلق.
يقول جل ثناؤه: قل لهم: وادعوا من استطعتم أن تدعوهم من دون الله = يعني سوى الله، لا فتراء ذلك واختلاقه من الآلهة، فإن أنتم لم تقدروا على أن تفتروا عشر سور مثله، فقد تبين لكم أنكم كذبةٌ في قولكم: (افتراه) ، وصحّت عندكم حقيقة ما أتيتكم به أنه من عند الله. ولم يكن لكم أن تتخيروا الآيات على ربكم، وقد جاءكم من الحجة على حقيقة ما تكذبون به أنه من عند الله، مثل الذي تسألون من الحجة وترغبون أنكم تصدِّقون بمجيئها.
* * *
وقوله: (إن كنتم صادقين) ، لقوله: (فأتوا بعشر سور مثله) ، وإنما هو: قل: فأتوا بعشر سور مثله مفتريات، إن كنتم صادقين أن هذا القرآن افتراه محمد = وادعوا من استطعتم من دون الله على ذلك، من الآلهة والأنداد.
18008- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح: (أن يقولون افتراه) ، قد قالوه، (قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات) . وادعوا شهداءكم، قال: يشهدون أنها مثله = هكذا قال القاسم في حديثه. (1)
* * *
__________
(1) يعني أنه قال: " وادعوا شهداءكم "، وإن لم يكن ذلك في هذه الآية، بل هو في غيرها، وهي آية سورة البقرة: 23:
(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) .(15/260)
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: فإن لم يستجب لكمْ من تدعون من دون الله إلى أنْ يأتوا بعشر سور مثل هذا القرآن مفتريات، ولم تطيقوا أنتم وهم أن تأتوا بذلك، فاعلموا وأيقنوا أنه إنما أنزل من السماء على محمد صلى الله عليه وسلم بعلم الله وإذنه، وأن محمدًا لم يفتره، ولا يقدر أن يفتريه = (وأن لا إله إلا هو) ، يقول: وأيقنوا أيضًا أن لا معبود يستحق الألوهة على الخلق إلا الله الذي له الخلق والأمر، فاخلعوا الأنداد والآلهة، وأفردوا له العبادة.
* * *
وقد قيل: إن قوله: (فإن لم يستجيبوا لكم) خطاب من الله لنبيه، كأنه قال: فإن لم يستجب لك هؤلاء الكفار، يا محمد، فاعلموا، أيها المشركون، أنما أنزل بعلم الله = وذلك تأويل بعيد من المفهوم.
* * *
وقوله: (فهل أنتم مسلمون) ، يقول: فهل أنتم مذعنون لله بالطاعة، ومخلصون له العبادة، بعد ثبوت الحجة عليكم؟
* * *
وكان مجاهد يقول: عني بهذا القول أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
18009- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فهل أنتم مسلمون) ، قال: لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
18010- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال =(15/261)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15)
18010- وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (وأن لا إله إلا هو فهل أنتم مسلمون) ، قال: لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
18011- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقيل: (فإن لم يستجيبوا لكم) ، والخطاب في أوّل الكلام قد جرى لواحدٍ، وذلك قوله: (قل فأتوا) ، ولم يقل: "فإن لم يستجيبوا لك " على نحو ما قد بينا قبلُ في خطاب رئيس القوم وصاحب أمرهم، أن العرب تخرج خطابه أحيانا مخرج خطاب الجمع، إذا كانَ خطابه خطابًا لأتباعه وجنده، وأحيانًا مخرج خطاب الواحد، إذا كان في نفسه واحدًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ (15) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: من كان يريد بعمله الحياة الدنيا، وإيّاها وَزينتها يطلب به، (2) نوفّ إليهم أجور أعمالهم فيها وثوابها (3) = (وهم فيها) يقول: وهم في الدنيا، (لا يبخسون) ، يقول: لا ينقصون أجرها، ولكنهم يوفونه فيها. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 12: 298، 549، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: " وأثاثها وزينتها يطلب به "، فأفسد الكلام وضامه، وهو في المخطوطة على الصواب كما أثبته.
(3) انظر تفسير " الزينة " فيما سلف ص: 177، تعليق: 2، 5، والمراجع هناك.
= وتفسير " التوفية " فيما سلف من فهارس اللغة (وفى) .
(4) انظر تفسير " البخس " فيما سلف 6: 56 / 12: 555.(15/262)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18012- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) الآية، وهي ما يعطيهم الله من الدنيا بحسناتهم، وذلك أنهم لا يظلمون نقيرًا. يقول: من عمل صالحًا التماس الدنيا، صومًا أو صلاةً أو تهجدًا بالليل، لا يعمله إلا لالتماس الدنيا، يقول الله: أوفيه الذي التمس في الدنيا من المثابة، وحبط عمله الذي كان يعملُ التماس الدنيا، وهو في الآخرة من الخاسرين.
18013- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، قال: ثوابَ ما عملوا في الدنيا من خير أعطوه في الدنيا، وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صَنَعوا فيها.
* * *
18014- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوفّ إليهم أعمالهم فيها) ، قال: وَزْنَ ما عملوا من خير أعطوا في الدنيا، (1) وليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها. قال: هي مثل الآية التي في الروم: (وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ) ، [سورة الروم: 39]
18015- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن سعيد بن جبير: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) ، قال: من عمل للدنيا وُفِّيهُ في الدنيا.
__________
(1) في المطبوعة: " وربما عملوا من خير أعطوه في الدنيا "، وهو كلام متلو لا معنى له.
وفي المخطوطة ما أثبته، إلا أن فيه " ورب ما عملوا " غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.(15/263)
18016- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) ، قال: من عمل عملا مما أمر الله به، من صلاة أو صدقة، لا يريد بها وجهَ الله، أعطاه الله في الدنيا ثوابَ ذلك مثلَ ما أنفق، فذلك قوله: (نوفّ إليهم أعمالهم فيها) ، في الدنيا، (وهم فيها لا يبخسون) ، أجر ما عملوا فيها، (أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها) ، الآية.
18017- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عيسى = يعني ابن ميمون = عن مجاهد في قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) ، قال: ممن لا يقبل منه، جُوزِي به، يُعطَى ثوابَه.
18018- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن عيسى الجرشي، عن مجاهد: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، قال: ممن لا يقبل منه، يعجّل له في الدنيا. (1)
18019- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) ، أي: لا يظلمون. يقول: من كانت الدنيا همَّه وسَدَمه (2) وطَلِبته ونيتّه، جازاه الله بحسناته في الدنيا، ثم يفضي إلى الآخرة، وليس له حسنة يعطى بها جزاءً. وأما المؤمن، فيجازى بحسناته في الدنيا، ويثاب عليها في الآخرة = (وهم فيها لا يبخسون) أي: في الآخرة لا يظلمون.
18020- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور = وحدثنا
__________
(1) الأثر: 18018 - " عيسى الجرشي "، هو " عيسى بن ميمون الجرشي المكي "، المذكور في الخبر السالف، مضى قبل مرات، آخرها رقم: 14677.
(2) " السدم " (بفتحتين) : الولوع بالشيء واللهج به. والغم بطلبه، والندم على فوته، وفي الحديث:
"مَنْ كانت الدنيا همَّه وسَدَمَه، جَعَل الله فَقْرَه بين عينيه ".(15/264)
الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق = جميعًا، عن معمر، عن قتادة: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، الآية، قال: من كان إنما هِمّته الدنيا، إياها يطلب، أعطاه الله مالا وأعطاه فيها ما يعيش، وكان ذلك قصاصًا له بعمله. (وهم فيها لا يبخسون) ، قال: لا يظلمون.
18021-. . .. قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ليث بن أبي سلم، عن محمد بن كعب القرظي: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من أحسن من محسن، فقد وقع أجره على الله في عاجل الدنيا وآجل الآخرة. (1)
18022- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، الآية، يقول: من عمل عملا صالحًا في غير تقوى = يعني من أهل الشرك = أعطي على ذلك أجرًا في الدنيا: يصل رحمًا، يعطي سائلا يرحم مضطرًّا، في نحو هذا من أعمال البرّ، يعجل الله له ثواب عمله في الدنيا، ويُوسِّع عليه في المعيشة والرزق، ويقرُّ عينه فيما خَوَّله، ويدفع عنه من مكاره الدنيا، في نحو هذا، وليس له في الآخرة من نصيب.
18023- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا حفص بن عمر أبو عمر الضرير قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس في قوله: (نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون) ، قال: هي في اليهود والنصارى.
18024-. . . . قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن أبي رجاء الأزدي، عن الحسن: (نوف إليهم أعمالهم فيها) ، قال: طيباتهم.
18025- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله.
__________
(1) الأثر: 18021 - هذا خبر مرسل.(15/265)
18026- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله.
18027- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن وهيب: أنه بلغه أن مجاهدًا كان يقول في هذه الآية: هم أهل الرياء، هم أهل الرياء.
18028-. . . . قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح قال، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان، أن عقبة بن مسلم حدثه، أنّ شُفيّ بن ماتع الأصبحي حدثه: أنه دخل المدينة، فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس، فقال من هذا؟ فقالوا أبو هريرة! فدنوت منه حتى قعدت بين يديه، وهو يحدِّث الناس، فلما سكت وَخَلا (1) قلت: أنشدك بحقِّ، وبحقِّ، (2) لما حدثتني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم عَقَلته وعلمتَه. قال: فقال أبو هريرة: أفعل، لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم! ثم نَشَغ نشغةً، (3) ثم أفاق فقال: لأحدثنك حديثًا حدّثنيه رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا البيت، ما فيه أحدٌ غيري وغيره! ثم نشَغ أبو هريرة نشغةً شديدة، ثم مال خارًّا على وجهه، واشتدّ به طويلا ثم أفاق فقال: حدثني رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة، نزل إلى القيامة ليقضي بينهم، (4) وكل أمة جاثيةٌ، فأوّل من يدعى به رجلٌ جمع القرآن، ورجل قُتِل في سبيل الله، ورجل كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك
__________
(1) في المطبوعة: " وخلى "، والصواب ما أثبت، كما في المخطوطة.
(2) " بحق، وبحق " هذا قسم عليه، يريد: " بحق كذا "، وهو اختصار.
(3) " نشغ الرجل "، شهق حتى يكاد يبلغ به الغشى. قال أبو عبيدة: " وإنما يفعل ذلك الإنسان شوقا إلى صاحبه، أو إلى شيء فائت، وأسفا عليه وحبا للقائه ".
(4) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " نزل إلى القيامة "، وأنا في شك منها شديد، وأظن الصواب ما في رواية الترمذي:
" ينزل إلى العباد ليقضى بينهم ".(15/266)
ما أنزلتُ على رسولي؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما عُلِّمت؟ قال: كنت أقوم آناء الليل وآناء النهار! فيقول الله له: كذبت! وتقول له الملائكة: كذبت! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: "فلان قارئ" فقد قيل ذلك! ويؤتى بصاحب المال فيقول الله له: ألم أوسِّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدَّق. فيقول الله له: كذبت! وتقول الملائكة: كذبت! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: "فلان جواد"، فقد قيل ذلك! ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقال له: فيما ذا قُتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت. فيقول الله له: كذبت! وتقول له الملائكة: كذبت! ويقول الله له: بل أردت أن يقال: "فلان جريء"، وقد قيل ذلك! ثم ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ركبتي فقال: يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسَعَّر بهم النار يوم القيامة. (1)
= قال الوليد أبو عثمان: فأخبرني عقبة أن شفيًّا هو الذي دخل على معاوية، فأخبره بهذا.
قال أبو عثمان: وحدثني العلاء بن أبي حكيم: أنه كان سيَّافًا لمعاوية، قال: فدخل عليه رجل فحدّثه بهذا عن أبي هريرة، فقال أبو هريرة: وقد فعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس! ثم بكى معاوية بكاءً شديدًا حتى ظننا أنه هلك، وقلنا: [قد جاءنا] هذا الرجل بشرٍّ! (2) ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه فقال: صدق الله ورسوله: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها) ، وقرأ إلى: (وباطل ما كانوا يعملون) . (3)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " تسعر لهم "، والصواب ما أثبت من سنن الترمذي.
(2) في المطبوعة: " قلنا هذا الرجل شر "، وهو فاسد جدا، وفي المخطوطة مثله إلا أن فيها: " بشر "، والصواب ما أثبته من سنن الترمذي، ووضعت الزيادة بين القوسين.
(3) الأثر: 18028 - " ابن المبارك "، هو " عبد الله بن المبارك "، الإمام المشهور، و " حيوة بن شريح التجيبي المصري "، روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 16382." والوليد بن أبي الوليد القرشي، أبو عثمان "، ثقة، مضى برقم: 5455." وعقبة بن مسلم التجيبي المصري "، تابعي ثقة، مضى مرارًا آخرها رقم: 13240، 13241." وشفي بن ماتع الأصبحي المصري "، تابعي ثقة، من ثقات المصريين، كان عالمًا حكيمًا. وعده ابن جرير الطبري في الصحابة، ولا يكاد يثبت. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7 / 2 / 201، والكبير 2 / 2 / 267، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 389، والإصابة في ترجمته في القسم الرابع من حرف الشين. وقال الحافظ ابن حجر: " وأورد حديثه بقي بن مخلد في مسنده أيضًا. ولم أر له رواية عن صحابي إلا عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وحديثه عنه في السنن. وجزم بأنه تابعي، وأن حديثه مرسل: البخاري وابن حبان، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم ". وهذا الخبر رواه الترمذي في " كتاب الزهد "، في باب " الرياء والسمعة "، وقال: " هذا حديث حسن غريب "، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فالترمذي إذا قال: حسن غريب، قد يعني به أنه غريب من ذلك الطريق، لكن المتن له شواهد صار بها من جملة الحسن "، قلت: وغرابة هذا الحديث، رواية " شفي بن ماتع "، عن " أبي هريرة "، وشفي لا تعرف له رواية مشهورة ثانية إلا عند عبد الله بن عمرو بن العاص، وإن كانت روايته عن أبي هريرة حسنة، على غرابتها، لأنه خليق أن يروى عنه، وخليق أن يلقاه مرة بالمدينة، كما جاء في هذا الخبر. وقد رواه مختصرًا، النسائي في سننه 6: 23، من طريق أخرى، عن محمد بن عبد الأعلى، عن خالد، عن جريج، عن يوسف بن يوسف، عن سليمان بن يسار، قال: تفرق الناس عن أبي هريرة، فقال له قائل من أهل الشأم، أيها الشيخ، حدثني حديثًا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، الحديث = فكأن هذا القائل من أهل الشأم هو " شفي بن ماتع "، وأنه كان بالشأم قبل أن يسكن مصر، و" شفي "، في الطبقة الثانية من تابعي أهل مصر، كما عده ابن سعد. و" سليمان بن يسار الهلالي "، أحد الفقهاء السبعة بالمدينة، وسمع من أبي هريرة، فكأن هذا القائل، أو شفي بن ماتع، كان يومئذ صغيرًا وهو يسأل أبا هريرة بالمدينة، وكأن خبر النسائي، هو الشاهد من الحديث الصحيح الذي جعل الترمذي يصف الخبر الأول بأنه " حسن غريب ".(15/267)
18029- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن عيسى بن ميمون، عن مجاهد: (من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها) الآية، قال: ممن لا يتقبل منه، يصوم ويصلي يريد به الدنيا، ويدفع عنه هَمّ الآخرة (1) = (وهم فيها لا يبخسون) ، لا ينقصون.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " ويدفع عنه وهم الآخرة ". ولا معنى له، وأرجح أن الصواب ما أثبت.(15/268)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين ذكرت أنّا نوفيهم أجور أعمالهم في الدنيا = (ليس لهم في الآخرة إلا النار) ، يصلونها = (وحبط ما صنعوا فيها) ، يقول: وذهب ما عملوا في الدنيا، (1) = (وباطل ما كانوا يعملون) ، لأنهم كانوا يعملون لغير الله، فأبطله الله وأحبط عامله أجره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (أفمن كان على بينة من ربه) ، قد بين له دينه فتبينه (2) = (ويتلوه شاهد منه) . (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: يعني بقوله: (أفمن كان على بينة من ربه) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر تفسير " حبط " فيما سلف 14: 344، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " البينة " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(3) انظر تفسير " يتلو "، و " شاهد " فيما سلف من فهارس اللغة (تلا) ، (شهد) .(15/269)
ذكر من قال ذلك:
18030- حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا حسين بن محمد قال، حدثنا شيبان، عن قتادة، عن عروة، عن محمد ابن الحنفية قال: قلت لأبي: يا أبت، أنت التالي في (ويتلوه شاهد منه) ؟ قال: لا والله يا بنيّ! وددت أني كنت أنا هو، ولكنه لسانُه
18031- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء،، عن الحسن: (ويتلوه شاهد منه) قال: لسانه.
18032- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن، في قوله: (ويتلوه شاهد منه) قال: لسانه.
18033- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا الحكم بن عبد الله أبو النعمان العجلي قال، حدثنا شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله. (1)
18034- حدثني علي بن الحسن الأزدي قال، حدثنا المعافى بن عمران، عن قرة بن خالد، عن الحسن، مثله.
18035- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أفمن كان على بينة من ربه) ، وهو محمد، كان على بيّنة من ربه.
18036- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قوله: (ويتلوه شاهد منه) قال: لسانه.
18037- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: لسانه هو الشاهد.
18038- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، مثله.
__________
(1) الأثر: 18033 - " الحكم بن عبد الله "، " أبو النعمان العجلي "، ثقة، مضى برقم: 17013.(15/270)
18039- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن عوف، عن الحسن، مثله.
* * *
وقال آخرون: يعني بقوله: (ويتلوه شاهد منه) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
18040- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن سليمان العلاف، عن الحسين بن علي في قوله: (ويتلوه شاهد منه) قال: الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم. (1)
18041- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن عوف، قال، حدثني سليمان العلاف قال: بلغني أن الحسن بن علي قال: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
18042-. . . . قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن سليمان العلاف، سمع الحَسَن بن علي: (ويتلوه شاهد منه) ، يقول: محمد، هو الشاهد من الله. (2)
18043- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه) ، قال:
__________
(1) الأثر: 18040 - " سليمان العلاف "، مترجم في الكبير 2 / 2 / 31، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 153، ولم يذكرا فيه جرحًا، وقالا: إنه بلغه عن الحسن، روى عنه عوف، وقال البخاري: مرسل. وكأنه يعني هذا الحديث، انظر الخبر التالي. وكان في المطبوعة والمخطوطة " عن الحسين بن علي "، وهو خطأ، يدل عليه ما ذكرته، وانظر الخبر التالي، والذي يليه.
(2) الأثران: 18041، 18042 - " سليمان العلاف "، انظر التعليق السالف، وفي الأثرين " الحسين بن علي " في المخطوطة والمطبوعة، والصواب ما أثبت كما مر ذلك في التعليق على الأثر السالف.(15/271)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان على بينة من ربه، والقرآن يتلوه شاهدٌ أيضًا من الله، (1) بأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
18044- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: (أفمن كان على بينة من ربه) ، قال: النبي صلى الله عليه وسلم.
18045- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن نضر بن عربي، عن عكرمة، مثله.
18046-. . .. قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
18047- حدثنا الحارث قال، حدثنا أبو خالد، سمعت سفيان يقول: (أفمن كان على بينة من ربه) ، قال: محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: هو علي بن أبي طالب.
*ذكر من قال ذلك:
18048- حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا رزيق بن مرزوق قال، حدثنا صباح الفراء، عن جابر، عن عبد الله بن نجيّ قال، قال علي رضى الله عنه: ما من رجل من قريش إلا وقد نزلت فيه الآية والآيتان. فقال له رجُل: فأنتَ فأي شيء نزل فيك؟ فقال علي: أما تقرأ الآية التي نزلت في هود: (ويتلوه شاهد منه) . (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " شاهد منه أيضًا "، والذي في المخطوطة هو الجيد.
(2) الأثر: 18048 - " رزيق بن مرزوق الكوفي المقرئ البجلي "، روى عن أبي الأحوص، وابن عيينة، وسهل بن شعيب، وروى عنه أحمد بن يحيى الصوفي، وأبو حاتم الرازي، وقال: " صدوق " مترجم في ابن أبي حاتم 1 / 2 / 506." وصباح الفراء "، لم أجده، وأخشى أن يكون هو " صباح بن يحيى المزني "، وهو الشيعي المتروك الذي سلف برقم: 16113." وجابر " هو الجعفي " جابر بن يزيد الجعفي ". وهو ضعيف، بل ربما كان القول فيه أشد، وكان فوق ذلك رافضيًا يشتم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن حبان: " كان من أصحاب عبد الله بن سبأ، وكان يقول: إن عليا يرجع إلى الدنيا " مضى مرارًا آخرها رقم: 14008. " وعبد الله بن نجي بن سلمة الكوفي الحضرمي "، ليس بالقوي، كان أبوه على مطهرة علي رضي الله عنه، قال البخاري: " فيه نظر "، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 184. وميزان الاعتدال 2: 82، وقال الذهبي: " روى عنه جابر الجعفي، فمنكرة من جابر "، ووثقه النسائي.
وكان في المطبوعة " عبد الله بن يحيى "، لم يحسن قراءة المخطوطة فيعرف الاسم.(15/272)
وقال آخرون: هو جبريل.
*ذكر من قال ذلك:
18049- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: (ويتلوه شاهد منه) ، إنه كان يقول: جبريل.
18050- حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن إبراهيم: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: جبريل.
18051- وحدثنا به أبو كريب مرة أخرى، بإسناده عن إبراهيم فقال: قال: يقولون: "علي"، إنما هو جبريل.
18052- حدثنا أبو كريب، وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: هو جبريل، تلا التوراة والإنجيل والقرآن، وهو الشاهد من الله.
18053- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان = وحدثنا محمد بن عبد الله المخرّميّ، قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان = عن منصور = عن إبراهيم: (ويتلوه شاهد منه) قال: جبريل.
18054- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.(15/273)
18055-. . . . قال، حدثنا سهل بن يوسف قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
18056- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
18057-. . . . قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال: جبريل.
18058-. . . . قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: جبريل.
18059-. . . . قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: جبريل
18060-. . . . حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (أفمن كان على بينة من ربه) ، يعني محمدًا هو على بينة من الله = (ويتلوه شاهد منه) ، جبريل، شاهدٌ من الله، يتلو على محمد ما بُعث به.
18061- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قال: هو جبريل
18062-. . . . قال، حدثنا أبي، عن نضر بن عربي، عن عكرمة، قال: هو جبريل.
18063-. . . . قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: جبريل.
18064-. . . . حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أفمن كان على بينة من ربه) ، يعني محمدًا، على بينة من ربه = (ويتلوه شاهد منه) ، فهو(15/274)
جبريل، شاهد من الله بالذي يتلو من كتاب الله الذي أنزل على محمد قال: ويقال: (ويتلوه شاهد منه) ، يقول: يحفظه المَلَك الذي معه.
18065- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب قال، كان مجاهد يقول في قوله: (أفمن كان على بينة من ربه) ، قال: يعني محمدًا، (ويتلوه شاهد منه) ، قال: جبريل.
* * *
وقالا آخرون: هو ملك يحفظه.
*ذكر من قال ذلك:
18066- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: معه حافظ من الله، مَلَكٌ.
18067- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، وسويد بن عمرو، عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: ملك يحفظه.
18068-. . . . قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عمن سمع مجاهدًا: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: الملك.
18069- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه) ، يتبعه حافظٌ من الله، مَلَكٌ.
18070- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن أيوب، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: الملك يحفظه: (يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ) ، [سورة البقرة: 121] قال: يتّبعونه حقّ اتباعه.
18071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ويتلوه شاهد منه) ، قال: حافظ من الله، مَلكٌ.
* * *(15/275)
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بالصواب في تأويل قوله: (ويتلوه شاهد منه) ، قولُ من قال: "هو جبريل"، لدلالة قوله: (ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً) ، على صحة ذلك. وذلك أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لم يتلُ قبل القرآن كتاب موسى، فيكون ذلك دليلا على صحة قول من قال: "عنى به لسان محمد صلى الله عليه وسلم، أو: محمد نفسه، أو: عليّ" على قول من قال: "عني به علي". ولا يعلم أنّ أحدًا كان تلا ذلك قبل القرآن، أو جاء به، ممن ذكر أهل التأويل أنه عنى بقوله: (ويتلوه شاهد منه) ، غير جبريل عليه السلام.
* * *
فإن قال قائل: فإن كان ذلك دليلك على أن المعنيَّ به جبريل، فقد يجب أن تكون القراءة في قوله: (ومن قبله كتاب موسى) بالنصب، لأن معنى الكلام على ما تأولتَ يجب أن يكون: ويتلو القرآنَ شاهدٌ من الله، ومن قبل القرآن كتابَ موسى؟
قيل: إن القراء في الأمصار قد أجمعت على قراءة ذلك بالرفع فلم يكن لأحد خلافها، ولو كانت القراءة جاءت في ذلك بالنصب، كانت قراءة صحيحةً ومعنى صحيحًا.
فإن قال: فما وجه رفعهم إذًا "الكتاب" على ما ادعيت من التأويل؟
قيل: وجه رفعهم هذا أنهم ابتدؤوا الخبر عن مجيء كتاب موسى قبل كتابنا المنزل على محمد، فرفعوه ب "من" [ومنه] ، (1) والقراءة كذلك، والمعنى الذي ذكرت من معنى تلاوة جبريل ذلك قبل القرآن، وأن المراد من معناه ذلك،
__________
(1) في المطبوعة: " فرفعوه بمن قبله والقراءة كذلك "، غير ما في المخطوطة، لهذه الكلمة التي وضعتها بين القوسين، وأنا أخشى أن تكون زيادة لا معنى لها، ولذلك أثبتها بين القوسين، كما في المخطوطة.
وانظر تفسير الآية في معاني القرآن للفراء.(15/276)
وإن كان الخبر مستأنفًا على ما وصفت، اكتفاءً بدلالة الكلام على معناه.
* * *
وأما قوله: (إمامًا) فإنه نصب على القطع من "كتاب موسى"، (1) وقوله (ورحمة) ، عطف على "الإمام". كأنه قيل: ومن قبله كتاب موسى إمامًا لبني إسرائيل يأتمُّون به، ورحمةً من الله تلاه على موسى، كما:-
18072- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن منصور، عن إبراهيم، في قوله: (ومن قبله كتاب موسى) ، قال: من قبله جاء بالكتاب إلى موسى.
* * *
وفي الكلام محذوف قد ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ذكر عليه منه، وهو: (أفمن كان على بينة من ربه ويتلوه شاهد منه ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً) ، = "كمن هو في الضلالة متردد لا يهتدي لرشد، ولا يعرف حقًّا من باطل، ولا يطلب بعمله إلا الحياة الدنيا وزينتها". وذلك نظير قوله: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) [سورة الزمر: 9] (2) والدليل على حقيقة ما قلنا في ذلك أن ذلك عقيب قوله: (من كان يريد الحياة الدنيا) ، الآية، ثم قيل: أهذا خير، أمن كان على بينة من ربه؟ والعرب تفعل ذلك كثيرًا إذا كان فيما ذكرت دلالة على مرادها على ما حذفت، وذلك كقول الشاعر: (3)
وَأُقْسِمُ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُه ... سِواكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعًا (4)
* * *
__________
(1) " القطع "، الحال، كما سلف ص: 76، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير الآية في معاني القرآن للفراء.
(3) هو امرؤ القيس.
(4) ديوانه: 113، والخزانة 4: 227، وغيرهما كثير، وسيأتي في التفسير 13: 102 / 23: 128 / 29: 67 (بولاق) ، وهذا البيت قد كثر الاستدلال به على الحذف، إلا أن البغدادي أفاد فائدة جيدة فقال: " وعذرهم في تقدير الجواب أن هذا البيت ساقط في أكثر الروايات، وقد ذكره الزجاجي في أماليه الصغرى والكبرى في جملة أبيات ثمانية، رواها المبرد من قصيدة لأمرئ القيس، ورأينا أن نقتصر عليها، وهي: بَعَثْتُ إلَيْها والنُّجوم خَوَاضِعٌ ... حِذَارًا عَلَيْهَا أنْ تَقُومَ فَتَسْمَعَا
فَجَاءتْ قَطُوفَ المَشْيِ هَائِبَةَ السُّرَى ... يُدَافِعُ رُكْنَاهَا كَوَاعِبَ أرْبَعَا
يُزَجِّيهَا مَشْىَ النَّزِيفِ وَقَدْ جَرَى ... صُبَابُ الكَرَى فِي مُخِّهِ فَتَقَطَّعَا
تَقُولُ وَقَدْ جَرَّدْتُهَا مِنْ ثِيَابِهَا ... كَمَا رُعْتَ مَكْحُولَ المَدَامِع أَتْلَعَا
أَجِدَّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلكِنْ لم نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا
إِذَنْ لَرَدَدْنَاهُ، وَلَوْ طَالَ مَكْثُهُ ... لَدَيْنَا، وَلَكِنَّا بِحُبِّكَ وُلَّعَا
فَبِتْنَا تَصُدُّ الوُحْشُ عَنَّا، كَأَنَّنَا ... قَتِيلاَنِ لم يَعْلَمْ النَّاسُ لَنَا مَصْرَعَا
إِذَا أَخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ، أَمْسَكَتْ ... بِمَنْكِبِ مِقْدَامٍ عَلَى الهَوْلِ أرْوَعَا
هذا ما قاله البغدادي، وفيه قول لا يتسع له هذا المكان، ولكن فيه فائدة تقيد.(15/277)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
وقوله: (أولئك يؤمنون به) ، يقول: هؤلاء الذين ذكرت، يصدقون ويقرّون به، إن كفر به هؤلاء المشركون الذين يقولون: إن محمدًا افتراه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن يكفر بهذا القرآن، فيجحد أنه من عند الله = (من الأحزاب) وهم المتحزّبة على مللهم (1) = (فالنار موعده) ، أنه يصير إليها في الآخرة بتكذيبه. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) انظر تفسير " الحزب " فيما سلف 1: 244 / 10: 428.(15/278)
(فلا تك في مرية منه) ، يقول: فلا تك في شك منه، (1) من أن موعدَ من كفر بالقرآن من الأحزاب النارُ، وأن هذا القرآن الذي أنزلناه إليك من عند الله.
ثم ابتدأ جل ثناؤه الخبر عن القرآن فقال: إن هذا القرآن الذي أنزلناه إليك، يا محمد، الحقّ من ربك لا شك فيه، ولكنّ أكثر الناس لا يصدِّقون بأن ذلك كذلك.
* * *
فإن قال قائل: أوَ كان النبي صلى الله عليه وسلم في شكٍّ من أن القرآن من عند الله، وأنه حق، حتى قيل له: "فلا تك في مرية منه"؟
قيل: هذا نظير قوله: (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ) [سورة يونس: 94] ، وقد بينا ذلك هنالك. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18073- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب قال: نبئت أن سعيد بن جبير قال: ما بلغني حديثٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على وَجهه إلا وجدت مصداقَه في كتاب الله تعالى، حتى قال "لا يسمعُ بي أحدٌ من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصرانيّ، ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار". قال سعيد، فقلت: أين هذا في كتاب الله؟ حتى أتيت على هذه الآية: (ومن قبله كتاب موسى إمامًا ورحمةً أولئك يؤمنون به ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) ، قال: من أهل الملل كُلّها.
18074- حدثنا محمد بن عبد الله المخرّمي، وابن وكيع قالا حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا سفيان، عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله: (ومن
__________
(1) انظر تفسير " المرية " فيما سلف من فهارس اللغة (مري) .
(2) انظر ما سلف قريبًا ص: 200 - 203.(15/279)
يكفُر به من الأحزاب) ، قال: من الملل كلها.
18075- حدثني يعقوب، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير قال: كنت لا أسمع بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على وَجهه، إلا وجدت مصداقه = أو قال تصديقه = في القرآن، فبلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، ثم لا يؤمن بما أرسلت به إلا دخل النار"، فجعلت أقول: أين مصداقُها؟ حتى أتيت على هذه: (أفمن كان على بينة من ربه) ، إلى قوله: (فالنار موعده) ، قال: فالأحزاب، الملل كلها.
18076- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، حدثني أيوب، عن سعيد بن جبير قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من أحد يسمع بي من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، فلا يؤمن بي إلا دخل النار"، فجعلت أقول: أين مصداقها في كتاب الله؟ قال: وقلَّما سمعت حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وجدتُ له تصديقًا في القرآن، حتى وجدت هذه الآيات: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) ، الملل كلها. (1)
18077-. . .. قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده) ، قال: الكفارُ أحزابٌ كلهم على الكفر.
18078- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وَمِنَ الأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ) ، [سورة الرعد: 36] ، أي:
__________
(1) الآثار: 18073 - 18077 - هذه الآثار عن سعيد بن جبير، والتي روى فيها الخبر مرسلا، رواه الحاكم في المستدرك 2: 342، موصولا مرفوعًا من حديث ابن عباس. وذلك من طريق عبد الرازق، عن معمر، عن أبي عمرو البصري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وقال الحاكم " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
وانظر حديث أبي هريرة، في صحيح مسلم 2: 186، وما سيأتي من حديث أبي موسى رقم: 18079.(15/280)
يكفر ببعضه، وهم اليهود والنصارى. قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمة، ولا يهودي ولا نصراني، ثم يموت قبل أن يؤمن بي، إلا دخل النار".
18079- حدثني المثنى قال، حدثنا يوسف بن عدي النضري قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن أبي موسى الأشعري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سمع بي من أمتي أو يهودي أو نصراني، فلم يؤمن بي لم يدخل الجنة. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 18079 - " يوسف بن عدي النصري "، هكذا في المخطوطة غير منقوط، وفي المطبوعة: " النضري " ولا أدري من أين أتى بإعجامه هذا. والذي مر بنا في الخبر رقم: 10309، رواية المثنى، عن يوسف بن عدي، عن ابن المبارك " وظننت هناك أنه: " يوسف بن عدي بن رزيق التيمي "، فلا أدري ما هذه النسبة التي هنا، إلا أني أظن أنها " المصري "، لأن " يوسف بن عدي "، وإن يكن كوفيًا، إلا أنه سكن مصر، ومات بها سنة 232.وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 4: 396، عن طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي بشر، بهذا اللفظ. ومثله 4: 398، من طريق عفان، عن شعبة.وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 261، 262، مطولا، وفيه من قول أبي موسى الأشعري: " فقلت: ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا في كتاب الله عز وجل، فقرأت فوجدت: {ومن يكفر به من الأحزاب فالنار موعده} ، فهذا نحو ما قاله سعيد بن جبير في الآثار السالفة. وقال الهيثمي بعد: " رواه الطبراني، واللفظ له، وأحمد بنحوه في الروايتين، ورجال أحمد رجال الصحيح، والبزار أيضًا باختصار".(15/281)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأي الناس أشد تعذيبًا ممن اختلق على الله كذبًا فكذب عليه؟ (1) = (أولئك يعرضون على ربهم ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) يعرضون يوم القيامة على ربهم"، (2) فيسألهم عما كانوا في دار الدنيا يعملون، كما:
18080- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ومن أظلم ممن افترى على الله كذبًا) ، قال: الكافر والمنافق، (أولئك يعرضون على ربهم) ، فيسألهم عن أعمالهم.
* * *
وقوله: (ويقول الأشهاد) ، يعني الملائكة والأنبياء الذين شهدوهم وحفظوا عليهم ما كانوا يعملون = وهم جمع "شاهد" مثل "الأصحاب" الذي هو جمع "صاحب" = (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) ، يقول: شهد هؤلاء الأشهاد في الآخرة على هؤلاء المفترين على الله في الدنيا، فيقولون: هؤلاء الذين كذبوا في الدنيا على ربهم، يقول الله: (ألا لعنة الله على الظالمين) ، يقول: ألا غضب الله على المعتدين الذين كفروا بربّهم.
* * *
وبنحو ما قلنا في قوله (ويقول الأشهاد) ، قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " افترى " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " يكذبون على ربهم "، والأجود أن تبقى على سياقة الآية.(15/282)
*ذكر من قال ذلك:
18081- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويقول الأشهاد) ، قال: الملائكة.
18082- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الملائكة.
18083- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ويقول الأشهاد) ، والأشهاد: الملائكة، يشهدون على بني آدم بأعمالهم.
18084- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (الأشهاد) ، قال: الخلائق = أو قال: الملائكة.
18085- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، بنحوه.
18086- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (ويقول الأشهاد) ، الذين كان يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا = (هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) ، حفظوه وشهدوا به عليهم يوم القيامة = قال ابن جريج: قال مجاهد: "الأشهاد"، الملائكة.
18087- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، قال: سألت الأعمش عن قوله: (ويقول الأشهاد) ، قال: الملائكة.
18088- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ويقول الأشهاد) ، يعني الأنبياء والرسل، وهو قوله: (وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلاءِ) ، [سورة النحل: 89] . قال: وقوله: (ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم) ، يقولون: يا ربنا أتيناهم بالحق فكذبوا، فنحن نشهد عليهم أنهم كذبوا عليك يا ربنا.(15/283)
18089- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد وهشام، عن قتادة، عن صفوان بن محرز المازني قال، بينا نحن بالبيت مع عبد الله بن عمر، وهو يطوف، إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ (1) فقال: سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كَنَفه فيقرّره بذنوبه، فيقول: هل تعرف كذا؟ فيقول: رب أعرف! (2) مرتين، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال: فإني قد سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم. قال: فيعطى صحيفة حسناته = أو: كتابه = بيمينه. وأما الكفار والمنافقون، فينادى بهم على رءوس الأشهاد: "ألا هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين". (3)
18090- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام، عن قتادة، عن صفوان بن محرز، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (4)
18091- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: كنا نحدَّث أنه لا يخزَى يومئذ أحدٌ، فيخفى خزيُه على أحد ممن خلق لله = أو: الخلائق.
* * *
__________
(1) مضى في رقم: 6497: " أما سمعت ".
(2) مضى في رقم: 6497: " رب اغفر "، مكان " رب أعرف ".
(3) الأثر: 18089 - مضى هذا الخبر بإسناده، وتخريجه في رقم: 6497 (ج 6: 119، 120) .
(4) الأثر: 18090 - مضى هذا الإسناد برقم: 6497، أيضًا.(15/284)
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19)
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) }
قال أبو جعفر: يقولا تعالى ذكره: ألا لعنة الله على الظَّالمين الذين يصدّون الناسَ، عن الإيمان به، والإقرار له بالعبودة، وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، من مشركي قريش، وهم الذين كانوا يفتنون عن الإسلام من دخل فيه (1) . = (ويبغونها عوجًا) ، يقول: ويلتمسون سبيل الله، وهو الإسلام الذي دعا الناس إليه محمد، (2) يقول: زيغًا وميلا عن الاستقامة. (3) = (وهم بالآخرة هم كافرون) ، يقول: وهم بالبعث بعد الممات مع صدهم عن سبيل الله وبغيهم إياها عوجًا = (كافرون) يقول: هم جاحدون ذلك منكرون.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 14: 216، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " بغى " فيما سلف 14: 283، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(3) انظر تفسير " العوج " فيما سلف 7: 53، 54 / 12: 448، 559.(15/285)
أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) }
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بقوله: (أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض) ، هؤلاء الذين وصف جل ثناؤه أنهم يصدّون عن سبيل الله، يقول جل ثناؤه: إنهم لم يكونوا بالذي يُعْجِزون ربَّهم بهربهم منه في الأرض إذا أراد عقابهم والانتقام منهم، ولكنهم في قبضته وملكه، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه(15/285)
هربًا إذا طلبهم (1) = (وما كان لهم من دون الله من أولياء) ، يقول: ولم يكن لهؤلاء المشركين إذا أراد عقابهم من دون الله أنصارٌ ينصرونهم من الله، (2) ويحولون بينهم وبينه إذا هو عذبهم، وقد كانت لهم في الدنيا مَنْعَة يمتنعون بها ممن أرادهم من الناس بسوء = وقوله: (يضاعف لهم العذاب) ، يقول تعالى ذكره: يزاد في عذابهم، فيجعل لهم مكان الواحد اثنان. (3)
* * *
وقوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ، فإنه اختلف في تأويله.
فقال بعضهم: ذلك وصَفَ الله به هؤلاء المشركين أنه قد ختم على سمعهم وأبصارهم، وأنهم لا يسمعون الحق، ولا يبصرون حجج الله، سَمَاعَ منتفع، ولا إبصارَ مهتدٍ.
*ذكر من قال ذلك:
18092- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ، صم عن الحقّ فما يسمعونه، بكم فما ينطقون به، عمي فلا يبصرونه، ولا ينتفعون به
18093- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ، قال: ما كانوا يستطيعون أن يسمعوا خيرًا فينتفعوا به، ولا يبصروا خيرًا فيأخذوا به
18094- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه أنه حال بين أهل الشرك، وبين طاعته في الدنيا والآخرة. أما في الدنيا، فإنه قال: (ما كانوا
__________
(1) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف ص: 102، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(3) انظر تفسير " المضاعفة " فيما سلف 12: 417 - 419.(15/286)
يستطيعون السمع) ، وهي طاعته = (وما كانوا يبصرون) . وأما في الآخرة، فإنه قال: (فلا يستطيعون خاشعة) ، [سورة القلم: 42، 43] .
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بقوله: (وما كان لهم من دون الله من أولياء) ، آلهةَ الذين يصدون عن سبيل الله. وقالوا: معنى الكلام: أولئك وآلهتهم، (لم يكونوا معجزين في الأرض يضاعَفُ لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون) ، يعني الآلهة، أنها لم يكن لها سمعٌ ولا بصر. وهذا قولٌ روي عن ابن عباس من وجه كرهت ذكره لضعْفِ سَنَده.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: يُضَاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه، وبما كانوا يبصرون ولا يتأمَّلون حجج الله بأعينهم فيعتبروا بها. قالوا: و"الباء" كان ينبغي لها أن تدخل، لأنه قد قال: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) ، [سورة البقرة: 10] ، بكذبهم، في غير موضع من التنزيل أدخلت فيه "الباء"، وسقوطها جائز في الكلام كقولك في الكلام: " لأجزينَّك ما علمت، وبما علمت"، (1) وهذا قول قاله بعض أهل العربية.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، ما قاله ابن عباس وقتادة، من أن الله وصفهم تعالى ذكره بأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحقّ سماع منتفع، ولا يبصرونه إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين، عن استعمال جوارحهم في طاعة الله، وقد كانت لهم أسماعٌ وأبصارٌ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " كقولك في الكلام: لاحن بما فيك ما علمت وبما علمت "، وهذا كلام يبرأ بعضه من بعض، والظاهر أن الفساد كله من الناسخ، لأنه كتب " لاحن " في آخر الصفحة، ثم قلب، وبدأ الصفحة الأخرى. " بما فيك ما عملت "، وهذا عجب. والصواب الذي أثبته، هو نص كلام الفراء في معاني القرآن.(15/287)
أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم الذين غبنوا أنفسهم حظوظها من رحمة الله (1) = (وضل عنهم ما كانوا يفترون) ، وبطل كذبهم وإفكهم وفريتهم على الله، (2) بادعائهم له شركاء، فسلك ما كانوا يدعونه إلهًا من دون الله غير مسلكهم، وأخذ طريقًا غير طريقهم، فضَلّ عنهم، لأنه سلك بهم إلى جهنم، وصارت آلتهم عدمًا لا شيء، لأنها كانت في الدنيا حجارة أو خشبًا أو نحاسًا = أو كان لله وليًّا، فسلك به إلى الجنة، وذلك أيضًا غير مسلكهم، وذلك أيضًا ضلالٌ عنهم.
القول في تأويل قوله تعالى: {لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: حقا أن هؤلاء القوم الذين هذه صفتهم في الدنيا وفي الآخرة هم الأخسرون الذين قد باعوا منازلهم من الجنان بمنازل أهل الجنة من النار ; وذلك هو الخسران المبين.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن معنى قولهم: "جَرمتُ"، كسبت الذنب و"جرمته"، (3)
__________
(1) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف من فهارس اللغة (خسر) .
(2) انظر تفسير " الضلال " و " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (ضلل) ، (فرى) .
(3) انظر ما سلف 9: 483 - 485 / 10: 95، وكان في المطبوعة: " جرمت "، " أجرمته " بالألف، والصواب ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في معاني القرآن.(15/288)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23)
وأن العرب كثر استعمالها إياه في مواضع الأيمان، (1) وفي مواضع "لا بد" كقولهم: "لا جرم أنك ذاهب"، بمعنى: "لا بد"، حتى استعملوا ذلك في مواضع التحقيق، فقالوا: "لا جَرَم لتقومن"، بمعنى: حَقًّا لتقومن. (2) فمعنى الكلام: لا منع عن أنهم، ولا صدّ عن أنهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله، وعملوا في الدنيا بطاعة الله = و"أخبتوا إلى ربهم".
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى "الإخبات".
فقال بعضهم: معنى ذلك: وأنابوا إلى ربهم.
*ذكر من قال ذلك:
18095- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم) ، قال: "الإخبات"، الإنابة
18096- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وأخبتوا إلى ربهم) ، يقول: وأنابوا إلى ربهم
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 9: 483، ولكني لم أجد هناك هذا التفصيل الذي ذكره بعد، ولا أظنه مر شيء منه، إلا أن يكون فاتني تقييده. وأخشى أن يكون سهوًا من أبي جعفر.
(2) انظر معاني القرآن للفراء في تفسير هذه الآية، وهذا بعض كلامه.(15/289)
وقال آخرون: معنى ذلك: وخافوا.
*ذكر من قال ذلك:
18097- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (وأخبتوا إلى ربهم) ، يقول: خافوا
* * *
وقال آخرون: معناه: اطمأنوا.
*ذكر من قال ذلك:
18098- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء = عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأخبتوا إلى ربهم) ، قال: اطمأنوا.
18099- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18100- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: خشعوا.
*ذكر من قال ذلك:
18101- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وأخبتوا إليهم ربهم) ، "الإخبات"، التخشُّع والتواضع
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال متقاربة المعاني، وإن اختلفت ألفاظها، لأن الإنابة إلى الله من خوف الله، ومن الخشوع والتواضع لله بالطاعة، والطمأنينة إليه من الخشوع له، غير أن نفس "الإخبات"، عند العرب: الخشوع والتواضع.
* * *(15/290)
مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
وقال: (إلى ربهم) ، ومعناه: وأخبتوا لربهم. وذلك أن العرب تضع "اللام" موضع "إلى" و"إلى" موضع "اللام" كثيًرا، كما قال تعالى: (بأن ربك أوحى لها) ، [سورة الزلزلة: 5] بمعنى: أوحى إليها. وقد يجوز أن يكون قيل ذلك كذلك، لأنهم وصفوا بأنهم عمدوا بإخباتهم إلى الله.
* * *
وقوله: (أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون) ، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم، هم سكان الجنة الذين لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها، ولكنهم فيها لابثُون إلى غير نهاية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلا أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: مثل فريقي الكفر والإيمان كمثل الأعمى الذي لا يرى بعينه شيئًا، والأصم الذي لا يسمع شيئًا، فكذلك فريق الكفر لا يبصر الحق فيتبعه ويعمل به، لشغله بكفره بالله، وغلبة خذلان الله عليه، لا يسمع داعي الله إلى الرشاد، فيجيبه إلى الهدى فيهتدي به، فهو مقيمٌ في ضلالته، يتردَّد في حيرته. والسميع والبصير فذلك فريق الإيمان، (2) أبصر حجج الله، وأقر بما دلت عليه من توحيد الله، والبراءة من الآلهة والأنداد، ونبوة الأنبياء عليهم السلام، وسمعَ داعي الله فأجابه وعمل بطاعة الله، كما:
18102- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير
__________
(1) انظر تفسير " أصحاب الجنة " و " الخلود " في فهارس اللغة (صحب) ، (خلد) .
(2) في المخطوطة والمطبوعة: " فكذلك فريق الإيمان "، وكأن الصواب ما اثبت.(15/291)
والسميع) ، قال: "الأعمى" و"الأصم": الكافر = و"البصير" و"السميع"، المؤمن
18103- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) ، الفريقان الكافران، والمؤمنان، فأما الأعمى والأصم فالكافران، وأما البصير والسميع فهما المؤمنان
18104- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (مثل الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع) ، الآية، هذا مثلٌ ضربه الله للكافر والمؤمن، فأما الكافر فصم عن الحق، فلا يسمعه، وعمي عنه فلا يبصره. وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به، وأبصره فوعاه وحفظه وعمل به
* * *
يقول تعالى: (هل يستويان مثلا) ، يقول: هل يستوي هذان الفريقان على اختلاف حالتيهما في أنفسهما عندكم أيها الناس؟ فإنهما لا يستويان عندكم، فكذلك حال الكافر والمؤمن لا يستويان عند الله = (أفلا تذكرون) ، يقول جل ثناؤه: أفلا تعتبرون أيها الناس وتتفكرون،، فتعلموا حقيقة اختلاف أمريهما، فتنزجروا عما أنتم عليه من الضلال إلى الهدى، ومن الكفر إلى الإيمان؟
* * *
= فالأعمى والأصم، والبصير والسميع، في اللفظ أربعة، وفي المعنى اثنان. ولذلك قيل: (هل يستويان مثلا) .
وقيل: (كالأعمى والأصم) ، والمعنى: كالأعمى الأصمّ، وكذلك قيل (والبصير والسميع) ،، والمعنى: البصير السميع، كقول القائل: "قام الظريف والعاقل"، وهو ينعت بذلك شخصًا واحدًا.
* * *(15/292)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه: إني لكم، أيها القوم، نذير من الله، أنذركم بأسَه على كفركم به، فآمنوا به وأطيعوا أمره.
ويعني بقوله: (مبين) ، يبين لكم عما أرسل به إليكم من أمر الله ونهيه. (1)
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (إني) .
فقرأ ذلك عامة قراء الكوفة وبعض المدنيين بكسر "إنّ" على وجه الابتداء إذ كان في "الإرسال" معنى "القول".
* * *
وقرأ ذلك بعض قراء أهل المدينة والكوفة والبصرة بفتح "أن" على إعمال الإرسال فيها، كأن معنى الكلام عندهم: لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأني لكم نذير مبين.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أن يقال إنهما قراءتان متفقتا المعنى، قد قرأ بكل واحدة منهما جماعة من القرّاء، فبأيتهما قرأ القارئ كان مصيبًا للصواب في ذلك.
* * *
وقوله: (أن لا تعبدوا إلا الله) فمن كسر الألف في قوله: (إني) جعل قوله: (أرسلنا) عاملا في "أنْ" التي في قوله: (أن لا تعبدوا إلا الله) ، ويصير
__________
(1) انظر تفسير " نذير " و " مبين " فيما سلف من فهارس اللغة (نذر) ، (بين) .(15/293)
المعنى حينئذ: ولقد أرسلنا نوحًا إلى قومه، أن لا تعبدوا إلا الله، وقل لهم: إني لكم نذير مبين = ومن فتحها ردّ "أنْ" في قوله: (أن لا تعبدوا) عليها. فيكون المعنى حينئذ: لقد أرسلنا نوحًا إلى قومه بأني لكم نذير مبين، بأن لا تعبدوا إلا الله.
* * *
ويعني بقوله: [بأن لا تعبدوا إلا الله أيها الناس] ، عبادة الآلهة والأوثان، (1)
وإشراكها في عبادته، وأفردوا الله بالتوحيد، وأخلصوا له العبادة، فإنه لا شريك له في خلقه.
* * *
وقوله: (إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم) ، يقول: إني أيها القوم، إن لم تخصُّوا الله بالعبادة، وتفردوه بالتوحيد، وتخلعوا ما دونه من الأنداد والأوثان= أخاف عليكم من الله عذابَ يوم مؤلم عقابُه وعذابُه لمن عُذِّب فيه.
* * *
وجعل "الأليم" من صفة "اليوم" وهو من صفة "العذاب"، إذ كان العذاب فيه، كما قيل: (وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا) ، [سورة الأنعام: 96] ، وإنما "السكن" من صفة ما سكن فيه دون الليل.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت الجملة في المخطوطة والمطبوعة، والسقط فيها ظاهر بين، وكأن الصواب إن شاء الله:
" ويعني بقوله: (أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ) ، أي: اتركوا عبادة الآلهة. . . "(15/294)
فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فقال الكبراء من قوم نوح وأشرافهم = وهم (الملأ) ، = (1) الذين كفروا بالله وجحدوا نبوة نبيهم نوح عليه السلام = (ما نراك) ، يا نوح، (إلا بشرًا مثلنا) ، يعنون بذلك أنه آدمي مثلهم في الخلق والصُّورة والجنس، كأنهم كانوا منكرين أن يكون الله يرسل من البشر رسولا إلى خلقه. (2)
* * *
وقوله: (وما نراك اتَّبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) ، يقول: وما نراك اتبعك إلا الذين هم سفلتنا من الناس، دون الكبراء والأشراف، فيما نرَى ويظهر لنا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: 177، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " البشر " فيما سلف 11: 521، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/295)
وقوله: (بادي الرأي) ، اختلفت القراء في قراءته.
فقرأته عامة قراء المدينة والعراق: (بَادِيَ الرَّأْيِ) ، بغير همز "البادي" وبهمز "الرأي"، بمعنى: ظاهر الرأي، من قولهم: "بدا الشيء يبدو"، إذا ظهر، كما قال الراجز: (1)
أَضْحَى لِخَالِي شَبَهِيَ بَادِي بَدِي ... وَصَارَ لِلْفَحْلِ لِسَانِي وَيَدِي (2)
"بادي بدي" بغير همز، وقال آخر:
وقَدْ عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ بادِي بَدِي (3)
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: (بَادِئَ الرَّأْيِ) ، مهموزًا أيضًا، بمعنى: مبتدأ الرأي، من قولهم: "بدأت بهذا الأمر"، إذا ابتدأت به قبل غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأ: (بَادِيَ الرَّأْيِ) بغير همز "البادي"، وبهمز "الرأي"، لأن معنى ذلك الكلام: إلا الذين هم أراذلنا، في ظاهر الرأي، وفيما يظهر لنا.
* * *
وقوله: (وما نرى لكم علينا من فضل) ، يقول: وما نتبين لكم علينا من فضل نلتموه بمخالفتكم إيانا في عبادة الأوثان إلى عبادة الله وإخلاص العبودة له، فنتبعكم
__________
(1) أبو نخيلة السعدي.
(2) هذا الرجز والذي يليه، من رجز أبي نخيلة السعدي، لا شك في البيت الثاني منهما، أما الأول فإني أرتاب في صحة إنشاده، على الوجه الذي أنشده الفراء في معاني القرآن. وقد خرج هذا الرجز، صديقنا وشيخنا عبد العزيز الميمني الراجكرتي في سمط اللآلئ: 293، 480، وفي اللسان (ذرأ) ، وتهذيب إصلاح المنطق 2: 32، وسيبويه 2: 54، ونوادر اليزيدي: 128، والأغاني (ساسي) 18: 151، وتاريخ ابن عساكر 2: 321 = وأزيد، تاريخ الطبري 9: 273، والمعاني الكبير: 1223، والفراء في معاني القرآن، ومجاز القرآن 1: 288، واللسان (بدا) ، والأبيات هي: كَيْفَ التَّصَابِي فِعْلَ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ ... وَقَد عَلَتْنِي ذُرْأَةٌ بَادِي بَدى
وَرَثْيَةٌ تَنْهَضُ في تَشَدُّدِي ... بَعْدَ انْتِهَاضِي في الشَّبَابِ الأمْلَدِ
وَبَعْدَ مَا أَذْكُرُ مِنْ تَأَوُّدِي ... وَبَعْدَ تَمْشَائِي وتَطْوِيحِي يَدِي
وَمِشْيَتِي تَحْتَ الغُدَافِ الأسْوَدِ
وذكرها صاحب اللسان في (بدا) ، والتبريزي في تهذيب إصلاح المنطق، وزاد بعد قوله " ورثية تنهض في تشددي
وصار للفحل لساني ويدي
أما البيت الأول، فلم أجده في مكان، وأخشى أن تكون " بادي بدى " فيه، موضوعة مكان كلمة أخرى، ولا شك أن موضع هذين البيتين، ليس في الموضع الذي وضع أحدهما فيه صاحب اللسان والتبريزي.
(3) انظر التعليق السالف. و " الذرأة " (بضم فسكون) ، الشيب في مقدم الرأس.(15/296)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
طلبَ ذلك الفضل، وابتغاءَ ما أصبتموه بخلافكم إيانا = (بل نظنكم كاذبين) .
* * *
وهذا خطاب منهم لنوحٍ عليه السلام، وذلك أنهم إنما كذبوا نوحًا دون أتباعه، لأن أتباعه لم يكونوا رُسلا. وأخرج الخطابَ وهو واحد مخرج خطاب الجميع، كما قيل: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) ، [سورة الطلاق: 1] .
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: بل نظنك، يا نوح، في دعواك أن الله ابتعثك إلينا رسولا كاذبًا.
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله (بادي الرأي) قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18105- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله: (وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي) ، قال: فيما ظهر لنا
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه إذ كذبوه، وردّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من النصيحة: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) ، على علمٍ ومعرفةٍ وبيان من الله لي ما يلزمني له، ويجب عليّ من(15/297)
إخلاص العبادة له وترك إشراك الأوثان معه فيها = (وآتاني رحمة من عنده) ، يقول: ورزقني منه التوفيق والنبوّة والحكمة، فآمنت به وأطعته فيما أمرني ونهاني (1) = (فعميت عليكم) .
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء أهل المدينة وبعض أهل البصرة والكوفة: (فَعَمِيَتْ) بفتح العين وتخفيف الميم، بمعنى: فعَمِيت الرحمة عليكم فلم تهتدوا لها، فتقرّوا بها، وتصدّقوا رسولكم عليها.
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) بضم العين وتشديد الميم، اعتبارًا منهم ذلك بقراءة عبد الله، وذلك أنها فيما ذكر في قراءة عبد الله: (فَعَمَّاهَا عَلَيْكُمْ) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك عندي بالصواب قراءة من قرأه: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) بضم العين وتشديد الميم للذي ذكَروا من العلة لمن قرأ به، ولقربه من قوله: (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده) ، فأضَاف "الرحمة" إلى الله، فكذلك "تعميته على الآخرين"، بالإضافة إليه أولى.
* * *
وهذه الكلمة مما حوّلت العرب الفعل عن موضعه. وذلك أن الإنسان هو الذي يعمى عن إبصار الحق، إذ يعمى عن إبصاره، و"الحق" لا يوصف بالعمى، إلا على الاستعمال الذي قد جرى به الكلام. وهو في جوازه لاستعمال العرب إياه نظيرُ قولهم: "دخل الخاتم في يدي، والخف في رجلي"، ومعلوم أن الرجل هي
__________
(1) انظر تفسير ما سلف من ألفاظ الآية في فهارس اللغة.(15/298)
التي تدخل في الخفّ، والإصبع في الخاتم، ولكنهم استعملوا ذلك كذلك، لما كان معلومًا المرادُ فيه. (1)
* * *
وقوله: (أنلزمكموها وأنتم لها كارهون) ، يقول: أنأخذكم بالدخول في الإسلام، وقد عماه الله عليكم = (وأنتم لها كارهون) ، (2) يقول: وأنتم لإلزامناكُموها = "كارهون"، يقول: لا نفعل ذلك، ولكن نكل أمركم إلى الله، حتى يكون هو الذي يقضي في أمركم ما يرى ويشاء. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
18106- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال نوح: (يا قوم إن كنت على بينة من ربي) ، قال: قد عرفتها، وعرفت بها أمره، وأنه لا إله إلا هو = (وآتاني رحمة من عنده) ، الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوّة
18107- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) ، الآية، أما والله لو استطاع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لألزمها قومه، ولكن لم يستطع ذلك ولم يملكه
18108- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية قال: في قراءة أبيّ: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) .
18109- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
__________
(1) هذا اختصار مقالة الفراء في معاني القرآن، في تفسير الآية.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " عليكم لها كارهون "، والجيد ما أثبت، بزيادة: " وأنتم ".
(3) انظر تفسير " الكره " فيما سلف من فهارس اللغة (كره) .(15/299)
الزبير، عن ابن عيينة قال، أخبرنا عمرو بن دينار قال، قرأ ابن عباس: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ أَنْفُسِنَا) ، قال، عبد الله: "من شَطْر أنفسنا"، من تلقاء أنفسنا.
18110- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، مثله.
18111- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا مِنْ شَطْرِ قُلُوبِنَا وأَنْتُمْ لَهَا كارِهُونَ) . (1)
* * *
__________
(1) هذه القراءة التي مرت في الأخبار السالفة، بالزيادة في الآية، قراءة شاذة لزيادتها على المصحف، لا يحل لأحد أن يقرأ بها وظني أن قوله: " من شطر أنفسنا "، أو: " من شطر قلوبنا " تفسير مدرج في كتابة الآية، وليس قراءة.(15/300)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) }
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبرٌ من الله عن قيل نوح لقومه، أنه قال لهم: يا قوم لا أسألكم على نصيحتي لكم، ودعايتكم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له، مالا أجرًا على ذلك، فتتهموني في نصيحتي، وتظنون أن فعلي ذلك طلبُ عرض من أعراض الدنيا = (إن أجري إلا على الله) ، يقول: ما ثواب نصيحتي لكم، ودعايتكم إلى ما أدعوكم إليه، إلا على الله، فانه هو الذي يجازيني، ويثيبني عليه = (وما أنا بطارد الذين آمنوا) ، وما أنا بمقصٍ من آمن بالله،(15/300)
وأقرّ بوحدانيته، وخلع الأوثان وتبرأ منها، بأن لم يكونوا من عِلْيتكم وأشرافكم = (إنهم ملاقو ربهم) ، يقول: إن هؤلاء الذين تسألوني طردهم، صائرون إلى الله، والله سائلهم عما كانوا في الدنيا يعملون، لا عن شرفهم وحسبهم.
* * *
وكان قيل نوح ذلك لقومه، لأن قومه قالوا له، كما:-
18112- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (وما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم) ، قال: قالوا له: يا نوح، إن أحببت أن نتبعك فاطردهم، وإلا فلن نرضى أن نكون نحن وهم في الأمر سواء. فقال: (ما أنا بطارد الذين آمنوا إنهم ملاقو ربهم) ، فيسألهم عن أعمالهم
18113- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح جميعا، عن مجاهد قوله: (إن أجري إلا على الله) ، قال: جَزَائي.
18114- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18115-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقوله: (ولكني أراكم قومًا تجهلون) ، يقول: ولكني، أيها القوم، أراكم قومًا تجهلونَ الواجبَ عليكم من حقّ الله، واللازم لكم من فرائضه. ولذلك من جهلكم سألتموني أن أطرد الذين آمنوا بالله.
* * *(15/301)
وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30) وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) }
قال أبو جعفر: يقول: (ويا قوم من ينصرني) ، فيمنعني من الله إن هو عاقبني على طردي المؤمنين الموحِّدين الله إن طردتهم؟ = (أفلا تذكرون) ، يقول: أفلا تتفكرون فيما تقولون: فتعلمون خطأه، فتنتهوا عنه؟.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) }
قال أبو جعفر: وقوله: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) ، عطف على قوله: (ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا) .
* * *
ومعنى الكلام: (ويا قوم لا أسألكم عليه أجرًا) ، (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) ، التي لا يفنيها شيء، فأدعوكم إلى اتباعي عليها. ولا أعلم أيضًا الغيب = يعني: ما خفي من سرائر العباد، فإن ذلك لا يعلمه إلا الله = فأدّعي الربوبية وأدعوكم إلى عبادتي. ولا أقول أيضًا: إني ملك من الملائكة، أرسلت إليكم، فأكون كاذبًا في دعواي ذلك، بل أنا بشر مثلكم كما تقولون، أمرت بدعائكم إلى الله، وقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم = (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لن يؤتيهم الله خيرًا) يقول: ولا أقول للذين اتبعوني وآمنوا بالله ووحَّدوه،(15/302)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32)
الذين تستحقرهم أعينكم، وقلتم: إنهم أراذلكم = (لن يؤتيهم الله خيرًا) ، وذلك الإيمان بالله = (الله أعلم بما في أنفسهم) ، يقول: الله أعلم بضمائر صدورهم، واعتقاد قلوبهم، وهو وليّ أمرهم في ذلك، وإنما لي منهم ما ظهر وبدا، وقد أظهُروا الإيمان بالله واتبعوني، فلا أطردهم ولا أستحل ذلك = (إني إذا لمن الظالمين) ، يقول: إنّي إن قلت لهؤلاء الذين أظهروا الإيمان بالله وتصديقي: (لن يؤتيهم الله خيرًا) ، وقضيت على سرائرهم بخلاف ما أبدته ألسنتهم لي على غير علم منّي بما في نفوسهم، وطردتهم بفعلي ذلك، لمن الفاعلين ما ليس لهم فعله، المعتدين ما أمرهم الله به، وذلك هو "الظلم".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18116- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله: (ولا أقول لكم عندي خزائن الله) التي لا يفينها شيء، فأكون إنما أدعوكم لتتبعوني عليها لأعطيكم منها = ولا أقول إني ملك نزلت من السماء برسالة، ما أنا إلا بشر مثلكم. (ولا أعلم الغيب) ، ولا أقول اتبعوني على علم الغيب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم نوح لنوح عليه السلام: قد خاصمتنا فأكثرت خصومتنا، (1) فأتنا بما تعدنا من العذاب، إن كنت من
__________
(1) انظر تفسير " الجدال " فيما سلف 12: 523، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/303)
قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
الصادقين في عِداتك ودَعواك أنك لله رسول. يعني: بذلك أنه لن يقدر على شيء من ذلك.
* * *
18117- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (جادلتنا) ، قال: ماريتنا.
18118- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18119- وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18120- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: (قالوا يا نوح قد جادلتنا) ، قال: ماريتنا = (فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا) = قال ابن جريج: تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطلٌ (فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا) ، قال ابن جريج: تكذيبًا بالعذاب، وأنه باطلٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال نوح لقومه حين استعجلوه العذاب: يا قوم، ليس الذي تستعجلون من العذاب إليّ، إنما ذلك إلى الله لا إلى غيره، هو الذي يأتيكم به إن شاء = (وما أنتم بمعجزين) = يقول: ولستم إذا أراد(15/304)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
تعذيبكم بمعجزيه، أي بفائتيه هربًا منه، لأنكم حيث كنتم في ملكه وسلطانه وقدرته، حكمهُ عليكم جارٍ (1) = (ولا ينفعكم نصحي) ، يقول: ولا ينفعكم تحذيري عقوبته، ونزولَ سطوته بكم على كفركم به = (إن أردت أن أنصح لكم) ، في تحذيري إياكم ذلك، لأن نصحي لا ينفعكم، لأنكم لا تقبلونه. (2) = (إن كان الله يريد أن يغويكم) ، يقول: إن كان الله يريد أن يهلككم بعذابه = (هو ربكم وإليه ترجعون) ، يقول: وإليه تردُّون بعد الهلاك. (3)
* * *
حكي عن طيئ أنها تقول: "أصبح فلان غاويًا": أي مريضًا.
وحكي عن غيرهم سماعًا منهم: "أغويت فلانًا"، بمعنى أهلكتَه = و"غَوِيَ الفصيل"، إذا فقد اللبن فمات.
وذكر أن قول الله: (فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا) ، [سورة مريم: 59] ، أي هلاكًا. (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقول يا محمد هؤلاء المشركون من قومك: افترى محمد هذا القرآن؟ وهذا الخبر عن نوح؟ = قل لهم: إن افتريته فتخرصته واختلقته (5)
(فعليّ إجرامي) يقول: فعلي إثمي في افترائي ما افتريت
__________
(1) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف ص: 286، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " نصحت لك " فيما سلف 3: 212.
(3) انظر تفسير " المرجع " فيما سلف من فهارس اللغة (رجع) .
(4) انظر تفسير " غوى " فيما سلف 12:333، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " الافتراء "، فيما سلف من فهارس اللغة (فري) .(15/305)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
على ربّي دونكم، لا تؤاخذون بذنبي ولا إثمي، ولا أؤاخذ بذنبكم. (وأنا بريء مما تجرمون) ، يقول: وأنا بريء مما تذنبون وتأثَمُون بربكم، من افترائكم عليه.
* * *
ويقال منه: "أجرمت إجرامًا"، و"جرَمْت أجرِم جَرْمًا"، (1) كما قال الشاعر: (2)
طَرِيدُ عَشِيرَةٍ وَرَهِينُ ذَنْبٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وَجَنَى لِسَانِي (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأوحَى الله الله إلى نوح، لمّا حَقّ على قومه القولُ، وأظلَّهم أمرُ الله، أنه لن يؤمن، يا نوح، بالله فيوحِّده، ويتبعك على ما تدعوه إليه = (من قومك إلا من قد آمن) ، فصدّق بذلك واتبعك. (فلا تبتئس) ، يقول: فلا تستكن ولا تحزن = (بما كانوا يفعلون) ، فإني مهلكهم، ومنقذك منهم ومن اتبعك. وأوحى الله ذلك إليه، بعد ما دعا عليهم نوحٌ بالهلاك فقال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) ، [سورة نوح: 26] .
* * *
= وهو "تفتعل" من "البؤس"، يقال: "ابتأس فلان بالأمر يبتئس ابتئاسًا":
__________
(1) انظر تفسير " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة (جرم) .
(2) هو الهيردان بن خطار بن حفص السعدي، اللص، وضبط اسمه بفتح الهاء، وسكون الياء، وضم الراء.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 288، واللسان (جرم) .(15/306)
كما قال لبيد بن ربيعة:
فِي مَأْتَمٍ كَنِعَاجِ صَا ... رَةَ يَبْتَئِسْنَ بِمَا لَقَيْنا (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18121- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلا تبتئس) ، قال: لا تحزن.
18122- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد مثله.
18123- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) ، يقول: فلا تحزن.
18124- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فلا تبتئس بما كانوا يفعلون) ، قال: لا تأسَ ولا تحزن.
18125- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) ، وذلك حين
__________
(1) ديوانه 2: 46 (القصيدة: 35، البيت: 21) ، اللسان (يأس) قصيدة له، يذكر بنته أو امرأته وحالها بعد موته: وَحَذِرْتُ بَعْدَ المَوْتِ يَوْ ... مَ تَشِينُ أَسْمَاءُ الجَبِينَا
فِي رَبْرَبٍ كَنِعَاجِ صَارَ ... ةَ يَبْتَئِسْنَ بِمَا لَقِينَا
مُتَسَلِّبَاتٍ فِي مُسُوحِ ... الشَّعْرِ أَبْكَارًا وَعُونَا
وهذا شعر، حسبك به من شعر! .(15/307)
وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37)
دعا عليهم قال (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) ، [سورة نوح: 26] = قوله: (فلا تبتئس) ، يقول: فلا تأسَ ولا تحزن.
18126- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن) ، فحينئذ دعا على قومه، لما بيَّن الله له أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأحي إليه أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، وأن اصنع الفلك، وهو السفينة، (1) كما:
18127- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: الفلك: السفينة.
* * *
وقوله: (بأعيننا) ، يقول: بعين الله ووحيه كما يأمرك، كما:-
18127- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا) ، وذلك أنه لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله إليه أن يصنعها على مثل جؤجؤ الطائر. (2)
18128- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " الفلك " فيما سلف 12: 503 / 15: 50، 153.
(2) " جؤجؤ الطائر " (بضم الجيم، ثم سكون الهمزة، ثم ضم الجيم) : هو صدره.(15/308)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ووحينا) ، قال: كما نأمرك.
18129- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد = وحدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بأعيننا ووحينا) ، كما نأمرك.
18130- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: (واصنع الفلك بأعيننا ووحينا) ، قال: بعين الله، قال ابن جريج، قال مجاهد: (ووحينا) ، قال: كما نأمرك.
18131- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة في قوله: (بأعيننا ووحينا) ، قال: بعين الله ووحيه.
* * *
وقوله: (ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون) ، يقول تعالى ذكره: ولا تسألني في العفو عن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم من قومك، فأكسبوها تعدّيًا منهم عليها بكفرهم بالله = الهلاك بالغرق، إنهم مغرقون بالطوفان، كما:-
18132- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (ولا تخاطبني) ، قال: يقول: ولا تراجعني. قال: تقدَّم أن لا يشفع لهم عنده. (1)
* * *
__________
(1) " تقدم "، يعني أمره بذلك.(15/309)
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويصنع نوح السفينة، وكلما مرّ عليه جماعة من كبراء قومه (1) = (سخروا منه) ، يقول: هزئوا من نوح، ويقولون له: أتحوّلت نجارًا بعد النبوّة، وتعمل السفينة في البر؟ = فيقول لهم نوح: (إن تسخروا منا) ، إن تهزءوا منا اليوم، فإنا نهزأ منكم في الآخرة، كما تهزءون منا في الدنيا (2) = (فسوف تعلمون) ، إذا عاينتم عذابَ الله، مَن الذي كان إلى نفسه مُسِيئًا منَّا.
* * *
وكانت صنعة نوح السفينة، كما:-
18133- حدثني المثنى وصالح بن مسمار قالا حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا موسى بن يعقوب قال، حدثني فائد مولى عبيد الله بن علي بن أبي رافع: أنّ إبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة، أخبره: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله، حتى كان آخر زمانه غَرس شجرةً، فعظمت وذهبت كلَّ مذهب، ثم قطعها، ثم جعل يعمل سفينة، ويمرُّون فيسألونه، فيقول: أعملها سفينة! فيسخرون منه ويقولون: تعمل سفينةً في البر فكيف تجري! فيقول: سوف تعلمون. فلما فرغ منها،
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: 295، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " سخر " فيما سلف 14: 382، تعليق: 2.(15/310)
وفارَ التنور، وكثر الماء في السكك، خشيت أمُّ الصبيِّ عليه، وكانت تحبّه حبًّا شديدًا، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثُلُثه. فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثي الجبل. فلما بلغها الماء خرجت، حتى استوت على الجبل، فلما بلغ الماء رقبتها رفعتْه بين يديها، حتى ذهب بها الماء. فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أمّ الصبيّ. (1)
18134- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن طول السفينة ثلاث مائة ذراع، وعرضها خمسون ذراعًا، وطولها في السماء ثلاثون ذراعًا، وبابها في عرضها
18135- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن، قال: كان طول سفينة نوح ألف ذراع ومائتي ذراع، وعرضها ست مائة ذراع.
18136- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) الأثر: 18133 - " ابن أبي مريم "، هو: " سعيد بن أبي مريم "، ثقة: روى له الجماعة، سلف مرارًا، آخرها: 12771." وموسى بن يعقوب بن يعقوب الزمعي "، ثقة، متكلم فيه، مضى توثيقه برقم: 9923، ورقم: 15756، 15822، وقال علي بن المديني: " ضعيف الحديث، منكر الحديث "، وقال الأثرم: سألت أحمد عنه، فكأنه لم يعجبه. " وفائد، مولى عبيد الله بن بن علي بن أبي رافع، عبادل "، وهو " فائد، مولى عبادل "، ثقة لا باس به. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 131، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 84. " وإبراهيم بن عبد الرحمن بن أبي ربيعة المخزومي "، هو " إبراهيم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة "، ثقة، روى عن خالته عائشة، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 296، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 111.هذا إسناد " حسن ". ورواه الطبري بهذا الإسناد نفسه في تاريخه 1: 91. وقد رواه من هذه الطريق نفسها، الحاكم في المستدرك 2: 342، 547 ثم قال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "، ولكن الذهبي قال: " إسناده مظلم. وموسى، ليس بذاك "، وهذا شديد، وأقرب منه ما قاله ابن كثير في تفسيره 4: 367، 368، ورواه عن هذا الموضع من تفسير الطبري، ومن تفسير الحبر أبي محمد بن أبي حاتم، ثم قال: " وهذا حديث غريب من هذا الوجه. وقد روى عن كعب الأحبار، ومجاهد بن جبير، قصة هذا الصبي وأمه بنحو هذا ". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 200، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه موسى بن يعقوب الزمعي، وثقه ابن معين وغيره، وضعفه ابن المديني، وبقية رجاله ثقات ".(15/311)
مفضل بن فضالة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: قال الحواريُّون لعيسى ابن مريم: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة فحدَّثنا عنها! قال: فانطلق بهم حتى انتهى بهم إلى كثيب من تراب، فأخذ كفًّا من ذلك التراب بكفه، قال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: هذا كعب حام بن نوح. قال: فضرب الكثيب بعصاه، قال: قم بإذن الله! فإذا هو قائمٌ ينفُض التراب عن رأسه قد شَابَ، قال له عيسى: هكذا هلكت؟ قال: لا ولكن مِتُّ وأنا شابّ، ولكني ظننت أنها الساعة، فمن ثَمَّ شِبتُ. قال: حدثنا عن سفينة نوح. قال: كان طولها ألف ذرع ومائتي ذراع، وعرضها ست مائة ذراع، وكانت ثلاث طبقات، فطبقة فيها الدوابُّ والوحش، وطبقة فيها الإنس، وطبقة فيها الطير. فلما كثر أرواث الدوابِّ، أوحى الله إلى نوح أن اغمز ذَنب الفيل، فغمزه فوقع منه خنزير وخنزيرة، فأقبلا على الرَّوْث. فلما وقع الفأر بجَرَز السفينة يقرضه، (1) أوحى الله إلى نوح أن اضرب بين عيني الأسد، فخرج من منخره سِنَّور وسنّورة، فأقبلا على الفأر، فقال له عيسى: كيف علم نوح أنّ البلاد قد غرقت؟ قال: بعث الغرابَ يأتيه بالخبر، فوجد جيفةً فوقع عليها، فدعا عليه بالخوف، فلذلك لا يألف البيوت قال: ثم بعث الحمامة فجاءت بورق زيتون بمنقارها وطين برجليها، فعلم أن البلاد قد غرقت قال: فطوَّقَها الخضرة التي في عنقها، ودعا لها أن تكون في أنسٍ وأمان، فمن ثم تألف البيوت. قال: فقلنا يا رسول الله ألا ننطلق به إلى أهلينا، فيجلس معنا، ويحدثنا؟ قال: كيف يتبعكم من لا رزق له؟ قال: فقال له: عُدْ بإذن الله، قال: فعاد ترابًا. (2)
18137- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق عمن لا يتَّهم عن عبيد بن عمير الليثي: أنه كان يحدّث أنه بلغه أنهم كانوا يبطشون به = يعني قوم نوح = فيخنقونه حتى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، حتى إذا تمادوا في المعصية، وعظمت في الأرض منهم الخطيئة، وتطاول عليه وعليهم الشأن، واشتد عليه منهم البلاء، وانتظر النَّجْل بعد النَّجْل، فلا يأتي قرن إلا كان أخبث من القرن الذي قبله، حتى إن كان الآخر منهم ليقول: "قد كان هذا مع آبائنا ومع أجدادنا هكذا مجنونًا"! لا يقبلون منه شيئًا. حتى شكا ذلك من أمرهم نوح إلى الله تعالى، كما قص الله علينا في كتابه: (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلا فِرَارًا) ، إلى آخر القصة، حتى قال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلا فَاجِرًا كَفَّارًا) ، إلى آخر القصة [سورة نوح: 5 -27] . فلما شكا ذلك منهم نوح إلى الله واستنصره عليهم، أوحى الله إليه (أن اصطنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا) ، أي: بعد اليوم، (إنهم مغرقون) . فأقبل نوح على عمل الفلك، ولَهِيَ عن قومه، وجعل يقطع الخشب، ويضرب الحديد، ويهيئ عدة الفلك من القَار وغيره مما لا يصلحه إلا هو، وجعل قومه يمرُّون به وهو في ذلك من عمله، فيسخرون منه ويستهزئون به، فيقول: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون فسوف تعلمونَ من يأتيه عذاب يخزيه ويحلّ
__________
(1) في المطبوعة " بحبل السفينة "، وفي المخطوطة: " يحرر " غير منقوطة، ورأيت أن أقرأها كذلك، و " الجرز " (بفتح الجيم والزاي) صدر الإنسان أو وسطه، كما قالوا له: " الجؤجؤ "، وهو صدر الطائر. وفي تاريخ الطبري " بخرز "، كأن جمع " خرزة ".
(2) الأثر 18136 - " المفضل بن فضالة بن أبي أمية القرشي " ليس بذاك، وقيل: في حديثه نكارة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 405، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 317، وميزان الاعتدال 3: 195." وعلي بن زيد بن جدعان "، سلف مرارًا، آخرها رقم: 17861، وقد ذكرت هناك توثيق أخي السيد أحمد رحمه الله، له. وذكرت تضعيف الأئمة لحديثه، ورجحت أن يعتبر بحديثه. وهذا خبر لا شك أنه من بقية أخبار بني إسرائيل وأشباههم، لا يبلغ أن يكون شيئا.
ورواه الطبري في تاريخه 1: 91، 92.(15/312)
عليه عذاب مقيم) ، قال: ويقولون فيما بلغني: يا نوح قد صرت نجَّارًا بعد النبوّة! قال: وأعقم الله أرحام النساء، فلا يولد لهم ولد. قال: ويزعم أهل التوراة أن الله أمره أن يصنع الفلك من خشب السّاج، وأن يصنعه أزْوَر، (1) وأن يطليه بالقار من داخله وخارجه، وأن يجعل طوله ثمانين ذراعًا، وأن يجعله ثلاثة أطباق: سفلا ووسطًا وعلوًا، وأن يجعل فيه كُوًى. ففعل نوح كما أمره الله، حتى إذا فرغ منه وقد عهد الله إليه (إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) وقد جعل التَّنُّور آية فيما بينه وبينه، فقال: (إذا جاء أمرنا وفار التَّنُّور فاسلك فيها من كل زوجين اثنين) ، واركب. فلما فار التنور، حمل نوح في الفلك من أمره الله، وكانوا قليلا كما قال الله، وحمل فيها من كل زوجين اثنين مما فيه الروح والشجر، ذكر وأنثى، فحمل فيه بنيه الثلاثة: سام وحام ويافث ونساءهم، وستة أناس ممن كان آمن به، فكانوا عشرة نفر: نوح وبنوه وأزواجهم، ثم أدخل ما أمره به من الدوابّ، وتخلف عنه ابنه يَام، وكان كافرًا. (2)
18138- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: سمعته يقول: كان أوّل ما حمل نوح في الفلك من الدوابّ الذرّة، وآخر ما حمل الحمار، فلما أدخل الحمار وأدخَل صدره، تعلق إبليس بذنبه، (3) فلم تستقلّ رجلاه، فجعل نوح يقول: ويحك ادخل! فينهض فلا يستطيع. حتى قال نوح: ويحك ادخل وإن كان الشيطان معك! قال: كلمة زلَّت عن لسانه، فلما قالها نوح خلَّي الشيطان سبيله، فدخل ودخل الشيطانُ معه، فقال
__________
(1) " أزور "، من " الزور "، (بفتح فسكون) وهو الصدر، و " الزور " (بفتحتين) ، وهو عوج الزور، وهو أن يستدق جوشن الصدر، ويخرج الكلكل، كأنه عصر من جانبيه.
(2) الأثر: 18137 - رواه الطبري في تاريخه 1: 92، 93.
(3) في المطبوعة: " فلما دخل الحمار وأدخل رأسه مسك إبليس "، وفي المخطوطة: " فلما أدخل الحمار، وأدخل صدره إبليس بذنبه "، الأولى " أدخل "، وبين الكلامين بياض، وأثبت الصواب من تاريخ الطبري.(15/314)
له نوح: ما أدخلك عليّ يا عدوَّ الله؟ فقال: ألم تقل: "ادخل وإن كان الشيطان معك"؟ قال: اخرج عنّي يا عدوّ الله! فقال: ما لك بدٌّ من أن تحملني! فكان، فيما يزعمون، في ظهر الفلك، فلما اطمأن نوح في الفلك، وأدخل فيه من آمن به، وكان ذلك في الشهر. . . . (1) من السنة التي دخل فيها نوح بعد ست مائة سنة من عمره، لسبع عشرة ليلة مضت من الشهر، فلما دخل وحمل معه من حمل، تحرك ينابيع الغوط الأكبر، (2) وفتح أبواب السماء، كما قال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) ، [سورة القمر: 11-12] . فدخل نوح ومن معه الفلك، وغطاه عليه وعلى من معه بطَبَقه، (3) فكان بين أن أرسل الله الماء وبين أن احتمل الماء الفلك أربعون يومًا وأربعون ليلة، ثم احتمل الماء كما تزعم أهل التوراة، وكثر الماء واشتد وارتفع، يقول الله لمحمد: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ) ، [سورة القمر: 13] ، و"الدسر"، المسامير، مسامير الحديد = فجعلت الفلك تجري به، وبمن معه في موج كالجبال، ونادي نوح ابنه الذي هلك فيمن هلك، وكان في معزلٍ حين رأى نوحٌ من صدق موعد ربه ما رَأى، فقال: (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين) ، وكان شقيًّا قد أضمر كفرًا. (قال سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ، وكان عَهِد الجبال وهي حِرْزٌ من الأمطار إذا كانت، فظنّ أن ذلك كما كان يعهد. قال نوح: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) ، وكثر الماء حتى طغى، وارتفع فوق الجبال، كما تزعم أهل التوراة، بخمسة عشر ذراعًا، فباد ما على وجه الأرض من الخلق، من كل شيء فيه الروح أو شجر، فلم يبق شيء من الخلائق إلا نوح ومن معه في الفلك، وإلا عُوج بن عُنُق فيما يزعم أهل الكتاب، فكان بين أن أرسل الله الطوفان وبين أن غاض الماء ستة أشهر وعشر ليالٍ. (4)
18139- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن علي بن زيد بن جدعان = قال ابن حميد، قال سلمة، وحدثني علي بن زيد عن يوسف بن مهران، قال: سمعته يقول: لما آذى نوحًا في الفلك عَذِرة الناس، أمر أن يمسح ذنب الفيل، فمسحه، فخرج منه خنزيران، وكفي ذلك عنه. وإن الفأر توالدت في الفلك، فلما آذته، أمر أن يأمر الأسد يعطس، فعطس، فخرج من منخريه هِرّان يأكلان عنه الفأر.
18140- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، قال: لما كان نوح في السفينة، قرض الفأر حبالَ السفينة، فشكا نوح، فأوحى الله إليه، فمسح ذنب الأسد، فخرج سِنَّوران. وكان في السفينة عذرة، فشكا ذلك إلى ربه، فأوحى الله إليه، فمسح ذنب الفيل، فخرج خنزيران
18141- حدثنا إبراهيم بن يعقوب الجوزجاني قال، حدثنا الأسود بن عامر قال، أخبرنا سفيان بن سعيد، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس، بنحوه. (5)
__________
(1) سقط من المخطوطة والمطبوعة عدد الشهر الذي ذكره، وساق الكلام سياقًا واحدًا، فوضعت النقط دلالة على هذا السقط، ولكن هكذا جاء أيضًا في التاريخ.
(2) " الغوط " (بفتح فسكون) و" الغائط "، المتسع من الأرض من طمأنينة، وهو هنا: عمق الأرض الأبعد.
(3) " الطبق "، غطاء كل شيء. وكان في المطبوعة: " بطبقة "، وهو خطأ.
(4) الأثر: 18138 - رواه الطبري في تاريخه 1: 93، 94.
(5) الأثر: 18141 - " إبراهيم بن يعقوب بن إسحاق الجوزجاني، السعدي، شيخ الطبري، كان من الحفاظ، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 148 "." والأسود بن عامر، شاذان "، ثقة، مضى برقم: 13927.(15/315)
فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
18142- حدثت عن المسيب بن أبي روق، عن الضحاك، قال: قال سليمان القراسي: عمل نوح السفينة في أربع مائة سنة، وأنبت الساج أربعين سنة، حتى كان طوله أربع مائة ذراع، والذراع إلى المنكب. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ يَأتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ ويَحِلُّ عَليهِ عَذابٌ مُقيمٌ 39 حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلا قَلِيلٌ (40) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل نوح لقومه: (فسوف تعلمون) ، أيها القوم، إذا جاء أمر الله، من الهالك، (من يأتيه عذاب يخزيه) ، يقول: الذي يأتيه عذابُ الله منا ومنكم يهينه ويذله (2) = (ويحل عليه عذاب مقيم) ، يقول: وينزل به في الآخرة، مع ذلك، عذابٌ دائم لا انقطاع له، مقيم عليه أبدًا. (3)
* * *
وقوله: (حتى إذا جاء أمرُنا) ، يقول: "ويصنع نوح الفلك" (حتى إذا
__________
(1) الأثر: 18142 - " المسيب "، هو " المسيب بن شريك التميمي "، متروك سلف برقم: 16806. " وسليمان القراسي "، لم أعرف من يكون.وكان في المخطوطة والمطبوعة: " المسيب بن أبي روق "، وهو خطأ صرف وسيأتي على الصواب برقم: 18173.قلت: وهذه الأخبار الآنفة، كلها رجم من رجم أصحاب الكتب السالفة، لا خير فيها، إلا أنهم ربما أثبتوها في كتبهم، لأنه كان هكذا يروى، ولكن ما من أحد من أهل العلم يعدها حجة على شيء، أو مظنة اعتقاد بصحتها.
(2) انظر تفسير " الخزى " فيما سلف من فهارس اللغة (خزى) .
(3) انظر تفسير " عذاب مقيم " فيما سلف 10: 293 / 14: 174، 340.(15/317)
جاء أمرنا) الذي وعدناه أن يجيء قومه من الطوفان الذي يغرقهم.
* * *
وقوله: (وفار التنور) اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: معناه: انبجس الماء من وجه الأرض = (وفار التنور) ، وهو وجه الأرض.
*ذكر من قال ذلك:
18143- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن الضحاك، عن ابن عباس أنه قال في قوله: (وفار التنور) ، قال: (التنور) ، وجه الأرض. قال: قيل له: إذا رأيت الماء على وجه الأرض، فاركب أنت ومن معك. قال: والعرب تسمى وجه الأرض: "تنور الأرض".
18144- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن العوام، عن الضحاك، بنحوه.
18145- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا الشيباني، عن عكرمة، في قوله: (وفار التنور) ، قال: وجه الأرض
18146- حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة وسفيان بن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني، عن عكرمة: (وفار التنور) ، قال: وجه الأرض.
* * *
وقال آخرون: هو تنويرُ الصبح، من قولهم: "نوَّرَ الصبح تنويرًا".
*ذكر من قال ذلك:
18147- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا محمد بن فضيل قال، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن عباس مولى أبي جحيفة، عن أبي جحيفة، عن(15/318)
علي رضى الله عنه قوله: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) ، قال: هو تنوير الصبح.
18148- حدثنا ابن وكيع وإسحاق بن إسرائيل قالا حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن زياد مولى أبي جحيفة، عن أبي جحيفة، عن علي في قوله: (وفار التنور) ، قال: تنوير الصبح.
18149- حدثنا حماد بن يعقوب، قال: أخبرنا ابن فضيل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن مولى أبي جحيفة = أراه قد سماه = عن أبي جحيفة، عن علي: (وفار التنور) قال: تنوير الصبح.
18150- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا هشيم، عن ابن إسحاق، عن رجل من قريش، عن علي بن أبي طالب رضى الله عنه: (وفار التنور) ، قال: طلع الفجر.
* * *
18151- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الرحمن بن إسحاق، عن رجل قد سمّاه، عن علي بن أبي طالب قوله: (وفار التنور) ، قال: إذا طلع الفجر.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وفار أعلى الأرض وأشرف مكانٍ فيها بالماء. وقال: "التنور" أشرف الأرض.
*ذكر من قال ذلك:
18152- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) ، كنا نحدّث أنه أعلى الأرض وأشرَفُها، وكان عَلَمًا بين نوح وبين ربّه
18153- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، سمعت قتادة قوله: (وفار التنور) قال: أشرف الأرض وأرفعها فار الماء منه.
* * *(15/319)
وقال آخرون: هو التنور الذي يُخْتَبز فيه.
*ذكر قال ذلك:
18154- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور) ، قال: إذا رأيت تنُّور أهلك يخرج منه الماءُ، فإنه هلاك قومك.
18155- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي محمد، عن الحسن قال: كان تنورًا من حجارة كان لحوّاء حتى صار إلى نوح. قال: فقيل له: إذا رأيت الماء يفورُ من التنور فاركب أنتَ وأصحابك.
18156- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وفار التنور) ، قال: حين انبجس الماء، وأمر نوحٌ أن يركب هو ومن معه في الفلك.
18157- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وفار التنور) ، قال: انبجس الماء منه، آيةً، أن يركب بأهله ومن معه في السفينة.
18158- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه = إلا أنه قال: آيةً، أن يركب أهله ومن معه في السفينة.
18159- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه، إلا أنه قال: آية بأن يركب بأهله ومن معهم في السفينة.
18160- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن ليث، عن مجاهد قال، نبع الماء في التنور، فعلمت به امرأته فأخبرته قال، وكان ذلك في ناحية الكُوفة.(15/320)
18161-. . .. قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا علي بن ثابت، عن السري بن إسماعيل، عن الشعبي: أنه كان يحلف بالله، ما فار التّنُّور إلا من ناحية الكوفة.
18162- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الحميد الحماني، عن النضر أبي عمر الخزاز، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (وفار التنور) ، قال: فار التنُّور بالهند.
18163- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وفار التنور) ، كان آيةً لنوح، إذا خرج منه الماء فقد أتى الناسَ الهلاكُ والغرق.
* * *
وكان ابن عباس يقول في معنى "فار" نبع.
18164- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وفار التنور) ، قال: نبع.
* * *
قال أبو جعفر: و"فوران الماء" سَوْرَة دفعته، يقال منه: "فار الماء يَفُور فَوْرًا وفَؤُورًا وفَوَرَانًا "، (1) وذلك إذا سارت دفعته.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندنا بتأويل قوله: (التنور) ، قول من قال: "هو التنور الذي يخبز فيه"، لأن ذلك هو المعروف من كلام العرب، وكلام الله لا يوجه إلا إلى الأغلب الأشهر من معانيه عند العرب، إلا أن تقوم حجَّة على شيء منه بخلاف ذلك فيسلم لها. وذلك أنه جل ثناؤه إنما خاطبهم بما خاطبهم به، لإفهامهم معنى مَا خاطبهم به.
* * *
= (قلنا) ، لنوح حين جاء عذابنا قومه الذي وعدنا نوحًا أن نعذبهم به، وفار التنور
__________
(1) قوله: " وفؤورا "، حذفها من المطبوعة، وهي ثابتة في المخطوطة.(15/321)
الذي جعلنا فورَانه بالماء آيةَ مجيء عذابنا بيننا وبينه لهلاك قومه = (احمل فيها) ، يعني في الفلك (من كل زوجين اثنين) ، يقول: من كل ذكر وأنثى، كما:-
18165- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (من كل زوجين اثنين) ، قال: ذكر وأنثى من كل صنف.
18166- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18167- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (من كل زوجين اثنين) ، فالواحد "زوج"، و"الزوجين" ذكر وأنثى من كل صنف.
18168-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (من كل زوجين اثنين) ، قال: ذكر وأنثى من كل صنف.
18169-. . . . قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18170- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) ، يقول: من كل صنف اثنين.
18171- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (من كل زوجين اثنين) ، يعني بالزوجين اثنين: ذكر أو أنثى.
* * *
وقال بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين، "الزوجان"، في كلام العرب: الاثنان. قال، ويقال: "عليه زوجَا نِعال"، إذا كانت عليه(15/322)
نعلان، ولا يقال: "عليه زوجُ نعال"، وكذلك: "عنده زوجا حمام"، و"عليه زوجَا قيود". وقال: ألا تسمع إلى قوله: (وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأنْثَى) [سورة النجم: 45] ، فإنما هما اثنان. (1)
* * *
وقال بعض البصريين من أهل العربية في قوله: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين) ، قال: فجعل "الزوجين"، "الضربين"، الذكور والإناث. قال: وزعم يونس أن قول الشاعر: (2)
وَأَنْتَ امْرُؤٌ تَغْدُو عَلَى كُلِّ غِرَّة ... فَتُخْطِئُ فِيهَا مَرَّةً وَتُصِيبُ (3)
يعني به الذئب. قال: فهذا أشذّ من ذلك.
* * *
وقال آخر منهم: "الزوج"، اللون. قال: وكل ضرب يدعى "لونًا"، واستشهد ببيت الأعشى في ذلك:
وَكُلُّ زَوْجٍ مِنَ الدِّيبَاجِ يَلْبَسُهُ ... أَبُو قُدَامَةَ مَحْبُوًّا بِذَاكَ مَعَا (4)
ويقول لبيد:
وَذِي بَهْجَةٍ كَنَّ المقَانِبُ صَوْتَهُ ... وَزَيَّنَهُ أَزْوَاجُ نَوْرٍ مُشَرَّبِ (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الزوجين " فيما سلف 12: 183، 184.
(2) لم أعرف قائله.
(3) اللسان (مرأ) ، ويعني أنه سمى الذئب " امرءا "، جعله إنسانا، فهذا شذوذه.
(4) ديوانه: 86، اللسان (زوج) ، من قصيدته في " هوذة بن علي الحنفي "، وهو " أبو قدامة "، وقبله: مَنْ يَلْقَ هَوْذَةَ يَسْجُدْ غَيْرَ مُتَّئِبٍ ... إذا تَعَصَّبَ فَوْقَ التَّاجِ أوْ وَضَعَا
لَهُ أَكَالِيلُ بِالْيَاقُوتِ زَيَّنَها ... صُوَّاغُها، لاَ تَرَى عَيْبًا ولَا طَبَعَا.
(5) ديوانه: قصيدة 9، البيت: 25، يصف غيثًا تبرجت به الأرض، يقول قبله: وَغَيْثٍ بِدَكْدَاكٍ يَزِينُ وِهَادَهُ ... نَبَاتٌ كوَشْي العَبْقَرِيِّ المُخَلَّبِ
أَرَبَّتْ عَلَيْهِ كُلُّ وَطْفَاءَ جَوْنَةٍ ... هَتُوفٍ مَتَى يُنْزِفُ لَهَا الوَبْلُ تَسْكُبِ
بِذِي بَهْجَةٍ كَنَّ المَقَانِبَ صَوْبُهُ ... وَزَيَّنَهُ أَطْرَافُ نَبْتٍ مُشَرَّبِ
هذه رواية الديوان، وروى أيضًا: " ألوان نور مشرب ". و"الدكداك " ما ارتفع واستوى من الأرض، و " الوهاد "، ما اطمأن من الأرض، و " المخلب "، المخطط، يصف النبت وزهره، كأنه برود مخططة منشورة على الربى والوهاد. و" أربت "، أقامت، و" الوطفاء "السحابة الدانية من الأرض، و" الجونة "، السوداء، وذلك لكثرة مائها، و" هتوف "، يهتف رعدها ويصوت. و" أنزف الشيء "، أذهبه. يقول: أقامت عليه هذه السحابة الكثيرة الماء ترعد، فلما ذهب الوبل، جاءت بمطر سكب. و"البهجة "، زهو النبات، و" كن "، منع وستر، و" المقانب "، جماعة الخيل. و" الصوب " المطر. و"مشرب " أشرب ألوانًا من حمرة وصفرة وخضرة. يقول: جاء المطر فاستتروا به لطوله وارتفاعه. وأما رواية أبي جعفر، فمعناها: أن المقانب منعته أن يرعاه أحد سواهم، فلم يسمع به صوت.(15/323)
وذكر أن الحسن قال في قوله: (وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ) [سورة الذاريات: 49] : السماء زوج، والأرض زوج، والشتاء زوج، والصيف زوج، والليل زوج، والنهار زوج، حتى يصير الأمر إلى الله الفرد الذي لا يشبهه شيء.
* * *
وقوله: (وأهلك إلا من سبق عليه القول) ، يقول: واحمل أهلك أيضًا في الفلك، يعني ب"الأهل"، ولده ونساءه وأزواجه (1) = (إلا من سبق عليه القول) ، يقول: إلا من قلت فيهم إني مهلكه مع مَنْ أُهْلِكُ من قومك.
* * *
ثم اختلفوا في الذي استثناه الله من أهله.
فقال بعضهم: هو بعض نساء نوح.
*ذكر من قال ذلك:
18172- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: (وأهلك إلا من سبق عليه القول) ، قال: العذاب، هي امرأته كانت في الغابرين في العذاب. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأهل " فيما سلف 8: 192.
(2) في المطبوعة: " من الغابرين "، غير ما في المخطوطة وهو صواب محض.(15/324)
وقال آخرون: بل هو ابنه الذي غرق.
*ذكر من قال ذلك:
18173- حدثت عن المسيب، عن أبي روق. عن الضحاك في قوله: (وأهلك إلا من سبق عليه القول) ، قال: ابنه، غرق فيمن غرق.
* * *
وقوله: (ومن آمن) ، يقول: واحمل معهم من صدقك واتبعك من قومك = يقول الله: (وما آمن معه إلا قليل) ، يقول: وما أقرّ بوحدانية الله مع نوح من قومه إلا قليل.
* * *
واختلفوا في عدد الذين كانوا آمنوا معه فحملهم معه في الفلك، فقال بعضهم في ذلك: كانوا ثمانية أنفس.
*ذكر من قال ذلك:
18174- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) ، قال: ذكر لنا أنه لم يتمّ في السفينة إلا نوح وامرأته وثلاثة بنيه، ونساؤهم، فجميعهم ثمانية.
18175- حدثنا ابن وكيع والحسن بن عرفة قالا حدثنا يحيى بن عبد الملك بن أبي غنية، عن أبيه، عن الحكم: (وما آمن معه إلا قليل) ، قال: نوح، وثلاثة بنيه، وأربع كنائنه.
18176- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: حُدّثت أن نوحًا حَمَل معه بنيه الثلاثة، وثلاث نسوة لبنيه، وامرأة نوح، فهم ثمانية بأزواجهم. وأسماء بنيه: يافث، وسام، وحام، وأصاب حام زوجته في السفينة، فدعا نوحٌ أن يغيّر نُطْفته، فجاء بالسُّودان.
* * *(15/325)
وقال آخرون: بل كانوا سبعة أنفس.
*ذكر من قال ذلك:
18177- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش: (وما آمن معه إلا قليل) ، قال: كانوا سبعة: نوح، وثلاث كنائن له، وثلاثة بنين.
* * *
وقال آخرون: كانوا عشرة سوى نسائهم.
*ذكر من قال ذلك:
18178- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما فار التنور، حمل نوح في الفلك من أمره الله به، وكانوا قليلا كما قال الله، فحمل بنيه الثلاثة: سام، وحام، ويافث، ونساءهم، وستة أناسي ممن كان آمن، فكانوا عشرة نفر، بنوح وبنيه وأزواجهم. (1)
* * *
وقال آخرون: بل كانوا ثمانين نفسًا.
*ذكر من قال ذلك:
18179- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: حمل نوح معه في السفينة ثمانين إنسانًا.
18180- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، كان بعضهم يقول: كانوا ثمانين = يعني "القليل" الذي قال الله: (وما آمن معه إلا قليل) .
18181- حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثني حسين بن واقد الخراساني قال، حدثني أبو نهيك قال:
__________
(1) الأثر: 18178 - سلف مختصرًا برقم 14792، وانظر التعليق عليه هناك.(15/326)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41)
سمعت ابن عباس يقول: كان في سفينة نوح ثمانون رجلا أحدهم جُرْهُم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال كما قال الله: (وما آمن معه إلا قليل) ، يصفهم بأنهم كانوا قليلا ولم يحُدّ عددهم بمقدار، ولا خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيح، فلا ينبغي أن يُتَجاوز في ذلك حدُّ الله، إذ لم يكن لمبلغ عدد ذلك حدٌّ من كتاب الله، أو أثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال نوح: اركبوا في الفلك، "بسم الله مجراها ومرساها".
* * *
وفي الكلام محذوف قد استغني بدلالة ما ذكر من الخبر عليه عنه، وهو قوله: (قلنا احمل فيها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا من سبق عليه القول ومن آمن وما آمن معه إلا قليل) = فحملهم نوح فيها = "وقال" لهم، " اركبوا فيها". فاستغني بدلالة قوله: (وقال اركبوا فيها) ، عن حمله إياهم فيها، فتُرك ذكره.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (بسم الله مجراها ومرساها) ، فقرأته عامة قراء أهل المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) ، بضم الميم في الحرفين كليهما. وإذا قرئ كذلك كان من "أجرى" و"أرسى"، وكان فيه وجهان من الإعراب:(15/327)
أحدهما: الرفع بمعنى: بسم الله إجراؤها وإرساؤها = فيكون "المجرى" و"المرسى" مرفوعين حينئذ بالباء التي في قوله: (بسم الله) .
والآخر: النصب، بمعنى: بسم الله عند إجرائها وإرسائها، أو وقت إجرائها وإرسائها = فيكون قوله: (بسم الله) ، كلامًا مكتفيًا بنفسه، كقول القائل عند ابتدائه في عمل يعمله: "بسم الله"، ثم يكون "المجرى" و"المرسى" منصوبين على ما نصبت العرب قولهم: "الحمد لله سِرارَك وإهلالك"، يعنون الهلال أوّله وآخره، كأنهم قالوا: "الحمد لله أوّل الهلال وآخره"، ومسموع منهم أيضا: "الحمدُ لله ما إهلالك إلى سِرارِك". (1)
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفيين: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) ، بفتح الميم من "مجراها"، وضمها من "مرساها"، فجعلوا "مجراها" مصدرًا من "جري يجري مَجْرَى"، و"مرساها" من "أرسَى يُرْسي إرساء". (2)
وإذا قرئ ذلك كذلك، كانَ في إعرابهما من الوجهين، نحو الذي فيهما إذا قرئا: (مُجراها ومُرساها) ، بضم الميم فيهما، على ما بيَّنتُ.
* * *
وروي عن أبي رجاء العطاردي أنه كان يقرأ ذلك: (بِسْمِ اللهِ مُجْرِيهَا وَمُرْسِيهَا) ، بضم الميم فيهما، ويصيرهما نعتًا لله. وإذا قرئا كذلك، كان فيهما أيضًا وجهان من الإعراب، غير أن أحدهما الخفضُ، وهو الأغلب عليهما من وجهي الإعراب، لأن معنى الكلام على هذه القراءة: بسم الله مُجْرى الفلك ومرسيها = ف"المجرى" نعت لاسم الله. وقد يحتمل أن يكون نصبًا، وهو الوجه الثاني، لأنه يحسن دخول الألف واللام في "المجري" و"المرسي"، كقولك: "بسم الله
__________
(1) قال الفراء في معاني القرآن، بعد ذلك: " يريدون: ما بين إهلالك إلى سرارك ".
(2) انظر تفسير " الإرساء " فيما سلف 13: 293.(15/328)
المجريها والمرسيها"، وإذا حذفتا نصبتا على الحال، إذ كان فيهما معنى النكرة، وإن كانا مضافين إلى المعرفة.
* * *
وقد ذكر عن بعض الكوفيين أنه قرأ ذلك: (مَجْرَاهَا ومَرْسَاهَا) ، بفتح الميم فيهما جميعا، من "جرى" و"رسا"، كأنه وجهه إلى أنه في حال جَرْيها وحال رُسُوّها، وجعل كلتا الصفتين للفلك، كما قال عنترة:
فَصَبَرْتُ نَفْسًا عِنْدَ ذَلِكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إذَا نَفَسُ الجبَانِ تَطَلّعُ (1)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي نختارها في ذلك قراءة من قرأ: (بِسْمِ اللهِ مَجْرَاهَا) ، بفتح الميم (وَمُرْسَاهَا) ، بضم الميم، بمعنى: بسم الله حين تَجْري وحين تُرْسي.
وإنما اخترت الفتح في ميم "مجراها" لقرب ذلك من قوله: (وهي تَجْري بهم في موج كالجبال) ، ولم يقل: "تُجْرَى بهم". ومن قرأ: (بسم الله مُجْراها) ، كان الصواب على قراءته أن يقرأ: "وهي تُجْرى بهم". وفي إجماعهم على قراءة (تَجْرِي) ، بفتح التاء دليل واضع على أن الوجه في (مجراها) فتح الميم. وإنما اخترنا الضم في (مرساها) ، لإجماع الحجة من القراء على ضمّها.
ومعنى قوله (مجراها) ، مسيرها = (ومرساها) ، وقفها، من وقَفَها الله وأرساها.
* * *
__________
(1) ديوانه: 89 من أبيات، يقول قبله، يذكر الغراب، ويتشاءم به. إنَّ الَّذِينَ نَعَبْتَ لِي بِفِرَاقِهِمْ ... قَدْ أَسْهَرُوا لَيْلَ التِّمَامِ وأوْجَعُوا
وَعَرَفْتُ أنَّ مَنِيَّتِي إنْ تَأتِنِي ... لا يُنْجِنِي مِنْهَا الفِرَارُ الأسْرَعُ
فَصَبَرْتُ عَارِفَةً لذَلِكَ حُرَّةً ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و" نفس عارفة "، حاملة الشدائد صبور، إذا حملت على أمر احتملته، من طول مكابدتها لأهوال هذه الحياة. و" ترسو "، تثبت. و" تطلع "، تنزو متلفتة إلى مهرب، أو ناصر، من الجزع والرعب.(15/329)
وكان مجاهد يقرأ ذلك بضم الميم في الحرفين جميعًا.
18182- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد =
18183-. . .. قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) ، قال: حين يركبون ويجرون ويرسون.
18184- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: بسم الله حين يركبون ويجرون ويرسون.
18185- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بِسْمِ اللهِ مُجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا) ، قال: بسم الله حين يجرون وحين يرسون.
18186- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، في قوله: (اركبوا فيها بسم الله مجراها ومرساها) قال: إذا أراد أن ترسي قال: "بسم الله " فأرست، وإذا أراد أن تجري قال "بسم الله " فجرت.
* * *
وقوله: (إن ربي لغفور رحيم) ، يقول: إن ربي لساتر ذنوب من تاب وأناب إليه، رحيم بهم أن يعذبهم بعدَ التوبة. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) .(15/330)
وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وهي تجري بهم) ، والفلك تجري بنوح ومن معه فيها = (في موج كالجبال ونادى نوح ابنه) ، يام = (وكان في معزل) ، عنه، لم يركب معه الفلك: (يا بني اركب معنا) ، الفلك = (ولا تكن مع الكافرين) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال ابن نوح لما دعاه نوح إلى أن يركب معه السفينة خوفًا عليه من الغرق: (ساوي إلى جبل يعصمني من الماء) يقول: سأصير إلى جبل أتحصّن به من الماء، (1) فيمنعني منه أن يغرقني.
* * *
ويعني بقوله: (يعصمني) يمنعني، مثل "عصام القربة "، الذي يشدُّ به رأسها، فيمنع الماء أن يسيل منها. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " أوى " فيما سلف 13: 477، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " يعصم " فيما سلف 10: 472، تعليق: 2 / 15: 73.(15/331)
وقوله: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) ، يقول: لا مانع اليوم من أمر الله الذي قد نزل بالخلق من الغرق والهلاك، إلا من رحمنا فأنقذنا منه، فإنه الذي يمنع من شاء من خلقه ويعصم.
* * *
= ف "من" في موضع رفع، لأن معنى الكلام: لا عاصم يَعصم اليوم من أمر الله إلا الله.
* * *
وقد اختلف أهل العربية في موضع "من" في هذا الموضع.
فقال بعض نحويي الكوفة: هو في موضع نصب، لأن المعصوم بخلاف العاصم، والمرحوم معصوم. قال: كأن نصبه بمنزلة قوله: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) [سورة النساء: 157] ، قال: ومن استجاز: (اتِّباعُ الظَّنِّ) ، والرفع في قوله: (1)
وَبَلْدَةٌ لَيْسَ بِهَا أَنِيسُ ... إِلا الْيَعَافِيرُ وَإِلا العِيسُ (2)
لم يجز له الرفع في "من"، لأن الذي قال: "إلا اليعافير"، جعل أنيس البرِّ، اليعافير وما أشبهها. وكذلك قوله: (إلا اتباع الظن) ، يقول علمهم ظنٌّ. قال: وأنت لا يجوز لك في وجه أن تقول: "المعصوم " هو "عاصم " في حال، ولكن لو جعلت "العاصم " في تأويل " معصوم"، [كأنك قلت] : " لا معصوم اليوم من أمر الله"، (3) لجاز رفع "من". قال: ولا ينكر أن يخرج "المفعول" على "فاعل"، ألا ترى قوله: (مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ) ، [سورة الطارق: 6] ، معناه، والله
__________
(1) هو جران العود.
(2) سلف البيت وتخريجه فيما مضى 9: 203.
(3) الزيادة بين القوسين من معاني القرآن للفراء، وهو نص كلامه.(15/332)
أعلم: مدفوق = وقوله: (فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) ، معناها: مرضية؟ قال الشاعر: (1)
دَعِ الْمَكَارِمَ لا تَرْحَلْ لِبُغْيَتِهَا ... وَاقْعُدْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الطَّاعِمُ الْكَاسِي (2)
ومعناه: المكسوُّ.
* * *
وقال بعض نحويّي البصرة: (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم) ، على: "لكن من رحم"، ويجوز أن يكون على: لا ذا عصمة: أي: معصوم، ويكون (إلا من رحم) ، رفعًا بدلا من "العاصم".
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجه لهذه الأقوال التي حكيناها عن هؤلاء، لأن كلام الله تعالى إنما يُوَجَّه إلى الأفصح الأشهر من كلام من نزل بلسانه، ما وُجِد إلى ذلك سبيل.
ولم يضطرَّنا شيء إلى أن نجعل "عاصمًا" في معنى "معصوم"، ولا أن نجعل "إلا" بمعنى "لكن"، إذ كنا نجد لذلك في معناها الذي هو معناه في المشهور من كلام العرب مخرجًا صحيحًا، وهو ما قلنا من أنَّ معنى ذلك: قال نوح: لا عاصم اليوم من أمر الله، إلا من رحمَنا فأنجانا من عذابه، كما يقال: "لا مُنجي اليوم من عذاب الله إلا الله" = " ولا مطعم اليومَ من طعام زيد إلا زيد".
__________
(1) هو الحطيئة.
(2) ديوانه: 54، وطبقات فحول الشعراء: 98، واللسان (طعم) ، (كسا) ، ومعاني القرآن للفراء، وغيرها كثير، في خبره المشهور لما ذم الزبرقان، واستعدى عليه عمر بن الخطاب، وقال عمر لحسان: أهجاه؟ قال: لا، ولكنه ذرق عليه! وقد فسرته على أن " الطاعم " و" الكاسي "، على النسب، أي: ذو الطعام، يشتهيه ويستجيده من شرهه = وذو الكسوة، يتخيرها ويتأنق فيها، لا هم له في المكارم. ولذلك قال الزبرقان لعمر: أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس! ! ومثل هذا قول عبد الرحمن بن حسان: إنِّي رأَيْتُ مِنَ المَكَارِمِ حَسْبَكُم ... أَن تَلْبَسُوا حُرَّ الثِّيَابِ وَتَشْبَعُوا
.(15/333)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
فهذا هو الكلام المعروف والمعنى المفهوم.
* * *
وقوله: (وحال بينهما الموج فكان من المغرقين) ، يقول: وحال بين نوح وابنه موجُ الماء فغرق، (1) فكان ممن أهلكه بالغرق من قوم نوح صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) }
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وقال الله للأرض بعد ما تناهَى أمرُه في هلاك قوم نوح بما أهلكهم به من الغرق: (يا أرض ابلعي ماءك) ، أي: تشرَّبي.
* * *
= من قول القائل: "بَلِعَ فلان كذا يَبْلَعُه"، أو بَلَعَه يَبْلَعُه"، إذا ازدَردَه. (2)
* * *
= (ويا سماء أقلعي) ، يقول: أقلعي عن المطر، أمسكي = (وغيض الماء) ، ذهبت به الأرض ونَشِفته، (وقضي الأمر) ، يقول: قُضِي أمر الله، فمضى بهلاك قوم نوح (3) = (واستوت على الجوديّ) ، يعني الفلك = "استوت": أرست = "على الجودي"، وهو جبل، فيما ذكر بناحية الموصل أو الجزيرة،
__________
(1) انظر تفسير " حال " فيما سلف 13: 472.
(2) الذي في المعاجم " بلع " (بفتح فكسر) ، أما " بلع " (بفتحتين) ، فقد ذكرها ابن القطاع في كتاب الأفعال 1: 85 وفرق بينهما وقال: " بَلِعَ الطعام بَلْعًا، وبَلَعَ الماء والربق بَلْعًا "، وذكر أيضا ابن القوطية في كتاب الأفعال: 281، مثل ذلك.
(3) انظر تفسير " قضى " فيما سلف من فهارس اللغة (قضى) .(15/334)
= (وقيل بعدًا للقوم الظالمين) ، يقول: قال الله: أبعد الله القوم الظالمين الذين كفروا بالله من قوم نوح. (1)
* * *
18187- حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال، حدثنا المحاربي، عن عثمان بن مطر، عن عبد العزيز بن عبد الغفور، عن أبيه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في أول يوم من رجب ركب نوح السفينة، فصام هو وجميع من معه، وجرت بهم السفينة ستةَ أشهر، فانتهى ذلك إلى المحرم، فأرست السفينة على الجوديّ يوم عاشوراء، فصام نوح، وأمر جميع من معه من الوحش والدوابّ فصامُوا شكرًا لله. (2)
18188- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كانت السفينة أعلاها للطير، ووسطها للناس، وفي أسفلها السباع، وكان طولها في السماء ثلاثين ذراعًا، ودفعت من عَين وردة يوم الجمعة لعشر ليالٍ مضين من رجب، وأرست على الجوديّ يوم عاشوراء، ومرت بالبيت فطافت به سبعًا، وقد رفعه الله من الغرق، ثم جاءت اليمن، ثم رجعت. (3)
__________
(1) انظر تفسير " استوى " فيما سلف ص: 18، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 18187 - " عباد بن يعقوب الأسدي "، شيخ الطبري، ثقة في الحديث، شيعي الرأي، مضى برقم: 5475." والمحاربي "، هو " عبد الرحمن بن محمد المحاربي "، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى مرارًا." وعثمان بن مطر الشيباني "، ضعيف منكر الحديث، متروك. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 169.وأما "عبد العزيز بن عبد الغفور "، فهذا اسم مقلوب، وإنما هو " عبد الغفور بن عبد العزيز " ويقال: " عبد الغفار بن عبد العزيز " ويروى عنه " عثمان بن مطر ". وهو كذاب خبيث كان يضع الحديث، ومضى برقم: 14776. ولكن العجب أن أبا جعفر رواه في تاريخه مقلوبًا أيضًا.وأبوه " عبد العزيز الشامي "، لم أجد له ذكرًا، كما أسلفت في رقم: 14776، وأخشى أن يكون هذا الإسناد: " عن أبيه، عن أبيه "، كما سلف.وهذا خبر هالك من نواحيه جميعًا، ووقع فيه الخلط في اسم " عبد الغفور " جزاء ما خلط في أحاديثه ومناكيره.ورواه أبو جعفر في تاريخه أيضًا 1: 96.
(3) الأثر: 18188 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 96.(15/335)
18189- حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر الرازي، عن قتادة، قال: هبط نوح من السفينة يوم العاشر من المحرم، فقال لمن معه: من كان منكم اليوم صائما فليتم صومه، ومن كان مفطرًا فليصم. (1)
18190- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس قال: [ما] كان زَمَن نوحٍ شبر من الأرض، إلا إنسانٌ يَدَّعيه. (2)
18191- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنَّها = يعني الفُلك = استقلَّت بهم في عشر خلون من وجب، وكانت في الماء خمسين ومائة يوم، واستقرت على الجودي شهرًا، وأهبط بهم في عشر [خَلَوْن] من المحرم يوم عاشوراء. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل قوله: (وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي) ، قال أهل التأويل.
* * *
ذكر من قال ذلك:
18192- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وغيض السماء) ، قال: نقص = (وقضي الأمر) ، قال: هلاك قوم نوح
18193- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. -
18194 حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
__________
(1) الأثر: 18189 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 96.
(2) الأثر: 18190 - كان في المخطوطة: " قال: كان زمن نوح شبر عن الأرض لإنسان يدعيه "، وكان في المطبوعة:" كان في زمن نوح شبر عن الأرض لا إنسان يدعيه" فزاد، وأساء القراءة، وأفسد الكلام. والصواب من تاريخ الطبري 1: 96. وقوله: " إلا إنسان يدعيه "، أي: يدعى أن الماء لم يعم الأرض كلها.
(3) الأثر: 18191 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 96، والزيادة بين القوسين منه.(15/336)
عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله. قال: قال ابن جريج (وغيض الماء) ، نَشِفَتهُ الأرض. (1)
18195- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يا سماء أقلعي) ، يقول: أمسكي (وغيض الماء) ، يقول: ذهب الماء.
18196- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وغيض الماء) ، والغُيوض ذهاب الماء = (واستوت على الجودي) .
18197- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واستوت على الجودي) ، قال: جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال من الغَرَق، وتواضع هو لله فلم يغرق، فأرسيتْ عليه.
18198- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واستوت على الجودي) ، قال: الجودي جبل بالجزيرة، تشامخت الجبال يومئذ من الغَرَق وتطاولت، وتواضع هو لله فلم يغرق، وأرسيت سفينة نوح عليه
18199- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18200- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (واستوت على الجودي) ، يقول: على الجبل؛ واسمه "الجودي"
18201- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان: (واستوت على الجودي) ، قال: جبل بالجزيرة، شمخت الجبال، وتواضعَ
__________
(1) " نشفت الأرض الماء، نشفًا " (بفتح النون وكسر الشين، في الفعل) ، شربته.(15/337)
حين أرادت أن ترفأ عليه سفينة نوح. (1)
18202- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (واستوت على الجودي) ، أبقاها الله لنا بوادي أرض الجزيرة عبرة وآية.
18203- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: (واستوت على الجودي) ، هو جبل بالموصل.
18204- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نوحًا بعث الغراب لينظر إلى الماء، فوجد جيفة فوقع عليها، فبعث الحمامة فأتته بورق الزيتون، فأعْطيت الطوقَ الذي في عنقها، وخضابَ رجليها.
18205- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما أراد الله أن يكفّ ذلك = يعني الطوفان = أرسل ريحًا على وجه الأرض، فسكن الماء، واستدَّت ينابيع الأرضِ الغمرَ الأكبر، وَأبوابُ السماء. (2) يقول الله تعالى: (وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي) ، إلى: (بعدًا للقوم الظالمين) ، فجعل ينقص ويغيض ويُدبر. وكان استواء الفلك على الجودي، فيما يزعم أهل التوراة، في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه، في أول يوم من الشهر العاشر، رئي رءوس الجبال. فلما مضى بعد ذلك أربعون يومًا، فتح نوح كُوَّة الفلك التي صنع فيها، ثم أرسلَ الغراب لينظر له ما فعل الماءُ، فلم يرجع إليه. فأرسل
__________
(1) " رفأ السفينة يرفؤها "، أدناها من الشط، فعل متعد، و" أرفأت السفينة نفسها "، لازم، ولكن هكذا جاء في المخطوطة " أرادت أن ترفأ "، وعندي أنه جائز أن يقال: " رفأت السفينة نفسها "، لازما.
(2) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " الغمر الأكبر "، وأنا أرجح أنه خطأ محض، وأن الصواب: " الغوط الأكبر "، وبهذا اللفظ رواه صاحب اللسان في مادة (غوط) . وقد سبق تفسير " الغوط الأكبر" في الأثر رقم: 18138 ص: 315، تعليق: 2.(15/338)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45)
الحمامةَ، فرجعت إليه، ولم يجد لرجليها موضعًا، فبسط يده للحمامة، فأخذها. ثم مكث سبعة أيام، ثم أرسلها لتنظر له، فرجعت حين أمست، وفي فيها ورَق زيتونة، فعلم نوح أن الماء قد قلَّ عن وجه الأرض. ثم مكث سبعة أيام، ثم أرسلها فلم ترجع، فعلم نوح أن الأرض قد برَزَت، فلما كملت السنة فيما بين أن أرسل الله الطوفان إلى أن أرسل نوح الحمامة، ودخل يوم واحد من الشهر الأوّل من سنة اثنتين، برز وجه الأرض، فظهر اليبس، وكشف نوح غطاء الفلك، ورأى وجه الأرض. وفي الشهر الثاني من سنة اثنتين في سبع وعشرين ليلة منه قيل لنوح: (اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
18206- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: تزعُم أناسٌ أن من غرق من الولدان مع آبائهم، وليس كذلك، إنما الولدان بمنزلة الطير وسائر من أغرق الله بغير ذنب، ولكن حضرت آجالهم فماتوا لآجالهم، والمدرِكون من الرجال والنساء كان الغرق عقوبة من الله لهم في الدنيا، ثم مصيرهم إلى النار.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ونادى نوح ربه فقال: ربِّ إنك وعدتني أن تنجيني من الغرق والهلاك وأهلي، وقد هلك ابني، وابني من أهلي (1) = (وإن وعدك الحقُّ) ، الذي لا خلف له = (وأنت أحكم الحاكم) ، بالحق، فاحكم لي بأن تفي بما وعدتني، من أنْ تنجّي لي أهلي، وترجع إليَّ ابني، كما:-
__________
(1) انظر تفسير " الأهل " فيما سلف ص. . .، تعليق:. . .، والمراجع هناك.(15/339)
18207- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وأنت أحكم الحاكمين) ، قال: أحكم الحاكمين بالحق.
* * *(15/340)
قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) }
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: قال الله يا نوح إن الذي غرقته فأهلكته الذي تذكر أنه من أهلك ليس من أهلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله: (ليس من أهلك) .
فقال بعضهم: معناه: ليس من ولدك، هو من غيرك. وقالوا: كان ذلك من حِنْثٍ. (1)
*ذكر من قال ذلك:
18208- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، في قوله: (إنه ليس من أهلك) ، قال: لم يكن ابنه.
18209- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر: (ونادى نوح ابنه) ، قال: ابن امرأته.
18210- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم، [عن] الحسن قال: لا والله، ما هو بابنه. (2)
__________
(1) " الحنث " (بكسر الحاء وسكون النون) ، الذنب والمعصية. وفي الحديث " يكثر فيهم أولاد الحنث "، أي: أولاد الزنا. ويروى " الخبث " (بالخاء مضمومة والثاء) ، من " الخبث "، وهو الفساد والفجور. وفي الحديث: " إذا كثر الخبث كان كذا وكذا "، أي: الفسق والفجور. وفي الحديث " أنه أتى برجل مخدج سقيم، وجد مع أمة يخبث بها "، أي: يزني بها. ويقال: " هو ابن خبثة "، لابن الزنية، ولد لغير رشدة.
(2) الأثر: 18210 - كان في المطبوعة: " عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم الحسن "، وهو كلام لا معنى له، وخاصة بعد تصرفه في نص المخطوطة، لأنه لم يفهم معنى هذا الإسناد، إذ كان فيها: " عن أصحاب ابن أبي عروبة فيهم الحسن "، وهذا أيضًا فاسد، يصلحه ما زدته بين القوسين، فإن " ابن علية " يروي عن " سعيد بن أبي عروبة "، و " ابن أبي عروبة " روى عن " الحسن البصري ".(15/340)
18211-. . . . قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر: (ونادى نوح ابنه) ، قال: هذه بلغة طيّ لم يكن ابنه، كان ابن امرأته.
18212- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن عوف، ومنصور، عن الحسن في قوله: (إنه ليس من أهلك) ، قال: لم يكن ابنه. وكان يقرؤها: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) (1)
18213- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كنت عند الحسن فقال: "نادى نوح ابنه"، لعمْر الله ما هو ابنه! قال: قلت: يا أبا سعيد يقول: (ونادى نوح ابنه) ، وتقول: ليس بابنه؟ قال: أفرأيت قوله: (إنه ليس من أهلك) ؟ قال: قلت إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك، (2) ولا يختلف أهل الكتاب أنه ابنه. قال: إن أهل الكتاب يكذبون.
18214- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: سمعت الحسن يقرأ هذه الآية: (إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) ، فقال عند ذلك: والله ما كان ابنه. ثم قرأ هذه الآية: (فَخَانَتَاهُمَا) ، [سورة التحريم: 10] قال سعيد: فذكرت ذلك لقتادة، قال: ما كان ينبغي له أن يحلف!
18215- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) ، قال: تبيّن لنوح أنه ليس بابنه.
__________
(1) الأثر: 18212 - انظر ما سيأتي رقم: 18246.
(2) في المخطوطة: " إنه ليس من أهلي "، وفوقها حرف (ط) دلالة على الخطأ.(15/341)
18216- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) ، قال: بين الله لنوح أنه ليس بابنه.
18217- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد مثله.
18218- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
قال ابن جريج في قوله: (ونادى نوح ابنه) ، قال: ناداه وهو يحسبه أنه ابنه وكان وُلد على فراشه
18219- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن ثوير، عن أبي جعفر: (إنه ليس من أهلك) ، قال: لو كان من أهله لنجا. (1)
18220- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، سمع عبيد بن عمير يقول: نرى أن ما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش"، من أجل ابن نوح.
18221- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن قال: لا والله ما هو بابنه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (ليس من أهلك) الذين وعدتك أن أنجيهم.
*ذكر من قال ذلك:
18222- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن يمان، عن
__________
(1) الأثر: 18219 - " ثوير "، هو " ثوير بن أبي فاختة "، ضعيف، مضى مرارًا، آخرها برقم: 9833. وكان في المطبوعة: " ثور "، والصواب من المخطوطة.(15/342)
سفيان، عن أبي عامر، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله: (ونادى نوح ابنه) ، قال: هو ابنه.
18223- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن سفيان قال، حدثنا أبو عامر، عن الضحاك قال: قال ابن عباس: هو ابنه، ما بغت امرأة نبيٍّ قطُّ.
18224- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا الثوري، عن أبي عامر الهمدانيّ، عن الضحاك بن مزاحم، عن ابن عباس قال، ما بغت امرأة نبي قط. قال: وقوله: (إنه ليس من أهلك) ، الذين وعدتك أن أنجيهم معك.
18225- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وغيره، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هو ابنه: غير أنه خالفه في العمل والنية = قال عكرمة في بعض الحروف: (إِنَّهُ عَمِلَ عَمَلا غَيْرَ صَالِحٍ) ، والخيانة تكون على غير بابٍ.
18226- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان عكرمة يقول: كان ابنه، ولكن كان مخالفًا له في النية والعمل، فمن ثم قيل له: (إنه ليس من أهلك) .
18227- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري وابن عيينة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة قال: سمعت ابن عباس يُسْأل وهو إلى جنب الكعبة عن قول الله تعالى: (فَخَانَتَاهُمَا) ، [سورة التحريم: 10] ، قال: أما إنه لم يكن بالزنا، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون، وكانت هذه تدل، على الأضياف. ثم قرأ: (إنه عملٌ خير صالح) = قال ابن عيينة: وأخبرني عمار الدُّهني: أنه سأل سعيد بن جبير عن ذلك فقال: كانَ ابن نوح، إن الله لا يكذب! قال: (ونادى نوح(15/343)
ابنه) ، قال: وقال بعض العلماء: ما فجرت امرَأة نبيٍّ قط.
18228- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمار الدهني، عن سعيد بن جبير قال: قال الله، وهو الصادق، وهو ابنه: (ونادى نوح ابنه) .
18229- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبن يمان، عن سعيد، عن موسى بن أبي عائشة، عن عبد الله بن شداد، عن ابن عباس قال: ما بَغَت امرأة نبي قط.
18230- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال: سألت أبا بشر عن قوله: (إنه ليس من أهلك) ، قال: ليس من أهل دينك، وليس ممن وعدتك أن أنجيهم = قال يعقوب: قال هشيم: كان عامة ما كان يحدِّثنا أبو بشر عن سعيد بن جبير.
18231- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن عبيد، عن يعقوب بن قيس قال: أتى سعيد بن جبير رجلٌ فقال: يا أبا عبد الله، الذي ذكر الله في كتابه "ابن نوح" أبنُه هو؟ قال: نعم، والله إن نبيَّ الله أمره أن يركب معه في السفينة فعصى، فقال: (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء) ، قال: (يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح) ، لمعصية نبي الله.
18232- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير: أنه جاء إليه رجل فسأله. فقال: أرأيتك ابن نُوح أبنه؟ فسبَّحَ طويلا ثم قال: لا إله إلا الله، يحدِّث الله محمدًا: (ونادى نوح ابنه) وتقول ليس منه؟ ولكن خالفه في العمل، فليس منه من لم يؤمن.
18233- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن أبي هارون الغنوي، عن عكرمة في قوله: (ونادى نوح ابنه) ، قال: أشهد أنه ابنه، قال الله:(15/344)
(ونادى نوح ابنه) .
18234- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قالا هو ابنه.
18235- حدثني فضالة بن الفضل الكوفي قال، قال بزيع: سأل رجل الضحاك عن ابن نوح، فقال: ألا تعجبون إلى هذا الأحمق! يسألني عن ابن نوح، وهو ابن نوح كما قال الله: قال نوح لابنه. (1)
18236- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك أنه قرأ: (ونادى نوح ابنه) ، وقوله: (ليس من أهلك) ، قال: يقول: ليس هو من أهلك. قال: يقول: ليس هو من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجى من أهلك = (إنه عمل غير صالح) ، قال: يقول كان عمله في شرك.
18237- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك قال، هو والله ابنه لصُلْبه.
18238- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (ليس من أهلك) ، قال: ليس من أهل دينك، ولا ممن وعدتك أن أنجيه، وكان ابنه لصلبه.
18239- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
__________
(1) الأثر: 18235 - " فضالة بن الفضل بن فضالة التميمي الطهوي الكوفي "، شيخ الطبري، صدوق ربما أخطأ. مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3 / 2 / 79.
و" بزيع " هو اللحام، أبو حازم، وهو "بزيع بن عبد الله " سمع الضحاك. كان أبو نعيم يتكلم فيه، وضعفه النسائي وغيره. وقال ابن عدي: " إنما أنكروا عليه ما يحكيه عن الضحاك من التفسير ولا يتابع عليه ". مترجم في الكبير 1 / 2 / 130، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 420، ولسان الميزان 2: 12، وميزان الاعتدال 1: 143. وهكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة في آخر الخبر: " كما قال الله، قال نوح لابنه "، والآية: " ونادى نوح ابنه "، وأخشى أن يكون أراد: " قال نوح لابنه: يا بني اركب معنا ".(15/345)
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك) ، يقول: ليس ممن وعدناه النجاة.
18240- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إنه ليس من أهلك) ، يقول: ليس من أهل ولايتك، ولا ممن وعدتك أن أنجي من أهلك = (إنه عمل غير صالح) ، يقول: كان عمله في شرك.
18241- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا خالد بن حيان، عن جعفر بن برقان، عن ميمون، وثابت بن الحجاج قالا هو ابنه، ولد على فراشه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل ذلك: إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم، لأنه كان لدينك مخالفًا، وبي كافرًا = وكان ابنه لأن الله تعالى ذكره قد أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه فقال: (ونادى نوح ابنه) ، وغير جائز أن يخبر أنه ابنه فيكون بخلاف ما أخبر. وليس في قوله: (إنه ليس من أهلك) ، دلالةٌ على أنه ليس بابنه، إذ كان قوله: (ليس من أهلك) ، محتملا من المعنى ما ذكرنا، ومحتملا أنه ليس من أهل دينك، ثم يحذف "الدين" فيقال: (إنه ليس من أهلك) ، كما قيل: (واسأل القرية التي كنا فيها) ، [سورة يوسف: 82] .
* * *
وأما قوله: (إنه عمل غير صالح) ، فإن القراء اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قراء الأمصار: (إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) بتنوين "عمل" ورفع "غير".
* * *
واختلف الذين قرءوا ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: إن مسألتك إياي هذه عمل غير صالح.(15/346)
*ذكر من قال ذلك:
18242- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: (إنه عمل غير صالح) ، قال: إن مسألتك إياي هذه عملٌ غير صالح.
18243- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إنه عمل غير صالح) ، أي سوء (1) = (فلا تسألن ما ليس لك به علم) .
18244- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إنه عمل غير صالح) ، يقول: سؤالك عما ليس لك به علم.
18245- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن حمزة الزيات، عن الأعمش، عن مجاهد قوله: (إنه عمل غير صالح) ، قال: سؤالك إياي، عمل غير صالح = (فلا تسألن ما ليس لك به علمٌ) .
* * *
وقال آخرون: بل معناه: إن الذي ذكرت أنّه ابنك فسألتني أن أنجيه، عملٌ غير صالح، أي: أنه لغير رشدة. وقالوا: "الهاء"، في قوله: "إنه" عائدة على "الابن".
*ذكر من قال ذلك:
18246- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن أنه قرأ: (عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ، قال: ما هو والله بابنه. (2)
* * *
وروي عن جماعة من السلف أنهم قرءوا ذلك: (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ) ،
__________
(1) أخشى أن يكون الصواب: " أي سؤالك إياي "، ولكن هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة.
(2) الأثر: 18246 - انظر ما سلف رقم: 18212.(15/347)
على وجه الخبر عن الفعل الماضي، وغير منصوبة. وممن روي عنه أنه قرأ ذلك كذلك، ابنُ عباس.
18247- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عينة، عن موسى بن أبي عائشة، عن سليمان بن قتة، عن ابن عباس أنه قرأ: (عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ) .
* * *
ووجَّهوا تأويل ذلك إلى ما:-
18248- حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس: (إِنَّهُ عَمِلَ غَيْرَ صَالِحٍ) ، قال: كان مخالفًا في النية والعمل.
* * *
قال أبو جعفر: = ولا نعلم هذه القراءة قرأ بها أحد من قراء الأمصار، إلا بعض المتأخرين، واعتلَّ في ذلك بخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ ذلك كذلك، غيرِ صحيح السند. وذلك حديث روي عن شهر بن حوشب، فمرة يقول: "عن أم سلمة"، ومرة يقول: "عن أسماء بنت يزيد"، ولا نعلم أبنت يزيد [يريد] ؟ (1) ولا نعلم لشهر سماعًا يصح عن أمّ سلمة.
__________
(1) في المطبوعة: " ولا نعلم لبنت يزيد، ولا نعلم لشهر. . . "، وفي المخطوطة مثله، إلا أن فيها: " أبنت يريد "، ورأيت أن أبا جعفر أراد ما أثبت، بهذه الزيادة بين القوسين، وكأنه يقول: إنه يقول مرة " أم سلمة " ومرة " أسماء بنت يزيد "، ولا نعلم أهي التي يريد بقوله: " أم سلمة "، أم غيرها، وانظر التعليق التالي.(15/348)
(1)
* * *
__________
(1) . . . حديث شهر بن حوشب عن أسماء بنت يزيد، أو " أم سلمة "، لم يذكر أبو جعفر إسناده، وسأفصل القول فيه في هذا الموضع، فإن أبا جعفر لم يوف الأمر حقه، ولم يبينه بيانًا شافيًا.
1 - وهذا الحديث، رواه أحمد في مسنده في ثلاثة مواضع 6: 454، 459، 460، كلها من طريق: حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن شهر بن حوشب، عن " أسماء بنت يزيد "، والطريق الأولى والثالثة، مطولة، فيها قراءة آية سورة الزمر: 53
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا وَلاَ يُبَالِي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} .
2 - ومن هذه الطريق نفسها، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: 226، رقم: 1631، مقتصرًا على الآية الأولى، " شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد الأنصارية ".
3 - ورواه أبو داود في سننه 4: 47، من طريقين، رقم: 3982، 3983. الأولى: حماد، عن ثابت، عن شهر، عن أسماء بنت يزيد.
الثانية: عبد العزيز بن المختار، عن ثابت، عن شهر قال: سألت أم سلمة: كيف كان رسول الله يقرأ هذه الآية؟
4 - ورواه الترمذي في " القراءات "، من طريق عبد الله بن حفص، عن ثابت البناني، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة.
وقال: وقد روي هذا الحديث أيضًا عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد.
5 - ورواه أبو نعيم في الحلية 8: 301، من طريق محمد بن ثابت البناني، عن ثابت البناني، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة. " وقال: حديث مشهور من حديث ثابت "، وانظر رقم (8) ، فإن الطيالسي جعله من حديث أم سلمة أم المؤمنين.
6 - ورواه الحاكم في المستدرك 2: 249، مقتصرًا على آية " سورة الزمر "، التي ذكرتها في رقم: 1، من طريق حماد بن سلمة، عن ثابت، عن شهر، عن أسماء بنت يزيد، ثم قال: " هذا حديث غريب عال، ولم أذكر في كتابي هذا عن شهر، غير هذا الحديث الواحد ".
7 - ورواه أحمد في مسنده 6: 294، 322، من طريق هارون النحوي، عن ثابت البناني، عن أبيه، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة (وذلك في مسند أم سلمة أم المؤمنين. (وظني أن أبا جعفر ذهب إلى أن شهرًا دلس في هذا الحديث، فلا يعلم أأراد " أسماء بنت يزيد الأنصارية "، أم " أم سلمة " أم المؤمنين، ولذلك قال بعد: "ولا نعلم لشهر سماعًا يصح عن أم سلمة "، ولا شك أن الطبري عنى هنا " أم سلمة " أم المؤمنين." وأسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية "، هي مولاة " شهر بن حوشب "، وكنيتها " أم سلمة "، فلذلك صرح باسمها مرة، وكناها أخرى، وهذا لا يضر. و" شهر بن حوشب "، كان أروى الناس عن مولاته " أم سلمة "، "أسماء بنت يزيد " وقال أحمد: " ما أحسن حديثه "، ووثقه، وقال: " روى عن أسماء أحاديث حسانًا ".وقال الترمذي، بعد أن ساق الخبر، " وسمعت عبد بن حميد يقول: أسماء بنت يزيد، هي أم سلمة الأنصارية، كلا الحديثين عندي واحد. وقال روى شهر بن حوشب غير حديث عنه أم سلمة الأنصارية، وهي أسماء بنت يزيد. وقد روى عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو هذا " وسنذكر حديث عائشة بعد. ومع ذلك، فرواية شهر بن حوشب، عن " أم سلمة " أم المؤمنين قد ذكر البخاري في الكبير 2 / 2 / 259، فقال: " سمع أم سلمة "، ولم يزد، ولم يذكر " أسماء بنت يزيد "، ومن أجل ذلك خشيت أن يكون البخاري أراد " أم سلمة، " أسماء بنت يزيد "، لا أم المؤمنين. وأما ابن أبي حاتم 2 / 1 / 382 فذكر أنه: " روى عن أم سلمة، وأسماء بنت يزيد "، ففرق، ودل التفريق على أنه أراد " أم سلمة "، أم المؤمنين. صرح الحافظ ابن حجر في ترجمته، بسماعه عن " أم سلمة " أم المؤمنين. وروايته عن أم المؤمنين جائزة، فإن " أم سلمة " زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم، توفيت على الصحيح سنة 61 أو سنة: 62. وشهر بن حوشب عاش ثمانين سنة، ومات سنة 100، ويقال سنة 111، أو سنة 112. فسماعه منها لا ينقضه شيء من شبهة العمر. أما الرواية، فقد صحح العلماء أنه روى عنها. فرد الطبري روايته بأنه لا يعلم له سماعًا عن أم المؤمنين، لا يقوم على شيء، فقد عرف ذلك غيره. بيد أن الحافظ بن حجر، نقل في ترجمة " شهر بن حوشب "، فذكر عن صالح بن محمد، بعد توثيقه شهرًا، وأنه لم يوقف له على كذب، ثم قال: "ويروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث في القراءات، لا يأتي بها غيره ". وقد كان شهر قارئا، ذكر ذلك الطبري نفسه، حتى قال أيوب بن أبي حسين: " ما رأيت أحدًا أقرأ لكتاب الله منه "، فإن يكن في حديث شهر شيء، فإنما هو غرابة خبره، وهذا لا يضر إذا صح الإسناد. ولكن يبقى الإشكال من ناحية أخرى، رواية أحمد من طريق هارون النحوي، عن ثابت البناني نفسه (كما في رقم 7) ، والذي رواه الطيالسي رقم (8) من طريق محمد بن ثابت، عن ثابت، يضم إليه رقم (5) من رواية أبي نعيم، ويضم إليها، الطريق الثانية من رقم (3) ، ثم رقم (4) من رواية الترمذي، وإن كان قد نقل عن " عبد بن حميد "، أنهما واحد. كما سلف. ورواية هذه الأخبار كلها تدور على " ثابت البناني، عن شهر "، فكأن ثابتًا البناني، رواه عن شهر عن: أم سلمة أسماء بنت يزيد = وعنه عن أم سلمة أم المؤمنين، فهما حديثان لا شك في ذلك، لا كما قال " عبد بن حميد "، ولكن هل روى ذلك أحد عن أم سلمة أم المؤمنين، غير شهر بن حوشب؟ لا أدري. فإذا صح أن شهرًا قد انفرد به عن أم المؤمنين، فهل وقع الخطأ في ترك الفصل بينهما، من ثابت أم من الذي يليه؟ لا أدري أيضًا. وإذا كانا حديثًا واحدًا، فكيف وقع التفريق في المسانيد، فجعل حديثين، وكيف وقع هذا التفريق؟ ولم وقع؟ ألمجرد الشبهة من قبل الكنية " أم سلمة "؟ هذا موضع يحتاج إلى تفصيل دقيق. وهذا، فيما أظن، هو الذي جعل أبا جعفر الطبري، يشكك في رواية الخبر، لاختلاطه، ولكنه علله بغير علة الاختلاط والاضطراب كما رأيت. * * * وأما حديث عائشة، الموافق لحديث أم سلمة، في هذه القراءة، فقد رواه البخاري في الكبير 1 / 1 / 286، 287، من طريق إبراهيم بن الزبرقان، عن أبي روق، عن محمد بن جحادة، عن أبيه، عن عائشة، ثم رواه أيضًا منها 1 / 2 / 251.ورواه الحاكم في المستدرك من هذه الطريق نفسها، وقال الذهبي تعليقا عليه " إسناده مظلم ". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 155، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه حميد بن الأزرق، ولم أعرفه. وبقية رجاله ثقات ". والكلام في حديث عائشة يطول، ففي رواية محمد بن جحادة الإيامي، عن أبيه، كلام ليس هذا موضع تحقيقه.(15/349)
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا ما عليه قراء الأمصار، وذلك رفع (عَمَلٌ) بالتنوين، ورفع (غَيْرُ) ، يعني: إن سؤالك إياي ما تسألنيه في أبنك = المخالفِ دينَك، الموالي أهل الشرك بي من النجاة من الهلاك، وقد مضت إجابتي إياك في دعائك: (لا تَذَر على الأرض مع الكافرين ديَّارًا) ، ما قد مضى من غير استثناء أحد منهم = (1) عملٌ غير صالح، لأنَّه مسألة منك إليّ أن لا أفعل ما قد تقدّم مني القول بأني أفعله، في إجابتي مسألتك إياي فعله. فذلك هو العمل غير الصالح.
* * *
وقوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) ، نهيٌ من الله تعالى ذكرهُ نبيه نوحًا أن يسأله أسباب أفعاله التي قد طوى علمها عنه وعن غيره من البشر. يقول له تعالى ذكره: إني يا نوح قد أخبرتك عن سؤالك سبب إهلاكي ابنك الذي أهلكته، فلا تسألن بعدها عما قد طويتُ علمه عنك من أسباب أفعالي، وليس لك به علم= "إني أعظك أن تكون من الجاهلين" في مسألتك إياي عن ذلك.
* * *
وكان ابن زيد يقول في قوله: (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) ، ما:-
18249- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إني أعظك أن تكون من الجاهلين) ، أنْ تبلغ الجهالة بك أن لا أفي لك بوعد وعدتك، حتى تسألني ما ليس لك به علم = (وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين) .
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (فلا تسألن ما ليس لك به علم) ، فقرأ ذلك عامة قراء الأمصار (فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْم) ، بكسر النون وتخفيفها = ونحْوًا بكسرها إلى الدلالة على "الياء" التي هي كناية اسم الله
__________
(1) السياق: " إن سؤالك إياي. . . عمل غير صالح "، فقوله " عمل "، خبر " إن " في صدر الجملة.(15/350)
قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
[في] : فلا تسألني. (1)
وقرأ ذلك بعض المكيين وبعض أهل الشام: (فَلا تَسْأَلَنَّ) ، بتشديد النون وفتحها بمعنى: فلا تسألنَّ يا نوح ما ليس لك به علم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، تخفيفُ النون وكسرها، لأن ذلك هو الفصيح من كلام العرب المستعمل بينهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم، عن إنابة نوح عليه السلام بالتوبة إليه من زلَّته، في مسألته التي سألَها ربَّه في ابنه: (قال ربّ إني أعوذ بك) ، أي: أستجير بك أن أتكلف مسألتك ما ليس لي به علم، (2) مما قد استأثرت بعلمه، وطويت علمه عن خلقك، فاغفر لي زلتي في مسألتي إياك ما سألتك في ابني، وإن أنت لم تغفرها لي وترحمني فتنقذني من غضبك = (أكن من الخاسرين) ، يقول: من الذين غبنوا أنفسهم حظوظَها وهلكوا. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " كناية اسم الله فلا تسألن " وبنون مفردة في آخرها. والصواب، إن شاء الله، ما أثبت، بزيادة " في "، وزيادة الياء في " تسألني ".
(2) انظر تفسير " عاذ " فيما سلف 13: 332، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف من فهارس اللغة (خسر) .(15/352)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
القول في تأويل قوله تعالى: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا نوح، اهبط من الفلك إلى الأرض (1)
(بسلام منا) ، يقول: بأمن منا أنت ومن معك من إهلاكنا (2) = (وبركات عليك) ، يقول: وببركات عليك (3) = (وعلى أمم ممن معك) ، يقول: وعلى قرون تجيء من ذرية من معك من ولدك. فهؤلاء المؤمنون من ذرية نوح الذين سبقت لهم من الله السعادة، وبارك عليهم قبل أن يخلقهم في بطون أمهاتهم وأصلاب آبائهم. ثم أخبر تعالى ذكره نوحًا عما هو فاعل بأهل الشقاء من ذريته، فقال له: (وأمم) ، يقول: وقرون وجماعة (4) = (سنمتعهم) في الحياة في الدنيا، يقول: نرزقهم فيها ما يتمتعون به إلى أن يبلغوا آجالهم (5) = (ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، يقول: ثم نذيقهم إذا وردوا علينا عذابًا مؤلمًا موجعًا. (6)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18250- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم
__________
(1) انظر تفسير " الهبوط " فيما سلف 12: 329، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " السلام " فيما سلف من فهارس اللغة (سلم) .
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " وبركات عليه "، مرة أخرى، ولم يفسرها أيضًا، فإن لم يكن سقط من التفسير شيء، فالصواب ما أثبت بزيادة الباء، دلالة على العطف على ما قبله.
(4) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف ص: 252، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " المتاع " فيما سلف من فهارس اللغة (متع) .
(6) انظر تفسير " المس " فيما سلف ص: 256، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/353)
من معك) ، إلى آخر الآية، قال: دخل في ذلك السلام كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة، ودخل في ذلك العذاب والمتاع كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة.
18251- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم من معك) ، قال: دخل في الإسلام كل مؤمن ومؤمنة، وفي الشرك كل كافر وكافرة. (1)
18252- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، قراءةً عن ابن جريج: (وعلى أمم ممن معك) ، يعني: ممن لم يولد. قد قضى البركات لمن سبق له في علم الله وقضائه السعادة = (وأمم سنمتعهم) ، من سبق له في علم الله وقضائه الشِّقوة. (2)
18253- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج بنحوه = إلا أنه قال: (وأمم سنمتعهم) ، متاع الحياة الدنيا، ممن قد سبق له في علم الله وقضائه الشقوة. قال: ولم يهلك الوَلَد يوم غرق قوم نُوح بذنب آبائهم، كالطير والسباع، ولكن جاء أجلهم مع الغرق.
18254- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم) ، قال: هبطوا والله عنهم راض، هبطوا بسلام من الله. كانوا أهل رحمة من أهل ذلك الدهر، ثم أخرج منهم نسلا بعد ذلك أممًا، منهم من رحم، ومنهم من عذب. وقرأ: (وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم) ، وذلك إنما افترقت الأمم من تلك العصابة التي خرجت من ذلك الماء وسلمت.
18255- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال،
__________
(1) في المطبوعة: " دخل في السلام "، غير ما في المخطوطة، وأساء.
(2) في المطبوعة " الشقاوة "، وأثبت ما في المخطوطة، هنا وفي سائر المواضع الآتية.(15/354)
حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك) ، الآية، يقول: بركات عليك وعلى أمم ممن معك لم يولدوا، أوجب الله لهم البركات لما سبق لهم في علم الله من السعادة = (وأمم سنمتعهم) ، يعني: متاع الحياة الدنيا = (ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، لما سبق لهم في علم الله من الشقاوة.
18256- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن: أنه كان إذا قرأ "سورة هود"، فأتى على: (يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك) ، حتى ختم الآية، قال الحسن: فأنجى الله نوحًا والذين آمنوا، وهلك المتمتعون! حتى ذكر الأنبياء كل ذلك يقول: أنجاه الله وهلك المتمتعون.
18257- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، قال: بعد الرحمة.
18258- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، اخبرنا عبد الله بن شوذب قال، سمعت داود بن أبي هند يحدث، عن الحسن: أنه أتى على هذه الآية: (اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، قال: فكان ذلك حين بعث الله عادًا، فأرسل إليهم هودًا، فصدقه مصدقون، وكذبه مكذبون، حتى جاء أمر الله. فلما جاء أمر الله نجّى الله هودًا والذين آمنوا معه، وأهلك الله المتمتعين، ثم بعث الله ثمود، فبعث إليهم صالحًا، فصدقه مصدقون وكذبه مكذبون، حتى جاء أمر الله. فلما جاء أمر الله نجى الله صالحًا والذين آمنوا معه وأهلك الله المتمتعين. ثم استقرأ الأنبياء نبيًّا نبيًّا، على نحو من هذا.
* * *(15/355)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمّد صلى الله عليه وسلم: هذه القصة التي أنبأتك بها من قصة نوح وخبره وخبر قومه = (من أنباء الغيب) ، يقول: هي من أخبار الغيب التي لم تشهدها فتعلمها (1) = (نوحيها إليك) ، يقول: نوحيها إليك نحن، فنعرفكها = (ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) ، الوحي الذي نوحيه إليك، = (فاصبر) ، على القيام بأمر الله وتبليغ رسالته، وما تلقى من مشركي قومك، كما صبر نوح = (إن العاقبة للمتقين) ، يقول: إن الخير من عواقب الأمور لمن اتقى الله، (2) فأدَّى فرائضه، واجتنب معاصيه، فهم الفائزون بما يؤمِّلون من النعيم في الآخرة، والظفر في الدنيا بالطلبة، كما كانت عاقبة نوح إذ صبر لأمر الله، أنْ نجَّاه من الهلكة مع من آمن به، وأعطاه في الآخرة ما أعطاه من الكرامة، وغرَّق المكذبين به فأهلكهم جميعهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18259- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا) ، القرآن، وما كان عَلم محمدٌ صلى الله عليه وسلم وقومه ما صنع نوحٌ وقومه، لولا ما بيَّن الله في كتابه.
__________
(1) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) .
(2) انظر تفسير " العاقبة " فيما سلف ص: 153، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/356)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا مُفْتَرُونَ (50) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى قوم عاد أخاهم هودًا، فقال لهم: "يا قوم اعبدوا الله" وحده لا شريك له، دون ما تعبدون من دونه من الآلهة والأوثان. (ما لكم إله غيره) ، يقول: ليس لكم معبود يستحق العبادة عليكم غيره، فأخلصوا له العبادة وأفردوه بالألوهة = (إن أنتم إلا مفترون) ، يقول: ما أنتم في إشراككم معه الآلهة والأوثان إلا أهل فرية مكذبون، تختلقون الباطل، لأنه لا إله سواه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من إخلاص العبادة لله وخلع الأوثان والبراءة منها، جزاءً وثوابًا = (إن أجري إلا على الذي فطرني) ، يقول: إن ثوابي وجزائي على نصيحتي لكم، ودعائكم إلى الله، إلا على الذي خلقني (2) = (أفلا تعقلون) ، يقول: أفلا تعقلون أني لو كنت ابتغي بدعايتكم إلى الله غير النصيحة لكم، وطلب الحظ لكم في الدنيا والآخرة، لالتمست منكم على ذلك بعض أعراض الدنيا، وطلبت منكم الأجر والثواب؟
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الافتراء " فيما سلف من فهارس اللغة (فرى) .
(2) انظر تفسير " فطر " فيما سلف 11: 283، 284، 487.(15/357)
وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
18260- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن أجري إلا على الذي فطرني) ، أي خلقني
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: (ويا قوم استغفروا ربكم) ، يقول: آمنوا به حتى يغفر لكم ذنوبكم.
* * *
= والاستغفار: هو الإيمان بالله في هذا الموضع، لأن هودًا صلى الله عليه وسلم إنما دعا قومه إلى توحيد الله ليغفر لهم ذنوبهم، كما قال نوح لقومه: (اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [سورة نوح: 3: 4]
* * *
وقوله: (ثم توبوا إليه) ، يقول: ثم توبوا إلى الله من سالف ذنوبكم وعبادتكم غيره بعد الإيمان به = (يرسل السماء عليكم مدرارا) ، يقول: فإنكم إن آمنتم بالله وتبتم من كفركم به، أرسل قَطْر السماء عليكم يدرَّ لكم الغيثَ في وقت حاجتكم إليه، وتحَيَا بلادكم من الجدب والقَحط. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مدرار " فيما سلف 11: 263.(15/358)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18261- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (مدرارا) ، يقول: يتبع بعضها بعضا.
18262- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يرسل السماء عليكم مدرارًا) قال: يدر ذلك عليهم قطرًا ومطرًا.
* * *
وأما قوله: (ويزدكم قوة إلى قوتكم) ، فإن مجاهدًا كان يقول في ذلك ما:-
18263- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (ويزدكم قوة إلى قوتكم) ، قال: شدة إلى شدتكم
18264- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد= وإسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد=
18265- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد، فذكر مثله.
18266- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ويزدكم قوة إلى قوّتكم) ، قال: جعل لهم قوة، فلو أنهم أطاعوه زادهم قوة إلى قوتهم. وذكر لنا أنه إنما قيل لهم: (ويزدكم قوة إلى قوتكم) ، قال: إنه قد كان انقطع النسل عنهم سنين، فقال هود لهم: إن آمنتم بالله أحيا الله بلادكم ورزقكم المال والولد، لأن ذلك من القوة.
* * *(15/359)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53)
وقوله: (ولا تتولوا مجرمين) ، يقول: ولا تدبروا عما أدعوكم إليه من توحيد الله، والبراءة من الأوثان والأصنام = (مجرمين) ، يعني: كافرين بالله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم هود لهود، يا هود ما أتيتنا ببيان ولا برهان على ما تقول، فنسلم لك، ونقر بأنك صادق فيما تدعونا إليه من توحيد الله والإقرار بنبوتك = (وما نحن بتاركي آلهتنا) ، يقول: وما نحن بتاركي آلهتنا، يعني: لقولك: أو من أجل قولك. (ما نحن لك بمؤمنين) ، يقول: قالوا: وما نحن لك بما تدعي من النبوة والرسالة من الله إلينا بمصدِّقين.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التولي " و " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) ، (جرم) .(15/360)
إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنْ نَقُولُ إِلا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِي (55) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره، عن قول قوم هود: أنهم قالوا له، إذ نصح لهم ودعاهم إلى توحيد الله وتصديقه، وخلع الأوثان والبراءة منها: لا نترك عبادة آلهتنا، وما نقول إلا أن الذي حملك على ذمِّها والنهي عن عبادتها، أنه أصابك منها خبَلٌ من جنونٌ. فقال هود لهم: إني أشهد الله على نفسي(15/360)
وأشهدكم أيضًا أيها القوم، أني بريء مما تشركون في عبادة الله من آلهتكم وأوثانكم من دونه = (فكيدوني جميعا) ، يقول: فاحتالوا أنتم جميعًا وآلهتكم في ضري ومكروهي (1) = (ثم لا تنظرون) ، يقول: ثم لا تؤخرون ذلك، (2) فانظروا هل تنالونني أنتم وهم بما زعمتم أن آلهتكم نالتني به من السوء؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك.
18267- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال: أصابتك الأوثان بجنون.
18268- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال: أصابك الأوثان بجنون.
18269- حدثني المثني قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا سفيان، عن عيسى، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال: سببتَ آلهتنا وعبتها، فأجنَّتك.
18270-. . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن نجيح، عن مجاهد: (اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، أصابك بعض آلهتنا بسوء، يعنون الأوثان.
18271-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) قال: أصابك الأوثان بجنون.
__________
(1) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف 13: 449، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الإنظار " فيما سلف ص: 151، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/361)
18272- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (إن تقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال: تصيبك آلهتنا بالجنون.
18273- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال: ما يحملك على ذمّ آلهتنا، إلا أنه أصابك منها سوء.
18274- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، قال: إنما تصنع هذا بآلهتنا أنها أصابتك بسوء.
18275- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير: أصابتك آلهتنا بشر.
18276- حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، يقولون: نخشى أن يصيبك من آلهتنا سوء، ولا نحب أن تعتريك، يقولون: يصيبك منها سوء.
18277- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء) ، يقولون: اختلَط عقلك فأصابك هذا مما صنعت بك آلهتنا.
* * *
وقوله: (اعتراك) ، ا"فتعل"، من "عراني الشيء يعروني":، إذا أصابك، كما قال الشاعر:(15/362)
إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
(1)
مِنَ القَوْمِ يَعْرُوهُ اجْتِرَاءٌ وَمَأْثَمُ (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) }
قال أبو جعفر: يقول: إني على الله الذي هو مالكي ومالككم، والقيِّم على جميع خلقه، توكلت من أن تصيبوني، أنتم وغيركم من الخلق بسوء، (3) فإنه ليس من شيء يدب على الأرض، (4) إلا والله مالكه، وهو في قبضته وسلطانه. ذليلٌ له خاضعٌ.
* * *
__________
(1) هو أبو خراش الهذلي.
(2) ديوان الهذليين 2: 147، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 290، من قصيدته التي ذكر فيها فراره من فائد وأصحابه الخزاعيين، وكان لهم وتر عنده. فلما لقوه فر وعدا، فذكر ذلك في شعره، ثم انتهى إلى ذكر رجل كان يتبعه وهو يعدو فقال: أُوائِلُ بالشَّدِّ الذَّلِيقِ، وَحَثَّنِي ... لَدَى المَتْنِ مَشْبُوحُ الذِّرَاعَينِ خَلْجَمُ
تَذَكَّر ذَخْلاً عِنْدَنَا، وهو فاتِكٌ ... مِنَ القَوْمِ يَعْرُوهُ اجْتِرَاءٌ وَمَأْثَمُ
يقول: " أوائل بالشد "، أطلب النجاة بالعدو السريع، و" الذليق "، الحديد السريع الشديد، و" حثني لدى المتن "، يحثني على عدوى، رجل من ورائي، كأنه من قربه قد ركب متني، " مشبوح الذراعين "، من صفة هذا الرجل أنه عريض الذراعين، " خلجم "، طويل شديد. و" تذكر ذحلا "، أي ثأرًا، فكان تذكره للثأر أحفز له على طلب أبي خراش. ثم قال: إنه فاتك من فتاكهم، لا يرهب، ويدفعه على ذلك " اجتراء "، أي جرأة لا تكفها المخافة، و" مأثم "، أي طلب الأثام، وهو المجازاة والعقوبة على إثمي الذي سلف إليهم. و" المأثم " و"الأثام "واحد.
وكان في المطبوعة: " اجترام "، وفي المخطوطة: " اجترامًا "، وهما خطأ، صوابه ما أثبت من ديوانه.
(3) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف من فهارس اللغة (وكل) .
(4) انظر تفسير " دابة " فيما سلف ص: 240، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/363)
فإن قال قائل: وكيف قيل: (هو آخذ بناصيتها) ، فخص بالأخذ "الناصية " دون سائر أماكن الجسد.
قيل: لأن العرب كانت تستعمل ذلك في وصفها من وصفته بالذلة والخضوع، فتقول: "ما ناصية فلان إلا بيد فلان"، أي: أنه له مطيع يصرفه كيف شاء. وكانوا إذا أسروا الأسير فأرادوا إطلاقه والمنّ عليه، جزُّوا ناصيته، ليعتدّوا بذلك عليه فخرًا عند المفاخرة. فخاطبهم الله بما يعرفون في كلامهم، والمعنى ما ذكرت.
* * *
وقوله: (إن ربي على صراط مستقيم) ، يقول: إن ربي على طريق الحق، يجازي المحسن من خلقه بإحسانه والمسيء بإساءته، لا يظلم أحدًا منهم شيئًا ولا يقبل منهم إلا الإسلام والإيمان به، (1) كما:-
18278- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن ربي على صراط مستقيم) ، الحقّ.
18279- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18280- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
18281- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " صراط مستقيم " فيما سلف من فهارس اللغة (سرط) ، (قوم) .(15/364)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل هود لقومه: (فإن تولوا) ، يقول: فإن أدبروا معرضين عما أدعوهم إليه من توحيد الله وترك عبادة الأوثان (1) = (فقد أبلغتكم) أيها القوم = (ما أرسلت به إليكم) ، وما على الرسول إلا البلاغ = (ويستخلف ربي قوما غيركم) ، يهلككم ربي، ثم يستبدل ربي منكم قومًا غيركم، (2) يوحِّدونه ويخلصون له العبادة = (ولا تضرونه شيئًا) ، يقول: ولا تقدرون له على ضرّ إذا أراد إهلاككم أو أهلككم.
* * *
وقد قيل: لا يضره هلاككُم إذا أهلككم، لا تنقصونه شيئًا، لأنه سواء عنده كُنتم أو لم تكونوا.
* * *
= (إن ربي على كل شيء حفيظ) ، يقول: إن ربي على جميع خلقه ذو حفظ وعلم. (3)
يقول: هو الذي يحفظني من أن تنالوني بسوء.
* * *
__________
(1) كان حق الكلام أن يقول: " فإن أدبرتم معرضين عما أدعوكم إليه "، فهو خطاب من هود لقومه، أي: " فإن تتولوا "، وحذف إحدى التاءين. وكأن هذا سهو من أبي جعفر رحمه الله وغفر له.
(2) انظر تفسير " الاستخلاف " فيما سلف من فهارس اللغة (خلف) .
(3) انظر تفسير " حفيظ " فيما سلف 8: 562 / 12: 25، 33.(15/365)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء قوم هود عذابُنا، نجينا منه هودًا والذين آمنوا بالله معه = (برحمة منا) ، يعني: بفضل منه عليهم ونعمة = (ونجيناهم من عذاب غليظ) ، يقول: نجيناهم أيضًا من عذاب غليظ يوم القيامة، كما نجيناهم في الدنيا من السخطة التي أنزلتها بعادٍ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وهؤلاء الذين أحللنا بهم نقمتنا وعذابنا، عادٌ، جحدوا بأدلة الله وحججه، (2) وعصوا رسله الذين أرسلهم إليهم للدعاء إلى توحيده واتباع أمره = (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) ، يعني: كلّ مستكبر على الله، (3) حائد عن الحق، لا يُذعن له ولا يقبله.
* * *
يقال منه: "عَنَد عن الحق، فهو يعنِد عُنُودًا"، و"الرجل عَاند وعَنُود". ومن ذلك قيل للعرق الذي ينفجر فلا يرقأ: "عِرْق عاند": أي ضَارٍ، (4)
ومنه قول الراجز:
__________
(1) انظر تفسير " الغلظة " فيما سلف 14: 576، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الجحد " فيما سلف 11: 334 / 12: 476.
(3) انظر تفسير " الجبار " فيما سلف 10: 172.
(4) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 291، ففيه زيادة بيان.(15/366)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
(1)
إِنِّي كَبِيرٌ لا أَطِيقُ العُنَّدَا (2)
* * *
18282- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (واتبعوا أمر كل جبار عنيد) ، المشرك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأتبع عاد قوم هود في هذه الدنيا غضبًا من الله وسخطةً يوم القيامة، مثلها، لعنةً إلى اللعنة التي سلفت لهم من الله في الدنيا (3) = (ألا إن عادًا كفروا ربهم ألا بعدًا لعاد قوم هود) ، يقولُ: أبعدهم الله من الخير. (4)
* * *
يقال: "كفر فلان ربه وكفر بربه"، "وشكرت لك، وشكرتك". (5)
* * *
وقيل = إن معنى: (كفروا ربهم) ، كفروا نعمةَ ربهم.
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) مجاز القرآن 1: 291، البطليوسي: 415، الجواليقي: 336، اللسان (عند) ، وسيأتي في التفسير 29: 97 (بولاق) ، وغيرها، وهي أبيات لشواهد الإكفاء، يقول: إذَا رَحَلْتُ فَاجْعَلُونِي وَسَطَا ... إِنِّي كَبِيرٌ لاَ أَطِيقُ العُنَّدَا
وَلاَ أُطِيقُ البَكرَاتِ الشُّرَّدَا.
(3) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف من فهارس اللغة (لعن) .
(4) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص: 335.
(5) انظر ما سلف 3: 212، مثله.(15/367)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا، فقال لهم: يا قوم، اعبدوا الله وحده لا شريك له، وأخلصوا له العبادة دون ما سواه من الآلهة، فما لكم من إله غيره يستوجب عليكم العبادة، ولا تجوز الألوهة إلا له = (هو أنشأكم من الأرض) ، يقول: هو ابتدأ خلقكم من الأرض. (1)
* * *
وإنما قال ذلك لأنه خلق آدم من الأرض، فخرج الخطاب لهم، إذ كان ذلك فعله بمن هم منه.
* * *
= (واستعمركم فيها) ، يقول: وجعلكم عُمَّارًا فيها، فكان المعنى فيه: أسكنكم فيها أيام حياتكم.
* * *
= من قولهم: "أعْمر فلانٌ فلانًا دارَه"، و"هي له عُمْرَى". (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " الإنشاء " فيما سلف 12: 156، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) " عمري " (بضم فسكون، فراء مفتوحة) ، مصدر مثل " الرجعي ": و " أعمره الدار "، جعله يسكنها مدة عمره، فإذا مات عادت إلى صاحبها. وكان ذلك من فعل الجاهلية، فأبطله الله بالإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تعمروا ولا ترقبوا "، فمن أعمر دارًا أو أرقبها، فهي لورثته من بعده ".(15/368)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62)
18283- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (واستعمركم فيها) ، قال: أعمركم فيها
18284- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واستعمركم فيها) ، يقول: أعمركم
* * *
وقوله: (فاستغفروه) ، يقول: اعملوا عملا يكون سببًا لستر الله عليكم ذنوبكم، وذلك الإيمان به، وإخلاص العبادة له دون ما سواه، واتباعُ رسوله صالح = (ثم توبوا إليه) ، يقول: ثم اتركوا من الأعمال ما يكرهه ربكم، إلى ما يرضاه ويحبه = (إن ربي قريب مجيب) ، يقول: إن ربي قريب ممن أخلص له العبادة ورغب إليه في التوبة، مجيبٌ له إذا دعاه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت ثمود لصالح نبيِّهم: (يا صالح قد كنت فينا مرجوًّا) ، أي كنا نرجُو أن تكون فينا سيدًا قبل هذا القول الذي قلته لنا، من أنه مالنا من إله غير الله (1) = (أتنهانا أن نعبد ما يعبد آباؤنا) ، يقول: أتنهانا أن نعبد الآلهة التي كانت آباؤنا تعبدها = (وإننا لفي شك مما تدعونَا إليه
__________
(1) انظر تفسير " الرجاء " فيما سلف 4: 319.(15/369)
مريب) ، يعنون أنهم لا يعلمون صحَّة ما يدعوهم إليه من توحيد الله، وأن الألوهة لا تكون إلا لهُ خالصًا.
* * *
وقوله: (مريب) ، أي يوجب التهمة، من "أربته فأنا أريبه إرابة"، إذا فعلت به فعلا يوجب له الريبة، (1) ومنه قول الهذلي: (2)
كُنْتُ إِذَا أَتَوْتُه مِنْ غَيْبِ ... يَشَمُّ عِطْفِي وَيبُزُّ ثَوْبِي
*كَأَنَّمَا أَرَبْتُهُ بِرَيْبِ* (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الريبة " فيما سلف من فهارس اللغة (ريب) .
(2) هو خالد بن زهير الهذلي
(3) ديوان الهذليين 1: 165، واللسان (ريب) (بزز) ، (أتى) ، وغيرها كثير، وسيأتي في التفسير 22: 76 (بولاق) . وكان خالد بن زهير، ابن أخت أبي ذؤيب، وكان رسول أبي ذؤيب إلى صديقته، فأفسدها عليه، فكان يشك في أمره، فقال له خالد: يَا قَوْمِ مَالِي وَأَبَا ذُؤَيْبِ ... كُنْتُ إذَا أَتَوْتُه من غَيْبِ
" أتوته "، لغة في " أتيته "، وقوله: " من غيب "، من حيث لا يدري، لأن " الغيب "، هو الموضع الذي لا يدري ما ورائه. و" يبز ثوبي "، أي يجذبه إليه، يريد أن يمسكه حتى يستخرج خبء نفسه، من طول ارتيابه فيه.(15/370)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال صالح لقومه من ثمود: (يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي) ، يقول: إن كنت على برهان وبيان من الله قد علمته وأيقنته (1) = (وآتاني منه رحمة) ، يقول: وآتاني منه النبوة والحكمة
__________
(1) انظر تفسير " البينة " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .(15/370)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64)
والإسلام =
(فمن ينصرني من الله إن عصيته) ، يقول: فمن الذي يدفع عنِّي عقابه إذا عاقبني إن أنا عصيته، فيخلصني منه = (فما تزيدونني) ، بعذركم الذي تعتذرون به، من أنكم تعبدون ما كان يعبدُ آباؤكم، (غير تخسير) ، لكم يخسركم حظوظكم من رحمة الله، (1) كما:-
18285- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فما تزيدونني غير تخسير) ، يقول: ما تزدادون أنتم إلا خسارًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل صالح لقومه من ثمود، إذ قالوا له: (وإننا لفي شك مما تدعونا إليه مريب) ، وسألوه الآية على ما دعاهم إليه: (يا قوم هذه ناقة الله لكم آية) ، يقول: حجة وعلامة، ودلالة على حقيقة ما أدعوكم إليه = (فذروها تأكل في أرض الله) ، فليس عليكم رزقها ولا مئونتها = (ولا تمسوها لسوء) ، يقول: لا تقتلوها ولا تنالوها بعَقْر = (فيأخذكم عذاب قريب) ، يقول: فإنكم إن تمسوها بسوء يأخذكم عذاب من الله غير بعيد فيهلككم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخسران " فيما سلف من فهارس اللغة (خسر) .(15/371)
فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعقرت ثمود ناقة الله = وفي الكلام محذوفٌ قد ترك ذكرُه، استغناءً بدلالة الظاهر عليه، وهو: "فكذبوه" "فعقروها" = فقال لهم صالح: = (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) ، يقول: استمتعوا في دار الدنيا بحياتكم ثلاثة أيام = (ذلك وعد غير مكذوب) ، يقول: هذا الأجل الذي أجَّلتكم، وَعْدٌ من الله، وعدكم بانقضائه الهلاكَ ونزولَ العذاب بكم = (غير مكذوب) ، يقول: لم يكذبكم فيه من أعلمكم ذلك.
* * *
18286- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فعقروها فقال تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) ، وذكر لنا أن صالحًا حين أخبرهم أن العذاب أتاهم لبسُوا الأنطاع والأكسية، (1) وقيل لهم: إن آية ذلك أن تصفرَّ ألوانكم أوَّل يوم، ثم تحمرَّ في اليوم الثاني، ثم تسودَّ في اليوم الثالث. وذكر لنا أنهم لما عقرُوا الناقة ندموا، وقالوا: "عليكم الفَصيلَ "؟ فصعد الفصيل القارَة = و"القارة" الجبل = حتى إذا كان اليوم الثالث، استقبل القبلة، وقال: "يا رب أمي، يا رب أمي "، ثلاثا. قال: فأرسلت الصيحة عند ذلك.
= وكان ابن عباس يقول: لو صعدتم القارة لرأيتم عظام الفصيل. وكانت منازل ثمود بحجْر بين الشام والمدينة.
18287- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) " الأنطاع " جمع " نطع " (بكسر فسكون) ، وهو: الجلد والأدم. كانوا يتخذون لأنفسهم منها أكفانًا، كما سيأتي في آخر الحديث رقم: 18290 ص: 377.(15/372)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66)
معمر، عن قتادة: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) ، قال: بقية آجالهم.
18288- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة أن ابن عباس قال: لو صعدتم على القارة لرأيتم عظَام الفصيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما جاء ثمود عذابُنا = "نجينا صالحًا والذين آمنوا به معه برحمة منا"، يقول: بنعمة وفضل من الله = (ومن خزي يومئذ) ، يقول: ونجيناهم من هوان ذلك اليوم، وذلِّه بذلك العذاب (1) = (إن ربك هو القوي) ، في بطشه إذا بطش بشيء أهلكه، كما أهلك ثمود حين بطَش بها = "العزيز"، فلا يغلبه غالب، ولا يقهره قاهر، بل يغلب كل شيء ويقهره. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18289- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف من فهارس اللغة (خزي) .
(2) انظر تفسير " القوى " فيما سلف 14: 19.
= وتفسير " العزيز " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) .(15/373)
معمر، عن قتادة: (برحمة منا ومن خزي يومئذ) ، قال: نجاه الله برحمة منه، (1) ونجاه من خزي يومئذ.
18290- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر بن عبد الله، عن شهر بن حوشب، عن عمرو بن خارجة قال: قلنا له: حدّثنا حديثَ ثمود. قال: أحدثكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمود: كانت ثمودُ قومَ صالح، أعمرهم الله في الدنيا فأطال أعْمَارهم، حتى جعل أحدهم يبني المسكنَ من المدر، فينهدم، (2) والرَّجلُ منهم حيٌّ. فلما رأوا ذلك، اتخذوا من الجبال بيوتًا فَرِهين، فنحتوها وجَابُوها وجوَّفوها. (3) وكانوا في سعةٍ من معايشهم. فقالوا: يا صالح ادع لنا ربك يخرج لنا آية نعلم أنك رسول الله، فدعا صالح ربَّه، فأخرج لهم الناقة، فكان شِرْبُها يومًا، وشِرْبهم يومًا معلومًا. فإذا كان يوم شربها خَلَّوا عنها وعن الماء وحلبوها لبنًا، ملئوا كل إناء ووعاء وسقاء، حتى إذا كان يوم شربهم صرفوها عن الماء، فلم تشرب منه شيئًا، فملئوا كل إناء ووعاء وسقاء. فأوحى الله إلى صالح: إن قومك سيعقرون ناقتك! فقال لهم، فقالوا: ما كنا لنفعل! فقال: إلا تعقروها أنتم، يوشكُ أن يولد فيكم مولود [يعقرها] . (4) قالوا: ما علامة ذلك المولود؟ فوالله لا نجده إلا قتلناه! قال: فإنه غلام أشقَر أزرَق أصهَبُ، أحمر. قال: وكان في المدينة شيخان عزيزان منيعان، لأحدهما ابن يرغب به عن المناكح، وللآخر ابنة لا يجد لها كفؤًا، فجمع بينهما مجلس، فقال أحدهما لصاحبه: ما يمنعك أن تزوج ابنك؟ قال: لا أجد له كفؤًا. قال: فإن ابنتي كفؤ له، وأنا أزوجك. . فزوّجه، فولد
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " برحمة منا "، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) " المدر "، الطين العلك، لا رمل فيه.
(3) قوله: " وجابوها " ساقطة من المطبوعة. " جابوها "، خرقوا الصخر وحفروه، فاتخذوه بيوتا.
(4) الزيادة بين القوسين، من تاريخ الطبري.(15/374)
بينهما ذلك المولود. وكان في المدينة ثمانية رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون، فلما قال لهم صالح: "إنما يعقرها مولود فيكم"، اختاروا ثماني نسوة قوابل من القرية، وجعلوا معهن شُرَطًا كانوا يطوفون في القرية، فإذا وجدُوا المرأة تمخَضُ، نظروا ما ولدُها إن كان غلامًا قلَّبنه فنظرن ما هو (1) وإن كانت جارية أعرضن عنها. فلما وجدوا ذلك المولود صرخ النسوة وقلن: "هذا الذي يريد رسول الله صالح "، فأراد الشرط أن يأخذوه، فحال جدّاه بينهم وبينه، وقالا لو أن صالحًا أراد هذا قتلناه! فكان شرَّ مولود، وكان يشبُّ في اليوم شباب غيره في الجمعة، ويشبّ في الجمعة شباب غيره في الشهر، ويشب في الشهر شباب غيره في السنة. فاجتمع الثمانية الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وفيهم الشيخان، فقالوا: "استعمل علينا هذا الغلام " (2) لمنزلته وشرَف جديه، فكانوا تسعة. وكان صالح لا ينام معهم في القرية، كان في مسجد يقال له: "مسجد صالح"، فيه يبيت بالليل، فإذا أصبح أتاهم فوعظهم وذكرهم، وإذا أمسى خرج إلى مسجده فبات فيه".
= قال حجاج: وقال ابن جريج: لما قال لهم صالح: "إنه سيولد غلام يكون هلاككم على يديه"، قالوا: فكيف تأمرنا؟ قال: آمركم بقتلهم! فقتلوهم إلا واحدًا. قال: فلما بلغ ذلك المولود، قالوا: لو كنا لم نقتل أولادَنا، لكان لكل رجل منا مثل هذا، هذا عملُ صالح! فأتمروا بينهم بقتله، وقالوا: نخرج مسافرين والناس يروننا علانيةً، ثم نرجع من ليلة كذا من شهر كذا وكذا، فنرصده عند مصلاه فنقتله، فلا يحسب الناس إلا أنَّا مسافرون، كما نحن! فأقبلوا حتى دخلوا تحت صخرة يرصُدُونه، فأرسل الله عليهم الصخرة فرضَخَتهم، فأصبحوا رَضْخًا. فانطلق رجال ممَّن قد اطلع على ذلك منهم، فإذا هم رضْخٌ، فرجعوا
__________
(1) في التاريخ: " فإن كان ولدا قتلنه "، ليس فيه هذا الذي في روايته في التفسير، وهي أحسن الروايتين إن شاء الله.
(2) في المطبوعة: " تستعمل "، وأثبت ما في المطبوعة والتاريخ.(15/375)
يصيحون في القرية: أي عباد الله، أما رضي صالح أن أمرهم أن يقتلوا أولادَهم حتى قتلهم؟ ! فاجتمع أهل القرية على قتل الناقة أجمعون، وأحجموا عنها إلا ذلك الابن العاشر.
= ثم رجع الحديث إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: وأرادوا أن يمكروا بصالح، فمشوا حتى أتوا على سَرَبٍ على طريق صالح، فاختبأ فيه ثمانية، وقالوا: إذا خرج علينا قتلناه وأتينا أهله، فبيَّتْناهُمْ! فأمر الله الأرض فاستوت عنهم. قال: فاجتمعوا ومشَوْا إلى الناقة وهي على حَوْضها قائمة، فقال الشقيُّ لأحدهم: ائتها فاعقرها! فأتاها، فتعاظَمَه ذلك، فأضرب عن ذلك، فبعث آخر فأعظم ذلك. فجعل لا يبعث رجلا إلا تعاظمه أمرُها، حتى مشوا إليها، وتطاول فضرب عرقوبيها، فوقعت تركُضُ، وأتى رجلٌ منهم صالحًا فقال: "أدرك الناقةَ فقد عمرت "! فأقبل، وخرجوا يتَلقَّونه ويعتذرون إليه: "يا نبيّ الله، إنما عقرها فلان، إنه لا ذنب لنا"! قال: فانظروا هل تدركون فصيلها؟ ، فإن أدركتموه، فعسَى الله أن يرفعَ عنكم العذابَ! فخرجوا يطلبونه، ولما رأى الفصيل أمَّه تضطرب، أتى جبلا يقال له "القارَة" قصيرًا، فصعد وذهبوا ليأخذوه، فأوحى الله إلى الجبل، فطالَ في السماء حتى ما تَناله الطير. قال: ودخل صالح القرية، فلما رآه الفصيل بكى حتى سألت دموعه، ثم استقبل صالحًا فرغًا رَغْوةً، ثم رغَا أخرى، ثم رغا أخرى، فقال صالح لقومه: لكل رغوة أجلُ يوم، (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب) ، ألا إن أية العذاب أنّ اليوم الأوّل تصبح وجوهكم مصفرّة، واليوم الثاني محمرّة، واليوم الثالث مسودّة! فلما أصبحوا فإذا وجوههم كأنها طليت بالخلوق، (1) صغيرُهم وكبيرُهم، ذكرهم وأنثَاهم. فلما أمسوا صاحوا بأجمعهم: "ألا قد مضى يوم من الأجل، وحضركم العذاب "! فلما أصبحوا اليوم. الثاني إذا وجوههم محمرة،
__________
(1) " الخلوق "، طيب يتخذ من الزعفران، تغلب علبه الحمرة والصفرة.(15/376)
كأنها خُضِبت بالدماء، فصاحوا وضجُّوا وبكوا وعرفوا آية العذاب، فلما أمسوا صاحُوا بأجمعهم: "ألا قد مضى يومان من الأجل وحضركم العذاب "! فلما أصبحوا اليوم الثالث، فإذا وجوههم مسودّة كأنها طُليت بالقار، فصاحوا جميعا: "ألا قد حضركم العذاب"! فتكفَّنُوا وتحنَّطوا، وكان حنوطهم الصَّبر والمقر، (1) وكانت أكفانهم الأنطاع، (2) ثم ألقوا أنفسهم إلى الأرض، (3) فجعلوا يقلبون أبصارهم، فينظرون إلى السماء مرة وإلى الأرض مرة، فلا يدرون من حيث يأتيهم العذاب من فوقهم من السماء أو من تحت أرجلهم من الأرض، جَشَعًا وفَرَقًا. (4) فلما أصبحوا اليومَ الرابع أتتهم صيحةٌ من السماء فيها صوتُ كل صاعقة، وصوت كلّ شيء له صوتٌ في الأرض، فتقطعت قلوبهم في صدُورهم، فأصبحوا في دارهم جاثمين. (5)
18291- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: حُدِّثت أنَّه لما أخذتهم الصيحة، أهلك الله مَنْ بَين المشارق والمغارب منهم إلا رجلا واحدًا كان في حرم الله، منعه حرم الله من عذاب الله. قيل: ومن هو يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين أتى على قرية ثمود، لأصحابه: لا يدخلنَّ أحدٌ منكم القرية، ولا تشربوا من مائهم. وأراهم مُرْتقَى الفصيل حين ارتقَى في القارَة.
= قال ابن جريج، وأخبرني موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم حين أتى على قرية ثمود قال: لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم، أنْ يُصيبكم ما أصابهم.
= قال ابن جريج، قال جابر بن عبد الله: إن النبي صلى الله عليه وسلم لما أتى على الحِجْر، حمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فلا تسألوا رسُولكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا رسولهم الآية، فبعث لهم الناقة، فكانت تَرِدُ من هذا الفَجّ، وتصدر من هذا الفَجّ، فتشرب ماءَهم يوم ورودها. (6)
__________
(1) " المقر " (بفتح فكسر) ، شبيه بالصبر وقيل هو الصبر نفسه، وهو شجر مر. وكان في المطبوعة: " المغر " بالغين، وهو خطأ.
(2) انظر تفسير " الأنطاع " فيما سلف ص: 373 تعليق: 1.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " بالأرض "، وأثبت ما في التاريخ.
(4) في المطبوعة: " خسفًا وغرقًا "، غير ما في المخطوطة وفيها " حسما وفرقا "، الأولى غير منقوطة. وفي التاريخ: " " خشعا وفرقا "، وضبط " خشعا " بضم الخاء، وتشديد الشين، كأنه جمع " خاشع "، وضبط " فرقا " بضم الفاء والراء، وهو فاسد من وجوه. والذي أثبته هو الصواب.
و" الجشع " (بفتحتين) ، الجزع لفراق الإلف، والحرص على الحياة. وفي حديث معاذ: " فبكى معاذ جشعا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم ". وفي حديث ابن الخصاصية: " أخاف إذا حضر قتال جشعت نفسي فكرهت الموت ". و" الفرق "، أشد الفزع.
(5) الأثر: 18290 - " حجاج "، هو " حجاج بن محمد المصيصي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة." أبو بكر بن عبد الله "، لم أعرف من يكون، فإن يكن هو: " أبا بكر بن عبد الله بن محمد بن أبي سبرة القرشي "، فهو منكر الحديث، يروي الموضوعات عن الثقات، ومضى برقم: 14044، ذكره حجاج بن محمد، فقال: " قال لي أبو بكر السبري: عندي سبعون ألف حديث في الحلال والحرام " فقال أحمد: " ليس بشيء، كان يضع الحديث "، بل هو أيضًا لم يدرك " شهر بن حوشب "، فإنه مات سنة 162، وله ستون سنة، وشهر بن حوشب، مات سنة 100، أو بعدها بقليل. وإن يكن " أبا بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني "، كما ذكر الذهبي في تعليقه عن المستدرك، فهو أيضًا متروك الحديث، مضى برقم: 9071، ولا أعلم أدرك شهرًا، أم لا، فإنه مات سنة 156. وفي تاريخ الطبري المطبوع " " أبو بكر بن عبد الرحمن "، وفي بعض نسخه المخطوطة " أبو بكر بن عبد الله "، مطابقًا لما في التفسير." وعمرو بن خارجة بن المنتفق الأشعري "، صحابي، ذكر العسكري أن شهر بن حوشب، لا يصح سماعه عنه، وإنما يروي عنه من طريق " عبد الرحمن بن غنم الأشعري ". وهذا الخبر رواه أبو جعفر الطبري في تاريخه 1: 116 - 118. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 566، 567، وقال: " هذا حديث جامع لذكر هلاك آل ثمود، تفرد به شهر بن حوشب، وليس له إسناد غير هذا، ولم يستغن عن إخراجه. وله شاهد على سبيل الاختصار بإسناد صحيح، دل على صحة الحديث الطويل، على شرط مسلم ". وقال الذهبي في تعليقه عليه: " أبو بكر، واه، وهو ابن أبي مريم ". فهذا حديث ضعيف، لضعف " أبي بكر بن عبد الله، أيا كان، وللشك في رواية شهر عن عمرو بن خارجة، فهو منقطع.
(6) الأثر: 18291 - في هذا الخبر حديث مسند، حديث ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن دينار، رواه أحمد من طرق، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، وخرجه أخي رحمه الله في المسند، انظر رقم: 4561، 5225، 5342، 5404، 5441، 5645، 5705، 5931. وأما سائر ما في الخبر، فهو مرسل، وقد مضى من حديث جابر نحوه، من رقم: 14817 - 14823، فانظر التعليق على هذه الآثار هناك. وانظر أيضا مجمع الزوائد 6: 194 / 7: 37، من حديث جابر الذي رواه أحمد وغيره.(15/377)
18292- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما مرّ بوادي ثمود، وهو عامد إلى تبوك قال: فأمر أصحابه أن يسرعوا السير، وأن لا ينزلوا به، ولا يشربوا من مائه، وأخبرهم أنه وادٍ ملعون. قال: وذكر لنا أن الرجل المُوسِر من قوم صالح كان يعطي المعسر منهم ما يتكَفّنون به، وكان الرجل منهم يَلْحَد لنفسه ولأهل بيته، لميعاد نبي الله صالح الذي وعدهم. وحدَّث من رآهم بالطرق والأفنية والبيوت، فيهم شبان وشيوخ، أبقاهم الله عبرة وآية.
18293- حدثنا إسماعيل بن المتوكل الأشجعي من أهل حمص قال، حدثنا محمد بن كثير قال، حدثنا عبد الله بن واقد، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم قال، حدثنا أبو الطفيل، قال: لما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم َغَزاة تبُوك، (1) نزل الحجر فقال: يا أيها الناس لا تسألوا نبيَّكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيَّهم أن يبعث لهم آية، فبعث الله لهم الناقة آيةً، فكانت تَلج عليهم يوم [ورودها من هذا الفجّ، فتشربُ ماءهم، ويوم وردهم كانوا يتزودون منه] ، (2) ثم يحلبونها مثل ما كانوا يتزَوّدون من مائهم قبل ذلك لبنًا، ثم تخرج من ذلك الفجّ. فعتوا عن أمر ربهم وعقروها، فوعدهم الله العذاب بعد ثلاثة أيام، وكان وعدًا من الله غير مكذوب، فأهلك الله من كان
__________
(1) في المطبوعة: " غزوة تبوك "، غير ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ.
(2) كان في المطبوعة والمخطوطة: " تلج عليهم يوم ورودهم الذي كانوا يتروون منه ثم يحلبونها. . . "، وهو غير مستقيم، أثبت الصواب من التاريخ، وفيه " يتزودون " في الموضوعين، فأصلحتهما جميعًا، ووضعت نص ما في التاريخ بين قوسين.(15/379)
وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
منهم في مشارق الأرض ومغاربها إلا رجلا واحدًا، كان في حرم الله، فمنعه حَرَمُ الله من عذاب الله. قالوا: ومن ذلك الرجل يا رسول الله؟ قال: أبو رِغال. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْدًا لِثَمُودَ (68) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأصاب الذين فعلوا ما لم يكن لهم فعله من عقر ناقة الله وكفرهم به = (الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ، قد جثمتهم المنايا، وتركتهم خمودًا بأفنيتهم، (2) كما:-
18294- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
__________
(1) الأثر: 18293 - " إسماعيل بن المتوكل الشامي الحمصي "، شيخ الطبري، مترجم في التهذيب. و" محمد بن كثير "، كأنه " محمد بن كثير بن أبي عطاء الثقفي المصيصي، الصنعاني "، وهو ضعيف جدا. مضى برقم: 4150، 4836، ومضى في نحو هذا الإسناد رقم: 9492." وعبد الله بن واقد، أبو رجاء الهروي "، ثقة لا بأس به، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 191." وعبد الله بن عثمان بن خثيم المكي القارئ "، تابعي ثقة متكلم فيه، ولكن الصحيح توثيقه، وروى عن أبي الطفيل. مضى برقم: 4341، 5388." وأبو الطفيل "، هو " عامر بن واثلة "، مضى مرارًا، صحابي من صغار الصحابة، كان له يوم مات رسول الله ثماني سنوات، فهو قد سمع هذا الخبر ممن هو أكبر منه من الصحابة، ولعله سمعه من جابر بن عبد الله. وهذا الخبر لين الإسناد شيئًا، وقد رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 118 من هذه الطريق نفسها، ولم أجده في مكان آخر.
(2) انظر تفسير " الجثوم " فيما سلف 12: 546، 566.(15/380)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69)
(فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ، يقول: أصبحوا قد هلكوا.
* * *
= (كأن لم يغنوا فيها) ، يقول: كأن لم يعيشوا فيها، ولم يعمروا بها، كما:-
18295- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (كأن لم يغنوا فيها) ، كأن لم يعيشوا فيها.
18296- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
* * *
وقد بينا ذلك فيما مضى بشواهده فأغنى ذلك عن إعادته. (1)
* * *
وقوله: (ألا إن ثمود كفروا ربهم) ، يقول: ألا إن ثمود كفروا بآيات ربهم فجحدوها (2) = (ألا بعدًا لثمود) ، يقول: ألا أبعد الله ثمود! لنزول العذاب بهم. (3)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (ولقد جاءت رسلنا) ، من الملائكة وهم فيما ذكر، كانوا جبريل وملكين آخرين. وقيل: إن الملكين الآخرين كان
__________
(1) انظر تفسير " غني " فيما سلف 12: 569، 570 / 15: 56.
(2) انظر ما سلف ص: 367.
(3) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص: 335، 367.(15/381)
ميكائيل وإسرافيل معه = (إبراهيم) ، يعني: إبراهيم خليل الله = (بالبشرى) ، يعني: بالبشارة. (1)
* * *
واختلفوا في تلك البشارة التي أتوه بها.
فقال بعضهم: هي البشارة بإسحاق.
وقال بعضهم: هي البشارة بهلاك قوم لوط.
* * *
= (قالوا سلاما) ، يقول: فسلموا عليه سلامًا.
* * *
ونصب "سلامًا" بإعمال "قالوا" فيه، كأنه قيل: قالوا قولا وسلَّموا تسليمًا.
* * *
= (قال سلام) ، يقول: قال إبراهيم لهم: سلام = فرفع "سلامٌ"، بمعنى: عليكم السلام= أو بمعنى: سلام منكم.
* * *
وقد ذكر عن العرب أنها تقول: "سِلْمٌ" بمعنى السلام، كما قالوا: "حِلٌّ وحلالٌ"، وحِرْم وحرام". وذكر الفرَّاء أن بعض العرب أنشده: (2)
مَرَرْنَا فَقُلْنَا إِيهِ سِلْمٌ فَسَلَّمَتْ ... كَمَا اكْتَلَّ بِالَبْرقِ الغَمَامُ الَّلوَائِحُ (3)
__________
(1) انظر تفسير " البشرى " فيما سلف من فهارس اللغة (بشر) .
(2) لم أعرف قائله. والذي أنشده الفراء في تفسير هذه الآية بيت آخر غير هذا البيت، شاهدًا على حذف " عليكم "، وهو قوله: فَقُلْنَا: السَّلامُ، فاتَّقَتْ مِنْ أَمِيرَها ... وَمَا كَانَ إلاَّ وَمْؤُها بالحواجِبِ
وأما هذا البيت الذي هنا، فقد ذكره صاحب اللسان في مادة (كلل) ، عن ابن الأعرابي، فلعل الفراء أنشده في مكان آخر.
(3) اللسان (كلل) ، يقال: " انكل السحاب عن البرق، واكتل "، أي: لمع به، و" اللوائح " التي لاح برقها، أي لمع وظهر.(15/382)
بمعنى سلام. وقد روي "كما انكلّ".
* * *
وقد زعم بعضهم أن معناه إذا قرئ كذلك: نحن سِلْمٌ لكم = من "المسالمة" التي هي خلاف المحاربة.
وهذه قراءة عامَّة قراء الكوفيين.
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الحجاز والبصرة، (قَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ) ، على أن الجواب من إبراهيم صلى الله عليه وسلم لهم، بنحو تسليمهم: عليكم السلام.
* * *
والصواب من القول في ذلك عندي: أنهما قراءتان متقاربتا المعنى، لأن "السلم " قد يكون بمعنى "السلام " على ما وصفت، و"السلام " بمعنى "السلم"، لأن التسليم لا يكاد يكون إلا بين أهل السّلم دون الأعداء، فإذا ذكر تسليم من قوم على قوم، ورَدُّ الآخرين عليهم، دلّ ذلك على مسالمة بعضهم بعضًا. وهما مع ذلك قراءتان قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، فبأيَّتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
* * *
وقوله: (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) .
* * *
= وأصله "محنوذ"، صرف من "مفعول" إلى "فعيل".
* * *
وقد اختلف أهل العربية في معناه، فقال بعض أهل البصرة منهم (1) معنى "المحنوذ": المشويّ، قال: ويقال منه: "حَنَذْتُ فرسي"، بمعنى سخَّنته وعرَّقته. واستشهد لقوله ذلك ببيت الراجز:
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن.(15/383)
(1)
*ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا* (2)
* * *
وقال آخر منهم: "حنذ فرسه": أي أضمره، وقال: قالوا حَنَذه يحنِذُه حَنْذًا: أي: عرَّقه.
* * *
وقال بعض أهل الكوفة: كل ما انشوَى في الأرض، إذا خَدَدت له فيه، فدفنته وغممته، فهو "الحنيذ" و"المحنوذ". قال: والخيل تُحْنَذ، إذا القيت عليها الجِلال بعضُها على بعض لتعرق. قال: ويقال: "إذا سَقَيْتَ فَأحْنِذْ"، يعني: أخْفِسْ، يريد: أقلَّ الماء، وأكثر النبيذ.
* * *
وأما [أهل] التأويل، فإنهم قالوا في معناه ما أنا ذاكره، وذلك ما:-
18297- حدثني به المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (بعجل حينذ) ، يقول: نضيج
18298- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بعجل حينئذ) ، قال: "بعجل"، (3) حَسِيل
__________
(1) هو العجاج.
(2) ديوانه 9، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 292، واللسان (حنذ) ، و (هرج) ، من رجزه المشهور، وهذا البيت من أبيات يصف حمار الوحش وأتنه، لما جاء الصيف، وخرج بهن يطلب الماء البعيد فقال: حَتَّى إِذَا مَا الصَّيْفُ كَانَ أَمَجَا ... وَفَرَعَا مِنْ رَعْىِ مَا تَلَزَّجَا
ورَهِبَا مِنْ حَنْذِهِ أَنْ يَهْرَجَا ... تَذَكَّرَا عَيْنًا رِوًى وَفَلَجَا
و" الأمج " شدة الحر والعطش، يأخذ بالنفس. و" تلزج الكلأ " تتبعه، و" الحنذ "، شدة الحر وإحراقه. و" هرج البعير " تحير وسدر من شدة الحر.
(3) " الحسيل " (بفتح الحاء وكسر السين) : ولد البقرة.(15/384)
البقر، = و"الحنيذ": المشوي النضيج.
18299- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى) إلى (بعجل حنيذ) ، (1) قال: نضيج، سُخِّن، أنضج بالحجارة.
18300- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) ، و"الحنيذ": النضيج.
18301- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (بعجل حنيذ) ، قال: نضيج. قال: [وقال الكلبي] : و"الحنيذ": الذي يُحْنَذُ في الأرض. (2)
18302- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر في قوله: (فجاء بعجل حنيذ) ، قال: "الحنيذ": الذي يقطر ماء، وقد شوى = وقال حفص: "الحنيذ": مثل حِنَاذ الخيل.
18303- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذبحه ثم شواه في الرَّضْف، (3) فهو "الحنيذ" حين شواه.
18304- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو يزيد، عن يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية: (فجاء بعجل حنيذ) ، قال: المشويّ الذي يقطر.
__________
(1) كان في المطبوعة والمخطوطة هنا " ولما جاءت رسلنا "، وهو سهو من الناسخ، وحق التلاوة ما أثبت. وكذلك جاء سهوًا منه في نص الآية التي يفسرها أبو جعفر، وصححتها، ولم أشر إليه هناك.
(2) الذي بين القوسين ليس في المخطوطة، وقد تركته على حاله، وإن كنت أشك فيه، وأرجح أنه زيادة من ناسخ آخر، بعد ناسخ مخطوطتنا.
(3) " الرضف " (بفتح فسكون) الحجارة المحماة على النار. و " شواء مرضوف "، مشوي على الرضفة.(15/385)
18305- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام قال، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، قال: "الحنيذ" الذي يقطر ماؤه وقد شُوِي.
18306- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (بعجل حنيذ) ، قال: نضيج.
18307- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (بعجل حنيذ) ، الذي أنضج بالحجارة.
18308- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان: (فما لبث أن جاء بعجل حنيذ) ، قال: مشويّ.
18309- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول: "حينذ"، يعني: شُوِي.
18310- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، "الحِناذ": الإنضاج. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عن أهل العربية وأهل التفسير متقارباتُ المعاني بعضها من بعض.
* * *
وموضع "أن" في قوله: (أن جاء بعجل حنيذ) نصبٌ بقوله: (فما لبث أن جاء) .
* * *
__________
(1) الأثر: 18310 - من خبر الطويل، رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 127. وفيه " التحناذ "، وكلاهما مما يزاد على معاجم اللغة.(15/386)
فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما رأى إبراهيم أيديَهم لا تصل إلى العجل الذي أتاهم به، والطعام الذي قدّم إليهم، نكرهم، وذلك أنه لما قدم طعامه صلى الله عليه وسلم إليهم، فيما ذكر، كفّوا عن أكله، لأنهم لم يكونوا ممن يأكله. وكان إمساكهم عن أكله، عند إبراهيم، وهم ضِيَفانه مستنكرًا. ولم تكن بينهم معرفةٌ، وراعه أمرهم، وأوجس في نفسه منهم خيفة.
* * *
وكان قتادة يقول: كان إنكاره ذلك من أمرهم، كما:-
18311- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة) ، وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يطعم من طعامهم، ظنوا أنه لم يجئ بخير، وأنه يحدِّث نفسه بشرّ.
18312- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرَهم) ، قال: كانوا إذا نزل بهم ضيف فلم يأكل من طعامهم، ظنوا أنه لم يأت بخير، وأنه يحدّث نفسه بشرّ، ثم حدَّثوه عند ذلك بما جاؤوا.
*وقال غيره في ذلك ما:-
18313- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن الأسود بن قيس، عن جندب بن سفيان قال: لما دخل ضيف إبراهيم عليه(15/387)
السلام، قرّب إليهم العجل، فجعلوا ينكتُون بقِداح في أيديهم من نبْل، ولا تصل أيديهم إليه، نكرهم عند ذلك. (1)
* * *
يقال منه: "نكرت الشيء أنكره"، و"أنكرته أنكره "، بمعنى واحد، ومن "نكرت" و"أنكرت"، قول الأعشى:
وَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كَانَ الَّذِي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوَادِثِ، إلا الشَّيْبَ وَالصَّلَعَا (2)
فجمع اللغتين جميعا في البيت. وقال أبو ذؤيب:
فَنَكِرْنَهُ، فَنَفَرْنَ، وامْتَرَسَتْ بِهِ ... هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وَهَادٍ جُرْشُعُ (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 18313 - " الأسود بن قيس العبدي، البجلي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 7440.
و" جندب بن سفيان "، منسوب إلى جده، وهو: " جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي "، كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم غلامًا حزورًا، كما قال هو، وهو الذي راهق، ولم يدرك بعد. مترجم في الإصابة، وغيره، وفي التهذيب، والكبير 1 / 2 / 220، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 510.
(2) ديوانه: 72، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 293، واللسان (نكر) وغيرهما، وسيأتي في التفسير 29: 145 (بولاق) ، ومما يرويه أبو عبيدة، أن أبا عمرو بن العلاء قال: " أنا قلت هذا البيت وأستغفر الله "، فلم يروه، وأنه أنشد بشارًا هذا البيت وهو يسمعه وقيل له: إنه للأعشى، فقال: ليس هذا من كلامه. فقلت له: يا سيدي، ولا عرف القصيدة. ثم قال: أعمى شيطان. وهذه قصة تروى أنا في شك منها.
(3) ديوانه، (ديوان الهذليين) 1: 8، وشرح المفضليات: 867، وغيرهما، يذكر حمر الوحش، لما شرعت في الماء، وسمعت حس الصائد، فقال: فَشَرِبْنَ ثُمَّ سَمِعْنَ حِسًّا دُونَهُ ... شَرَفُ الحِجَابِ، وَرَيْبَ قَرْعٍ يَقْرَعُ
وَنمِيمَةً مِنْ قَانِصٍ متلبِّبٍ ... في كَفِّهِ جَشْءٌ أَجَشُّ وأَقْطَعُ
يقول: سمعن حس الصائد، يحجبه ما ارتفع من الحرة وهو " شرف الحجاب "، ثم يقول: سمعن ما رابهن من قرع القوس وصوت الوتر، وسمعن نميمة الصائد، وهو ما ينم عليه من حركته، و" المتلبب "المحتزم بثوبه. و" الجشء " القضيب الذي تعمل منه القوس. و" أجش " غليظ الصوت. و" الأقطع " جمع " قطع " (بكسر فسكون) ، وهو نصل بين النصلين، صغير. يقول: فلما سمعت ذلك أنكرته فنفرت، فامترست الأتان بالحمار، أي دنت منه دنوًا شديدًا، من شدة ملازمتها له. و"سطعاء " طويلة العنق، و"هادية " متقدمة، وهو "هاد " متقدم، " جرشع "، منتفخ الجنبين.
وأما رواية " هوجاء هادية "، فإنه يعني: جريئة متقدمة. .(15/388)
وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71)
وقوله: (وأوجس منهم خيفة) ، يقول: احسَّ في نَفسه منهم خيفة وأضمرها. (1) = (قالوا لا تخف) ، يقول: قالت الملائكة، لما رأت ما بإبراهيم من الخوف منهم: لا تخف منا وكن آمنًا، فإنا ملائكة ربّك = (أرسلنا إلى قوم لوط) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وامرأته) ، سارَة بنت هاران بن ناحور بن ساروج بن راعو بن فالغ، (2) وهي ابنة عم إبراهيم = (قائمة) ، قيل: كانت قائمة من وراء الستر تسمع كلام الرسل وكلام إبراهيم عليه السلام. وقيل: كانت قائمة تخدُم الرسل، وإبراهيم جالسٌ مع الرسل.
* * *
وقوله: (فضحكت) ، اختلف أهل التأويل في معنى قوله (فضحكت) ، وفي السبب الذي من أجله ضحكت.
فقال بعضهم: ضحكت الضحك المعروف، تعجبًا من أنَّها وزوجها إبراهيم يخدمان ضِيفانهم بأنفسهما، تكرمةً لهم، وهم عن طعامهم ممسكون لا يأكلون.
* ذكر من قال ذلك:
18314- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، بعث الله الملائكة لتهلك قوم لوط، أقبلت تمشي في صورة رجال شباب، حتى نزلوا على إبراهيم فتضيَّفوه، فلما رآهم إبراهيم أجلّهم، فراغ إلى أهله، فجاء بعجل سمين، فذبحه ثم شواه في الرَّضْف، فهو "الحنيذ"
__________
(1) انظر تفسير " خيفة " فيما سلف 13: 353.
(2) هكذا هنا: " ساروج "، وفي غيره: " ساروغ "، وهو الأكثر.(15/389)
حين شواه. وأتاهم فقعد معهم، وقامت سارَة تخدمُهم. فذلك حين يقول: (وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ وَهُوَ جَالِسٌ) = في قراءة ابن مسعود. فلما قرّبه إليهم قال ألا تأكلون؟ قالوا: يا إبراهيم، إنا لا نأكل طعامًا إلا بثمن. قال: فإن لهذا ثمنًا! قالوا: وما ثمنه؟ قال: تذكرون اسم الله على أوّله، وتحمدونه على آخره. فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال: حُقَّ لهذا أن يتخذه ربه خليلا! فلما رأى أيديهم لا تصل إليه = يقول: لا يأكلون = فزع منهم وأوجس منهم خيفة، فلما نظرت إليه سارة أنه قد أكرمهم وقامت هي تخدمهم، ضحكت وقالت: عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمةً لهم، وهم لا يأكلون طعامنا! (1)
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت من أن قوم لوط في غَفْلة وقد جاءت رُسُل الله لهلاكهم.
*ذكر من قال ذلك:
18315- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه حدثوه عند ذلك بما جاؤوا فيه، فضحكت امرأته وعجبت من أن قومًا أتاهم العذاب، وهم في غفلة. فضحكت من ذلك وعجبت = (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب)
18316- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة أنه قال: ضحكت تعجبًا مما فيه قوم لوط من الغفلة، ومما أتاهم من العذاب.
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت ظنًّا منها بهم أنهم يريدون عَمَل قوم لوط.
*ذكر من قال ذلك:
18317- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر،
__________
(1) الأثر: 18314 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 128.(15/390)
عن محمد بن قيس، في قوله: (وامرأته قائمة فضحكت) ، قال: لما جاءت الملائكة ظنَّت أنهم يريدون أن يعملوا كما يعمل قوم لوط.
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت لما رأت بزوجها إبراهيم من الرَّوع.
*ذكر من قال ذلك:
18318- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي: (فضحكت) ، قال: ضحكت حين راعُوا إبراهيم مما رأت من الروع، بإبراهيم.
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت حين بشرت بإسحاق تعجبًا من أن يكون لها ولد على كبر سنها وسن زوجها.
*ذكر من قال ذلك:
18319- حدثني المثني قال إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما أتى الملائكة إبراهيم عليه السلام فرآهم، راعه هيئتهم وجمالهم، فسلموا عليه، وجلسوا إليه، فقام فأمر بعجل سمين، فحُنِذَ له، فقرّب إليهم الطعام = (فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم وأوجس منهم خيفة) ، وسارة وراء البيت تسمع، قالوا: لا تَخَفْ إنَّا نبشرك بغلام حليم مبارك! وبشّر به امرأته سارة، فضحكت وعجبت: كيف يكون لي ولد وأنا عجوز، وهو شيخ كبير! فقالوا: أتعجبين من أمر الله؟ فإنه قادر على ما يشاء! فقد وهبه الله لكم، فأبشروا به.
* * *
وقد قال بعض من كان يتأول هذا التأويل: إن هذا من المقدَّم الذي معناه التأخير، كأنّ معنى الكلام عنده: وامرأته قائمة، فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فضحكت وقالت: يا ويلتا أألد وأنا عجوز؟
* * *(15/391)
وقال آخرون: بل معنى قوله: "فضحكت" في هذا الموضع: فحاضت.
*ذكر من قال ذلك:
18320- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن عمرو بن الأزهر، عن ليث، عن مجاهد في قوله: (فضحكت) ، قال: حاضت، وكانت ابنة بضع وتسعين سنة. قال: وكان إبراهيم ابن مائة سنة. (1)
* * *
وقال آخرون: بل ضحكت سرورًا بالأمن منهم، لما قالوا لإبراهيم: لا تخف، وذلك أنه قد كان خافهم وخافتهم أيضًا كما خافهم إبراهيم. فلما أمِنَت ضحكت، فأتبعوها البشارة بإسحاق.
* * *
وقد كان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أنه لم يسمع "ضحكت"، بمعنى: حاضت، من ثقة. (2)
* * *
وذكر بعض أهل العربية من البصريين أن بعض أهل الحجاز أخبره عن بعضهم أن العرب تقول "ضحكت المرأة"، حاضت. قال: وقد قال:
__________
(1) الأثر: 18320 - " علي بن هارون "، مضى برقم: 6521. وكتبت هناك أني أظنه " يزيد بن هارون "، وهذا ظن خطأ، دل عليه هذا الإسناد، فهو هناك أيضًا: " سعيد بن عمرو السكوني، عن بقية بن الوليد، عن علي بن هارون "، ومثل هذا الخطأ لا يكاد يتفق على بعد ما بين الكلامين. والصواب أن " علي بن هارون " مجهول، فإن " بقية بن الوليد " مشهور بالرواية عن هؤلاء المجهولين، وكان يحدث بالمناكير عن هؤلاء المجاهيل، وكان يأخذ عن كل من أدبر وأقبل. فهذا " علي بن هارون " ممن أدبر أو أقبل! ! وأما " عمرو بن الأزهر العتكي "، فهو كذاب يضع الحديث، وكان أبو سعيد الحداد يقول: " كان عمرو بن الأزهر يكذب مجاوبة "، قيل له: " كيف هذا "؟ قال: " رجل أسلم ثوبًا إلى حائك ينسجه "! ! مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 221، وتاريخ بغداد 12: 193، وميزان الاعتدال 2: 281، ولسان الميزان 4: 353. فهذا خبر هالك من جميع نواحيه.
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن، في تفسير الآية.(15/392)
"الضحك"، الحيض، وقد قال بعضهم: "الضحك": الثَّغْرُ، (1) وذكر بيت أبي ذؤيب:
فَجَاءَ بِمِزْجٍ لَمْ يَرَ النَّاسُ مِثْلَهُ ... هُوَ الضَّحْكُ إلا أَنَّهُ عَملُ النَّحْلِ (2)
وذكر أنَّ بعض أصحابه أنشده في الضحك بمعنى الحيض: (3)
وَضِحْكُ الأرَانِبِ فَوْقَ الصَّفَا ... كَمِثْل دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا (4)
قال: وذكر له بعض أصحابه أنه سمع للكميت:
فَأضْحَكَتِ الضِّبَاعُ سُيُوفُ سَعْدٍ ... بِقَتْلَى مَا دُفِنَّ وَلا وُدِينَا (5)
وقال: يريد الحيض. قال: وبلحرث بن كعب يقولون: "ضحكت النخلة"، إذا أخرجت الطَّلع أو البُسْر. وقالوا: "الضَّحك" الطلع. قال: وسمعنا من يحكي: "أضحكت حوضًا" أي ملأته حتى فاض. قال: وكأن المعنى قريبٌ بعضه من بعض كله، لأنه كأنه شيءٌ يمتلئُ فيفيض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " الضحك العجب " وفي المخطوطة: " العسب " سيئة الكتابة، كأنه لم يحسن قراءة المخطوطة التي نقل عنها، والبيت الذي استشهد به دال على صواب ما أثبتناه.
(2) ديوانه (ديوان الهذليين) 1: 42، واللسان (ضحك) ، وغيرهما، من قصيدة من عجائبه، ذكر في آخرها الخمر، وكيف تزودها من أهل مصر وغزة، وأقبل بها يقطع الأرض، حتى بات بمزدلفة (جمع) ، ومنى، فقال قبل البيت: فَبَاتَ بِجَمْعٍ، ثُمَّ تَمَّ إِلَى مِنًى ... فأَصْبَحَ رَأْدًا يَبْتَغِي المِزْجَ بالسَّحْل
وقوله: " رأدًا "، أي طالبًا، و " المزج " العسل يمزج بالخمر، و"السحل" يعني ينقد الدراهم، يقول: فلما طلب ذلك "المزج" اشترى بماله مزجا أي: عسلًا، كأنه ثغر حسناء في بياضه وصفائه ورقته. هكذا قالوا، وفي النفس منه شيء. وأجود منه عندي أن يقال إن " الضحك " في هذا البيت، هو طلع النخل حين ينشق عما في جوفه، وهو أبيض شديد البياض والنقاء.
(3) لم أعرف قائله.
(4) اللسان (ضحك) .
(5) اللسان (ضحك) ، من قصيدة له مشهورة، لم أجدها مجموعة في مكان، ويزعمون أن الضبع تحيض، إذا أكلت لحوم الناس أو شربت دماءهم. وكان ابن دريد يرد هذا ويقول: من شاهد الضباع عند حيضها فيعلم أنها تحيض؟(15/393)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرت في ذلك بالصواب قولُ من قال: معنى قوله: "فضحكت" فعجبت من غفلة قوم لوط عما قد أحاط بهم من عذاب الله وغفلتهم عنه.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأنه ذكر عقيب قولهم لإبراهيم: (لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط) . فإذ كان ذلك كذلك، وكان لا وجه للضحك والتعجب من قولهم لإبراهيم: (لا تخف) ، كان الضحك والتعجب إنما هو من أمر قوم لوط.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبشَّرنا سارَة امرأة إبراهيم ثوابًا منا لها على نَكيرها وعجبها من فعل قوم لوط = (بإسحاق) ، ولدًا لها = (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، يقول: ومن خلف إسحاق يعقوب، من ابنها إسحاق.
* * *
و"الوراء" في كلام العرب، ولد الولد، وكذلك تأوَّله أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18321- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر قال: (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، قال: الوراء: ولد الولد.
18322- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثنى، قال كلّ واحد منهما، حدثني أبو اليسع إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة مولى الأشعري، قال: كنت إلى جنب جدي أبي المغيرة بن مهران، في مسجد عليّ بن زيد، فمر بنا الحسنُ بن أبي الحسن فقال: يا أبا المغيرة من هذا الفتى؟ قال: ابني من ورائي،(15/394)
فقال الحسن: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) . (1)
18323- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن المثني قالا حدثنا محمد بن أبي عدي قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) ، قال: ولد الولد هو "الوراء".
18324- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد، عن داود، عن عامر في قوله: (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، قال: "الوراء"، ولد الولد.
18325- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، مثله.
18326- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو عمرو الأزدي قال: سمعت الشعبي يقول: ولد الولد: هم الولد من الوَراء.
18327- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء رجل إلى ابن عباس ومعه ابن ابنه فقال: من هذا معك؟ قال: هذا ابن ابني. قال: هذا ولدُك من الوراء! قال: فكأنه شقَّ على ذلك الرجل، فقال ابن عباس: إن الله يقول: (فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) ، فولد الولد هم الوراء.
18328- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما ضحكت سارَة. وقالت: "عجبًا لأضيافنا هؤلاء، إنا نخدمهم بأنفسنا تكرمة لهم وهم لا يأكلون طعامنا "! قال لها جبريل: أبشري بولد اسمُه إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب. فَضربتْ وَجْهَهَا عجبًا، فذلك قوله: (فَصَكَّتْ وَجْهَهَا) ، [سورة الذاريات: 29] . وقالت: (أألد
__________
(1) الأثر: 18322- "أبو اليسع" إسماعيل بن حماد بن أبي المغيرة، مولى الأشعري"، لم أجده في مكان آخر. والذي وجدته:
"إسماعيل بن حماد بن أبي سليمان، مولى الأشعري " مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/351، وابن أبي حاتم 1/1/ 164، وروى عنه " عمر بن علي بن مقدم "، ولم يرو عنه "عمرو بن علي الفلاس"، وإذًا فليس هو هو. فيبقى مجهولًا حتى نجد له ترجمة.(15/395)
وأنا عجوز وهذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب) قالوا (أتعجبين من أمر الله رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد) ، قالت سارة: ما آية ذلك؟ قال: فأخذ بيده عودًا يابسا فلواه بين أصابعه، فاهتز أخضر، فقال إبراهيم: هُو لله إذا ذبيحًا.
18329- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: (فضحكت) = يعني سارَة لما عرفت من أمر الله جل ثناؤه ولمَا تعلم من قوم لوط = فبشروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب = بابن وبابن ابن. فقالت وصكت وجهها = يقال: ضربت على جبينها =: (يا ويلتا أألد وأنا عجوز) ، إلى قوله: (إنه حميد مجيد) .
* * *
واختلفت القراء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء العراق والحجاز: (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبُ) ، برفع "يعقوب "، ويعيد ابتداء الكلام بقوله. (ومن وراء إسحاق يعقوب) ، وذلك وإن كان خبرًا مبتدأ، ففيه دلالة على معنى التبشير.
* * *
وقرأه بعض قراء أهل الكوفة والشأم، (وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوب) نصبًا.
* * *
فأما الشامي منهما، فذكر أنه كان ينحو ب"يعقوب" نحو النصب بإضمار فعل آخر مشاكل للبشارة، كأنه قال: ووهبنا له من وراء إسحاق يعقوب. فلما لم يظهر "وهبنا" عمل فيه "التبشير" وعطف به على موضع "إسحاق "، إذ كان "إسحاق" وإن كان مخفوضًا، فانه بمعنى المنصوب بعمل "بشرنا"، فيه، كما قال الشاعر: (1)
جِئْنِي بِمِثْلِ بَنِي بَدْرٍ لِقَوْمِهِمِ ... أَوْ مِثْلِ أُسَْرِة مَنْظُورِ بنِ سَيَّارِ ...
__________
(1) هو جرير.(15/396)
أَوْ عَامِرَ بْنَ طُفَيْلٍ فِي مُرَكَّبِهِ ... أَوْ حَارِثًا، يَوْمَ نَادَى القَوْمُ: يَا حَارِ (1)
* * *
وأما الكوفي منهما فإنه قرأه بتأويل الخفض فيما ذكر عنه، غير أنه نصبه لأنه لا يجرى. وقد أنكر ذلك أهل العلم بالعربية من أجل دخول الصفة بين حرف العطف والاسم. (2) وقالوا: خطأ أن يقال: "مررت بعمرٍو في الدَّار وفي الدار زيد" وأنت عاطف ب"زيد" على "عمرو"، إلا بتكرير الباء وإعادتها، فإن لم تعد كان وجه الكلام عندهم الرفع، وجاز النصب، فإن قُدم الاسم على الصفة جاز حينئذ الخفض، وذلك إذا قلت: "مررت بعمرو في الدار وزيد في البيت". وقد أجاز الخفضَ والصفةُ معترضةٌ بين حرف العطف والاسم، بعضُ نحويي البصرة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندي قراءة من قرأه رفعًا، لأن ذلك هو الكلام المعروف من كلام العرب، والذي لا يتناكره أهل العلم بالعربية، وما عليه قراءة الأمصار. فأما النَّصب فيه فإن له وجهًا، غير أنِّي لا أحبُّ القراءة به، لأن كتاب الله نزلَ بأفصح ألسُن العرب، والذي هو أولى بالعلم بالذي نزل به من الفصاحة.
* * *
__________
(1) ديوانه: 312، 313، ونقائض جرير والأخطل: 144، وسيبويه 1: 48، 86، والفراء في معاني القرآن، في تفسير الآية: من جياد قصائده في هجاء الأخطل، يقول له: لاَ تَفْخَرَنَّ، فإنَّ اللهَ أنْزَلكُمْ ... يَا خُزْرَ تَغْلِبَ دَارَ الذُّلِّ والعَارِ
مَا فِيكُمُ حَكَمٌ تُرْضَى حُكُومَتُهُ ... لِلمُسْلِمينَ، ولاَ مُسْتَشْهَدٌ شَارِي
ثم يقول البيتين، وبينهما بيت ثالث: أوْ مَثْلَ آلِ زُهَيْرٍ، والقَنا قِصَدٌ ... وَالخَيْلُ في رَهَجٍ مِنْهَا وَإِعْصَارِ
وهو في هذه القصيدة يفخر ببني قيس عيلان بن مضر بن نزار جميعًا، على بني ربيعة بن نزار، وهم جذم الأخطل التغلبي. فذكر " بني بدر "، الفزاريين من قيس عيلان، و" منظور بن سيار الفزاري "، و" آل الزهير بن جذيمة "، العبسيين، و" عامر بن الطفيل " من بني جعفر بن كلاب، و" الحارث بن ظالم المري "، من بني ذبيان، ثم تابع ذكر سائر قبائل قيس.
(2) " الصفة " يعني حرف الجر، كما سلف مرارًا، انظر فهارس المصطلحات.(15/397)
قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَا أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت سَارة لما بُشِّرت بإسحاق أنَّها تلد تعجبًا مما قيل لها من ذلك، إذ كانت قد بلغت السن التي لا يلد من كان قد بلغها من الرجال والنساء =
* * *
وقيل: إنها كانت يومئذ ابنة تسع وتسعين سنة، وإبراهيم ابن مائة سنة. وقد ذكرت الرواية فيما روي في ذلك عن مجاهد قبلُ. (1)
وأما ابن إسحاق، فإنه قال في ذلك ما:-
18330- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كانت سارَة يوم بُشِّرت بإسحاق، فيما ذكر لي بعض أهل العلم، ابنة تسعين سنة، وإبراهيم ابن عشرين ومائة سنة.
* * *
= (يا ويلتا) وهي كلمة تقولها العرب عند التعجب من الشيء والاستنكار للشيء، فيقولون عند التعجب: "ويلُ أمِّه رجلا ما أرْجَله"! (2)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في هذه الألف التي في: (يا ويلتا) .
فقال بعض نحويي البصرة: هذه ألف حقيقة، إذا وقفت قلت: "يا ويلتاه"،
__________
(1) انظر ما سلف رقم: 18320.
(2) انظر تفسير " الويل " فيما سلف 2: 267 - 269، 273.(15/398)
وهي مثل ألف الندبة، فلطفت من أن تكون في السكت، وجعلت بعدها الهاء لتكون أبين لها، وأبعد في الصوت. ذلك لأن الألف إذا كانت بين حرفين كان لها صدًى كنحو الصوت يكون في جوف الشيء فيتردد فيه، فتكون أكثر وأبين.
* * *
وقال غيره: هذه ألف الندبة، فإذا وقفت عليها فجائز، وإن وقفت على الهاء فجائز، وقال: ألا ترى أنهم قد وقفوا على قوله: (ويَدْعُو الإنْسَانُ) ، [سورة الإسراء: 11] ، فحذفوا الواو وأثبتوها، وكذلك: (ما كُنَّا نَبْغِي) ، [سورة الكهف: 64] ، بالياء، وغير الياء؟ قال: وهذا أقوى من ألف الندبة وهائها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن هذه الألف ألف الندبة، والوقف عليها بالهاء وغير الهاء جائز في الكلام لاستعمال العرب ذلك في كلامهم.
* * *
وقوله: (أألد وأنا عجوز) ، تقول: أنى يكون لي ولد = (وأنا عجوز وهذا بعلي شيْخًا) ، والبعل في هذا الموضع: الزوج، وسمي بذلك لأنه قيم أمرها، كما سموا مالك الشيء "بعله"، وكما قالوا للنخل التي تستغني بماء السماء عن سقي ماء الأنهار والعيون "البعل"، لأن مالك الشيء القيم به، والنخل البعل، بماء السمَاء حياتُه. (1)
* * *
وقوله = (إن هذا لشيء عجيب) ، يقول: إن كون الولد من مثلي ومثل بعلي على السن التي بها نحن لشيء عجيب = (قالوا أتعجبين من أمر الله) ،
__________
(1) انظر تفسير " البعل " فيما سلف 4: 526، 527 / 9: 267، ولم يذكر فيهما مثل هذا التفصيل في معناه. وهذا من فعله، دال على طريقته في التأليف.(15/399)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)
يقول الله تعالى ذكره: قالت الرسل لها: أتعجبين من أمرٍ أمر الله به أن يكون، وقضاء قضاه الله فيك وفي بعلك.
* * *
= وقوله: (رحمة الله وبركاته عليكم البيت) ، يقول: رحمة الله وسعادته لكم أهل بيت إبراهيم (1) = وجعلت الألف واللام خلفًا من الإضافة = وقوله: (إنه حَميدٌ مجيد) ، يقول: إن الله محمود في تفضله عليكم بما تفضل به من النعم عليكم وعلى سائر خلقه (2) = (مجيد) ، يقول: ذو مجد ومَدْح وَثَناء كريم.
* * *
يقال في "فعل" منه: "مجد الرجل يمجد مجادة" إذا صار كذلك، وإذا أردت أنك مدحته قلت: "مجّدته تمجيدًا".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فلما ذهب عن إبراهيم الخوفُ الذي أوجسه في نفسه من رسلنا، حين رأى أيديهم لا تصل إلى طعامه، وأمن أن يكون قُصِد في نفسه وأهله بسوء = (وجاءته البشرى) ، بإسحاق، ظلّ = (يجادلنا في قوم لوط) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18331- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
__________
(1) انظر تفسير " البركات " فيما سلف من فهارس اللغة (برك) .
(2) انظر تفسير " الحميد " فيما سلف 5: 570 / 9: 296.(15/400)
قوله: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) يقول: ذهب عنه الخوف، (وجاءته البشرى) ، بإسحاق.
18332- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، بإسحاق، ويعقوب ولد من صلب إسحاق، وأمن مما كان يخاف، قال: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ) ، [سورة إبراهيم: 39] .
* * *
وقد قيل معنى ذلك: وجاءته البشرى أنهم ليسوا إياه يريدون.
*ذكر من قال ذلك:
18333- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وجاءته البشرى) ، قال: حين أخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وأنهم ليسوا إياه يريدون. (1)
* * *
وقال آخرون: بشّر بإسحاق.
* * *
وأما "الروع": فهو الخوف، يقال منه: "راعني كذا يَرُوعني روعًا" إذا خافه. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل: "كيف لَكَ بَرَوْعَة المؤمن"؟ ومنه قول عنترة:
مَا رَاعَني إلا حَمُوَلُة أَهْلِهَا ... وَسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ (2)
__________
(1) بعد هذا الأثر ما نصه: " قال حدثنا محمد بن ثور، قال حدثنا معمر، وقال آخرون. . . " فحذفت هذه الزيادة، لأنها سبق نظر من الناسخ، لأنه نقل من أول السطر الذي فوقه، ثم عاد إلى السياق ولم يتم النقل.
(2) ديوانه: 123، من معلقته المشهورة، وقبله: إنْ كُنْتِ أَزْمْعتِ الفِرَاقَ، فإنَّما ... زُمَّتْ رِكابُكُمْ بِيَوْمٍ مُظْلِمِ
"الخمخم"، بقلة لها حب أسود. وذلك أنهم كانوا مجتمعين في الربيع، فلما يبس البقل، سفت حب الخمخم، فكان ذلك نذيرًا بوشك فراقهم.(15/401)
بمعمى: ما أفزعني.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
18334- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "الروع"، الفَرَق.
18335- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد =
18336-. . . . قال وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال: الفَرَق.
18337- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال: الفَرَق.
18338- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع) ، قال: ذهب عنه الخوف.
* * *
وقوله: (يجادلنا في قوم لوط) ، يقول: يخاصمنا. كما:-
18339- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يجادلنا) ، يخاصمنا. (1)
18340- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وزعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أن معنى قوله: (يجادلنا) يكلمنا.
__________
(1) انظر تفسير " المجادلة " فيما سلف ص: 303، تعليق 1، والمراجع هناك(15/402)
وقال: لأن إبراهيم لا يجادل الله، إنما يسأله ويطلب إليه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا من الكلام جهلٌ، لأن الله تعالى ذكره أخبرنا في كتابه أنه يجادل في قوم لوط، فقول القائل: "إبراهيم لا يجادل"، موهمًا بذلك أن قول من قال في تأويل قوله: (يجادلنا) ، يخاصمنا، أن إبراهيم كان يخاصم ربَّه، جهلٌ من الكلام، وإنما كان جدالُه الرسلَ على وجه المحاجَّة لهم. ومعنى ذلك: "وجاءته البشرى يجادل رسلنا"، ولكنه لما عرف المراد من الكلام حذف "الرسل".
* * *
وكان جدالُه إيَّاهُم، كما:-
18341- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي قال، حدثنا جعفر، عن سعيد: (يجادلنا في قوم لوط) ، قال: لما جاء جبريل ومن معه قالوا لإبراهيم: إنَّا مهلكو أهل هذه القرية إنَّ أهلها كانوا ظالمين: قال لهم إبراهيم: أتهلكون قريةً فيها أربع مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها ثلاث مائة مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا؟ قالوا: لا! قال: أفتهلكون قرية فيها أربعة عشر مؤمنًا؟ قالوا: لا! وكان إبراهيم يعدهم أربعة عشر بامرأة لوط، فسكتَ عنهم واطمأنت نفسه.
18342- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحماني، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، قال الملك لإبراهيم: إن كان فيها خمسة يصلون رُفع عنهم العذاب.
18343- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:
__________
(1) في المطبوعة: " ويطلب منه "، لم يحسن قراءة المخطوطة لدقة كتابة الكلمة في تجويف باء " يطلب "، إذ كانت في آخر السطر.(15/403)
(يجادلنا في قوم لوط) ، ذكر لنا أن مجادلته إياهم أنه قال لهم: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المؤمنين أمعذبوها أنتم؟ قالوا: لا! حتى صار ذلك إلى عشرة قال، أرأيتم إن كان فيها عشرة أمعذبوهم أنتم؟ قالوا: لا! وهي ثلاث قرى فيها ما شاء الله من الكثرة والعدد.
18344- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يجادلنا في قوم لوط) ، قال: بلغنا أنه قال لهم يومئذ: أرأيتم إن كان فيها خمسون من المسلمين؟ قالوا: إن كان فيها خمسون لم نعذبهم. قال: أربعون؟ قالوا: وأربعون! قال: ثلاثون؟ قالوا: ثلاثون! حتى بلغ عشرة. قالوا: وإن كان فيهم عشرة! قال: ما قومٌ لا يكون فيهم عشرة فيهم خير = قال ابن عبد الأعلى، قال محمد بن ثور، قال معمر: بلغنا أنه كان في قرية لوط أربعة آلاف ألف إنسان، أو ما شاء الله من ذلك.
18345- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، قال: ما خطبُكم أيها المرسلون؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم لوط، فجادلهم في قوم لوط قال، أرأيتم إن كان فيها مائة من المسلمين أتهلكونهم؟ قالوا: لا! فلم يزل يحُطَّ حتى بلغ عشرة من المسلمين، فقالوا: لا نعذبهم، إن كان فيهم عشرة من المسلمين، ثم قالوا: "يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه ليس فيها إلا أهل بيت من المؤمنين " هو لوط وأهل بيته، وهو قول الله تعالى ذكره: (يجادلنا في قوم لوط) . فقالت الملائكة: (يا إبراهيم أعرض عن هذا إنَّه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) .
18346- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى) ، يعني: إبراهيم جادل عن قوم لوط ليردّ عنهم العذاب قال: فيزعم أهل التوراة أن مجادلة إبراهيم إياهم حين(15/404)
جادلهم في قوم لوط ليردّ عنهم العذاب، إنما قال للرسل فيما يكلمهم به: أرأيتم إن كان فيهم مائة مؤمن أتهلكونهم؟ قالوا:، لا! قال: أفرأيتم إن كانوا تسعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ثمانين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا سبعين؟ قالوا: لا! قال: أفرأيتم إن كانوا ستين؟ قالوا لا! قال: أفرأيتم إن كانوا خمسين؟ قالوا لا! قال: أفرأيتم إن كان رجلا واحدًا مسلمًا؟ قالوا: لا! قال: فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنًا واحدًا، (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا) ، يدفع به عنهم العذاب = (قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ) [سورة العنكبوت: 32] ، (قالوا يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) .
18347- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال إبراهيم: أتهلكونهم إن وجدتم فيها مائة مؤمن ثم تسعين؟ حتى هبَط إلى خمسة. قال: وكان في قرية لوط أربعة آلاف ألف.
18348- حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا أبو المغيرة قال، حدثنا صفوان قال، حدثنا أبو المثني ومسلم أبو الحبيل الأشجعي قالا (لما ذهب عن إبراهيم الروع) ، إلى آخر الآية قال إبراهيم: أتعذب عالمًا من عالمك كثيرًا، فيهم مائة رجل؟ قال: لا وعزتي، ولا خمسين! قال: فأربعين؟ فثلاثين؟ حتى انتهى إلى خمسة. قال: لا! وعزتي لا أعذبهم ولو كان فيهم خمسة يعبدونني! قال الله عز وجل: (فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [سورة الذاريات:36] ، أي لوطًا وابنتيه، قال: فحلّ بهم من العذاب، قال الله عز وجل: (وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الأَلِيمَ) [سورة الذاريات:37] ، وقال: (فلما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط) . (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 18348 - "محمد بن عوف بن سفيان الطائي"، شيخ الطبري، مضى مرارًا، منها: 13108.
و" أبو المغيرة "، هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني "، مضى مرارا، منها: 13108.
و" صفوان " هو: " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، مضى مرارًا، منها: 13108.
" وأبو المثني " كأنه يعني: مسلم بن المثني الكوفي المؤذن "، روى عن ابن عمر، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 256، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 195. وأما " أبو الحبيل الأشجعي "، فلست أجد من يسمى هكذا، وظني أنه قد وقع في هذا الإسناد خطأ، فصوابه عندي: " قال حدثنا أبو المثني مسلم، والحسيل الأشجعي".
" والحسيل الأشجعي "، فيما أرجح: " الحسيل بن عبد الرحمن الأشجعي "، ويقال أيضًا: " حسين "، روى عن سعد بن أبي وقاص، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 58. هذا، وفي النفس شيء من حقيقة هذا الإسناد، والله أعلم.(15/405)
والعرب لا تكاد تَتَلقَّى "لمَّا" إذا وليها فعل ماض إلا بماض، يقولون: "لما قام قمت"، ولا يكادون يقولون: "لما قام أقوم". وقد يجوز فيما كان من الفعل له تَطَاول مثل "الجدال" "والخصومة" والقتال، فيقولون في ذلك: "لما لقيته أقاتله"، بمعنى: جعلت أقاتله.
* * *
وقوله: (إن إبراهيم لحليم أوّاه منيب) ، يقول تعالى ذكره: إن إبراهيم لبطيء الغضب، (1) متذلل لربه خاشع له، منقاد لأمره = (منيب) ، رَجَّاع إلى طاعته، كما:-
18349- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي يحيى، عن مجاهد: (أوّاه منيب) ، قال: القانت: الرَّجاع.
* * *
وقد بينا معنى "الأوّاه" فيما مضى، باختلاف المختلفين، والشواهد على الصحيح منه عندنا من القول، بما أغنى عن إعادته. (2)
__________
(1) انظر تفسير " حليم " فيما سلف 11: 114، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الأواه " فيما سلف 14: 523 - 536.(15/406)
يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قول رسله لإبراهيم: (يا إبراهيم أعرض عن هذا) ، وذلك قيلهم له حين جَادلهم في قوم لوط، فقالوا: دع عنك الجدالَ في أمرهم والخصومة فيه (1) = فإنه (قد جاء أمر ربكَ) يقول: قد جاء أمر ربك بعذابهم. وحقَّ عليهم كلمة العذاب، ومضى فيهم بهلاكهم القضاء = (وإنهم آتيهم عذاب غير مردود) ، يقول: وإن قوم لوط، نازلٌ بهم عذابٌ من الله غير مدفُوع.
* * *
وقد [مضى] ذكر الرواية بما ذكرنا فيه عمن ذكر ذلك عنه. (2)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاءت ملائكتنا لوطًا، ساءَه مَجيئهم = وهو "فعل" من "السوء" = (وضاق بهم) ، بمجيئهم (ذَرْعًا) ، يقول: وضاقت نفسه غما بمجيئهم. وذلك أنه لم يكن يعلم أنهم رسلُ الله في حال ما ساءه مجيئهم، وعلم من قومه ما هم عليه من إتيانهم الفاحشة، وخاف عليهم، فضاق من أجل ذلك بمجيئهم ذرعًا، وعلم أنه سيحتاج إلى المدافعة عن أضيافه، ولذلك قال: (هذا يوم عصيب) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف 14: 425، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) الزيادة بين القوسين يقتضيها السياق.(15/407)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك:
18350- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولما جاءت رسلنا لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذراعًا) ، يقول: ساء ظنًا بقومه وضاق ذرعًا بأضيافه.
* * *
18351- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة أنه قال: لما جاءت الرسل لوطًا أتوه وهو في أرض له يعمل فيها، وقد قيل لهم، والله أعلم: لا تهلكوهم حتى يشهدَ لوط. قال: فأتوه فقالوا: إنا مُتَضيِّفوك الليلة، فانطلق بهم، فلما مضى ساعةً التفت فقال: أما تعلمون ما يعمَل أهل هذه القرية؟ والله ما أعلم على ظهر الأرض أناسًا أخبث منهم! قال: فمضى معهم. ثم قال الثانية مثل ما قال، فانطلق بهم. فلما بصرت بهم عجوزُ السَّوْء امرأته، انطلقَت فأنذرتهم. (1)
18352- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال، قال حذيفة، فذكر نحوه.
18353- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، قال: أتت الملائكة لوطًا وهو في مزرعة له، وقال الله للملائكة: إن شهد لوط عليهم أربعَ شهادات فقد أذنت لكم في هَلكتهم. فقالوا: يا لوط، إنا نريد أن نُضيِّفك الليلة. فقال: وما بلغكم من أمرهم؟ قالوا: وما أمرهم؟ قال: أشهد بالله إنها لشرُّ قرية في الأرض عملا! يقول ذلك أربع مرات، فشهد عليهم لوط أربع شهادات، فدخلوا معه منزله. (2)
18354- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد
__________
(1) الأثر: 18351 - رواه الطبري في تاريخه 1: 154.
(2) الأثر: 18353 - رواه الطبري في تاريخه 1: 154.(15/408)
قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط، فأتوها نصف النهار، فلما بلغوا نهر سَدُوم لقوا ابنة لوط تستقي من الماء لأهلها، وكانت له ابنتان، اسم الكبرى "ريثا"، والصغرى "زغرتا"، (1) فقالوا لها: يا جارية، هل من منزل؟ قالت: نعم، فَمكانَكم لا تدخُلوا حتى آتيكم! فَرِقَتْ عليهم من قَوْمها. (2) فأتت أباها فقالت: يا أبتاه أرادك فتيان على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسنَ منهم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم! وقد كان قومه نهوه أن يُضيف رجلا فقالوا: خَلّ عنَّا فلنضِف الرجال! فجاء بهم، فلم يعلم أحدٌ إلا أهل بيت لوط، فخرجت امرأته فأخبرت قومها، قالت: إن في بيت لوط رجالا ما رأيت مثل وجوههم قَطّ! فجاءه قومه يُهْرَعون إليه. (3)
18355- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: خرجت الرسل فيما يزعم أهل التوراة من عند إبراهيم إلى لوط بالمؤتفكة، فلما جاءت الرسل لوطًا سيء بهم وضاق بهم ذرعًا، وذلك من تخوف قومه عليهم أن يفضحُوه في ضيفه، فقال: (هذا يوم عصيبٌ) .
* * *
وأما قوله: (وقال هذا يوم عصيب) ، فإنه يقول: وقال لوط: هذا اليوم يوم شديد شره، عظيم بلاؤه،
* * *
يقال منه: عصب يومنا هذا يعصب عصبًا، ومنه قول عدي بن زيد:
وَكُنْتُ لِزَازَ خَصْمِكَ لمْ أُعَرِّدْ ... وَقَدْ سَلَكُوكَ فِي يَوْمٍ عَصِيب (4)
__________
(1) هكذا في المخطوطة منقوطة نقطًا واضحًا، على قلة النقط في مواضع منها. وفي التاريخ: " رعزيا "، وتحقيق ذلك يحتاج إلى وقت غير هذا.
(2) أي: خافت عليهم.
(3) الأثر: 18354 - رواه الطبري في تاريخه 1: 154، تام الإسناد، مطولا.
(4) الأغاني 2: 111، مجاز القرآن 1: 294، اللسان (سلك) ، وسيأتي في التفسير 14: 8 / 18: 13 (بولاق) . من قصيدة له طويلة، قالها وهو في حبس النعمان بن المنذر، يقول للنعمان قبله: سَعَى الأَعْدَاءُ لاَ يَأْلُونَ شَرًّا ... عَلَيَّ وَربِّ مَكَّةَ والصَّلِيبِ
أَرَادُوا كي تُمَهَّلَ عَنْ عَدِيٍّ ... لِيُسْجَنَ أَو يُدَهُدَهَ فِي القَلِيبِ
وَكُنْتُ لِزازَ خَصْمِكَ. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أُعَالِنُهُم وأُبْطِنُ كُلَّ سِرٍّ ... كَمَا بَيْنَ اللِّحَاءِ إِلَى العَسِيبِ
فَفُزْتُ عَلَيْهِمْ لَمّا الْتَقَيْنَا ... بِتَاجِكَ فَوْزَةَ القِدْحِ الأرِيبِ
" دهدهه "، دحرجه من علو إلى سفل، و " القليب "، البئر، إنما عنى القبر هنا. و " لزاز الخصم "، الشديد المعاند ذو البأس في الملمات. و"عرد عن خصمه"، أحجم ونكص. وكان في المطبوعة هنا " أعدد "، وفي المخطوطة: " أعود "، والصواب ما أثبت. و" اللحاء " قشر العود، و " العسيب " جريد النخل، يقول: سرك كما بين هذين، يعني خفي لا يرى. و" القدح الأريب " من قداح الميسر، هو القدح ذو الآراب الكثيرة، و"الآراب" أعضاء الجذور.(15/409)
وقول الراجز:
يَوْمٌ عَصِيبٌ يَعْصِبُ الأَبْطَالا ... عَصْبَ القَوِيِّ السَّلَمَ الطِّوَالا (1)
وقول الآخر:
وَإنَّكَ إنْ لا تُرْضِ بَكْرَ بنَ وَائِلٍ ... يَكُنْ لَكَ يَوْمٌ بالعِرَاقِ عَصِيبِ (2)
وقال كعب بن جعيل:
ومُلَبُّونَ بِالحَضِيضِ فِئامٌ ... عَارِفاتٌ مِنْهُ بِيَوْمٍ عَصِيبِ (3)
* * *
ونحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) لم أعرف قائله، وهو في مجاز القرآن 1: 294.
(2) لم أعرف قائله، وهو في مجاز القرآن 1: 294.
(3) لم أجد البيت في مكان آخر، وفي المطبوعة: " ويلبون "، وفي المخطوطة مثله، إلا أن فيه خطأ في النقط وأظن الصواب ما أثبت، من قولهم: " ألب بالمكان "، إذا لزمه ولم يفارقه. " والحضيض "، منخفض من الأرض عند منقطع الجبل. و" فئام"، جماعات. وكأن هذا البيت من شعره الذي رثى به عبد الرحمن بن خالد بن الوليد، وروى أبياتا منه المصعب الزبيري في نسب قريش ص: 325، وكان كعب بن جعيل مداحًا له.(15/410)
وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78)
18356- حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (عصيب) ،: شديد
18357- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: (هذا يوم عصيب) ، يقول شديد.
18358- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (هذا يوم عصيب) ، أي يوم بلاء وشدة.
18359- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يوم عصيب) ، شديد.
18360- حدثني علي قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (وقال هذا يوم عصيب) ، أي: يوم شديد.
القول في تأويل قوله تعالى: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِي فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وجاء لوطًا قومه يستحثون إليه، يُرْعَدون مع سرعة المشي، مما بهم من طلب الفاحشة.
* * *
يقال: "أهْرِعَ الرجل "، من برد أو غضب أو حمَّى، إذا أرعد، "وهو مُهْرَع"، إذا كان مُعْجلا حريصًا، كما قال الراجز:(15/411)
(1)
* بِمُعْجَلاتٍ نَحْوَهُ مَهَارِع * (2)
ومنه قول مهلهل:
فجاؤوا يُهْرَعُونَ وهمْ أُسارَى تَقُودُهُمُ على رَغمِ الأُنُوفِ (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18361- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (يُهْرَعون إليه) ، قال: يهرولون، وهو الإسراع في المشي.
18362- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18363- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
18364- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد والمحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، قال: يسعون إليه.
18365- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قال: فأتوه يهرعون إليه، يقول: سراعًا إليه.
18366- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يهرعون إليه) ، قال: يسرعون إليه.
18367- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، يقول: يسرعون المشي إليه.
18368- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 294.
(3) اللسان (هرع) ، ولم أعرف سائر الشعر.(15/412)
زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، قال: يهرولون في المشي = قال سفيان: (يهرعون إليه) ، يسرعون إليه.
18369- حدثنا سوار بن عبد الله قال، قال سفيان بن عيينة في قوله: (يهرعون إليه) ، قال: كأنهم يدفعون.
18370- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال، أقبلوا يسرعون مشيًا بين الهرولة والجمز.
18371- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس، قوله: (وجاءه قومه يهرعون إليه) ، يقول: مسرعين.
* * *
وقوله: (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) ، يقول: من قبل مجيئهم إلى لوط، كانوا يأتون الرجال في أدبارهم، كما:-
18372- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (ومن قبل كانوا يعملون السيئات) ، قال: يأتون الرجال.
* * *
وقوله: (قال يا قوم هؤلاء بناتي) ، يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه لما جاؤوه يراودونه عن ضيفه: هؤلاء يا قوم بناتي = يعني نساء أمته = فانكحوهن فهنّ أطهر لكم، كما:-
18373- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، قال: أمرهم لوط بتزويج النساء وقال: (هن أطهر لكم) .
18374- حدثنا محمد قال: ثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: وبلغني هذا أيضًا عن مجاهد.
18375- حدثنا ابن وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: (هؤلاء(15/413)
بناتي هن أطهر لكم) ، قال: لم تكن بناته، ولكن كنَّ من أمّته، وكل نبي أبُو أمَّته.
18376- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، قال: أمرهم أن يتزوجوا النساء، لم يعرضْ عليهم سفاحًا.
18377- حدثني يعقوب قال، حدثنا أبو بشر، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قوله: (هن أطهر لكم) ، قال: ما عرض عليهم نكاحًا ولا سفاحًا. (1)
18378- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) قال: أمرهم أن يتزوجوا النساء، وأراد نبي الله صلى الله عليه وسلم أن يَقي أضيافه ببناته.
18379- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر عن الربيع، في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، يعني التزويج = حدثني أبو جعفر، عن الربيع في قوله: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، يعني التزويج. (2)
18380- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو النعمان عارم قال، حدثنا حماد بن زيد قال، حدثنا محمد بن شبيب الزهراني، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، في قول لوط: (هؤلاء بناتي هن أطهر كم) ، يعني: نساءهم، هنّ بَنَاته، هو نبيّهم = وقال في بعض القراءة: (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ) ، [سورة الأحزاب: 6] . (3)
__________
(1) لا يظهر لهذه العبارة معنى، وأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء ويكون: " ما عرض عليهم بناته نكاحا ولا سفاحا "، ويكون ابن أبي نجيح أراد أنه أمرهم بأن يتزوجوا النساء من قومهم.
(2) هكذا جاء التكرار في المخطوطة والمطبوعة، وأخشى أن يكون سقط من الإسناد شيء.
(3) الأثر: 18380 - " محمد بن شبيب الزهراني "، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 114، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 285.(15/414)
18381- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وجاءه قومه يهرعون) ، قالوا: أو لم ننهك أن تضيف العالمين؟ قال: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، إن كنتم فاعلين، أليس منكم رجل رشيد؟
18382- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما جاءت الرسل لوطًا أقبل قومه إليهم حين أخبروا بهم يهرَعون إليه. فيزعمون، والله أعلم، أن امرأة لوط هي التي أخبرتهم بمكانهم، وقالت: إن عند لوط لضيفانًا ما رأيت أحسنَ ولا أجمل قطُّ منهم! وكانوا يأتون الرجالَ شهوة من دون النساء، فاحشةٌ، لم يسبقهم بها أحد من العالمين. فلما جاؤوه قالوا: أو لم ننهك عن العالمين؟ أي: ألم نقل لك: لا يقربنَّك أحدٌ، فإنا لن نجد عندك أحدًا إلا فعلنا به الفاحشة؟ قال: "يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم"، فأنا أفدي ضيفي منكم بهنّ، ولم يدعهم إلا إلى الحلال من النكاح.
18383- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (هؤلاء بناتي) ، قال: النساء.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (هن أطهر لكم) .
فقرأته عامة القراء برفع: (أَطْهَرُ) ، على أن جعلوا "هن" اسمًا، "وأطهر" خبره، كأنه قيل: بناتي أطهرُ لكم مما تريدون من الفاحشة من الرجال.
* * *
وذكر عن عيسى بن عمر البصري أنه كان يقرأ ذلك: (هُنَّ أَطْهَرَ لَكُمْ) ، بنصب "أطهر". (1)
* * *
وكان بعض نحويي البصرة يقول: هذا لا يكون، إنما ينصب خبر الفعل الذي لا يستغني عن الخبر إذا كان بين الاسم والخبر هذه الأسماء المضمرة.
__________
(1) انظر قراءة عيسى بن عمر، وما قاله له أبو عمرو بن العلاء، في طبقات فحول الشعراء ص: 18.(15/415)
وكان بعض نحويي الكوفة يقول: من نصبه جعله نكرةً خارجة من المعرفة، ويكون قوله: "هن" عمادًا للفعل فلا يُعْمِله.
* * *
وقال آخر منهم: مسموع من العرب: "هذا زيد إيَّاه بعينه"، قال: فقد جعله خبرًا لـ "هذا" مثل قولك: "كان عبد الله إياه بعينه". قال: وإنما لم يجز أن يقع الفعل ههنا، لأن التقريب ردُّ كلام، (1) فلم يجتمعا، لأنه يتناقض، لأنَّ ذلك إخبار عن معهود، وهذا إخبار عن ابتداء ما هو فيه: "ها أنا ذا حاضر"، أو: "زيد هو العالم"، فتناقض أن يدخل المعهودُ على الحاضر، فلذلك لم يجُزْ.
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز خلافها في ذلك، الرفع: (هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ) ، لإجماع الحجة من قراء الأمصار عليه، مع صحته في العربية، وبعد النصب فيه من الصحة.
* * *
وقوله: (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي) ، يقول: فاخشوا الله، أيها الناس، واحذروا عقابه، في إتيانكم الفاحشة التي تأتونها وتطلبونها = (ولا تخزون في ضيفي) ، يقول: ولا تذلوني بأن تركبوا مني في ضيفي ما يكرهون أن تركبُوه منهم. (2)
* * *
و"الضيف "، في لفظ واحدٍ في هذا الموضع بمعنى جمع. والعرب تسمي الواحد والجمع "ضيفًا" بلفظ واحدٍ. كما قالوا: "رجل عَدْل، وقوم عَدْل".
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التقريب " فيما سلف 7: 149، تعليق: 4، وص: 150، تعليق: 3، وهو من اصطلاح الكوفيين. وهو أن تكون " هذا " و " هذه "، من أخوات " كان " في احتياجهما إلى اسم مرفوع، وخبر منصوب.
(2) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف من فهارس اللغة (خزي) .(15/416)
قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
وقوله: (أليس منكم رجل رشيد) ، يقول: أليس منكم رجل ذو رُشد، ينهى من أراد ركوبَ الفاحشة من ضيفي، فيحول بينهم وبين ذلك؟ (1) كما:-
18384- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي أليس منكم رجل رشيد) ، أي رجل يعرف الحقَّ وينهى عن المنكر؟
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم لوط للوط: (لقد علمت) ، يا لوط (ما لنا في بناتك من حق) ، لأنهن لَسْنَ لنا أزواجًا، (2) كما:-
18385- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حق) ، أي من أزواج = (وإنك تعلم ما نريد) .
* * *
وقوله: (وإنك لتعلم ما نريد) ، يقول: قالوا: وإنك يا لوط لتعلم أنَّ حاجتنا في غير بناتك، وأن الذي نُريد هو ما تنهانَا عنه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
18386- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) انظر تفسير " الرشد " فيما سلف 13: 114، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " ليس لنا أزواجا "، والصواب ما أثبت.(15/417)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80)
السدي: (وإنك لتعلم ما نريد) ، إنا نريد الرجال.
18387- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وإنك لتعلم ما نريد) ، أي: إن بغيتنا لغير ذلك. فلما لم يتناهوا، ولم يردَّهم قوله، ولم يقبلوا منه شيئًا مما عرض عليهم من أمور بناته، قال: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال لوط لقومه حين أبوا إلا المضي لما قد جاؤوا له من طلب الفاحشة، وأيس من أن يستجيبوا له إلى شيء مما عرض عليهم: (لو أن لي بكم قوة) ، بأنصار تنصرني عليكم وأعوان تعينني = (أو آوى إلى ركن شديد) ، يقول: أو أنضم إلى عشيرة مانعة تمنعني منكم، (1) لحلت بينكم وبين ما جئتم تريدونه منِّي في أضيافي = وحذف جواب "لو" لدلالة الكلام عليه، وأن معناه مفهوم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18388- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال لوط: (قال لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، يقول: إلى جُنْد شديد، لقاتلتكم.
__________
(1) انظر تفسير " أوى " فيما سلف ص: 331، تعليق: 1، والمراجع هناك = ثم انظر ما سيأتي ص: 422.(15/418)
18389- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: (أو آوى إلى ركن شديد) ، قال: العشيرة.
18390- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة: (إلى ركن شديد) ، قال: العشيرة.
18391- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن: (أو آوى إلى ركن شديد) ، قال: إلى ركن من الناس.
18392- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال قوله: (أو آوى إلى ركن شديد) ، قال: بلغنا أنه لم يبعث نبيٌّ بعد لوط إلا في ثَرْوَة من قومه، حتى النبي صلى الله عليه وسلم.
18393- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، أي: عشيرة تمنعني أو شيعة تنصرني، لحلت بينكم وبين هذا.
18394- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) قال: يعني به العشيرة.
18395- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن: أن هذه الآية لما نزلت: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد!
18396- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن مبارك، عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله أخي لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد، فلأيّ شيء استكان!
18397- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة وعبد الرحيم، عن محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله(15/419)
عليه وسلم: رحمة الله على لوط، إن كان ليأوي إلى ركن شديد، إذ قال لقومه: (لو أن لي بكم قوة أو آوى إلى ركن شديد) ، ما بعث الله بعدَه من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه = قال محمد: و"الثروة"، الكثرة والمنعة. (1)
18398- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن كثير قال، حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.
18399- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سليمان بن بلال، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله.
18400- حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري قال، حدثنا سعيد بن تليد قال، حدثنا عبد الرحمن بن القاسم قال، حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب الزهري قال، أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد. (2)
__________
(1) الأثر: 18397 - حديث محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، رواه من أربع طرق، من رقم: 18397 - 18399، ثم رقم: 18402." ومحمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي "، روى له الجماعة، مضى مرارًا." وأبو سلمة بن عبد الرحمن "، روى له الجماعة، مضى مرارًا. وهذا حديث صحيح، وخرجه الحاكم في المستدرك 2: 561، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه بهذه الزيادة، وإنما اتفق على حديث الزهري عن سعيد، وأبي عبيدة، عن أبي هريرة مختصرًا ".
(2) الأثر: 18400 - حديث ابن شهاب الزهري، عن أبي سلمة، وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، رواه من طريقين، هذا ورقم: 18401.
"زكريا بن يحيى بن أبان المصري "، شيخ الطبري، مضى برقم: 5973، 12807، وانظر التعليق عليه في الموضوعين." وسعيد بن تليد "، هو:" سعيد بن عيسى بن تليد المصري " ثقة، مضى برقم: 5973. " وعبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي "، ثقة، مضى برقم: 5973." وبكر بن مضر المصري "، ثقة، مضى برقم ": 2031، 4633، 5897، 5973. " وعمرو بن الحارث بن يعقوب المصري "، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة. " ويونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي "، روى له الجماعة، مضى مرارًا كثيرة. وهذا إسناد صحيح أيضًا.(15/420)
18401- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال، فذكر مثله.
18402- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في قوله: (أو آوى إلى ركن شديد) ، قد كان يأوي إلى ركن شديد = يعني الله تبارك وتعالى. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فما بَعثَ الله بعده من نبيّ إلا في ثَرْوة من قومه. (1)
18403- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا بن لهيعة، عن أبي يونس، سمع أبا هريرة يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله لوطًا، لقد كان يأوي إلى ركن شديد. (2)
18404-. . . . قال، حدثنا ابن أبي مريم سعيد بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عبد الرحمن الأعرج، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (3)
18405- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
__________
(1) الأثر: 18402 - انظر تخريج الأثر رقم: 18397.
(2) الأثر: 18403 - " أبو يونس "، هو " سليم بن جبير الدوسي المصري "، مولى أبي هريرة، ثقة، سلف برقم: 6889. و " ابن لهيعة "، مضى مرارًا، ذكر من يضعفه، ومن يوثقه.
(3) الأثر: 18404 - هذا إسناد صحيح، ومن هذه الطريق، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 6: 297) .(15/421)
ذكر لنا أنَّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ هذه الآية = أو: أتى على هذه الآية = قال: رحم الله لوطًا، إن كان ليأوي إلى ركن شديد! = وذكر لنا أن الله تعالى لم يبعث نبيًّا بعد لوط عليه السلام إلا في ثَرْوة من قومه، حتى بعث الله نبيكم في ثروة من قومه.
* * *
يقال: من (آوي إلى ركن شديد) ، "أويت إليك"، فأنا آوي إليك أوْيًا"، بمعنى: صرت إليك وانضممت، (1) كما قال الراجز: (2)
يَأْوِي إِلَى رُكْنٍ مِنَ الأَرْكَانِ ... فِي عَدَدَ طَيْسٍ وَمجْدٍ بَانِ (3)
* * *
وقيل: إن لوطًا لما قال هذه المقالة، وَجَدَت الرسلُ عليه لذلك.
18406- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، أنه سمع وهب بن منبه يقول: قال لوط: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، فوجد عليه الرسلُ وقالوا: إنَّ ركنَك لشديد! (4)
__________
(1) انظر تفسير " أوى " فيما سلف ص: 418، تعليق: 1، والمراجع هناك، وهذه زيادة في البيان لم يسبق مثلها.
(2) لم أعرف قائله.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 294، و " عدد طيس "، كثير.
(4) الأثر: 18406 - جزء من خبر طويل رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 156، 157، وسيأتي برقم: 18415.(15/422)
قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قالت الملائكة للوط، لما قال لوط لقومه (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، ورأوا ما لقي من الكرب بسببهم منهم: (يا لوط إنا رسل ربك) ، أرسلنا لإهلاكهم، وإنهم لن يصلوا إليك وإلى ضيفك بمكروه، فهوّن عليك الأمر= (فأسر بأهلك بقطع من الليل) ، يقول: فاخرج من بين أظهرهم أنت وأهلك ببقية من الليل. (1)
* * *
يقال منه: "أسرى" و"سرى"، وذلك إذا سار بليل = (ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) .
* * *
واختلفت القراءة في قراءة قوله: (فأسر) .
فقرأ ذلك عامة قراء المكيين والمدنيين: "فَاسْرِ"، وصلٌ بغير همز الألف، من "سرى".
* * *
وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة والبصرة: (فَأَسْرِ) بهمز الألف، من "أسرى".
* * *
قال أبو جعفر: والقول عندي في ذلك أنهما قراءتان، قد قرأ بكل واحدة منهما أهل قدوة في القراءة، وهما لغتان مشهورتان في العرب، معناهما واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " القطع " فيما سلف ص: 76.(15/423)
وأما قوله: (إلا امرأتك) ، فإن عامَّة القراء من الحجاز والكوفة، وبعض أهل البصرة، قرأوا بالنصب (إلا امْرَأَتَكَ) ، بتأويل: فأسر بأهلك إلا امرأتك، وعلى أن لوطًا أمر أن يسري بأهله سوى زوجته، فإنه نهي أن يسري بها، وأمر بتخليفها مع قومها.
* * *
وقرأ ذلك بعض البصريين: (إلا امْرَأَتُكَ) ، رفعًا = بمعنى: ولا يلتفت منكم أحد، إلا امرأتك = فإن لوطًا قد أخرجها معه، وإنه نهي لوط ومن معه ممن أسرى معه أن يلتفت سوى زوجته، وأنها التفتت فهلكت لذلك.
* * *
وقوله: (إنه مصيبها ما أصابهم) ، يقول: إنه مصيب امرأتك ما أصاب قومك من العذاب = (إن موعدهم الصبح) ، يقول: إن موعد قومك الهلاك الصبح. فاستبطأ ذلك منهم لوط وقال لهم: بلى عجِّلوا لهم الهلاك! فقالوا: (أليس الصبح بقريب) أي عند الصبح نزولُ العذاب بهم، كما:-
18407- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (أليس الصبح بقريب) ، أي: إنما ينزل بهم من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:-
18408- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد، قال: فمضت الرُّسُل من عند إبراهيم إلى لوط، فلما أتوا لوطًا، وكان من أمرهم ما ذكر الله، قال جبريل للوط: يا لوط، إنا مهلكو أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين، فقال لهم لوط: أهلكوهم الساعة! فقال له جبريل عليه السلام: (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ؟ فأنزلت على لوط: (أليس الصبح بقريب) ، قال: فأمره أن يسري بأهله بقطع من الليل، ولا يلتفت منهم أحد إلا(15/424)
امرأته، قال: فسار، فلما كانت الساعة التي أهلكوا فيها، أدخل جبريل جناحَه فرفعها، حتى سمع أهلُ السماء صياح الديكة ونباحَ الكلاب، فجعل عاليها سافلَها، وأمطر عليها حجارة من سجِّيل. قال: وسمعت امرأة لوط الهَدَّة، فقالت: واقوماه! فأدركها حَجَرٌ فقتَلها. (1)
18409- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية قال: كان لوط أخذ على امرأته أن لا تذيع شيئًا من سرّ أضيافه. قال: فلما دخل عليه جبريل ومن معه، رأتهم في صورة لم تر مثلها قطُّ، فانطلقت تسعى إلى قومها، فأتت النادي فقالتْ بيدها هكذا، وأقبلوا يهرعون مشيا بين الهرولة والجمز، فلما انتهوا إلى لوط، قال لهم لوطٌ ما قال الله في كتابه. قال جبريل: (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) ، قال: فقال بيده، (2) فطمس أعينهم، فجعلوا يطلبونهم، يلمسون الحيطان وهم لا يبصرون. (3)
18410- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حذيفة قال: لما بَصُرت بهم = يعني بالرسل = عجوزُ السَّوء امرأتُه، انطلقت فأنذرتهم، فقالت: قد تضيَّف لوطًا قوم، (4) ما رأيت قومًا أحسن وجوهًا! = قال: ولا أعلمه إلا قالت: ولا أشد بياضًا وأطيبَ ريحًا! قال: فأتوه يُهْرعون إليه، كما قال الله، فأصْفق لوط البابَ. قال: فجعلوا يعالجونه. قال: فاستأذن جبريل ربَّه في عقوبتهم، فأذن له، فصفقهم بجناحه، فتركهم عميانًا يتردَّدون في أخبث ليلة أتت عليهم قطُّ. (5)
فأخبروه: (إنا رسل ربك فأسر
__________
(1) الأثر: 18408 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 155.
(2) " قال بيده "، أشار بيده وأومأ.
(3) الأثر: 18409 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 155.
(4) في المطبوعة فقال " إنه تضيف لوطا "، وفي المخطوطة: " رب تضيف لوط قوم "، وهو خطأ من الناسخ لا شك فيه وأثبت ما في التاريخ.
(5) في المطبوعة: " في أخبث ليلة ما أتت عليهم. . . "، كأنه أراد تصويبها، فأفسدها. والصواب ما في المخطوطة والتاريخ.(15/425)
بأهلك بقطع من الليل) ، قال: ولقد ذكر لنا أنه كانت مع لوط حين خرج من القرية امرأته، ثم سمعت الصوت، فالتفتت، وأرسل الله عليها حجرًا فأهلكها. وقوله: (إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ، فأراد نبيُّ الله ما هو أعجل من ذلك، فقالوا: (أليس الصبح بقريب) ؟ (1)
18411- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي، عن سعيد بن بشير، عن قتادة قال: انطلقت امرأته = يعني امرأة لوط = حين رأتهم = يعني حين رأت الرسل = إلى قومها فقالت: إنه قد ضافه الليلة قوم ما رأيت مثلَهم قط، أحسنَ وجوهًا ولا أطيبَ ريحًا! فجاؤوا يُهرعون إليه، فبادرهم لوط إلى أن يزحمهم على الباب، (2) فقال: (هَؤُلاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ) ، فقالوا: (أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ) ، (3) فدخلوا على الملائكة، فتناولتهم الملائكة وطمست أعينهم، فقالوا: يا لوط جئتنا بقوم سحرة سحرونا، كما أنت حتى تصبح! قال: واحتمل جبريل قَرْيات لوط الأربع، في كل قرية مائة ألف، فرفعهم على جناحه بين السماء والأرض، حتى سمع أهل السماء الدنيا أصواتَ ديكتهم، ثم قلبَهم، فجعل الله عاليها سافَلها. (4)
18412- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال حذيفة: لما دخلوا عليه، ذهبت عَجُوزه عجوزُ السوء، فأتت قومها فقالت: لقد تضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت قومًا قطُّ
__________
(1) الأثر: 18410 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 155، ولم ترد فيه الجملة الأخيرة من الخبر.
(2) في المطبوعة: " يزجهم على الباب " والصواب ما في المخطوطة والتاريخ.
(3) تضمين آيات سورة الحجر: 70، 71.
(4) الأثر: 18411 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 155، 156.(15/426)
أحسنَ وجوهًا منهم! قال: فجاؤوا يسرعون، (1) فعاجلَهم إلى لوط، (2) فقام ملك فلزَّ الباب = يقول: فسدّه = واستأذن جبريل في عقوبتهم، فأذن له، فضربهم جبريل بجناحه، فتركهم عميانًا، فباتوا بشرّ ليلة، ثم (قالوا إنا رسل ربك فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك) ، قال: فبلغنا أنها سمعت صوتًا، فالتفتت فأصابها حجر، وهى شاذَّة من القوم معلومٌ مكانها. (3)
18413- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن حذيفة بنحوه، إلا أنه قال: فعاجلهم لوط. (4)
18414- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، لما قال لوط: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، بسط حينئذ جبريل عليه السلام جناحيه، ففقأ أعينهم، وخرجوا يدوس بعضُهم في أدبار بعض عميانًا يقولون: "النَّجَاءَ النجاء! فإن في بيت لوط أسحرَ قوم في الأرض"! فذلك قوله: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) ، [سورة القمر: 37] . وقالوا للوط: (إنا رسل ربِّك لن يصلوا إليك فأسرْ بأهْلكَ بقطع منَ اللَّيْل ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها) ، وَاتبع أدبارَ أهلك (5) = يقول: سرْ بهم = (وامضوا حيث تؤمرون) = فأخرجهم الله إلى
__________
(1) في التاريخ " فجاؤوا يهرعون إليه ".
(2) في المطبوعة: " فعاجلهم لوط "، وأثبت ما في المخطوطة، وأنا في ريب منه، لأن أبا جعفر لم يرو هذه الجملة في تاريخه، ولا أدري لم؟ ولم أشأ أن أغيره، للخبر الذي يليه، وهو في التاريخ جمع الإسنادين جميعًا، وساق هذه الجملة كلها غير هذا السياق.
(3) الأثر: 18412 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 156، جمع هذا الإسناد والذي يليه فقال: ". . . حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال حدثنا محمد بن ثور = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق = جميعًا، عن معمر. . . ".
(4) الأثر: 18413 - انظر التعليق السالف، وإن كانت هذه الجملة، لم ترد في نص روايته في التاريخ.
(5) هذا تضمين للآيات من هذه السورة، والتي في سورة الحجر: 65.(15/427)
الشام. وقال لوط: أهلكوهم الساعة! فقالوا: إنا لم نؤمر إلا بالصُّبح، أليس الصبح بقريب؟ فلما أن كان السَّحَر، خرج لوط وأهله معه امرأته، (1) فذلك قوله: (إِلا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ) ، [سورة القمر: 34] . (2)
18415- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، عن عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول: كانَ أهل سدوم الذين فيهم لوط، قومًا قد استغنوا عن النساء بالرجال، فلما رأى الله ذلك [منهم] ، (3) بعث الملائكة ليعذبوهم، فأتوا إبراهيم، وكان من أمره وأمرهم ما ذكر الله في كتابه. فلما بشروا سارَة بالولد، قاموا وقام معهم إبراهيم يمشي، قال: أخبروني لم بعثتم؟ وما خطبكم؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى أهل سدوم لندمرها، وإنهم قوم سَوء قد استغنوا بالرجال عن النساء. قال إبراهيم: [أرأيتم] إن كان فيهم خمسون رجلا صالحًا؟ (4) قالوا: إذًا لا نعذبهم! فجعل ينقص حتى قال أهل بَيْت؟ (5) قالوا: فإن كان فيها بيت صالح! قال: فلوط وأهل بيته؟ قالوا: إن امرأته هَوَاها معهم! فلما يَئس إبراهيم انصرف. ومضوا إلى أهل سدوم، فدخلوا على لوط، فلما رأتهم امرأته أعجبها حسنهم وجمالهم، فأرسلت إلى أهل القرية إنه قد نزل بنا قومٌ لم يُرَ قومٌ قطُّ أحسن منهم ولا أجمل! (6) فتسامعوا بذلك، فغشُوا دار لُوط من كل ناحية وتسوَّروا عليهم الجدران. (7) فلقيهم لوط فقال: يا قوم
__________
(1) في التاريخ: " وأهله معه إلا امرأته ".
(2) الأثر: 18414 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157، مع اختلاف ذكرته آنفا. وذكر إسناده تامًا غير مختصر، إلى ابن عباس، وابن مسعود، وناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم. وهو إسناد دائر في التفسير، في أوله، ثم اختصره أبو جعفر بعد.
(3) الزيادة بين القوسين، من التاريخ.
(4) الزيادة بين القوسين، من التاريخ.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: " أهل البيت "، والصواب من التاريخ.
(6) في التاريخ: " لم ذر قومًا ".
(7) في التاريخ: " الجدارات "، وفي المخطوطة: " الجدرات "، والذي في التاريخ صالح.(15/428)
لا تفضحون في ضيفي، وأنا أزوّجكم بناتي، فهن أطهر لكم! فقالوا: لو كنَّا نُريد بناتك، لقد عرفنا مكانهن! فقال: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ! فوجد عليه الرسل وقالوا: إن ركنك لشديد، وإنهم آتيهم عذاب غير مردود! فمسح أحدهم أعينهم بجناحيه، فطمس أبصارَهم فقالوا: سُحِرْنا، انصرفوا بنا حتى نرجع إليه! فكان من أمرهم ما قد قصَّ الله تعالى في القرآن. (1) فأدخل ميكائيل = وهو صاحبُ العذاب = جناحه حتى بلغ أسفل الأرض، فقلبها، ونزلت حجارة من السماء، فتتبعت من لم يكن منهم في القرية حيث كانُوا، فأهلكهم الله، ونجّى لوطًا وأهله، إلا امرأته. (2)
18416- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، وعن أبي بكر بن عبد الله = وأبو سفيان، عن معمر = عن قتادة، عن حذيفة، دخل حديث بعضهم في بعض قال: كان إبراهيم عليه السلام يأتيهم فيقول: ويحكم أنهاكم عن الله أن تعرَّضوا لعقوبته! فلم يطيعوا، حتى إذا بلغ الكتاب أجلَه، لمحل عذابهم وسطوات الرّبّ بهم. قال: فانتهت الملائكة إلى لوط وهو يعمل في أرض له، فدعاهم إلى الضيافة، فقالوا: إنَّا مُضيِّفوك الليلة! وكان الله تعالى عهد إلى جبريل عليه السلام أن لا يُعذبهم حتى يشهد عليهم لوط ثلاث شهادات. فلما توجه بهم لوط إلى الضيافة، ذكر ما يعمل قومه من الشَّرّ والدواهي العظام، فمشى معهم ساعةً، ثم التفت إليهم، فقال: أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرضِ شرًّا منهم! أين أذهب بكم؟ إلى قومي وهم شرُّ من خَلَقَ الله! (3) فالتفت جبريل إلى الملائكة فقال: احفظوا هذه واحدة! ثم مشى ساعةً، فلما توسَّط القرية وأشفق عليهم
__________
(1) في المطبوعة وحدها: " في كتابة ".
(2) الأثر: 18415 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 156، 157، وانظر التعليق على رقم: 18406.
(3) في المطبوعة: " شر خلق الله "، وأثبت ما في المخطوطة.(15/429)
واستحيا منهم، قال: أما تعلمون ما يعملُ أهل هذه القرية؟ وما أعلم على وجه الأرض شرًّا منهم، إن قومي شر خلق الله! فالتفت جبريل إلى الملائكة، فقال: احفظوا، هاتان ثنتان! فلما انتهى إلى باب الدار بكَى حياءً منهم وشفقة عليهم، وقال: إن قومي شرُّ خلق الله، أما تعلمون ما يعمل أهل هذه القرية؟ ما أعلم على وجه الأرض أهل قرية شرا منهم! فقال جبريل للملائكة: احفظوا هذه ثلاثٌ، قد حُقَّ العذاب! فلما دخلوا ذهبت عجوزُه، عجُوز السَّوء، فصعدت فلوحت بثوبها، فأتاها الفساق يهرعون سراعًا، قالوا: ما عندك؟ قالت: ضيَّف لوطًا الليلة قومٌ ما رأيت أحسنَ وجوهًا منهم ولا أطيب ريحًا منهم! فهُرِعوا يسارعون إلى الباب، (1) فعاجلهم لوط على الباب، فدافعوه طويلا هو داخل وهم خارج، يناشدهم الله ويقول: (هؤلاء بناتي هن أطهر لكم) ، فقام الملك فلزَّ الباب = يقول: فسَدّه = واستأذن جبريل في عقوبتهم، فأذن الله له، فقام في الصورة التي يكون فيها في السماء، فنشر جناحه، ولجبريل جناحان، وعليه وشاح من درّ منظوم، وهو براق الثنايا أجلَى الجبين، ورأسه حُبُك، مثل المرجان، (2) وهو اللؤلؤ، كأنه الثلج، وقدماه إلى الخضرة = فقال: يا لوط، (إنَّا رسل ربك لن يصلوا إليك) ، أمِطْ، يا لوط، من الباب ودعني وإياهم. (3) فتنحى لوط عن الباب، فخرج عليهم، فنشر جناحه، فضرب به وجوههم ضربةً شَدَخ أعينهم، (4) فصاروا عميًا لا يعرفون الطريق ولا يهتدون إلى بيوتهم. ثم أمر لوطًا فاحتمل بأهله من ليلته، قال: (فأسر بأهلك بقطع من الليل) .
18417- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: لما قال لوط لقومه: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) ، والرسل تسمع ما يقول وما يُقال له، ويرون ما هو فيه من كرْب ذلك. فلما رأوا ما بلغه قالوا: (يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) ، أي: بشيء تكرهه = (فأسر بأهلك بقطع من الليل ولا يلتفت منكم أحدٌ إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب) ، أي إنما ينزل بهم العذاب من صبح ليلتك هذه، فامض لما تؤمر.
18418-. . . . قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن كعب القرظي أنه حدَّث. أن الرسل عند ذلك سَفَعُوا في وجوه الذين جاؤوا لوطًا من قومه يراودونه عن ضيفه، (5) فرجعوا عميانًا. قال: يقول الله: (وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُم) [سورة القمر: 37] .
18419- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (بقطع من الليل) ، قال: بطائفة من الليل.
18420- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (بقطع من الليل) ، بطائفة من الليل.
18421- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس قوله: (بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ) ، قال: جوف الليل = وقوله:
__________
(1) في المطبوعة: " مسارعين إلى الباب "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) هكذا في المطبوعة، بأنه يعني " حبك الشعر "، وهو الجعد المتكسر منه، وفي المخطوطة " حبل حبل " غير منقوطة، كأنها " حبل، حبل "، يعني الذي ينظم في اللؤلؤ كالتاج. أو تقرأ " جثل، جثل "، وهو من الشعر الكثير الملتف. والله أعلم.
(3) في المطبوعة: " امض يا لوط "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب المحض. يقال: "ماط عن المكان، وأماط عنه "، إذا تنحى. وفي حديث خيبر أنه أخذ الراية فهزها، فقال: من يأخذها بحقها؟ فجاء فلان، فقال: أنا! فقال: أمط! ثم جاء آخر، فقال: أمط = أي: تنح أنت واذهب.
(4) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: " شدخ أعينهم "، كأنه من " شدخت الغرة "، إذا غشيت الوجه من أصل الناصية إلى الأنف، في الفرس. هذا، وإلا فإني لا أدري ما هو؟ .
(5) " سفع وجهه بيده سفعا " لطمه بكفه مبسوطة.(15/430)
(وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ) ، يقول: واتبع أدبار أهلك = (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) (1) [سورة الحجر: 65] .
وكان مجاهد يقول في ذلك ما:-
18422- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (ولا يلتفت منكم أحد) ، قال: لا ينظر وراءَه أحد = (إلا امرأتك) .
* * *
وروي عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرأ: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ) .
* * *
18423- حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، قال في حرف ابن مسعود: (فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلَ إلا امْرَأَتَكَ) .
* * *
قال أبو جعفر: وهذا يدل على صحة القراءة بالنصب.
* * *
__________
(1) الأثر: 18421 - هذا من تفسير آية سورة الحجر: 65، ولم يذكره هناك.(15/432)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء أمرنا بالعذاب وقضاؤنا فيهم بالهلاك، (جعلنا عاليها)
يعني عالي قريتهم = (سافلها وأمطرنا عليها) ، يقول: وأرسلنا عليها = (حجارة من سجيل) .
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى "سجيل".(15/432)
فقال بعضهم: هو بالفارسية: سنك، وكل. (1)
*ذكر من قال ذلك.
18424- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (من سجيل) ، بالفارسية، أوَّلها حَجَر، وآخرها طين.
18425- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
18426- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
18427- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
18428- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: (حجارة من سجيل) ، قال: فارسية أعربت سنك وكل. (2)
18429- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "السجيل"، الطين.
18430- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (من سجيل) قالا من طين.
18431- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد، عن وهب قال: سجيل بالفارسية: سنك وكل
18432- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
__________
(1) انظر ما سلف 1: 14، تعليق: 2، ثم ص: 20.
(2) الأثر: 18428 - انظر الأثر السالف قديمًا، رقم: 5.(15/433)
عن السدي: (حجارة من سجيل) ، أما السجيل فقال ابن عباس: هو بالفارسية: سنك وجل = "سنك"، هو الحجر، و"جل "، هو الطين. يقول: أرسلنا عليهم حجارة من طين.
18433- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، عن سفيان، عن السدي، عن عكرمة، عن ابن عباس: (حجارة من سجيل) ، قال: طين في حجارة.
* * *
وقال ابن زيد في ذلك ما:-
18434- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (حجارة من سجيل) ، قال: السماء الدنيا. قال: والسماء الدنيا اسمها سجيل، وهي التي أنزل الله على قوم لوط.
* * *
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من البصريين يقول: "السجيل"، هو من الحجارة الصلب الشديد، ومن الضرب، ويستشهد على ذلك بقول الشاعر: (1)
*ضَرْبًا تَوَاصَى بِهِ الأَبْطَالُ سِجِّيلا* (2)
وقال: بعضُهُم يُحوِّل اللام نونًا. (3)
* * *
__________
(1) هو تميم بن أبي مقبل.
(2) مجاز القرآن 1: 296، ومنتهى الطلب: 44، والمعاني الكبير: 991، واللسان (سجن) ، وغيرها، يقول قبله: وإنَّ فِينَا صَبُوحًا إنْ أَرِبْتَ بِهِ ... جَمْعًا بَهيًّا وَآلافًا ثَمَانِينَا
وَرَجْلةً يَضْرِبُونَ البَيْضَ عَنْ عُرُض ... ضَرْبًا تَواصَى بِهِ الأبْطَالُ سِجِّينَا.
(3) يعني بقوله: " بعضهم "، أي بعض العرب يحول اللام نونًا، كقول النابغة: بِكُلِّ مُدَجّجٍ كالَّليْثِ يَسْمُو ... عَلَى أَوْصَالِ ذَيَّالٍ رِفَنِّ
يريد: رفل = هذا تمام كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن، نقلته للتوضيح. ونسب قريش: 90.(15/434)
وقال آخر منهم: هو "فِعّيل"، من قول القائل: "أسجلته"، أرسلته = فكأنه من ذلك، أي مرسلةٌ عليهم.
* * *
وقال آخر منهم: بل هو من "سجلت له سجلا" من العطاء، فكأنه قيل: مُتِحوا ذلك البلاء فأعطوه، وقالوا أسجله: أهمله.
* * *
وقال بعضهم: هو من "السِّجِلّ"، لأنه كان فيها عَلَمٌ كالكتاب.
* * *
وقال آخر منهم: بل هو طين يطبخ كما يطبخ الآجرّ، وينشد بيت الفضل بن عباس:
مَنْ يُسَاجِلْنِي يُسَاجِلْ مَاجِدًا ... يَمْلأُ الدَّلْوَ إلَى عَقْدِ الكرَب (1)
فهذا من "سجلت له سَجْلا"، أعطيته.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا ما قاله المفسرون، وهو أنها حجارة من طين، وبذلك وصفها الله في كتابه في موضع، وذلك قوله: (لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) [سورة الذاريات: 33، 34]
* * *
__________
(1) معجم الشعراء: 309 واللسان (سجل) ، وغيرهما، وقبله: وَأَنَا الأخْضَرُ مَنْ يَعْرِفُنِي ... أخْضَرُ الجِلْدَةِ فِي بَيْتِ العَرَبْ
مَنْ يُسَاجِلْنِي. . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
إِنَّما عَبْدُ مَنَافٍ جَوْهَرٌ ... زَيَّنَ الجَوْهَرَ عَبْدُ المُطَّلِبْ
وهو: الفضل بن العباس بن عتبة بن أبي لهب بن عبد المطلب، وأمه آمنة بنت العباس بن عبد المطلب. وكان الفضل آدم شديد الأدمة، ولذلك قال: " وأنا الأخضر "، و" الخضرة " في ألوان الناس، شدة السمرة، والعرب تصف ألوانها بالسواد، وتصف العجم بالحمرة. و" الكرب " الحبل الذي يشد على الدلو.(15/435)
وقد روي عن سعيد بن جبير أنه كان يقول: هي فارسية ونبطية.
18435- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: فارسية ونبطية "سج"، "إيل".
* * *
فذهب سعيد بن جبير في ذلك إلى أن اسم الطين بالفارسية "جل " لا "إيل"، وأن ذلك لو كان بالفارسية لكان "سِجْل " لا "سجيل"، لأن الحجر بالفارسية يدعى "سج "والطين "جل"، فلا وجه لكون الياء فيها وهي فارسية.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا الصواب من القول عندنا في أوّل الكتاب، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه قال: كان أصل الحجارة طينًا فشُدِّدت.
* * *
وأما قوله: (منضود) ، فإن قتادة وعكرمة يقولان فيه ما:-
18436- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (منضود) يقول: مصفوفة.
18437- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة (منضود) يقول: مصفوفة.
* * *
وقال الربيع بن أنس فيه ما:-
18438- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، في قوله (منضود) ، قال: نضد بعضه على بعض.
__________
(1) انظر ما سلف 1: 13 - 20.(15/436)
18439- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر الهذلي بن عبد الله: أما قوله: (منضود) ، فإنها في السماء منضودة: معدَّة، وهي من عُدَّة الله التي أعَدَّ للظلمة.
* * *
وقال بعضهم: "منضود"، يتبع بعضه بعضًا عليهم. قال: فذلك نَضَدُه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله الربيع بن أنس، وذلك أن قوله: (منضود) من نعت "سجيل"، لا من نعت "الحجارة"، وإنما أمطر القوم حجارة من طين، صفة ذلك الطين أنه نُضِد بعضه إلى بعض، فصُيِّر حجارة، ولم يُمْطَرُوا الطين، فيكونَ موصوفًا بأنه تتابع على القوم بمجيئه.
قال أبو جعفر: وإنما كان جائزًا أن يكون على ما تأوّله هذا المتأوّل لو كان التنزيل بالنصب "منضودةً"، فيكون من نعت "الحجارة " حينئذ.
* * *
وأما قوله: (مسوَّمة عند ربك) ، فإنه يقول: معلمة عند الله، أعلمها الله، (1) و"المسوّمة" من نعت "الحجارة"، ولذلك نصبت على النعت. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18440- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مسوّمة) ، قال: معلمة.
18441- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
__________
(1) انظر تفسير " المسومة " فيما سلف 6: 251 - 257 / 7: 184 - 190.
(2) في المطبوعة: " نصبت ونعت بها "، وفي المخطوطة: " نصبت وانعت "، وكأن الصواب ما أثبت.(15/437)
18442-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد، مثله.
18443- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله = قال ابن جريج: (مسوّمة) ، لا تشاكل حجارة الأرض.
18444- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (مسومة) قالا مطوَّقة بها نَضْحٌ من حمرة. (1)
18445- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (مسومة) عليها سيما معلومة. حدّث بعضُ من رآها، أنها حجارة مطوَّقة عليها = أو بها نضحٌ من حمرة، ليست كحجارتكم.
18446- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله: (مسوّمة) ، قال: عليها سيما خطوط.
18447- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (مسومة) قال: "المسومة"، المختَّمة.
* * *
وأما قوله: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، فإنه يقول تعالى ذكره متهددًا مشركي قريش: وما هذه الحجارة التي أمطرتها على قوم لوط، من مشركي قومك، يا محمد، ببعيد أن يمطروها، إن لم يتوبوا من شركهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المخطوطة: " يصح من حمرة "، والصواب ما في المخطوطة. و"النضح "، ما بقي له أثر، يقال: " على ثوبه نضح دم "، وهو اليسير منه، الباقي أثره.(15/438)
18448- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا أبو عتاب الدلال سهل بن حماد قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبان بن تغلب، عن مجاهد، في قوله: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، قال: أن يصيبهم ما أصاب القوم. (1)
18449- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، قال: يُرْهِب بها من يشاء.
18450- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18451-. . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18452- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18453- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، يقول: ما أجار الله منها ظالمًا بعد قوم لوط.
18454- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة وعكرمة: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، يقول: لم يترك منها ظالمًا بعدهم. (2)
18455- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شؤذب، عن قتادة في قوله: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، قال: يعني ظالمي هذه الأمة. قال: والله ما أجارَ منها ظالمًا بعدُ!
__________
(1) الأثر: 18448 - " سهل بن حماد "، " أبو عتاب الدلال "، ثقة لا بأس به. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 103، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 196.
(2) في المطبوعة: " لم يبرأ منها ظالم "، وفي المخطوطة: " يبرا منها ظالما "، ورأيت قراءتها كما أثبتها.(15/439)
18456- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، يقول: من ظَلَمة العرب، إن لم يتوبوا فيعذّبوا بها.
18457- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر الهذلي بن عبد الله قال: يقول: (وما هي من الظالمين ببعيد) ، من ظلمة أمتك ببعيد، فلا يأمنها منهم ظالم.
* * *
وكان قلب الملائكة عَالي أرض سدوم سافلها، كما:-
18458- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا الأعمش، عن مجاهد قال: أخذ جبريل عليه السلام قوم لوط من سَرْحهم ودورهم، حملهم بمواشيهم وامتعتهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ثم أكفأهم. (1)
18459- حدثنا به أبو كريب مرة أخرى عن مجاهد قال: أدخل جبريل جناحه تحت الأرض السفلى من قوم لوط، ثم أخذهم بالجناح الأيمن، فأخذهم من سرحهم ومواشيهم، ثم رفعها (2)
18460- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقول: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا) ، قال: لما أصبحوا غدا جبريل على قريتهم، ففتقها من أركانها، ثم أدخل جناحه، ثم حملها على خَوافي جناحه. (3)
18461-. . . . قال، حدثنا شبل قال، فحدثني هذا ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر = قال: ولم يسمعه ابن أبي نجيح = عن مجاهد قال،
__________
(1) الأثر: 18458 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157.
(2) الأثر: 18459- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157.
(3) الأثر: 18460 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157.(15/440)
فحملها على خوافي جناحه بما فيها، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، ثم قلبها. فكان أوّل ما سقط منها شِرَافها. (1) فذلك قول الله: (جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) ، قال مجاهد: فلم يصب قومًا ما أصابهم، إن الله طمس على أعينهم، ثم قلب قريتهم، وأمطر عليهم حجارة من سجيل. (2)
18462- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال، بلغنا أن جبريل عليه السلام أخذَ بعُرْوة القرية الوُسْطى، ثم ألوَى بها إلى السماء، (3) حتى سمع أهل السماء ضَواغِي كلابهم، (4) ثم دمَّر بعضها على بعض فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعهم الحجارة = قال قتادة: وبلغنا أنهم كانوا أربعة آلاف ألف. (5)
18463- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده قال: ذكر لنا أن جبريل عليه السلام أخذ بعروتها الوسطى، ثم ألوى بها إلى جَوّ السماء حتى سمعت الملائكة ضَواغي كلابهم، ثم دمر بعضها على بعض ثم اتبع شُذَّان القوم صخرًا. (6) قال: وهي ثلاث قرًى يقال لها "سدوم"، وهي بين المدينة والشأم. قال: وذكر لنا أنه كان فيها أربعة آلاف ألف. وذكر
__________
(1) في المطبوعة: " شرفها "، وفي المخطوطة والتاريخ " شرافها "، كأنه على جمع " شريف "، نحو " صغير " و " صغار " و " كبير " و " كبار "، وكأن صوابهما " أشرافها "، لأن " شراف "، لم يذكر في جموع " شريف "، ولكني أخشى أن تكون هي " شذانها " كما سيأتي في رقم: 18463، تعليق رقم: 6.
(2) الأثر: 18461 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157، مختصرًا، أسقط منه قول مجاهد الآخر.
(3) يقال: " ألوت به العقاب "، أي أخذته وطارت به.
(4) " ضواغي الكلاب "، جمع " ضاغية "، أي التي لها " ضغاء "، وهو صوت الذليل المقهور إذا استغاث.
(5) الأثر: 18462 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157.
(6) " الشذان " جمع " شاذ "، وهو الذي خرج من الجماعة، فشذ عنهم.(15/441)
لنا أن إبراهيم عليه السلام كان يشرف [ثم] يقول (1) سدوم، يومٌ مَا لكِ! (2)
18464- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال، لما أصبحوا = يعني قوم لوط = نزل جبريل، فاقتلع الأرض من سبع أرضين، فحملها حتى بلغ السماء الدنيا، [حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم، وأصوات ديوكهم، ثم قلبها فقتلهم] ، (3) فذلك حين يقول: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) [سورة النجم: 53] ، المنقلبة حين أهوى بها جبريل الأرض فاقتلعها بجناحه، فمن لم يمت حين أسقط الأرض أمطر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة، ومن كان منهم شاذًّا في الأرض. وهو قول الله: (فجعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) ، ثم تتبعهم في القرى، فكان الرجل [يتحدث] ، فيأتيه الحجر فيقتله، (4) وذلك قول الله تعالى: (وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) . (5)
18465- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر = وأبو سفيان، عن معمر =، عن قتادة قال، بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشرَ جناحه، فانتسف به أرضهم بما فيها من قُصورها ودوابها وحجارتها وشجرها، وجميع ما فيها، فضمها في جناحه، فحواها وطواها في جوف جناحه، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا، حتى سمع سُكان السماء أصواتَ الناس والكلاب، وكانوا أربعة آلاف ألف، ثم قلبها فأرسلها إلى الأرض منكوسةً، دمْدَمَ بعضها على بعض، فجعل عاليها سافلها، ثم أتبعها حجارة من سجيل
18466- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن كعب القرظي قال: حدثت أن نبي الله صلى الله عليه
__________
(1) الزيادة من تاريخ الطبري. وفي التاريخ: " سدوم يوم هالك "، وأخشى أن الصواب هو ما في التفسير، وأن ذاك خطأ.
(2) الأثر: 18463 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157.
(3) ما بين القوسين زيادة لا بد منها من سياق الكلام، نقلتها من نص الخبر في تاريخ الطبري.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: " فكان الرجل يأتيه "، وأثبت النص من التاريخ.
(5) الأثر: 18464 - رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 157، 158.(15/442)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
وسلم قال: "بعث الله جبريل عليه السلام إلى المؤتفكة قرية لوط عليه السلام التي كان لوط فيهم، فاحتملها بجناحه، ثم صعد بها حتى إن أهل السماء الدنيا ليسمعون نُباح كلابها وأصوات دجاجها، ثم كفأها على وجهها، ثم أتبعها الله بالحجارة، يقول الله: (جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليها حجارة من سجيل) ، فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات، وكنّ خمس قريات، "صنعة" و"صعوة" "وعثرة"، و"دوما" و"سدوم" = وسدوم هي القرية العظمى = ونجى الله لوطًا ومن معه من أهله، إلا امرأته كانت فيمن هلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأرسلنا إلى وَلَد مدين أخاهم شعيبًا، فلما أتاهم قال: (يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره) ، يقول: أطيعوه، وتذللوا له بالطاعة لما أمركم به ونهاكم عنه = (ما لكم من إله غيره) ، يقول: ما لكم من معبود سواه يستحقّ عليكم العبادة غيره = (ولا تنقصوا المكيال والميزان) ، يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم في مكيالكم وميزانكم = (إني أراكم بخير) .
* * *
واختلف أهل التأويل في "الخير" الذي أخبر الله عن شعيب أنه قال لمدين إنه يراهم به.
فقال بعضهم: كان ذلك رُخْص السعر وَحذرهم غلاءه.(15/443)
*ذكر من قال ذلك:
18467- حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الله بن داود الواسطي قال، حدثنا محمد بن موسى، عن الذيال بن عمرو، عن ابن عباس: (إني أراكم بخير) ، قال: رُخْص السعر = (وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط) ، قال: غلاء سعر. (1)
18468- حدثني أحمد بن عمرو البَصري قال، حدثني عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا صالح بن رستم، عن الحسن، وذكر قوم شعيب قال: (إني أراكم بخير) ، قال: رُخْص السعر. (2)
18469- حدثني محمد بن عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن أبي عامر الخراز، عن الحسن في قوله: (إني أراكم بخير) قال: الغني ورُخْص السعر.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك: إنّي أرى لكم مالا وزينة من زين الدنيا.
ذكر من قال ذلك:-
18470- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (إني أراكم بخير) ، قال: يعني خير الدنيا وزينتها.
18471- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) الأثر: 18467- " الذيال بن عمرو "، هكذا جاء هنا بالذال معجمة، وقد سلف في رقم: 14445، وتعليقي عليه، وتعليق أخي السيد أحمد رحمه الله، في ج 12: 589، رقم: 7، " الزباء بن عمرو "، وفي ابن كثير: " الديال " بدال مهملة، ولم نستطع أن نعرف من يكون. والإسناد هنا، هو الإسناد هناك نفسه.
(2) الأثر: 18468 - " أحمد بن عمرو البصري ": شيخ الطبري، مضى برقم: 9875، 13928، وقد مضى ما قلت فيه، وقد روى عنه أبو جعفر في تاريخه 1: 182 / 5: 32. وكان في المطبوعة هنا: " أحمد بن علي النصري "، ولا أدري من أين جاء بهذا التغيير؟ .(15/444)
قوله: (إني أراكم بخير) ، أبصر عليهم قِشْرًا من قشر الدنيا وزينتها. (1)
18472- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إني أراكم بخير) ، قال: في دنياكم، كما قال لله تعالى: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا) ، سماه " خيرًا" لأن الناس يسمون المال "خيرًا".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب ما أخبر الله عن شعيب أنه قال لقومه، وذلك قوله: (إني أراكم بخير) ، يعني بخير الدنيا. وقد يدخل في خير الدنيا، المال وزينة الحياة الدنيا، ورخص السعر = ولا دلالة على أنه عنى بقيله ذلك بعض خيرات الدنيا دون بعض، فذلك على كل معاني خيرات الدنيا التي ذكر أهل العلم أنهم كانوا أوتوها.
* * *
وإنما قال ذلك شعيب، لأن قومه كانوا في سعة من عيشهم ورخص من أسعارهم، كثيرة أموالهم، فقال لهم: لا تنقصوا الناس حقوقهم في مكاييلكم وموازينكم، فقد وَسَّع الله عليكم رزقكم، = (وإني أخاف عليكم) ، بمخالفتكم أمر الله، وبَخْسكم الناس أموالهم في مكاييلكم وموازينكم = (عذاب يوم محيط) ، يقول: أن ينزل بكم عذاب يوم محيط بكم عذابه. فجعل "المحيط" نعتًا لليوم، وهو من نعت "العذاب"، إذ كان مفهومًا معناه، وكان العذاب في اليوم، فصار كقولهم: "بعْض جُبَّتك محترقة". (2)
* * *
__________
(1) " القشر " هو في الأصل، قشر الشجرة ونحوها، ثم أستعير للثياب وكل ملبوس، مما يخلع كما يخلع القشر، ثم أستعير لما نلبسه من زينة الحياة ثم نخلعه راضين أو كارهين.
(2) انظر تفسير " محيط " فيما سلف 15: 93، تعليق 1، والمراجع هناك.(15/445)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: أوفوا الناس الكيل والميزان (1) = "بالقسط"، يقول: بالعدل، وذلك بأن توفوا أهل الحقوق التي هي مما يكال أو يوزن حقوقهم، على ما وجب لهم من التمام، بغير بَخس ولا نقص. (2)
* * *
وقوله: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ، يقول: ولا تنقصوا الناس حقوقهم التي يجب عليكم أن توفوهم كيلا أو وزنًا أو غير ذلك، (3) كما:-
18473- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا علي بن صالح بن حي قال: بلغني في قوله: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) قال،: لا تنقصوهم.
18474- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولا تبخسوا الناس أشياءهم) ، يقول: لا تظلموا الناس أشياءهم.
* * *
وقوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، يقول: ولا تسيروا في الأرض تعملون فيها بمعاصي الله، (4) كما:-
18475- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
__________
(1) انظر " إيفاء المكيال والميزان " فيما سلف 12: 224، 555.
(2) انظر تفسير " القسط " فيما سلف 15: 103، تعليق 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " البخس " فيما سلف ص: 262، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " عثا " فيما سلف 12: 542، تعليق: 1، والمراجع هناك. = وتفسير " الفساد في الأرض " 12: 542، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/446)
بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
معمر، عن قتادة في قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، قال: لا تسيروا في الأرض.
18476- وحدثت عن المسيب، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله: (ولا تعثوا في الأرض مفسدين) ، يقول: لا تسعوا في الأرض مفسدين = يعني: نقصان الكيل والميزان.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (بقية الله خير لكم) ، ما أبقاه الله لكم، بعد أن توفوا الناس حقوقهم بالمكيال والميزان بالقسط، فأحلّه لكم، خير لكم من الذي يبقى لكم ببخسكم الناس من حقوقهم بالمكيال والميزان = (إن كنتم مؤمنين) ، يقول: إن كنتم مصدّقين بوعد الله ووعيده، وحلاله وحرامه.
* * *
وهذا قولٌ روي عن ابن عباس بإسنادٍ غير مرتضى عند أهل النقل.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم معناه: طاعة الله خيرٌ لكم.
*ذكر من قال ذلك:
18477- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: (بقية الله خير لكم) ، قال: طاعة الله خير لكم.
18478- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد(15/447)
بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (بقية الله) قال: طاعة الله (خير لكم) .
18479- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بقية الله) ، قال: طاعة الله.
18480- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد: (بقية الله خير لكم) ، قال: طاعة الله خير لكم.
18481- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (بقية الله خير لكم) ، قال: طاعة الله.
18482- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: حظكم من ربكم خير لكم.
*ذكر من قال ذلك:-
18483- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) ، حظكم من ربكم خير لكم.
18484- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (بقية الله خير لكم) ، قال: حظكم من الله خير لكم.
* * *
وقال آخرون: معناه: رزق الله خير لكم.
*ذكر من قال ذلك:
18485- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عمن ذكره، عن ابن عباس: (بقيت الله) قال رزق الله.
* * *(15/448)
وقال ابن زيد في قوله ما:-
18486- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين) ، قال: "الهلاك "، في العذاب، و"البقية" في الرحمة.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترت في تأويل ذلك القولَ الذي اخترته، لأن الله تعالى ذكره إنما تقدم إليهم بالنهي عن بَخس الناس أشياءهم في المكيال والميزان، وإلى ترك التطفيف في الكيل والبخس في الميزان دعاهم شعيب، فتعقيب ذلك بالخبر عما لهم من الحظّ في الوفاء في الدنيا والآخرة، أولى = مع أن قوله: (بقية) ، إنما هي مصدر من قول القائل "بقيت بقية من كذا"، فلا وجه لتوجيه معنى ذلك إلا إلى: بقية الله التي أبقاها لكم مما لكم بعد وفائكم الناس حقوقهم خير لكم من بقيتكم من الحرام الذي يبقى لكم من ظلمكم الناس ببخسهم إياهم في الكيل والوزن.
* * *
وقوله: (وما أنا عليكم بحفيظ) ، يقول: وما أنا عليكم، أيها الناس، برقيب أرقبكم عند كيلكم ووزنكم، هل توفون الناس حقوقهم أم تظلمونهم؟ (1) وإنما عليّ أن أبلغكم رسالة ربّي، فقد أبلغتكموها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حفيظ " فيما سلف ص 365، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/449)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب: يا شعيب، أصَلواتك تأمرك أن نترك عبادة ما يعبد آباؤنا من الأوثان والأصنام (1) = (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، من كسر الدراهم وقطعها، وبخس الناس في الكيل والوزن = (إنك لأنت الحليم) ، وهو الذي لا يحمله الغضب أن يفعل ما لم يكن ليفعله في حال الرّضى، (2) = (الرشيد) ، يعني: رشيد الأمر في أمره إياهم أن يتركوا عبادة الأوثان، (3) كما:-
18487- حدثنا محمود بن خداش قال، حدثنا حماد بن خالد الخياط قال، حدثنا داود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قول الله: (أصلاتك تأمرك أن تترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء إنك أنت الحليم الرشيد) (4) قال: كان مما نهاهم عنه حذف الدراهم (5) = أو قال: قطع الدراهم، الشك من حمّاد. (6)
18488- حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك، عن
__________
(1) في المطبوعة في هذا الموضع " أصلاتك "، بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " الحليم " فيما سلف ص: 406، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الرشيد " فيما سلف ص: 417، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) جاء في المخطوطة " أصلاتك " بالإفراد، وهي إحدى القراءتين.
(5) " حذف الشيء "، قطعه من طرفه، ومنه " تحذيف الشعر "، إذا أخذت من نواحيه فسويته.
(6) الأثر: 18487 - " محمود بن خداش الطاقاني "، شيخ الطبري، مضى برقم: 187. " وحماد بن خالد الخياط القرشي "، ثقة، كان أميًا لا يكتب، وكان يقرأ الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 3 / 1 / 25، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 136.(15/450)
أبي مودود قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: بلغني أن قوم شعيب عُذِّبوا في قطع الدراهم، وجدت ذلك في القرآن: (أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) . (1)
18489- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: عُذّب قوم شعيب في قطعهم الدراهم فقالوا: (يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) .
18490-. . . . قال، حدثنا حماد بن خالد الخياط، عن داود بن قيس، عن زيد بن أسلم في قوله: (أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، قال: كان مما نهاهم عنه حَذْفُ الدراهم.
18491- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، قال: نهاهم عن قطع الدنانير والدراهم فقالوا: إنما هي أموالنا نفعل فيها ما نشاء، إن شئنا قطعناها، وإن شئنا صرفناها، وإن شئنا طرَحناها!
18492-. . . . قال وأخبرنا ابن وهب قال، وأخبرني داود بن قيس المرّي: أنه سمع زيد بن أسلم يقول في قول الله: (قالوا يا شعيب أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، قال زيدٌ: كان من ذلك قطع الدراهم.
* * *
وقوله: (أصلواتك) ، كان الأعمش يقول في تأويلها ما:-
18493- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري عن
__________
(1) في المطبوعة هنا أيضًا: " أصلاتك " بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة. وسأردها إلى المخطوطة حيث وجدتها، وأترك الإفراد حيث أجده، بلا إشارة إلى ذلك.(15/451)
الأعمش في قوله: (أصلواتك) قال: قراءتك.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء) ، وإنما كان شعيب نهاهم أن يفعلوا في أموالهم ما قد ذكرتَ أنه نهاهم عنه فيها؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهَّمت. وقد اختلف أهل العربية في معنى ذلك.
فقال بعض البصريين: معنى ذلك: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء = وليس معناه: تأمرك أن نفعل في أموالنا ما نشاء، لأنه ليس بذا أمرهم.
* * *
وقال بعض الكوفيين نحو هذا القول قال. وفيها وجه آخر يجعل الأمر كالنهي، كأنه قال: أصلواتك تأمرك بذا، وتنهانا عن ذا؟ فهي حينئذ مردودة على أن الأولى منصوبة بقوله "تأمرك "، وأن الثانية منصوبة عطفًا بها على "ما" التي في قوله: (ما يعبد) . وإذا كان ذلك كذلك، كان معنى الكلام: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا، أو أن نترك أن نفعل في أموالنا ما نشاء.
* * *
وقد ذكر عن بعض القراء أنه قرأه (مَا تَشَاء) .
* * *
قال أبو جعفر: فمن قرأ ذلك كذلك، فلا مؤونة فيه، وكانت "أن" الثانية حينئذ معطوفة على "أن" الأولى.
* * *
وأما قوله لشعيب: (إنك لأنت الحليم الرشيد) فإنهم أعداء الله، قالوا ذلك له استهزاءً به، وإنما سفَّهوه وجهَّلوه بهذا الكلام.
* * *(15/452)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
وبما قلنا من ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:-
18494- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (إنك لأنت الحليم الرشيد) ، قال: يستهزئون.
18495- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إنك لأنت الحليم الرشيد) ، المستهزئون، يستهزئون: بأنك لأنت الحليم الرشيد! (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلا الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه: يا قوم أرأيتم إن كنت على بيان وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله، والبراءة من عبادة الأوثان والأصنام، وفيما أنهاكم عنه من إفساد المال = (ورزقني منه رزقًا حسنًا) ، يعني حلالا طيّبًا.
* * *
(وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) ، يقول: وما أريد أن أنهاكم عن أمر ثم أفعلُ خلافه، بل لا أفعل إلا ما آمركم به، ولا أنتهي إلا عما أنهاكم عنه. كما:-
18496- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه) ، يقول: لم أكن لأنهاكم عن أمر أركبه أو آتيه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " بأنك لأنت "، والصواب المحض ما في المخطوطة.(15/453)
= (إن أريد إلا الإصلاح) ، يقول: ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه، إلا إصلاحكم وإصلاح أمركم = (ما استطعت) ، يقول: ما قدرت على إصلاحه، لئلا ينالكم من الله عقوبة منكِّلة، بخلافكم أمره، ومعصيتكم رسوله = (وما توفيقي إلا بالله) يقول: وما إصابتي الحق في محاولتي إصلاحكم وإصلاح أمركم إلا بالله، فإنه هو المعين على ذلك، إلا يعنّي عليه لم أصب الحق فيه.
* * *
وقوله: (عليه توكلت) ، يقول: إلى الله أفوض أمري، فإنه ثقتي، (1) وعليه اعتمادي في أموري. (2)
* * *
وقوله: (وإليه أنيب) ، وإليه أقبل بالطاعة،وأرجع بالتوبة، (3) كما:-
18497- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإليه أنيب) ، قال: أرجع.
18498- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18499- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال=
18500-. . . . وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (وإليه أنيب) ، قال: أرجع.
18501- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (وإليه أنيب) ، قال: أرجع.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " فإنه ثقتي "، ولعل الصواب ما أثبت.
(2) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف من فهارس اللغة (وكل) .
(3) انظر تفسير " الإنابة " فيما سلف ص: 406.(15/454)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: (وما قوم لا يخبر منكم شقاقي) ، يقول: لا يحملنكم عداوتي وبغضي، وفراق الدين الذي أنا عليه، (1) على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر بالله، وعبادة الأوثان، وبخس الناس في المكيال والميزان، وترك الإنابة والتوبة، فيصيبكم = (مثلُ ما أصاب قوم نوح) ، من الغرق = (أو قوم هود) ، من العذاب = (أو قوم صالح) ، من الرّجفة = (وما قوم لوط) الذين ائتفكت بهم الأرض = (منكم ببعيد) ، هلاكهم، أفلا تتعظون به، وتعتبرون؟ يقول: فاعتبروا بهؤلاء، واحذروا أن يصيبكم بشقاقي مثلُ الذي أصابهم. كما:-
18502- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لا يجر منكم شقاقي) ، يقول: لا يحملنكم فراقي، (أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح) ، الآية.
18503- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله: (لا يجر منكم شقاقي) ، يقول: لا يحملنكم شقاقي.
18504- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (لا يجر منكم شقاقي) ، قال: عداوتي وبغضائي وفراقي.
18505- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) انظر تفسير " جرم " فيما سلف 9: 483 - 485 / 10: 95.
= وتفسير " الشقاق "، فيما سلف 13: 433، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/455)
وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
معمر، عن قتادة: (وما قوم لوط منكم ببعيد) ، قال: إنما كانوا حديثًا منهم قريبًا = يعني قوم نوح وعاد وثمود وصالح. (1)
18506- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وما قوم لوط منكم ببعيد) ، قال: إنما كانوا حديثي عهد قريب، بعد نوح وثمود.
* * *
قال أبو جعفر: وقد يحتمل أن يقال: معناه: وما دارُ قوم لوط منكم ببعيد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: (استغفروا ربكم) ، أيها القوم من ذنوبكم بينكم وبين ربكم التي أنتم عليها مقيمون، من عبادة الآلهة والأصنام، وبَخْس الناس حقوقهم في المكاييل والموازين = (ثم توبوا إليه) ، يقول: ثم ارجعوا إلى طاعته والانتهاء إلى أمره ونهيه = (إن ربي رحيم) ، يقول: هو رحيم بمن تاب وأناب إليه أن يعذبه بعد التوبة. (ودود) ، يقول: ذو محبة لمن أناب وتاب إليه، يودُّه ويحبُّه.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت العبارة في المخطوطة والمطبوعة، وأنا أرجح أن الصواب: " يعني قوم نوح، وهود، وصالح، ولوط ".(15/456)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال قوم شعيب لشعيب: (يا شعيب ما نفقه كثيرًا مما تقول) ، أي: ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به (1) = (وأنا لنراك فينا ضعيفًا) .
* * *
ذُكِر أنه كان ضريرًا، فلذلك قالوا له: (إنا لنراك فينا ضعيفًا) .
* * *
*ذكر من قال ذلك:
18507- حدثني عبد الأعلى بن واصل قال، حدثنا أسد بن زيد الجصاص قال، أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله: (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال: كان أعمى. (2)
18508- حدثنا عباس بن أبي طالب قال، حدثني إبراهيم بن مهدي المصيصي قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن سفيان، عن سعيد، مثله.
18509- حدثنا أحمد بن الوليد الرملي قال، حدثنا إبراهيم بن زياد وإسحاق بن المنذر، وعبد الملك بن زيد قالوا، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد، مثله. (3)
__________
(1) انظر تفسير " الفقه " فيما سلف 14: 582، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 18507 - " أسد بن زيد الجصاص "، لم أجد له ذكرا. وإنما يذكرون: " أسيد بن زيد بن نجيح الجمال "، وهو الذي يروي عن شريك، ويروي عنه أبو كريب وطبقته من شيوخ أبي جعفر الطبري، مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 16 وأبي حاتم 1 / 1 / 318، وميزان الاعتدال 1: 119. ولكن هذا " الجمال "، وذاك " الجصاص "، فلا أدري من يكون هذا الذي ذكره أبو جعفر.
(3) الأثر: 18509 - " عبد الملك بن يزيد "، هكذا هو في المخطوطة، كما أثبته، وفي المطبوعة: " عبد الملك بن زيد "، غير ما في المخطوطة. ولم أعرف من يكون " عبد الملك بن يزيد " أو " ابن زيد "، الذي يروي عن شريك؟(15/457)
18510-. . . . قال، حدثنا عمرو بن عون ومحمد بن الصباح قالا سمعنا شريكًا يقول في قوله: (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال: أعمى.
18511- حدثنا سعدويه قال، حدثنا عباد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، مثله. (1)
18512- حدثني المثني قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان قوله: (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال: كان ضعيف البصر = قال سفيان: وكان يقال له: "خطيب الأنبياء"
18513-. . . . قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا عباد، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: (وإنا لنراك فينا ضعيفًا) ، قال: كان ضرير البصر.
* * *
= وقوله: (ولولا رهطك لرجمناك) ، يقول: يقولون: ولولا أنك في عشيرتك وقومك = (لرجمناك) ، يعنون: لسببناك. (2)
* * *
وقال بعضهم: معناه لقتلناك.
*ذكر من قال ذلك:
18514- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولولا رهطك لرجمناك) ، قال: قالوا: لولا أن نتقي قومك ورهطك لرجمناك.
* * *
__________
(1) الأثر: 18511 - " سعدويه، الضبي الواسطي "، هو " سعيد بن سليمان "، شيخ الطبري، مضى برقم: 611، 2168، 11996، 13809 (ج 12: 585، تعليق: 1) . " وسعدويه "، يروي عن شريك، ولكنه يروي أيضًا عن عباد بن العوام، فروى عن شريك هنا بالواسطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " لولا أنت في عشيرتك "، وأرجح أن الصواب ما أثبت.(15/458)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
وقوله: (وما أنت علينا بعزيز) ، يعنون: ما أنت ممن يكرَّم علينا، فيعظمُ علينا إذلاله وهوانه، بل ذلك علينا هيّن. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قال شعيب لقومه: يا قوم، أعزّزتم قومكم، فكانوا أعزّ عليكم من الله، واستخففتم بربكم، فجعلتموه خلف ظهوركم، لا تأتمرون لأمره ولا تخافون عقابه، ولا تعظِّمونه حق عظَمته؟
* * *
يقال للرجل إذا لم يقض حاجة الرجل: "نَبَذ حاجته وراء ظهره"، (2) أي: تركها لا يلتفت إليها. وإذا قضاها قيل: "جعلها أمامه، ونُصْب عينيه "، ويقال: "ظَهَرتَ بحاجتي " و"جعلتها ظِهْرِيَّة"، أي: خلف ظهرك، كما قال الشاعر: (3)
*وَجَدْنَا بَنِي البَرْصَاءِ مِنْ وَلَدِ الظَّهْرِ* (4)
بمعنى: أنهم يَظْهَرون بحوائجِ النّاس فلا يلتفتون إليها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عزيز " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) .
(2) انظر تفسير " نبذه وراء ظهره " فيما سلف 1: 403، 404 / 7: 458، 459، 463.
(3) هو أرطاة بن سهية المري.
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 298، واللسان (ظهر) ، وكان أرطاة يهاجي شبيب بن البرصاء، وهما جميعًا من بني مرة بن سعد بن ذبيان، والهجاء بينهما كثير، وهذا منه. انظر الأغاني 13: 29 - 44 (دار الكتب) ترجمة أرطاة بن سهية = والأغاني 12: 271 - 281 (ساسي) ترجمة شبيب بن البرصاء. وصدر البيت: * فَمَنْ مُبْلِغٌ أبْنَاءَ مُرَّة أنَّنَا *(15/459)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18515- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، وذلك أن قوم شعيب ورهطه كانوا أعز عليهم من الله، وصَغُر شأن الله عندهم، عزَّ ربُّنا وجلَّ.
18516- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال: قَفًا. (1)
18517- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، يقول: عززتم قومكم، وأظهرْتم بربكم.
18518- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (واتخذتموه وراءكم ظهريا) ، قال: لم تراقبوه في شيء إنما تراقبون قومي (واتخذتموه وراءكم ظهريا) ، يقول: عززتم قومكم وأظهرتم بربكم.
18519- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال: لم تراقبوه في شيء، إنما تراقبون قومي = (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، لا تخافونه
18520- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (أرهطي أعز عليكم من الله) ، قال: أعززتم قومكم، واغتررتم بربكم، سمعت إسحاق بن أبي إسرائيل قال: قال سفيان:
__________
(1) هكذا في المطبوعة، ولها معنى، ولكن الذي في المخطوطة: " قصي "، وكأنه أراد " قصيا "، وهذا عندي أحب.(15/460)
(واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، كما يقول الرجل للرجل: "خلَّفتَ حاجتي خلفَ ظهرك"، (فاتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، استخففتم بأمره. فإذا أراد الرجل قضاء حاجةِ صاحبه جعلها أمامه بين يديه، ولم يستخفَّ بها.
18521- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال: "الظهْريّ"، الفَضْل، مثل الجمّال يخرج معه بإبل ظَهَارَّية، (1) فضل، لا يحمل عليها شيئًا، إلا أن يحتاج إليها. قال: فيقول: إنما ربكم عندكم مثل هذا، إن احتجتم إليه. وإن لم تحتاجوا إليه فليس بشيء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واتخذتم ما جاء به شعيبٌ وراءكم ظهريًّا = فالهاء في قوله: (واتخذتموه) ، على هذا من ذكر ما جاء به شعيب.
*ذكر من قال ذلك:
18522- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال: تركتم ما جاء به شعيب
18523-. . . . قال، حدثنا جعفر بن عون، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد قال: نبذوا أمره.
18524- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريا) ، قال: نبذتم أمره.
18525- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ،
__________
(1) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: " ظهارية "، ولكن اللغة على أن جمع " ظهري "، " ظهاري "، فزيادة التاء هنا ضعيفة الوجه.(15/461)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)
قال: همَّ رهط شعيب بتركهم ما جاء به وراء ظهورهم ظهريًّا.
18526- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال=
18527-. . . . وحدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، قال: استثناؤهم رهط شعيب، وتركهم ما جاءَ به شعيب وراء ظهورهم ظهريًّا.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القول الذي اخترناه في تأويل ذلك، لقرب قوله: (واتخذتموه وراءكم ظهريًّا) ، من قوله: (أرهطي أعز عليكم من الله) = فكانت الهاء في قوله: (واتخذتموه) ، بأن تكون من ذكر الله، لقرب جوارها منه، أشبهَ وأولى.
* * *
وقوله: (إن ربي بما تعملون محيط) ، يقول: إن ربي محيط علمه بعملكم، (1) فلا يخفى عليه منه شيء، وهو مجازيكم على جميعه عاجلا وآجلا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ 93 مَن}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل شعيب لقومه: (ويا قوم اعملوا على مكانتكم) ، يقول: على تمكنكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " محيط " فيما سلف ص: 445، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/462)
يقال منه: "الرجل يعمل على مَكينته، ومَكِنته"، أي: على اتئاده، = "ومَكُن الرجل يمكُنُ مَكْنًا ومَكانةً ومَكانًا". (1)
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول في معنى قوله: (على مكانتكم) ، على منازلكم.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: ويا قوم اعملوا على تمكنكم من العمل الذي تعملونه، إنّي عامل على تؤدةٍ من العمل الذي أعمله = (سوف تعلمون) ، أينا الجاني على نفسه، والمخطئ عليها، والمصيب في فعله المحسنُ إلى نفسه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مخبرًا عن قيل نبيّه شعيب لقومه: الذي يأتيه منّا ومنكم، أيها القوم = (عذاب يخزيه) ، يقول: يذله ويهينه (2) (ومن هو كاذب) ، يقول: ويُخزي أيضًا الذي هو كاذب في قيله وخبره منا ومنكم = (وارتقبوا) ، أي: انتظروا وتفقدوا من الرقبة.
* * *
يقال منه: "رقبت فلانًا أرْقُبه رِقْبَةً". (3)
* * *
وقوله: (إني معكم رقيب) ، يقول: إني أيضًا ذو رقبة لذلك العذاب معكم، وناظر إليه بمن هو نازل منا ومنكم؟ (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المكانة " فيما سلف ص 12: 128، 129، وهنا زيادة في مصادره لا تجدها في كتب اللغة.
(2) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف من فهارس اللغة (خزي) .
(3) انظر تفسير " الترقب " و " الرقيب " فيما سلف 7: 523، 524 / 11: 239.
(4) انظر تفسير " الترقب " و " الرقيب " فيما سلف 7: 523، 524 / 11: 239.(15/463)
وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولما جاء قضاؤنا في قوم شعيب، بعذابنا "نجينا شعيبًا" رسولنا، والذين آمنوا به فصدقوه على ما جاءهم به من عند ربهم مع شعيب، من عذابنا الذي بعثنا على قومه = (برحمة منا) ، له ولمن آمن به وأتبعه على ما جاءهم به من عند ربهم = وأخذت الذين ظلموا صيحة من السماء أخمدتهم، فأهلكتهم بكفرهم بربهم. (1) وقيل: إن جبريل عليه السلام، صاح بهم صَيحةً أخرجت أرواحهم من أجسامهم = (فأصبحوا في ديارهم جاثمين) ، على ركبهم، وصرعى بأفنيتهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: كأن لم يعش قوم شعيب الذين أهلكهم الله بعذابه، حين أصبحوا جاثمين في ديارهم قبل ذلك. ولم يغنوا.
* * *
= من قولهم: "غنيت بمكان كذا"، إذا أقمت به، (3) ومنه قول النابغة:
__________
(1) انظر تفسير " الصيحة " فيما سلف ص: 380.
(2) انظر تفسير " الجثوم " فيما سلف ص: 380، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " غني بكذا " فيما سلف 12: 569، 570 / 15: 56، 381.(15/464)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97)
* * *
غَنِيَتْ بِذَلِكَ إِذْ هُمُ لِي جِيرَةٌ ... مِنْهَا بِعَطْفِ رِسَالِةٍ وتَوَدُّدِ (1)
وكما:-
18528- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح، قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (كأن لم يغنوا فيها) ، قال يقول: كأن لم يعيشوا فيها.
18529- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، مثله.
18530- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة مثله.
* * *
= وقوله: (ألا بعدًا لمدين كما بعدت ثمود) ، يقول تعالى ذكره: ألا أبعد الله مدين من رحمته، بإحلال نقمته بهم (2) ="كما بعدت ثمود"، يقول: "كما بعدت من قبلهم ثمود من رحمته، بإنزال سخطه بهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولقد أرسلنا موسى بأدلتنا على توحيدنا، وحجةً تُبين لمن عاينها وتأملها بقلب صحيحٍ. (3) أنها تدل على توحيد الله، وكذب
__________
(1) مضى البيت وشرحه فيما سلف ص: 56.
(2) انظر تفسير " البعد " فيما سلف ص: 334، 367، 381.
(3) انظر تفسير " السلطان " فيما سلف ص: 146، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " مبين " فيمل سلف من فهارس اللغة (بين) .(15/465)
كل من ادّعى الربوبية دونه، وبُطُول قول من أشرك معه في الألوهية غيره = (إلى فرعون وملئه) ، يعني إلى أشراف جنده وتُبَّاعه (1) = (فاتبعوا أمر فرعون) ، يقول: فكذب فرعون وملأه موسى، وجحدوا وحدانية الله، وأبوا قبول ما أتاهم به موسى من عند الله، واتبع ملأ فرعون أمرَ فرعون دون أمر الله، وأطاعوه في تكذيب موسى، وردّ ما جاءهم به من عند الله عليه = يقول تعالى ذكره: (وما أمر فرعون برشيد) يعني: أنه لا يُرشد أمر فرعون من قَبِله منه، في تكذيب موسى، إلى خير، (2) ولا يهديه إلا صلاح، بل يورده نار جهنم. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الملأ " فيما سلف ص: 310، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة حذف قوله: " منه "، فأفسد الكلام إفسادًا.
(3) انظر تفسير " رشيد " فيما سلف ص: 450، تعليق: 3، والمراجع هناك.(15/466)
يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (يقدم) ، فرعون = (قومه يوم القيامة) ، يقودهم، فيمضي بهم إلى النار، حتى يوردهموها، ويصليهم سعيرها، (وبئس الورد) ، يقول: وبئس الورد الذي يردونه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك.
18531- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يقدم قومه يوم القيامة) ، قال: فرعون يقدم قومه يوم القيامة، يمضى بين أيديهم حتى يهجم بهم على النار.(15/466)
وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
18532- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (يقدم قومه يوم القيامة) يقول: يقود قومه = "فأوردهم النار".
18533- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: (يقدم قومه يوم القيامة) ، يقول: أضلهم فأوردهم النار.
18534- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عمن سمع ابن عباس يقول في قوله: (فأوردهم النار) ، قال: "الورد"، الدُّخول.
18535- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (فأوردهم النار) ، كان ابن عباس يقول: "الورد " في القرآن أربعةُ أوراد: في هود قوله: (وبئس الورد المورود) = وفي مريم: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا) [سورة مريم: 71] ، وورد في "الأنبياء": (حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) ، [سورة الأنبياء: 98] ، وورد في "مريم" أيضًا: (وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [سورة مريم: 72] كان ابن عباس يقول: كل هذا الدخول، والله ليردن جهنم كل برٍّ وفاجر: (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) ، [سورة مريم: 86] .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) }
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: وأتبعهم الله في هذه = يعني في هذه الدنيا = مع العذاب الذي عجله لهم فيها من الغرق في البحر، لعنتَه (1) = (ويوم
__________
(1) انظر تفسير " اللعنة " فيما سلف 12: 447، تعليق: 2، والمراجع هناك.(15/467)
القيامة) ، يقول: وفي يوم القيامة أيضًا يلعنون لعنةً أخرى، كما:-
18536- حدثنا بن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسه عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) ، قال: لعنةً أخرى.
18537- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) ، قال: زِيدوا بلعنته لعنةً أخرى، فتلك لعنتان.
18538- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) ، اللعنةُ في إثر اللعنة.
18539-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (وأتبعوا في هذه لعنة ويوم القيامة) ، قال: زيدوا لعنة أخرى، فتلك لعنتان.
18540- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (في هذه) ، قال: في الدنيا = (ويوم القيامة) ، أردفوا بلعنة أخرى، زيدوها، فتلك لعنتان.
* * *
وقوله: (بئس الرفد المرفود) ، يقول: بئس العَوْن المُعان، اللعنةُ المزيدة فيها أخرى مثلها. (1)
* * *
وأصل "الرفد"، العون، يقال منه: "رفَد فلانٌ فلانًا عند الأمير يَرفِده رِفْدًا " بكسر الراء = وإذا فتحت، فهو السَّقي في القدح العظيم، و"الرَّفد": القدحُ الضخم، ومنه قول الأعشى:
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " أخرى منها "، وكأن الصواب ما أثبت.(15/468)
رُبَّ رَفْدٍ هَرَقْتَهُ ذَلِكَ الْيَوْ ... مَ وَأسْرَى مِنْ مَعْشَرٍ أَقْتَالِ (1)
ويقال: "رَفد فلان حائطه"، وذلك إذا أسنده بخشبة، لئلا يسقط. و"الرَّفد"، بفتح الراء المصدر. يقال منه: "رَفَده يَرفِده رَفْدًا"، و"الرِّفْد"، اسم الشيء الذي يعطاه الإنسان، وهو "المَرْفَد".
* * *
وينحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18541- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (بئس الرفد المرفود) ، قال: لعنة الدنيا والآخرة.
18542- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (بئس الرفد المرفود) ، قال: لعنهم الله في الدنيا، وزيد لهم فيها اللعنة في الآخرة.
18543- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) ، قال: لعنة في الدنيا، وزيدوا فيها لعنةً في الآخرة.
18544- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
__________
(1) ديوانه: 13، من قصيدة طويلة من جياد شعره، يمدح فيها الأسود بن المنذر اللخمي أخا النعمان بن المنذر، الملك. وكان الأسود غزا الحليفين أسدًا وذبيان، ثم أغار على الطف، فأصاب نعمًا وأسرى وسبيًا من سعد بن ضبيعة (رهط الأعشى) ، وكان الأعشى غائبًا، فلما قدم وجد الحي مباحًا، فأتاه فأنشده، وسأله أن يهب له الأسرى ويحملهم، ففعل. يقول: رب رجل كانت له إبل يحلبها في قدح له ولعياله، فاستقت الإبل، وذهب ما كان يحلبه الرفد، فكذلك هرقت ما حلب. " والأقتال " جمع " قتل " (بكسر فسكون) . و " القتل "، القرن من الأعداء، وهو أيضًا: المثل والنظير، وقال الأصمعي في شرح البيت وقد نقلت ما سلف من شرح ديوانه: " أقتال "، أشباه غير أعداء. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " أقيال "، وهو هنا خطأ.(15/469)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100)
(وأتبعوا في هذه لعنه ويوم القمامة بئس الرفد المرفود) ، يقول: ترادفت عليهم اللعنتان من الله، لعنة في الدنيا، ولعنة في الآخرة.
18545- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أصابتهم لعنتان في الدنيا، رفدت إحداهما الأخرى، وهو قوله: (ويوم القيامة بئس الرفد المرفود) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: هذا القصص الذي ذكرناه لكَ في هذه السورة،، والنبأ الذي أنبأناكه فيها، من أخبار القرى التي أهلكنا أهلها بكفرهم بالله، (1) وتكذيبهم رسله = (نقصه عليك) فنخبرك به (2) = (منها قائم) ، يقول: منها قائم بنيانه، بائدٌ أهله هالك، (3) ومنها قائم بنيانه عامر، ومنها حصيدٌ بنيانه، خرابٌ متداعٍ، قد تعفى أثرُه دارسٌ.
* * *
من قولهم: "زرع حصيد"، إذا كان قد استؤصل قطعه، وإنما هو محصود، ولكنه صرف إلى "فعيل"، (4) كما قد بينا في نظائره. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) .
(2) انظر تفسير " القصص " فيما سلف 9: 402 / 11: 399 / 12: 120، 307، 406 / 13: 7، 274.
(3) في المطبوعة " بائد بأهله "، والصواب من المخطوطة، وزدت " قائم " قبل قوله: " بنيانه "، وبذلك تستقيم الجملة وتساوي التي تليها.
(4) انظر تفسير " حصيد " فيما سلف ص: 56.
(5) انظر ما سلف من فهارس اللغة مباحث العربية والنحو وغيرهما.(15/470)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18546- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: (ذلك من أنباء القرى نقصه عليك منها قائم وحصيد) ، يعني ب"القائم" قُرًى عامرة. و"الحصيد" قرى خامدة.
18547- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (قائم وحصيد) ، قال: "قائم " على عروشها = و"حصيد" مستأصَلة.
18548- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (منها قائم) ، يرى مكانه، (وحصيد) لا يرى له أثر.
18549- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (منها قائم) ، قال: خاوٍ على عروشه= (وحصيد) ، ملزقٌ بالأرض.
18550- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن الأعمش: (منها قائم وحصيد) ، قال: خرَّ بنيانه.
18551- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش: (منها قائم وحصيد) ، قال: "الحصيد"، ما قد خرَّ بنيانه.
18552- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (منها قائم وحصيد) ، منها قائم يرى أثره، وحصيدٌ بَادَ لا يرى أثره.
* * *(15/471)
وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما عاقبنا أهل هذه القرى التي اقتصَصنا نبأها عليك، يا محمد، بغير استحقاق منهم عقوبتنا، فنكون بذلك قد وضعنا عقوبتنا هُمْ في غير موضعها = (ولكن ظلموا أنفسهم) ، يقول: ولكنهم أوجبوا لأنفسهم بمعصيتهم الله وكفرهم به، عقوبتَه وعذابه، فأحلوا بها ما لم يكن لهم أن يحلوه بها، وأوجبوا لها ما لم يكن لهم أن يوجبوه لها = (فما أغنت عنهم آلهتهم التي يدعون من دون الله من شيء) ، يقول: فما دفعت عنهم آلهتهم التي يدعونها من دون الله، (1) ويدعونها أربابًا من عقاب الله وعذابه إذا أحله بهم ربُّهم من شيء، ولا ردَّت عنهم شيئًا منه = (لما جاء أمر ربك) ، يا محمد، يقول: لما جاء قضاء ربك بعذابهم، فحقّ عليهم عقابه، ونزل بهم سَخَطه = (وما زادوهم غير تتبيب) ، يقول: وما زادتهم آلهتهم عند مجيء أمر ربك هؤلاء المشركين بعقاب الله غير تخسيرٍ وتدميرٍ وإهلاك.
* * *
يقال منه: "تبَّبْتُه أتبِّبُه تَتْبيبًا"، ومنه قولهم للرجل: "تبًّا لك"، قال جرير:
عَرَادَةُ مِنْ بَقِيَّةِ قَوْمِ لُوطٍ ... أَلا تَبًّا لِمَا فَعَلُوا تَبَابًا (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " أغني عنه " فيما سلف ص: 215، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) ديوانه: 72، من قصيدته المشهورة في هجاء الراعي النميري، وكان سببها أن " عرادة النميري "، وهو رواية الراعي كان نديمًا للفرزدق، فقدم الراعي البصرة، فدعاه عرادة فأطعمه وسقاه وقال: فضل الفرزدق على جرير! فأبى. فلما أخذ فيه الشراب، لم يزل به حتى قال: يا صَاحِبَيَّ دَنا الرَّواحُ فَسِيرَا ... غَلَبَ الفَرَزْدَقُ في الهِجَاءِ جريرَا
فهاج الهجاء بينهما، فكان مما ذكر به عرادة قوله: أتَانِي عَنْ عَرَادَةَ قَوْلُ سُوءٍ ... فَلاَ وَأَبِي عُرَادَةَ مَا أَصَابَا
وَكَمْ لَكَ يَا عُرَادَةُ مِنْ أُمِّ سُوءٍ ... بَأَرْضِ الطَّلْحِ تَحْتَبِلُ الزَّبابَا
لَبِئْسَ الْكَسْبُ تَكْسِبُهُ نُمَيْرٌ ... إِذَا اسْتَأْنَوْكَ وانْتَظَروا الإِيابَا
وكان في المخطوطة والمطبوعة: " عرابة "، وهو خطأ صرف.(15/472)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18553- حدثني المثني قال، حدثنا سعيد بن سلام أبو الحسن البصري قال، حدثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق، عن ابن عمر في قوله: (وما زادوهم غير تتبيب) ، قال: غير تخسير. (1)
18554- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (غير تتبيب) ، قال: تخسير.
18555- حدثنا المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18556-حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة: (غير تتبيب) ، يقول: غير تخسير.
18557- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (غير تتبيب) ، قال: غير تخسير.
* * *
__________
(1) الأثر: 18553 - " سعيد بن سلام، أبو الحسن البصري العطار الثوري الأعور "، منكر الحديث، كذاب يحدث عن الثوري، لا يكتب حديثه، مترجم في الكبير 2 / 1 / 441، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 31، ولسان الميزان 3: 31، وميزان الاعتدال 1: 382. " ونسير بن ذعلوق الثوري "، ثقة، مضى برقم: 5491، 13488.(15/473)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله تعالى ذكره، وإن كان خبرًا عمَّن مَضَى من الأمم قبلنا، فإنه وعيدٌ من الله جلّ ثناؤه لنا أيتها الأمة، أنا إن سلكنا سبيلَ الأمم قبلَنا في الخلاف عليه وعلى رسوله، سلك بنا سبيلهم في العُقوبة = وإعلام منه لما أنه لا يظلم أحدًا من خلقه، وأن العباد هم الذين يظلمون أنفسهم، كما:-
18558- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قال، اعتذر = يعني ربنا جل ثناؤه = إلى خلقه فقال: (وما ظلمناهم) ، مما ذكرنا لك من عذاب من عذبنا من الأمم، (ولكن ظلموا أنفسهم فما أغنت عنهم آلهتهم) ، حتى بلغ: (وما زادوهم غير تتبيب) ، قال: ما زادهم الذين كانوا يعبدونهم غير تتبيب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وكما أخذت، أيها الناس، أهلَ هذه القرى التي اقتصصت عليك نبأ أهلها بما أخذتُهم به من العذاب، على خلافهم أمري، وتكذيبهم رسلي، وجحودهم آياتي، فكذلك أخذي القرَى وأهلها إذا أخذتهم بعقابي، وهم ظلمة لأنفسهم بكفرهم بالله، وإشراكهم به غيره، وتكذيبهم رسله = (إنَّ أخذه أليم) ، يقول: إن أخذ ربكم بالعقاب من أخذه = (أليم) ، يقول: موجع = (شديد) الإيجاع.
* * *(15/474)
وهذا من الله تحذيرٌ لهذه الأمة، (1) أن يسلكوا في معصيته طريق من قبلهم من الأمم الفاجرة، فيحل بهم ما حلَّ بهم من المثُلات، كما:-
18559- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية، عن بريد بن أبي بردة، عن أبيه، عن أبي موسى قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يُمْلي= ورُبَّما، قال: يمهل = الظالمَ، حتى إذا أخذه لم يُفْلِتُه. ثم قرأ: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة) . (2)
18560- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن الله حذّر هذه الأمة سطوتَه بقوله: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " وهذا أمر من الله تحذير. . . "، والصواب حذف " أمر "، كذلك فعلت.
(2) الأثر: 18559 - " بريد بن بردة "، هو " بريد بن عبد الله بن أبي بردة الأشعري "، يروي جده " أبي بردة "، ثقة، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 140، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 426.وقوله ": عن أبيه "، يعني عن " أبي بردة بن أبي موسى الأشعري "، وهو جده. وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 267) ، ومسلم في صحيحه 15: 137، وابن ماجة في سننه ص: 1332، رقم: 4018، والترمذي في كتاب التفسير. وإسناد البخاري ومسلم: " بريدة بن أبي بردة، عن أبيه "، وإسناد ابن ماجة " بريد بن عبد الله بن أبي بردة، عن أبي بردة " وعند الترمذي عن أبي كريب عن أبي معاوية أيضًا، وهو إسناد الطبري: بريد بن عبد الله، عن أبي بردة. وقد ذكر الحافظ ابن حجر ذلك فقال: " كذا وقع لأبي ذر، ووقع لغيره: " عن أبي بردة " بدل: " عن أبيه "، وهو صواب، لأن بريدًا، هو ابن عبد الله بن أبي بردة، فأبو بردة جده لا أبوه، ولكن يجوز إطلاق الأب عليه مجازًا " (الفتح 8: 267) . وقال الترمذي: " هذا حديث حسن صحيح غريب، وقد روى أبو أسامة عن بريد، نحوه وقال: يعلى. حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، عن أبي أسامة، عن بريد بن عبد الله، عن جده أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه، وقال: يملى، ولم يشك فيه ".
وكان هنا في المخطوطة والمطبوعة: " إن الله يملي = وربما أمهل، قال يمهل "، زاد " أمهل "، فحذفتها، لأنها زيادة لا شك في خطئها.
" أملي له " أخره وأطال مدته. من " الملاوة "، وهي المدة من الزمن.(15/475)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103)
وكان عاصم الجحدريّ يقرأ ذلك: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ) ، (1) وذلك قراءة لا أستجيز القراءة بها لخلافها مصاحف المسلمين، وما عليه قراء الأمصار.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن في أخذنا من أخذنا من أهل القرى التي اقتصصنا خبرَها عليكم أيها الناس لآية، يقول: لعبرة وعظة (2) = لمن خاف عقاب الله وعذابه في الآخرة من عباده، وحجةً عليه لربه، وزاجرًا يزجره عن أن يعصي الله ويخالفه فيما أمره ونهاه.
* * *
وقيل: بل معنى ذلك: إن فيه عبرة لمن خاف عذاب الآخرة، بأن الله سيفي له بوَعْده.
__________
(1) كان في المطبوعة: " وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى " وفي المخطوطة: " وكذلك أخذ ربك إذ أخذ القرى "، والذي في المخطوطة، هو نفس التلاوة، ولذلك جعل الناشر " إذ " مكان " إذا ". ولكني لما رأيت أبا جعفر ذكر خلافه لمصاحف المسلمين وكان في المخطوطة: " إذا " قدرت أنه الذي أثبت، وهي قراءة شاذة، رويت عن عاصم الجحدري، وعن نافع (انظر القراءات الشاذة، لابن خالويه: 61) . وقرأ عاصم وطلحة بن مصرف: (وكَذَلِكَ أَخَذَ رَبُّكَ إِذْ أَخَذَ القُرَى) وقرأ عاصم أيضا: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّك إِذْ أَخَذَ الْقُرَى) . فهي ثلاث قراءات عن عاصم الجحدري، أثبت أشدها خلافا لمصاحف المسلمين، وما عليه قرأة الأمصار.
(2) انظر تفسير " آية " فيما سلف من فهارس اللغة (أيي) .(15/476)
*ذكر من قال ذلك:
18561- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن في ذلك لآيه لمن خاف عذاب الآخرة) ، إنا سوف نفي لهم بما وعدناهم في الآخرة، كما وفينا للأنبياء: أنا ننصرهم.
* * *
وقوله: (ذلك يوم مجموع له الناس) ، يقول تعالى ذكره: هذا اليوم = يعني يوم القيامة = (يوم مجموع له الناس) ، يقول: يحشر الله له الناس من قبورهم، فيجمعهم فيه للجزاء والثواب والعقاب = (وذلك يوم مشهود) ، يقول: وهو يوم تَشهده الخلائق، لا يتخلَّف منهم أحدٌ، فينتقم حينئذ ممن عصى الله وخالف أمره وكذَّب رُسُلَه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18562- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد في قوله: (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) ، قال: يوم القيامة.
18563- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن عكرمة، مثله.
18564- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن شعبة، عن علي بن زيد، عن يوسف المكي، عن ابن عباس قال، "الشاهد"، محمد، و"المشهود"، يوم القيامة. ثم قرأ: (ذلك يوم مجموعٌ له الناس وذلك يوم مشهود) .
18565- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن ابن عباس قال: "الشاهد"، محمد = و"المشهود"، يوم القيامة. ثم تلا هذه الآية: (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) .(15/477)
وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
18566- حدثت عن المسيب، عن جويبر، عن الضحاك قوله: (ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود) ، قال: ذلك يوم القيامة، يجتمع فيه الخلق كلهم، ويشهدُه أهل السماء وأهل الأرض.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلا لأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما نؤخّر يوم القيامة عنكم أن نجيئكم به إلا لأن يُقْضَى، فقضى له أجلا فعدّه وأحصَاه، فلا يأتي إلا لأجله ذلك، لا يتقدم مجيئه قبل ذلك ولا يتأخر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يوم يأتي يوم القيامة، أيها الناس، وتقوم الساعة، لا تكلم نفس إلا بإذن رَبّها.
* * *
واختلفت القراء في قراءة قوله: (يوم يأتي) .
فقرأ ذلك عامّة قراء أهل المدينة بإثبات الياء فيها (يَوْمَ يَأْتِي لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ) .(15/478)
وقرأ ذلك بعض قراء أهل البصرة وبعض الكوفيين بإثبات الياء فيها في الوصل وحذفها في الوقف.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بحذف الياء في الوصل والوقف: (يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلا بِإِذْنِهِ) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي: (يَوْمَ يَأْتِ) ، بحذف الياء في الوصل والوقف اتباعًا لخط المصحف، وأنها لغة معروفة لهذيل، تقول: "مَا أدْرِ مَا تَقول"، ومنه قول الشاعر: (1)
كَفَّاكَ كَفٌّ مَا تُلِيقُ دِرْهَمَا ... جُودًا وأُخْرَى تُعْطِ بِالسَّيْفِ الدَّمَا (2)
* * *
وقيل: (لا تكلم) ، وإنما هي "لا تتكلم"، فحذف إحدى التاءين اجتزاء بدلالة الباقية منهما عليها.
* * *
وقوله: (فمنهم شقيّ وسعيد) ، يقول: فمن هذه النفوس التي لا تكلم يوم القيامة إلا بإذن ربها، شقيٌّ وسعيد = وعاد على "النفس"، وهي في اللفظ واحدة، بذكر الجميع في قوله: (فمنهم شقي وسعيد) .
* * *
يقول: تعالى ذكره: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير) = وهو أوّل نُهاق الحمار وشبهه = (وشهيق) ، وهو آخر نهيقه إذا ردده في الجوف عند فراغه من نُهاقه، كما قال رؤبة بن العجاج:
حَشْرَجَ فِي الجَوْفِ سَحِيلا أَوْ شَهَقْ ... حَتَّى يُقَالَ نَاهِقٌ وَمَا نَهَقْ (3)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية، اللسان (ليق) ، يقال: " ما يليق بكفه درهم " (بفتح الياء) أي: ما يحتبس = و " ما يلقيه القراء وهو "، أي: ما يحبسه.
(3) ديوانه: 106، واللسان (حشرج) ، وسيأتي في التفسير 29، 4 (بولاق) ، من طويلته المشهوره، يصف فيها حمار الوحش، وبعده: كَأَنَّهُ مُسْتَنْشِقٌ مِن الشَّرَقْ ... خُرًّا من الخَرْدَلِ مَكْرُوهَ النَّشَقْ
و" حشرج " ردد الصوت في حلقه ولم يخرجه. و " السحيل "، الصوت الذي يدور في صدر الحمار في نهيقه.(15/479)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18567- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لهم فيها زفير وشهيق) ، يقول: صوت شديدٌ وصوت ضعيف.
18568-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن أبي العالية في قوله: (لهم فيها زفير وشهيق) ، قال: "الزفير" في الحلق، و"الشهيق" في الصدر.
18569- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، بنحوه.
18570- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: صوت الكافر في النار صوت الحمار، أوّله زفير وآخره شهيق
18571- حدثنا أبو هشام الرفاعي، ومحمد بن معمر البحراني، ومحمد بن المثني، ومحمد بن بشار قالوا، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سليمان بن سفيان قال، حدثنا عبد الله بن دينار، عن ابن عمر عن عمر قال، لما نزلت هذه الآية: (فمنهم شقيّ وسعيد) ، سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبيّ الله، فعلام عَمَلُنا؟ على شيء قد فرغ منه، أم على شيء لم يفرغ منه؟ قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: على شيء قد فُرِغ منه، يا عمر، وجرت(15/480)
به الأقلام، ولكن كلٌّ مُيَسَّر لما خُلق له = اللفظ لحديث ابن معمر. (1)
* * *
وقوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) ، يعني تعالى ذكره بقوله: (خالدين فيها) ، لابثين فيها (2) = ويعني بقوله: (ما دامت السموات والأرض) ، أبدًا. (3)
* * *
وذلك أن العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبدًا قالت: هذا دائم دوام السموات والأرض، بمعنى أنه دائم أبدًا، وكذلك يقولون: "هو باقٍ ما اختلف الليل والنهار". و"ما سمر ابنا سَمِير"، و"ما لألأت العُفْرُ بأذنابها " يعنون بذلك كله "أبدا". فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفون به بينهم فقال: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) ، والمعنى في ذلك: خالدين فيها أبدًا.
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك بنحو ما قلنا فيه.
18572- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) ، قال: ما دامت الأرض أرضًا، والسماءُ سماءً.
* * *
ثم قال: (إلا ما شاء ربك) ، واختلف أهل العلم والتأويل في معنى ذلك فقال بعضهم: هذا استثناءٌ استثناه الله في بأهل التوحيد، أنه يخرجهم من النار إذا شاء، بعد أن أدخلهم النار.
__________
(1) الأثر: 15871 " سليمان بن سفيان التميمي "، ضعيف، منكر الحديث، يروي عن الثقات أحاديث مناكير. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 18، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 119، وميزان الاعتدال 1: 415. وهذا خبر ضعيف الإسناد، ذكره ابن كثير في تفسيره 4: 395، عن مسند أبي يعلي، وذكره الحافظ الذهبي في الميزان، بإسناده، عن أبي عامر العقدي. لكن معنى الخبر له شواهد في الصحيح.
(2) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(3) انظر تفسير " ما دام " 10: 185 / 11: 74، 238.(15/481)
*ذكر من قال ذلك:
18573- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال: الله أعلم بثُنَياه. (1)
وذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابوها، (2) ثم يدخلهم الجنة.
18574- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، والله أعلم بثَنيَّته. (3) ذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سَفْعٌ من النار بذنوب أصابتهم، ثم يدخلهم الله الجنة بفضل رحمته، يقال لهم: "الجهنَّميُّون".
18575- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا شيبان بن فروخ قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة، وتلا هذه الآية: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق) ، إلى قوله: (لما يريد) ، فقال عند ذلك: حدثنا أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يَخْرج قومٌ من النار = قال قتادة: ولا نقول مثل ما يقول أهل حَرُوراء. (4)
18576- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان في قوله: (فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال: استثناء في أهل التوحيد.
18577- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) " الثنيا " (بضمك فسكون) و " الثنية "، على وزن (فعيلة) ، و " المثنوية "، كله الاستثناء.
(2) " سفعته النار والشمس سفعًا "، لفحته لفحًا يسيرًا، فغيرت لون بشرته وسودته.
(3) انظر التعليق رقم: 1.
(4) " أهل حروراء "، هم الخوارج، يقولون إن صاحب الكبيرة مخلد في النار، لأنهم يكفرون أهل الكبائر.(15/482)
معمر، عن الضحاك بن مزاحم: (فأما الذين شقوا ففي النار) ، إلى قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال: يخرج قوم من النار فيدخلون الجنة، فهم الذين استثنى لهم.
18578- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، ثني معاوية، عن عامر بن جشيب، عن خالد بن معدان في قوله: (لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) ، [سورة النبأ: 23] ، وقوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، أنهما في أهل التوحيد. (1)
* * *
وقال آخرون: الاستثناء في هذه الآية في أهل التوحيد، إلا أنهم قالوا: معنى قوله: (إلا ما شاء ربك) ، إلا أن يشاء ربك أن يتجاوز عنهم فلا يدخلهم النار. ووجهوا الاستثناء إلى أنه من قوله: (فأما الذين شقوا ففي النار) = (إلا ما شاء ربك) ، لا من "الخلود".
*ذكر من قال ذلك:
18579- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا ابن التيمي، عن أبيه، عن أبي نضرة، عن جابر أو: أبي سعيد = يعني الخدري = أو: عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم= في قوله: (إلا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد) ، قال: هذه الآية تأتي على القرآن كلِّه يقول: حيث كان في القرآن (خالدين فيها) ، تأتي عليه = قال: وسمعت أبا مجلز يقول: هو جزاؤه، فإن شاء الله تجاوَزَ عن عذابه.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك أهل النار وكلَّ من دخلها.
__________
(1) الأثر: 18578 - " عامر بن جشيب الحمصي "، روى عن أبي أمامة، وخالد بن معدان، وغيرهما. ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 319. وكان في المطبوعة: " جشب "، وهو خطأ، والمخطوطة كما أثبت إلا أنها غير منقوطة. وهذا الخبر سيأتي في التفسير 30: 8، 9، (بولاق) في تفسير سورة " النبأ ".(15/483)
*ذكر من قال ذلك:
18580- حدثت عن المسيب عمن ذكره، عن ابن عباس: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) ، لا يموتون، ولا هم منها يخرجون ما دامت السموات والأرض، (إلا ما شاء ربك) ، قال: استثناءُ الله. قال: يأمر النار أن تأكلهم. قال: وقال ابن مسعود: ليأتين على جهنَّم زمان تخفِقُ أبوابُها، ليس فيها أحد، وذلك بعد ما يلبثون فيها أحقابًا.
18581- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: جهنم أسرع الدارين عمرانًا وأسرعهما خرابًا.
* * *
وقال آخرون: أخبرنا الله بمشيئته لأهل الجنة، فعرَّفنا معنى ثُنْياه بقوله: (عطاء غير مجذوذ) ، أنها في الزيادة على مقدار مدَّة السموات والأرض.قال: ولم يخبرنا بمشيئته في أهل النار. وجائز أن تكون مشيئته في الزيادة، وجائز أن تكون في النقصان.
*ذكر من قال ذلك:
18582- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، فقرأ حتى بلغ: (عطاء غير مجذوذ) ، قال: وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة، فقال: (عطاء غير مجذوذ) ، ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في تأويل هذه الآية بالصواب، القولُ الذي ذكرنا عن قتادة والضحاك: من أن ذلك استثناء في أهل التوحيد من أهل الكبائر أنه يدخلهم النار، خالدين فيها أبدًا إلا ما شاءَ من تركهم فيها أقل من ذلك، ثم يخرجهم فيدخلهم الجنة، كما قد بينا في غير هذا الموضع، (1)
__________
(1) في المطبوعة: " كذا قد بينا "، وهو كلام غث، ورطه فيه سوء كتابة الناسخ.(15/484)
بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
وإنما قلنا ذلك أولى الأقوال بالصحة في ذلك، لأن الله جل ثناؤه أوعد أهل الشرك به الخلود في النار، وتظاهرت بذلك الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغير جائز أن يكون استثناءً في أهل الشرك= وأن الأخبار قد تواترت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يدخل قومًا من أهل الإيمان به بذنوبٍ أصابوها النارَ، ثم يخرجهم منها فيدخلهم الجنة، فغير جائز أن يكون ذلك استثناء في أهل التوحيد قبل دُخُولها، مع صحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا = وأنّا إن جعلناه استثناء في ذلك، كنا قد دخلنا في قول من يقول: "لا يدخل الجنة فاسق، ولا النار مؤمن"، وذلك خلاف مذاهب أهل العلم، وما جاءت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا فسد هذان الوجهان، فلا قول قال به القُدْوة من أهل العلم إلا الثالث.
* * *
ولأهل العربية في ذلك مذهبٌ غير ذلك، سنذكره بعدُ، ونبينه إن شاء الله. (2) .
* * *
وقوله: (إن ربك فعال لما يريد) ، يقول تعالى ذكره: إن ربك، يا محمد، لا يمنعه مانع من فعل ما أراد فعله بمن عصاه وخالف أمره، من الانتقام منه، ولكنه يفعل ما يشاء فعلَه، فيمضي فيهم وفيمن شاء من خلقه فعلُه وقضاؤهُ. (3)
* * *
__________
(1) غاب عني مكانه، فمن وجده فليثبته.
(2) انظر ما سيأتي ص: 487 - 489.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " ولكنه يفعل ما يشاء، فيمضي فعله فيهم وفيمن شاء من خلقه فعله وقضاؤه "، وهو غير مستقيم، والآفة من الناسخ، والصواب ما أثبت، بتقديم " فعله " الأولى.(15/485)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) }
قال أبو جعفر: واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء المدينة والحجاز والبصرة وبعض الكوفيين: (وَأَمَّا الَّذِينَ سَعِدُوا) ، بفتح السين.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قراء الكوفة: (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا) ، بضم السين، بمعنى: رُزِقوا السعادة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنهما قراءتان معروفتان فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (سُعِدُوا) ، فيما لم يسمَّ فاعله، ولم يقل: "أسعدوا"، وأنت لا تقول في الخبر فيما سُمِّى فاعله: "سعده الله"، بل إنما تقول: "أسعده الله"؟
قيل ذلك نظير قولهم: "هو مجنون " و"محبوب"، (1) فيما لم يسمَّ فاعله، فإذا سموا فاعله قيل: "أجنه الله "، و"أحبه"، والعرب تفعل ذلك كثيرًا. وقد بينا بعض ذلك فيما مضى من كتابنا هذا. (2)
* * *
وتأويل ذلك: وأما الذين سعدوا برحمة الله، فهم في الجنة خالدين فيها ما دامت
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " هو مجنون، محبوب "، والأجود الفصل بالواو.
(2) غاب أيضًا عني مكانه، فمن وجده فليقيده.(15/486)
السموات والأرض، يقول: أبدًا = (إلا ما شاء ربك) .
* * *
فاختلف أهل التاويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: (إلا ما شاء ربك) ، من قدر ما مكثوا في النار قبل دخُولهم الجنة. قالوا: وذلك فيمن أخرج من النار من المؤمنين فأدخل الجنة.
*ذكر من قال ذلك:
18583- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الضحاك في قوله: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال: هو أيضًا في الذين يخرجون من النار فيدخلون الجنة. يقول: خالدين في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك. يقول: إلا ما مكثوا في النار حتى أدخلوا الجنة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (إلا ما شاء ربك) ، من الزيادة على قدر مُدّة دوام السموات والأرض، قالوا: وذلك هو الخلود فيها أبدًا.
*ذكر من قال ذلك:
18584- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن أبي مالك، يعني ثعلبة، عن أبي سنان: (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، قال: ومشيئته خلودهم فيها، ثم أتبعها فقال: (عطاء غير مجذوذ) .
* * *
واختلف أهل العربية في وجه الاستثناء في هذا الموضع.
فقال بعضهم في ذلك معنيان:
أحدهما: أن تجعله استثناءً يستثنيه ولا يفعله، كقولك: "والله لأضربنَّك(15/487)
إلا أن أرى غير ذلك"، وعزمُك على ضربه. (1) قال: فكذلك قال: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، ولا يشاؤه، [وهو أعلم] . (2)
قال: والقول الآخر: أنّ العرب إذا استثنت شيئًا كثيرًا مع مثله، ومع ما هو أكثر منه، (3) كان معنى "إلا " ومعنى "الواو" سواء. فمن كان قوله: (خالدين فيها ما دامت السموات والأرض) = سوى ما شاء الله من زيادة الخلود، فيجعل "إلا" مكان "سوى" فيصلح، وكأنه قال: "خالدين فيها ما دامت السموات والأرض سوى ما زادهم من الخلود والأبد". ومثله في الكلام أن تقول: لي عليك ألف إلا ألفين اللذين [مِنْ قِبَل فلان"، أفلا ترى أنه في المعنى: لي عليك ألفٌ سِوَى الألفين] ؟ (4) قال: وهذا أحبُّ الوجهين إليّ، لأنّ الله لا خُلْفَ لوعده. (5) وقد وصل الاستثناء بقوله: (عطاء غير مجذوذ) ، فدلَّ على أن الاستثناء لهم بقوله في الخلود غير منقطعٍ عنهم.
* * *
وقال آخر منهم بنحو هذا القول. وقالوا: جائز فيه وجه ثالثٌ: وهو أن يكون استثنى من خلودهم في الجنة احتباسهم عنها ما بين الموت والبعث، وهو البرزخ، إلى أن يصيُروا إلى الجنة، ثم هو خلود الأبد. يقول: فلم يغيبوا عن الجنة إلا بقدر إقامتهم في البرْزَخ.
* * *
وقال آخر منهم: جائز أن يكون دوام السموات والأرض، بمعنى: الأبد، على ما تعرف العرب وتستعمل، وتستثنى المشيئة من داومها، لأنَّ أهل
__________
(1) في معاني القرآن للفراء: " وعزيمتك على ضربه "، وهذا نص كلام الفراء.
(2) الزيادة بين القوسين من معاني القرآن للفراء.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " ومع ما هو أكثر منه "، والصواب من معاني القرآن: " أو مع. . ".
(4) كان في المطبوعة والمخطوطة: " إلا الألفين اللذين قبلهما "، وليس فيهما بقية ما أثبت، وهو كلام مبهم، نقلت سائره، وزدته بين القوسين من معاني القرآن للفراء، فهذا نص كلامه.
(5) في المطبوعة: " لا خلف لوعده "، وفي المخطوطة؛ " لا مخلف لوعده "، والصواب من معاني القرآن.(15/488)
الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقاتِ دوام السموات والأرض في الدنيا، لا في الجنة، فكأنه قال: خالدين في الجنة، وخالدين في النار، دوامَ السماء، والأرض، إلا ما شاء ربُّك من تعميرهم في الدنيا قبلَ ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، القولُ الذي ذكرته عن الضحاك، وهو (وأما الذين سعدوا ففي الجنة خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك) ، من قدر مُكْثِهم في النار، من لدن دخلوها إلى أن ادخلوا الجنة، وتكون الآية معناها الخصوص، لأن الأشهر من كلام العرب في "إلا" توجيهها إلى معنى الاستثناء، وإخراج معنى ما بعدها مما قبلها، إلا أن يكون معها دلالةٌ تدلُّ على خلاف ذلك. ولا دلالة في الكلام = أعني في قوله: (إلا ما شاء ربك) = تدلُّ على أن معناها غير معنى الاستثناء المفهوم في الكلام، فيُوَجَّه إليه.
* * *
وأما قوله: (عطاء غير مجذوذ) ، فإنه يعني: عطاءً من الله غيرَ مقطوع عنهم.
* * *
من قولهم: "جذذت الشيء أجذّه جذًّا"، إذا قطعته، كما قال النابغة: (1)
تَجذُّ السَّلُوقِيَّ المُضَاعَفَ نَسْجُهُ ... وَيوقِدْنَ بِالصُّفَّاحِ نَارَ الحُبَاحِبِ (2)
__________
(1) في المخطوطة: " كما قال الشاعر النابغة "، وهي زيادة لا تجدي.
(2) ديوانه: 44، واللسان (حبحب) ، (سلق) ، (صفح) ، من قصيدته المشهورة، يقول فيه قبله، في صفة سيوف الغسانيين، وذلك في مدحه عمرو بن الحراث الأعرج: وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أَنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ
تُوُرِّثْن مِنْ أَزْمَانِ يَوْمِ حَلِيمةٍ ... إلى اليَوْمِ قَدْ جُرِّبنَ كُلَّ التَّجَارِبِ
تَقُدُّ السُّلُوقيّ. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذه رواية الديوان. و " السلوقي "، الدروع، منسوبة إلى " سلوق "، وهي مدينة. و " الصفاح " حجارة عراض. و " نار الحباحب "، الشرر الذي يسقط من الزناد. ورواية الديوان: " وتوقد بالصفاح "، وهما سواء.(15/489)
يعني بقوله: "تجذ": تقطع.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18585- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (عطاء غير مجذوذ) ، قال: غير مقطوع.
18586- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (عطاء غير مجذوذ) ، يقول: غير منقطع.
18587- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (عطاء غير مجذوذ) ، يقول: عطاء غير مقطوع.
18588- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (مجذوذ) ، قال: مقطوع.
18589- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (عطاء غير مجذوذ) ، قال: غير مقطوع.
18590-. . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18591-.... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله.
18592- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج. عن(15/490)
ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18593-. . . . قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قوله: (عطاء غير مجذوذ) ، قال: أما هذه فقد أمضَاها. يقول: عطاء غير منقطع.
18594- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (عطاء غير مجذوذ) ، غير منزوع منهم.
* * *(15/491)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فلا تَك في شك، يا محمد، مما يعبد هؤلاء المشركون من قومك من الآلهة والأصنام، (1) أنه ضلالٌ وباطلٌ، وأنه بالله شركٌ = (ما يعبد هؤلاء إلا كما يعبد آباؤهم من قبل) ، يقول: إلا كعبادة آبائهم، من قبل عبادتهم لها. يُخبر تعالى ذكره أنهم لم يعبدُوا ما عبدوا من الأوثان إلا اتباعًا منهم منهاج آبائهم، واقتفاءً منهم آثارهم في عبادتهموها، لا عن أمر الله إياهم بذلك، ولا بحجة تبيَّنوها توجب عليهم عبادتها.
ثم أخبر جل ثناؤه نبيَّه ما هو فاعل بهم لعبادتهم ذلك، فقال جل ثناؤه: (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) ، يعني: حظهم مما وعدتهم أن أوفّيهموه من
__________
(1) انظر تفسير " المرية " فيما سلف من فهارس اللغة (مري) .(15/491)
خير أو شر (1) = (غير منقوص) ، يقول: لا أنقصهم مما وعدتهم، بل أتمّم ذلك لهم على التمام والكمال، (2) كما:-
18595- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس: (وإنا لموفُّوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال: ما وُعِدوا فيه من خير أو شر.
18596- حدثنا أبو كريب ومحمد بن بشار قالا حدثنا وكيع، عن سفيان عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله= إلا أن أبا كريب قال في حديثه: من خيرٍ أو شرّ.
18597- حدثني المثني قال، أخبرنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن جابر، عن مجاهد عن ابن عباس: (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال: ما قُدِّر لهم من الخير والشر.
18598- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله: (وإنا لموفّوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال: ما يصيبهم من خير أو شر.
18599- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإنا لموفوهم نصيبهم غير منقوص) ، قال: نصيبهم من العذاب.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " وفي " فيما سلف 14: 39، تعليق: 3، والمراجع هناك.
= وتفسير " النصيب " فيما سلف 12: 408، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " النقص " فيما سلف 14: 132.(15/492)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، مسليًا نبيه في تكذيب مشركي قومه إياه فيما أتاهم به من عند الله، بفعل بني إسرائيل بموسى فيما أتاهم به من عند الله. يقول له تعالى ذكره: ولا يحزنك، يا محمد، تكذيب هؤلاء المشركين لك، وامض لما أمرك به ربُّك من تبليغ رسالته، فإن الذي يفعل بك هؤلاء من ردِّ ما جئتهم به عليك من النصيحة من فعل ضُربائهم من الأمم قبلهم وسنَّةٌ من سُنتهم.
ثم أخبره جل ثناؤه بما فعل قوم موسى به فقال: (ولقد آتينا موسى الكتاب) ، يعني: التوراة، كما آتيناك الفرقان، فاختلف في ذلك الكتاب قومُ موسى، فكذّب به بعضُهم وصدّق به بعضهم، كما قد فعل قومك بالفرقان من تصديق بعض به، وتكذيب بعض = (ولولا كلمة سبقت من ربك) ، يقول تعالى ذكره: ولولا كلمة سبقت، يا محمد، من ربك بأنه لا يعجل على خلقه العذاب، ولكن يتأنى حتى يبلغ الكتاب أجله = (لقضي بينهم) ، يقول: لقضي بين المكذب منهم به والمصدِّق، بإهلاك الله المكذب به منهم، وإنجائه المصدق به = (وإنهم لفي شك منه مريب) ، يقول: وإن المكذبين به منهم لفي شك من حقيقته أنه من عند الله = (مريب) ، يقول: يريبهم، فلا يدرون أحقٌّ هو أم باطلٌ؟ ولكنهم فيه ممترون. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " مريب " فيما سلف ص: 370، تعليق: 1.(15/493)
وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) }
قال أبو جعفر: اختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة من قراء أهل المدينة والكوفة: (وَإنَّ) مشددة (كُلا لَمَّا) مشددة.
* * *
واختلف أهل العربية في معنى ذلك:
فقال بعض نحويي الكوفيين: معناه إذا قرئ كذلك: وإنّ كلا لممَّا ليوفينهم ربك أعمالهم = ولكن لما اجتمعت الميمات حذفت واحدة، فبقيت ثنتان، فأدغمت واحدة في الأخرى، كما قال الشاعر: (1)
وَإِنِّي لَمِمَّا أُصْدِرُ الأَمْرَ وَجْهَهُ ... إِذَا هُوَ أَعْيى بالسَّبِيلِ مَصَادِرُهُ (2)
ثم تخفف، كما قرأ بعض القراء: (وَالْبَغْيْ يَعِظُكُمْ) ، [سورة النحل: 90] ، تخفُّ الياء مع الياء. (3) وذكر أن الكسائي أنشده:
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية. في المطبوعة: " لما " و " أعيى بالنبيل "، وكلاهما خطأ، صوابه من المخطوطة ومعاني القرآن. وقوله " لمما " هنا، ليست من باب " لما " التي يذكرها، إلا في اجتماع الميمات. وذلك أن قوله: " وإن كلا لمما ليوفينهم "، أصلها: " لمن ما "، " من " بفتح فسكون، اسم. وأما التي في البيت فهي " لمن ما "، " من " حرف جر، ومعناها معنى " ربما " للتكثير، وشاهدهم عليه قول أبي حية النميري (سيبويه 1: 477) : وَإِنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضَرْبَةً ... عَلَى رَأْسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الفَم.
(3) هكذا في المخطوطة: " تخف "، وفي المطبوعة: " يخفف "، وأما الذي في معاني القرآن للفراء، وهذا نص كلامه: " بحذف الياء "، وهو الصواب الجيد.(15/494)
(1)
وَأشْمَتَّ العُدَاةَ بِنَا فَأضْحَوْا ... لدَيْ يَتَبَاشَرُونَ بِمَا لَقِينَا (2)
وقال: يريد "لديَّ يتباشرون بما لقينا"، فحذف ياء، لحركتهن واجتماعهن، قال: ومثله: (3)
كأنَّ مِنْ آخِرِها الْقادِمِ ... مَخْرِمُ نَجْدٍ فارعِ المَخَارِمِ (4)
وقال: أراد: إلى القادم، فحذف اللام عند اللام.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك إذا قرئ كذلك: وإن كلا شديدًا وحقًّا، ليوفينهم ربك أعمالهم. قال: وإنما يراد إذا قرئ ذلك كذلك: (وإنّ كلا لمَّا) بالتشديد والتنوين، (5) ولكن قارئ ذلك كذلك حذف منه التنوين، فأخرجه على لفظ فعل "لمَّا"، كما فعل ذلك في قوله: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى) ، [سورة المؤمنون: 44] ، فقرأ "تترى"، بعضهم بالتنوين، كما قرأ من قرأ: "لمَّا" بالتنوين، وقرأ آخرون بغير تنوين، كما قرأ (لمَّا) بغير تنوين من قرأه. وقالوا: أصله من "اللَّمِّ" من قول الله تعالى: (وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَمًّا) ، يعني: أكلا شديدًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك إذا قرئ كذلك: وإنّ كلا إلا ليوفينهم، كما يقول القائل: " بالله لمَّا قمتَ عنا، وبالله إلا قمت عنا". (6)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء في تفسير الآية، وفي المطبوعة والمخطوطة: " وأشمت الأعداء "، وهو خطأ، صوابه من معاني القرآن.
(3) لم أعرف قائله.
(4) معاني القرآن للفراء، في تفسير الآية. وكان في المطبوعة: " من أحرها "، و " محرم " و " المحارم "، وهو خطأ. و " المخرم "، (بفتح فسكون فكسر) ، الطريق في الجبل، وجمعه " مخارم ".
(5) هذه قراءة الزهري، كما سيأتي ص: 498.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: " لقد قمت عنا، وبالله إلا قمت عنا "، وذلك خطأ، ولا شاهد فيه، وصوابه من معاني القرآن للفراء، في تفسير الآية.(15/495)
قال أبو جعفر: ووجدت عامة أهل العلم بالعربية ينكرون هذا القول، ويأبون أن يكون جائزًا توجيه "لمَّا" إلى معنى "إلا"، في اليمين خاصة. (1) وقالوا: لو جاز أن يكون ذلك بمعنى إلا جاز أن يقال: "قام القوم لمَّا أخاك" بمعنى: إلا أخاك، ودخولها في كل موضع صلح دخول "إلا" فيه.
قال أبو جعفر: وأنا أرى أنّ ذلك فاسد من وجه هو أبين مما قاله الذين حكينا قولهم من أهل العربية، في فساده، وهو أنّ "إنّ" إثبات للشيء وتحقيق له، و"إلا"، تحقيق أيضًا، (2) وإنما تدخل نقضًا لجحد قد تقدَّمها. فإذا كان ذلك معناها، فواجب أن تكون عندَ متأولها التأويلَ الذي ذكرنا عنه، أن تكون "إنّ" بمعنى الجحد عنده، حتى تكون "إلا نقضًا" لها. وذلك إن قاله قائل، قولٌ لا يخفى جهلُ قائله، اللهم إلا أن يخفف قارئ "إن" فيجعلها بمعنى "إن" التي تكون بمعنى الجحد. وإن فعل ذلك، فسدت قراءته ذلك كذلك أيضًا من وجه آخر، وهو أنه يصير حينئذ ناصبًا "لكل" بقوله: ليوفينهم، وليس في العربية أن ينصب ما بعد "إلا" من الفعل، الاسم الذي قبلها. لا تقول العرب: "ما زيدًا إلا ضربت"، فيفسد ذلك إذا قرئ كذلك من هذا الوجه، إلا أن يرفع رافع "الكل"، فيخالف بقراءته ذلك كذلك قراءة القراء وخط مصاحف المسلمين، ولا يخرج بذلك من العيب لخروجه من معروف كلام العرب. (3)
* * *
وقد قرأ ذلك بعض قراء الكوفيين: (وَإنْ كُلا) بتخفيف "إن" ونصب (كُلا لمَّا) مشدّدة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة، أسقط " إلا " الثانية، فأفسد الكلام.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " وإلا أيضًا تحقق أيضًا "، حذفت أولاهما، لأنه تكرار ولا ريب.
(3) في المطبوعة: " بخروجه "، والصواب من المخطوطة.(15/496)
وزعم بعض أهل العربية أن قارئ ذلك كذلك، أراد "إنّ" الثقيلة فخففها، وذكر عن أبي زيد البصري أنه سمع: "كأنْ ثَديَيْه حُقَّان"، فنصب ب "كأن"، والنون مخففة من "كأنّ"، ومنه قول الشاعر: (1)
وَوَجْهٌ مُشْرِقُ النَّحْرِ ... كَأَنْ ثَدْيَيْهِ حُقَّانِ (2)
* * *
وقرأ ذلك بعض المدنيين بتخفيف: (إنْ) ونصب (كُلا) ، وتخفيف (لَمَا) .
* * *
وقد يحتمل أن يكون قارئ ذلك كذلك، قصدَ المعنى الذي حكيناه عن قارئ الكوفة من تخفيفه نون "إن" وهو يريد تشديدها، ويريد ب"ما" التي في "لما" التي تدخل في الكلام صلة، (3) وأن يكون قَصَد إلى تحميل الكلام معنى: وإنّ كلا ليوفينهم.
ويجوز أن يكون معناه كان في قراءته ذلك كذلك: وإنّ كُلا ليوفينهم، أي: ليوفين كُلا = فيكون نيته في نصب "كل" كانت بقوله: "ليوفينهم"، فإن كان ذلك أراد، ففيه من القبح ما ذكرت من خلافه كلام العرب. وذلك أنها لا تنصب بفعل بعد لام اليمين اسمًا قبلَها.
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز والبصرة: (وَإنَّ) مشددة (كُلا لَمَا) مخففة (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ) . ولهذه القراءة وجهان من المعنى:
أحدهما: أن يكون قارئها أراد: وإن كلا لمَنَ ليوفينهم ربك أعمالهم، فيوجه "ما" التي في "لما" إلى معنى "من" كما قال جل ثناؤه: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ، [سورة النساء: 3] ، وإن كان أكثر استعمال العرب
__________
(1) من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها.
(2) سيبويه 1: 281، رفعًا " كأن ثدياه، وابن الشجري في أماليه 1: 237 رفعًا 2: 3، نصبا، والخزانة 4: 358، والعيني (هامش الخزانة) 2: 305.
(3) " صلة "، أي: زيادة، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف.(15/497)
لها في غير بني آدم = وينوي باللام التي في "لما" اللام التي تُتَلقَّى بها "إنْ" جوابًا لها، وباللام التي في قوله: (ليوفينهم) ، لام اليمين، دخلت فيما بين ما وصلتها، كما قال جل ثناؤه: (وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ) [سورة النساء: 72] ، وكما يقال: "هذا ما لَغَيرُه أفضلُ منه".
والوجه الآخر: أن يجعل "ما" التي في "لما" بمعنى "ما" التي تدخل صلة في الكلام، واللام التي فيها هي اللام التي يجاب بها، واللام التي في: (ليوفينهم) ، هي أيضًا اللام التي يجاب بها "إنّ" كررت وأعيدت، إذا كان ذلك موضعها، وكانت الأولى مما تدخلها العرب في غير موضعها، ثم تعيدها بعدُ في موضعها، كما قال الشاعر: (1)
فَلَوْ أَنَّ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أَعِزَّةً ... لَبَعْدُ لَقَدْ لاقَيْتُ لا بُدَّ مَصْرَعَا (2)
وقرأ ذلك الزهري فيما ذكر عنه: (وإنَّ كُلا) بتشديد "إنَّ"، و (لمَّا) بتنوينها، بمعنى: شديدًا وحقًا وجميعًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأصح هذه القراءات مخرجًا على كلام العرب المستفيض فيهم، قراءة من قرأ: "وَإنَّ" بتشديد نونها، "كُلا لَمَا" بتخفيف "ما" (لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ) ، بمعنى: وإن كل هؤلاء الذين قصَصَنا عليك، يا محمد، قصصهم في هذه السورة، لمن ليوفينهم ربك أعمالهم، بالصالح منها بالجزيل من الثواب، وبالطالح منها بالشديد من العقاب = فتكون "ما" بمعنى "مَن" واللام التي فيها جوابًا ل"إنّ"، واللام في قوله: (ليوفيننم) ، لام قسم.
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء، في تفسير الآية. وكان في المخطوطة والمطبوعة: " مصرعي "، وأثبت ما في معاني القرآن.(15/498)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)
وقوله: (إنه بما يعملون خبير) ، يقول تعالى ذكره: إن ربك بما يعمل هؤلاء المشركون بالله من قومك، يا محمد، "خبير"، لا يخفى عليه شيء من عملهم، بل يخبرُ ذلك كله ويعلمه ويحيط به، حتى يجازيهم على جميع ذلك جزاءهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فاستقم أنت، يا محمد، على أمر ربك، والدين الذي ابتعثك به، والدعاء إليه، كما أمرك ربك (2) = (ومن تاب معك) ، يقول: ومن رجع معك إلى طاعة الله والعمل بما أمره به ربه من بعد كفره = (ولا تطغوا) ، يقول: ولا تعدوا أمره إلى ما نهاكم عنه. (3) (إنه بما تعملون بصير) ، يقول: إن ربكم، أيها الناس، بما تعملون من الأعمال كلِّها، طاعتها ومعصيتها= "بصير"، ذو علم بها، لا يخفى عليه منها شيء، وهو لجميعها مبصرٌ. (4) يقول تعالى ذكره: فاتقوا الله، أيها الناس، أن يطَّلع عليكم ربكم وأنتم عاملون بخلاف أمره، فإنه ذو علم بما تعلمون، وهو لكم بالمرصاد.
* * *
وكان ابن عيينة يقول في معنى قوله: (فاستقم كما أمرت) ، ما:-
18600- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن
__________
(1) لنظر تفسير " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة (خبر) .
(2) لنظر تفسير " الاستقامة " فيما سلف ص: 187.
(3) لنظر تفسير " طغى " فيما سلف ص: 34، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) لنظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة (بصر) .(15/499)
وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
الزبير، عن سفيان في قوله: (فاستقم كما أمرت) ، قال: استقم على القرآن.
18601- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (ولا تطغوا) ، قال: الطغيان: خلاف الله، وركوب معصيته. ذلك "الطغيان".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تميلوا، أيها الناس، إلى قول هؤلاء الذين كفروا بالله، فتقبلوا منهم وترضوا أعمالهم = (فتمسكم النار) ، بفعلكم ذلك (1) = وما لكم من دون الله من ناصر ينصركم ووليّ يليكم (2) = (ثم لا تنصرون) ، يقول: فإنكم إن فعلتم ذلك لم ينصركم الله، بل يخلِّيكم من نصرته ويسلط عليكم عدوّكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18602- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) ، يعني: الركون إلى الشرك.
18603- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، يقول: لا ترضوا أعمالهم.
18604- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، يقول: لا ترضوا أعمالهم. يقول: "الركون"، الرضى.
__________
(1) لنظر تفسير " المس " فيما سلف ص: 353، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(2) لنظر تفسير " الأولياء " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .(15/500)
18605- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، في قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، قال: لا ترضوا أعمالهم = (فتمسكم النار) .
18606- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا) ، قال: قال ابن عباس: ولا تميلوا إلى الذين ظلموا.
18607- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) ، يقول: لا تلحقوا بالشرك، وهو الذي خرجتم منه.
18608- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار) ، قال: "الركون"، الإدهان. وقرأ: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) ، [سورة القلم: 9] ، قال: تركنُ إليهم، ولا تنكر عليهم الذي قالوا، وقد قالوا العظيمَ من كفرهم بالله وكتابه ورسله. قال: وإنما هذا لأهل الكفر وأهل الشرك وليس لأهل الإسلام. أما أهل الذنوب من أهل الإسلام، فالله أعلم بذنوبهم وأعمالهم. ما ينبغي لأحد أن يُصَالح على شيء من معاصي الله، ولا يركن إليه فيها.
* * *(15/501)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وأقم الصلاة) ، يا محمد، يعني: صَلِّ = (طرفي النهار) ، يعني الغداةَ والعشيَّ.
* * *
واختلف أهل التأويل في التي عُنِيت بهذه الآية من صَلوات العشيّ، بعد إجماع جميعهم على أن التي عُنيت من صَلاة الغداة، الفجرُ.
فقال بعضهم: عُنيت بذلك صلاة الظهر والعصر. قالوا: وهما من صلاة العشيّ.
*ذكر من قال ذلك:
18609- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: الفجر، وصلاتي العشي = يعني الظهر والعصر.
18610- حدثني المثني قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
18611- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: صلاة الفجر، وصلاة العشي.
18612- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح بن سعيد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: فطرفا النهار: الفجرُ والظهرُ والعصرُ.(15/502)
18613- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: (طرفي النهار) ، قال: الفجر والظهر والعصر.
18614- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: الفجر والظهر والعصر.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بها صلاة المغرب.
*ذكر من قال ذلك:
18615- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، يقول: صلاة الغداة وصلاة المغرب.
18616- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن عوف، عن الحسن: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال. صلاة الغداة والمغرب.
18617- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الصبح، والمغرب.
* * *
وقال آخرون: عني بها: صلاة العصر.
*ذكر من قال ذلك:
18618- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك، في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: صلاة الفجر والعصر.
18619-. . . . قال: حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن سعيد القبائي، عن محمد بن كعب (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الفجر والعصر.
18620- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو رجاء،(15/503)
عن الحسن في قوله: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: صلاة الصبح وصلاة العصر.
18621- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا مبارك، عن الحسن قال، قال الله لنبيه: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: (طرفي النهار) ، الغداة والعصر.
18622- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله (أقم الصلاة طرفي النهار) ، يعني صلاة العصر والصبح.
18623- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الغداة والعصر.
18624- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن زيد، عن محمد بن كعب: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الفجر والعصر.
18625- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن الحسن: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، قال: الغداة والعصر.
* * *
وقال بعضهم: بل عنى بطرفي النهار: الظهر، والعصر، وبقوله: (زلفًا من الليل) ، المغر ب، والعشاء، والصبح.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: "هي صلاة المغرب"، كما ذكرنا عن ابن عباس.
وإنما قلنا هو أولى بالصواب لإجماع الجميع على أن صلاة أحد الطرفين من ذلك صلاة الفجر، وهي تصلى قبل طلُوع الشمس. فالواجب إذ كان ذلك من جميعهم إجماعًا، أن تكون صلاةُ الطرف الآخر المغرب، لأنها تصلى بعد غُروب الشمس. ولو كان واجبًا أن يكون مرادًا بصلاة أحد الطرفين قبل غروب الشمس، وجب أن يكون مرادًا بصلاة الطرف الآخر بعدَ(15/504)
طلوعها، وذلك ما لا نعلم قائلا قاله، إلا من قال: "عنى بذلك صلاة الظهر والعصر". وذلك قول لا يُخِيلُ فساده، (1) لأنهما إلى أن يكونا جميعًا من صلاة أحد الطرفين، أقربُ منهما إلى أن يكونا من صلاة طرفي النهار. وذلك أن "الظهر" لا شك أنها تصلَّى بعد مضي نصف النهار في النصف الثاني منه، فمحالٌ أن تكون من طرف النهار الأول، وهي في طرفه الآخر.
فإذا كان لا قائلَ من أهل العلم يقول: "عنى بصلاة طرف النهار الأول صلاةً بعد طلوع الشمس"، وجب أن يكون غير جائز أن يقال: "عنى بصلاة طرف النهار الآخر صلاةً قبل غروبها".
وإذا كان ذلك كذلك، صح ما قلنا في ذلك من القول، وفسدَ ما خالفه.
* * *
وأما قوله: (وزلفًا من الليل) ، فإنه يعني: ساعاتٍ من الليل.
* * *
وهي جمع "زُلْفة"، و"الزلفة"، الساعة، والمنزلة، والقربة، وقيل: إنما سميت "المزدلفة " و"جمع " من ذلك، لأنها منزلٌ بعد عرفة = وقيل سميت بذلك، لازدلاف آدم من عَرَفة إلى حواء وهي بها، ومنه قول العجاج في صفة بعير:
ناجٍ طَوَاهُ الأَيْنُ مِمَّا وجَفا ... طَيَّ اللَّيالِي زُلَفًا فَزُلَفَا (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " لا نحيل فساده "، وهو كلام فاسد، وفي المخطوطة غير منقوطة. يقال: " أخال الشيء "، اشتبه. يقال " هذا الأمر لا يخيل على أحد "، أي لا يشكل. و " شيء مخيل "، مشكل. وقد مضى مثله وعلقت عليه في أوائل الكتاب، في مواضع.
(2) ديوانه: 84، مجاز القرآن 1: 300، وسيبويه 1: 180، واللسان (زلف) ، (حقف) ، (سما) ، (وجف) وغيرها كثير، وسيأتي في التفسير 19: 51 (بولاق) . وبعده هناك: سَمَاوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقَفَا
" الأين "، التعب. " وجف " من " الوجيف "، وهو سرعة السير. و " سماوة الهلال " شخصه، إذا ارتفع في الأفق شيئًا. و " احقوقف " اعوج.(15/505)
واختلفت القراء في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قراء المدينة والعراق: (وَزُلَفًا) ، بضم الزاي وفتح اللام.
* * *
وقرأه بعض أهل المدينة بضم الزاي واللام = كأنه وجَّهه إلى أنه واحدٌ، وأنه بمنزلة "الحُلُم".
* * *
وقرأ بعض المكيين: (وَزُلْفًا) ، ضم الزاي وتسكين اللام.
* * *
قال أبو جعفر: وأعجب القراءات في ذلك إليّ أن أقرأها: (وزُلَفًا) ، بضم الزاي وفتح اللام، على معنى جمع "زُلْفة"، كما تجمع "غُرْفَة غُرف"، و"حُجْرة حُجر".
وإنما اخترت قراءة ذلك كذلك، لان صلاة العشاء الآخرة إنما تصلى بعد مضيّ زُلَفٍ من الليل، وهي التي عُنِيت عندي بقوله: (وزلفًا من الليل) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في قوله: (وزلفًا من الليل) ، قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:(15/506)
18626- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (وزلفًا من الليل) ، قال: الساعات من الليل صلاة العتمة.
18627- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
18628- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18629- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (زلفًا من الليل) يقول: صلاة العتمة.
18630- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن عوف، عن الحسن: (وزلفًا من الليل) ، قال: العشاء.
18631- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: كان ابن عباس يعجبه التأخير بالعشاء ويقرأ: (وزلفًا من الليل) .
18632- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وزلفًا من الليل) ، قال: ساعة من الليل، صلاة العتمة.
18633- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وزلفًا من الليل) ، قال: العتمة، وما سمعت أحدًا من فقهائنا ومشايخنا، يقول "العشاء"، ما يقولون إلا "العتمة"
* * *
وقال قوم: الصلاة التي أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإقامتها زُلَفًا من الليل، صلاة المغرب والعشاء.
*ذكر من قال ذلك:
18634- حدثني يعقوب بن إبراهيم، وابن وكيع، واللفظ ليعقوب قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو رجاء عن الحسن: (وزلفًا من الليل) ، قال: هما زُلفتان من الليل: صلاة المغرب، وصلاة العشاء.
18635- حدثنا ابن حميد وابن وكيع، قالا حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن في قوله: (وزلفًا من الليل) ، قال: المغرب، والعشاء.
18636- حدثني الحسن بن علي، قال ثنا أبي قال، حدثنا مبارك،(15/507)
عن الحسن، قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، قال: (زلفًا من الليل) : المغرب، والعشاء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم هما زُلْفَتا الليل، المغرب والعشاء."
18637- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان عن منصور عن مجاهد: (وزلفًا من الليل) ، قال: المغرب، والعشاء.
18638- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
18639- حدثني المثنى قال حدثنا أبو نعيم قال:، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
18640-. . . . قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن قال: قد بيّن اللهُ مواقيتَ الصلاة في القرآن، قال: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) [سورة الإسراء: 78] ، قال: "دلوكها": إذا زالت عن بطن السماء، وكان لها في الأرض فيءٌ. وقال: (أقم الصلاة طرفي النهار) ، الغداة، والعصر = (وزلفًا من الليل) ، المغرب، والعشاء. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هُما زلفتا الليل، المغرب والعشاء.
18641- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وزلفًا من الليل) ، قال: يعني صلاة المغرب وصلاة العشاء.
18642- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح بن سعيد قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: (زلفًا من الليل) ، المغرب والعشاء.
18643- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن أفلح بن سعيد، عن محمد بن كعب، مثله.(15/508)
18644- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي: (وزلفًا من الليل) ، المغرب والعشاء.
18645- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم بن سليمان، عن الحسن قال: زلفتا الليل، المغرب والعشاء.
18646- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (وزلفًا من الليل) ، قال: المغرب والعشاء.
18647- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عاصم، عن الحسن: (وزلفًا من الليل) ، قال: المغرب والعشاء.
18648- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن جويبر، عن الضحاك: (وزلفًا من الليل) ، قال: المغرب والعشاء.
18649- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن الحسن: (زلفًا من الليل) ، صلاة المغرب والعشاء.
* * *
وقوله: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، يقول تعالى ذكره: إنّ الإنابة إلى طاعة الله والعمل بما يرضيه، يذهب آثام معصية الله، ويكفّر الذنوب. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الحسنات التي عنى الله في هذا الموضع، اللاتي يذهبن السيئات، فقال بعضهم: هنّ الصلوات الخمس المكتوبات.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) " الأثام "، عقوبة الإثم وجزاؤه. وأما " الآثام " فجمع " إثم "، وهو الذئب.(15/509)
18650- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي الورد بن ثمامة، عن أبي محمد ابن الحضرمي قال، حدثنا كعب في هذا المسجد، قال: والذي نفس كعب بيده، إن الصلوات الخمس لهُنّ الحسنات التي يذهبن السيئات، كما يغسل الماءُ الدَّرَنَ. (1)
18651- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أفلح قال: سمعت محمد بن كعب القرظى يقول في قوله: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: هن الصلوات الخمس.
18652- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس.
18653-. . . . قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد: (إن الحسنات) الصلوات.
18654- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة جميعا، عن عوف، عن الحسن: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس.
18655- حدثني زريق بن السَّخت قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إن الحسنات يذهبن
__________
(1) الأثر: 18650 - " الجريري "، هو " سعيد بن إياس الجريري "، سلف مرارًا. و " أبو الورد بن ثمامة بن حزن القشيري "، ويقال هو: " ثمامة بن حزن "، تابعي ثقة، لم يدرك غير واحد من الصحابة، وكان قليل الحديث. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7 / 1 / 164، والكنى للبخاري: 79، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 451 في الكنى، وفي " ثمامة بن حزن القشيري " 1 / 1 / 465، ولم يقل هو " أبو الورد "، فكأنهما عنده رجلان. " وأبو محمد بن الحضرمي "، هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، والذي في كتب الرجال: " أبو محمد الحضرمي "، غلام أبي أيوب الأنصاري، مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري: 66، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 432، ولم يذكروا له رواية عن كعب، ولكن هذا الخبر يدل على أنه رآه، وسمع منه، وروى عنه.(15/510)
السيئات) ، قال: الصلوات الخمس. (1)
18656- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون، قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله تعالى: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس.
18657- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، عن الحسن قال، الصلوات الخمس.
18658- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس.
18659-. . . . قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد الجريري قال، حدثني أبو عثمان، عن سلمان قال: والذي نفسي بيده، إن الحسنات التي يمحو الله بهن السيئات كما يغسل الماء الدَّرَن: الصلواتُ الخمس.
18660- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عبد الله بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس.
18661- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مزيدة بن زيد، عن مسروق: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: الصلوات الخمس. (2)
18662- حدثني محمد بن عمارة الأسدي، وعبد الله بن أبي زياد القطواني
__________
(1) الأثر: 18655 - " رزيق بن السخت "، شيخ الطبري، مضى برقم: 10051. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا ". . بن الشخب "، وهو خطأ.
(2) الأثر: 18661 - " مزيدة بن زيد "، هكذا في المطبوعة، وفي المخطوطة غير منقوط، ولم أجد له ذكرًا في شيء من كتب الرجال، وأخشى أن يكون محرفًا عن شيء لم أعرفه.(15/511)
قالا حدثنا عبد الله بن يزيد قال، أخبرنا حيوة قال، أخبرنا أبو عقيل زهرة بن معبد القرشي من بني تيم من رهط أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رحمة الله عليه يقول: جلس عثمان يومًا وجلسنا معه، فجاء المؤذن، فدعا عثمان بماءٍ في إناء، أظنه سيكون فيه قدر مُدٍّ، (1) فتوضأ، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وُضوئي هذا، ثم قال: من توضأ وُضوئي هذا ثم قام فصلَّى صلاة الظهر، غفر له ما كان بينه وبين صلاة الصبح، ثم صَلَّى العصر، غفر له ما بينه وبين صلاة الظهر، ثمَّ صلَّى المغرب، غفر له ما بينه وبين صلاة العصر، ثم صلّى العشاء، غفر له ما بينه وبين صلاة المغرب، ثمَّ لعله يبيت ليلته يَتَمَرّغ، (2) ثم إن قام فتوضأ وصلَّى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهُنَّ الحسنات يذهبن السيئات. (3)
18663- حدثني سعد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة
__________
(1) " المد " (بضم الميم) ، ضرب من المكاييل، قيل إنه مقدر بأن يمد الرجل يديه، فيملأ كفيه طعامًا.
(2) " التمرغ "، أصله التقلب في التراب. وأراد هنا أنه يبيت يتقلب في فراشه مطمئنًا رخي البال.
(3) الأثر: 18662 - " حيوة "، هو " حيوة بن شريح " المصري، الفقيه الزاهد، ثقة، مضر مرارًا. " وزهرة بن معبد القرشي التيمي "، " أبو عقيل "، تابعي ثقة، مضى برقم: 5451، 5457. " والحارث " هو: " الحارث بن عبيد "، " أبو صالح "، مولى عثمان، ثقة، مترجم في تعجيل المنفعة: 78، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 95. وهذا الخبر صحيح الإسناد، رواه أحمد في مسنده مطولا رقم: 513، واستوفى أخي رحمه الله الكلام عليه هناك. ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 297، وابن كثير في تفسيره 4: 401 / 5: 289.
= والزيادة التي في المسند وغيره:
" قالوا: هذه الحسَنَات، فما الباقياتُ يا عُثمان؟ قال: هن: لا إلَه إلا الله، وسُبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حَوْلَ ولا قُوَّة إلا بالله ". وستأتي هذه الزيادة منفردة بهذه الأسانيد في تفسير سورة الكهف الآية: 46 / ج 15: 165، 166.(15/512)
قال، حدثنا حيوة قال، حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد، أنه سمع الحارث مولى عثمان بن عفان رضى الله عنه قال: جلس عثمان بن عفان يومًا على المقاعد = فذكر نحوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا أنه قال: "وهن الحسنات إن الحسنات يذهبن السيئات". (1)
18664- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال: أخبرنا نافع بن يزيد، ورشدين بن سعد قالا حدثنا زهرة بن معبد قال: سمعت الحارث مولى عثمان بن عفان يقول، جلس عثمان بن عفان يوما على المقاعد، ثم ذكر نحو ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم = إلا أنه قال: وهن الحسنات: (إن الحسنات يذهبن السيئات) . (2)
18665- حدثنا محمد بن عوف قال، حدثنا محمد بن إسماعيل قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: جعلت الصلوات كفارات لما بينهن، فإن الله قال: (إن الحسنات يذهبن السيئات) . (3)
__________
(1) الأثر: 18663 - مكرر الأثر السالف. " وأبو زرعة "، هو " وهب الله بن راشد المصري "، مضى مرارًا كثيرة. " والمقاعد "، بالمدينة، عند باب الأقبر، وقيل: هي مساقف حولها. وقيل: هي دكاكين عند دار عثمان بن عفان رضي الله عنه، ذكرها ياقوت في معجمه، ورأيت ذكر " المقاعد " أيضًا في مسند أحمد، في مسند عثمان: 505.
(2) الأثر: 18664 - مكرر الأثرين السالفين.
" رشدين بن سعد "، ضعيف، مضى مرارًا منها رقم: 19، 1938، 2176، 2195، وغيرها. ولكن لهذا الخبر شاهد مما سلف في الصحاح، يقويه على ضعف رشدين.
(3) الأثر: 18665 - " محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي "، شيخ الطبري، مضى مرارًا. " ومحمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي "، ضعيف، يحدث عن أبيه، ولم يسمع منه شيئًا، مضى برقم: 5445. وأبوه: " إسماعيل بن عياش الحمصي "، ثقة، متكلم فيه، مضى مرارًا كثيرة آخرها رقم: 14212. " وضمضم بن زرعة بن ثوب الحضرمي "، ثقة، وضعفه أبو حاتم، مضى برقم: 5445، 14212. " وشريح بن عبيد بن شريح الحضرمي "، تابعي ثقة، مضى برقم: 5445، 12194، 14212.وهذا خبر ضعيف الإسناد، من آفة " محمد بن إسماعيل عن أبيه "، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مختصرًا 1: 299، وقال: " وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش، قال أبو حاتم: لم يسمع من أبيه شيئًا، قلت: وهذا من روايته عن أبيه. وبقية رجاله موثقون ".(15/513)
18666- حدثنا ابن سيار القزاز قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي قال، كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصنا من أغصانها يابسًا فهزَّه حتى تحاتَّ ورقُه، ثم قال: هكذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت معه تحت شجرة، فأخذ غصنًا من أغصانها يابسًا فهزه حتى تحاتَّ ورقُه، ثم قال: ألا تسألني لم أفعل هذا يا سلمان؟ فقلت: ولم تفعله؟ فقال: إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلَّى الصلوات الخمس، تحاتّت خطاياه كما تحاتَّ هذا الورق. ثم تلا هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، إلى آخر الآية. (1)
* * *
وقال آخرون: هو قول: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
* ذكر من قال ذلك:
18667- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
__________
(1) الأثر: 18666 - " حماد "، هو " حماد بن سلمة ". " وعلي بن يزيد بن جدعان "، مضى مرارا كلام الأئمة فيه وأنه سيء الحفظ، ومضى أيضًا توثيق أخي السيد أحمد رحمه الله روايته. " وأبو عثمان النهدي "، هو " عبد الرحمن بن مل "، تابعي ثقة. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 437، 438، من طريق عفان عن حماد بنحو لفظ أبي جعفر في روايته، ومن طريق يزيد عن حماد بلفظ آخر. وسيرويه أبو جعفر بعد، من طريق قبيصة عن حماد، برقم: 18677. وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 297، 298، وقال: " رواه أحمد، والطبراني في الأوسط والكبير، وفي إسناد أحمد: علي بن زيد، وهو مختلف في الاحتجاج به. وبقية رجاله رجال الصحيح ".(15/514)
منصور، عن مجاهد: (إن الحسنات يذهبن السيئات) ، قال: "سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، قولُ من قال في ذلك: "هن الصلوات الخمس"، لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتواترها عنه أنه قال: "مَثَلُ الصلوات الخمس مَثَلُ نَهْرٍ جَارٍ عَلَى بابِ أحَدِكم، ينغمس فيه كل يومٍ خمس مرات، فماذا يُبقينَ من دَرَنه؟ "، (1) وأن ذلك في سياق أمر الله بإقامة الصلوات، والوعدُ على إقامتها الجزيلَ من الثواب عَقيبها، أولى من الوعد على ما لم يجر له ذكر من صالحات سائر الأعمال، إذا خُصّ بالقصد بذلك بعضٌ دون بعض.
* * *
وقوله: (ذلك ذكرى للذاكرين) ، يقول تعالى ذكره: هذا الذي أوعدت عليه من الركون إلى الظلم، وتهددت فيه، والذي وعدت فيه من إقامة الصلوات اللواتي يُذهبن السيئات، تذكرة ذكّرت بها قومًا يذكُرون وعد الله، فيرجُون ثوابه ووعيده، فيخافون عقابه، لا من قد طبع على قلبه، فلا يجيب داعيًا، ولا يسمع زاجرًا.
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب رجل نالَ من غير زوجته ولا ملك يمينه بعضَ ما يحرم عليه، فتاب من ذنبه ذلك.
*ذكر الرواية بذلك:
18668- حدثنا هناد بن السرى قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود قالا قال عبد الله بن مسعود: جاء رجل إلى
__________
(1) هذا الخبر رواه أبو جعفر بغير إسناد، رواه بنحو هذا اللفظ مالك في الموطأ ص: 174، من حديث سعد بن أبي وقاص، وروى البخاري نحوه من حديث أبي هريرة (الفتح: 2: 9) ومسلم في صحيحه 5: 169، 170.(15/515)
النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني عالجتُ امرأة في بعض أقطار المدينة، (1) فأصبت منها ما دون أن أمسَّها، فأنا هذا، (2) فاقض فيَّ ما شئت! فقال عمر: لقد سترك الله لو سترت على نفسك! قال: ولم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. فقام الرجل فانطلق، فأتبعه النبيُّ صلى الله عليه وسلم رجلا فدعاه، فلما أتاه قرأ عليه: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، فقال رجل من القوم: هذا لهُ يا رسول الله خاصَّةً؟ قال: بل للناس كافة. (3)
18669- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن إبراهيم، عن علقمة والأسود، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني لقيت امرأة في البستان، فضممتها إليَّ وباشرتُها وقبَّلتها، وفعلت بها كلَّ شي غير أني لم أجامعها. فسكت عنه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ،
__________
(1) " عالجت امرأة "، يعني أخذها واستمتع بها، من " المعالجة "، وهي الممارسة. وهذا لفظ بليغ موجز. و " أقطار المدينة "، نواحيها، وفي رواية مسلم " في أقصى المدينة ".
(2) هذا تعبير عزيز، فقيده.
(3) الأثر: 186688 - حديث عبد الله بن مسعود، رواه أبو جعفر من طريقين:
1 - من طريق علقمة، والأسود، عن عبد الله بن مسعود، وذلك برقم: 18668- 18674.
2 - من طريق أبي عثمان النهدي، عن ابن مسعود، رقم: 18676، وسأبينها جميعًا، طريقًا طريقًا، وكلها طرق صحاح.
" إبراهيم "، هو " إبراهيم بن يزيد النخعي "، روى له الجماعة، مضى مرارًا. " والأسود بن يزيد النخعي "، روى له الجماعة، وهو خال " إبراهيم بن يزيد النخعي "، مضى مرارًا. " وعلقمة "، هو " علقمة بن قيس بن عبد الله النخعي "، وهو خال " إبراهيم النخعي "، لأنه عم خاليه الأسود، وعبد الرحمن، روى له الجماعة، مضى مرارًا. ومن طريق أبي الأحوص، عن سماك، عن إبراهيم، رواه مسلم في صحيحه (17: 80) ، وأبو داود في سننه 4: 223 رقم: 4468، والترمذي في كتاب التفسير. وانظر التعليق على الطرق الآتية. ثم انظر التعليق على رقم: 18675، في بيان اسم " الرجل " الذي فعل ذلك.(15/516)
فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقرأها عليه، فقال عمر: يا رسول الله، أله خاصَّةً، أم للناس كافة؟ قال: لا بل للناس كافة = ولفظ الحديث لابن وكيع. (1)
18670- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، أنه سمع إبراهيم بن زيد، يحدث عن علقمة، والأسود، عن ابن مسعود قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني وجدت امرأةً في بستان، ففعلت بها كل شيء، غير أني لم أجامعها، قَبَّلتها، ولزمتُها، (2) ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت. فلم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا. فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه! فأتبعه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بَصَره، فقال: "ردُّوه عليَّ! فردُّوه، فقرأ عليه: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، قال: فقال معاذ بن جبل: أله وحده، يا نبي الله، أم للناس كافة؟ فقال: "بل للناس كافة. (3)
18671- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا أبو عوانة، عن سماك، عن إبراهيم، عن علقمة، والأسود، عن عبد الله قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أخذت امرأة في البُستان فأصبتُ منها كل شيء، غير أني لم أنكحها، فاصنع بي ما شئت! فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ذهب دعاه فقرأ عليه هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية. (4)
__________
(1) الأثر: 18669 - مكرر الذي قبله. ومن طريق وكيع، عن إسرائيل، عن سماك، رواه أحمد في مسنده رقم: 4250.
(2) " لزمتها " يعني: عانقتها فأطلت العناق واستوعبته. وهذا الثلاثي بهذا المعنى قلها تجده في كتب اللغة، وإنما فيها: " التزمه "، أي: عانقه.
(3) الأثر: 18670 - مكرر الذي قبله. ومن طريق عبد الرزاق، عن إسرائيل، عن سماك، ورواه أحمد في مسنده رقم: 4290.
(4) الأثر: 18671 - مكرر الذي قبله. ومن طريق أبي عوانة، عن سماك، رواه أحمد في مسنده رقم: 4291، ولكنه أحاله على الذي قبله. وأبو داود الطيالسي في مسنده ص: 37، رقم: 285.(15/517)
18672- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله العجلي قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب قال، سمعت إبراهيم يحدث عن خاله الأسود، عن عبد الله: أن رجلا لقي امرأةً في بعض طرق المدينة، فأصاب منها ما دون الجماع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، فقال معاذ بن جبل: يا رسول الله، لهذا خاصة، أو لنا عامة؟ قال: بل لكم عامة. (1)
18673- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، أنبأني سماك قال، سمعت إبراهيم يحدث عن خاله، عن ابن مسعود: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: لقيت امرأة في حُشٍّ بالمدينة، (2) فأصبت منها ما دون الجماع، نحوه. (3)
18674- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم البغدادي قال، حدثنا شعبة، عن سماك، عن إبراهيم، عن خاله، عن ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (4)
__________
(1) الأثر: 18672 - " الحكم بن عبد الله العجلي "، " أبو النعمان "، ثقة حافظ، مضى برقم: 10185، 17013، 18033. ومن هذه الطريق، رواه مسلم في صحيحه 17: 80، 81.
(2) " الحش "، البستان، عند أهل المدينة، انظر ما سلف رقم: 3086.
(3) الأثر: 18673 - لم أعثر عليه في مسند أبي داود الطيالسي، ومعروف أن المطبوع من هذا المسند ناقص غير تام. وانظر التعليق التالي. وفي المطبوعة والمخطوطة: " حدثنا أبو المثني "، والصواب " ابن المثني "، وهو " محمد بن المثني " شيخ الطبري.
(4) الأثر: 18674 - " عمرو بن الهيثم البغدادي "، " أبو قطن "، ثقة، من ثقات أصحاب شعبة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 268. ومن هذه الطريق رواه أحمد في مسنده برقم: 4325. وقال أخي السيد أحمد: " خاله، إما: الأسود بن يزيد النخعي، وإما عبد الرحمن بن يزيد النخعي، فكلاهما خاله، وإما علقمة بن قيس النخعي، عم الأسود وعبد الرحمن. وقد روى إبراهيم الحديث عن ثلاثتهم مطولا ومختصرًا، كما مضى بأسانيد رقم: 3854، 4250، 4290، 4291 ". وقد رواه أحمد برقم: 3584 من طريق سفيان الثوري، عن سماك، عن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله بن مسعود، ورواه الترمذي في كتاب التفسير.(15/518)
18675- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: جاء فُلانُ بن معتِّب رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله دخلت عليّ امرأة، فنلتُ منها ما ينالُ الرجل من أهله، إلا أني لم أواقعها؟ فلم يدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يجيبه، حتى نزلت هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) ، الآية، فدعاه فقرأها عليه. (1)
18676- حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، وحدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل، وحدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان جميعًا، عن سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن ابن مسعود: أن رجلا أصاب من امرأةٍ شيئًا لا أدري ما بلغ، غير أنه ما دون الزنا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) ، فقال الرجل: ألي هذه يا رسول الله؟ قال: لمن أخذَ بها من أمتي = أو: لمن عمل بها. (2)
__________
(1) الأثر: 18675 - فصل الحافظ بن حجر في الفتح 8: 268، 269، القول في اسم هذا الرجل، فذكر هذا الخبر، ثم قال: " وأخرجه ابن أبي خيثمة، لكن قال: إن رجلا من الأنصار يقال له: معتب = وقد جاء أن اسمه: كعب بن عمرو، و: أبو اليسر (بفتح التحتانية والمهملة) الأنصاري. أخرجه الترمذي، والنسائي، والبزار، من طريق موسى بن طلحة، عن أبي اليسر بن عمرو، أنه أتته امرأة، وزوجها قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث "، الحديث، وسيأتي برقم: 18684، 18685.
(2) الأثر: 18676 - هذه هي الطريق الثانية، لحديث عبد الله بن مسعود، كما أشرت إليه في التعليق على رقم: 18668. " وأبو عثمان " هو " عبد الرحمن بن مل النهدي " كما سلف مرارًا. وهذا حديث صحيح. ومن هذه الطريق رواه البخاري في صحيحه (الفتح 2: 7) من طريق يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي. ثم رواه أيضا (الفتح 8: 268، 269) ، من الطريق نفسها، بلفظ مختلف قليلا. ورواه مسلم في صحيحه 17: 79، 80، من طريق يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي، ثم من طريق محمد بن عبد الأعلى، عن المعتمر بن سليمان، عن سليمان التيمي، وهو أحد طرق أبي جعفر في رواية هذا الخبر، بلفظ آخر. ورواه أحمد في مسنده برقم: 3653، عن يحيى، عن سليمان التيمي. ثم رواه أيضًا برقم: 4094، من الطريق نفسها. ورواه ابن ماجة في سننه ص: 447، رقم: 1398، وص 1421، رقم: 4254.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير.(15/519)
18677- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا قبيصة، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان قال: كنت مع سلمان، فأخذ غصن شجرة يابسة فحتَّه، وقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من توضأ فأحسن الوضوء، تحاتَّت خطاياه كما يتحاتُّ هذا الورق! ثم قال: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، إلى آخر الآية. (1)
18678- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، وحسين الجعفي، عن زائدة قال، حدثنا عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما ترى في رجل لقي امرأة لا يعرفها، فليس يأتي الرجل من امرأته شيئًا إلا قد أتاه منها، غير أنْ لم يجامعها؟ (2) فأنزل الله هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: توضأ ثم صلّ. قال معاذ: قلت: يا رسول الله، أله خاصة أم للمؤمنين عامة؟ قال: بل للمؤمنين عامة. (3)
__________
(1) الأثر: 18677 - هذه طريق أخرى للأثر السالف رقم: 18666، وقد مضى تخريجه وشرحه هناك.
(2) في المطبوعة: " غير أنه لم يجامعها "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب الجيد.
(3) الأثر: 18678 - حديث معاذ، يأتي أيضًا برقم: 18682.
" أبو أسامة "، هو: " حماد بن اسامة "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا. " وحسين الجعفي "، هو: " حسين بن علي الجعفي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا." وزائدة "، هو: " زائدة بن قدامة "، ثقة، مضى مرارًا. " وعبد الملك بن عمير اللخمي "، المعروف بالنبطي، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 12573. " وعبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارا، منها رقم: 33، 2156، 2937. وهذا إسناد صحيح. رواه أحمد في مسنده 5: 244 من طريق عبد الرحمن بن مهدي، وأبي سعيد، عن زائدة، عن عبد الملك بن عمير = وفيه رواية أبي سعيد، عن عبد الملك بن عمير مباشرة. " وأبو سعيد " هو " عبد الرحمن بن عبد الله، مولى بني هاشم، ثقة." وخرجه ابن كثير في تفسيره 4: 404، عن الحافظ الدارقطني، وسيأتي في التعليق على رقم: 18682. ورواه الترمذي في كتاب التفسير. ثم سيأتي هذا الخبر موقوفًا على عبد الرحمن بن أبي ليلى برقم: 18679، 18680.(15/520)
18679- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أن رجلا أصابَ من امرأة ما دون الجماع، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن ذلك، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم = أو: أنزلت= (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية، فقال معاذ: يا رسول الله، أله خاصة، أم للناس عامة؟ قال: هي للناس عامة.
18680- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير قال: سمعت عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
18681- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال، حدثني عمرو بن الحارث قال، حدثني عبد الله بن سالم، عن الزبيدي قال، حدثنا سليم بن عامر، أنه سمع أبا أمامة يقول: إن رجلا أتى رسول الله(15/521)
صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أقم فيَّ حَدّ الله = مرةً واثنتين. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقيمت الصلاة، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصلاة، قال: أين هذا القائل: أقم فيَّ حدَّ الله؟ قال: أنا ذا! قال: هل أتممت الوضوء وصليت معنا آنفا؟ قال: نعم! قال: فإنك من خطيئتك كما ولدتك أمّك، فلا تَعُدْ! وأنزل الله حينئذ على رسوله: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية. (1)
18682- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني جرير، عن عبد الملك، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أنه كان جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، رجلٌ أصاب من امرأة ما لا يحلُّ له، لم يدع شيئًا يصيبه الرجل من امرأته إلا أتاه إلا أنه لم يجامعها؟ قال: يتوضأ وضوءًا حسنًا ثم يصلي. فأنزل الله هذه الآية: (أقم الصلاة طرفي النهار
__________
(1) الأثر: 18681 - " عبد الله بن أحمد بن شبويه الخزاعي "، شيخ الطبري، سلف مرارا، آخرها رقم: 15379. " وإسحق بن إبراهيم بن العلاء الزبيدي "، هو " ابن زبريق "، ثقة، تكلموا فيه حسدًا. مضى برقم: 15379. " وعمرو بن الحارث بن النعمان الزبيدي "، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال الذهبي: لا تعرف عدالته، مضى برقم: 15379. " وعبد الله بن سالم الأشعري الوحاظي "، وثقه ابن حبان، مضى برقم: 15379. " والزبيدي "، هو " محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي "، ثقة، روى له الشيخان، مضى مرارًا، آخرها رقم: 15377. " وسليم بن عامر الكلاعي الحمصي "، تابعي ثقة، مضى برقم: 12807. وهذا إسناد حسن، ولم أجد حديث أبي أمامة مرويا من هذه الطريق، ولكن الأئمة رووه من طرق أخرى. رواه أحمد في مسنده من طريقين 5: 251، 262 من طريق عكرمة بن عمار اليمامي، عن شداد بن عبد الله، عن أبي أمامة. ثم رواه ص: 265، من طريق الأوزاعي، عن أبي عمار شداد، عن أبي أمامة. ومن الطريق الأولى، رواه مسلم في صحيحه 17: 81، 82. ومن الطريق الثانية رواه أبو داود في سننه 4: 191، رقم: 4381.(15/522)
وزلفًا من الليل) ، الآية، فقال معاذ: هي له يا رسول الله خاصة، أم للمسلمين عامة؟ قال: بل للمسلمين عامة (1)
18683- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة: أن رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ذكر امرأة وهو جالسٌ مع النبي صلى الله عليه وسلم، فاستأذنه لحاجة، فأذن له، فذهب يطلبها فلم يجدها. فأقبل الرجل يريد أن يُبَشّر النبي صلى الله عليه وسلم بالمطر، فوجد المرأة جالسةً على غديرٍ، فدفع في صدرها وجلس بين رجليها، فصار ذكره مثل الهُدْبة، فقام نادمًا حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما صنع، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: استغفر ربَّك وصلّ أربع ركعات: قال: وتلا عليه: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الآية. (2)
18684- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن وهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر بن عمرو الأنصاري قال: أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمرًا، فقلت: إن في البيت تمرًا أجود من هذا! فدخلت، فأهويت إليها فقبَّلتها. فأتيت أبا بكر فسألته، فقال: استر على نفسك وتُبْ واستغفر الله! فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أخلَفْتَ رجلا غازيًا في سبيل الله في أهله بمثل هذا!! حتى ظننت أنّي من أهل النار، حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذ! قال: فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعةً فنزل جبريل فقال: أين أبو اليسر؟ فجئت، فقرأ عليّ: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، إلى: (ذكرى للذاكرين) ،
__________
(1) الأثر: 18682 - هو مكرر الأثر السالف 18678، وانظر تخريجه هناك.
(2) الأثر: 18683 - " يحيى بن جعدة بن هبيرة بن أبي وهب القرشي "، تابعي ثقة، مضى برقم: 7472.(15/523)
قال إنسان: لهُ يا رسول الله، خاصةً، أم للناس عامة؟ قال: للناس عامة. (1)
18685- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن موهب، عن موسى بن طلحة، عن أبي اليسر قال: لقيت امرأة فالتَزَمْتُها، غير أني لم أنكحها، فأتيت عمر بن الخطاب رحمة الله عليه فقال: اتق الله، واستر على نفسك، ولا تخبرنّ أحدًا! فلم أصبر حتى أتيت أبا بكر رحمة الله عليه، فسألته فقال: اتق الله واستر على نفسك ولا تخبرن أحدًا! قال: فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرته فقال له: هل جهزت غازيًا في أهله؟ قلت: لا قال: فهل خلفت غازيًا في أهله؟ قلت: لا فقال لي، حتى تمنيت أني كنت دخلت في الإسلام تلك الساعة! قال: فلما وليت دعاني، فقرأ عليّ: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، فقال له أصحابه: ألهذا خاصة، أم للناس عامة؟ فقال: بل للناس عامة. (2)
18686- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثني سعيد، عن قتادة: أن رجلا أصاب من امرأة قُبْلَةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله هلكتُ! فأنزل الله: (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) .
18687- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) الأثر: 18684 - حديث أبي اليسر الأنصاري، سيأتي بعده بنحو إسناده. وانظر ما كتبه الحافظ بن حجر في اسمه فيما سلف في التعليق على رقم: 18675.
" قيس بن الربيع الأسدي "، سلف مرارًا، آخرها رقم: 16369، وقد وثقه جماعة، وضعفه آخرون. " وعثمان بن موهب "، هو " عثمان بن عبد الله بم موهب التميمي "، ينسب إلى جده، ثقة. مضى برقم: 17567. " وموسى بن طلحة بن عبيد الله القرشي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 17567 - 17571. وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير، وقال: " هذا حديث حسن غريب. وقيس بن الربيع، ضعفه وكيع وغيره. وروى شريك عن عثمان بن عبد الله هذا الحديث، مثل رواية قيس بن الربيع ".
(2) الأثر: 18685 - هو مكرر الأثر السالف.(15/524)
معمر، عن سليمان التيمي قال: ضرب رجلٌ على كَفَلِ امرأة، ثم أتى أبا بكر وعمر رحمة الله عليهما. فكلما سأل رجلا منهما عن كفارة ذلك قال: أمغزية هي [مادا] ؟ (1) قال: نعم قال: لا أدري! ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك، فقال: أمغزية هي؟ قال: نعم! قال: لا أدري! حتى أنزل الله: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات) .
18688- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن عطاء، في قول الله: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، أنّ امرأة دخلت على رجل يبيعُ الدقيق، فقبَّلها فأسقِطَ في يده. فأتى عمر فذكر ذلك له، فقال: اتق الله، ولا تكن امرأةَ غازٍ! فقال الرجل: هي امرأة غازٍ. فذهب إلى أبى بكر، فقال مثل ما قال عمر. فذهبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم جميعًا، فقال له: كذلك، ثم سكت النبي صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، فأنزل الله: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) ، الصلوات المفروضات = (إن الحسنات يذهبن السيئات ذلك ذكرى للذاكرين) .
18689- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: أقبلت امرأة حتى جاءت إنسانًا يبيع الدقيق لتبتاع منه، فدخل بها البيت، فلما خلا له قَبَّلها. قال: فسُقِط في يديه، فانطلق إلى أبي بكر، فذكر ذلك له، فقال: أبصر، لا تكونَنّ امرأة رجل غازٍ! فبينما هم على ذلك، نزل في ذلك: (أقم الصلاة طرفي النهار وزلفًا من الليل) = قيل لعطاء: المكتوبة هي؟ قال: نعم، هي المكتوبة =
__________
(1) في المخطوطة هذا الذي وضعته بين القوسين، ولم أوفق إلى قراءته أو تبين معناه، وهما يكن فالسؤال واضح. وقوله: " مغزية "، فالمغزية هي المرأة التي غزا زوجها وبقيت وحدها في البيت، ومنه حديث عمر:
" ما بال رجالٍ لا يزال أحدهم كاسرًا وسادَه عند مُغْزِية، يتحدَّث إليها وتتحدث إليه! عليكم بالجَنْبة، فإنها عفافٌ. إنما الناس لحمٌ على وضَمٍ إلاّ ما ذُبَّ عنهُ ".(15/525)
وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116)
فقال ابن جريج، وقال عبد الله بن كثير: هي المكتوبات.
قال ابن جريج: عن يزيد بن رومان: إن رجلا من بني غنم، دخلت عليه امرأةٌ فقبَّلها، ووضع يده على دُبُرها. فجاء إلى أبى بكر رضى الله عنه، ثم جاء إلى عمر رضى الله عنه، ثم أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية: (أقم الصلاة) ، إلى قوله: (ذلك ذكرى للذاكرين) ، فلم يزل الرجل الذي قبَّل المرأة يذكر، فذلك قوله: (ذكرى للذاكرين) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واصبر، يا محمد، على ما تلقى من مشركي قومك من الأذى في الله والمكروه، رجاءَ جزيل ثواب الله على ذلك، فإن الله لا يضيع ثوابَ عمل من أحسن فأطاع الله واتبع أمره، فيذهب به، بل يوَفّره أحوجَ ما يكون إليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلا قَلِيلا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فهلا كان من القرون الذين قصصت عليك نبأهم في هذه السورة، الذين أهلكتهم بمعصيتهم إياي، وكفرهم برسلي(15/526)
(1) من قبلكم. (أولو بقية) ، يقول: ذو بقية من الفهم والعقل، (2) يعتبرون مواعظَ الله ويتدبرون حججه، فيعرفون ما لهم في الإيمان بالله، وعليهم في الكفر به (3) = (ينهون عن الفساد في الأرض) ، يقول: ينهون أهل المعاصي عن معاصيهم، وأهل الكفر بالله عن كفرهم به، في أرضه (4) = (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، يقول: لم يكن من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض، إلا يسيرًا، فإنهم كانوا ينهون عن الفساد في الأرض، فنجاهم الله من عذابه، حين أخذ من كان مقيمًا على الكفر بالله عذابُه = وهم اتباع الأنبياء والرسل.
* * *
ونصب "قليلا" لأن قوله: (إلا قليلا) استثناء منقطع مما قبله، كما قال: (إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا) ، [سورة يونس: 98] . وقد بينا ذلك في غير موضع، بما أغنى عن إعادته. (5)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
18690- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: اعتذر فقال: (فلولا كان من القرون من قبلكم) ، حتى بلغ: (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، فإذا هم الذين نجوا حين نزل عذاب الله. وقرأ: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) .
18691- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية) ، إلى قوله: (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، قال: يستقلَّهم الله من كل قوم.
__________
(1) انظر تفسير " القرن " فيما سلف 11: 263 / 15: 37.
(2) انظر تفسير " البقية " فيما سلف ص: 447 - 449.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " وعليهم " بإسقاط " ما "، والأجود إثباتها.
(4) انظر تفسير " الفساد في الأرض " فيما سلف من فهارس اللغة (فسد) .
(5) انظر فهارس مباحث العربية والنحو وغيرهما.(15/527)
18692- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألني بلال عن قول الحسن في القدر، (1) قال: فقال: سمعت الحسن يقول: (قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم) ، قال: بعث الله هودًا إلى عاد، فنجى الله هودًا والذين آمنوا معه وهلك المتمتعون. وبعث الله صالحًا إلى ثمود، فنجى الله صالحًا وهلك المتمتعون. فجعلت أستقريه الأمم، فقال: ما أراه إلا كان حسَّن القول في القَدر. (2)
18693- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فلولا كان من القرون من قبلكم أولوا بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم) ، أي: لم يكن من قبلكم من ينهى عن الفساد في الأرض = (إلا قليلا ممن أنجينا منهم) .
* * *
وقوله: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، يقول تعالى ذكره: واتبع الذين ظلموا أنفسهم فكفروا بالله ما أترفوا فيه.
*ذكر من قال ذلك:
18694- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، قال: ما أُنْظروا فيه.
18695- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، من دنياهم.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة هنا: " في العذر "، والصواب ما أثبت، وانظر التعليق التالي.
(2) في المطبوعة وحدها: " في العذر، والصواب من المخطوطة. ويعني أنه أمر قد فرغ منه، لقول الله سبحانه لنوح: " وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم "، وذلك قبل أن يكونوا، وهو قول أهل الإثبات، من أهل الحق.(15/528)
=وكأنّ هؤلاء وجَّهوا تأويل الكلام: واتبع الذين ظلموا الشيء الذي أنظرهم فيه ربُّهم من نعيم الدنيا ولذاتها، إيثارًا له على عمل الآخرة وما ينجيهم من عذاب الله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: واتبع الذين ظلَموا ما تجبَّروا فيه من الملك، وعتَوْا عن أمر الله.
*ذكر من قال ذلك:
18696- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه) ، قال: في ملكهم وتجبُّرهم، وتركوا الحق.
18697- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه، إلا أنه قال: وتركِهم الحق.
18698- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثل حديث محمد بن عمرو سواء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبر تعالى ذكره: أن الذين ظلموا أنفسهم من كل أمة سلفت فكفروا بالله، اتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا، فاستكبروا وكفروا بالله، واتبعوا ما أنظروا فيه من لذات الدنيا، فاستكبروا عن أمر الله وتجبروا وصدوا عن سبيله.
* * *
= وذلك أن المترف في كلام العرب: هو المنعم الذي قد غُذِّي باللذات، ومنه قول الراجز:(15/529)
وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
(1)
نُهْدِي رُءُوسَ المُتْرَفينَ الصُّدَّادْ ... إلى أمِير المُؤْمِنِينَ المُمْتَادْ (2)
* * *
وقوله: (وكانوا مجرمين) ، يقول: وكانوا مكتسبي الكفر بالله. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما كان ربك، يا محمد، ليهلك القرى، التي أهلكها، التي قَصَّ عليك نبأها، ظُلمًا وأهلها مصلحون في أعمالهم، غير مسيئين، فيكون إهلاكه إياهم مع إصلاحهم في أعمالهم وطاعتهم ربّهم، ظلمًا، ولكنه أهلكها بكفر أهلها بالله وتماديهم في غيِّهم، وتكذيبهم رُسُلهم، وركوبهم السيئات.
* * *
وقد قيل: معنى ذلك: لم يكن ليهلكهم بشركهم بالله. وذلك قوله "بظلم" يعني: بشرك = (وأهلها مصلحون) ، فيما بينهم لا يتظالمون، ولكنهم يتعاطَون الحقّ بينهم، وإن كانوا مشركين، إنما يهلكهم إذا تظالموا.
* * *
__________
(1) هو رؤبة.
(2) سلف البيت وتخريجه وشرح فيما سلف 11: 223، تعليق: 1.، " الممتاد "، الذي نسأله العطاء فيعطي.
(3) انظر تفسير " الإجرام " فيما سلف من فهارس اللغة (جرم) .(15/530)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو شاء ربك، يا محمد، لجعل الناس كلها جماعة واحدة على ملة واحدة، ودين واحد، (1) كما:-
18699- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة) ، يقول: لجعلهم مسلمين كلهم.
* * *
وقوله: (ولا يزالون مختلفين) ، يقول تعالى ذكره: ولا يزال النَّاس مختلفين = (إلا من رحم ربك) .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في "الاختلاف" الذي وصف الله الناس أنهم لا يزالون به.
فقال بعضهم: هو الاختلاف في الأديان = فتأويل ذلك على مذهب هؤلاء: ولا يزال الناس مختلفين على أديان شتى، من بين يهوديّ ونصرانيّ، ومجوسي، ونحو ذلك.
وقال قائلو هذه المقالة: استثنى الله من ذلك من رحمهم، وهم أهل الإيمان.
*ذكر من قال ذلك:
18700- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: اليهود والنصارى والمجوس، والحنيفيَّة همُ الذين رحم ربُّك
__________
(1) انظر تفسير " الأمة " فيما سلف ص: 353 تعليق: 4، والمراجع هناك.(15/531)
18701- حدثني المثني قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: اليهود والنصارى والمجوس، (إلا من رحم ربك) ، قال: هم الحنيفية.
18702- حدثني يعقوب بن إبراهيم، وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، أخبرنا منصور بن عبد الرحمن قال: قلت للحسن قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال: الناس مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلفين.
18703- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحقّ.
18704- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحق.
18705- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
18706-. . . . قال، حدثنا معلي بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز، عن منصور بن عبد الرحمن قال: سئل الحسن عن هذه الآية: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال: الناس كلهم مختلفون على أديان شتى، إلا من رحم ربك، فمن رحم غير مختلف. فقلت له: (ولذلك خلقهم) ؟ فقال: خلق هؤلاء لجنته، وهؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه.
18707-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر، عن ليث، عن مجاهد، في قوله: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحق.(15/532)
18708-. . . . قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد، قوله: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الحقّ وأهل الباطل. (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحق.
18709-. . . . قال، حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
18710-. . . . قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك: (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحقّ، ليس فيهم اختلاف.
18711- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عكرمة: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: اليهود والنصارى = (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل القبلة.
18712- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان عن عكرمة، عن ابن عباس: (ولا يزالون مختلفين) قال: أهل الباطل= (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحق.
18713- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال: لا يزالون مختلفين في الهوى.
18714- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، فأهل رحمة الله أهل جماعة، وإن تفرقت دورهم وأبدانهم، وأهل معصيته أهل فرقة، وإن اجتمعت دورهم وأبدانهم.
18715- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك) ، قال: من جعله على الإسلام.(15/533)
18716-. . . . قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا الحسن بن واصل، عن الحسن: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الباطل، (إلا من رحم ربك) . (1)
18717-. . . . قال، حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة عن مجاهد في قوله: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: أهل الباطل = (إلا من رحم ربك) ، قال: أهل الحق.
18718- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا يزالون مختلفين في الرزق، فهذا فقير وهذا غنى.
*ذكر من قال ذلك:
18719- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه، أن الحسن قال: مختلفين في الرزق، سخر بعضهم لبعض.
* * *
وقال بعضهم: مختلفين في المغفرة والرحمة، أو كما قال.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك، بالصواب قولُ من قال: معنى ذلك: "ولا يزال الناس مختلفين في أديانهم وأهوائهم على أديان وملل وأهواء شتى، إلا من رحم ربك، فآمن بالله وصدق رسله، فإنهم لا يختلفون في توحيد الله، وتصديق رسله، وما جاءهم من عند الله".
وإنما قلت ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك، لأن الله جل ثناؤه أتبع
__________
(1) الأثر: 18716 - " الحسن بن واصل "، لم أجد له ذكرًا، وأخشى أن يكون فيه تحريف. وأن يكون صوابه: " الحسن، عن واصل "، وكأنه يعني: " واصل بن عبد الرحمن " " أبا حرة "، وهو يروي عن الحسن، مضى برقم: 6385، 11496، 12616.(15/534)
ذلك قوله: (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجِنة والناس أجمعين) ، ففي ذلك دليلٌ واضح أن الذي قبله من ذكر خبره عن اختلاف الناس، إنما هو خبرٌ عن اختلاف مذموم يوجب لهم النار، ولو كان خبرًا عن اختلافهم في الرزق، لم يعقّب ذلك بالخبر عن عقابهم وعَذابهم.
* * *
وأما قوله: (ولذلك خلقهم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله:
فقال بعضهم: معناه: وللاختلاف خلقهم.
*ذكر من قال ذلك:
18720- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن: (ولذلك خلقهم) ، قال: للاختلاف.
18721- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا منصور بن عبد الرحمن، قال: قلت للحسن: (ولذلك خلقهم) ؟ فقال: خلق هؤلاء لجنته وخلق هؤلاء لناره، وخلق هؤلاء لرحمته، وخلق هؤلاء لعذابه.
18722- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عليه، عن منصور، عن الحسن، مثله.
18723- حدثني المثني قال، حدثنا المعلى بن أسد قال، حدثنا عبد العزيز، عن منصور بن عبد الرحمن، عن الحسن. بنحوه.
18724-. . . . قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن خالد الحذاء، أن الحسن قال في هذه الآية: (ولذلك خلقهم) ، قال: خلق هؤلاء لهذه، وخلق هؤلاء لهذه.
18725- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هوذة بن خليفة قال، حدثنا(15/535)
عوف، عن الحسن قال: (ولذلك خلقهم) ، قال: أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضرُّهم.
18726- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ولذلك خلقهم) ، قال: خلقهم فريقين: فريقًا يرحم فلا يختلف، وفريقًا لا يرحم يختلف، وذلك قوله: (فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ) ، [سورة هود: 105] .
18727- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء في قوله: (ولا يزالون مختلفين) ، قال: يهود ونصارى ومجوس= (إلا من رحم ربك) ، قال: من جعله على الإسلام = (ولذلك خلقهم) ، قال: مؤمن وكافر.
18728- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، قال، حدثنا الأعمش: "ولذلك خلقهم "، قال: مؤمن وكافر.
18729- حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال: سئل مالك عن قول الله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) ، قال: خلقهم ليكونوا فريقين: فريقٌ في الجنة، وفريقٌ في السعير.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وللرحمة خلقهم.
*ذكر من قال ذلك:
18730- حدثني أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد: (ولذلك خلقهم) ، قال: للرحمة.
18731- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: (ولذلك خلقهم) ، قال للرحمة.(15/536)
18732- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد، مثله.
18733- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
18734-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو حفص، عن ليث، عن مجاهد، مثله، إلا أنه قال: للرحمة خلقهم.
18735- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ولذلك خلقهم) ، قال: للرحمة خلقهم.
18736- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عمن ذكره عن ثابت، عن الضحاك: (ولذلك خلقهم) ، قال: للرحمة.
18737- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني الحكم بن أبان، عن عكرمة: (ولذلك خلقهم) ، قال: أهل الحقّ ومن اتبعه لرحمته.
18738- حدثني سعد بن عبد الله قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله: (ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك) ، قال: للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال: وللاختلاف بالشقاء والسعادة خلقهم، لأن الله جل ذكره ذكر صنفين من خلقه: أحدهما أهل اختلاف وباطل، والآخر أهل حق، ثم عقَّب ذلك بقوله: (ولذلك خلقهم) ، فعمّ بقوله: (ولذلك خلقهم) ، صفة الصنفين، فأخبر عن كل فريق منهما أنه ميَسَّر لما خلق له.
* * *(15/537)
فإن قال قائل: فإن كان تأويل ذلك كما ذكرت، فقد ينبغي أن يكون المختلفون غير ملومين على اختلافهم، إذ كان لذلك خلقهم ربُّهم، وأن يكون المتمتِّعون هم الملومين؟
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معنى الكلام: ولا يزال الناس مختلفين بالباطل من أديانهم ومللهم، (إلا من رحم ربك) ، فهداه للحقّ ولعلمه، وعلى علمه النافذ فيهم قبل أن يخلقهم أنه يكون فيهم المؤمن والكافر، والشقي والسعيد خلقهم = فمعنى اللام في قوله: (ولذلك خلقهم) بمعنى "على" كقولك للرجل: أكرمتك على برك بي، وأكرمتك لبرك بي.
* * *
وأما قوله: (وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) ، لعلمه السابق فيهم أنهم يستوجبون صليها بكفرهم بالله، وخلافهم أمره.
* * *
وقوله: (وتمت كلمة ربك) ، قسم كقول القائل: حلفي لأزورنك، وبدًا لي لآتينك، ولذلك تُلُقِّيَت بلام اليمين.
* * *
وقوله: (من الجنة) ، وهي ما اجتَنَّ عن أبصار بني آدم = (والناس) ، يعني: وبنى آدم.
* * *
وقيل: إنهم سموا "الجنة"، لأنهم كانوا على الجنان.
*ذكر من قال ذلك:
18739- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك: وإنما سموا "الجنة " أنهم كانوا على الجنان، والملائكة كلهم "جنة"
18740- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي،(15/538)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
عن أبي مالك قال: "الجنة": الملائكة.
* * *
وأما معنى قول أبى مالك هذا: أن إبليس كان من الملائكة، والجن ذريته، وأن الملائكة تسمى عنده الجن، لما قد بينت فيما مضى من كتابنا هذا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وكلا نقصّ عليك) ، يا محمد (2) = (من أنباء الرسل) ، الذين كانوا قبلك (3) = (ما نثبت به فؤادك) ، فلا تجزع من تكذيب من كذبك من قومك، وردَّ عليك ما جئتهم به، ولا يضق صدرك، فتترك بعض ما أنزلتُ إليك من أجل أن قالوا: (لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك) ؟ إذا علمت ما لقي من قبلك من رسلي من أممها، (4) كما:-
18741- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك) ، قال: لتعلم ما لقيت الرسل قبلك من أممهم.
* * *
وأختلف أهل العربية في وجه نصب "كلا".
__________
(1) انظر تفسير " الجن " فيما سلف 1: 502 - 508.
(2) انظر تفسير " القصص " فيما سلف ص: 470، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) .
(4) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف 5: 354، 531 / 7: 272، 237 / 8: 529 / 13: 427.(15/539)
فقال بعض نحويي البصرة: نصب على معنى: ونقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك، كلا =، كأنَّ الكلّ منصوب عنده على المصدر من "نقص" بتأويل: ونقص عليك ذلك كلَّ القصص.
* * *
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية وقال: ذلك غير جائز، وقال إنما نصبت "كلا" ب "نقصّ"، لأن "كلا" بنيت على الإضافة، كان معها إضافةٌ أو لم يكن وقال: أراد: كلَّه نقص عليك، وجعل "ما نثبت" ردًّا على "كلا"، وقد بينت الصواب من القول في ذلك. (1)
* * *
وأما قوله: (وجاءك في هذه الحق) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله:
فقال بعضهم: معناه: وجاءك في هذه السورة الحق.
*ذكر من قال ذلك:
18742- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس، عن أبي موسى: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه السورة.
18743- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن شعبة، عن خليد بن جعفر، عن أبي إياس معاوية بن قرة، عن أبي موسى، مثله.
18744- حدثنا ابن بشار قال، حدثني سعيد بن عامر قال، حدثنا عوف، عن أبي رجاء، عن ابن عباس، في قوله: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه السورة.
18745- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي عوانة،
__________
(1) انظر ما سلف في حكم " كل " 6: 210، ثم تفسير " كل " فيما سلف ص: 212، وفهارس اللغة مادة (كلل) .(15/540)
عن أبي بشر، عن عمرو العنبري، عن ابن عباس: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه السورة.
18746- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن رجل من بني العنبر قال: خطبنا ابن عباس فقال: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه السورة.
18747- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير قال: سمعت ابن عباس قرأ هذه السورة على الناس حتى بلغ: (وجاءك في هذه الحق) ، قال في هذه السورة.
18748- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن عوف، عن مروان الأصغر، عن ابن عباس أنه قرأ على المنبر: (وجاءك في هذه الحق) فقال: في هذه السورة
18749- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: (وجاءك في هذه الحق) قال: في هذه السورة.
18750- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:، في هذه السورة.
18751- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
18752- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
18753- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، مثله.
18754- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن أبي جعفر الرازي،(15/541)
عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: هذه السورة.
18755- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد، قال: أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، مثله.
18756- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أبو رجاء، عن الحسن في قوله: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه السورة.
18757- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة، عن أبي رجاء، عن الحسن، بمثله.
18758- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن شعبة، عن أبي رجاء عن الحسن. مثله.
18759- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا عبد الرحمن، عن أبان بن تغلب، عن مجاهد، مثله.
18760- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وجاءك في هذه الحق) قال: في هذه السورة.
18761- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة [مثله] . (1)
18762- حدثني المثني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة، عن أبي رجاء قال: سمعت الحسن البصري يقول في قول الله: (وجاءك في هذا الحق) ، قال: يعني في هذه السورة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وجاءك في هذه الدنيا الحق.
*ذكر من قال ذلك:
18763- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثني قالا حدثنا محمد بن جعفر
__________
(1) الزيادة بين القوسين، أرجو أن تكون هي الصواب.(15/542)
قال، حدثنا شعبة، عن قتادة: (وجاءك في هذه الحق) ، قال: في هذه الدنيا.
18764- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= عن شعبة، عن قتادة: (وجاءك في هذا الحق) ، قال: كان الحسن يقول: في الدنيا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال: وجاءك في هذه السورة الحق، لإجماع الحجة من أهل التأويل، على أن ذلك تأويله.
* * *
فإن قال قائل: أو لم يجيء النبي صلى الله عليه وسلم الحق من سور القرآن إلا في هذه السورة، فيقال: وجاءك في هذه السورة الحق؟
قيل له: بلى، قد جاءه فيها كلِّها.
فإن قال: فما وجه خصُوصه إذًا في هذه السورة بقوله: (وجاءك في هذه الحق) ؟ قيل: إن معنى الكلام: وجاءك في هذه السورة الحق مع ما جاءك في سائر سور القرآن = أو إلى ما جاءك من الحق في سائر سور القرآن= لا أن معناه: وجاءك في هذه السورة الحق دون سائر سور القرآن.
* * *
وقوله: (وموعظة) يقول: وجاءك موعظةٌ تعظ الجاهلين بالله، وتبين لهم عبره ممن كفر به وكذب رسله (1) = (وذكرى للمؤمنين) يقول: وتذكرة تذكر المؤمنين بالله ورسله، كي لا يغفلوا عن الواجب لله عليهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الموعظة " فيما سلف ص: 104، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/543)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقل، يا محمد، للذين لا يصدّقونك ولا يقرُّون بوحدانية الله = (اعملوا على مكانتكم) ، يقول: على هِينَتكم وتمكنكم ما أنتم عاملوه (1) فإنا عاملون ما نحن عاملوه من الأعمال التي أمرنا الله بها = وانتظروا ما وعدكم الشيطان، فإنا منتظرون ما وعدنا الله من حربكم ونصرتنا عليكم، كما:-
18765- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج في قوله: (وانتظروا إنا منتظرون) ، قال: يقول: انتظروا مواعيد الشيطان إياكم على ما يزيّن لكم = (إنا منتظرون) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولله، يا محمد، ملك كل ما غاب عنك في السموات والأرض فلم تطلع ولم تعلمه، ولم تعلمه، (2) كل ذلك بيده وبعلمه، لا يخفى عليه منه شيء، وهو عالم بما يعمله مشركو قومك،
__________
(1) انظر تفسير " المكانة " فيما سلف ص: 463، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الغيب " فيما سلف 14: 381، تعليق: 1، والمراجع هناك.(15/544)