الشيطان، بتخويفه إياهم عدوهم، واستجلاد الأرض لهم، (1) حتى انتهوا إلى منزلهم الذي سبق إليه عدوهم. (2)
15781- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر ما ألقى الشيطان في قلوبهم من شأن الجنابة، وقيامهم يصلون بغير وضوء، فقال: "إذ يغشيكم النعاسَ أمنة منه وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به ويذهب عنكم رجز الشيطان وليربط على قلوبكم ويثبت به الأقدام"، حتى تشتدون على الرمل، وهو كهيئة الأرض.
15782- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا داود بن أبي هند قال: قال رجل عند سعيد بن المسيب= وقال مرة: قرأ= (وينزل عليكم من السماء ماء ليطهِّركم به) ، (3) فقال سعيد: إنما هي: " وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ ". قال: وقال الشعبي: كان ذلك طشًا يوم بدر.
* * *
وقد زعم بعض أهل العلم بالغريب من أهل البصرة، أن مجاز قوله: (ويثبت به الأقدام) ، ويفرغ عليهم الصبر وينزله عليهم، فيثبتون لعدوهم. (4)
__________
(1) " استجلاد الأرض ": من " الجلد " (بفتحتين) ، وهي الأرض الصلبة، يعني أنها صارت أرضًا صلبة غليظة، بعد أن كانت رملة ميثاء لينة.
و" استجلدت الأرض "، مما لم تذكره معاجم اللغة، وهو عريق فصيح.
(2) الأثر: 15780 - سيرة ابن هشام 2: 323، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15740. وكان في المطبوعة: " الذي سبق "، غير ما كان في المخطوطة، وهو المطابق لما في سيرة ابن هشام، وهو الصواب.
(3) في المطبوعة كتب " ليطهركم بها "، غير ما في المخطوطة، ولا أدري من أين جاء بها، ولم أجد قراءة كهذه القراءة، بل المعروف أن قراءة عامة القرأة " ليطهركم به " بتشديد الهاء مكسورة، من " طهر " مضعفًا، وأن سعيد بن المسيب، قد انفرد بقراءة " ليطهركم "، كما ضبطتها، بضم الياء، وسكون الطاء وكسر الهاء. من " أطهر "، وهي قراءة شاذة. انظر شواذ القراءات لابن خالويه: 49، وتفسير أبي حيان 4: 468
(4) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 242.(13/427)
وذلك قولٌ خِلافٌ لقول جميع أهل التأويل من الصحابة والتابعين، وحَسْبُ قولٍ خطًأ أن يكون خلافًا لقول من ذكرنا، وقد بينا أقوالهم فيه، وأن معناه: ويثبت أقدام المؤمنين بتلبيد المطر الرمل حتى لا تسوخ فيه أقدامهم وحوافر دوابِّهم. (1)
* * *
وأما قوله: (إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم) ، أنصركم (2) = (فثبتوا الذين آمنوا) ، يقول: قوُّوا عزمهم، وصححوا نياتهم في قتال عدوهم من المشركين. (3)
* * *
وقد قيل: إن تثبيت الملائكة المؤمنين، كان حضورهم حربهم معهم.
* * *
وقيل: كان ذلك معونتهم إياهم بقتال أعدائهم.
* * *
وقيل: كان ذلك بأن الملك يأتي الرجلَ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: سمعت هؤلاء القوم= يعني المشركين= يقولون: والله لئن حملوا علينا لننكشفن! (4) فيحدِّث المسلمون بعضهم بعضًا بذلك، فتقوى أنفسهم. قالوا: وذلك كان وحي الله إلى ملائكته.
* * *
وأما ابن إسحاق، فإنه قال بما:-
15783- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فثبتوا الذين آمنوا) ، أي: فآزروا الذين آمنوا. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " تثبيت الأقدام " فيما سلف 5: 354 \ 7: 272، 273. * * *
هذا، وقد أغفل أبو جعفر هنا إفراد تفسير " يذهب عنكم رجز الشيطان " و " وليربط على قلوبكم "
وانظر تفسير " الرجز " فيما سلف: ص: 179، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " مع " فيما سلف 3: 214 \ 5: 353.
(3) انظر تفسير " التثبيت " فيما سلف 5: 354 \ 7 \ 272، 273، ومادة (ثبت) في فهارس اللغة.
(4) " الانكشاف "، الانهزام.
(5) الأثر: 15783 - سيرة ابن هشام 2: 323، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15780.(13/428)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12)
القول في تأويل قوله: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: سَأرْعِبُ قلوب الذين كفروا بي، أيها المؤمنون، منكم، وأملأها فرقًا حتى ينهزموا عنكم (1) = "فاضربوا فوق الأعناق".
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (فوق الأعناق) .
فقال بعضهم: معناه: فاضربوا الأعناق.
* ذكر من قال ذلك:
15784- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (فاضربوا فوق الأعناق) ، قال: اضربوا الأعناق.
15785-. . . . قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لم أبعث لأعذِّب بعذاب الله، إنما بعثت لضرب الأعناق وشدِّ الوَثَاق.
15786- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (فاضربوا فوق الأعناق) ، يقول: اضربوا الرقاب.
* * *
واحتج قائلو هذه المقالة بأن العرب تقول: "رأيت نفس فلان"، بمعنى: رأيته. قالوا: فكذلك قوله: (فاضربوا فوق الأعناق) ، إنما معناه: فاضربوا الأعناق.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك، فاضربوا الرؤوس.
__________
(1) انظر تفسير " إلقاء الرعب " فيما سلف 7: 279.(13/429)
* ذكر من قال ذلك:
15787- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة: (فاضربوا فوق الأعناق) ، قال: الرؤوس.
* * *
واعتلّ قائلو هذه المقالة بأن الذي "فوق الأعناق"، الرؤوس. قالوا: وغير جائز أن تقول: "فوق الأعناق"، فيكون معناه: "الأعناق". قالوا: ولو جاز ذلك، جاز أن يقال (1) "تحت الأعناق"، فيكون معناه: "الأعناق". قالوا: وذلك خلاف المعقول من الخطاب، وقلبٌ لمعاني الكلام. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فاضربوا على الأعناق، وقالوا: "على" و"فوق" معناهما متقاربان، فجاز أن يوضع أحدهما مكان الآخر. (3)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: أن الله أمر المؤمنين، مُعَلِّمَهم كيفية قتل المشركين وضربهم بالسيف: أن يضربوا فوق الأعناق منهم والأيدي والأرجل. وقوله: (فوق الأعناق) ، محتمل أن يكون مرادًا به الرؤوس، ومحتمل أن يكون مرادًا له: من فوق جلدة الأعناق، (4) فيكون معناه: على الأعناق. وإذا احتمل ذلك، صح قول من قال، معناه: الأعناق. وإذا كان الأمر محتملا ما ذكرنا من التأويل، لم يكن لنا أن نوجِّهه إلى بعض معانيه دون بعض، إلا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة تدلّ على خصوصه، فالواجب أن يقال: إن الله أمر بضرب رؤوس المشركين وأعناقهم وأيديهم وأرجلهم، أصحابَ نبيه صلى الله عليه وسلم الذين شهدوا معه بدرًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " ولو جاز ذلك كان أن يقال "، وهو فاسد، صوابه ما أثبت.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " وقلب معاني الكلام "، صواب السياق ما أثبت.
(3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 242.
(4) في المطبوعة حذف " من "، وهي في المخطوطة سيئة الكتابة.(13/430)
وأما قوله: (واضربوا منهم كل بنان) ، فإن معناه: واضربوا، أيها المؤمنون، من عدوكم كل طَرَف ومَفْصِل من أطراف أيديهم وأرجلهم.
* * *
و"البنان": جمع "بنانة"، وهي أطراف أصابع اليدين والرجلين، ومن ذلك قول الشاعر: (1)
أَلا لَيْتَنِي قَطَّعْتُ مِنِّي بَنَانَةً وَلاقَيْتُهُ فِي الْبَيْتِ يَقْظَانَ حاذِرَا (2)
__________
(1) هو العباس بن مرداس السلمي.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 242، اللسان (بنن) ، ولم أجده في مكان آخر.
وقال أبو عبيدة بعد البيت: " يعني أبا ضب، رجلاً من هذيل، قتل هريم بن مرداس وهو نائم، وكان جاورهم بالربيع ".
وقد روى أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني 13: 66 (ساسى) ، عن أبي عبيدة أن هريم بن مرداس كان مجاورًا في خزاعة، في جوار رجل منهم يقال له عامر، فقتله رجل من خزاعة يقال له خويلد. فالذي قاله أبو عبيدة هنا مضطرب، وهو زيادة بين قوسين في النسخة المطبوعة، فأخشى أن لا تكون من قول أبي عبيدة.
وأما " أبو ضب " الرجل من هذيل، فهو شاعر معروف من بني لحيان، من هذيل، له شعر في بقية أشعار الهذليين وأخبار، انظر رقم: 13، 14 من الشعر. وجاء أيضًا في البقية من شعر هذيل 43، ما نصه: " وقال عباس بن مرداس، وأخواله بنو لحيان ": لا تَأْمَنَنْ بالعَادِ والخِلْفِ بَعْدَهَا ... جِوَارَ أُناسٍ يَبِتَنُونَ الحَصَائِرَاِ
ذكر " جوارًا " كان في بني لحيان، فأجابه رجل من بني لحيان، يذكر عقوقه أخواله، ويتهدده بالقتل. جَزَى الله عَبَّاسًا عَلَى نَأْي دَارِهِ ... عُقُوقًا كَحَرِّ النَّارِ يأتِي المَعَاشِرَا
فَوَاللهِ لَوْلا أَنْ يُقال: ابْنُ أخْتِهِ! ... لَفَقَّرْتُهُ، إنِّي أُصِيبُ المَفاقِرَا
فِدًي لأَبِي ضَبٍّ تِلادِي، فإنَّنَا ... تَكَلْنَا عَلَيْهِ دَاخِلا ومُجَاهِرَا
وَمَطْعَنَهُ بالسَّيْفِ أحْشَاءَ مالِكٍ ... بِما كانَ مَنَّي أوْرَدُوهُ الجَرَائِرَا
فقد ذكر في هذا الشعر " أبا ضب "، ومقتله " مالكا ". لم أقف بعد على " مالك " هذا، ولكني أظن أن شعر عباس هذا، يدخل في خبر مقتل " مالك " الذي قتله " أبو ضب "، لا في خبر مقتل أخيه " هريم بن مرداس "، فذاك خبر معروف رجاله.
وقوله " حاذرا "، أي: مستعدًا حذرًا متيقظًا.
وقال شمر: " الحاذر "، المؤدي الشاك السلاح، وفي شعر العباس بن مرداس ما يشعر بذلك: وَإنِّي حاذِرٌ أَنْمِى سِلاحِي ... إلى أَوْصالِ ذَيَّالٍ مَنِيع
وكان في المطبوعة: " قطعت منه بنانة "، فأفسد الشعر إفسادًا، إذ غير الصواب المحض الذي في المخطوطة، متابًعًا خطأ الرواية المحرفة في لسان العرب.(13/431)
يعني ب"البنانة" واحدة "البنان".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15788- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (واضربوا منهم كل بنان) ، قال: كل مفصِل.
15789 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية: (واضربوا منهم كل بنان) ، قال: المفاصل.
15790-. . . . قال: حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (واضربوا منهم كل بنان) ، قال: كل مفصل.
15791- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد، عن عكرمة: (واضربوا منهم كل بنان) ، قال: الأطراف. ويقال: كل مفصل.
15792- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واضربوا منهم كل بنان) ، يعني: بالبنان، الأطراف.
15793- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (واضربوا منهم كل بنان) ، قال: الأطراف.
15794- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (واضربوا منهم كل بنان) ، يعني: الأطراف.(13/432)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ذلك بأنهم) ، هذا الفعل من ضرب هؤلاء الكفرة فوق الأعناق وضرب كل بنان منهم، جزاءٌ لهم بشقاقهم الله ورسوله، وعقاب لهم عليه.
* * *
ومعنى قوله: (شاقوا الله ورسوله) ، فارقوا أمرَ الله ورسوله وعصوهما، وأطاعوا أمرَ الشيطان. (1)
* * *
ومعنى قوله: (ومن يشاقق الله ورسوله) ، ومن يخالف أمرَ الله وأمر رسوله ففارق طاعتهما (2) = (فإن الله شديد العقاب) ، له. وشدة عقابه له: في الدنيا، إحلالُه به ما كان يحلّ بأعدائه من النقم، وفي الآخرة، الخلودُ في نار جهنم= وحذف "له" من الكلام، لدلالة الكلام عليها.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: هذا العقابُ الذي عجلته لكم، أيها الكافرون المشاقون لله ورسوله، في الدنيا، من الضرب فوق الأعناق منكم، وضرب
__________
(1) انظر تفسير " الشقاق " فيما سلف 3: 115، 116، 336 \ 8: 319 \ 9: 204.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: " وفارق "، والسياق يقتضي ما أثبت.(13/433)
كل بنان، بأيدي أوليائي المؤمنين، فذوقوه عاجلا واعلموا أن لكم في الآجل والمعاد عذابَ النار. (1)
* * *
ولفتح "أن" من قوله: (وأن للكافرين) ، من الإعراب وجهان:
أحدهما الرفع، والآخر: النصبُ.
فأما الرفع، فبمعنى: ذلكم فذوقوه، ذلكم وأن للكافرين عذاب النار= بنية تكرير "ذلكم"، كأنه قيل: ذلكم الأمر، وهذا.
وأما النصب: فمن وجهين: أحدهما: ذلكم فذوقوه، واعلموا، أو: وأيقنوا أن للكافرين= فيكون نصبه بنية فعل مضمر، قال الشاعر:
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (2)
بمعنى: وحاملا رمحًا.
والآخر: بمعنى: ذلكم فذوقوه، وبأن للكافرين عذاب النار= ثم حذفت "الباء"، فنصبت. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف 12: 420، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) مضى البيت مرارًا وتخريجه، انظر آخرها ما سلف 11: 577، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 405، 406.(13/434)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله= (إذا لقيتم الذين كفروا) في القتال= (زحفًا) ، يقول: متزاحفًا بعضكم إلى بعض= و"التزاحف"، التداني والتقارب (1) = "فلا تولوهم الأدبار"، يقول: فلا تولوهم ظهوركم فتنهزموا عنهم، ولكن اثبتوا لهم، فإن الله معكم عليهم (2) = "ومن يولهم يومئذ دبره"، يقول: ومن يولهم منكم ظهره = (إلا متحرفًا لقتال) ، يقول: إلا مستطردًا لقتال عدوه، يطلب عورةً له يمكنه إصابتها فيكرّ عليه = (أو متحيزًا إلى فئة) أو: إلا أن يوليهم ظهره متحيزًا إلى فئة، يقول: صائرًا إلى حَيِّز المؤمنين الذين يفيئون به معهم إليهم لقتالهم، (3) ويرجعون به معهم إليهم. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15795- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك: (إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة) ، قال: "المتحرف"، المتقدم من أصحابه ليرى غِرَّة من العدوّ فيصيبها. قال، و"المتحيز"، الفارّ إلى
__________
(1) هذا الشرح لقوله: " التزاحف "، لا تجده في معاجم اللغة، فيقيد.
(2) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) .
= وتفسير " الدبر " فيما سلف 7: 109، 110 \ 10: 170.
(3) انظر تفسير " فئة " فيما سلف 9: 7، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: " يرجعون به معهم إليهم "، وأثبت ما في المخطوطة.(13/435)
النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه. قال الضحاك: وإنما هذا وعيد من الله لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أن لا يفروا. وإنما كان النبيُّ عليه الصلاة والسلام وأصحابه فئتَهم. (1)
15796- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة) ، أما "المتحرف"، يقول: إلا مستطردًا، يريد العودة= (أو متحيزًا إلى فئة) ، قال: "المتحيز"، إلى الإمام وجنده إن هو كرّ فلم يكن له بهم طاقة، ولا يُعذَر الناس وإن كثروا أن يُوَلُّوا عن الإمام.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم) ، هل هو خاص في أهل بدر، أم هو في المؤمنين جميعًا؟
فقال قوم: هو لأهل بدر خاصة، لأنه لم يكن لهم أن يتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع عدوه وينهزموا عنه، فأما اليومَ فلهم الانهزام.
* ذكر من قال ذلك:
15797- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة في قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: ذاك يوم بدر، ولم يكن لهم أن ينحازوا، ولو انحاز أحدٌ لم ينحز إلا إلي (2) = قال أبو موسى: يعني: إلى المشركين.
__________
(1) في المطبوعة: حذف " وأصحابه "، تحكمًا.
(2) وقف على قوله: " إلى "، كأنه يشير بيده إلى الفئة الأخرى، والتي فسرها أبو موسى، وهو ابن المثنى، بقوله: يعني: إلى المشركين.(13/436)
15798- حدثنا إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد، عن داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قوله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، ثم ذكر نحوه= إلا أنه قال: ولو انحازوا انحازوا إلى المشركين، ولم يكن يومئذ مسلم في الأرض غيرهم.
15799- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن مفضل قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد قال: نزلت في يوم بدر: (ومن يولهم يومئذ دبره) .
15800 - حدثني ابن المثنى، وعلي بن مسلم الطوسي= قال ابن المثنى: حدثني عبد الصمد= وقال علي: حدثنا عبد الصمد= قال، حدثنا شعبة، عن داود، يعني ابن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: يوم بدر= قال أبو موسى: حدثت أن في كتاب غندر هذا الحديث: عن داود، عن الشعبي، عن أبي سعيد.
15801 - حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا علي بن عاصم، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري قال: إنما كان ذلك يوم بدر، لم يكن للمسلمين فئة إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما بعد ذلك، فإن المسلمين بعضهم فئة لبعض. (1)
15802 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي نضرة: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: هذه نزلت في أهل بدر.
15803- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال:
__________
(1) الآثار: 15797 - 15801 - " داود " هو " ابن أبي هند " مضى مرارًا.
و" أبو نضرة " هو " المنذر بن مالك بن قطعة العبدي "، ثقة، مضى مرارًا آخرها رقم: 14664.
و" أبو سعيد "، هو أبو سعيد الخدري، صاحب رسول الله.
وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 327، من طريق شعبة، عن داود بن أبي هند، بمثله، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.(13/437)
كتبت إلى نافع أسأله عن قوله: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، أكان ذلك اليوم، أم هو بعد؟ قال: وكتب إليّ: "إنما كان ذلك يوم بدر".
15804- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد، عن سفيان، عن جويبر، عن الضحاك قال: إنما كان الفرار يوم بدر، ولم يكن لهم ملجأ يلجأون إليه. فأما اليوم، فليس فرارً.
15805 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة، ليس الفرار من الزحف من الكبائر.
15806-. . . . قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الضحاك: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: كانت هذه يوم بدر خاصة.
15807-. . . . قال، حدثنا روح بن عبادة، عن حبيب بن الشهيد، عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: نزلت في أهل بدر.
15808- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: ذلكم يوم بدر.
15809 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك. عن المبارك بن فضالة، عن الحسن: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: ذلك يوم بدر. فأما اليوم، فإن انحاز إلى فئة أو مصر = أحسبه قال: فلا بأس به.
15810 - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن ابن عون قال: كتبت إلى نافع: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: إنما هذا يوم بدر.
15811- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب قال: أوجب الله لمن فرّ يوم بدر النارَ. قال: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى(13/438)
فئة فقد باء بغضب من الله) ، فلما كان يوم أحد بعد ذلك قال: (إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ) [سورة ال عمران: 155] . ثم كان حنين، بعد ذلك بسبع سنين فقال: (ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ) [سورة التوبة: 25] : (ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ) [سورة التوبة: 27] .
15812- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن محمد، أن عمر رحمة الله عليه بلغه قتل أبي عبيدٍ فقال: لو تحيز إليّ! إنْ كنتُ لَفِئَةً! (1)
15813- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن جرير بن حازم قال، حدثني قيس بن سعد قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله: (ومن يولهم يومئذ دبره) ، قال: هذه منسوخة بالآية التي في الأنفال: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ، [سورة الأنفال: 66] . قال: وليس لقوم أن يفرُّوا من مثلَيْهم. قال: ونسخت تلك إلا هذه العِدّة. (2)
15814 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن
__________
(1) الأثر: 15812 - " أبو عبيدة بن مسعود الثقفي "، صحابي وهو صاحب يوم الجسر المعروف بجسر أبي عبيد. وكان عمر ولى الخلافة، عزل خالد بن الوليد عن العراق والأعنة، وولى أبا عبيد بن مسعود الثقفي سنة 13. ولما وجه يزدجر جموعه إلى جيش أبي عبيد، عبر أبو عبيد الجسر في المضيق، فاقتتلوا قتالا شديدًا، وأنكى أبو عبيد في الفرس: وضرب أبو عبيد مشفر الفيل، فبرك عليه الفيل فقتله. واستشهد من المسلمين يومئذ ألف وثمانمائة، ويقال أربعة آلاف، ما بين قتيل وغريق. انظر الاستيعاب: 671، وتاريخ الطبري 4: 67 - 70. وانظر الأثر رقم: 15814، 15815. وفي كثير من الكتب " أبو عبيدة " في هذا الخبر، وهو خطأ.
وكان في المطبوعة هنا: " لو تحيز إلى لكنت له فئة "، غير ما في المخطوطة بلا أمانة ولا معرفة.
(2) الأثر: 15813 - " قيس بن سعد المكي "، ثقة، مضى برقم: 2943، 9413، وكان في المخطوطة والمطبوعة: " قيس بن سعيد "، وهو خطأ.(13/439)
سليمان التيمي، عن أبي عثمان قال: لما قتل أبو عبيد، جاء الخبر إلى عمر فقال: يا أيها الناس، أنا فئتكم. (1)
15815-. . . . قال: ابن المبارك، عن معمر وسفيان الثوري وابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قال عمر رضي الله عنه: أنا فئة كل مسلم.
* * *
وقال آخرون: بل هذه الآية حكمها عام في كل من ولى الدبر عن العدو منهزمًا.
* ذكر من قال ذلك:
15816- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الشرك بالله، والفرار من الزحف، لأن الله عز وجل يقول: (ومن يولهم يومئذ دبره ... فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في هذه الآية بالصواب عندي قولُ من قال: حكمها محكم، وأنها نزلت في أهل بدر، وحكمها ثابت في جميع المؤمنين، وأن الله حرّم على المؤمنين إذا لقوا العدو، أن يولوهم الدبر منهزمين إلا لتحرفٍ القتال، أو لتحيز إلى فئة من المؤمنين حيث كانت من أرض الإسلام، وأن من ولاهم الدبر بعد الزحف لقتالٍ منهزمًا بغير نية إحدى الخلتين اللتين أباح الله التولية بهما، فقد استوجب من الله وعيده، إلا أن يتفضل عليه بعفوه.
وإنما قلنا هي محكمة غير منسوخة، لما قد بينا في غير موضع من كتابنا هذا
__________
(1) الأثر: 15814 - " أبو عثمان "، مجهول، روى عن أنس بن مالك، ومعقل بن يسار. روى عنه " سليمان التيمي "، قال ابن المديني: " لم يرو عنه غيره، وهو مجهول " مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 408.(13/440)
وغيره: (1) أنه لا يجوز أن يحكم لحكم آية بنسخ، وله في غير النسخ وجه، إلا بحجة يجب التسليم لها، من خبر يقطع العذر، أو حجة عقل، ولا حجة من هذين المعنيين تدل على نسخ حكم قول الله عز وجل: (ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة) .
* * *
وأما قوله: (فقد باء بغضب من الله) ، يقول: فقد رجع بغضب من الله (2) = (ومأواه جهنم) ، يقول: ومصيره الذي يصير إليه في معاده يوم القيامة جهنم (3) = "وبئس المصير"، يقول: وبئس الموضع الذي يصير إليه ذلك المصير. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما قاله في " النسخ "، في فهارس الموضوعات، وفي فهارس اللغة والنحو وغيرها.
(2) انظر تفسير " باء " فيما سلف 10: 216، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " مأوى " فيما سلف 10: 481، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " المصير " فيما سلف 9: 205، تعليق: 5، والمراجع هناك.(13/441)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17)
القول في تأويل قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله، ممن شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقاتل أعداء دينه معه من كفار قريش: فلم تقتلوا المشركين، أيها المؤمنون، أنتم، ولكن الله قتلهم.
* * *
وأضاف جل ثناؤه قتلهم إلى نفسه، ونفاه عن المؤمنين به الذين قاتلوا المشركين، إذ كان جل ثناؤه هو مسبِّب قتلهم، وعن أمره كان قتالُ المؤمنين إياهم. ففي ذلك أدلُّ الدليل على فساد قول المنكرين أن يكون لله في أفعال خلقه صُنْعٌ به وَصَلوا إليها.(13/441)
وكذلك قوله لنبيه عليه السلام: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، فأضاف الرميَّ إلى نبي الله، ثم نفاه عنه، وأخبر عن نفسه أنه هو الرامي، إذ كان جل ثناؤه هو الموصل المرميَّ به إلى الذين رُمُوا به من المشركين، والمسبِّب الرمية لرسوله.
فيقال للمنكرين ما ذكرنا (1) قد علمتم إضافة الله رَمْيِ نبيه صلى الله عليه وسلم المشركين إلى نفسه، بعد وصفه نبيَّه به، وإضافته إليه، وذلك فعلٌ واحد، (2) كان من الله تسبيبه وتسديده، (3) ومن رسول الله صلى الله عليه وسلم الحذفُ والإرسال، فما تنكرون أن يكون كذلك سائر أفعال الخلق المكتسبة: من الله الإنشاء والإنجاز بالتسبيب، ومن الخلق الاكتسابُ بالقُوى؟ فلن يقولوا في أحدهما قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15817- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (فلم تقتلوهم) ، لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حين قال هذا: "قتلت"، وهذا: "قتلت"= (وما رميت إذ رميت) ، قال لمحمد حين حَصَب الكفار.
15818 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
15819- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " للمسلمين ما ذكرنا "، وهو خطأ صرف، وظاهر أن كاتب النسخة التي نقل عنها ناسخ المخطوطة، قد وصل " راء " المنكرين بالياء والنون، ولم يضع شرطة الكاف كعادتهم، فقرأها خطأ، ونقلها خطأ.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " ذلك " بغير واو، والكلام لا يستقيم بغيرها.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " بتسبيبه " وهو خطأ من الناسخ، صوابه ما أثبت بغير باء في أوله، كما يدل عليه السياق.(13/442)
قتادة: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، قال: رماهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحصباء يوم بدر.
15820- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة قال: ما وقع منها شيء إلا في عين رجل.
15821 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة قال: لما ورد رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا قال: هذه مصارعهم! ووَجد المشركون النبيَّ صلى الله عليه وسلم قد سبقهم إليه ونزل عليه، فلما طلعوا عليه زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "هذه قريش قد جاءت بجَلَبتها وفخرها، تحادُّك وتكذب رسولك، اللهم إني أسألك ما وعدتني! ". فلما أقبلوا استقبلهم، فحثا في وجوههم، فهزمهم الله عز وجل. (1)
15822- حدثنا أحمد بن منصور قال، حدثنا يعقوب بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن عمران قال، حدثنا موسى بن يعقوب بن عبد الله بن زمعة، عن يزيد بن عبد الله، عن أبي بكر بن سليمان بن أبي حثمة، عن حكيم بن حزام قال: لما كان يوم بدر، سمعنا صوتًا وقع من السماء كأنه صوت حصاة وقعت في طَسْت، ورمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الرمية فانهزمنا. (2)
__________
(1) الأثر: 15821 - " أبان العطار "، هو " أبان بن يزيد العطار "، ثقة، مضى: 3832، 9656، 13518، 15719.
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 2: 268 في أثناء خبر طويل، قد مضى بعضه برقم: 15719، وهو من كتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان، رواه أبو جعفر مفرقًا في التاريخ، سأخرجه مجموعًا في تخريج الأثر رقم: 16083.
وكان في المطبوعة هنا: " قد جاءت بخيلائها وفخرها "، وهو تصرف قبيح. وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ.
و" الجلبة "، هو اختلاط الناس إذ تجمعوا، وصاح بعضهم ببعض يذمره ويستحثه، كالذي يكون في اجتماع الجيوش.
(2) الأثر: 15822 - " أحمد بن منصور بن سيار بن المعارك الرمادي "، شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم: 10260، 10521.
و" يعقوب بن محمد الزهري "، مختلف فيه، وهو صدوق، لكن لا يبالي عمن حدث. مضى برقم: 2867، 8012، 15654، 15714.
و" عبد العزيز بن عمران بن عبد العزيز الزهري "، الأعرج، يعرف بابن أبي ثابت. ضعيف، كان صاحب نسب، لم يكن من أصحاب الحديث. مضى برقم: 8012، 15756.
و" موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهيب بن زمعة الأسدي القرشي "، ثقة، متكلم فيه، وقال أحمد: " لا يعجبني حديثه "، وقال أبو داود: " له مشايخ مجهولون ". مضى برقم: 9923، 15756.
و" يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعة الأسدي القرشي "، روى عنه ابن أخيه " موسى بن يعقوب ". مترجم في الكبير 4 \ 2 \ 346، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 276، ولم يذكرا فيه جرحًا.
و" أبو بكر بن سليمان بن أبي حثمة العدوي "، كان من علماء قريش. ثقة. مترجم في التهذيب، والكني البخاري: 13، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 341.
وهذا خبر ضعيف الإسناد، لضعف " عبد العزيز بن عمران الزهري "، وذكره ابن كثير في تفسيره 4: 32، وقال: " غريب من هذا الوجه "، فقصر في بيان إسناده.
بيد أن الهيثمي ذكره في مجمع الزائد 6: 84، وقال: " رواه الطبراني في الكبير والأوسط، وإسناده حسن "، فلعله إسناد غير هذا، فإنه قد ضعف عبد العزيز بن عمران في هذا الباب مرارًا كثيرة.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 174، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وابن مردويه.(13/443)
15823- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن قيس، ومحمد بن كعب القرظي قالا لما دنا القوم بعضهم من بعض، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم، وقال: "شاهت الوجوه! "، فدخلت في أعينهم كلهم، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم، وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنزل الله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، الآية، إلى: (إن الله سميع عليم) .
15824- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وما رميت إذ رميت) ، الآية، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم أخذ يوم بدر ثلاثة أحجار ورمى بها وجوه الكفار، فهزموا عند الحجر الثالث.(13/444)
15825- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين التقى الجمعان يوم بدر لعلي: "أعطني حصًا من الأرض"، فناوله حصى عليه تراب، فرمى به وجوه القوم، فلم يبق مشرك إلا دخل في عينيه من ذلك التراب شيء، ثم رَدِفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم، (1) فذكر رميةَ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) .
15826- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، قال: هذا يوم بدر، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث حصيات، فرمى بحصاة في ميمنة القوم، وحصاة في ميسرة القوم، وحصاة بين أظهرهم، وقال: "شاهت الوجوه! "، وانهزموا، فذلك قول الله عز وجل: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) .
15827- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده يوم بدر فقال: يا رب، إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبدًا! فقال له جبريل: خذ قبضة من التراب! فأخذ قبضة من التراب، فرمى بها في وجوههم، فما من المشركين من أحد إلا أصابَ عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة، فولُّوا مدبرين.
15728- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: قال الله عز وجل في رمي رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين بالحصباء من يده حين رماهم: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) ، أي: لم يكن ذلك برميتك، لولا الذي جعل الله فيها من نصرك، وما ألقى في صدور عدوك منها حين هزمهم الله. (2)
* * *
__________
(1) " ردفه " (بفتح فكسر) : اتبعه ودهمه.
(2) الأثر: 15828 - سيرة ابن هشام 2: 323، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15783. وكان في المطبوعة والمخطوطة، أغفل ذكر " وما رميت إذ رميت "، وأتى ببقية الآية. وكان في المخطوطة " حين هزمهم "، بغير ذكر لفظ الجلالة، فغيرها في المطبوعة فقال: " فهزمتهم ". وأثبت ما في سيرة ابن هشام.(13/445)
وروي عن الزهري في ذلك قول خلاف هذه الأقوال، وهو ما:-
15829- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري: (وما رميت إذ رميت) ، قال: جاء أبي بن خلف الجمحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، فقال: "آلله محيي هذا، يا محمد، وهو رميم؟ "، وهو يفتُّ العظم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يحييه الله، ثم يميتك، ثم يدخلك النار! قال: فلما كان يوما أحد قال: والله لأقتلن محمدًا إذا رأيته! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بل أنا أقتله إن شاء الله.(13/446)
(1)
* * *
__________
(1) أخشى أن يكون في هذا الموضع من التفسير نقص، فإني وجدت ابن كثير (4: 32) قد ذكر في تفسير هذه الآية ما نسبه إلى ابن جرير، وهذا نصه بترتيبه وتعليقه:
وههنا قولان آخران غريبان جدًّا:
أحدهما: قال ابن جرير: حدثني محمد بن عوف الطائي، حدثنا أبو المغيرة، حدثنا صفوان بن عمرو، حدثنا عبد الرحمن بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ابن أبي الحقيق بخيبر، دعَا بقوس، فأتِىَ بقوسٍ طويلة، وقال: جيئوني بقوس غيرها. فجاؤوه بقوسٍ كَبْداء، فرمى النبيّ صلى الله عليه وسلم الحصن، فأقبل السهم يهوي حتى قتل ابن أبي الحقيق، وهو في فراشه، فأنزل الله " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى ".
وهذا غريب، وإسناده جيد إلى عبد الرحمن بن جبير بن نفير، ولعله اشتبه عليه، أو أنه أراد أن الآية تعم هذا كله، وإلا فسياق الآية في سورة الأنفال في قصة بدرٍ لا مَحالة، وهذا مما لا يخفي على أئمة العلم، والله أعلم.
والثاني: روى ابن جرير أيضًا، والحاكم في مستدركه، بإسناد صحيح إلى سعيد بن المسيّب والزهري أنهما قالا: أنزلت في رمية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحُدٍ أُبَيَّ بن خلفٍ بالحربة في لأْمَته، فخدشه في تَرْقُوَته، فجعل يتدأدأ عن فرسه مرارًا. حتى كانت وفاتُه بعد أيام قاسى فيها العذاب الأليمَ، موصولا بعذابِ البرزخ، المتصل بعذاب الآخرة.
وهذا القول عن هذين الإمامين غريب أيضًا جدًّا، ولعلهما أرادَا أن الآية تتناوله بعمومها، لا أنها نزلت فيه خاصة، كما تقدم، والله أعلم ".
قلت: والخبر الأول منهما، رواه الواحدي في أسباب النزول: 174 من طريق " صفوان بن عمرو، عن عبد العزيز بن جبير "، وقوله: " عبد العزيز "، خطأ، صوابه ما في تفسير ابن كثير.
ثم إن السيوطي في الدر المنثور 3: 175، خرج هذين الخبرين منسوبين إلى ابن جرير أيضًا، وزاد نسبته الأول منهما إلى ابن أبي حاتم. وذكر الثاني وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم.
ثم زاد السيوطي في الدر المنثور، وهذان الخبران أنقلهما أيضًا بنصهما منه:
الأول: " أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن سعيد بن المسيّب قال: لما كان يوم أُحُد، أخذ أبيُّ بن خلفٍ يركض فرسه حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعترض رجالٌ من المسلمين لأبيّ بن خلف ليقتلوه. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: استأخروا! استأخرُوا، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم حربته في يده فرمى بها أبيّ بن خلف، وكسر ضِلْعًا من أضلاعه، فرجع أبيّ بن خلف إلى أصحابه ثقيلا، فاحتملوه حين وَلَّوا قافلين، فطفقوا يقولون: لا بأس! فقال أبيّ حين قالوا ذلك: والله لو كانت بالناس لقتلتهم! ألم يقلْ: إنِّي أقتلك إن شاء الله؟ فانطلق به أصحابه يَنْعَشونه حتى مات ببعض الطريق، فدفنوه.
قال ابن المسيب: وفي ذلك أنزل الله تعالى: " وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى الآية".
الثاني: " وأخرج ابن جرير وابن المنذر، عن الزهري في قوله: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى. قال: حيث رمَى أبيَّ بنَ خلف يوم أُحُدٍ بحربته، فهذا كله، يوشك أن يرجح سقوط شيء من أخبار أبي جعفر في هذا الموضع. إلا أن تكون هذه الأخبار ستأتي فيما بعد في غير هذا الموضع. أما فيما سلف، فإن خبر " أبي بن خلف " قد مضى في حديث السدى رقم: 7943 (ج 7: 255)
والخبر الأول رواه الحاكم في المستدرك 2: 327، من طريق محمد بن فليح، عن موسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(13/447)
وأما قوله: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا) ، فإنّ معناه: وكي ينعم على المؤمنين بالله ورسوله بالظفر بأعدائهم، (1) ويغنّمهم ما معهم، ويكتبت لهم أجور أعمالهم وجهادهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
وذلك "البلاء الحسن"، رمي الله هؤلاء المشركين، ويعني ب"البلاء الحسن"، النعمة الحسنة الجميلة، وهي ما وصفت وما في معناه. (3)
15830- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال في قوله: (وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنًا) ، أي ليعرِّف المؤمنين من نعمه عليهم، في إظهارهم على عدوهم مع كثرة عددهم وقلة عددهم، ليعرفوا بذلك حقه، وليشكروا بذلك نعمته. (4)
* * *
وقوله: (إن الله سميع عليم) ، يعني: إن الله سميع، أيها المؤمنون، لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ومناشدته ربه، ومسألته إياه إهلاكَ عدوه وعدوكم، فقيل له: إنْ يَكُ إلا جّحْش! قال: أليسَ قال: أنا أقتلك؟ والله لو قالها لجميع الخلق لماتوا! "
__________
(1) في المطبوعة: " ولينعم "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " ويثبت لهم أجور أعمالهم "، وهو لا معنى له، ولم يحسن قراءة المخطوطة، لخطأ في نقطها.
(3) انظر تفسير " البلاء " فيما سلف ص: 85، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(4) الأثر: 15830 - سيرة ابن هشام 2: 323، 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15828. وفي السيرة سقط من السياق قوله: " مع كثرة عددهم "، فيصحح هناك.(13/448)
ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
ولقِيلكم وقيل جميع خلقه= "عليم"، بذلك كله، وبما فيه صلاحكم وصلاح عباده، وغير ذلك من الأشياء، محيط به، فاتقوه وأطيعوا أمرَه وأمر رسوله. (1)
القول في تأويل قوله: {ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (ذلكم) ، هذا الفعل من قتل المشركين ورميهم حتى انهزموا، وابتلاء المؤمنين البلاء الحسن بالظفر بهم، وإمكانهم من قتلهم وأسرهم= فعلنا الذي فعلنا= (وأنّ الله موهن كيد الكافرين) ، يقول: واعلموا أن الله مع ذلك مُضْعِف (2) = "كيد الكافرين"، يعنى: مكرهم، (3) حتى يَذِلُّوا وينقادوا للحق، أو يُهْلَكوا. (4)
* * *
وفى فتح "أن" من الوجوه ما في قوله: (ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ) ، [سورة الأنفال: 14] ، وقد بينته هنالك. (5)
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: (موهن) .
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والبصريين: "مُوَهِّنُ" بالتشديد، من: "وهَّنت الشيء"، ضعَّفته.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) .
(2) انظر تفسير " الوهن " فيما سلف 7: 234، 269 \ 9: 170.
(3) انظر تفسير " الكيد " فيما سلف ص: 322، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) في المخطوطة: " ويهلكوا "، وصواب السياق ما أثبت.
(5) انظر ما سلف ص: 434.(13/449)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (مُوهِنُ) ، من أوهنته فأنا موهنه"، بمعنى: أضعفته.
* * *
قال أبو جعفر: والتشديد في ذلك أعجبُ إليّ، لأن الله تعالى كان ينقض ما يبرمه المشركون لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، عقدًا بعد عَقْدٍ، وشيئًا بعد شيء، وإن كان الآخرُ وجهًا صحيحًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمشركين الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، يعني: إن تستحكموا الله على أقطع الحزبين للرحم، وأظلم الفئتين، وتستنصروه عليه، فقد جاءكم حكم الله، ونصرُه المظلوم على الظالم، والمحق على المبطل. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15831- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
__________
(1) انظر تفسير " الاستفتاح " و " الفتح " فيما سلف 2: 254 \ 10: 405، 406 \ 12: 563.(13/450)
15832-. . . . قال: حدثنا سويد بن عمرو الكلبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء.
15833- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، يعني بذلك المشركين: إن تستنصروا فقد جاءكم المدد.
15834- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن ابن عباس قوله: (إن تستفتحوا) ، قال: إن تستقضوا القضاء= وإنه كان يقول: (وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا) ، قلت: للمشركين؟ قال: لا نعلمه إلا ذلك (1)
15835- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: كفار قريش في قولهم: "ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه"! ففُتح بينهم يوم بدر.
15836 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
15837- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: استفتح أبو جهل فقال: اللهم = يعني محمدًا ونفسه = "أيُّنا كان أفجرَ لك، اللهم وأقطعَ للرحم، فأحِنْه اليوم"! (2) قال الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) .
15838 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: استفتح
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة، " لا نعلم "، والجيد ما أثبت.
(2) يقال: " أحانه الله "، أهلكه. و " الحين " (بفتح فسكون) : الهلاك، أو هو أجل الهلاك على التحقيق.(13/451)
أبو جهل بن هشام فقال: "اللهم أيُّنا كان أفجر لك وأقطعَ للرحم، فأحنه اليوم! " يعني محمدًا عليه الصلاة والسلام ونفسه. قال الله عز وجل: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، فضربه ابنا عفراء: عوف ومعوِّذ، وأجهزَ عليه ابن مسعود.
15839- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثنى عقيل، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الله بن ثعلبة بن صُعَير العدوي، حليف بني زهرة، أن المستفتح يومئذ أبو جهل، وأنه قال حين التقى القوم: "أينا أقطعُ للرحم، وآتانا بما لا يُعرف، فأحِنْه الغداة"! فكان ذلك استفتاحه، فأنزل الله في ذلك: (إن إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، الآية. (1)
15840- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، الآية، يقول: قد كانت بدرٌ قضاءً وعِبْرةً لمن اعتبر.
__________
(1) الأثر: 15839 - " عبد الله بن ثعلبة بن صعير العدوي "، مسح رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه ورأسه زمن الفتح، ودعا له. وقال أبو حاتم: " رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو صغير "، وقال البخاري في التاريخ: " عبد الله بن ثعلية، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مرسل، إلا أن يكون عن أبيه، وهو أشبه ". مترجم في الإصابة، والتهذيب، وأسد الغابة، والاستيعاب: 341، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 19.
وهذا الخبر سيأتي من طريق ابن إسحاق، عن الزهري، برقم: 15846، 15848، ومن طريق صالح بن كيسان، عن الزهري، رقم: 15847.
ورواه أحمد في مسنده 5: 431، 4 من طريق يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق، عن الزهري، وص: 431، 432، من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن الزهري.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 328 من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري = ثم من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل، عن أبيه، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
وهذا الإسناد الثاني الذي ذكره الحاكم، لم أجده في المسند، و " إبراهيم بن سعد " يروي عن " صالح بن كيسان "، وعن " الزهري "، عن " ابن إسحاق ".(13/452)
15841- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان المشركون حين خرجوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، أخذوا بأستار الكعبة واستنصروا الله وقالوا: "اللهم انصر أعز الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين"! فقال الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، يقول: نصرت ما قلتم، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
15842- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) إلى قوله: (وأن الله مع المؤمنين) ، وذلك حين خرج المشركون ينظرون عِيرَهم، وإن أهلَ العير، أبا سفيان وأصحابه، أرسلوا إلى المشركين بمكة يستنصرونهم، فقال أبو جهل: "أينا كان خيرًا عندك فانصره"! وهو قوله: (إن تستفتحوا) ، يقول: تستنصروا.
15843- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، قال: إن تستفتحوا العذاب، فعُذِّبوا يوم بدر. قال: وكان استفتاحهم بمكة، قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) ، [سورة الأنفال: 32] . قال: فجاءهم العذاب يوم بدر. وأخبر عن يوم أحد: (وإن تعودوا نعد ولن نغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) .
15844- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عطية قال: قال أبو جهل يوم بدر: "اللهم انصر أهدى الفئتين، وخير الفئتين وأفضل" فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) .
15845 -. . . . قال، حدثنا عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري: أن أبا جهل هو الذي استفتح يوم بدر وقال: "اللهم أينا كان أفجر وأقطع لرحمه، فأحِنْه اليوم"! فأنزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) .
15846 -. . . . قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق،(13/453)
عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير: أن أبا جهل، قال يوم بدر: اللهمّ أقطعنا لرحمه، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة! ". وكان ذلك استفتاحًا منه، فنزلت: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، الآية. (1)
15847 -. . . . قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إبراهيم بن سعد، عن صالح بن كيسان، عن الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير قال: كان المستفتح يوم بدر أبا جهل، قال: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة! "، فأنزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) . (2)
15848 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير، حليف بني زهرة قال: لما التقى الناس، ودنا بعضهم من بعض، قال أبو جهل: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه الغداة! "، فكان هو المستفتح على نفسه= (3) قال ابن إسحاق: فقال الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، لقول أبي جهل: "اللهم أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرف، فأحنه للغداة! " قال: "الاستفتاح"، الإنصاف في الدعاء. (4)
15849- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن يزيد بن رومان وغيره: قال أبو جهل يوم بدر: "اللهم انصر أحب الدينين إليك، دينَنا العتيق، أم دينهم الحديث"! فأنزل الله: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح) ، إلى قوله: (وأن الله مع المؤمنين) .
* * *
__________
(1) الأثر: 15846 - انظر تخريج الأثر رقم: 15839، والخبرين التاليين.
(2) الأثر: 15847 - انظر تخريج الآثار السالفة، والذي سيليه.
(3) قول: " على نفسه "، ليست في سيرة ابن هشام 2: 280. وانظر تخريج الخبر، بعد.
(4) الأثر: 15848 - هما خبران، أولهما إلى قوله: " المستفتح على نفسه "، رواه ابن هشام في سيرته 2: 280، وسائر الخبر، رواه في سيرته 2: 324، وهو تابع الأثر: 15830.
وانظر تخريج الأثر رقم: 15839.(13/454)
وأما قوله: (وإن تنتهوا فهو خير لكم) ، فإنه يقول: "وإن تنتهوا"، يا معشر قريش، وجماعة الكفار، عن الكفر بالله ورسوله، وقتال نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به= "فهو خير لكم"، في دنياكم وآخرتكم (1) = (وإن تعودوا نعد) ، يقول: وإن تعودوا لحربه وقتاله وقتال اتباعه المؤمنين= "نعد"، أي: بمثل الواقعة التي أوقعت بكم يوم بدر.
* * *
وقوله: (ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت) ، يقول: وإن تعودوا نعد لهلاككم بأيدي أوليائي وهزيمتكم، ولن تغني عنكم عند عودي لقتلكم بأيديهم وسَبْيكم وهزمكم (2) " فئتكم شيئًا ولو كثرت"، يعني: جندهم وجماعتهم من المشركين، (3) كما لم يغنوا عنهم يوم بدر مع كثرة عددهم وقلة عدد المؤمنين شيئًا= (وأن الله مع المؤمنين) ، يقول جل ذكره: وأن الله مع من آمن به من عباده على من كفر به منهم، ينصرهم عليهم، أو يظهرهم كما أظهرهم يوم بدر على المشركين. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15850- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله: (وإن تنتهوا فهو خير لكم) ، قال: يقول لقريش= "وإن تعودوا نعد"، لمثل الواقعة التي أصابتكم يوم بدر= (ولئن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين) ، أي: وإن كثر عددكم في أنفسكم لن يغني عنكم شيئًا. وإني مع المؤمنين، أنصرهم على من خالفهم. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف 20: 566، تعليق: 1 والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف 7: 133.
(3) انظر تفسير " فئة " فيما سلف ص: 435، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " مع " فيما سلف ص: 428، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(5) الأثر: 15850 - سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15848، في القسم الثاني منه.
وكان في المطبوعة و " إن الله مع المؤمنين ينصرهم "، وفي المخطوطة مثله إلا أن فيها " أنصرهم "، وأثبت نص ما في سيرة ابن هشام، والذي في المخطوطة بعضه سهو من الناسخ وعجلة.(13/455)
وقد قيل: إن معنى قوله: (وإن تعودوا نعد) ، وإن تعودوا للاستفتاح، نعد لفتح محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا القول لا معنى له، لأن الله تعالى قد كان ضمن لنبيه عليه السلام حين أذن له في حرب أعدائه إظهارَ دينه وإعلاءَ كلمته، من قبل أن يستفتح أبو جهل وحزبه، فلا وجه لأن يقال والأمر كذلك: "إن تنتهوا عن الاستفتاح فهو خير لكم، وإن تعودوا نعد"، لأن الله قد كان وعد نبيه صلى الله عليه وسلم الفتح بقوله: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) ، [سورة الحج: 39] ، استفتح المشركون أو لم يستفتحوا.
* ذكر من قال ذلك:
15851- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن تعودوا نعد) ، إن تستفتحوا الثانية نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم = (ولن نغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وإن الله مع المؤمنين) ، محمد وأصحابه.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (وإن الله مع المؤمنين) .
ففتحها عامة قرأة أهل المدينة بمعنى: ولن تغني عنكم فئتكم شيئًا ولو كثرت وإن الله لمع المؤمنين= (1) فعطف ب"أن" على موضع "ولو كثرت"، كأنه قال: لكثرتها، ولأن الله مع المؤمنين. ويكون موضع "أن" حينئذ نصبًا على هذا القول. (2)
* * *
وكان بعض أهل العربية يزعم أن فتحها إذا فتحت، على: (وأنّ الله موهن كيد الكافرين) ، (وأن الله مع المؤمنين) ، عطفًا بالأخرى على الأولى.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " مع المؤمنين " بغير لام، وأثبت ما في المخطوطة، وأنا في شك منه.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 407.(13/456)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20)
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين: "وَإِنَّ اللهَ"، بكسر الألف على الابتداء، واعتلوا بأنها في قراءة عبد الله: "وإنَّ اللهَ لَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من كسر "إن" للابتداء، لتقضِّي الخبر قبل ذلك عما يقتضي قوله: (وأن الله مع المؤمنين) . (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله= (أطيعوا الله ورسوله) ، فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه= (ولا تولوا عنه) ، يقول: ولا تدبروا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مخالفين أمره ونهيه (2) = "وأنتم تسمعون" أمرَه إياكم ونهيه، وأنتم به مؤمنون، كما:-
15852- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ورسوله ولا تولوا وأنتم تسمعون) ، أي: لا تخالفوا أمره، وأنتم تسمعون لقوله، وتزعمون أنكم منه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " عما يقضي قوله "، والصواب ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فارس اللغة (ولي) .
(3) الأثر: 15852 - سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15850.
وكان في المطبوعة هنا " وتزعمون أنكم مؤمنون "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو المطابق لما في سيرة ابن هشام.(13/457)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21)
القول في تأويل قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا، أيها المؤمنون، في مخالفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كالمشركين الذين إذا سمعوا كتاب الله يتلى عليهم قالوا: "قد سمعنا"، بآذاننا= "وهم لا يسمعون"، يقول: وهم لا يعتبرون ما يسمعون بآذانهم ولا ينتفعون به، لإعراضهم عنه، وتركهم أن يُوعُوه قلوبهم ويتدبروه. فجعلهم الله، إذ لم ينتفعوا بمواعظ القرآن وإن كانوا قد سمعوها بأذانهم، (1) بمنزلة من لم يسمعها. يقول جل ثناؤه لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تكونوا أنتم في الإعراض عن أمر رسول الله، وترك الانتهاء إليه وأنتم تسمعونه بآذانكم، كهؤلاء المشركين الذين يسمعون مواعظ كتاب الله بآذانهم، ويقولون: "قد سمعنا"، وهم عن الاستماع لها والاتعاظ بها معرضون كمن لا يسمَعُها. (2)
* * *
وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما:-
15853- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) ، أي: كالمنافقين الذين يظهرون له الطاعة، ويُسِرُّون المعصية. (3)
15854- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: " فجعلهم الله لما لم ينتفعوا "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: " وهم لاستعمالها والاتعاظ بها "، والصواب ما في المطبوعة، وإنما هو إسقاط من الناسخ في كتابته. وكان في المطبوعة: " كمن لم يسمعها "، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر: 15853 - سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15852.(13/458)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وهم لا يسمعون) ، قال: عاصون.
15855- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وللذي قال ابن إسحاق وجه، ولكن قوله: (ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون) ، في سياق قَصَص المشركين، ويتلوه الخبر عنهم بذمّهم، وهو قوله: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) ، فلأن يكون ما بينهما خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إنّ شر ما دبَّ على الأرض من خلق الله عند الله، (1) الذين يصمون عن الحق لئلا يستمعوه، (2) فيعتبروا به ويتعظوا به، وينكُصون عنه إن نطقوا به، (3) الذين لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، فيستعملوا بهما أبدانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " دابة " فيما سلف 3: 275 \ 11: 344.
(2) انظر تفسير " الصمم " 1: 328 - 331 \ 3: 315 \ 10: 478 \ 11: 350.
(3) انظر تفسير " البكم " فيما سلف 1: 328 - 331 \3: 315 \ 11: 350.(13/459)
15856- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن شر الدواب عند الله) ، قال: "الدواب"، الخلق.
15857- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، عن عكرمة قال: وكانوا يقولون: "إنا صم بكم عما يدعو إليه محمد، لا نسمعه منه، ولا نجيبه به بتصديق! " فقتلوا جميعًا بأحد، وكانوا أصحاب اللواء.
15858- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "الصم البكم الذين لا يعقلون"، قال: الذين لا يتّبعون الحق.
15859- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إن شر الدوابّ عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) ، وليس بالأصم في الدنيا ولا بالأبكم، ولكن صمّ القلوب وبُكمها وعُميها! وقرأ: (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) [سورة الحج: 46] .
* * *
واختلف فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عُني بها نفرٌ من المشركين.
* ذكر من قال ذلك:
15860- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، قال ابن عباس: "الصم البكم الذين لا يعقلون"، نفرٌ من بني عبد الدار، لا يتبعون الحق.
15861 -. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قوله: (الصم البكم الذين لا ينقلون) ، قال: لا يتبعون الحق= قال، قال ابن عباس: هم نَفرٌ من بني عبد الدار.
15861 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن(13/460)
ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
وقال آخرون: عُني بها المنافقون.
* ذكر من قال ذلك:
15862- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إن شرّ الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون) ، [أي المنافقون الذين نهيتكم أن تكونوا مثلهم، بُكمٌ عن الخير، صم عن الحق، لا يعقلون] ، لا يعرفون ما عليهم في ذلك من النقمة والتِّباعة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال بقول ابن عباس: وأنه عُني بهذه الآية مشركو قريش، لأنها في سياق الخبر عنهم.
* * *
__________
(1) الأثر: 15862 -سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15853. والذي بين القوسين سقط من ناسخ المخطوطة بلا شك، لأن إسقاطه يجعل الخبر غير مطابق للترجمة، لأنه عندئذ لا ذكر فيه للمنافقين. هذا فضلا عن أن أبا جعفر ينقل تفسير ابن إسحاق في سيرته بنصه في كل ما مضى، فلا معنى لاختصاره هنا اختصارًا مخلا، فثبت أن ذلك من الناسخ فزدته من السيرة.
أما الجملة التي أثبتها الناسخ، وهي الخارجة عن القوسين. فكانت في المخطوطة: " ... من النعمة والساعة "، الأولى خطأ، وصوابها ما أثبت.
فجاء الناشر، ولم يفهم معنى الكلام، فجعله هكذا: " ... من النعمة والسعة "، فصار خلطًا لا خير فيه، ولا معنى له. ورددته إلى الصواب والحمد لله.
و" التباعة "، (بكسر التاء) ، مثل " التبعة " (بفتح التاء وكسر الباء) : ما فيه إثم يتبع به صاحبه. يقال: " ما عليه من الله في هذا تبعة ولا تباعة "، أي: مطالبة يطلب بإثمها.(13/461)
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية، وفي معناها.
فقال بعضهم: عني بها المشركون. وقال: معناه: أنهم لو رزقهم الله الفهم لما أنزله على نبيه صلى الله عليه وسلم، لم يؤمنوا به، لأن الله قد حكم عليهم أنهم لا يؤمنون.
* ذكر من قال ذلك:
15863- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو اسمعهم) ، لقالوا: (ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا) ، [سورة يونس: 15] ، ولقالوا: (لَوْلا اجْتَبَيْتَهَا) [سورة الأعراف: 203] ، ولو جاءهم بقرآن غيره= (لتولوا وهم معرضون) .
15864- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ولو أسمعهم لتولوا وهم معرضون) ، قال: لو أسمعهم بعد أن يعلم أن لا خير فيهم، ما انتفعوا بذلك، ولتولوا وهم معرضون.
15865 - وحدثني به مرة أخرى فقال: "لو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم ولو أسمعهم"، بعد أن يعلم أن لا خير فيهم، ما نفعهم بعد أن نفذ علمه بأنهم لا ينتفعون به.
* * *
وقال آخرون: بل عني بها المنافقون. قالوا: ومعناه ما:-
15866- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ولو علم الله فيهم خيرًا لأسمعهم) ، لأنفذ لهم قولهم الذي قالوه بألسنتهم، (1) ولكن
__________
(1) في المطبوعة: " الذي قالوه "، وأثبت ما في المخطوطة، مطابقًا لما في السيرة.(13/462)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
القلوب خالفت ذلك منهم، ولو خرجوا معكم لتولوا وهم معرضون، (1) ما وفَوا لكم بشيء مما خرجوا عليه. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القول في تأويل ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن جريج وابن زيد، لما قد ذكرنا قبل من العلة، وأن ذلك ليس من صفة المنافقين. (3)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: ولو علم الله في هؤلاء القائلين خيرًا، لأسمعهم مواعظ القرآن وعِبَره، حتى يعقلوا عن الله عز وجل حججه منه، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم، وأنهم ممن كتب لهم الشقاء فهم لا يؤمنون. ولو أفهمهم ذلك حتى يعلموا ويفهموا، لتولوا عن الله وعن رسوله، (4) وهم معرضون عن الإيمان بما دلَّهم على صحته مواعظُ الله وعبره وحججه، (5) معاندون للحق بعد العلم به. (6)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم) .
فقال بعضهم: معناه: استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم للإيمان.
__________
(1) كانت هذه الجملة الآتية في المخطوطة والمطبوعة هكذا: " فأوفوا لكم بشر مما خرجوا عليه "، وهو لا معنى له. وصوابها ما أثبت من سيرة ابن هشام.
(2) الأثر: 15866 - سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15862.
(3) انظر ص: 461.
(4) انظر تفسير " التولي " فيما سلف 12: 571، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(5) في المطبوعة: " ... دلهم على حقيقة "، وفي المخطوطة: " ... دلهم على حجته "، وهذا صواب قراءتها.
(6) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف ص: 332 تعليق: 1، والمراجع هناك.(13/463)
* ذكر من قال ذلك:
15867- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال: أمّا "ما يحييكم"، (1) فهو الإسلام، أحياهم بعد موتهم، بعد كفرهم.
* * *
وقال آخرون: للحق.
* ذكر من قال ذلك:
15868- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد في قول الله: (لما يحييكم) ، قال: الحق.
15869 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
15870 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال: الحق.
15871 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله: (استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال: للحق.
* * *
وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى ما في القرآن.
* ذكر من قال ذلك:
15872- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " أما يحييكم "، بإسقاط "ما " والجيد إثباتها.(13/464)
قوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، قال: هو هذا القرآن، فيه الحياة والثقة والنجاة والعصمة في الدنيا والآخرة. (1)
* * *
وقال آخرون: معناه: إذا دعاكم إلى الحرب وجهاد العدو.
* ذكر من قال ذلك:
15873- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، أي: للحرب الذي أعزكم الله بها بعد الذل، وقوّاكم بعد الضعف، ومنعكم بها من عدوكم بعد القهر منهم لكم. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معناه: استجيبوا لله وللرسول بالطاعة، إذا دعاكم الرسول لما يحييكم من الحق. وذلك أن ذلك إذا كان معناه، كان داخلا فيه الأمر بإجابتهم لقتال العدو والجهاد، والإجابة إذا دعاكم إلى حكم القرآن، وفي الإجابة إلى كل ذلك حياة المجيب. أما في الدنيا، فبقاء الذكر الجميل، (3) وذلك له فيه حياة. وأما في الآخرة، فحياة الأبد في الجنان والخلود فيها. (4)
* * *
وأما قول من قال: معناه الإسلام، فقول لا معنى له. لأن الله قد وصفهم بالإيمان بقوله: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ، فلا وجه لأن يقال للمؤمن: استجب لله وللرسول إذا دعا إلى الإسلام والإيمان. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " الحياة والعفة "، وهي في المخطوطة كما أثبتها غير منقوطة " الثاء "، ثم زاد ناشرها أيضًا فأسقط من الكلام " والنجاة "، وهذا من أسوأ العبث وأقبحه.
(2) الأثر: 15873 - سيرة ابن هشام 2: 324، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15866.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " فيقال الذكر الجميل "، وهو لا معنى له. صوابه ما أثبت.
(4) انظر تفسير " الاستجابة " فيما سلف ص: 409، تعليق 1، والمراجع هناك.
(5) في المطبوعة: " إذا دعاك "، وأثبت ما في المخطوطة.(13/465)
وبَعْدُ، ففيما:-
15874- حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا روح بن القاسم، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيٍّ وهو يصلي، فدعاه: أيْ أُبَيّّ! فالتفت إليه أبيّ ولم يجبه. ثم إن أبيًّا خفف الصلاة، ثم انصرف إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك، أي رسول الله! قال: وعليك، ما منعك إذ دعوتك أن تجيبني؟ قال: يا رسول الله، كنت أصلي! قال: أفلم تجد فيما أوحي إليّ: "استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم"؟ قال: بلى، يا رسول الله! لا أعود. (1)
__________
(1) الأثر:: 15874 - سيأتي من طريق أخرى في الذي يليه.
" أحمد بن المقدام بن سليمان العجلي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 12861.
و" يزيد بن زريع العيشي "، ثقة حافظ مضى مرارًا. برقم: 1769، 2533، 5429، 5438، غيرها.
و" روح بن القاسم التميمي الطبري "، ثقة، مضى برقم 6613.
و" العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة "، تابعي ثقة، مضى برقم: 221، 14210.
وأبوه: " عبد الرحمن بن يعقوب، مولى الحرقة "، تابعي ثقة. مضى برقم: 14210.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 2: 412، 413، من طريق عبد الرحمن بن إبراهيم، عن العلاء بن عبد الرحمن. عن أبيه، بنحوه، مطولا.
ورواه الترمذي في " فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل الفاتحة "، من طريق عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن العلاء، بنحوه مطولا، وقال: " هذا حديث حسن صحيح". وفي الباب عن أنس بن مالك ".
وخرجه ابن كثير في تفسيره 1: 22، 23.
ثم انظر حديث البخاري (الفتح 8: 119، 231) ، وهو حديث أبي سعيد بن المعلى، بنحو هذه القصة عن أبي بن كعب. وقد فصل الحافظ ابن حجر هناك الكلام فيه، وخرج حديث أبي بن كعب. وانظر أيضًا الموطأ: 83، خبر مالك عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب: أن أبا سعيد مولى عامر بن كريز، أخبره: " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نادى أبي بن كعب وهو يصلي ... " بغير هذا السياق، وما قاله فيه الحافظ ابن حجر، وابن كثير في تفسيره، حيث أشرنا إلى موضعه.(13/466)
15875 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: مرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبيّ وهو قائم يصلي، فصرخ به [فلم يجبه، ثم جاء] ، (1) فقال: يا أبيّ، ما منعك أن تجيبني إذ دعوتك؟ أليس الله يقول: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم) ؟ قال أبيّ: لا جَرَم يا رسول الله، لا تدعوني إلا أجبتُ وإن كنت أصلي! (2)
* * *
=ما يُبِين عن أن المعنيَّ بالآية، هم الذين يدعوهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ما فيه حياتهم بإجابتهم إليه من الحق بعد إسلامهم، لأن أبَيًّا لا شك أنه كان مسلمًا في الوقت الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا في هذين الخبرين.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: يحول بين الكافر والإيمان، وبين المؤمن والكفر.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) هذا الذي بين القوسين، ليس في المخطوطة، زاده ناشر المطبوعة، لا أدري من أين؟ وفي الخبر سقط لا شك فيه، ولكني لم أجد الخبر بنصه هذا.
(2) الأثر: 15875 - إسناد آخر للخبر السالف. وقد خرجته هناك.
" خالد بن مخلد القطواني "، ثقة من شيوخ البخاري، وأخرج له مسلم " مضى مرارًا، برقم: 2206، 4577، 8166، 8397، وغيرها.
و" محمد بن جعفر بن أبي كثير الزرقي "، ثقة معروف، مضى برقم: 2206، 8397.(13/467)
15876- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: بين الكافر أن يؤمن، وبين المؤمن أن يكفر. (1)
15877 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وكيع= وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد= قالا حدثنا سفيان= وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا الثوري، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير، بنحوه.
15878 - حدثني أبو زائدة زكريا بن أبي زائدة قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله، عن سعيد بن جبير، مثله.
15879 - حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن المنهال، عن سعيد بن جبير: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان.
15880- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عبد الله بن عبد الله الرازي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (يحول بين المرء وقلبه) ، يحول بين الكافر والإيمان وطاعة الله.
15881 -. . . . قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان.
15882- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، وعبد العزيز بن أبي رواد، عن الضحاك في قوله: (يحول بين المرء
__________
(1) الأثر: 15876 - " عبد الله بن عبد الله الرازي "، " أبو جعفر الرازي "، قاضي الري، ثقة، لا بأس. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 92.
وهو غير " أبي جعفر الرازي التميمي "، " عيسى بن ماهان ".(13/468)
وقلبه) ، قال: يحول بين الكافر وطاعته، وبين المؤمن ومعصيته.
15883 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبى روق، عن الضحاك بن مزاحم، بنحوه.
15884 -. . . . قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: يحول بين المرء وبين أن يكفر، (1) وبين الكافر وبين أن يؤمن.
15885 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد، عن الضحاك بن مزاحم: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين الكافر وبين طاعة الله، وبين المؤمن ومعصية الله.
15886 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا بن أبي رواد، عن الضحاك، نحوه.
15887 - وحدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر نحوه.
15888 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن منهال قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عبد العزيز بن أبي رواد يحدث، عن الضحاك بن مزاحم في قوله: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين المؤمن ومعصيته.
15889 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، يقول: يحول بين المؤمن وبين الكفر، ويحول بين الكافر وبين الإيمان.
15890 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته، ويحول بين المؤمن وبين معصيته.
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " يحول بين المرء "، ولو ظننت أنها: " يحول بين المؤمن "، لكان في الذي سلف ما يرجحه.(13/469)
15891- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين المؤمن وبين الكفر، وبين الكافر وبين الإيمان.
15892 -. . . . قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي رواد، عن الضحاك: (يحول بين المرء وقلبه) ، يقول: يحول بين الكافر وبين طاعته، وبين المؤمن وبين معصيته.
15893 -. . . . قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: (يحول بين المرء وقلبه) ، يحول بين المؤمن والمعاصي، وبين الكافر والإيمان.
15894-. . . . قال، حدثنا عبيدة، عن إسماعيل، عن أبي صالح: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بينه وبين المعاصي.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: يحول بين المرء وعقله، فلا يدري ما يَعمل.
* ذكر من قال ذلك:
15895- حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا عبد المجيد، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين المرء وعقله.
15896 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه) ، حتى تركه لا يعقل.
15897 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
15898 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال:(13/470)
هو كقوله "حال"، حتى تركه لا يعقل. (1)
15899 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله، عن حميد، عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: إذا حال بينك وبين قلبك، كيف تعمل.
15900 - قال: حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين قلب الكافر، وأن يعمل خيرًا.
* * *
وقال آخرون: معناه: يحول بين المرء وقلبه، أن يقدر على إيمان أو كفر إلا بإذنه.
* ذكر من قال ذلك:
15901- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، قال: يحول بين الإنسان وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه قريب من قلبه، لا يخفى عليه شيء أظهره أو أسره.
* ذكر من قال ذلك:
15902- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله: (يحول بين المرء وقلبه) ، قال: هي كقوله: (أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) ، [سورة ق: 16] .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندي في ذلك أن يقال: إن ذلك
__________
(1) في المطبوعة: " قال: هي يحول بين المرء وقلبه حتى يتركه لا يعقل "، غير ما في المخطوطة كل التغيير، لأنه لم يفهمه، وهذا من أسوأ التصرف وأقبحه وأبعده من الأمانة. وإنما أراد أن " يحول " مضارعًا، بمعنى " حال " ماضيًا، ولذلك قال " حتى تركه لا يعقل ". فانظر أي فساد أدخله الناشر بلا ورع! .(13/471)
خبرٌ من الله عز وجل أنه أملك لقلوب عباده منهم، وأنه يحول بينهم وبينها إذا شاء، حتى لا يقدر ذو قلب أن يُدرك به شيئًا من إيمان أو كفر، أو أن يَعِي به شيئًا، أو أن يفهم، إلا بإذنه ومشيئته. وذلك أن "الحول بين الشيء والشيء"، إنما هو الحجز بينهما، وإذا حجز جل ثناؤه بين عبد وقلبه في شيء أن يدركه أو يفهمه، (1) لم يكن للعبد إلى إدراك ما قد منع الله قلبَه إدراكَه سبيلٌ.
وإذا كان ذلك معناه، دخل في ذلك قول من قال: "يحول بين المؤمن والكفر، وبين الكافر والإيمان"، وقول من قال: "يحول بينه وبين عقله"، وقول من قال: "يحول بينه وبين قلبه حتى لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه"، لأن الله عز وجل إذا حال بين عبد وقلبه، لم يفهم العبد بقلبه الذي قد حيل بينه وبينه ما مُنِع إدراكه به على ما بيَّنتُ.
غير أنه ينبغي أن يقال: إن الله عم بقوله: (ولعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه) ، الخبرَ عن أنه يحول بين العبد وقلبه، ولم يخصص من المعاني التي ذكرنا شيئًا دون شيء، والكلام محتمل كل هذه المعاني، فالخبر على العموم حتى يخصه ما يجب التسليم له.
* * *
وأما قوله: (وأنه إليه تحشرون) ، فإن معناه: واعلموا، أيها المؤمنون، أيضًا، مع العلم بأن الله يحول بين المرء وقلبه: أنّ الله الذي يقدر على قلوبكم، وهو أملك بها منكم، إليه مصيركم ومرجعكم في القيامة، (2) فيوفّيكم جزاء أعمالكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، فاتقوه وراقبوه فيما أمركم ونهاكم هو ورسوله أن تضيعوه، وأن لا تستجيبوا لرسوله إذا دعاكم لما يحييكم، فيوجب ذلك سَخَطَه، وتستحقوا به أليم عذابه حين تحشرون إليه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " المرء " فيما سلف 2: 446 \ 9: 430.
(2) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ص 23، تعليق: 1، والمراجع هناك.(13/472)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: "اتقوا"، أيها المؤمنون= "فتنة"، يقول: اختبارًا من الله يختبركم، وبلاء يبتليكم (1) = "لا تصيبن"، هذه الفتنة التي حذرتكموها (2) "الذين ظلموا"، وهم الذين فعلوا ما ليس لهم فعله، إما إجْرام أصابوها، وذنوب بينهم وبين الله ركبوها. يحذرهم جل ثناؤه أن يركبوا له معصية، أو يأتوا مأثمًا يستحقون بذلك منه عقوبة. (3)
* * *
وقيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم الذين عُنوا بها.
* ذكر من قال ذلك:
15903- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن إبراهيم قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن الحسن في قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، قال: نزلت في علي، وعثمان، وطلحة، والزبير، رحمة الله عليهم.
15904- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، قال قتادة: قال الزبير بن العوام: لقد نزلت وما نرى أحدًا منا يقع بها. ثم خُلِّفْنا في إصابتنا خاصة. (4)
__________
(1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص: 151، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف 2: 96، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الخصوص " فيما سلف 2: 471 \ 6: 517.
(4) في المطبوعة: " ثم خصتنا في إصابتنا خاصة "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو فيها غير منقوط، وظننت أن صواب نقطها ما أثبت. يعني: أنهم بقوا بعد الذين مضوا، فإذا هي في إصابتهم خاصة.(13/473)
15905 - حدثني المثنى قال، حدثنا زيد بن عوف أبو ربيعة قال، حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن: أن الزبير بن العوام قال: نزلت هذه الآية: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، وما نظننا أهلها، ونحن عُنِينا بها. (1)
15906 -. . . . قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن الصلت بن دينار، عن ابن صبهان قال: سمعت الزبير بن العوام يقول: قرأت هذه الآية زمانًا، وما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيون بها: (واتقوا فتنه لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) . (2)
15907- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصه) ، قال: هذه نزلت في أهل بدر خاصة، وأصابتهم يوم الجمل، فاقتتلوا.
15908- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن السدي: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة واعلموا أن الله شديد العقاب) ، قال: أصحاب الجمل.
15909- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منعم خاصة) ، قال: أمر الله المؤمنين أن لا يقرُّوا المنكر بين أظهرهم، فيعمَّهم الله بالعذاب.
__________
(1) الأثر: 15905 - " زيد بن عوف القطعي "، " أبو ربيعة ". ولقبه " فهد "، متكلم فيه، ضعيف، مضى برقم: 5623، 14215، 14218.
(2) الأثر: 15906 - " الصلت بن دينار الأزدي " " أبو شعيب "، " المجنون ". متروك لا يحتج بحديثه. مترجم في التهذيب. والكبير 2 / 2 / 305، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 437. وميزان الاعتدال 1: 468.
وابن صهبان" هو "عقبة بن صهبان الحداني الأزدي " تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 113/ 312، ولم أجدهم ذكروا له رواية عن الزبير بن العوام، ولكنه روى عن عثمان، وعياض بن حمار، وعبد الله بن مغفل، وأبي بكرة الثقفي وعائشة.(13/474)
15910-. . . . قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) ، قال: هى أيضًا لكم.
15911- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (واتقوا فتنه لا تصيبن الذين ظلموا منعم خاصة) ، قال: "الفتنة"، الضلالة.
15912- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم قال: قال عبد الله: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، إن الله يقول: (إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ) [سورة الأنفال: 28] ، فليستعذ بالله من مُضِلات الفتن. (1)
15913- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن قال: قال الزبير: لقد خُوِّفنا بها= يعني قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) .
* * *
واختلف أهل العربية في تأويل ذلك.
فقال بعض نحويي البصرة: (اتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا) ، قوله: "لا تصيبن"، ليس بجواب، ولكنه نهي بعد أمر، ولو كان جوابًا ما دخلت "النون".
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة قوله: (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا) ، أمرهم ثم نهاهم. وفيه طرَفٌ من الجزاء، (2) وإن كان نهيًا. قال: ومثله قوله:
__________
(1) الأثر: 15912 - انظر الأثر التالي رقم: 15934، ونصه: " فمن استعاذ منكم، فليستعذ ... "، وكأنه الصواب.
(2) في المطبوعة: " ومنكم ظرف من الجزاء "، فجاء الناشر بكلام غث لا معنى له وفي المخطوطة: " ومنه طرف "، وصواب قراءته ما أثبت، مطابقًا لما في معاني القرآن للفراء.(13/475)
(يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ) ، [سورة النمل: 18] ، أمرهم ثم نهاهم، وفيه تأويل الجزاء. (1)
وكأن معنى الكلام عنده: اتقوا فتنة، إن لم تتقوها أصابتكم.
* * *
وأما قوله: (واعلموا أن الله شديد العقاب) ، فإنه تحذير من الله، ووعيد لمن واقع الفتنة التي حذره إياها بقوله: (واتقوا فتنة) ، يقول: اعلموا، أيها المؤمنون، أن ربكم شديد عقابه لمن افتُتن بظلم نفسه، وخالف أمره، فأثم به. (2)
* * *
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 407.
(2) انظر تفسير " شديد العقاب " فيما سلف من فهارس اللغة (شدد) ، (عقب) .(13/476)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
القول في تأويل قوله: {وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) }
قال أبو جعفر: وهذا تذكيرٌ من الله عز وجل أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومناصحة. يقول: أطيعوا الله ورسوله، أيها المؤمنون، واستجيبوا له إذا دعاكم لما يحييكم، ولا تخالفوا أمرَه وإن أمركم بما فيه عليكم المشقة والشدة، فإن الله يهوِّنه عليكم بطاعتكم إياه، ويعجِّل لكم منه ما تحبون، كما فعل بكم إذ آمنتم به واتبعتموه وأنتم قليلٌ يستضعفكم الكفار فيفتنونكم عن دينكم، (1) وينالونكم بالمكروه في أنفسكم وأعراضكم، (2) تخافون منهم أن يتخطفوكم فيقتلوكم ويصطلموا
__________
(1) انظر تفسير " القليل " فيما سلف 1: 329 \ 8: 439، 577 \ 9: 331.
(2) انظر تفسير " المستضعف " فيما سلف 12: 542 \ 13: 76، 131.(13/476)
جميعكم (1) = (فآواكم) ، يقول: فجعل لكم مأوى تأوون إليه منهم (2) = (وأيدكم بنصره) ، يقول: وقواكم بنصره عليهم حتى قتلتم منهم من قتلتم ببدر (3) = (ورزقكم من الطيبات) ، يقول: وأطعمكم غنيمتهم حلالا طيبًا (4) = (لعلكم تشكرون) ، يقول: لكي تشكروه على ما رزقكم وأنعم به عليكم من ذلك وغيره من نعمه عندكم. (5)
* * *
واختلف أهل التأويل في "الناس" الذين عنوا بقوله: (أن يتخطفكم الناس) .
فقال بعضهم: كفار قريش.
* ذكر من قال ذلك.
15914- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس) ، قال: يعني بمكة، مع النبي صلى الله عليه وسلم ومن تبعه من قريش وحلفائها ومواليها قبل الهجرة.
15915- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الكلبي= أو قتادة أو كلاهما (6) = (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون) أنها نزلت في يوم بدر، كانوا يومئذ يخافون أن يتخطفهم الناس، فآواهم الله وأيدهم بنصره.
__________
(1) انظر تفسير " الخطف " فيما سلف 1: 357.
(2) وانظر تفسير " المأوى " فيما سلف ص: 441، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " أيد " فيما سلف 2: 319، 320 \ 5: 379 \ 6: 242 \ 11: 213، 214.
(4) انظر تفسير " الرزق " فيما سلف من فهارس اللغة (رزق) .
= و " الطيبات " فيما سلف منها (طيب) .
(5) في المطبوعة: " لكي تشكروا "، وفي المخطوطة: " لكي تشكرون "، ورجحت ما أثبت.
(6) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " أو كلاهما "، وهو جائز.(13/477)
15916- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، بنحوه.
* * *
وقال آخرون: بل عُني به غيرُ قريش.
* ذكر من قال ذلك.
15917- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرني أبي قال، سمعت وهب بن منبه يقول في قوله عز وجل: (تخافون أن يتخطفكم الناس) ، قال: فارس.
15918-. . . . قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول، وقرأ: (واذكروا إن أنتم قليل مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس) ، و"الناس" إذ ذاك، فارس والروم.
15919-. . . . قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (واذكروا إذ أنتم قليل مستضعفون في الأرض) ، قال: كان هذا الحي من العرب أذلَّ الناس ذلا وأشقاهُ عيشًا، وأجوعَه بطونًا، (1) وأعراه جلودًا، وأبينَه ضلالا [مكعومين، على رأس حجر، بين الأسدين فارس والروم، ولا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه] . (2) من عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات منهم رُدِّي في النار، يوكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشرَّ منهم منزلا (3) حتى جاء الله بالإسلام،
__________
(1) في المطبوعة: " بطونًا " وأثبت ما في المخطوطة.
(2) هذه الجملة بين القوسين لا بد منها، فإن الترجمة أن فارس والروم هما المعنيان بهذا. وقد أثبتها من رواية الطبري قبل، كما سيأتي في التخريج. وإغفال ذكرها في الخبر، يوقع في اللبس والغموض.
(3) قوله: " أشر منهم منزلا " لم ترد في الخبر الماضي، وكان مكانها: " والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض كانوا أصغر حظًا، وأدق فيها شأنًا، منهم ".(13/478)
فمكن به في البلاد، ووسَّع به في الرزق، وجعلكم به ملوكًا على رقاب الناس. فبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعمٌ يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله تبارك وتعالى. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: "عُني بذلك مشركو قريش"، لأن المسلمين لم يكونوا يخافون على أنفسهم قبل الهجرة من غيرهم، لأنهم كانوا أدنى الكفار منهم إليهم، وأشدَّهم عليهم يومئذ، مع كثرة عددهم، وقلة عدد المسلمين.
* * *
وأما قوله: (فآواكم) ، فإنه يعني: آواكم المدينة،
وكذلك قوله: (وأيدكم بنصره) ، بالأنصار.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15920- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فآواكم) ، قال: إلى الأنصار بالمدينة= (وأيدكم بنصره) ، وهؤلاء أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم، أيدهم بنصره يوم بدر.
15921- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: (فآواكم وأيدكم بنصره ورزقكم من الطيبات) ، يعني بالمدينة.
__________
(1) الأثر: 15919 - مضى هذا الخبر بإسناده مطولا فيما سلف رقم: 7591، ومنه اجتلبت الزيادة والتصحيح.(13/479)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله من أصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله= (لا تخونوا الله) ، وخيانتهم الله ورسوله، كانت بإظهار من أظهر منهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين الإيمانَ في الظاهر والنصيحةَ، وهو يستسرُّ الكفر والغش لهم في الباطن، يدلُّون المشركين على عورتهم، ويخبرونهم بما خفى عنهم من خبرهم. (1)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية، وفي السبب الذي نزلت فيه.
فقال بعضهم: نزلت في منافق كتب إلى أبي سفيان يطلعه على سرِّ المسلمين.
* ذكر من قال ذلك.
15922- حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا شبابة بن سوار قال، حدثنا محمد بن المُحْرِم قال، لقيت عطاء بن أبي رباح فحدثني قال، حدثني جابر بن عبد الله: أن أبا سفيان خرج من مكة، فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه واكتموا! " قال: فكتب رجل من المنافقين إلى أبي سفيان: "إن محمدًا يريدكم، فخذوا حذركم"! فأنزل الله عز وحل: (لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم) . (2)
__________
(1) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف 9: 190.
(2) الأثر: 15922 - " القاسم بن بشر بن معروف "، شيخ الطبري، مضى برقم 10509، 10531.
و" شبابة بن سوار الفزاري "، ثقة، مضى مرارًا: 37، 6701، 10051، وغيرها.
و" محمد المحرم "، هو: " محمد بن عمر المحرم "، وقد ترجم صاحب لسان الميزان لثلاثة: " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير المكي " (ج 5: 216) ، و " محمد بن عمر المحرم " ج (5: 320،) و " محمد المحرم " (ج 5: 439) ، وقال هم واحد، وأن " محمد بن عمر " صوابه: " محمد ابن عمير " منسوبًا إلى جده. و " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي "، مضى برقم: 7484.
وترجم البخاري في الكبير 1 \ 1 \ 142 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي المكي "، عن عطاء، وليس بذاك الثقة. ولم يذكر أنه " محمد المحرم ".
ثم ترجم أيضًا في الكبير 1 \ 1 \ 248 " محمد المحرم "، عن عطاء والحسن، منكر الحديث. فكأنهما عنده رجلان.
وترجم ابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 300 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي "، وضعفه، ولم يذكر أنه " محمد المحرم ".
ثم ترجم " محمد بن عمر المحرم "، روى عن عطاء، روى عنه شبابة، وقال: " ضعيف الحديث، واهي الحديث "، ولم يذكر أنه الذي قبله.
وترجم الذهبي في ميزان الاعتدال 3: 77 " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي "، ويقال له: " محمد المحرم ".
ثم ترجم في الميزان 3: 113 " محمد بن عمر المحرم " عن عطاء، وعنه شبابة، وضعفه، ولم يذكر أنه الذي قبله.
وترجم عبد الغني بن سعيد في والمؤتلف والمختلف: 117، " محمد بن عبيد بن عمير المحرم "، عن: " عطاء بن أبي رباح ".
والظاهر أن الذي قاله الحافظ في لسان الميزان، من أن هؤلاء جميعًا واحد، هو الصواب إن شاء الله، من أنهم جميعًا رجل واحد.
وكان في المطبوعة: " محمد بن المحرم "، غير ما كان في المخطوطة بزيادة " بن " بينهما.
وهذا خبر ضعيف جدًا، لضعف " محمد المحرم "، وهو متروك الحديث. وقد ذكر الخبر ابن كثير في تفسيره 4: 43، 44، ثم قال: " هذا الحديث غريب جدًا، وفي سنده وسياقه نظر ".(13/480)
وقال آخرون: بل نزلت في أبي لبابة، في الذي كان من أمره وأمر بنى قريظة. (1)
* ذكر من قال ذلك.
15923 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان، عن معمر، عن الزهري، قوله: "لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم"، قال: نزلت في أبي لبابة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأشار إلى حلقه: إنه الذَّبح= قال الزهري: فقال، أبو لبابة: لا والله، لا أذوق طعامًا ولا شرابًا حتى أموتَ
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " في أبي لبابة، الذي كان من أمره "، والسياق يقتضي زيادة " في " كما أثبتها.(13/481)
أو يتوب الله عليَّ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا حتى خر مغشيًّا عليه، ثم تاب الله عليه. فقيل له: يا أبا لبابة، قد تِيبَ عليك! قال: والله لا أحُلُّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يَحُلّني. فجاءه فحله بيده. ثم قال أبو لبابة: إن من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت بها الذنب، وأن أنخلع من مالي! قال: "يجزيك الثلث أن تصدَّق به. (1)
15924 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال: سمعت عبد الله بن أبي قتادة يقول: نزلت: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون" في أبي لبابة. (2)
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في شأن عثمان رحمة الله عليه.
* ذكر من قال ذلك.
15925 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يونس بن الحارث الطائفي (3) قال، حدثنا محمد بن عبيد الله بن عون الثقفي، عن المغيرة بن شعبة قال: نزلت هذه الآية في قتل عثمان رحمة الله عليه: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول" الآية.
* * *
__________
(1) الأثر: 15923 - خبر أبي لبابة بن عبد المنذر الأنصاري، حين فعل ذلك يوم بنى قريظة، وعرف أنه خان الله ورسوله، في سيرة ابن هشام 3: 247، 248، وفي غيره. ثم إنه لما عرف ذلك ارتبط في سارية المسجد، وقال: " لا أبرح مكاني هذا حتى يتوب الله علي مما صنعت ".
ورواه الواحدي في أسباب النزول: 175، وروى بعضه مالك في الموطأ: 481.
(2) الأثر: 15924 - " عبد الله بن أبي قتادة الأنصاري ". تابعي ثقة، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب.
(3) الأثر: 15925 - " يونس بن الحارث الطائفي الثقفي "، ضعيف، إلا أنه لا يتهم بالكذب، وقال ابن معين: " كنا نضعفه ضعفًا شديدًا ". وقال أحمد: " أحاديثه مضطربة ".
مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 409، ولم يذكر فيه جرحًا، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 237، وضعفه.
و" محمد بن عبيد الله بن سعيد "، " أبو عون الثقفي " ثقة، مضى برقم: 7595، 13965، 15659.
وكان في المطبوعة: " محمد بن عبد الله بن عون الثقفي "، ومثله في المخطوطة. إلا أنه قد يقرأ " محمد بن عبيد الله "، والصواب ما أثبت، لأن يونس بن الحارث الطائفي، يروي عن أبي عون الثقفي، و " أبو عون " اسم جده " سعيد " لا " عون ".
و" أبو عون الثقفي "، لا أظنه روى عن المغيرة بن شعبة، فالمغيرة مات سنة خمسين، ويقال قبلها. والمذكور في ترجمته أنه يروي عن " عفان بن المغيرة بن شعبة "، فهذا إسناد منقطع على الأرجح عندي.
وقوله: " نزلت في قتل عثمان "، يعني أن حكمها يشمل فعل عثمان رضي الله عنه، فإنه قتل خيانة لله ولرسوله، وخيانة للأمانة، إذ نقض القتلة بيعة له في أعناقهم، رحم الله عثمان وغفر له.(13/482)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله نهى المؤمنين عن خيانته وخيانة رسوله، وخيانة أمانته= وجائز أن تكون نزلت في أبي لبابة= وجائز أن تكون نزلت في غيره، ولا خبر عندنا بأيِّ ذلك كان يجب التسليم له بصحته.
فمعنى الآية وتأويلها ما قدمنا ذكره.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15926 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول" قال: نهاكم أن تخونوا الله والرسول، كما صنع المنافقون.
15927 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط. عن السدي: "لا تخونوا الله والرسول" الآية، قال: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين.
* * *
واختلفوا في تأويل قوله: "وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون".
فقال بعضهم: لا تخونوا الله والرسول، فإن ذلك خيانة لأمانتكم وهلاك لها.(13/483)
* ذكر من قال ذلك.
15928 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم"، فإنهم إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم.
15929 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون "، أي لا تظهروا لله من الحق ما يرضى به منكم، ثم تخالفوه في السرِّ إلى غيره، فإن ذلك هلاك لأماناتكم، وخيانة لأنفسكم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل قوله: "وتخونوا أماناتكم"، في موضع نصب على الصرف (2)
كما قال الشاعر: (3)
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ عارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (4)
ويروى: "وتأتي مثله". (5)
* * *
وقال آخرون: معناه: لا تخونوا الله والرسول، ولا تخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون.
* ذكر من قال ذلك.
15930 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
__________
(1) الأثر: 15929 - سيرة ابن هشام 2: 325، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15873.
(2) في المطبوعة: " على الظرف "، وفي المخطوطة: " على الطرف "، والصواب ما أثبت. وانظر معنى " الصرف " فيما سلف من فهارس المصطلحات.
وانظر معاني القرآن للفراء 1: 408.
(3) هو المتوكل الليثي، وينسب لغيره.
(4) سلف البيت، وتخريجه 1: 569 \ 3: 552.
(5) يعني على غير النصب.(13/484)
عن علي، عن ابن عباس قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم"، يقول: "لا تخونوا": يعني لا تنقصُوها.
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويلُ: لا تخونوا الله والرسول، ولا تخونوا أماناتكم.
واختلف أهل التأويل في معنى: الأمانة، التي ذكرها الله في قوله: "وتخونوا أماناتكم".
فقال بعضهم: هي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله.
* ذكر من قال ذلك.
15931- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وتخونوا أماناتكم"، و"الأمانة": الأعمال التي أمِن الله عليها العباد= يعني: الفريضة. يقول: "لا تخونوا"، يعني: لا تنقصوها.
15932 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله"، يقول: بترك فرائضه= "والرسول"، يقول: بترك سننه، وارتكاب معصيته= قال: وقال مرة أخرى: "لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم"، والأمانة: الأعمال، ثم ذكر نحو حديث المثنى.
* * *
وقال آخرون: معنى "الأمانات"، ههنا، الدِّين.
* ذكر من قال ذلك.
15933 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وتخونوا أماناتكم" دينكم= "وأنتم تعلمون"، قال: قد فعل ذلك(13/485)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
المنافقون، وهم يعلمون أنهم كفار، يظهرون الإيمان. وقرأ: وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى [سورة النساء: 142] . قال: هؤلاء المنافقون، أمنهم الله ورسوله على دينه، فخانوا، أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذن: يا أيها الذين آمنوا، لا تنقصوا الله حقوقه عليكم من فرائضه، ولا رسوله من واجب طاعته عليكم، ولكن أطيعوهما فيما أمراكم به ونهياكم عنه، لا تنقصوهما= "وتخونوا أماناتكم"، وتنقصوا أديانكم، وواجب أعمالكم، ولازمَها لكم= "وأنتم تعلمون"، أنها لازمة عليكم، وواجبة بالحجج التي قد ثبتت لله عليكم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين: واعلموا، أيها المؤمنون، أنما أموالكم التي خوَّلكموها الله، وأولادكم التي وهبها الله لكم، اختبارٌ وبلاء، أعطاكموها ليختبركم بها ويبتليكم، لينظر كيف أنتم عاملون من أداء حق الله عليكم فيها، والانتهاء إلى أمره ونهيه فيها. (1) = "وأن الله عنده أجر عظيم"، يقول: واعلموا أن الله عنده خيرٌ وثواب عظيم، على طاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم، في أمولكم وأولادكم التي اختبركم بها في الدنيا. وأطيعوا الله فيما كلفكم فيها، تنالوا به الجزيل من ثوابه في معادكم. (2)
15934 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا المسعودي،
__________
(1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص: 486، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف من فهارس اللغة (أجر) .(13/486)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
عن القاسم، عن عبد الرحمن، عن ابن مسعود، في قوله: "إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، قال: ما منكم من أحد إلا وهو مشتمل على فتنة، فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مُضِلات الفتن. (1)
15935 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "واعلموا إنما أموالكم وأولادكم فتنة"، قال: "فتنة"، الاختبار، اختبارُهم. وقرأ: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [سورة الأنبياء: 35] .
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدّقوا الله ورسوله، إن تتقوا الله بطاعته وأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، وترك خيانته وخيانة رسوله وخيانة أماناتكم= يجعل لكم فرقانًا"، يقول: يجعل لكم فصلا وفرْقا بين حقكم وباطل من يبغيكم السوء من أعدائكم المشركين، بنصره إياكم عليهم، وإعطائكم الظفر بهم = (2) "ويكفر عنكم سيئاتكم"، يقول: ويمحو عنكم ما سلف من ذنوبكم بينكم وبينه = (3) "ويغفر لكم"، يقول: ويغطيها فيسترها عليكم، فلا يؤاخذكم بها= (4) "والله ذو الفضل العظيم"، يقول: والله الذي يفعل ذلك بكم، له
__________
(1) الأثر: 15934 - انظر الأثر السالف رقم: 15912، والتعليق عليه.
(2) انظر تفسير " الفرقان " فيما سلف 1: 98، 99 \ 3: 448 \ 6: 162، 163.
(3) انظر تفسير " التكفير " فيما سلف من فهارس اللغة (كفر) .
= وتفسير " السيئات " فيما سلف من فهارس (سوأ) .
(4) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) .(13/487)
الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه بفعله ذلك وفعل أمثاله. وإنّ فعله جزاءٌ منه لعبده على طاعته إياه، لأنه الموفق عبده لطاعته التي اكتسبها، حتى استحقّ من ربه الجزاء الذي وعدَه عليها. (1)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في العبارة عن تأويل قوله: "يجعل لكم فرقانا".
فقال بعضهم: مخرجًا.
* * *
وقال بعضهم: نجاة.
* * *
وقال بعضهم: فصلا.
* * *
= وكل ذلك متقارب المعنى، وإن اختلف العبارات عنها، وقد بينت صحة ذلك فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
ذكر من قال: معناه: المخرج.
15936 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا" قال: مخرجًا.
15937-......... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، قال: مخرجًا.
15938- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام عن عنبسة، عن جابر، عن مجاهد: "فرقانا"، مخرجًا.
15939- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد "فرقانا"، قال: مخرجًا في الدنيا والآخرة.
__________
(1) انظر تفسير " الفضل "، فيما سلف فهارس اللغة (فصل) .
(2) يعني ما سلف 1: 98، 99.(13/488)
15940- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
15941- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فرقانًا"، قال: "الفرقان" المخرج.
15942 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "فرقانا"، يقول: مخرجًا.
15943- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد: "فرقانا"، مخرجًا.
15944- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا زائدة، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
15945 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: "فرقانا"، قال: مخرجًا.
15946- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، سمعت عبيدا يقول، سمعت الضحاك يقول: "فرقانًا"، مخرجًا.
15947- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
15948 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد، عن زهير، عن جابر، عن عكرمة، قال: "الفرقان"، المخرج.
* * *
* ذكر من قال: معناه النجاة.
15949 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن جابر، عن عكرمة: "إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، قال: نجاة.
15950 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل،(13/489)
عن رجل، عن عكرمة ومجاهد، في قوله: "يجعل لكم فرقانًا"، قال عكرمة: المخرج= وقال مجاهد: النجاة.
15951- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "يجعل لكم فرقانًا"، قال: نجاة.
15952 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "يجعل لكم فرقانًا"، يقول: يجعل لكم نجاة.
15953 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "يجعل لكم فرقانًا"، أي: نجاة.
* * *
* ذكر من قال فصلا.
15954 -...................................... "يا أيها الذين آمنوا إذ تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، قال: فرقان يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل، حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان. (1)
15955 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "يا أيها الذين آمنوا إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانًا"، أي: فصلا بين الحق والباطل، ليظهر به حقكم، ويخفي به باطل من خالفكم. (2)
__________
(1) الأثر: 15954 - إسناد هذا الخبر ساقط في المخطوطة، جعل مكانه بياضًا نحوًا من سطر ونصف، فجاء ناشر المطبوعة ووصل الكلام دون أن يشير إلى ذلك البياض. وظاهر أنه خبر قائم برأسه، كما وضعته.
(2) الأثر: 15955 - سيرة ابن هشام 2: 325، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15929. وكان في المطبوعة: " يظهر " بغير لام، وهي في المخطوطة تقرأ هكذا وهكذا، وأثبت نص ما في السيرة، باللام في أولها.(13/490)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
و"الفرقان" في كلام العرب، مصدرٌ من قولهم: "فرقت بين الشيء والشيء أفرُق بينهما فَرْقًا وفُرْقانًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، مذكِّرَه نعمه عليه: واذكر، يا محمد، إذ يمكر بك الذين كفروا من مشركي قومك كي يثبتوك. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ليثبتوك".
فقال بعضهم: معناه ليقيِّدوك.
* ذكر من قال ذلك:
15956- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، يعني: ليوثقوك.
15957 -............ قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ليثبتوك"، ليوثِقوك.
15958 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، الآية، يقول: ليشدُّوك
__________
(1) انظر ما سلف 1: 98، 99 \ 3: 448 \ 6: 162، 163.
(2) انظر تفسير " المكر " فيما سلف 12: 95، 97، 579 \ 13: 33(13/491)
وَثاقًا. وأرادوا بذلك نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وهو يومئذ بمكة.
15959 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ومقسم قالا قالوا: "أوثقوه بالوثاق".
15960 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ليثبتوك"، قال: الإثبات، هو الحبس والوَثَاق.
* * *
وقال آخرون: بل معناه الحبس.
* ذكر من قال ذلك.
15961 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء عن قوله: "ليثبتوك"، قال: يسجنوك= وقالها عبد الله بن كثير.
15962 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قالوا: "اسجنوه".
* * *
وقال آخرون: بل معناه: ليسحروك.
* ذكر من قال ذلك.
15963 - حدثني محمد بن إسماعيل البصري المعروف بالوساوسي قال، حدثنا عبد المجيد بن أبي روّاد، عن ابن جريج، عن عطاء، عن عبيد بن عمير، عن المطلب بن أبي وَداعة: أن أبا طالب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر به قومك؟ قال: يريدون أن يسحروني ويقتلوني ويخرجوني! فقال: من أخبرك بهذا؟ قال: ربي! قال: نعم الرب ربك، فاستوص به خيرًا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنا أستوصي به! بل هو يستوصي بي خيرًا"! فنزلت: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك"، الآية. (1)
__________
(1) الأثر: 15963 - " محمد بن إسماعيل البصري "، المعروف ب " الوساوسي " شيخ الطبري، لم أجد النص على أنه "الوساوسي "، والذي يروى عنه أبو جعفر في تاريخه، في مواضع " محمد بن إسماعيل الضراري "، وهو " محمد بن إسماعيل بن أبي ضرار الرازي "، صدوق. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 190، وذكر في التهذيب أن أبا جعفر محمد بن جرير الطبري، روى عنه، ولم يذكر أنه يعرف بالوساوسي.
وترجم ابن أبي حاتم لأخيه: " أحمد بن إسماعيل بن أبي ضرار الرازي "، 1 \ 1 \ 41، فوجدت في لباب الأنساب 2: 273: " الوساوسي، عرف بها " أحمد بن إسماعيل الوساوسي البصري "، فدل هذا على ترجيح أن يكون " محمد بن إسماعيل بن أبي ضرار " يقال له " الوساوسي " أيضًا.
و" عبد المجيد بن أبي رواد "، هو " عبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد الأزدي "، روى عن ابن جريح وغيره. وثقه أحمد وابن معين. وغيرهما. وضعفه أبو حاتم وابن سعد. ومنهم من قال هو ثبت في حديثه عن ابن جريج، ومنهم من قال: روى عن ابن جريج أحاديث لا يتابع عليها. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 64.
" وعبيد بن عمير بن قتادة الليثي " ثقة، مضى برقم: 9180، 9181، 9189، 15621.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: " عبيد بن عمير بن المطلب بن أبي وداعة "، وهو خطأ لا شك فيه.
و" المطلب بن أبي وداعة السهمي القرشي "، له صحبة - مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 7، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 385، ولم يذكر لعبيد بن عمير رواية عنه.
وهذا الخبر رواه ابن كثير في تفسيره 4: 46، 47، وقال: " وذكر أبي طالب في هذا، غريب جدًا، بل منكر لأن هذه الآية مدنية. ثم إن هذه القصة، واجتماع قريش على هذا الائتمار والمشاورة على الإثبات أو النفي أو القتل، إنما كانت ليلة الهجرة سواء. وكان ذلك بعد موت أبي طالب بنحو من ثلاث سنين، لما تمكنوا منه واجترأوا عليه بسبب موت عمه أبي طالب، الذي كان يحوطه وينصره ويقوم بأعبائه ".
فلو صح ما قاله ابن كثير، كان هذا الخبر من الأخبار التي دعتهم إلى أن يقولوا في " عبد المجيد ابن أبي رواد " أنه روى عن ابن جريج أحاديث لا يتابع عليها. ومع ذلك فإن حجاجًا قد روى عنه مثل رواية عبد المجيد. انظر التعليق على الأثر التالي، فإني اذهب مذهبًا غير مذهب ابن كثير في الخبر. وانظر أيضًا رقم: 15976، فإن ابن جريج سيقول: إن هذه الآية مكية، لا مدنية.(13/492)
15964 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول: لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يثبتوه أو يخرجوه، قال له أبو طالب: هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال: نعم! قال: فأخبره، قال: من أخبرك؟ قال: ربي! قال: نعم الرب ربك، استوص به خيرًا! قال: "أنا أستوصي به، أو هو يستوصي بي؟ (1)
__________
(1) الأثر: 15964 - انظر التعليق على الأثر السالف. سلف ما قاله ابن كثير في نقد هذا الخبر. والذي دفعه أن يقول ما قال، من انه كان ليلة الهجرة، ما رواه ابن جرير في الأثر الذي يليه، والذي ترجم له بقوله: " وكأن معنى مكر قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم به ليثبتوه، كما حدثني ... " وساق خبر ائتمارهم به ليلة الهجرة.
ولكن جائز أن يكون الخبران الأولان، في شأن آخر، وليلة أخرى، بل أكاد أقطع أن الخبر الذي رواه ابن جريج، لا علاقة له بأمر الهجرة، وأن ابن كثير تابع للطبري فيما ظنه ظنًا وذلك أن ابن إسحاق وغيره، رووا أن أشراف قريش اجتمعوا يوما في الحجر، فذكروا رسول الله، وزعموا أنهم صبروا منه على أمر عظيم. فبينا هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله، فأقبل يمشي حتى استلم الركن، ثم مر بهم طائفًا بالبيت، فغمزوه ببعض القول. فعرف الغضب في وجهه صلى الله عليه وسلم. فلما مر بهم الثانية، غمزوه بمثلها، ثم مر الثالثة، ففعلوا فعلتهم، فوقف ثم قال: " أتسمعون يا معشر قريش، أما والذي نفسي بيده، لقد جئتكم بالذبح ". فاستكانوا ورفأوه بأحسن القول رهبة ورغبة. فلما كان الغد، اجتمعوا في الحجر فقال بعضهم لبعض: " ذكرتم ما بلغ منكم وما بلغكم عنه، حتى إذا باداكم بما تكرهون تركتموه ". فبينا هم كذلك، طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوثبوا إليه رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: " أنت الذي تقول كذا وكذا؟ "، لما كان من عيب آلهتهم، فيقول: " نعم، أنا الذي أقول ذلك "، فأخذ بعضهم بمجمع ردائه، فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول: " أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله "! (سيرة ابن هشام 1: 309، 310) ، وانظر الخبر التالي رقم: 15974، والتعليق عليه.
وكان هذا قبل الهجرة بزمان طويل، في حياة أبي طالب. فكأن هذا الخبر، هو الذي قال عبيد بن عمير في روايته عن المطلب بن أبي وداعة أنه ائتمار قومه به. فإذا صح ذلك، لم يكن لما قال ابن كثير وجه، ولصح هذا الخبر لصحة إسناده.(13/493)
وكأنّ معنى مكر قوم رسول الله صلى الله عليه وسلم به ليثبتوه، كما:-
15965 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس= قال وحدثني الكلبي، عن زاذان مولى أم هانئ، عن ابن عباس: أن نفرًا من قريش من أشراف كل قبيلة، اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل، (1) فلما رأوه قالوا: من أنت؟ قال شيخ من نجد، سمعت أنكم اجتمعتم، فأردت أن أحضركم، ولن يعدمكم مني رأيٌ ونصحٌ. (2) قالوا: أجل، ادخل! فدخل معهم، فقال: انظروا إلى شأن هذا الرجل، (3) والله
__________
(1) في المخطوطة: " في صورة جليل "، وفوق " جليل " حرف (ط) دليلا على الخطأ، والصواب ما في المطبوعة، مطابقًا لما في سيرة ابن هشام.
(2) " لن يعدمكم "، أي: لا يعدوكم ويخطئكم مني رأي ونصح.
(3) في المطبوعة: " في شأن "، وأثبت ما في المخطوطة.(13/494)
ليوشكن أن يُواثبكم في أموركم بأمره. (1) قال: فقال قائل: احبسوه في وَثاق، ثم تربصوا به ريبَ المنون، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء، زهير والنابغة، إنما هو كأحدهم! قال: فصرخ عدوُّ الله الشيخ النجدي فقال: والله، ما هذا لكم برأي! (2) والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم! قالوا: فانظروا في غير هذا. قال: فقال قائل: أخرجوه من بين أظهركم تستريحوا منه، فإنه إذا خرج لن يضركم ما صنع وأين وقع، إذا غاب عنكم أذاه واسترحتم، وكان أمره في غيركم. فقال الشيخ النجدي: والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حلاوة قوله، وطلاقة لسانه، وأخذَ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم، ثم استعرَض العرب، لتجتمعن عليكم، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم! قالوا: صدق والله! فانظروا رأيًا غير هذا! قال: فقال أبو جهل: والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد، ما أرى غيره! قالوا: وما هو؟ قال: نأخذ من كل قبيلة غلامًا وَسيطا شابًّا نَهْدًا، (3) ثم يعطى كل غلام منهم سيفًا صارمًا، ثم يضربوه ضربة رجل واحد، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بني هاشم يقدرون على حرب قريش كلها، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل، (4) واسترحنا وقطعنا عنا أذاه. فقال الشيخ النجدي: هذا والله الرأي، القولُ ما قال الفتى، لا أرى غيره! قال: فتفرقوا على ذلك وهم مُجْمعون له، قال: فأتى جبريل النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه تلك الليلة، وأذِن الله له عند ذلك بالخروج، وأنزل عليه بعد قدومه المدينة "الأنفال"، يذكره نعمه عليه، وبلاءه عنده: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، وأنزل في قولهم: "تربصوا به ريبَ المنون" حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء": أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ، [سورة الطور: 30] . وكان يسمى ذلك اليوم: "يوم الزحمة" للذي اجتمعوا عليه من الرأي. (5)
15966 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى (6) قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة ومقسم، في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك" قالا تشاوروا فيه ليلة وهم بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبع فأوثقوه بالوثاق. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل اخرجوه. فلما أصبحوا رأوا عليًّا رحمة الله عليه، فردَّ الله مكرهم.
15967 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عيد الرزاق قال، أخبرني أبي، عن عكرمة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر إلى الغار، أمر عليَّ بن أبي طالب، فنام في مضجعه، فبات المشركون يحرسونه، فإذا رأوه نائمًا حسبوا أنه النبي صلى الله عليه وسلم فتركوه. فلما أصبحوا ثاروا إليه وهم يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا هم بعليّ، فقالوا: أين صاحبك؟ قال:
__________
(1) في المطبوعة: " أن يواتيكم في أموركم "، وهو لا معنى له، وأثبت ما في المخطوطة، وهي غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) في المطبوعة: " رأي " بغير باء، والصواب من المخطوطة.
(3) " الوسيط ": حسيبًا في قومه، من أكرمهم حسبًا ونسبًا ومجدًا. وكان في المطبوعة " وسطا ً "، والصواب ما في المخطوطة. و " غلام نهد ": كريم، ينهض إلى معالي الأمور. واصل " النهد ": المرتفع.
(4) " العقل "، الدية.
(5) الأثر: 15965 - سيرة ابن هشام 2: 124 - 128، وإسناد هناك " قال ابن إسحاق، فحدثني من لا أتهم من أصحابنا، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد بن جبير أبي الحجاج، وغيره ممن لا أتهم، عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "، ثم ساق الخبر بغير هذا اللفظ.
ومما اعترض به على هذا الخبر أن آية " سورة الطور "، آية مكية، نزلت قبل الهجرة بزمان، وسياق ابن إسحاق للآية بعد الخبر، يوهم أنها نزلت ليلة الهجرة، أو بعد الهجرة، وهذا لا يكاد يصح.
(6) سقط من المطبوعة: " محمد " وكتب " بن عبد الأعلى "، وهي ثابتة في المخطوطة.(13/495)
لا أدري! قال: فركبوا الصعب والذَّلول في طلبه. (1)
15968 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر قال، أخبرني عثمان الجزريّ: أن مقسمًا مولى ابن عباس أخبره، عن ابن عباس في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، قال: تشاورت قريش ليلة بمكة، فقال بعضهم: إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق= يريدون النبي صلى الله عليه وسلم. وقال بعضهم: بل اقتلوه. وقال بعضهم: بل أخرجوه. فأطلع الله نبيه على ذلك، فبات على رحمه الله على فراش النبي صلى الله عليه وسلم تلك الليلة، (2) وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًّا يحسبون أنه النبي صلى الله عليه وسلم. فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًّا رحمة الله عليه، ردّ الله مكرهم، فقالوا: أين صاحبك؟ قال: لا أدري! فاقتصُّوا أثره، فلما بلغوا الجبل ومرُّوا بالغار، رأوا على بابه نسج العنكبوت، قالوا: لو دخل ههنا لم يكن نَسْجٌ على بابه! فمكث فيه ثلاثا. (3)
__________
(1) " الصعب " من الإبل، هو الذي لم يركب قط، لأنه لا ينقاد لراكبه، ونقيضه " الذلول "، وهو السهل المنقاد. مثل لركوب كل مركب في طلب ما يريده المرء، سهل المركب أو صعب.
(2) في المخطوطة، سقط من الناسخ " الليلة "، وزادتها المطبوعة.
(3) الأثر: 15968 - " عثمان الجزري "، يقال له: " عثمان المشاهد ". روى عن مقسم، روى عنه معمر، والنعمان بن راشد. قال أبو حاتم: " لا أعلم روى عنه غير معمر، والنعمان ". وسئل عنه أحمد فقال: " روى أحاديث مناكير، زعموا أنه ذهب كتابه ". مترجم في ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 174.
وكان في المطبوعة: " عثمان الجريري "، والمخطوطة، كما أثبتها، غير أنه غير منقوط.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده برقم: 3251، وقال أخي: " في إسناده نظر، من أجل عثمان الجزري، كالإسناد 2562 "، وقد استظهر هناك أن " عثمان الجزري " هو " عثمان بن ساج "، ولكن ما قاله ابن أبي حاتم، يرجح أن " عثمان الجزري "، غير " عثمان بن ساج ".
وقد وجدت بعد في مجمع الزوائد 7: 27، هذا الخبر، بنحوه ثم قال: " رواه أحمد والطبراني، وفيه " عثمان بن عمرو الجزري "، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره، وبقية رجاله رجال الصحيح ".
ولا أزال أشك في أن " عثمان الجزري "، غير " عثمان بن عمرو بن ساج "(13/497)
15969 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، قال: اجتمعت مشيخة قريش يتشاورون في النبيّ صلى الله عليه وسلم بعد ما أسلمت الأنصار، وفَرِقوا أن يتعالى أمره إذا وجد ملجأ لجأ إليه. (1) فجاء إبليس في صورة رجل من أهل نجد، فدخل معهم في دار الندوة، فلما أنكروه قالوا: من أنت؟ فوالله ما كل قومنا أعلمناهم مجلسنا هذا! قال: أنا رجل من أهل نجد، أسمع من حديثكم وأشير عليكم! فاستحيَوْا، فخلَّوا عنه. فقال بعضهم: خذوا محمدًا إذا اضطجع على فراشه، (2) فاجعلوه في بيت نتربص به ريبَ المنون = و"الريب"، هو الموت، و"المنون"، هو الدهر = قال إبليس: بئسما قلت! تجعلونه في بيت، فيأتي أصحابه فيخرجونه، فيكون بينكم قتال! قالوا: صدق الشيخ! قال: أخرجوه من قريتكم! قال إبليس: بئسما قلت! تخرجونه من قريتكم، وقد أفسد سفهاءكم، فيأتي قرية أخرى فيفسد سفهاءهم، فيأتيكم بالخيل والرجال! قالوا: صدق الشيخ! قال أبو جهل= وكان أولاهم بطاعة إبليس=: بل نعمد إلى كل بطن من بطون قريش، فنخرج منهم رجلا فنعطيهم السلاح، فيشدُّون على محمد جميعًا فيضربونه ضربة رجل واحد، فلا يستطيع بنو عبد المطلب أن يقتلوا قريشًا، فليس لهم إلا الدية! قال إبليس: صدق، وهذا الفتى هو أجودكم رأيًا! فقاموا على ذلك. وأخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم، فنام على الفراش، وجعلوا عليه العيون. فلما كان في بعض الليل، انطلق هو وأبو بكر إلى الغار، ونام علي بن أبي طالب على الفراش، فذلك حين يقول الله: "ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك"= و"الإثبات"،: هو الحبس والوثاق= وهو قوله: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرْضِ لِيُخْرِجُوكَ
__________
(1) " فرقوا "، خافوا وفزعوا.
(2) في المطبوعة: " إذا اصطبح على فراشه "، لا أدري من أين جاء بها! .(13/498)
مِنْهَا وَإِذًا لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلا قَلِيلا [سورة الإسراء: 76] ، يقول: يهلكهم.
فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، لقيه عمر فقال له: ما فعل القوم؟ وهو يرى أنهم قد أهلكوا حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، وكذلك كان يُصنع بالأمم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أخِّروا بالقتال".
15970 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "ليثبتوك أو يقتلوك"، قال: كفار قريش، أرادوا ذلك بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أن يخرج من مكة.
15971 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
15972- حدثني ابن وكيع قال: حدثنا هانئ بن سعيد، عن حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه; إلا أنه قال: فعلوا ذلك بمحمد.
15973 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي عن أبيه، عن ابن عباس، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك"، الآية، هو النبي صلى الله عليه وسلم، مكروا به وهو بمكة.
15974 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك"، إلى آخر الآية، قال: اجتمعوا فتشاوروا في رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: اقتلوا هذا الرجل. فقال بعضهم: لا يقتله رجل إلا قُتل به! قالوا: خذوه فاسجنوه، واجعلوا عليه حديدًا. قالوا: فلا يدعكم أهل بيته! قالوا: أخرجوه. قالوا: إذًا يستغوي الناس عليكم. (1)
__________
(1) " يستغوي الناس "، أي: يدعوهم إلى التجمع. يقال: " تغاووا عليه حتى قتلوه "، إذا تجمعوا وتعاونوا في الشر. والأجود عندي: " يستعوى " (بالعين المهملة) . يقال: " استعوى فلان جماعة "، إذا نعق بهم على الفتنة. ويقال: " تعاوى بنو فلان على فلان " و " تغاووا " (بالغين المعجمة) ، إذا تجمعوا عليه. و " استعوى القوم "، استغاث بهم. وأصله من " العواء "، عواء الكلب، فتجاوبه كلاب الحي.(13/499)
قال: وإبليس معهم في صورة رجل من أهل نجد، واجتمع رأيهم أنه إذا جاء يطوف البيت ويستلم، أن يجتمعوا عليه فيغمُّوه ويقتلوه، (1) فإنه لا يدري أهله من قتله، فيرضون بالعقل، فنقتله ونستريح ونعقِله! فلما أن جاء يطوف بالبيت، اجتمعوا عليه فغمُّوه، فأتى أبو بكر فقيل له ذاك، فأتى فلم يجد مدخلا. فلما أن لم يجد مدخلا قال: أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ، [سورة غافر: 28] . قال: ثم فرَّجها الله عنه. فلما أن حطّ الليل، (2) أتاه جبريل عليه السلام فقال، من أصحابك؟ فقال: فلان وفلان وفلان. فقال: لا نحن أعلم بهم منك، (3) يا محمد، هو ناموس ليل! (4) قال: وأخِذ أولئك من مضاجعهم وهم نيام، فأتى بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقدِّم أحدهم إلى جبريل، فكحَله ثم أرسله، فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كُفِيتَه يا نبي الله!
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " فيعموه " بالعين المهملة، ولها وجه ضعيف عندي، وصوابها بالغين المعجمة. يقال: " غم الشيء يغمه "، إذا علاه وغطاه وستره حتى لا فرجة فيه، ومنه قول النمر بن تولب، يصف اجتماع المقاتلة العرب في الحرب: زَبَنَتْكَ أَرْكَانُ العَدُوِّ فأَصْبَحتْ ... أَجَأ وَحَيَّة مِنْ قَرَارِ ديارها
وَكأَنَّهَا دَقَرَى، تَخَايَلَ نَبْتُها ... أُنُفٌ يَغُمُّ الضَّالَ نَبْتُ بِحَارِهَا
ومنه قيل للغمة " غمة "، وقيل: " سحاب أغم "، لا فرجة فيه. وانظر بعد ذلك صفة اجتماعهم عليه صلى الله عليه وسلم بأبي هو وأمي، وأن أبا بكر لم يجد مدخلا، وقوله أيضًا: " ثم فرجها الله عنه ". فكل هذا يدل على صواب قراءتها كما أثبتها. وهذه الصفحة من المخطوطة، يكاد أكثرها يكون غير منقوط.
(2) في المطبوعة: " فلما أن كان الليل "، غير ما في المخطوطة، وكان فيها " فلما أن حبط " وصواب قراءتها إن شاء الله ما أثبت. و " حط الليل "، نزل وأطبق.
(3) في المخطوطة: " فقال: فلان وفلان وفلان، فقال لا. فقال جبريل عليه السلام: نحن أعلم بهم منك ... "، أخشى أن يكون سقط من الكلام شيء، والذي في المطبوعة اجتهاد من الناشر، تركه على حاله.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: " هو ناموس ليل "، والسياق يقتضي ما أثبت.
و" الناموس " دويبة أغبر، كهنة الذرة، تلكع الناس وتلسعهم. وقولهم: " هم ناموس ليل "، يعني حقارتهم وقلة شأنهم.(13/500)
ثم قدِّم آخر، فنقر فوق رأسه. بعصًا نقرة ثم أرسله، فقال: ما صورته يا جبريل؟ فقال: كُفِيته يا نبي الله! ثم أتي بآخر فنقر في ركبته، فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كفيته! ثم أتي بآخر فسقاه مَذْقة، (1) فقال: ما صورته يا جبريل؟ قال: كفيته يا نبي الله! وأتي بالخامس، (2) فلما غدا من بيته، مرّ بنبّال فتعلق مِشْقَص بردائه، (3) فالتوى، فقطع الأكحل من رجله. (4) وأما الذي كحلت عيناه، فأصبح وقد عمي. وأما الذي سقي مَذْقةً، فأصبح وقد استسقى بطنه. وأما الذي نقر فوق رأسه، فأخذته النقبة = و"النقبة"، قرحة عظيمة (5)
= أخذته في رأسه. وأما الذي طعن في ركبته، فأصبح وقد أقعد. فذلك قول الله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين".
15975 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قوله: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، أي: فمكرت لهم بكيدي المتين، حتى خلّصك منهم. (6)
__________
(1) " المذقة "، الطائفة من اللبن الممزوج بالماء.
(2) لم يذكر ما فعل جبريل عليه السلام بالخامس، وإن كان ذكر ما آل إليه أمره، فأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء.
(3) في المطبوعة " مر " حذف الفاء، وهو صواب، فأثبتها من المخطوطة. و " المشقص "، نصل السهم إذا كان طويلا غير عريض.
(4) " الأكحل "، عرق الحياة، ويقال له: " نهر البدن "، وهو عرق في اليد ووسط الذراع، وفي كل عضو منه شعبة، لها اسم على حدة، إذا قطع لم يرقأ الدم.
(5) في المطبوعة: " النقدة "، في الموضعين. وأما المخطوطة، فالأولى، يوشك أن يكتبها " النقبة " إلا أنه يزيد في رأس الباء، ثم كتب بعد " النقدة " ولم أجد في القروح ما يقال له: " نقدة ".
و" النقبة " (بضم فسكون) أول بدء الجرب، ترى الرقعة مثل الكف بجنب البعير أو وركه أو بمشفرة، ثم تتمشى فيه تشريه كله، أي تملؤه كله. فلعل هذه هي المرادة هنا.
(6) الأثر: 15975 - سيرة ابن هشام 1: 325، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15955.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " فمكرت لهم "، وأثبت ما في سيرة ابن هشام، وهي أجود.(13/501)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31)
15976 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قوله: "وإذ يمكر بك الذين كفروا"، قال: هذه مكية= قال: ابن جريج، قال مجاهد: هذه مكية. (1)
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: واذكر، يا محمد، نعمتي عندك، بمكري بمن حاول المكرَ بك من مشركي قومك، بإثباتك أو قتلك أو إخراجك من وطنك، حتى استنقذتك منهم وأهلكتهم، فامض لأمري في حرب من حاربك من المشركين، وتولى عن إجابة ما أرسلتك به من الدين القيم، ولا يَرْعَبَنَّك كثرة عددهم، فإن ربّك خيرُ الماكرين بمن كفر به، وعبد غيره، وخالف أمره ونهيه.
* * *
وقد بينا معنى "المكر" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آياتِ كتاب الله الواضحةَ لمن شرح الله صدره لفهمه (3) =، قالوا جهلا منهم، وعنادًا للحق، وهم يعلمون أنهم كاذبون في قيلهم= "لو نشاء لقلنا مثل هذا"،
__________
(1) الأثر: 15976 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 15964. كأنه يعني أن هذه الآية، معنى بها أمر من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة. والقطع بأن هذه الآية أو اللواتي تليها آيات نزلت بمكة، أمر صعب، لا يكاد المرء يطمئن إلى صوابه، والاعتراض على ذلك له وجوه كثيرة لا محل لذكرها هنا.
(2) انظر تفسير " المكر " فيما سلف 12: 95، 97، 579 \ 13: 33، 491.
(3) انظر تفسير " التلاوة " فيما سلف ص: 385، تعليق: 1، والمراجع هناك.(13/502)
الذي تُلِي علينا= "إن هذا إلا أساطير الأولين"، يعني: أنهم يقولون: ما هذا القرآن الذي يتلى عليهم إلا أساطير الأولين.
و"الأساطير" جمع "أسطر"، وهو جمع الجمع، لأن واحد "الأسطر" "سطر"، ثم يجمع "السطر"، "أسطر" و"سطور"، ثم يجمع "الأسطر" "أساطير" و"أساطر". (1)
وقد كان بعضُ أهل العربية يقول: واحد "الأساطير"، "أسطورة".
* * *
وإنما عنى المشركون بقولهم: "إن هذا إلا أساطير الآولين"، إنْ هذا القرآن الذي تتلوه علينا، يا محمد، إلا ما سطَّره الأولون وكتبوه من أخبار الأمم! كأنهم أضافوه إلى أنه أخذ عن بني آدم، وأنه لم يوحِه الله إليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
15977 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: "وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا"، قال: كان النضر بن الحارث يختلف تاجرًا إلى فارس، فيمرّ بالعِباد وهم يقرأون الإنجيل ويركعون ويسجدون. (2) فجاء مكة، فوجد محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه وهو يركع ويسجد، فقال النضر: "قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا! "، للذي سَمِع من العباد. فنزلت: "وإذا تتلى عليهم آياتنا قالوا قد
__________
(1) انظر تفسير " الأساطير " فيما سلف 11: 308 - 310.
(2) " العباد "، قوم من قبائل شتى من بطون العرب، اجتمعوا على النصرانية قبل الإسلام، فأنفوا أن يسموا بالعبيد، فقالوا: " نحن العباد "، ونزلوا بالحيرة. فنسب إلى " العباد "، ومنهم عدى بن يزيد العبادي الشاعر.(13/503)
سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا"، قال: فقص ربُّنا ما كانوا قالوا بمكة، وقص قولهم: إذ قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، الآية.
15978 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان النضر بن الحارث بن علقمة، أخو بني عبد الدار، يختلف إلى الحيرة، فيسمع سَجْع أهلها وكلامهم. فلما قدم مكة، سمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن، فقال: "قد سمعنا لو نشاء لقلنا مثل هذا إنْ هذا إلا أساطير الأولين"، يقول: أساجيع أهل الحيرة. (1)
15979 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قتل النبيُّ من يوم بدر صبرًا: عقبةَ بن أبي معيط، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث. وكان المقداد أسر النضر، فلما أمر بقتله، قال المقداد: يا رسول الله، أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنه كان يقول في كتاب الله ما يقول! فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله، فقال المقداد: أسيري! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: واللهم اغْنِ المقداد من فضلك! " فقال المقداد: هذا الذي أردت! وفيه نزلت هذه الآية: "وإذا تتلى عليهم آياتنا"، الآية.
15980- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قَتل يوم بدر ثلاثة رهط من قريش صبرًا: المطعم بن عديّ، والنضر بن الحارث، وعقبة بن أبي معيط. قال: فلما أمر بقتل النضر، قال المقداد بن الأسود: أسيري، يا رسول الله! قال: إنه كان يقول في كتاب الله وفي رسوله ما كان يقول! قال: فقال ذلك مرتين أو ثلاثًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اغْن المقداد من فضلك! وكان المقداد أسر النضر. (2)
__________
(1) " الأساجيع " جمع " أسجوعة "، ما سجع به الكاهن وغيره. وانظر ما سلف رقم: 13157.
(2) الأثر: 15980 - هكذا جاء في رواية هذا الخبر " المطعم بن عدي "، مكان " طعيمة بن عدى "، وكأنه ليس خطأ من الناسخ، لأن ابن كثير في تفسيره 4: 51، قال: " وهكذا رواه هشيم، عن أبي بشر جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير أنه قال: المطعم بن عدي، بدل طعيمة. وهو غلط، لأن المطعم بن عدي لم يكن حيًا يوم بدر، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: لو كان المطعم بن عدي حيًا، ثم سألني في هؤلاء النتنى، لوهبتهم له! يعني الأسارى، لأنه كان قد أجار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم رجع من الطائف ". وانظر التعليق على رقم: 15981.(13/504)
وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32)
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: واذكر، يا محمد، أيضًا ما حلّ بمن قال: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"، إذ مكرت بهم، فأتيتهم بعذاب أليم= (1) وكان ذلك العذاب، قتلُهم بالسيف يوم بدر.
* * *
وهذه الآية أيضًا ذكر أنها نزلت في النضر بن الحارث.
* ذكر من قال ذلك.
15981 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، في قوله: "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"، قال: نزلت في النضر بن الحارث. (2)
15982 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " مكرت لهم "، وليست بشيء.
(2) الأثر: 15981 - " أبو بشر "، هو " جعفر بن إياس "، " جعفر بن أبي وحشية "، مضى مرارًا كثيرة. وكان في تعليق ابن كثير، الذي نقلته في التعليق على الخبر السالف " جعفر بن أبي دحية "، وهو خطأ محض.(13/505)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك"، قال: قول النضر بن الحارث= (1) أو: ابن الحارث بن كَلَدة.
15983- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، قول النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة، من بني عبد الدار.
15984-......قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك"، قال: هو النضر بن الحارث بن كلدة.
15985 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: قال رجل من بني عبد الدار، يقال له النضر بن كلدة: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم"، فقال الله: ((وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ)) [سورة ص: 16] ، وقال: ((وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)) [سورة الأنعام: 94] ، وقال: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ)) [سورة المعارج: 1-2] . قال عطاء: لقد نزل فيه بضعَ عشرة آية من كتاب الله.
15986 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: فقال= يعني النضر بن الحارث =: اللهم إن كان ما يقول محمد هو الحق من عندك، فأمطر علينا حجارة من السماء أو
__________
(1) الأثر: 15982 - في المطبوعة: " النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة ".
والصواب ما في المخطوطة، لأن الاختلاف في نسبة هكذا: " النضر بن الحارث بن كلدة بن علقمة بن عبد مناف بن عبد الدار " أو: " النضر بن الحارث بن علقمة بن كلدة بن عبد مناف بن عبد الدار " انظر سيرة ابن هشام 2: 320، 321. وقد غير ما في المخطوطة بلا حرج ولا ورع.(13/506)
ائتنا بعذاب أليم! قال الله: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ)) .
15987 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد في قوله: "إن كان هذا هو الحق من عندك" الآية، قال: ((سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ)) .
15988 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وإذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، الآية قال: قال ذلك سُفَّهُ هذه الأمة وجهلتها، (1) فعاد الله بعائدته ورحمته على سَفَهة هذه الأمة وجهلتها. (2)
15989 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر غِرَّة قريش واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك"، أي: ما جاء به محمد= "فأمطر علينا حجارة من السماء"، كما أمطرتها على قوم لوط = "أو ائتنا بعذاب أليم"، أي: ببعض ما عذبت به الأمم قبلنا. (3)
* * *
واختلف أهل العربية في وجه دخول "هو" في الكلام.
فقال بعض البصريين: نصب "الحق"، لأن "هو" والله أعلم، حُوِّلت
__________
(1) في المطبوعة: " سفهة هذه الأمة "، غير ما في المخطوطة، طرح الصواب المحض يقال: " سفيه "، والجمع " سفهاء " " وسفاه " (بكسر السين) و " سفه "، بضم السين وتشديد الفاء المفتوحة. والذي في كتب اللغة أن " سفاه " و " سفه "، و " سفائه " جمع " سفيهة ". وسيأتي في المخطوطة بعد قليل " سفهه "، وكأنها جائزة أيضًا.
(2) هكذا في المخطوطة أيضًا " سفهة "، فتركتها على حالها. انظر التعليق السالف. وكأنه إتباع لقوله " جهلة "، وهذا من خصائص العربية.
(3) الأثر: 15989 - سيرة ابن هشام 2: 325، وهو تبع الأثر السالف رقم: 15975.
وكان في المطبوعة: " ثم ذكر غيرة قريش "، وهو لا معنى له، صوابه من المخطوطة وابن هشام. يعني: اغترارهم بأمرهم، وغفلتهم عن الحق.(13/507)
زائدة في الكلام صلةَ توكيدٍ، كزيادة "ما"، ولا تزاد إلا في كل فعل لا يستغني عن خبر، وليس هو بصفة، ل "هذا"، لأنك لو قلت: "رأيت هذا هو"، لم يكن كلامًا. ولا تكون هذه المضمرة من صفة الظاهرة، ولكنها تكون من صفة المضمرة، نحو قوله: ((وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ)) [سورة الزخرف: 76] و ((خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)) [سورة المزمل: 20] .
لأنك تقول: "وجدته هو وإياي"، فتكون "هو" صفة. (1)
وقد تكون في هذا المعنى أيضا غير صفة، ولكنها تكون زائدة، كما كان في الأول. وقد تجري في جميع هذا مجرى الاسم، فيرفع ما بعدها، إن كان بعدها ظاهرًا أو مضمرًا في لغة بني تميم، يقولون في قوله:"إن كان هذا هو الحق من عندك"، "ولكن كانوا هم الظالمون"، (2) و "تجدوه عند الله هو خيرٌ وأعظم أجرًا" (3) كما تقول: "كانوا آباؤهم الظالمون"، جعلوا هذا المضمر نحو "هو" و "هما" و "أنت" زائدًا في هذا المكان، ولم تجعل مواضع الصفة، لأنه فصْلٌ أراد أن يبين به أنه ليس ما بعده صفةً لما قبله، ولم يحتج إلى هذا في الموضع الذي لا يكون له خبر.
* * *
وكان بعض الكوفيين يقول: لم تدخل "هو" التي هى عماد في الكلام، (4) إلا لمعنى صحيح. وقال: كأنه قال: "زيد قائم"، فقلت أنت: "بل عمرو هو القائم" ف "هو" لمعهود الاسم، و"الألف واللام" لمعهود الفعل، (5) [" والألف واللام"] التي هي صلة في الكلام، (6) مخالفة لمعنى "هو"، لأن دخولها وخروجها واحد
__________
(1) " الصفة "، هو " ضمير الفصل "، وانظر التعليق التالي رقم: 4.
(2) في المطبوعة: " هم الظالمين "، خالف المخطوطة وأساء.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " هو خيرًا "، ولا شاهد فيه، وصوابه ما أثبت.
(4) " العماد "، اصطلاح الكوفيين، والبصريون يقولون: " ضمير الفصل "، ويقال له أيضًا: " دعامة " و " صفة ". انظر ما سلف 2: 312، تعليق 2، ثم ص 313، 374 \ ثم 7: 429، تعليق: 2.
(5) " الفعل "، يعني الخبر.
(6) ما بين القوسين، مكانه بياض في المخطوطة، ولكن ناشر المطبوعة ضم الكلام بعضه إلى بعض. وأثبت ما بين القوسين استظهارًا، وكأنه الصواب إن شاء الله. وقوله: " صلة "، أي: زيادة، انظر تفسير ذلك فيما سلف 1: 190، 405، 406، 548 \ 4: 282 \ 5: 460، 462 \ 7: 340، 341.(13/508)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
في الكلام. وليست كذلك "هو". وأما التي تدخل صلة في الكلام، فتوكيدٌ شبيه بقولهم: "وجدته نفسَه"، تقول ذلك، وليست بصفة "كالظريف" و"العاقل". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) }
__________
(1) انظر مبحث ضمير " العماد " في معاني القرآن للفراء 1: 50 - 52، 104، 248، 249، 409، 410.
وما سلف من التفسير 2: 312، 313 \ 7: 429، 430، وغيرها في فهارس مباحث العربية والنحو وغيرهما.(13/509)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34)
القول في تأويل قوله: {وَمَا لَهُمْ أَلا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، أي: وأنت مقيم بين أظهرهم. قال: وأنزلت هذه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو مقيم بمكة. قال: ثم خرجَ النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم، فاستغفر من بها من المسلمين، فأنزل بعد خروجه عليه، حين استغفر أولئك بها: "وما كان الله معذِّبهم وهم يستغفرون". قال: ثم خرج أولئك البقية من المسلمين من بينهم، فعذّب الكفار.
* ذكر من قال ذلك.
15990 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبزى قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، فأنزل الله عليه:(13/509)
"وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: فخرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فأنزل الله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون". قال: فكان أولئك البقية من المسلمين الذين بقوا فيها يستغفرون= يعني بمكة= فلما خرجوا أنزل الله عليه: "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياء". قال: فأذن الله له في فتح مكة، فهو العذاب الذي وعدهم.
15991 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك، في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يعني النبي صلى الله عليه وسلم= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني: من بها من المسلمين= "وما لهم ألا يعذبهم الله"، يعني مكة، وفيهم الكفار. (1)
15992- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، في قول الله: "وما كان الله ليعذبهم"، يعني: أهل مكة= "وما كان الله معذبهم"، وفيهم المؤمنون، يستغفرون، يُغفر لمن فيهم من المسلمين.
15993- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل الرازي، وأبو داود الحفري، عن يعقوب، عن جعفر، عن ابن أبزى: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: بقية من بقي من المسلمين منهم. فلما خرجوا قال: "وما لهم ألا يعذبهم الله". (2)
15994 -....... قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: أهل مكة.
__________
(1) في المطبوعة: " وفيها الكفار "، أما المخطوطة فتقرأ: " بغير مكة، وفيهم الكفار "، ولعل ما في المطبوعة أولى بالإثبات.
(2) الأثر: 15993 - " إسحاق بن إسماعيل الرازي " هو: " حبويه، أبو يزيد " سلف مرارًا، آخرها رقم: 15311.(13/510)
15995 -......وأخبرنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: المؤمنون من أهل مكة= "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام"، قال: المشركون من أهل مكة.
15996-......قال: حدثنا أبو خالد، عن جويبر، عن الضحاك: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" قال: المؤمنون يستغفرون بين ظهرانَيْهم.
15997 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يقول: الذين آمنوا معك يستغفرون بمكة، حتى أخرجك والذين آمنوا معك.
15998 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال: ابن عباس: لم يعذب قريةً حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا معه، ويلحقه بحيث أُمِر= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني المؤمنين. ثم أعاد إلى المشركين فقال: "وما لهم ألا يعذبهم الله".
15999- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: يعني أهل مكة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب هؤلاء المشركين من قريش بمكة وأنت فيهم، يا محمد، حتى أخرجك من بينهم= "وما كان الله معذبهم"، وهؤلاء المشركون، يقولون: "يا رب غفرانك! "، وما أشبه ذلك من معاني الاستغفار بالقول. قالوا: وقوله: "وما لهم ألا يعذبهم الله"، في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك.
16000 - حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا عكرمة، عن أبي زميل، عن ابن عباس: إن المشركين كانوا يطوفون(13/511)
بالبيت يقولون: "لبيك، لبَّيك، لا شريك لك"، (1) فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: "قَدْ قَدْ! " (2) فيقولون: "إلا شريك هو لك، تملكه وما ملك"، (3) ويقولون: "غفرانك، غفرانك! "، فأنزل الله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون". فقال ابن عباس: كان فيهم أمانان: نبيّ الله، والاستغفار. قال: فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار= "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون"، قال: فهذا عذاب الآخرة. قال: وذاك عذاب الدنيا. (4)
16001 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن يزيد بن رومان، ومحمد بن قيس قالا قالت قريش بعضها لبعض: محمد أكرمه الله من بيننا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأمطر علينا" الآية. فلما أمسوا ندموا على ما قالوا، فقالوا: "غفرانك اللهم! "، فأنزل الله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" إلى قوله: "لا يعلمون".
16002 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كانوا يقولون = يعني المشركين =: والله إن الله لا يعذبنا ونحن نستغفر، ولا يعذِّب أمة ونبيها معها حتى يخرجه عنها! وذلك من قولهم، ورسولُ لله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم. فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم، يذكر له جَهالتهم وغِرَّتهم واستفتاحهم على أنفسهم، إذ قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء"، كما أمطرتها على قوم لوط. وقال حين نَعى
__________
(1) في المطبوعة: " لبيك، لا شريك لك لبيك "، غير ما في المخطوطة.
(2) " قد، قد "، أي حسبكم، لا تزيدوا. يقال: " قدك "، أي حسبك، يراد بها الردع والزجر.
(3) في المطبوعة، زاد زيادة بلا طائل، كتب: " فيقولون: لا شريك لك، إلا شريك هو لك ".
(4) الأثر: 16000 - " أبو زميل " هو: " سماك بن الوليد الحنفي اليمامي "، مضى برقم: 13832، 15734.(13/512)
عليهم سوء أعمالهم: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، أي: لقولهم: ["إنا نستغفر ومحمد بين أظهرنا"="وما لهم ألا يعذبهم الله"، وإن كنت بين أظهرهم] ، وإن كانوا يستغفرون كما يقولون (1) = "وهم يصدون عن المسجد الحرام"، أي: من آمن بالله وعبده، أي: أنت ومن تبعك. (2)
16003 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار..................... قال، حدثنا أبو بردة، عن أبي موسى قال: إنه كان قبلُ أمانان، قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" قال: أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد مضى، وأما الاستغفار فهو دائر فيكم إلى يوم القيامة. (3)
16004 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يونس
__________
(1) كانت هذه الجملة هكذا في المخطوطة والمطبوعة: " أي بقولهم، وإن كانوا يستغفرون كما قال وهم يصدون ... "، أسقط من الكلام ما لا بد منه وحرف. فأثبت الصواب بين الأقواس، وفي سائر العبارة، من سيرة ابن هشام.
(2) الأثر: 16003 - سيرة بن هشام 2: 325، وهو تابع الأثر السالف رقم: 15989.
(3) الأثر: 16004 - " الحسن بن الصباح البزار "، شيخ الطبري، مضى برقم: 4442، 9857.
وهذا الإسناد قد سقط منه رواة كثيرون، وكان في المخطوطة " بردة " فجعلها الناشر " أبو بردة "، وأصاب وهو لا يدري.
وهذا الخبر روى مثله مرفوعًا الترمذي في سننه في تفسير هذه السورة، وهذا إسناده: " حدثنا سفيان بن وكيع، حدثنا ابن نمير، عن إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر، عن عباد بن يوسف، عن أبي بردة بن أبي موسى، عن أبيه قال، قال رسول الله صلى لله عليه وسلم: أنزل الله علي أمانين لأمتي: " وما كان ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون "، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.
ثم قال الترمذي: " هذا حديث غريب، وإسماعيل بن إبراهيم يضعف في الحديث ".
أما خبر الطبري، فلا شك أنه خبر موقوف على أبي موسى الأشعري.
وكان في المطبوعة: " إنه كان فيكم أمانان "، غير ما في المخطوطة، وصواب قراءته ما أثبت.(13/513)
بن أبي إسحاق، عن عامر أبي الخطاب الثوري قال: سمعت أبا العلاء يقول: كان لأمة محمد صلى الله عليه وسلم أمَنَتَان: فذهبت إحداهما وبقيت الأخرى: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، الآية. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يا محمد، وما كان الله معذب المشركين وهم يستغفرون أي: لو استغفروا. (2) قالوا: ولم يكونوا يستغفرون، فقال جل ثناؤه إذ لم يكونوا يستغفرون: "ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام".
* ذكر من قال ذلك.
16005 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: إن القوم لم يكونوا يستغفرون، ولو كانوا يستغفرون ما عُذِّبوا. وكان بعض أهل العلم يقول: هما أمانان أنزلهما الله: فأما أحدهما فمضى، نبيُّ الله. وأما الآخر فأبقاه الله رحمة بين أظهركم، الاستغفارُ والتوبةُ.
16006 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال الله لرسوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يقول: ما كنت أعذبهم وهم يستغفرون، ولو استغفروا وأقرُّوا بالذنوب لكانوا مؤمنين، وكيف لا أعذبهم وهم لا يستغفرون؟ وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن محمد وعن المسجد الحرام؟
16007 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال يقول: لو استغفروا لم أعذبهم.
__________
(1) الأثر: 16005 - " عامر، أبي الخطاب الثوري "، لم أجد له ذكر، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: " أن لو استغفروا "، وكأن الصواب ما أثبت.(13/514)
وقال آخرون: معنى ذلك: وما كان الله ليعذبهم وهم يُسلمون. قالوا: و"استغفارهم"، كان في هذا الموضع، إسلامَهم.
* ذكر من قال ذلك.
16008 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير، عن عكرمة، في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: سألوا العذاب، فقال: لم يكن ليعذبهم وأنت فيهم، ولم يكن ليعذبهم وهم يدخلون في الإسلام.
16009 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "وأنت فيهم"، قال: بين أظهرهم= وقوله: "وهم يستغفرون"، قال: يُسلمون.
16010- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، بين أظهرهم= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: وهم يسلمون (1) = "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون"، قريش، "عن المسجد الحرام". (2)
16011- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا محمد بن عبيد الله، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، قال: بين أظهرهم= "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: دخولهم في الإسلام.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيهم من قد سبق له من الله الدخول في الإسلام.
__________
(1) في المخطوطة: " وهم مسلمون "، والصواب ما في المطبوعة.
(2) (2) كان في المطبوعة: سياق الآية بلا فصل، وهو قوله: " قريش "، التي أثبتها من المخطوطة. وكان في المخطوطة: " وهم مسلمون يعذبهم الله "، بياض بين الكلامين وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ.(13/515)
* ذكر من قال ذلك.
16012 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يقول: ما كان الله سبحانه يعذب قوما وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم. ثم قال: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يقول: ومنهم من قد سبق له من الله الدخول في الإيمان، وهو الاستغفار. ثم قال: "ومالهم ألا يعذبهم الله"، فعذبهم يوم بدر بالسيف.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: وما كان الله معذبهم وهم يصلُّون.
* ذكر من قال ذلك.
16013 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني: يصلُّون، يعني بهذا أهل مكة.
16014 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن منصور، عن مجاهد في قول الله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: يصلون.
16015 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يعني: أهل مكة. يقول: لم أكن لأعذبكم وفيكم محمد. ثم قال: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، يعني: يؤمنون ويصلون.
16016 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، في قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، قال: وهم يصلون.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما كان الله ليعذب المشركين وهم يستغفرون.(13/516)
قالوا: ثم نسخ ذلك بقوله: "ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام".
* ذكر من قال ذلك.
16017 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال في "الأنفال": "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، فنسختها الآية التي تليها: "وما لهم ألا يعذبهم الله"، إلى قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فقوتلوا بمكة، وأصابهم فيها الجوع والحَصْر.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب، قولُ من قال: تأويله: "وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم"، يا محمد، وبين أظهرهم مقيم، حتى أخرجك من بين أظهرهم، لأنّي لا أهلك قرية وفيها نبيها= وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، من ذنوبهم وكفرهم، ولكنهم لا يستغفرون من ذلك، بل هم مصرُّون عليه، فهم للعذاب مستحقون= كما يقال: "ما كنت لأحسن إليك وأنت تسيء إليّ"، يراد بذلك: لا أحسن إليك، إذا أسأت إليّ، ولو أسأت إليّ لم أحسن إليك، ولكن أحسن إليك لأنك لا تسيء إليّ. وكذلك ذلك= ثم قيل: "ومالهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام"، بمعنى: وما شأنهم، وما يمنعهم أن يعذبهم الله وهم لا يستغفرون الله من كفرهم فيؤمنوا به، (1) وهم يصدون المؤمنين بالله ورسوله عن المسجد الحرام؟
وإنما قلنا: "هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب"، لأن القوم = أعني مشركي مكة = كانوا استعجلوا العذاب، فقالوا: "اللهم إن كان ما جاء به محمد هو الحق، فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم" فقال الله لنبيه: "ما كنت لأعذبهم وأنت فيهم، وما كنت لأعذبهم لو استغفروا،
__________
(1) انظر تفسير " مالك " فيما سلف 5: 301، 302 \ 9: 7.(13/517)
وكيف لا أعذبهم بعد إخراجك منهم، وهم يصدون عن المسجد الحرام؟ ". فأعلمه جل ثناؤه أن الذي استعجلوا العذاب حائق بهم ونازل، (1) وأعلمهم حال نزوله بهم، وذلك بعد إخراجه إياه من بين أظهرهم. ولا وجه لإيعادهم العذابَ في الآخرة، وهم مستعجلوه في العاجل، ولا شك أنهم في الآخرة إلى العذاب صائرون. بل في تعجيل الله لهم ذلك يوم بدر، الدليلُ الواضحُ على أن القول في ذلك ما قلنا. وكذلك لا وجه لقول من وجَّه قوله: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون"، إلى أنه عُنى به المؤمنين، وهو في سياق الخبر عنهم، وعما الله فاعل بهم. ولا دليل على أن الخبر عنهم قد تقضَّى، وعلى ذلك [كُنِي] به عنهم، (2) وأن لا خلاف في تأويله من أهله موجودٌ.
وكذلك أيضًا لا وجه لقول من قال: ذلك منسوخ بقوله: "وما لهم ألا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام"، الآية، لأن قوله جل ثناؤه: "وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون" خبرٌ، والخبر لا يجوز أن يكون فيه نسخ، وإنما يكون النسخ للأمر والنهي.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " أن الذين استعجلوا العذاب حائق بهم "، وفي المخطوطة كما أثبته إلا أنه كتب مكان " حائق " " حاق "، وهو سهو.
(2) في المطبوعة: " وعلى أن ذلك به عنوا، ولا خلاف في تأويله "، وفي المخطوطة، كما أثبته، إلا أنه سقط منه [كني] كما أثبته بين القوسين. وإن كنت أظن في الكلام سقطًا.
هذا وقد ذكر أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 154، هذا الرأي، ثم قال: " جعل الضميرين مختلفين، وهو قول حسن، وإن كان محمد بن جرير قد أنكره، لأنه زعم أنه لم يتقدم للمؤمنين ذكر، فيكنى عنهم. وهذا غلط، لأنه قد تقدم ذكر المؤمنين في غير موضع من السورة.
فإن قيل: لم يتقدم ذكرهم في هذا الموضع.
فالجواب: أن في المعنى دليلا على ذكرهم في هذا الموضع. وذلك أن من قال من الكفار: " اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء "، إنما قال ذلك مستهزئًا ومتعنتًا. ولو قصد الحق لقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له = ولكنه كفر وأنكر أن يكون الله يبعث رسولا بوحي من الله، أي: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، فأهلك الجماعة من الكفار والمسلمين. فهذا معنى ذكر المسلمين، فيكون المعنى: كيف يهلك الله المسلمين؟ فهذا المعنى: " ما كان الله معذبهم وهم يستغفرون " يعني المؤمنين = " وما لهم ألا يعذبهم الله "، يعني الكافرين ".(13/518)
واختلف أهل العربية في وجه دخول "أن" في قوله: "وما لهم ألا يعذبهم الله".
فقال بعض نحويي البصرة: هي زائدة ههنا، وقد عملت كما عملت "لا" وهي زائدة، وجاء في الشعر: (1)
لَوْ لَمْ تَكنْ غَطَفَانُ لا ذُنُوبَ لَهَا إلَيَّ، لامَ ذَوُو أحْسَابِهَا عُمَرَا (2)
وقد أنكر ذلك من قوله بعض أهل العربية وقال: لم تدخل "أن" إلا لمعنى صحيح، لأن معنى: "وما لهم"، ما يمنعهم من أن يعذبوا. قال: فدخلت "أن" لهذا المعنى، وأخرج ب "لا"، ليعلم أنه بمعنى الجحد، لأن المنع جحد. قال: و"لا" في البيت صحيح معناها، لأن الجحد إذا وقع عليه جحد صار خبرًا. (3)
وقال: ألا ترى إلى قولك: "ما زيد ليس قائما"، فقد أوجبت القيام؟ قال: وكذلك "لا" في هذا البيت. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين إلا يعذبهم الله وهم يصدون عن المسجد الحرام، ولم يكونوا أولياء الله= "إن أولياؤه"، (5) يقول: ما
__________
(1) هو الفرزدق.
(2) سلف البيت وتخريجه 5: 302، 303، وروايته هناك: " إذن للام ذود أحسابها "، وقد فسرته هناك، وزعمت أن " الذنوب " بفتح الذال بمعنى: الحظ والنصيب عن الشرف والحسب والمروءة.
أمَّا رواية البيت كما جاءت هنا، وفي الديوان، توجب أن تكون " الذنوب " جمع " ذنب ".فهذا فرق ما بين الروايتين والمعنيين.
(3) يعني بقوله: " خبرًا "، أي: إثباتًا.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 163 - 166، وما سلف من التفسير 5: 300 - 305.
(5) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .(13/519)
أولياء الله= "إلا المتقون"، يعني: الذين يتقون الله بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه. (1)
= "ولكن أكثرهم لا يعلمون" يقول: ولكن أكثر المشركين لا يعلمون أن أولياء الله المتقون، بل يحسبون أنهم أولياء الله.
* * *
وبنحو ما قلنا قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16018 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون"، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
16019 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: "إن أولياؤه إلا المتقون"، مَن كانوا، وحيث كانوا.
16020- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
16021 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون"، الذين يحرمون حرمته، (2) ويقيمون الصلاة عنده، أي: أنت= يعني النبي صلى الله عليه وسلم= ومن آمن بك= يقول: "ولكن أكثرهم لا يعلمون". (3)
* * *
__________
(1) وتفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة مكان: " يحرمون حرمنه "، " يخرجون منه "، وهذا من عجائب التحريف من طريق الاختصار!! ، والصواب من سيرة ابن هشام.
(3) الأثر: 16021 - سيرة ابن هشام 2: 325، 326، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16003.(13/520)
وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما لهؤلاء المشركين إلا يعذبهم الله، وهم يصدون عن المسجد الحرام الذي يصلون لله فيه ويعبدونه، ولم يكونوا لله أولياء، بل أولياؤه الذين يصدونهم عن المسجد الحرام، وهم لا يصلون في المسجد الحرام= "وما كان صلاتهم عند البيت"، يعني: بيت الله العتيق= "إلا مُكاء"، وهو الصفير.
يقال منه: "مكا يمكو مَكوًا ومُكاءً" وقد قيل: إن "المكو": أن يجمع الرجل يديه، ثم يدخلهما في فيه، ثم يصيح. ويقال منه: "مَكت است الدابة مُكاء"، إذا نفخت بالريح. ويقال: "إنه لا يمكو إلا استٌ مكشوفة"، ولذلك قيل للاست "المَكْوة"، سميت بذلك، (1) ومن ذلك قول عنترة:
وَحَلِيلِ غَانِيَةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلا تَمْكُو فَرِيصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلَمِ (2)
وقول الطِّرِمَّاح:
__________
(1) وتمام سياقه أن يقول: " سميت بذلك لصفيرها ".
(2) من معلقته المشهورة الغالية. سيرة بن هشام 2: 326، والمعاني الكبير: 981، واللسان (مكا) وبعد البيت. سَبَقَتْ يَدَايَ لَهُ بِعَاجِلِ طَعْنَةٍ ... وَرَشَاشِ نَافِذَةٍ كَلَونِ العَنْدَمِ
" الحليل "، الزوج، و " الغانية ": البارعة الحسن والجمال، استغنت بجمالها عن التجمل. " مجدلا "، صريعًا على الجدالة، وهي الأرض. و " الفريصة "، لحمة عند نغض الكتف، في وسط الجنب، عند منبض القلب، وهما فريصتان، وهي التي ترعد عند الفزع، فيقال للفزع: " أرعدت فرائصه "، وإصابة الفريصة مقتل. و " الأعلم "، الجمل المشقوق الشفة العليا. خرج إليه هذا القتيل، مدلا بقوته وشبابه، يحفزه أن ينال إعجاب صاحبته الغانية الجميلة به إذا قتل عنترة، فلم يكد حتى عاجله بالطعنة التي وصف ما وصف من اتساعها كشدق البعير الأعلم.(13/521)
فَنَحَا لأُِولاَها بِطَعْنَةِ مُحْفَظٍ تَمْكُو جَوَانِبُهَا مِنَ الإنْهَارِ (1)
بمعنى: تصوِّت.
وأما "التصدية"، فإنها التصفيق، يقال منه: "صدَّى يصدِّي تصديةً"، و"صفَّق"، و"صفّح"، بمعنى واحد.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16022 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبى، عن موسى بن قيس، عن حجر بن عنبس: "إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، التصفير= و"التصدية"، التصفيق. (2)
16023 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، "المكاء"، التصفير= و"التصدية"، التصفيق.
16024 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
__________
(1) ديوانه 149، والمعاني الكبير: 983، وهو بيت من قصيدة مدح بها خالد بن عبد الله القسري، ولكن هذا البيت، مفرد وحده لا صلة له بما قبله، وهي قصيدة ناقصة بلا شك. وشرحه ابن قتيبة فقال: " نحا " انحرف، و " المحفظ "، المغضب. و " تمكو "، تصفر، وذلك عند سيلانها. و " الإنهار "، سعة الطعنة، ومنه قول قيس بن الخطيم، يصف طعنة: طَعَنْتُ ابنَ عَبْدِ الْقَيْسِ طَعْنَةَ ثَائِرٍ ... لَهَا نَفَذٌ لَوْلا الشُّعَاعُ أَضَاءَهَا ... مَلَكْتُ بها كَفِّى فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا
(2) الأثر: 16022 - " موسى بن قيس الحضرمي "، " عصفور الجنة "، مضى برقم: 16022.
و" حجر بن عنبس الحضرمي "، " أبو العنبس "، ويقال: " أبو السكن "، قال ابن معين: " شيخ كوفي ثقة مشهور "، تابعي، وكان شرب الدم في الجاهلية، شهد مع علي الجمل وصفين مترجم في التهذيب، والكبير 12 \ 68، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 266.(13/522)
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، يقول: كانت صلاة المشركين عند البيت "مكاء"= يعني الصفير= و"تصدية"، يقول: التصفيق.
16025 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا فضيل، عن عطية: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: التصفيق والصفير.
16026- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن قرة بن خالد، عن عطية، عن ابن عمر قال: "المكاء"، التصفيق، و"التصدية"، الصفير. قال: وأمال ابن عمر خدّه إلى جانب.
16027 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع، عن قرة بن خالد، عن عطية، عن ابن عمر: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء" و"التصدية"، الصفير والتصفيق.
16028- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، سمعت محمد بن الحسين يحدث، عن قرة بن خالد، عن عطية العوفي، عن ابن عمر قال: "المكاء"، الصفير، و"التصدية": التصفيق.
16029 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن عطية، عن ابن عمر في قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال، "المكاء" الصفير، و"التصدية"، التصفيق= وقال قرة: وحكى لنا عطية فعل ابن عمر، فصفر، وأمال خده، وصفق بيديه.
16030 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني بكر بن مضر، عن جعفر بن ربيعة قال: سمعت أبا سلمة بن عبد الرحمن بن عوف يقول في قول الله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية" قال بكر: فجمع لي جعفر كفيه، ثم نفخ فيهما صفيرًا، كما قال له أبو سلمة.(13/523)
16031 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: "المكاء"، الصفير، و"التصدية"، التصفيق.
16032- ... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سلمة بن سابور، عن عطية، عن ابن عمر: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: تصفير وتصفيق. (1)
16033- ... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، عن ابن عمر، مثله.
16034- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفّرون ويصفقون، فأنزل الله: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ)) [سورة الأعراف: 32] ، فأمروا بالثياب.
16035 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد قال: كانت قريش يعارضون النبي صلى الله عليه وسلم في الطواف يستهزئون به، يصفرون به ويصفقون، فنزلت: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية".
16036 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد: "إلا مكاء"، قال: كانوا ينفخون في أيديهم، و"التصدية"، التصفيق.
__________
(1) الأثر: 16032 - " سلمة بن سابور "، روى عن عطية العوفي، وعبد الوارث مولى. روى عنه أبو نعيم، والفضل بن موسى، وغيرهما. ضعفه ابن معين، وثقه ابن حبان وقال: " كان يحيى القطان يتكلم فيه، ومن المحال أن يلحق بسلمة ما جنت يدا عطية ". أما البخاري فاقتصر على قوله: " كان يحيى يتكلم في عطية "، كأنه لا يريد استضعافه. مترجم في لسان الميزان 3: 68، والكبير 2 \ 2 \ 84، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 163، وضعفه، وميزان الاعتدال 1: 406، واقتصر فقال: " جرحوه ".(13/524)
16037- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، إدخال أصابعهم في أفواههم، و"التصدية" التصفيق، يخلِطون بذلك على محمد صلى الله عليه وسلم صلاتَه.
16038 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله= إلا أنه لم يقل: "صلاته".
16039- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: "المكاء"، إدخال أصابعهم في أفواههم، و"التصدية"، التصفيق. قال نفرٌ من بني عبد الدار، كانوا يخلطون بذلك كله على محمد صلاتَه.
16040 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: من بين الأصابع= قال أحمد: سقط عليَّ حرف، وما أراه إلا الخَذْف (1) = والنفخ والصفير منها، وأراني سعيد بن جبير حيث كانوا يَمْكون من ناحية أبي قُبَيس. (2)
16041- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليمان قال، أخبرنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير في قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، كانوا يشبِّكون بين أصابعهم ويصفرون بها، فذلك "المكاء". قال: وأراني سعيد بن جبير المكان الذي كانوا يمكون فيه نحو أبي قُبَيس.
16042- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب
__________
(1) " الخذف " رميك بحصاة أو نواة تأخذها بين سبابتيك، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن " الخذف " وقال: " إنه يفقأ عينًا، ولا ينكي العدو، ولا يحرز صيدًا ".
(2) " أبو قبيس "، اسم الجبل المشرف على بطن مكة.(13/525)
قال، حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن في قوله: "مكاء وتصدية"، قال: "المكاء" النفخ= وأشار بكفه قِبَل فيه= و"التصدية"، التصفيق.
16043 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: "المكاء"، الصفير، و"التصدية"، التصفيق.
16044 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، مثله.
16045 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: كنا نُحَدَّث أن "المكاء"، التصفيق بالأيدي، و"التصدية"، صياح كانوا يعارضون به القرآن.
16046 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، التصفير، و"التصدية"، التصفيق.
16047 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، و"المكاء"، الصفير، على نحو طير أبيض يقال له "المكَّاء"، يكون بأرض الحجاز، (1) و"التصدية"، التصفيق.
16048 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: "المكاء"، صفير كان أهل الجاهلية يُعلنون به. قال: وقال في "المكاء"، أيضًا: صفير في أيديهم ولعب.
* * *
__________
(1) " المكاء " (بضم الميم وتشديد الكاف) ، وجمعه " مكاكي " طائر نحو القنبرة، إلا أن في جناحيه بلقًا. سمى بذلك، لأنه يجمع يديه، ثم يصفر فيهما صفيرًا حسنًا.(13/526)
وقد قيل في "التصدية": إنها "الصد عن بيت الله الحرام". وذلك قول لا وجه له، لأن "التصدية"، مصدر من قول القائل: "صدّيت تصدية". وأما "الصدّ" فلا يقال منه: "صدَّيت"، إنما يقال منه "صدَدْت"، فإن شدَّدت منها الدال على معنى تكرير الفعل قيل: "صدَّدْتَ تصديدًا". (1) إلا أن يكون صاحب هذا القول وجَّه "التصدية" إلى أنه من "صَدَّدت"، ثم قلبت إحدى داليه ياء، كما يقال: "تظنَّيْتُ" من "ظننت"، وكما قال الراجز: (2)
تَقَضِّيَ البَازِي إذَا البَازِي كَسَرْ (3)
يعني: تقضُّض البازي، فقلب إحدى ضاديه ياء، فيكون ذلك وجهًا يوجَّه إليه.
* ذكر من قال ما ذكرنا في تأويل "التصدية".
16049 - حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، صدهم عن بيت الله الحرام.
16050 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن سليمان قال، أخبرنا طلحة بن عمرو، عن سعيد بن جبير: "وتصدية" قال: "التصدية"، صدّهم الناس عن البيت الحرام.
16051 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وتصدية"، قال: التصديد، عن سبيل الله، (4) وصدّهم عن الصلاة وعن دين الله.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " صددت تصدية "، وهو خطأ ظاهر، صوابه ما أثبت.
(2) هو العجاج.
(3) سلف البيت وتخريجه وشرحه 2: 157، وسيأتي في التفسير 30: 135 (بولاق) .
(4) في المطبوعة: " التصدية "، وفي المخطوطة توشك أن تقرأ هكذا وهكذا، ورأيت الأرجح أن تكون " التصديد "، فأثبتها.(13/527)
16052 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية"، قال: ما كان صلاتهم التي يزعمون أنها يُدْرَأ بها عنهم= "إلا مكاء وتصدية"، وذلك ما لا يرضى الله ولا يحبّ، ولا ما افترض عليهم، ولا ما أمرهم به. (1)
* * *
وأما قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فإنه يعني العذابَ الذي وعدهم به بالسيف يوم بدر. يقول للمشركين الذين قالوا: "اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء" الآية، حين أتاهم بما استعجلوه من العذاب= "ذوقوا"، أي اطعموا، وليس بذوق بفم، ولكنه ذوق بالحسِّ، ووجود طعم ألمه بالقلوب. (2) يقول لهم: فذوقوا العذابَ بما كنتم تجحدون أن الله معذبكم به على جحودكم توحيدَ ربكم، ورسالةَ نبيكم صلى الله عليه وسلم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16053 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، أي: ما أوقع الله بهم يوم بدر من القتل. (3)
16054 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، قال: هؤلاء أهل بدر، يوم عذبهم الله.
16055 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، يعني أهل بدر، عذبهم الله يوم بدر بالقتل والأسر.
* * *
__________
(1) الأثر: 16052 - سيرة ابن هشام 2: 326، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16021
(2) انظر تفسير " الذوق " فيما سلف ص 434، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) الأثر: 16053 - سيرة ابن هشام 2: 326، وهو تابع الأثر السالف رقم: 1605.(13/528)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم، (1) فيعطونها أمثالهم من المشركين ليتقوَّوا بها على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، ليصدّوا المؤمنين بالله ورسوله عن الإيمان بالله ورسوله، (2) فسينفقون أموالهم في ذلك، ثم تكون نفقتهم تلك عليهم= "حسرة"، يقول: تصير ندامة عليهم، (3) لأن أموالهم تذهب، ولا يظفرون بما يأملون ويطمعون فيه من إطفاء نور الله، وإعلاء كلمة الكفر على كلمة الله، لأن الله مُعْلي كلمته، وجاعل كلمة الكفر السفلى، ثم يغلبهم المؤمنون، ويحشر الله الذين كفروا به وبرسوله إلى جهنم، فيعذبون فيها، (4) فأعظم بها حسرة وندامة لمن عاش منهم ومن هلك! أما الحيّ، فحُرِب ماله وذهبَ باطلا في غير دَرَك نفع، ورجع مغلوبًا مقهورًا محروبًا مسلوبًا. (5) وأما الهالك، فقتل وسُلب، وعُجِّل به إلى نار الله يخلُد فيها، نعوذ بالله من غضبه.
وكان الذي تولَّى النفقةَ التي ذكرها الله في هذه الآية فيما ذُكر، أبا سفيان.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " الإنفاق " فيما سلف من فهارس اللغة (نفق) .
(2) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 12: 559 تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الحسرة " فيما سلف 3: 295 \ 7: 335 \ 11: 325.
(4) انظر تفسير " الحشر " فيما سلف ص: 472 تعليق: 2، والمراجع هناك.
(5) في المطبوعة: " محزونًا مسلوبًا "، والسياق يتقضى ما أثبت.
" محروب "، مسلوب المال.(13/529)
16056- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير في قوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم" الآية، "والذين كفروا إلى جهنم يحشرون"، قال: نزلت في أبي سفيان بن حرب. استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش من بني كنانة، (1) فقاتل بهم النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وهم الذين يقول فيهم كعب بن مالك:
وَجِئْنَا إلَى مَوْجٍ مِنَ البَحْرِ وَسْطَه أَحَابِيشُ، مِنْهُمْ حَاسِرٌ وَمُقَنَّعُ (2)
ثَلاثَةُ آلافٍ، ونَحْنُ نَصِيَّةٌ ثَلاثُ مِئِينَ إن كَثُرْنَ، فَأرْبَعُ (3)
16057- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن إسماعيل، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن ابن أبزى: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، قال: نزلت في أبي سفيان، استأجر يوم أحد ألفين ليقاتل بهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، سوى من استجاش من العرب. (4)
__________
(1) " الأحابيش "، هم بنو الحارث بن عبد مناة بن كنانة، وعضل، والديش، من بني الهون بن خزيمة، والمطلق، والحيا، من خزاعة. وسميت " الأحابش "، لاجتماعها وانضمامها محالفة قريش، في قتال بني ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة. (انظر المحبر: 246، 267) و (نسب قريش: 9) .
(2) سيرة ابن هشام 3: 141، طبقات فحول الشعراء: 183، نسب قريش: 9 وغيرها.
ويعني بقوله: " فجئنا إلى موج "، جيش الكفار يوم أحد، يموج موجه. وكان عدة المشركين بأحد ثلاثة آلاف. و " الحاسر "، الذي لا درع له، ولا بيضة على رأسه. و " المقنع "، الدارع الذي ليس لبس سلاحه، ووضع البيضة على رأسه.
(3) " نصية "، أي: خيار أشراف، أهل جلد وقتال. يقال: " انتصى الشيء "، اختار ناصيته، أي أكرم ما فيه. وكان في المطبوعة: " ونحن نظنه "، وهو خطأ صرف، وهي في المخطوطة، كما كتبتها غير منقوطة.
وهكذا جاء الرواية في المخطوطة: " إن كثرن فأربع "، كأنه يعني أنهم كانوا ثلاثمئة، فإن كثروا فأربعمئة. وهو لا يصح، لأن عدة المسلمين يوم أحد كانت سبعمئة. فصواب الرواية ما أنشده ابن إسحاق وابن سلام.
" إنْ كَثُرْنَا وَأَرْبَعُ "
(4) " استجاش "، طلب منه الجيش وجمعه على عدوه.(13/530)
16058-......قال، أخبرنا أبي عن خطاب بن عثمان العصفري، عن الحكم بن عتيبة: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، قال: نزلت في أبي سفيان. أنفق على المشركين يوم أحد أربعين أوقية من ذهب، وكانت الأوقية يومئذ اثنين وأربعين مثقالا. (1)
16059 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، الآية، قال: لما قدم أبو سفيان بالعير إلى مكة أشَّبَ الناس ودعاهم إلى القتال، (2) حتى غزا نبيَّ الله من العام المقبل. وكانت بدر في رمضان يوم الجمعة صبيحة سابع عشرة من شهر رمضان. وكانت أحد في شوال يوم السبت لإحدى عشرة خلت منه في العام الرابع.
16060 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال الله فيما كان المشركون، ومنهم أبو سفيان، يستأجرون الرجال يقاتلون محمدًا بهم: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، وهو محمد صلى الله عليه وسلم= "فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة"، يقول: ندامة يوم القيامة وويلٌ (3) = "ثم يغلبون".
16061 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: "ينفقون أموالهم ليصدوا
__________
(1) الأثر: 16058 - " خطاب بن عثمان العصفري "، لم أجد له ترجمة في غير ابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 286، وقال: " خطاب العصفري " روى عن الشعبي، روى عنه وكيع، ومحمد بن ربيعة، وأبو نعيم. سمعت أبي يقول ذلك.
وسألته عنه فقال: " شيخ ". ولم يذكر أن اسم أبيه " عثمان ".
(2) في المطبوعة: " أنشد الناس "، وهو لا معنى له. وفي المخطوطة: " أنسب "، غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. و " التأشيب "، التحريش بين القوم، و " التأشيب "، التجميع، يقال: " تأشب به أصحابه "، أي: اجتمعوا إليه وطافوا به. أراد أنه جمعهم وحرضهم على القتال.
(3) في المطبوعة: " وويلا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضًا.(13/531)
عن سبيل الله"، الآية حتى قوله: "أولئك هم الخاسرون"، قال: في نفقة أبي سفيان على الكفار يوم أحد.
16062- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
16063 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثنا محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، (1) [وغيرهم من علمائنا، كلهم قد حدث بعض الحديث عن يوم أحد. وقد اجتمع حديثهم كله فيما سقت من الحديث عن يوم أحد، قالوا: أو من قاله منهم: لما أصيب] يوم بدر من كفار قريش من أصحاب القليب، (2) ورجع فَلُّهم إلى مكة، (3) ورجع أبو سفيان بعِيره، مشى عبد الله بن أبي ربيعة، (4) وعكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية، في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كان له في تلك العير من قريش تجارة، فقالوا: يا معشر قريش، إن محمدًا قد وَتَرَكم وقتل خيارَكم، (5) فأعينونا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " الحصين بن عبد الرحمن وعمرو بن سعد بن معاذ "، وهو خطأ، فقد مضى مرارًا مثله. وصوابه من سيرة ابن هشام.
(2) هذه الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام، وإنما فعلت ذلك، لأن المطبوعة خالفت المخطوطة لخطأ فيها، فكتب في لمطبوعة: " قالوا: أما أصابت المسلمين يوم بدر ... "، وكان في المخطوطة: " قالوا: لما أصيبت قريش، أو من قاله منهم، يوم بدر "، وهو غير مستقيم، فرجح قوله: " أو من قال منهم "، أن الناسخ قد عجل في نقل بقية الإسناد، وخلط الكلام فاضطرب. فلذلك أثبته بنصه من السيرة.
(3) " الفل " (بفتح الفاء) : المنهزمون، الراجعون من جيش قد هزم.
(4) في المطبوعة: " عبد الله بن ربيعة "، خطأ محض.
(5) " وتر القوم "، أدرك فيهم مكروهًا بقتل أو غيره. و " الموتور " الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه.(13/532)
بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرًا بمن أصيب منا! ففعلوا. قال: ففيهم، كما ذكر عن ابن عباس، (1) أنزل الله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم" إلى قوله: "والذين كفروا إلى جهنم يحشرون". (2)
16064 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله"، إلى قوله: "يحشرون"، يعني النفرَ الذين مشوا إلى أبي سفيان، وإلى من كان له مال من قريش في تلك التجارة، فسألوهم أن يُقَوُّوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، (3) ففعلوا. (4)
16065 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن عطاء بن دينار في قول الله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم"، الآية، نزلت في أبي سفيان بن حرب. (5)
* * *
وقال بعضهم: عني بذلك المشركون من أهل بدر.
* ذكر من قال ذلك:
16066 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله" الآية، قال: هم أهل بدر.
* * *
__________
(1) الذي في سيرة ابن هشام: " قال ابن إسحاق، ففيهم، كما ذكر لي بعض أهل العلم "، ولم يسند الكلام إلى ابن عباس.
(2) الأثر: 16063 - سيرة ابن هشام 3: 64.
(3) في المطبوعة: " أن يعينوهم "، وفي سيرة ابن هشام: " يقووهم بها "، بزيادة.
(4) الأثر: 16064 سيرة ابن هشام 2: 327، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16053.
(5) الأثر: 16065 - " سعيد بن أبي أيوب مقلاص المصري "، مضى مرارًا آخرها رقم: 13178. وكان في المخطوطة: " سعيد بن أيوب "، وصححه ناشر المطبوعة.
و" عطاء بن دينار الهذلي المصري "، مضى أيضًا برقم: 160، 13178، بمثل هذا الإسناد.(13/533)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قلنا، وهو أن يقال: إن الله أخبرَ عن الذين كفروا به من مشركي قريش، أنهم ينفقون أموالهم ليصدُّوا عن سبيل الله. لم يخبرنا بأيّ أولئك عَنى، غير أنه عم بالخبر "الذين كفروا". وجائز أن يكون عَنَى المنفقين أموالهم لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأحد= وجائز أن يكون عنى المنفقين منهم ذلك ببدر= وجائز أن يكون عنى الفريقين. وإذا كان ذلك كذلك، فالصواب في ذلك أن يعمّ كما عم جل ثناؤه الذين كفروا من قريش.
* * *
القول في تأويل قوله: {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحشر الله هؤلاء الذين كفروا بربهم، وينفقون أموالهم للصدّ عن سبيل الله، إلى جهنم، ليفرق بينهم= وهم أهل الخبث، كما قال وسماهم "الخبيث" = وبين المؤمنين بالله وبرسوله، وهم "الطيبون"، كما سماهم جل ثناؤه. فميَّز جل ثناؤه بينهم بأن أسكن أهل الإيمان به وبرسوله جناته، وأنزل أهل الكفر نارَه. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16067 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
__________
(1) انظر تفسير " الخبيث " فيما سلف ص: 165، تعليق: 3، 4، والمراجع هناك.
= وتفسير " الطيب " فيما سلف من فهارس اللغة (طيب) .(13/534)
عن علي، عن ابن عباس قوله: "ليميز الله الخبيث من الطيب" فميَّز أهل السعادة من أهل الشقاوة.
16068 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر المشركين، وما يصنع بهم يوم القيامة، فقال: "ليميز الله الخبيث من الطيب"، يقول: يميز المؤمن من الكاف، فيجعل الخبيث بعضه على بعض.
* * *
ويعني جل ثناؤه بقوله: "فيجعل الخبيث بعضه على بعض"، فيحمل الكفار بعضهم فوق بعض = "فيركمه جميعا"، يقول: فيجعلهم ركامًا، وهو أن يجمع بعضهم إلى بعض حتى يكثروا، كما قال جل ثناؤه في صفة السحاب: ((ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا)) [سورة النور: 43] ، أي مجتمعًا كثيفًا، وكما:-
16069 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "فيركمه جميعًا"، قال: فيجمعه جميعًا بعضه على بعض.
* * *
وقوله: "فيجعله في جهنم" يقول: فيجعل الخبيث جميعًا في جهنم= فوحَّد الخبر عنهم لتوحيد قوله: "ليميز الله الخبيث"، ثم قال: "أولئك هم الخاسرون"، فجمع، ولم يقل: "ذلك هو الخاسر"، فردَّه إلى أول الخبر.
ويعني ب "أولئك"، الذين كفروا، وتأويله: هؤلاء الذين ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله "هم الخاسرون"، ويعني بقوله: "الخاسرون" الذين غُبنت صفقتهم، وخسرت تجارتهم. (1) وذلك أنهم شَرَوْا بأموالهم عذابَ الله في الآخرة، وتعجَّلوا بإنفاقهم إياها فيما أنفقوا من قتال نبيّ الله والمؤمنين به، الخزيَ والذلَّ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " خسر " فيما سلف 12: 579، تعليق: 2،المراجع هناك.(13/535)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38)
القول في تأويل قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ (38) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "قل"، يا محمد، "للذين كفروا"، من مشركي قومك= "إن ينتهوا"، عما هم عليه مقيمون من كفرهم بالله ورسوله، وقتالك وقتال المؤمنين، فينيبوا إلى الإيمان (1) = يغفر الله لهم ما قد خلا ومضى من ذنوبهم قبل إيمانهم وإنابتهم إلى طاعة الله وطاعة رسوله بإيمانهم وتوبتهم (2) = "وإن يعودوا"، يقول: وإن يعد هؤلاء المشركون لقتالك بعد الوقعة التي أوقعتها بهم يوم بدر= فقد مضت سنتي في الأولين منهم ببدر، ومن غيرهم من القرون الخالية، (3) إذ طغوا وكذبوا رسلي ولم يقبلوا نصحهم، من إحلال عاجل النِّقَم بهم، فأحلّ بهؤلاء إن عادوا لحربك وقتالك، مثل الذي أحللت بهم. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16070- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "فقد مضت سنة الأولين"، في قريش يوم بدر، وغيرها من الأمم قبل ذلك.
16071 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
__________
(1) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف: 455، تعليق: 1 والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " سلف " فيما سلف 6: 14 \ 8: 138، 150 \ 11: 48.
(3) انظر تفسير " سنة " فيما سلف 7: 228 \ 8: 209.
(4) في المطبوعة: " اللذين أحلت بهم "، وفي المخطوطة سيئة الكتابة، صوابها ما أثبت.(13/536)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39)
16072 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
16073 - حدثني ابن وكيع قال، (1) حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "فقد مضت سنة الأولين"، قال: في قريش وغيرها من الأمم قبل ذلك.
16074 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال في قوله: "قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف وإن يعودوا" لحربك= "فقد مضت سنة الأولين"، أي: من قُتل منهم يوم بدر. (2)
16075 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وإن يعودوا"، لقتالك= "فقد مضت سنة الأولين"، من أهل بدر.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: وإن يعد هؤلاء لحربك، فقد رأيتم سنتي فيمن قاتلكم منهم يوم بدر، وأنا عائد بمثلها فيمن حاربكم منهم، فقاتلوهم حتى لا يكون شرك، ولا يعبد إلا الله وحده لا شريك له، فيرتفع البلاء عن عباد الله من الأرض= وهو "الفتنة" (3) = "ويكون الدين
__________
(1) في المطبوعة: " حدثنا المثنى قال، حدثنا ابن وكيع ... "، وهو خطأ ظاهر، وصوابه من المخطوطة.
(2) الأثر: 16074 - سيرة ابن هشام 2: 327، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16064.
(3) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف: 486، تعليق: 1، والمراجع هناك.(13/537)
كله لله"، يقول: حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصةً دون غيره. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16076 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، يعني: حتى لا يكون شرك.
16077 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن يونس، عن الحسن في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: "الفتنة"، الشرك.
16078 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، يقول: قاتلوهم حتى لا يكون شرك= "ويكون الدين كله لله"، حتى يقال: "لا إله إلا الله"، عليها قاتل نبي الله صلى الله عليه وسلم، وإليها دَعا.
16079 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: حتى لا يكون شرك.
16080 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: حتى لا يكون بلاء.
__________
(1) وتفسير " الدين " فيما سلف 1: 155، 156 \ 6:273 - 275، وغيرها في فهارس اللغة (دين) .(13/538)
16081 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله"، أي: لا يفتن مؤمن عن دينه، ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شرك، ويُخلع ما دونه من الأنداد. (1)
16082 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: حتى لا يكون كفر= "ويكون الدين كله لله"، لا يكون مع دينكم كفر.
16083 - حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه: أن عبد الملك بن مروان كتبَ إليه يسأله عن أشياء، فكتب إليه عروة: "سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فإنك كتبت إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وسأخبرك به، ولا حول ولا قوة إلا بالله. كان من شأن خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، أن الله أعطاه النبوة، فنعم النبيُّ! ونعم السيد! ونعم العشيرة! فجزاه الله خيرًا، وعرّفنا وجهه في الجنة، وأحيانَا على ملته، وأماتنا عليها، وبعثنا عليها. وإنه لما دعا قومه لما بعثه الله له من الهدى والنور الذي أنزل عليه، لم يَبْعُدوا منه أوّلَ ما دعاهم إليه، (2) وكادوا
__________
(1) الأثر: 16081 - هذا نص ابن هشام في سيرته، من روايته عن ابن إسحاق، فأنا أكاد أقطع أن هذا الخبر ملفق من خبرين:
أولهما هذا الإسناد الأول، سقط نص خبره.
والآخر إسناد أبي جعفر إلى ابن إسحاق، وهو هذا، حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:.. "، ثم هذا السياق الذي هنا، وهو نص ما في ابن هشام.
انظر سيرة ابن هشام 2: 327، وهو تابع الأثر السالف رقم: 12074.
(2) في المطبوعة: " لم ينفروا منه " غير ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ.(13/539)
يسمعون له، (1) حتى ذكر طواغيتهم. وقدم ناس من الطائف من قريش، لهم أموال، أنكر ذلك ناسٌ، واشتدّوا عليه، (2) وكرهوا ما قال، وأغروا به من أطاعهم، فانصفق عنه عامة الناس فتركوه، (3) إلا من حفظه الله منهم، وهم قليل. فمكث بذلك ما قدّر الله أن يمكث، ثم ائتمرت رؤوسهم بأن يفتنوا من اتبعه عن دين الله من أبنائهم وإخوانهم وقبائلهم، فكانت فتنةً شديدة الزلزال (4) ، فافتتن من افتتن، وعصم الله من شاء منهم. فلما فُعِل ذلك بالمسلمين، أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا إلى أرض الحبشة. وكان بالحبشة ملك صالح يقال له "النجاشي"، لا يُظلم أحد بأرضه، (5) وكان يُثْنَى عليه مع ذلك [صلاح] ، (6) وكانت أرض الحبشة متجرًا لقريش، يَتْجَرون فيها، ومساكن لتِجَارهم (7) يجدون فيها رَفاغًا من الرزق وأمنًا ومَتْجَرًا حسنًا، (8) فأمرهم بها النبي صلى الله عليه وسلم، فذهب إليها عامتهم لما قُهِروا بمكة، وخاف عليهم الفتن. (9) ومكث هو فلم يبرح. فمكث ذلك سنوات يشتدُّون على من أسلم منهم. (10) ثم إنه فشا الإسلام فيها، ودخل فيه رجال من أشرافهم ومَنَعتهم. (11) فلما رأوا ذلك، استرخوْا استرخاءة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه. (12) وكانت الفتنة الأولى هي أخرجت من خرج من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل أرض الحبشة، مخافتَها، وفرارًا مما كانوا فيه من الفتن والزلزال. فلما استُرْخي عنهم، ودخل في الإسلام من دخل منهم، تُحُدِّث باسترخائهم عنهم. (13) فبلغ ذلك من كان بأرض الحبشة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قد استُرْخِيَ عمن كان منهم بمكة، وأنهم لا يفتنون. فرجعوا إلى مكة، وكادوا يأمنون بها، (14) وجعلوا يزدادون، ويكثرون. وأنه أسلم من الأنصار بالمدينة ناس كثير، وفشا بالمدينة الإسلام، وطفق أهل المدينة يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة. فلما رأت ذلك قريش ذلك، تذامرَتْ على أن يفتنوهم ويشتدّوا عليهم، (15) فأخذوهم، وحرصوا على أن يفتنوهم، فأصابهم جَهْدٌ شديد. وكانت الفتنة الآخرة. فكانت ثنتين: فتنة أخرجت من خرج منهم إلى أرض الحبشة، حين أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وأذن لهم في الخروج إليها= وفتنة لما رجعوا ورأوا من يأتيهم من أهل المدينة. ثم إنه جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سبعون نقيبًا، (16) رؤوس الذين أسلموا، فوافوه بالحج، فبايعوه بالعقبة، وأعطوه عهودهم على أنّا منك وأنت منا، (17) وعلى أن من جاء من أصحابك أو جئتنا، فإنا نمنعك مما نمنع منه أنفسنا. فاشتدت عليهم قريش عند ذلك. فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يخرجوا إلى المدينة، وهي الفتنة الآخرة التي أخرج فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، وخرج هو، وهي التي أنزل الله فيها: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله". (18)
16084 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبد الرحمن بن أبي الزناد، عن أبيه، عن عروة بن الزبير: أنه كتب إلى الوليد: "أما بعد، فإنك كتبتَ إليّ تسألني عن مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة، وعندي،
__________
(1) في المطبوعة: " وكانوا يسمعون "، غير ما في المخطوطة، وهو مطابق للتاريخ.
(2) في المطبوعة: " أنكر ذلك عليه ناس "، زاد " عليه "، وفي التاريخ: " أنكروا ذلك عليه "، ليس فيه " ناس ".
(3) في المطبوعة: " فانعطف عنه "، غير ما في المخطوطة عبثًا، وهو مطابق لما في التاريخ و " انصفق عنه الناس "، رجعوا وانصرفوا. و " انصفقوا عليه ": أطبقوا واجتمعوا، أصله من " الصفقة "، وهو الاجتماع على الشيء. وإنما غير المعنى استعمال الحرف، في الأول " عنه "، وفي الأخرى " عليه ". وهذا من محاسن العربية.
(4) في المخطوطة: " شدودة الزلزال "، وهو سهو من الناسخ.
(5) في المخطوطة: " لا يظلم بأرضه "، وصححها لناشر وتصحيحه مطابق لما في التاريخ.
(6) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري.
(7) قوله: " ومساكن لتجارهم "، ليست في التاريخ، وفي المطبوعة: " لتجارتهم "، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وابن كثير.
(8) في المطبوعة: " رتاعًا من الرزق "، خالف المخطوطة، لأنها غير منقوطة، وهي مطابقة لما في التاريخ. و " الرفاغ " مصدر " رفغ " (بفتح فضم) ، وهو قياس العربية، والذي في المعاجم " رفاغة ". يقال: " إنه لفي رفاغة من العيش "، و " رفاغية " (على وزن: ثمانية) : سعة من العيش وطيب وخصب. و " عيش رافغ ".
(9) في المطبوعة والمخطوطة: " وخافوا عليهم الفتن "، والجيد ما أثبته من التاريخ.
(10) في التاريخ: " فمكث بذلك سنوات "، وهي أجود.
(11) إلى هذا الموضع، انتهي ما رواه أبو جعفر في تاريخه 2: 220، 221، إلا أنه لم يذكر في ختام الجملة " ومنعتهم ".
وقوله: " ومنعتهم " (بفتحات) ، جمع " مانع "، مثل " كافر " و " كفرة "، وهم الذين يمنعون من يرديهم بسوء.
وانظر تخريج الخبر في آخر هذا الأثر.
(12) " الاسترخاء "، السعة والسهولة. " استرخوا عنهم "، أرخوا عنهم شدة العذاب والفتنة.
(13) في المطبوعة: " تحدث بهذا الاسترخاء عنهم "، وفي المخطوطة هكذا: " تحددوا استرخائهم عنهم "، وأثبت الصواب من تفسير ابن كثير.
(14) من أول قوله: " فلما رأوا ذلك استرخوا ... "، إلى هذا الموضع، لم يذكره أبو جعفر في تاريخه، ثم يروي ما بعده، كما سأبينه بعد في التعليق.
(15) في المطبوعة والمخطوطة: " توامرت على أن يفتنوهم "، وأثبت ما في التاريخ. أما ابن كثير في تفسيره فنقل: " توامروا على أن يفتنوهم ". وفي المطبوعة وحدها: " ويشدوا عليهم "، وأثبت ما في التاريخ وابن كثير.
و" تذامر القوم "، حرض بعضهم بعضًا وحثه على قتال أو غيره. و " ذمر حزبه تذميرًا "، شجعه وحثه، مع لوم واستبطاء.
(16) في المطبوعة: " سبعون نفسًا "، وفي المخطوطة؛ " سبعين نفسًا "، غير منقوطة، والصواب ما أثبته من تاريخ الطبري، وتفسير ابن كثير.
(17) في المطبوعة والمخطوطة: " وأعطوه على أنا منك.. "، سقط من الكلام " عهودهم "، أثبتها من التاريخ، وفي تفسير ابن كثير " وأعطوه عهودهم ومواثيقهم ".
(18) الأثر: 16083 - " أبان العطار "، هو " أبان بن يزيد العطار "، وقد سلف شرح هذا الإسناد: 15719، 15821، وغيرهما إسناد صحيح.
وكتاب عروة إلى عبد الملك بن مروان قد رواه أبو جعفر مفرقًا في تفسيره، وفي تاريخه، فما رواه في تفسيره آنفًا رقم: 15719، 15821 أما في تاريخه، فقد رواه مفرقًا في مواضع، هذه هي 2: 220، 221، 240، 241، 245، 267 - 269 \ ثم 3: 117، 125، 132، وعسى أن أستطيع أن ألم شتات هذا الكتاب من التفسير والتاريخ، حتى أخرج منه كتاب عروة إلى عبد الملك كاملا، فهو من أوائل الكتب التي كتبت عن سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا الخبر نفسه، مفرق في موضعين من التاريخ 2: 220، 221 كما أشرت إليه في ص: 443 تعليق: 1 \ ثم 2: 240، 241.
ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من التفسير في تفسيره 4: 61، 62.
ثم انظر التعليق على الأثر التالي.(13/540)
بحمد الله، من ذلك علم بكل ما كتبتَ تسألني عنه، وسأخبرك إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، ثم ذكر نحوه. (1)
16085- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن الأعمش، عن مجاهد: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"، قال: "يَسَاف" و"نائلة"، صنمان كانا يعبدان. (2)
* * *
وأما قوله: "فإن انتهوا"، فإن معناه: فإن انتهوا عن الفتنة، وهي الشرك بالله، وصارُوا إلى الدين الحق معكم (3) = "فإن الله بما يعملون بصير"، يقول: فإن الله لا يخفى عليه ما يعملون من ترك الكفر والدخول في دين الإسلام، (4) لأنه يبصركم ويبصر أعمالكم، (5) والأشياء كلها متجلية له، لا تغيب عنه، ولا
__________
(1) الأثر: 16084 - " عبد الرحمن بن أبي الزناد "، هو " عبد الرحمن بن عبد الله ابن ذكوان "، مضى برقم: 1695، 9225، وقال أخي السيد أحمد أنه ثقة، تكلم فيه بعض الأئمة. ثم قال: وقد وثقه الترمذي وصحح عدة من أحاديثه، بل قال في السنن 3: 59: " هو ثقة حافظ ".
وممن ضعف " عبد الرحمن بن أبي الزناد " ابن معين قال: " ليس ممن يحتج به أصحاب الحديث،ليس بشيء ". وقال أحمد: " مضطرب الحديث "، وقال ابن المديني " كان عند أصحابنا ضعيفًا "، وقال ابن المديني: " ما حدث به بالمدينة فهو صحيح، وما حدث ببغداد أفسده البغداديون ". وقال ابن سعد: " كان كثير الحديث، وكان يضعف لروايته عن أبيه ".
وأبوه " عبد الله بن ذكوان "، أبو الزناد، ثقة، روى له الجماعة.
وقد روى " عبد الرحمن بن أبي الزناد "، أن الذي كتب إليه عروة، هو " الوليد بن عبد الملك ابن مروان "، والإسناد السالف أصح واوثق، أنه كتب إلى " عبد الملك بن مروان "، فأنا أخشى أن يكون هذا الخبر مما اضطربت فيه رواية " ابن أبي الزناد "، عن أبيه.
(2) " إساف " (بكسر اللف وفتحها) و " يساف " (بكسر الياء وفتحها) ، واحد. وقد مضى ذلك في الخبر: 10433، والتعليق عليه 9: 208، تعليق: 1.
وكان في المخطوطة هنا: " ساف ونافلة "، وهو خطأ محض.
(3) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف ص: 536، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة (بصر) .
(5) في المطبوعة: " يبصركم "، والصواب من المخطوطة.(13/543)
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين.
* * *
وقد قال بعضهم: معنى ذلك، فإن انتهوا عن القتال.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قلنا في ذلك أولى بالصواب، لأن المشركين وإن انتهوا عن القتال، فإنه كان فرضًا على المؤمنين قتالهم حتى يسلموا.
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن أدبر هؤلاء المشركون عما دعوتموهم إليه، أيها المؤمنون من الإيمان بالله ورسوله، وترك قتالكم على كفرهم، فأبوا إلا الإصرار على الكفر وقتالكم، فقاتلوهم، وأيقنوا أنّ الله معينكم عليهم وناصركم (1) = "نعم المولى"، هو لكم، يقول: نعم المعين لكم ولأوليائه (2) = "ونعم النصير"، وهو الناصر. (3)
* * *
16086 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وإن تولوا"، عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم، فإن الله هو مولاكم الذي أعزكم
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف (9: 141) تعليق: ... ، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المولى " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(3) انظر تفسير " النصير " فيما سلف 10: 481، تعليق: 5، والمراجع هناك.(13/544)
ونصركم عليهم يوم بدر، في كثرة عددهم وقلة عددكم= "نعم المولى ونعم النصير". (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 18086 - سيرة ابن هشام 2: 327، مع اختلاف يسير في سياقه، وهو تابع الأثريين السالفين: 16074، 16081، وانظر التعليق على هذا الأثر الأخير، وما استظهرته هناك.(13/545)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ}
قال أبو جعفر: وهذا تعليم من الله عز وجل المؤمنين قَسْمَ غنائمهم إذا غنموها.
يقول تعالى ذكره: واعلموا، أيها المؤمنون، أن ما غنمتم من غنيمة.
* * *
واختلف أهل العلم في معنى "الغنيمة" و"الفيء".
فقال بعضهم: فيهما معنيان، كل واحد منهما غير صاحبه.
* ذكر من قال ذلك:
16087 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح قال: سألت عطاء بن السائب عن هذه الآية: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، وهذه الآية: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ)) [سورة الحشر: 7] ، قال قلت: ما "الفيء"، وما "الغنيمة"؟ قال: إذا ظهر المسلمون على المشركين وعلى أرضهم، وأخذوهم عنوةً، فما أخذوا من مال ظهروا عليه فهو "غنيمة"، وأما الأرض فهو في سوادنا هذا "فيء". (1)
* * *
وقال آخرون: "الغنيمة"، ما أخذ عنوة، و"الفيء"، ما كان عن صلح.
* ذكر من قال ذلك:
16088 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان الثوري قال:
__________
(1) في المطبوعة: " فهي في سوادنا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مستقيم.(13/545)
"الغنيمة"، ما أصاب المسلمون عنوة بقتال، فيه الخمس، وأربعة أخماسه لمن شهدها. و"الفيء"، ما صولحوا عليه بغير قتال، وليس فيه خمس، هو لمن سمَّى الله.
* * *
وقال آخرون: "الغنيمة" و"الفيء"، بمعنى واحد. وقالوا: هذه الآية التي في "الأنفال"، ناسخة قوله: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ)) الآية، [سورة الحشر: 7] .
* ذكر من قال ذلك:
16089 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله: (ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل) ، قال: كان الفيء في هؤلاء، ثم نسخ ذلك في "سورة الأنفال"، فقال: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل"، فنسخت هذه ما كان قبلها في "سورة الأنفال"، (1) وجعل الخمس لمن كان له الفيء في "سورة الحشر"، وسائر ذلك لمن قاتل عليه. (2)
* * *
وقد بينا فيما مضى "الغنيمة"، وأنها المال يوصل إليه من مال من خوّل الله مالَه أهلَ دينه، بغلبة عليه وقهرٍ بقتال. (3)
* * *
فأما "الفيء"، فإنه ما أفاء الله على المسلمين من أموال أهل الشرك، وهو
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " ما كان قبلها في سورة الحشر "، وسيأتي على الصواب كما أثبته في تفسير " سورة الحشر " 28: 25 (بولاق) ، ويعني بذلك أنها نسخت قوله في أول سورة الأنفال: " يسألونك عن الأنفال ".
(2) الأثر: 16089 - سيأتي هذا الخبر مطولا في تفسير " سورة الحشر " 28: 25، 26 (بولاق) .
(3) انظر تفسير " الغنيمة " فيما سلف في تفسير " النفل " ص: 361 - 385.(13/546)
ما ردّه عليهم منها بصلح، من غير إيجاف خيل ولا ركاب. وقد يجوز أن يسمى ما ردّته عليهم منها سيوفهم ورماحهم وغير ذلك من سلاحهم "فيئًا"، لأن "الفيء"، إنما هو مصدر من قول القائل: "فاء الشيء يفيء فيئًا"، إذا رجع= و"أفاءه الله"، إذا ردّه. (1)
غير أن الذي ردّ حكم الله فيه من الفيء بحكمه في "سورة الحشر"، (2) إنما هو ما وصفت صفته من الفيء، دون ما أوجف عليه منه بالخيل والركاب، لعلل قد بينتها في كتاب: (كتاب لطيف القول، في أحكام شرائع الدين) ، وسنبينه أيضًا في تفسير "سورة الحشر"، إذا انتهينا إليه إن شاء الله تعالى. (3)
* * *
وأما قول من قال: الآية التي في "سورة الأنفال"، ناسخةٌ الآيةَ التي في "سورة الحشر"، فلا معنى له، إذ كان لا معنى في إحدى الآيتين ينفي حكم الأخرى. وقد بينا معنى "النسخ"، وهو نفي حكم قد ثبت بحكمٍ خلافه، في غير موضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
وأما قوله: "من شيء"، فإنه مرادٌ به: كل ما وقع عليه اسم "شيء"، مما خوّله الله المؤمنين من أموال من غلبوا على ماله من المشركين، مما وقع فيه القَسْم، حتى الخيط والمِخْيط، (5) كما:-
16090 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير " فاء " فيما سلف 4: 465، 466.
(2) في المطبوعة: " ... الذي ورد حكم الله فيه من الفيء يحكيه في سورة الحشر "، غير ما في المخطوطة، فأفسد الكلام إفسادًا تامًا.
(3) انظر ما سيأتي 28: 24 - 27 (بولاق) .
(4) انظر مقالته في " النسخ " في فهارس النحو والعربية وغيرهما، وفي مواضع فيها مراجع ذلك كله في كتابه هذا.
(5) " المخيط "، الإبرة، وهو ما خيط به.(13/547)
سفيان، عن ليث، عن مجاهد قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء"، قال: المخيط من "الشيء".
16091- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد بمثله.
16092- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم الفضل قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم قوله: "فأن لله خمسه"، مفتاحُ كلامٍ، (1) ولله الدنيا والآخرة وما فيهما، وإنما معنى الكلام: فإن للرسول خمسه.
* ذكر من قال ذلك:
16093 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن عن قول الله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول"، قال: هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة.
16094- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد عن قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، قال: هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة. (2)
__________
(1) يعني أنه افتتاح بذكر الله تعالى ذكره، وانظر ما سلف 6: 272، تعليق: 5.
(2) الأثران: 16093، 16094 - " الحسن بن محمد "، هو " الحسن بن محمد بن علي بن أبي طالب "، وهو " الحسن بن محمد بن الحنيفة "، وهو الذي يروي عنه " قيس بن مسلم "، لا يعني " الحسن البصري ".
وهذا الخبر رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال: 14، 326، 330، رقم: 39، 836، 846 وسيأتي مطولا برقم: 16121.(13/548)
16095- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا أبو شهاب، عن ورقاء، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا، خمَّس الغنيمة، فضرب ذلك الخمس في خمسة. ثم قرأ: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول". قال: وقوله: "فأن لله خمسه"، مفتاح كلام، لله ما في السموات وما في الأرض، فجعل الله سهم الله وسهم الرسول واحدًا. (1)
16096- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: "فأن لله خمسه"، قال: لله كل شيء.
16097 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، قال: لله كل شيء، وخُمس لله ورسوله، ويقسم ما سوى ذلك على أربعة أسهم.
16098 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كانت الغنيمة تقسم خمسة أخماس، فأربعة أخماس لمن قاتل
__________
(1) الأثر: 16095 - " أحمد بن يونس "، هو " أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي "، مضى برقم: 2144، 2362، 5080.
و" أبو شهاب "، هو " عبد ربه بن نافع الكناني "، الحناط، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 42.
و" ورقاء "، هو " ورقاء بن عمرو اليشكري "، مضى برقم: 6534.
و" نهشل "، هو " نهشل بن سعيد بن وردان النيسابوري "، ليس بثقة، وقال أبو حاتم: " ليس بقوي، متروك الحديث، ضعيف الحديث "، وقال ابن حبان: " يروي عن الثقات ما ليس من أحاديثهم، لا يحل كتب حديثه إلا على التعجب ".
وقال البخاري: " أحاديثه مناكير، قال إسحاق بن إبراهيم: ككان نهشل كذابًا ". مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 115، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 496، وميزان الاعتدال 3: 243.
وانظر الخبر رقم: 16120.
وكان في المطبوعة: " فجعل سهم الله "، غير ما في المخطوطة وحذف، فأثبت ما في المخطوطة.(13/549)
عليها، ويقسم الخمس الباقي على خمسة أخماس، فخمس لله والرسول.
16099 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا أبان، عن الحسن قال: أوصى أبو بكر رحمه الله بالخمس من ماله، وقال: ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه.
16100 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن عبد الملك، عن عطاء: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول"، قال: خمس الله وخمس رسوله واحد. كان النبي صلى الله عليه وسلم يحمل منه ويضع فيه ما شاء. (1)
16101- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أصحابه، عن إبراهيم: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، قال: كل شيء لله، الخمس للرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن لبيت الله خمسه وللرسول.
* ذكر من قال ذلك:
16102 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع بن الجراح، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية الرياحي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، يؤتَى بالغنيمة، فيقسمها على خمسة، تكون أربعة أخماس لمن شهدها، ثم يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه، فيأخذ منه الذي قبض كفه، فيجعله للكعبة، وهو سهم الله. ثم يقسم ما بقي على خمسة أسهم، فيكون سهم
__________
(1) في المطبوعة: " ويصنع فيه "، وأثبت ما في المخطوطة. وقد قرأت في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام، في خبر آخر: " يحمل منه ويعطي، ويضعه حيث شاء، ويصنع به ما شاء " ص 14، 326، رقم: 40، 837.(13/550)
للرسول، وسهم لذي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل.
16103- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، إلى آخر الآية، قال: فكان يُجَاء بالغنيمة فتوضع، فيقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة أسهم، فيجعل أربعة بين الناس، ويأخذ سهمًا، ثم يضرب بيده في جميع ذلك السهم، فما قَبَضَ عليه من شيء جعله للكعبة، فهو الذي سُمِّي لله، ويقول: "لا تجعلوا لله نصيبًا، فإن لله الدنيا والآخرة، ثم يقسم بقيته على خمسة أسهم: سهم للنبي صلى الله عليه وسلم، وسهم لذوي القربى، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل. (1)
* * *
وقال آخرون: ما سُمِّي لرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك، فإنما هو مرادٌ به قرابته، وليس لله ولا لرسوله منه شيء.
* ذكر من قال ذلك:
16104 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: كانت الغنيمة تقسم على خمسة أخماس، فأربعة منها لمن قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة: فربع لله والرسول ولذي القربى = يعني قرابة النبي صلى الله عليه وسلم = فما كان لله والرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا. والربع الثاني لليتامى، والربع الثالث للمساكين، والربع الرابع لابن السبيل. (2)
* * *
__________
(1) الأثران: 16102، 16013 - رواه أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال، من طريق حجاج، عن أبي جعفر الرازي، بمثل لفظ الأول. كتاب الأموال: 14، 325، رقم 400، 835.
(2) الأثر: 16104 - رواه أبو عبيد القاسم بن سلام، بهذا الإسناد نفسه، وبلفظه، في كتاب الأموال ص: 13، 325، رقم: 37، 834، وفي آخره تفسير " ابن السبيل "، قال: " وهو الضعيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين ".
وانظر ما سيأتي رقم: 16124، 16129.(13/551)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: قوله: "فأن لله خمسه"، "افتتاح كلام"، وذلك لإجماع الحجة على أنّ الخمس غير جائز قسمه على ستة أسهم، ولو كان لله فيه سهم، كما قال أبو العالية، لوجب أن يكون خمس الغنيمة مقسومًا على ستة أسهم. وإنما اختلف أهل العلم في قسمه على خمسة فما دونها، فأما على أكثر من ذلك، فما لا نعلم قائلا قاله غير الذي ذكرنا من الخبر عن أبي العالية. وفي إجماع من ذكرت، الدلالةُ الواضحةُ على صحة ما اخترنا.
* * *
فأما من قال: "سهم الرسول لذوي القربى"، فقد أوجب للرسول سهمًا، وإن كان صلى الله عليه وسلم صرفه إلى ذوي قرابته، فلم يخرج من أن يكون القسم كان على خمسة أسهم، وقد:-
16105 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه"، الآية، قال: كان نبي الله صلى الله عليه وسلم إذا غنم غنيمة جعلت أخماسًا، فكان خمس لله ولرسوله، ويقسم المسلمون ما بقي. وكان الخمس الذي جُعل لله ولرسوله، لرسوله ولذوي القربى واليتامى وللمساكين وابن السبيل (1) فكان هذا الخمس خمسة أخماس: خمس لله ورسوله، وخمس لذوي القربى. وخمس لليتامى، وخمس للمساكين. وخمس لابن السبيل.
__________
(1) في المخطوطة خطأ، أسقط " لرسوله " الثانية، والكلام يقتضيها كما في المطبوعة، وعلى هامش المخطوطة حرف " أ " عليها ثلاث نقط، دلالة على موضع السقط.(13/552)
16106 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة قال: سألت يحيى بن الجزار عن سهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: هو خُمْس الخمس. (1)
16107- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، وجرير عن موسى بن أبي عائشة، عن يحيى بن الجزار، مثله.
16108 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن أبي عائشة، عن يحيى بن الجزار، مثله.
16109 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "فأن لله خمسه"، قال: أربعة أخماس لمن حضر البأس، والخمس الباقي لله والرسول، خمسه يضعه حيث رأى، وخمسه لذوي القربى، وخمسه لليتامى، وخمسة للمساكين، ولابن السبيل خمسه.
* * *
وأما قوله: "ولذي القربى"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيهم.
فقال بعضهم: هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم.
* ذكر من قال ذلك:
16110 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد قال: كان آل محمد صلى الله عليه وسلم لا تحلّ لهم الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس.
16111- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مجاهد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأهلُ
__________
(1) الأثر: 16106 - " موسى بن أبي عائشة المخزومي "، روى له الجماعة، مضى برقم: 11408.
و" يحيى بن الجزار العرفي "، ثقة، مضى برقم: 5425.
وكان في المخطوطة: " يحيى الجزار "، والصواب ما في المطبوعة، ولكنه يأتي في الذي يليه في المخطوطة على الصواب.
ورواه أبو عبيد في الأموال ص: 13، رقم: 34، 35، وص: 324، رقم: 831، 832.(13/553)
بيته لا يأكلون الصدقة، فجعل لهم خمس الخمس.
16112 - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام، عن خصيف، عن مجاهد قال: قد علم الله أنّ في بني هاشم الفقراء، فجعل لهم الخمس مكانَ الصدقة.
16113 - حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا إسماعيل بن أبان قال، حدثنا الصباح بن يحيى المزني، عن السدي، عن أبي الديلم قال، قال علي بن الحسين، رحمة الله عليه، لرجل من أهل الشأم: أما قرأت في "الأنفال": "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول" الآية؟ قال: نعم! قال: فإنكم لأنتم هم؟ قال: نعم! (1)
16114 - حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد قال: هؤلاء قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة.
16115 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس: أن نَجْدة كتب إليه يسأله عن ذوي القربى، فكتب إليه كتابًا: "نزعم أنا نحن هم، فأبى ذلك علينا قومنا". (2)
__________
(1) الأثر: 16113 - " إسماعيل بن أبان الوراق الأزدي "، ثقة، صدوق في الرواية، قال البزار: " إنما كان عيبه شدة تشيعه، لا أنه غير عليه في السماع "، وإما "إسماعيل بن أبان الغنوي "، فهو كذاب، ومضى إسماعيل الوراق برقم: 14550.
وأمَّا " صباح بن يحيى المزني "، فهو شيعي أيضُا، متروك، بل متهم، هكذا قال الحافظ ابن حجر والذهبي. وذكره البخاري، فقال: " فيه نظر "، وقال أبو حاتم: " شيخ ". مترجم في لسان الميزان 3: 160، والكبير 2 \ 2 \ 315، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 442، وميزان الاعتدال 1: 462.
وأمَّا " أبو الديلم "، فلم أعرف من يكون، وهكذا أثبته من المخطوطة، وهو في لمطبوعة: " عن ابن الديلمي "، يعني " عبد الله بن فيروز الديلمي "، التابعي الثقة، ولا أظن أنه يروي عن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب.
وهذا إسناد هالك كما ترى.
(2) الأثر: 16115 - " نجدة ابن عويمر الحروري "، من رؤوس الخوارج.
وكتاب ابن عباس إلى نجدة، رواه أبو عبيدة في كتاب الأموال من طرق ص: 332 - 335، رقم: 850 - 852، وانظر ما سيأتي رقم: 16117.(13/554)
16116- ... قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج: "فأن لله خمسه"، قال: أربعة أخماس لمن حضر البأس، والخمس الباقي لله، وللرسول، خمسه يضعه حيث رأى، وخمسٌ لذوي القربى، وخمس لليتامى، وخمس للمساكين، ولابن السبيل خمسه.
* * *
وقال آخرون: بل هم قريش كلها.
* ذكر من قال ذلك:
16117 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرني عبد الله بن نافع، عن أبي معشر، عن سعيد المقبري قال: كتب نجدة إلى ابن عباس يسأله عن ذي القربى قال: فكتب إليه ابن عباس: "قد كنا نقول: إنّا هم، فأبى ذلك علينا قومنا، وقالوا: قريش كلها ذوو قربى". (1)
* * *
وقال آخرون: سهم ذي القربى كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صار من بعده لوليّ الأمر من بعده.
* ذكر من قال ذلك:
16118- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال: كان طُعْمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا، (2) فلما توفي جُعل لوليّ الأمر من بعده.
* * *
وقال آخرون: بل سهم ذي القربى كان لبني هاشم وبني المطلب خاصةً.
__________
(1) الأثر: 11617 - انظر التعليق السالف، من طريق أبي معشر، رواه أبو عبيد رقم: 850، مطولا، بنحوه.
(2) " الطعمة " (بضم الطاء) : الرزق والمأكلة، يعني به الفيء.(13/555)
وممن قال ذلك الشافعي، وكانت علته في ذلك ما:
16119 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن جبير بن مطعم قال: لما قَسَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سهم ذي القربى من خيبر على بني هاشم وبني المطلب، مشيت أنا وعثمان بن عفان رحمة الله عليه، فقلنا: يا رسول الله، هؤلاء إخوتك بنو هاشم، لا ننكر فضلهم، لمكانك الذي جعلك الله به منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب، أعطيتهم وتركتنا، وإنما نحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد! ثم شبَّك رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه إحداهما بالأخرى. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: "سهم ذي القربى، كان لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني هاشم وحلفائهم من بني المطلب"، لأنّ حليف القوم منهم، ولصحة الخبر الذي ذكرناه بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم هذين السهمين= أعني سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسهم ذي القربى= بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فقال بعضهم: يُصرفان في معونة الإسلام وأهله.
* ذكر من قال ذلك:
16120 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا أبو شهاب، عن ورقاء، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: جُعل
__________
(1) الأثر: 16119 - رواه الشافعي في الأم من طرق، منها طريق محمد بن إسحاق، انظر الأم: 4: 71، ورواه أبو داود في سننه 3: 201، رقم: 2980، وأبو عبيد القاسم ابن سلام في الأموال: 331، رقم: 842.(13/556)
سهم الله وسهم الرسول واحدًا، ولذي القربى، فجعل هذان السهمان في الخيل والسلاح. وجعل سهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، لا يُعْطَى غيرَهم. (1)
16121- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن عن قول الله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى"، قال: هذا مفتاح كلامٍ، لله الدنيا والآخرة. ثم اختلف الناس في هذين السهمين بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال قائلون: سهم النبي صلى الله عليه وسلم، لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم = وقال قائلون: سهم القرابة لقرابة الخليفة= واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدّة في سبيل الله، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
16122 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم قال: سألت الحسن بن محمد، فذكر نحوه. (2)
16123 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمر بن عبيد، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكُرَاع والسلاح. (3) فقلت لإبراهيم: ما كان علي رضي الله عنه يقول فيه؟ قال: كان عليٌّ أشدَّهم فيه.
16124 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين" الآية، قال ابن عباس: فكانت
__________
(1) الأثر: 16120 - هذا مطول الأثر السالف ومختصره رقم: 16095، وقد شرحت إسناده هناك.
(2) الأثران: 16121، 16122 - " الحسن بن محمد بن الحنفية "، وقد سلف شرح إسناد هذا الخبر، كما سلف مختصرًا برقم: 16093، 16094.
(3) " الكراع " (بضم الكاف) . اسم يجمع الخيل والسلاح.(13/557)
الغنيمة تقسم على خمسة أخماس: أربعة بين من قاتل عليها، وخمس واحد يقسم على أربعة: لله وللرسول ولذي القربى= يعني: قرابة النبي صلى الله عليه وسلم = فما كان لله وللرسول فهو لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم من الخمس شيئًا. فلما قبض الله رسوله صلى الله عليه وسلم ردّ أبو بكر رضي الله عنه نصيبَ القرابة في المسلمين، فجعل يحمل به في سبيل الله، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا نورث، ما تركنا صدقا. (1)
16125- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذي القربى فقال: كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما تُوُفي، حمل عليه أبو بكر وعمر في سبيل الله، صدقةً على رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
وقال آخرون: سهم ذوي القربى من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم مع سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى ولي أمر المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
16126 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عمرو بن ثابت، عن عمران بن ظبيان، عن حُكَيم بن سعد، عن علي رضي الله عنه قال: يعطى كل إنسان نصيبه من الخمس، ويلي الإمام سهم الله ورسوله. (3)
__________
(1) الأثر: 16124 - مضى قبل صدره برقم: 16104، ومضى تخريجه هناك، وانظر أيضًا من تمامه رقم: 16129.
(2) الأثر: 16125 - انظر ما سلف رقم: 16118، وما سيأتي 16127.
(3) الأثر: 16126 - " عمران بن ظبيان الحنفي "، فيه نظر، كان يميل إلى التشيع، وضعفه العقيلي، وابن عدي، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 300، مضى برقم: 12100.
و" حكيم بن سعد الحنفي "، " أبو تحيى "، محله الصدق. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 87، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 286.
و" حكيم "، بضم الحاء، مصغرًا. و " تحيي " بكسر التاء.(13/558)
16127 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه سئل عن سهم ذوي القربى فقال: كان طعمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان حيًّا، فلما توفي جعل لولي الأمر من بعده. (1)
* * *
وقال آخرون: سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردود في الخمس، والخمس مقسوم على ثلاثة أسهم: على اليتامى، والمساكين، وابن السبيل. وذلك قول جماعة من أهل العراق.
وقال آخرون: الخمس كله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
16128 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الغفار قال، حدثنا المنهال بن عمرو قال: سألت عبد الله بن محمد بن علي، وعلي بن الحسين عن الخمس فقالا هو لنا. فقلت لعلي: إن الله يقول: "واليتامى والمساكين وابن السبيل"، فقالا يتامانَا ومساكيننا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم مردودٌ في الخمس، والخمس مقسوم على أربعة أسهم، على ما روي عن ابن عباس: للقرابة سهم، ولليتامى سهم، وللمساكين سهم، ولابن السبيل سهم، لأن الله أوجبَ الخمس لأقوام موصوفين بصفات، كما أوجب الأربعة الأخماس الآخرين. وقد أجمعوا أنّ حق الأربعة الأخماس لن يستحقه غيرهم، فكذلك حق أهل الخمس لن يستحقه غيرهم. فغير جائز أن يخرج عنهم إلى غيرهم، كما غير جائز أن تخرج بعض السهمان التي جعلها الله لمن سماه في كتابه بفقد بعض من يستحقه، إلى غير أهل السهمان الأخَر.
* * *
__________
(1) الأثر: 16127 - مضى بلفظه، برقم: 16118، وانظر ما سلف: 16125.(13/559)
وأما "اليتامى"، فهم أطفال المسلمين الذين قد هلك آباؤهم. (1)
و"المساكين"، هم أهل الفاقة والحاجة من المسلمين. (2)
و"ابن السبيل"، المجتاز سفرًا قد انقُطِع به، (3) كما:-
16129 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الخمس الرابع لابن السبيل، وهو الضيف الفقير الذي ينزل بالمسلمين. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقنوا أيها المؤمنون، أنما غنمتم من شيء فمقسوم القسم الذي بينته، وصدِّقوا به إن كنتم أقررتم بوحدانية الله وبما أنزل الله على عبده محمد صلى الله عليه وسلم يوم فَرَق بين الحق والباطل ببدر، (5) فأبان فَلَج المؤمنين وظهورَهم على عدوهم، وذلك "يوم التقى الجمعان"، جمعُ المؤمنين وجمعُ المشركين، والله على إهلاك أهل الكفر وإذلالهم بأيدي المؤمنين، وعلى غير ذلك مما يشاء = "قدير"، لا يمتنع عليه شيء أراده. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " اليتامى " فيما سلف 7: 541، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المساكين " فيما سلف 10: 544، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " ابن السبيل " فيما سلف 8: 346، 347، تعليق: 1، والمراجع هناك.
وقوله: " انقطع به " بالبناء للمجهول، وهو إذا عجز عن سفره من نفقة ذهبت، أو عطبت راحلته، أو فنى زاده.
(4) الأثر: 16129 - انظر ما سلف رقم: 16104، 16124، والتعليق عليهما.
(5) انظر تفسير " الفرقان " فيما سلف ص: 487، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(6) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة (قدر) .(13/560)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16130 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: "يوم الفرقان"، يعني: ب"الفرقان"، يوم بدر، فرَق الله فيه بين الحق والباطل.
16131 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. (1)
16132 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير= وإسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير= يزيد أحدهما على صاحبه= في قوله: "يوم الفرقان"، يوم فرق الله بين الحق والباطل، وهو يوم بدر، وهو أوّل مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان رأسَ المشركين عُتبةُ بن ربيعة، فالتقوا يوم الجمعة لتسع عشرة ليلة مضت من شهر رمضان، وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثمئة وبضعة عشر رجلا والمشركون ما بين الألف والتسعمئة. فهزم الله يومئذ المشركين، وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك.
16132م - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن مقسم: "يوم الفرقان"، قال: يوم بدر، فرق الله بين الحق والباطل.
16133- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عثمان الجزري، عن مقسم في قوله: "يوم الفرقان"، قال: يوم
__________
(1) الأثر: 16131 - انظر هذا الخبر بنصه فيما سلف رقم: 125.(13/561)
بدر، فرق الله بين الحق والباطل. (1)
16134 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "يوم الفرقان يوم التقى الجمعان" يوم بدر، و"بدر"، بين المدينة ومكة.
16135 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثني يحيى بن يعقوب أبو طالب، عن أبي عون محمد بن عبيد الله الثقفي، عن أبي عبد الرحمن السلمي، عبد الله بن حبيب قال: قال الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كانت ليلة "الفرقان يوم التقى الجمعان"، لسبع عشرة من شهر رمضان. (2)
16136 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: "يوم التقى الجمعان"، قال ابن جريج، قال ابن كثير: يوم بدر.
16137 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان"، أي: يوم فرقت بين الحق والباطل بقدرتي، (3) يوم التقى الجمعان منكم ومنهم. (4)
__________
(1) (1) الأثر: 16133 " عثمان الجزري "، مضى برقم: 15968، وأنه غير " عثمان ابن عمرو بن ساج ". وأحاديثه مناكير.
(2) الأثر: 16135 - " يحيى بن يعقوب بن مدرك الأنصاري "، أبو طالب القاص، مترجم في الكبير 4 \ 2 \ 312، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 198، ولسان الميزان 6: 282، وميزان الاعتدال 3: 306، قال البخاري: " منكر الحديث "، وقال أبو حاتم: " محله الصدق، لم يرو شيئا منكرًا، وهو ثقة في الحديث، أدخله البخاري في كتاب الضعفاء "، قال ابن أبي حاتم: " فسمعت أبي يقول: يحول من هناك ".
و" أبو عون "، " محمد بن عبيد الله الثقفي "، مضى مرارًا آخرها رقم: 15925، وكان في المطبوعة: " عن ابن عون، عن محمد بن عبد الله الثقفي "، فأفسد الإسناد كل الإفساد، وكان في المخطوطة: " عن ابن عون، محمد بن عبيد الله الثقفي "، وهو خطأ هين، صوابه ما أثبت.
(3) في المطبوعة: " أي: يوم فرق بين الحق والباطل ببدر، أي: يوم التقى الجمعان "، لعب بما في المخطوطة لعبًا، فأساء وجانب الأمانة. ولم يكن في المخطوطة من خطأ إلا أنه كتب " فرق " مكان " فرقت ". والذي أثبته نص المخطوطة، وسيرة ابن هشام.
(4) الأثر: 16137 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16086.(13/562)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
16138 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان"، وذاكم يوم بدر، يوم فرق الله بين الحق والباطل.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أيقنوا، أيها المؤمنون، واعلموا أن قسم الغنيمة على ما بيَّنه لكم ربكم، إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على عبده يوم بدر، إذ فرق بين الحق والباطل من نصر رسوله= "إذ أنتم"، حينئذ، "بالعدوة الدنيا"، يقول: بشفير الوادي الأدنى إلى المدينة (1) = "وهم بالعدوة القصوى"، يقول: وعدوكم من المشركين نزولٌ بشَفير الوادي الأقصى إلى مكة= "والركب أسفل منكم"، يقول: والعير فيه أبو سفيان وأصحابه في موضع أسفل منكم إلى ساحل البحر.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16139 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا"، قال: شفير الوادي الأدنى، وهم بشفير الوادي الأقصى= "والركب أسفل منكم"، قال: أبو سفيان وأصحابه، أسفلَ منهم.
__________
(1) " شفير الوادي ": ناحية من أعلاه، وهو حده وحرفه.(13/563)
16140- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى"، وهما شفير الوادي. كان نبيُّ الله بأعلى الوادي، والمشركون أسفلَه = "والركب أسفل منكم"، يعني: أبا سفيان، [انحدر بالعير على حوزته] ، (1) حتى قدم بها مكة.
16141 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى"، من الوادي إلى مكة= "والركب أسفل منكم"، أي: عير أبي سفيان التي خرجتم لتأخذوها وخرجوا ليمنعوها، عن غير ميعاد منكم ولا منهم. (2)
16142 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "والركب أسفل منكم"، قال: أبو سفيان وأصحابه، مقبلون من الشأم تجارًا، لم يشعروا بأصحاب بدر، ولم يشعر محمد صلى الله عليه وسلم بكفار قريش، ولا كفار قريش بمحمد وأصحابه، حتى التقى على ماء بدر من يسقي لهم كلهم. (3) فاقتتلوا، (4) فغلبهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فأسروهم.
16143- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
16144- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
__________
(1) هكذا كتب هذه الجملة بين القوسين ناشر المطبوعة، ولا أدري ما هو. والذي في المخطوطة: " انخدم بالعير على حورمة " هكذا، ولم أستطع أن أجد لقراءتها وجهًا اطمئن غليه، ولم أجد الخبر في مكان آخر.
(2) الأثر: 16141 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16137.
(3) (3) في المطبوعة: " حتى التقيا "، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) " فاقتتلوا "، مكررة في المخطوطة مرتين، وأنا في ريب من هذه الجملة كلها.(13/564)
16145 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر منازل القوم والعير فقال: "إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى"، والركب: هو أبو سفيان (1) = "أسفل منكم"، على شاطئ البحر.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: "إذ أنتم بالعدوة".
فقرأ ذلك عامة قرأة المدنيين والكوفيين: (بِالعُدْوَةِ) ، بضم العين.
* * *
وقرأه بعض المكيين والبصريين: (بِالعِدْوَةِ) ، بكسر العين.
* * *
قال أبو جعفر: وهما لغتان مشهورتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيبٌ، يُنْشَد بيت الراعي:
وَعَيْنَانِ حُمْرٌ مَآقِيهِمَا كَمَا نَظَرَ العِدْوَةَ الجُؤْذَرُ (2)
بكسر العين من "العدوة"، وكذلك ينشد بيت أوس بن حجر:
وَفَارِس لَوْ تَحُلُّ الخَيْلُ عِدْوَتَهُ وَلَّوْا سِرَاعًا، وَمَا هَمُّوا بِإقْبَالِ (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا}
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره: ولو كان اجتماعكم في الموضع الذي اجتمعتم فيه، أنتم أيها المؤمنون وعدوكم من المشركين، عن ميعاد منكم ومنهم، = "لاختلفتم في الميعاد"، لكثرة عدد عدوكم، وقلة عددكم، ولكن الله جمعكم
__________
(1) في المطبوعة: " أبو سفيان وعيره "، زاد ما ليس في المخطوطة.
(2) لم أجد البيت في مكان آخر، وللراعي أبيات كثيرة مفرقة على هذا الوزن، كأنه منها.
(3) من قصيدته في رثاء فضالة بن كلدة الأسدي، والبيت في منتهى الطلب، وليس في ديوانه، يقول قبله: أمْ مَلِعَادِيَةٍ تردِي مُلَمْلَمَةٍ ... كأنَّهَا عَارِضٌ في هَضْبِ أوْعالِ
لَهَا لَمَّا رأوك عَلَى نَهْدٍ مَرَاكِلُهُ ... يَسْعَى بِبزِّ كَمِيٍّ غَيْرِ مِعْزَالِ
وَفَارِسٍ لا يَحُلُّ القَوْمُ عُدْوَتَهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذه أجود من روايته " لو تحل "، فالنفي هنا حق الكلام.(13/565)
على غير ميعاد بينكم وبينهم (1) = "ليقضي الله أمرًا كان مفعولا"، وذلك القضاء من الله، (2) كان نصره أولياءه من المؤمنين بالله ورسوله، وهلاك أعدائه وأعدائهم ببدر بالقتل والأسر، كما:-
16146 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد"، ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم، ما لقيتموهم= "ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولا"، أي: ليقضي الله ما أراد بقدرته، من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، عن غير مَلأ منكم، (3) ففعل ما أراد من ذلك بلطفه. (4)
16147 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:،أخبرني يونس بن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعب بن مالك يقول في غزوة بدر: إنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عِيَر قريش،
__________
(1) انظر تفسير " الميعاد " فيما سلف 6: 222
(2) انظر تفسير " القضاء " فيما سلف 11: 267، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: " عن غير بلاء "، وفي سيرة ابن هشام، في أصل المطبوعة مثله، وهو كلام فاسد جدًا. وفي مخطوطة الطبري، ومخطوطات ابن هشام ومطبوعة أوربا،: " عن غير ملأ "، كما أثبتها.
يقال: " ما كان هذا الأمر عن ملأ منا "، أي: عن تشاور واجتماع. وفي حديث عمر حين طعن: " أكان هذا عن ملأ منكم؟ "، أي: عن مشاورة من أشرافكم وجماعتكم.
ثم غير ناشر المطبوعة الكلمة التي بعدها، كتب " فعل "، مكان " ففعل ". وكل هذا عبث وذهاب ورع.
(4) الأثر: 16146 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16141.(13/566)
حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد. (1)
16148 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فالتقوا ببدر، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء، ولا هؤلاء بهؤلاء، حتى التقت السُّقَاة. قال: ونَهَدَ الناسُ بعضهم لبعض. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 16147 - " " عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري "، ثقة، روى عن أبيه. وروى عنه الزهري. كان أعلم قومه وأوعاهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 249.
و" عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري "، ثقة، كان قائد أبيه حين عمى، روى عن أبيه. روى. روى عنه ابنه عبد الرحمن، وروى عنه الزهري. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 142.
وكان في المخطوطة: " إنما يخرج رسول الله "، وهو جيد عربي. ولكنه في المراجع " إنما خرج "، فأثبته كما في المطبوعة.
وهذا الخبر جزء من خبر كعب بن مالك، الطويل في امر غزوة تبوك، وما كان من تخلفه حتى تاب الله عليه.
ورواه أحمد في مسنده 3: 456، 457، 459 \ 6: 387.
ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 86) .
ورواه مسلم في صحيحه من هذه الطريق 17: 87.
(2) الأثر: 16148 - " ابن عون "، هو " عبد الله بن عون المزني "، مضى مرارًا.
و" عمير بن إسحاق القرشي "، لم يرو عنه غير ابن عون، متكلم فيه. مضى برقم: 7776.
وكان في المطبوعة: " عمر بن إسحاق "، لم يحسن قراءة المخطوطة.
وقوله: " نهد الناس بعضهم لبعض "، نهضوا إلى القتال. يقال: " نهد القوم إلى عدوهم، ولعدوهم "، أي: صمدوا له وشرعوا في قتاله. و " نهدوا يسألونه "، أي: شرعوا ونهضوا.
وكأن ناشر المطبوعة لم يفهمها أو لم يحسن قراءتها، فكتب مكان " نهد ": " نظر الناس ... "، وهذا من طول عبثه بهذا النص الجليل، حتى ألف العبث واستمر عليه واستمرأه.(13/567)
القول في تأويل قوله: {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولكن الله جمعهم هنالك، ليقضي أمرًا كان مفعولا= "ليهلك من هلك عن بينة".
* * *
وهذه اللام في قوله: "ليهلك" مكررة على "اللام" في قوله: "ليقضي"، كأنه قال: ولكن ليهلك من هلك عن بينة، جَمَعكم.
* * *
ويعني بقوله: "ليهلك من هلك عن بينة"، ليموت من مات من خلقه، (1) عن حجة لله قد أثبتت له وقطعت عذره، وعبرة قد عاينها ورآها (2) = "ويحيا من حي عن بينة"، يقول: وليعيش من عاش منهم عن حجة لله قد أُثبتت له وظهرت لعينه فعلمها، جمعنا بينكم وبين عدوكم هنالك.
* * *
وقال ابن إسحاق في ذلك بما:-
16149 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ليهلك من هلك عن بينة"، [أي ليكفر من كفر بعد الحجة] ، (3) لما رأى من الآية والعبرة، (4) ويؤمن من آمن على مثل ذلك. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " هلك " فيما سلف ص: 149، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " بينة " فيما سلف من فهارس اللغة (بين) .
(3) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، أضفتها من سيرة ابن هشام.
(4) في المطبوعة: " من الآيات والعبر "، وفي المخطوطة: " من الآيات والعبرة "، وأثبت الصواب من سيرة ابن هشام.
(5) الأثر: 16149 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16146.(13/568)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43)
وأما قوله: "وإن الله لسميع عليم"، فإن معناه: "وإن الله"، أيها المؤمنون، = "لسميع"، لقولكم وقول غيركم، حين يُري الله نبيه في منامه ويريكم، عدوكم في أعينكم قليلا وهم كثير، ويراكم عدوكم في أعينهم قليلا= "عليم"، بما تضمره نفوسكم، وتنطوي عليه قلوبكم، حينئذ وفي كل حال. (1)
يقول جل ثناؤه لهم ولعباده: فاتقوا ربكم، (2) أيها الناس، في منطقكم: أن تنطقوا بغير حق، وفي قلوبكم: أن تعتقدوا فيها غيرَ الرُّشد، فإن الله لا يخفى عليه خافية من ظاهر أو باطن.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن الله، يا محمد، سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدوك وعدوهم "في منامك قليلا"، يقول: يريكهم في نومك قليلا فتخبرهم بذلك، حتى قويت قلوبهم، واجترأوا على حرب عدوهم= ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرًا، لفشل أصحابك، فجبنوا وخاموا، (3) ولم يقدروا على حرب القوم، (4) ولتنازعوا في ذلك، (5) ولكن الله
__________
(1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " واتقوا " بالواو، و " والفاء "، هنا حق الكلام.
(3) في المطبوعة: " فجبنوا وخافوا "، غير ما في المخطوطة. يقال: " خام في القتال "، إذا جبن، فنكل ونكص وتراجع.
(4) انظر تفسير " فشل " فيما سلف 7: 168، 289.
(5) انظر تفسير " التنازع " فيما سلف 7: 289 \ 8: 504.(13/569)
سلمهم من ذلك بما أراك في منامك من الرؤيا، إنه عليم بما تُجنُّه الصدور، (1) لا يخفى عليه شيء مما تضمره القلوب. (2)
* * *
وقد زعم بعضهم أن معنى قوله: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا"، أي: في عينك التي تنام بها= فصيّر "المنام"، هو العين، كأنه أراد: إذ يريكهم الله في عينك قليلا. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16150 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا"، قال: أراه الله إياهم في منامه قليلا فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك، فكان تثبيتًا لهم.
16151- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
16152-....وقال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
16153 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "إذ يريكهم الله في منامك قليلا"، الآية، فكان أول ما أراه من ذلك نعمةً من نعمه عليهم، شجعهم بها على عدوهم، وكفَّ بها ما تُخُوِّف عليهم من
__________
(1) في المطبوعة: " بما تخفيه الصدور "، غير ما في المخطوطة بلا طائل، وهما بمعنى.
(2) انظر تفسير " ذات الصدور " فيما سلف 7: 155، 325 \ 10: 94.
(3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 247.(13/570)
ضعفهم، (1) لعلمه بما فيهم. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: "ولكن الله سلم".
فقال بعضهم: معناه: ولكن الله سلم للمؤمنين أمرهم، حتى أظهرهم على عدوهم.
* ذكر من قال ذلك:
16154 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: "ولكن الله سلم"، يقول: سلم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوهم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولكن الله سلم أمره فيهم.
* ذكر من قال ذلك:
16155 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، حدثنا معمر، عن قتادة: "ولكن الله سلم"، قال: سلم أمره فيهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي ما قاله ابن عباس، وهو أن الله سلم القومَ = بما أرى نبيه صلى الله عليه وسلم في منامه = من الفشل
__________
(1) في المطبوعة: و " كفاهم بها ما تخوف ... "، وفي المخطوطة: " وكعها عنهم ما تخوف "، وصل الكلام، وأثبت نص ابن هشام. وضبطه الخشني بالبناء للمجهول.
وفي السيرة، بعد تمام الكلام،: " قال ابن هشام: (تخوف) ، مبدلة من كلمة ذكرها ابن إسحاق، ولم أذكرها ". فجاء أبو ذر الخشني في تعليقه على السيرة فقال: " يقال الكلمة: (تخوف) ، بفتح التاء والخاء والواو، وقيل: كانت (تخوفت) وأصلح ذلك ابن هشام، لشناعة اللفظ في حق الله عز وجل ".
وهذا لا يقال، لأن ابن هشام يصرح بأنه نسيها ولم يذكرها، فأبدل منها غيرها، فهو لم يغير ذلك إلا علة النسيان.
(2) الأثر: 16153 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16149.(13/571)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
والتنازع، حتى قويت قلوبهم، واجترأوا على حرب عدوهم. وذلك أن قوله: "ولكن الله سلم" عَقِيب قوله: "ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر"، فالذي هو أولى بالخبر عنه، أنه سلمهم منه جل ثناؤه، ما كان مخوفًا منه لو لم يُرِ نبيه صلى الله عليه وسلم من قلة القوم في منامه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "وإن الله لسميع عليم" = إذ يري الله نبيه في منامه المشركين قليلا وإذ يريهم الله المؤمنين إذ لقوهم في أعينهم قليلا وهم كثير عددهم، ويقلل المؤمنين في أعينهم، ليتركوا الاستعداد لهم، فتهون على المؤمنين شوكتهم، كما:-
16156 - حدثني ابن بزيع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لقد قلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: أراهم مئة قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم هم؟ قال: ألفًا. (1)
16157- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بنحوه.
__________
(1) الأثر: 16156 - " ابن بزيع البغدادي "، هو " محمد بن عبد الله بن بزيع البغدادي "، من شيوخ مسلم، مضى برقم: 2451، 3130، 10239.
وكان في المطبوعة: " كنا ألفًا "، زاد " كنا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.(13/572)
16158 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: "وإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا"، قال ابن مسعود: قللوا في أعيننا، حتى قلت لرجل: أتُرَاهم يكونون مئة؟
16159 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قال ناس من المشركين: إن العيرَ قد انصرفت فارجعوا. فقال أبو جهل: الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه! فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم. وقال: يا قوم لا تقتلوهم بالسلاح، ولكن خذوهم أخذًا، فاربطوهم بالحبال! = يقوله من القدرة في نفسه.
* * *
وقوله: "ليقضي الله أمرًا كان مفعولا"، يقول جل ثناؤه: قلّلتكم أيها المؤمنون، في أعين المشركين، وأريتكموهم في أعينكم قليلا حتى يقضي الله بينكم ما قضى من قتال بعضكم بعضًا، وإظهاركم، أيها المؤمنون، على أعدائكم من المشركين والظفر بهم، لتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى. وذلك أمرٌ كان الله فاعلَه وبالغًا فيه أمرَه، كما:-
16160 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ليقضي الله أمرا كان مفعولا"، أي: ليؤلف بينهم على الحرب، للنقمة ممن أراد الانتقام منه، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من أهل ولايته. (1)
* * *
= "وإلى الله ترجع الأمور"، يقول جل ثناؤه: مصير الأمور كلها إليه في الآخرة، فيجازي أهلها على قدر استحقاقهم المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته.
* * *
__________
(1) الأثر: 16160 - سيرة ابن هشام 2: 328، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16153.(13/573)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) }
قال أبو جعفر: وهذا تعريفٌ من الله جل ثناؤه أهل الإيمان به، السيرةَ في حرب أعدائه من أهل الكفر به، والأفعالَ التي يُرْجَى لهم باستعمالها عند لقائهم النصرة عليهم والظفر بهم. ثم يقول لهم جل ثناؤه: "يا أيها الذين آمنوا"، صدقوا الله ورسوله = إذا لقيتم جماعة من أهل الكفر بالله للحرب والقتال، (1) فاثبتوا لقتالهم، ولا تنهزموا عنهم ولا تولوهم الأدبار هاربين، إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة منكم= "واذكروا الله كثيرًا"، يقول: وادعوا الله بالنصر عليهم والظفر بهم، وأشعروا قلوبكم وألسنتكم ذكره= "لعلكم تفلحون"، يقول: كيما تنجحوا فتظفروا بعدوكم، ويرزقكم الله النصرَ والظفر عليهم، (2) كما:-
16161 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون"، افترضَ الله ذكره عند أشغل ما تكونون، عند الضِّراب بالسيوف.
16162 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة عن ابن إسحاق: "يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة"، يقاتلونكم في سبيل الله= "فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا"، اذكروا الله الذي بذلتم له أنفسكم والوفاء بما أعطيتموه من بيعتكم= "لعلكم تفلحون". (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " فئة " فيما سلف ص: 455، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف ص: 169، تعليق 2، والمراجع هناك.
(3) الأثر: 16162 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر السالف رقم: 1616.(13/574)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
القول في تأويل قوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به: أطيعوا، أيها المؤمنون، ربَّكم ورسوله فيما أمركم به ونهاكم عنه، ولا تخالفوهما في شيء = "ولا تنازعوا فتفشلوا"، يقول: ولا تختلفوا فتفرقوا وتختلف قلوبكم (1) = "فتفشلوا"، يقول: فتضعفوا وتجبنوا، (2) = "وتذهب ريحكم".
* * *
وهذا مثلٌ. يقال للرجل إذا كان مقبلا ما يحبه ويُسَرّ به (3) "الريح مقبلةٌ عليه"، يعني بذلك: ما يحبه، ومن ذلك قول عبيد بن الأبرص:
كَمَا حَمَيْنَاكَ يَوْمَ النَّعْفِ مِنْ شَطَبٍ وَالفَضْلُ لِلقَوْمِ مِنْ رِيحٍ وَمِنْ عَدَدِ (4)
__________
(1) انظر تفسير " التنازع " فيما سلف ص: 569، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الفشل " ص: 569، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: " مقبلا عليه ما يحبه "، زاد " عليه "، وليست في المخطوطة.
(4) ديوانه: 49، من أبيات قبله، يقول: دَعَا مَعَاشِرَ فَاسْتَكَّتْ مَسَامِعُهُمْ ... يَا لَهْفَ نَفْسِي لَوْ تَدْعُو بَني أَسَدٍ
لا يَدَّعُونَ إذَا خَامَ الكُمَاةُ ولا ... إذَا السُّيُوفُ بِأَيْدِي القَوْمِ كالْوَقْدِ
لَوْ هُمْ حُمَاتُكَ بالمحْمَى حَمَوْكَ وَلَمْ ... تُتْرَكْ لِيَوْمٍ أقَامَ النَّاسَ في كَبَدِ
كَمَا حَمَيْنَاكَ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . .. . . . .
والبيت الثاني من هذه الأبيات جاء في مخطوطة الديوان: " لا يدَّعوا إذا حام الكماة ولا إذا.. "، فصححه الناشر المستشرق " تدعوا إذن حامي الكماة لا كسلا "، فجاء بالغثاثة كلها في شطر واحد. فيصحح كما أثبته. ويعني بقوله: " لا يدعون إذا خام الكماة "، أي: لا يتنادون بترك الفرار، و " خام " نكص، كما قال الآخر: تَنَادَوْا: يَا آلَ عَمْروٍ لا تَفِرُّوا! ... فَقُلْنَا: لا فِرَارَ ولا صُدُودَا
و" النعف "، ما انحدر من حزونة الجبل. و " شطب " جبل في ديار بني أسد.(13/575)
يعني: من البأس والكثرة. (1)
* * *
وإنما يراد به في هذا الموضع: وتذهب قوتكم وبأسكم، فتضعفوا ويدخلكم الوهن والخلل.
* * *
="واصبروا"، يقول: اصبروا مع نبيّ الله صلى الله عليه وسلم عند لقاء عدوكم، ولا تنهزموا عنه وتتركوه = "إن الله مع الصابرين"، يقول: اصبروا فإني معكم. (2)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16163- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "وتذهب ريحكم"، قال: نصركم. قال: وذهبت ريحُ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، (3) حين نازعوه يوم أحد.
16164- حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "وتذهب ريحكم"، فذكر نحوه.
16165- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه= إلا أنه قال: ريح أصحاب محمد حين تركوه يوم أحد.
16166 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: "ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم"، قال:
__________
(1) في المخطوطة: " من الناس "، والصواب ما في المطبوعة.
(2) انظر تفسير " مع " فيما سلف ص: 455، تعليق: 4، المراجع هناك.
(3) في المطبوعة: " أصحاب رسول الله "، وأثبت ما في المخطوطة.(13/576)
حَدُّكم وجِدُّكم. (1)
16167 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "وتذهب ريحكم"، قال: ريح الحرب.
16168 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "وتذهب ريحكم"، قال: "الريح"، النصر، لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تضرب وجوه العدو، فإذا كان ذلك لم يكن لهم قِوَام.
16169 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: "ولا تنازعوا فتفشلوا"، أي: لا تختلفوا فيتفرق أمركم= "وتذهب ريحكم"، فيذهب حَدُّكم (2) = "واصبروا إن الله مع الصابرين"، أي: إني معكم إذا فعلتم ذلك. (3)
16170 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: "ولا تنازعوا فتفشلوا"، قال: الفشل، الضعف عن جهاد عدوه والانكسار لهم، فذلك "الفشل".
__________
(1) في المطبوعة: " حربكم وجدكم "، وهي في المخطوطة توشك أن تقرأ كما قرأها، ولكن الكتابة تدل على أنه أراد " حدكم "، و " الحد " بأس الرجل ونفاذه في نجدته. يقال: " فلان ذو حد "، أي بأس ونجدة. ولو قرئت: " وحدتكم "، كان صوابًا، " الحد "، و " الحدة " (بكسر الحاء) ، واحد. وانظر التعليق التالي.
(2) في المطبوعة: " جدكم "، بالجيم، والصواب ما في سيرة ابن هشام، وفيها " حدتكم "، وفي مخطوطاتها " حدكم "، وهما بمعنى، كما أسلفت في التعليق قبله.
(3) الأثر: 16169 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16162.(13/577)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) }
قال أبو جعفر: وهذا تقدُّمٌ من الله جل ثناؤه إلى المؤمنين به وبرسوله، أن لا يعملوا عملا إلا لله خاصة، وطلب ما عنده، لا رئاء الناس، كما فعل القوم من المشركين في مسيرهم إلى بدر طلبَ رئاء الناس. وذلك أنهم أخبروا بفَوْت العِير رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، (1) وقيل لهم: "انصرفوا فقد سلمت العير التي جئتم لنصرتها! "، فأبوا وقالوا: "نأتي بدرًا فنشرب بها الخمر، وتعزف علينا القِيان، وتتحدث بنا العرب فيها"، (2) فَسُقوا مكان الخمر كؤوس المنايا، كما-
16171 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: كانت قريش قبل أن يلقاهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر، قد جاءهم راكب من أبي سفيان والركب الذين معه: إنا قد أجزنا القوم، وأن ارجعوا. (3) فجاء الركب الذين بعثهم أبو سفيان الذين يأمرون قريشًا بالرجعة بالجُحفة، فقالوا: "والله لا نرجع حتى ننزل بدرًا، فنقيم فيه ثلاث ليالٍ، ويرانا من غَشِينا من أهل الحجاز، فإنه لن يرانا أحد من العرب وما جمعنا فيقاتلنا". وهم الذين قال الله: "الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، والتقوا هم والنبيّ صلى الله عليه وسلم، ففتح الله على رسوله، وأخزى أئمة الكفر،
__________
(1) في المخطوطة: " بقرب العير "، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة: " وتتحدث بنا العرب لمكاننا فيها "، زاد ما ليس في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " فارجعوا "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في التاريخ.(13/578)
وشفى صدور المؤمنين منهم. (1)
16172 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق = في حديث ذكره = قال، حدثني محمد بن مسلم، وعاصم بن عمر، (2) وعبد الله بن أبي بكر، ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير وغيره من علمائنا، عن ابن عباس قال: لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عِيره، أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم، فقد نجاها الله، فارجعوا! فقال أبو جهل بن هشام: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا = وكان "بدر" موسمًا من مواسم العرب، يجتمع لهم بها سوق كل عام = فنقيم عليه ثلاثًا، وننحر الجُزُر، ونطعم الطعام، ونسقي الخمور، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدًا، فامضوا. (3)
16173 - قال ابن حميد حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، أي: لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه الذين قالوا: "لا نرجع حتى نأتي بدرًا، وننحر الجزر، ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا"، أي: لا يكونن أمركم رياءً ولا سمعة، ولا التماس ما عند الناسَ، وأخلصوا لله النية والحِسْبة في نصر دينكم، وموازرة نبيكم، أي: لا تعملوا إلا لله، ولا تطلبوا غيره. (4)
16174 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال،
__________
(1) الأثر: 16171 - هذا من كتاب عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان، الذي خرجته آنفًا من تاريخ الطبري مجموعًا برقم: 16083. وهذا القسم في تاريخ الطبري 2: 269.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " عاصم بن عمرو "، وهو خطأ، إنما هو " عاصم بن عمر بن قتادة) ، سلف مرارًا، وانظر سيرة ابن هشام 2: 257.
(3) الأثر: 16172 - سيرة ابن هشام 2: 270، وتاريخ الطبري 2: 276، من أثر طويل.
(4) الأثر: 16173 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16169. وفي لفظه اختلاف يسير.(13/579)
حدثنا إسرائيل= عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "الذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، قال: أصحاب بدر.
16175- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: "بطرًا ورئاء الناس"، قال: أبو جهل وأصحابه يوم بدر.
16176- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله= قال ابن جريج، وقال عبد الله بن كثير: هم مشركو قريش، وذلك خروجهم إلى بدر.
16177 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، يعني: المشركين الذي قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر.
16178 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: "خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس"، قال: هم قريش وأبو جهل وأصحابه، الذين خرجوا يوم بدر.
16179 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط"، قال: كان مشركو قريش الذين قاتلوا نبي الله يوم بدر، خرجوا ولهم بَغْي وفخر. وقد قيل لهم يومئذ: "ارجعوا، فقد انطلقت عيركم، وقد ظفرتم". قالوا: "لا والله، حتى يتحدث أهل الحجاز بمسيرنا وعددنا! ". قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يومئذ: "اللهم إنّ قريشًا أقبلت بفخرها وخيلائها لتحادَّك ورسولك"!
16180 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،(13/580)
حدثنا أسباط، عن السدي قال: ذكر المشركين وما يُطعِمُون على المياه فقال: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله".
16181 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: "الذين خرجوا من ديارهم بطرًا"، قال: هم المشركون، خرجوا إلى بدر أشرًا وبطرًا.
16182 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: لما خرجت قريش من مكة إلى بدر، خرجوا بالقيان والدفوف، فأنزل الله: "ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرًا ورئاء الناس ويصدون عن سبيل الله والله بما يعملون محيط".
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: ولا تكونوا، أيها المؤمنون بالله ورسوله، في العمل بالرياء والسمعة، وترك إخلاص العمل لله، واحتساب الأجر فيه، كالجيش من أهل الكفر بالله ورسوله الذين خرجوا من منازلهم بطرًا ومراءاة الناس بزّيهم وأموالهم وكثرة عددهم وشدة بطانتهم (1) = "ويصدون عن سبيل الله"، يقول: ويمنعون الناس من دين الله والدخول في الإسلام، بقتالهم إياهم، وتعذيبهم من قدروا عليه من أهل الإيمان بالله (2) = "والله بما يعملون"، من الرياء والصدِّ عن سبيل الله، وغير ذلك من أفعالهم= "محيط"، يقول: عالم بجميع ذلك، لا يخفى عليه منه شيء، وذلك أن الأشياء كلها له متجلّية، لا يعزب عنه منها شيء، فهو لهم بها معاقب، وعليها معذِّب. (3)
__________
(1) انظر تفسير " الرئاء " فيما سلف 5: 521، 522 8: 356 / 9: 331.
(2) انظر تفسير " الصد " فيما سلف ص: 529، تعليق 2، والمراجع هناك.
وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(3) انظر تفسير " محيط " فيما سلف 9: 252، تعليق: 3، والمراجع هناك.(13/581)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) ، وحين زين لهم الشيطان أعمالهم، وكان تزيينه ذلك لهم، (1) كما:-
16183- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال: جاء إبليس يوم بدر في جُنْد من الشياطين، معه رايته، في صورة رجل من بني مُدلج، والشيطان في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، (2) فقال الشيطان للمشركين: (لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) . فلما اصطف الناس، أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضةً من التراب فرمى بها في وجوه المشركين، فولَّوا مدبرين. وأقبل جبريل إلى إبليس، فلما رآه، وكانت يده في يد رجل من المشركين، انتزع. إبليس يده فولَّى مدبرًا هو وشيعته، فقال الرجل: يا سراقة، تزعم أنك لنا جار؟ قال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب) ، وذلك حين رأى الملائكة.
__________
(1) انظر تفسير " زين " فيما سلف 12: 136، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة، حذف قوله: " والشيطان "، وساق الكلام سياقًا واحدًا.(13/7)
16184- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا، أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي قال: أتى المشركين إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الكنانيّ الشاعر، ثم المدلجي، فجاء على فرس، فقال للمشركين: (لا غالب لكم اليوم من الناس) ! فقالوا: ومن أنت؟ قال: أنا جاركم سراقة، وهؤلاء كنانة قد أتوكم!
16185- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق، حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: لما أجمعت قريش المسير، ذكرت الذي بينها وبين بني بكر =يعني من الحرب= فكاد ذلك أن يثنيهم، (1) فتبدّى لهم إبليس في صورة سراقة [بن مالك] بن جعشم المدلجيّ، وكان من أشراف بني كنانة، فقال: "أنا جار لكم من أن تأتيكم كنانة [من خلفكم بشيء] تكرهونه"! فخرجوا سراعا. (2)
16186- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق في قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم) ، فذكر استدراج إبليس إياهم، وتشبهه بسراقة بن مالك بن جعشم لهم، (3) حين ذكروا ما بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة في الحرب التي كانت بينهم، (4) يقول الله: (فلما تراءت الفئتان) ، ونظر عدوّ الله إلى جنود الله من الملائكة قد أيَّد الله بهم رسوله والمؤمنين على عدوهم = (نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) ، وصدق عدوّ الله، إنه رأى ما لا يرون= وقال: (إني أخاف الله والله شديد العقاب) ، فأوردهم ثم أسلمهم.
__________
(1) في المطبوعة: " أن يثبطهم "، غير ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في السيرة.
(2) الأثر: 16185 - سيرة ابن هشام 2: 263، والزيادة بين الأقواس منها.
(3) في المطبوعة، حذف " لهم "، وهي ثابتة في المخطوطة وسيرة ابن هشام.
(4) في المطبوعة: " من الحرب "، غير ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام. والناشر كما تعلم وترى، كثير العبث بكلام أهل العلم.(13/8)
قال: فذكر لي أنهم كانوا يرونه في كل منزل في صورة سراقة بن مالك بن جعشم لا ينكرونه. حتى إذا كان يوم بدر والتقى الجمعان، كان الذي رآه حين نكص: "الحارث بن هشام" أو: "عمير بن وهب الجمحي"، فذُكر أحدهما، فقال: أينَ، أيْ سُرَاقَ! "، (1) ومثَل عدوُّ الله فذهب. (2)
16187- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) ، إلى قوله: (شديد العقاب) ، قال: ذُكر لنا أنه رأى جبريل تنزل معه الملائكة، فزعم عدو الله أنه لا يَدَيْ له بالملائكة، وقال: (إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله) ، وكذب والله عدو الله، ما به مخافة الله، ولكن علم أن لا قوة له ولا منعة له، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له، (3) حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مُسْلَم، (4) وتبرأ منهم عند ذلك.
16188- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) الآية، قال: لما كان يوم بدر، سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين، وألقى في قلوب المشركين: أنّ أحدًا لن يغلبكم، وإني جار لكم! فلما التقوا، ونظر الشيطان إلى أمداد الملائكة، نكص على عقبيه =قال: رجع مدبرًا= وقال: (إني أرى ما لا ترون) ، الآية.
16189- حدثنا أحمد بن الفرج قال، حدثنا عبد الملك بن عبد العزيز
__________
(1) هذه الجملة والتي تليها غيرها الناشر كل التغير، فكتب: " فقال: أين سراقة! أسلمنا عدو الله وذهب ". والذي في المخطوطة مطابق لما في سيرة ابن هشام ". وقوله: " مثل "، أي: انتصب ونهض.
(2) الأثر: 16186 - سيرة ابن هشام 2: 318، 319، وأخر صدر الخبر فجعله في آخره. وهذا الخبر لم يروه ابن هشام في سياق تفسير هذه الآيات في سيرته 2: 329، تابعًا للأثر السالف رقم: 16173، بل ذكر الآية ثم قال: " وقد مضى تفسير هذه الآية ".
(3) في المطبوعة: " واستعاذ به "، غير ما في المخطوطة بسوء أمانته ورأيه. و " استقاد له "، انقاد له وأطاعه.
(4) " مسلم " (بضم فسكون ففتح) مصدر ميمي، بمعنى " الإسلام ".(13/9)
بن الماجشون قال، حدثنا مالك، عن إبراهيم بن أبي عبلة، عن طلحة بن عبيد الله بن كريز: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما رؤي إبليس يومًا هو فيه أصغرُ، ولا أحقرُ، ولا أدحرُ، ولا أغيظُ من يوم عرفة، وذلك مما يرى من تنزيل الرحمة والعفو عن الذنوب، إلا ما رأى يوم بدر! قالوا: يا رسول الله، وما رأى يوم بدر؟ قال: "أما إنه رأى جبريل يَزَعُ الملائكة. (1)
16190- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال، عن الحسن في قوله: (إني أرى ما لا ترون) قال: رأى جبريل معتجرًا ببُرْدٍ، (2) يمشي بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، وفي يده اللجام، ما رَكبَ.
16191- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا سليمان بن المغيرة، عن حميد بن هلال قال: قال الحسن، وتلا هذه الآية: (وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم) الآية، قال: سار إبليس مع المشركين ببدر برايته وجنوده، وألقى في قلوب المشركين أن أحدًا لن يغلبكم وأنتم تقاتلون على دين
__________
(1) الأثر: 16189 - رواه مالك في الموطأ: 422، بنحو هذا اللفظ، وانظر التقصي لابن عبد البر: 12، 13.
" أحمد بن الفرج بن سليمان الحمصي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 6899، 15377. و " عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون التيمي "، فقيه المدينة ومفتيها في زمانه، وهو فقيه ابن فقيه، وهو ضعيف الحديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 358.
و" إبراهيم بن أبي عبلة الرملي "، مضى برقم: 11014.
و" طلحة بن عبيد الله بن كريز بن جابر الكعبي "، كان قليل الحديث، مضى برقم: 15585.
هذا خبر مرسل.
وقوله: " يزع الملائكة "، أي: يرتبهم ويسويهم، ويصفهم للحرب، فكأنه يكفهم عن التفرق والانتشار، و " الوازع "، هو المقدم على الجيش، الموكل بالصفوف وتدبير أمرهم، وترتيبهم في قتال العدو. من قولهم: " وزعه "، أي: كفه وحبسه عن فعل أو غيره.
(2) " الاعتجار "، هو لف العمامة على استدارة الرأس، من غير إدارة تحت الحنك. وإدارتها تحت الحنك هو " التلحي " (بتشديد الحاء) .(13/10)
آبائكم، (1) ولن تغلبوا كثرةً! فلما التقوا نكص على عقبيه =يقول: رجع مدبرًا= وقال: (إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) ، يعني الملائكة.
16192- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب قال: لما أجمعت قريش على السير قالوا: إنما نتخوف من بني بكر! فقال لهم إبليس، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم: أنا جار لكم من بني بكر، ولا غالب لكم اليوم من الناس.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: (وإن الله لسميع عليم) ، في هذه الأحوال =وحين زين لهم الشيطان خروجهم إليكم، أيها المؤمنون، لحربكم وقتالكم وحسَّن ذلك لهم وحثهم عليكم، وقال لهم: لا غالب لكم اليوم من بني آدم، فاطمئنوا وأبشروا = (وإني جار لكم) ، من كنانة أن تأتيكم من ورائكم فمعيذكم، (2) أجيركم وأمنعكم منهم، فلا تخافوهم، واجعلوا حدَّكم وبأسكم على محمد وأصحابه (3) = (فلما تراءت الفئتان) ، يقول: فلما تزاحفت جنود الله من المؤمنين وجنود الشيطان من المشركين، ونظر بعضهم إلى بعض= (نكص على عقبيه) ، يقول: رجع القهقري على قفاه هاربًا. (4)
* * *
يقال منه: "نكص ينكُص وينكِص نكوصًا"، ومنه قول زهير:
هُمْ يَضْرِبُونَ حَبِيكَ البَيْضِ إِذْ لَحِقُوا لا يَنْكُصُون، إِذَا مَا اسْتُلْحِمُوا وَحَمُوا (5)
__________
(1) في المطبوعة: " لن يغلبكم "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " فيغيركم "، ومثلها في المخطوطة غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها بعد إصلاح فسادها.
(3) في المطبوعة: " جدكم " بالجيم، وانظر ما سلف ج 13 ص: 577، تعليق: 1.
(4) انظر تفسير " العقب " فيما سلف 3: 163 \ 11: 450.
(5) ديوانه: 159، من قصيدته في هرم بن سنان، وهي من جياد شعره. و " حبيك البيض "، طرائق حديده. و " البيض " جمع " بيضة "، هي الخوذة من سلاح المحارب، على شكل بيضة النعام، يلبسها الفارس على رأسه لتقيه ضرب السيوف والرماح. و " استلحم الرجل " (بالبناء للمجهول) : إذا نشب في ملحمة القتال، فلم يجد مخلصًا. وقوله: " وحموا "، من قولهم: " حمى من الشيء حمية ومحمية "، إذا فارت نفسه وغلت، وأنف أن يقبل ما يراد به من ضيم، ومنه: " أنف حمى ".(13/11)
إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
وقال للمشركين: (إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون) ، يعني أنه يرى الملائكة الذين بعثهم الله مددًا للمؤمنين، والمشركون لا يرونهم (1) = إني أخاف عقاب الله، وكذب عدوُّ الله= (والله شديد العقاب) . (2)
القول في تأويل قوله: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وإن الله لسميع عليم) ، في هذه الأحوال = (وإذ يقول المنافقون) ، وكرّ بقوله: (إذ يقول المنافقون) ، على قوله: (إذ يريكهم الله في منامك قليلا) = (والذين في قلوبهم مرض) ، يعني: شك في الإسلام، لم يصحَّ يقينهم، ولم تُشرح بالإيمان صدورهم (3) = (غر هؤلاء دينهم) ، يقول: غر هؤلاء الذين يقاتلون المشركين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم من أنفسهم، دينُهم (4) = وذلك الإسلام.
* * *
وذُكر أن الذين قالوا هذا القول، كانوا نفرًا ممن كان قد تكلم بالإسلام من مشركي قريش، ولم يستحكم الإسلام في قلوبهم.
__________
(1) انظر تفسير " بريء " فيما سلف من فهارس اللغة (برأ) .
(2) انظر تفسير " شديد العقاب " فيما سلف من فهارس اللغة (عقب) .
(3) انظر تفسير " مرض " فيما سلف 1: 278 - 281 \ 10: 404.
(4) انظر تفسير " الغرور " فيما سلف 12: 475، تعليق: 1، والمراجع هناك.(13/12)
* ذكر من قال ذلك:
16193- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) ، قال: كان ناسٌ من أهل مكة تكلموا بالإسلام، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: (غر هؤلاء دينهم) .
16194- حدثني إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد، عن داود، عن عامر، مثله. (1)
16195- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غرّ هؤلاء دينهم) ، قال: فئة من قريش: أبو قيس بن الوليد بن المغيرة، (2) وأبو قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بن أمية بن خلف، والعاصي بن منبّه بن الحجاج; خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب، فحبسهم ارتيابهم. فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: (غرّ هؤلاء دينهم) ، حتى قدموا على ما قدموا عليه، مع قلة عددهم وكثرة عدوهم، فشرَّد بهم من خلفهم. (3)
16196- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) الأثر: 16194 - " إسحاق بن شاهين الواسطي "، شيخ الطبري مضى برقم: 7211، 9788. وكان في المخطوطة " أبو إسحاق بن شاهين "، وهو خطأ، صوابه ما في المطبوعة. وكنيته " أبو بشر ".
(2) مكان " أبو قيس بن "، بياض في المخطوطة، وفوق البياض حرف (ط) دلالة على الخطأ، وبعدها " الوليد بن المغيرة "، فكتب ناشر المطبوعة: " قيس بن الوليد بن المغيرة "، وأخطأ، إنما هو " أبو قيس بن الوليد "، وهو الذي شهد بدرًا، وقتله حمزة بن عبد المطلب. فأثبته. والظاهر أن البياض لا يراد به إلا هذا الذي أثبته، لا زيادة عليه.
(3) في المطبوعة، حذف " فشرد بهم من خلفهم "، وهي ثابتة في المخطوطة.(13/13)
معمر، عن الحسن: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم) ، قال: هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر، فسموا "منافقين" =قال معمر: وقال بعضهم: قوم كانوا أقرُّوا بالإسلام وهم بمكة، فخرجوا مع المشركين يوم بدر، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا: (غر هؤلاء دينهم) .
16197- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) إلى قوله: (فإن الله عزيز حكيم) ، قال: رأوا عصابة من المؤمنين تشرّدت لأمر الله. (1) وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال: "والله لا يُعبد الله بعد اليوم! "، قسوة وعُتُوًّا.
16198- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) ، قال: ناس كانوا من المنافقين بمكة، قالوه يوم بدر، وهم يومئذ ثلاث مئة وبضعة عشر رجلا.
16199- ... قال حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله: (إذ يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض) ، قال: لما دنا القوم بعضهم من بعض، فقلَّل الله المسلمين في أعين المشركين، وقلَّل المشركين في أعين المسلمين، فقال المشركون: (غر هؤلاء دينهم) ، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم، وظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك، فقال الله: (ومن يتوكل على الله فإنّ الله عزيز حكيم) .
* * *
وأما قوله: (ومن يتوكل على الله) ، فإن معناه: ومن يسلم أمره إلى الله،
__________
(1) في المطبوعة: " تشددت "، وفي المخطوطة: " تسردت "، وكأن صواب قراءتها ما أثبت، " تشرد في الأرض " هرب ونفر، وكأنه يعني هجرتهم إلى الله ورسوله. هكذا اجتهدت، والله أعلم.(13/14)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50)
ويثق به، ويرض بقضائه، فإن الله حافظه وناصره (1) =لأنه "عزيز"، لا يغلبه شيء، ولا يقهره أحد، فجارُه منيع، ومن يتوكل عليه مكفيٌّ. (2)
وهذا أمرٌ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسول الله وغيرهم، أن يفوِّضوا أمرهم إليه، ويسلموا لقضائه، كيما يكفيهم أعداءهم، ولا يستذلهم من ناوأهم، لأنه "عزيز" غير مغلوب، فجاره غير مقهور = "حكيم"، يقول: هو فيما يدبر من أمر خلقه حكيم، لا يدخل تدبيره خلل. (3)
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولو تعاين، يا محمد، حين يتوفى الملائكةُ أرواحَ الكفار، فتنزعها من أجسادهم، تضرب الوجوه منهم والأستاه، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب النار التي تحرقكم يوم ورودكم جهنم. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف 13: 385، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: ". . . عليه يكفه "، غير ما في المخطوطة، وهو محض الصواب.
(3) انظر تفسير " عزيز "، و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) .
(4) انظر تفسير " التوفي " فيما سلف 13: 35، تعليق 5، والمراجع هناك.
وتفسير " الأدبار " فيما سلف 13: 435، تعليق 2، والمراجع هناك.
وتفسير " الذوق " فيما سلف 13: 528، تعليق 2، والمراجع هناك.
وتفسير " الحريق " فيما سلف 7: 446، 447.(13/15)
16200- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال: يوم بدر.
16201- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سليم، عن إسماعيل بن كثير، عن مجاهد: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال: وأستاههم، ولكن الله كريم يَكْنِي. (1)
16202- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد، في قوله: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال: وأستاههم، ولكنه كريم يَكْنِي. (2)
16203- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير في قوله: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، قال: إن الله كنى، ولو شاء لقال: "أستاههم"، وإنما عنى ب "أدبارهم"، أستاههم.
16204- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: أستاههم، يوم بدر =قال ابن جريج، قال ابن عباس: إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين، ضربوا وجوههم بالسيوف. وإذا ولّوا، أدركتهم الملائكة فضربوا أدبارهم.
16205- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عباد بن راشد، عن الحسن قال: قال رجل: يا رسول الله، إني رأيت بظهر
__________
(1) الأثر: 16201 - " يحيى بن سليم الطائفي "، ثقة، مضى برقم: 4894، 9788، وكان في المطبوعة: " يحيى بن أسلم "، وهو خطأ محض، والمخطوطة مضطربة الكتابة. و " إسماعيل بن كثير الحجازي "، ثقة، مضى برقم: 8929.
(2) في المطبوعة: " ولكن الله "، وأثبت ما في المخطوطة.(13/16)
ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
أبي جهل مثل الشراك! (1) قال: ما ذاك؟ قال: ضربُ الملائكة.
16206- حدثنا محمد قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إني حملت على رجل من المشركين فذهبت لأضربه، (2) فنَدرَ رأسُه؟ (3) فقال: سبقك إليه الملك.
16207- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: حدثني حرملة: أنه سمع عمر مولى غفرة يقول: إذا سمعت الله يقول: (يضربون وجوههم وأدبارهم) ، فإنما يريد: أستاههم. (4)
* * *
قال أبو جعفر: وفي الكلام محذوف، استغني بدلالة الظاهر عليه من ذكره، وهو قوله: "ويقولون"، (ذوقوا عذاب الحريق) ، حذفت "يقولون"، كما حذفت من قوله: (وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) [سورة السجدة: 21] ، بمعنى: يقولون: ربنا أبصرنا. (5)
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ (51) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مخبرًا عن قيل الملائكة لهؤلاء المشركين الذين قتلوا ببدر، أنهم يقولون لهم وهم يضربون وجوههم وأدبارهم: "ذوقوا عذاب
__________
(1) " الشراك "، سير النعل الذي يكون على ظهرها.
(2) انظر ما أسلفت في تفسير " ذهب يفعل "، فيما سلف 11: 128، تعليق: 1، ثم 11: 250، 251، وص 250 تعليق: 1.
(3) " ندر الشيء " سقط. يقال: " ضرب يده بالسيف فأندرها "، أي قطعها فسقطت.
(4) الأثر: 16207 - " حرملة بن عمران التجيبي "، ثقة، مضى برقم: 6890، 13240. و " عمر، مولى غفرة "، هو " عمر بن عبد الله المدني "، أبو حفص، ليس به بأس، كان صاحب مرسلات ورقائق. مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 119.
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 413.(13/17)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
الله الذي يحرقكم"، هذا العذاب لكم = (بما قدمت أيديكم) ، أي: بما كسبت أيديكم من الآثام والأوزار، واجترحتم من معاصي الله أيام حياتكم، (1) فذوقوا اليوم العذابَ، وفي معادكم عذابَ الحريق; وذلك لكم بأن الله (ليس بظلام للعبيد) ، لا يعاقب أحدًا من خلقه إلا بجرم اجترمه، ولا يعذبه إلا بمعصيته إياه، لأن الظلم لا يجوز أن يكون منه.
وفي فتح "أن" من قوله: (وأن الله) ، وجهان من الإعراب:
أحدهما: النصبُ، وهو للعطف على "ما" التي في قوله: (بما قدمت) ، بمعنى: (ذلك بما قدمت أيديكم) ، وبأن الله ليس بظلام للعبيد، في قول بعضهم، والخفض، في قول بعضٍ.
والآخر: الرفع، على (ذلك بما قدمت) ، وذلك أن الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فِعْلُ هؤلاء المشركون من قريش الذين قتلوا ببدر، كعادة قوم فرعون وصنيعهم وفعلهم وفعل من كذّب بحجج الله ورسله من الأمم الخالية قبلهم، (3) ففعلنا بهم كفعلنا بأولئك.
__________
(1) انظر تفسير " قدمت أيديكم " فيما سلف 2: 368 \ 7: 447 \ 8: 514 \ 10: 497.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 413.
(3) انظر تفسير " آل " فيما سلف 2: 37 \ 6: 326.(13/18)
وقد بينا فيما مضى أن "الدأب"، هو الشأن والعادة، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
16208- حدثني الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا شيبان، عن جابر، عن عامر ومجاهد وعطاء: (كدأب آل فرعون) كفعل آل فرعون، كسُنَنِ آل فرعون.
* * *
وقوله: (فأخذهم الله بذننوبهم) ، يقول: فعاقبهم الله بتكذيبهم حججه ورسله، ومعصيتهم ربهم، كما عاقب أشكالهم والأمم الذين قبلهم = (إن الله قوي) ، لا يغلبه غالب، ولا يرد قضاءه رادٌّ، يُنْفِذ أمره، ويُمضي قضاءه في خلقه =شديد عقابه لمن كفر بآياته وجحد حُججه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الدأب " فيما سلف 6: 223 - 225.(13/19)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53)
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأخذنا هؤلاء الذين كفروا بآياتنا من مشركي قريش ببدر بذنوبهم، (1) وفعلنا ذلك بهم، بأنهم غيَّروا ما أنعم الله عليهم به من ابتعاثه رسولَه منهم وبين أظهرهم، بإخراجهم إياه من بينهم، وتكذيبهم له، وحربهم إياه، فغيرنا نعمتنا عليهم بإهلاكنا إياهم، كفعلنا ذلك في الماضين قبلهم ممن طغى علينا وعصى أمرنا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأخذ " فيما سلف من فهارس اللغة (أخذ) .(14/19)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16209- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ذلك بأن الله لم يك مغيرًا نعمةً أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) ، يقول: "نعمة الله"، محمد صلى الله عليه وسلم، أنعم به على قريش، وكفروا، فنقله إلى الأنصار.
* * *
وقوله: (وأن الله سميع عليم) ، يقول: لا يخفى عليه شيء من كلام خلقه، يسمع كلام كلّ ناطق منهم بخير نطق أو بشرٍّ = (عليم) ، بما تضمره صدورهم، وهو مجازيهم ومثيبهم على ما يقولون ويعملون، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: غير هؤلاء المشركون بالله، المقتولون ببدر، نعمةَ ربهم التي أنعم بها عليهم، بابتعاثه محمدًا منهم وبين أظهرهم، داعيًا لهم إلى الهدى، بتكذيبهم إياه، وحربهم له = (كدأب آل فرعون) ، كسنة آل فرعون وعادتهم وفعلهم بموسى نبي الله، (2) في تكذيبهم إياه، وقصدهم لحربه، (3) وعادة
__________
(1) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) .
(2) انظر تفسير " الدأب " فيما سلف ص: 19، تعليق: 1، والمراجع هناك.
وتفسير " آل " فيما سلف ص: 18، تعليق 3، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: " وتصديهم لحربه "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.(14/20)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56)
من قبلهم من الأمم المكذبة رسلَها وصنيعهم = (فأهلكناهم بذنوبهم) ، بعضًا بالرجفة، وبعضًا بالخسف، وبعضا بالريح = (وأغرقنا آل فرعون) ، في اليم = (وكل كانوا ظالمين) ، يقول: كل هؤلاء الأمم التي أهلكناها كانوا فاعلين ما لم يكن لهم فعله، من تكذيبهم رسلَ الله والجحود لآياته، فكذلك أهلكنا هؤلاء الذين أهلكناهم ببدر، إذ غيروا نعمة الله عندهم، بالقتل بالسيف، وأذللنا بعضهم بالإسار والسِّبَاء.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن شر ما دبّ على الأرض عند الله، (1) الذين كفروا بربهم، فجحدوا وحدانيته، وعبدوا غيره = (فهم لا يؤمنون) ، يقول: فهم لا يصدِّقون رسلَ الله، ولا يقرُّون بوحيه وتنزيله.
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن شر الدواب عند الله الذين كفروا) ، (الذين عاهدت منهم) ، يا محمد، يقول: أخذت عهودهم ومواثيقهم أن لا يحاربوك، (2) ولا يظاهروا عليك محاربًا لك، كقريظة ونظرائهم ممن كان بينك وبينهم عهد
__________
(1) انظر تفسير " الداية " فيما سلف 3: 274، 275 \ 11: 344 \ 13: 459.
(2) انظر تفسير " العهد " فيما سلف 13: 72، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/21)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
وعقد = (ثم ينقضون) ، عهودهم ومواثيقهم كلما عاهدوك وواثقوك، (1) حاربوك وظاهروا عليك، (2) وهم لا يتقون الله، ولا يخافون في فعلهم ذلك أن يوقع بهم وقعة تجتاحهم وتهلكهم، كالذي:-
16210- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم) ، قال: قريظة مالأوا على محمد يوم الخندق أعداءه.
16211- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإما تلقيَنَّ في الحرب هؤلاء الذين عاهدتهم فنقضوا عهدك مرة بعد مرة من قريظة، فتأسرهم، (3) = (فشرد بهم من خلفهم) ، يقول: فافعل بهم فعلا يكون مشرِّدًا مَن خلفهم من نظرائهم، ممن بينك وبينه عهد وعقد.
* * *
و"التشريد"، التطريد والتبديد والتفريق.
* * *
وإنما أمِرَ بذلك نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل بالناقض العهد بينه
__________
(1) في المطبوعة: " كلما عاهدوا دافعوك وحاربوك "، وفي المخطوطة: " كلما عاهدوا دافعوك وحاربوك "، وكأن الصواب ما أثبت.
(2) انظر تفسير " النقض " فيما سلف 9: 363 \ 10: 125.
(3) انظر تفسير " ثقف " فيما سلف 3: 564 \ 7: 110.(14/22)
وبينهم إذا قدر عليهم فعلا يكون إخافةً لمن وراءهم، ممن كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبينه عهد، حتى لا يجترئوا على مثل الذي اجترأ عليه هؤلاء الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية من نقض العهد.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16212- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، يعني: نكّل بهم من بعدهم.
16213- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فشرد بهم من خلفهم) ، يقول: نكل بهم من وراءهم.
16214- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، يقول: عظْ بهم من سواهم من الناس.
16215- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، يقول: نكل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم من العدوّ، لعلهم يحذرون أن ينكُثوا فتصنع بهم مثل ذلك.
16216- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال: حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: (فشرد بهم من خلفهم) ، قال: أنذر بهم من خلفهم.
16217- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،(14/23)
عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قال: نكل بهم من خلفهم، مَنْ بعدهم =قال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: نكل بهم مَنْ وراءهم.
16218- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون) ، أي: نكل بهم من وراءهم لعلهم يعقلون. (1)
16219- حُدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله: (فشرد بهم من خلفهم) ، يقول: نكل بهم من بعدهم.
16220- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، قال: أخفهم بما تصنع بهؤلاء. وقرأ: (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) (2) [الأنفال: 60]
* * *
وأما قوله: (لعلهم يذكرون) ، فإن معناه: كي يتعظوا بما فعلت بهؤلاء الذين وصفت صفتهم، (3) فيحذروا نقضَ العهد الذي بينك وبينهم خوفَ أن ينزل بهم منك ما نزل بهؤلاء إذا هم نقضوه.
* * *
__________
(1) الأثر: 16218 - سيرة ابن هشام 2: 329، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16173، ثم هو في الحقيقة تابع الأثر السالف رقم: 16186، سيرة ابن هشام 2: 318، 319.
(2) الأثر: 16220 - انظر الأثر التالي رقم: 16242، والتعليق عليه.
(3) انظر تفسير " التذكر " فيما سلف من فهارس اللغة (ذكر) .(14/24)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
القول في تأويل قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وإما تخافن) ، يا محمد، من عدو لك بينك وبينه عهد وعقد، أن ينكث عهد. وينقض عقده، ويغدر بك =وذلك هو "الخيانة" والغدر (1) = (فانبذ إليهم على سواء) ، يقول: فناجزهم بالحرب، وأعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم، بما كان منهم من ظهور أمار الغدر والخيانة منهم، (2) حتى تصير أنتَ وهم على سواء في العلم بأنك لهم محارب، فيأخذوا للحرب آلتها، وتبرأ من الغدر = (إن الله لا يحب الخائنين) ، الغادرين بمن كان منه في أمان وعهد بينه وبينه أن يغدر به فيحاربه، قبل إعلامه إياه أنه له حرب، وأنه قد فاسخه العقد.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يجوز نقضُ العهد بخوف الخيانة، و"الخوف" ظنٌّ = لا يقين؟ (3)
قيل: إن الأمر بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معناه: إذا ظهرت أمارُ الخيانة من عدوك، (4) وخفت وقوعهم بك، فألق إليهم مقاليد السَّلم وآذنهم بالحرب. (5) وذلك كالذي كان من بني قريظة إذ أجابوا أبا سفيان ومن معه من
__________
(1) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف 13: 480، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " النبذ " فيما سلف 2: 401، 402 \ 7: 459. وفي المطبوعة: " آثار الغدر "، وأثبت ما في المخطوطة، و " الأمار " و " الأمارة "، العلامة، ويقال: " أمار " جمع " أمارة ".
(3) انظر تفسير " الخوف " فيما سلف 11: 373، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: " آثار الخيانة "، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر التعليق السالف رقم: 2.
(5) في المخطوطة: " وأد "، وبعدها بياض، صوابه ما في المطبوعة.(14/25)
المشركين إلى مظاهرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحاربتهم معهم، (1) بعد العهد الذي كانوا عاهدوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على المسالمة، ولن يقاتلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم. (2) فكانت إجابتهم إياه إلى ذلك، موجبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم خوف الغدر به وبأصحابه منهم. فكذلك حكم كل قوم أهل موادعةٍ للمؤمنين، ظهر لإمام المسلمين منهم من دلائل الغدر مثل الذي ظهرَ لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريظة منها، فحقٌّ على إمام المسلمين أن ينبذ إليهم على سواء، ويؤذنهم بالحرب.
* * *
ومعنى قوله: (على سواء) ، أي: حتى يستوي علمك وعلمهم بأن كل فريق منكم حرب لصاحبه لا سِلْم. (3)
* * *
وقيل: نزلت الآية في قريظة.
* ذكر من قال ذلك:
16221- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فانبذ إليهم على سواء) ، قال: قريظة.
* * *
وقد كان بعضهم يقول: "السواء"، في هذا الموضع، المَهَل. (4)
* ذكر من قال ذلك:
16222- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: إنه مما تبين لنا أن قوله: (فانبذ إليهم على سواء) ، أنه: على مهل =كما حدثنا بكير، عن مقاتل بن حيان في قول الله: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ
__________
(1) في المطبوعة: " ومحاربتهم معه "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: " ولم يقاتلوا "، وما في المطبوعة شبيه بالصواب.
(3) انظر تفسير " السواء " فيما سلف 10: 488، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: " وقد قال بعضهم "، غير الجملة كلها بلا شيء.(14/26)
مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ) ، [التوبة: 1-2]
* * *
وأما أهل العلم بكلام العرب، فإنهم في معناه مختلفون.
فكان بعضهم يقول: معناه: فانبذ إليهم على عدل =يعني: حتى يعتدل علمك وعلمهم بما عليه بعضكما لبعض من المحاربة، واستشهدوا لقولهم ذلك بقول الراجز: (1)
وَاضْرِبْ وُجُوهَ الغُدُرِ الأعْدَاءِ حَتَّى يُجِيبُوكَ إلَى السَّوَاءِ (2)
يعني: إلى العدل.
* * *
وكان آخرون يقولون: معناه: الوسَط، من قول حسان:
يَا وَيْحَ أَنْصَارِ الرَّسُولِ ورَهْطِهِ بَعْدَ الُمغيَّبِ فِي سَوَاءِ المُلْحَدِ (3)
بمعنى: في وسط اللَّحْد.
* * *
وكذلك هذه المعاني متقاربة، لأن "العدل"، وسط لا يعلو فوق الحق ولا يقصّر عنه، وكذلك "الوسط" عدل، واستواء علم الفريقين فيما عليه بعضهم لبعض بعد المهادنة، (4) عدل من الفعل ووسط. وأما الذي قاله الوليد بن مسلم من أن معناه: "المهل"، فما لا أعلم له وجهًا في كلام العرب.
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) كان في المطبوعة: " الغدر للأعداء ". وهو خطأ، صوابه من المخطوطة و " الغدر " (بضمتين) ، جمع " غدور "، مثل " صبور "، وهو الغادر المستمرئ للغدر.
(3) سلف البيت وتخريجه وشرحه فيما مضى 2: 496، تعليق 2.
(4) في المطبوعة: " واستواء الفريقين "، وفي المخطوطة " واستواء على الفريقين ". وصواب قراءتها ما أثبت، وهو حق المعنى.(14/27)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59)
القول في تأويل قوله: {وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: " وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ " بكسر الألف من "إنهم"، وبالتاء في "تحسبن" =بمعنى: ولا تحسبن، يا محمد، الذين كفروا سبقونا ففاتونا بأنفسهم. ثم ابتدئ الخبر عن قدرة الله عليهم فقيل: إن هؤلاء الكفرة لا يعجزون ربهم، إذا طلبهم وأراد تعذيبهم وإهلاكهم، بأنفسهم فيفوتوه بها.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة المدينة والكوفة: (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، بالياء في "يحسبن"، وكسر الألف من (إِنَّهُمْ) .
* * *
وهي قراءة غير حميدة، لمعنيين، (1) أحدهما خروجها من قراءة القرأة وشذوذها عنها =والآخر: بعدها من فصيح كلام العرب. وذلك أن "يحسب" يطلب في كلام العرب منصوبًا وخبره، كقوله: "عبد الله يحسب أخاك قائمًا" و"يقوم" و"قام". فقارئ هذه القراءة أصحب "يحسب" خبرًا لغير مخبر عنه مذكور. وإنما كان مراده، ظنّي: (2) ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزوننا =فلم يفكر في صواب مخرج الكلام وسُقمه، واستعمل في قراءته ذلك كذلك، ما ظهر له من مفهوم الكلام. وأحسب أن الذي دعاه إلى ذلك، الاعتبارُ بقراءة عبد الله. وذلك أنه فيما ذكر في مصحف عبد الله: " وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا
__________
(1) هذه القراءة التي ردها أبو جعفر، هي قراءتنا اليوم.
(2) في المطبوعة: " وإنما كان مراد بطي ولا يحسبن "، فأتى بعجب لا معنى له. وقول الطبري: " ظني "، يقول كما نقول اليوم: " فيما أظن ".(14/28)
أَنَّهُمْ سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ "، وهذا فصيح صحيح، إذا أدخلت "أنهم" في الكلام، لأن "يحسبن" عاملة في "أنهم"، وإذا لم يكن في الكلام "أنهم" كانت خالية من اسم تعمل فيه.
وللذي قرأ من ذلك من القرأة وجهان في كلام العرب، وإن كانا بعيدين من فصيح كلامهم:
أحدهما: أن يكون أريد به: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقوا، أو: أنهم سبقوا =ثم حذف "أن" و"أنهم"، كما قال جل ثناؤه: (وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) ، [الروم: 24] . بمعنى: أن يريكم، وقد ينشد في نحو ذلك بيت لذي الرمة:
أَظُنّ ابْنُ طُرْثُوثٍ عُتَيْبَةُ ذَاهِبًا بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهْ (1)
__________
(1) ديوانه 473، من قصيدة ذكر فيها " المهاجر بن عبد الله الكلابي " والي اليمامة، وكان للمهاجر عريف من السعاة بالبادية يقال له: " رومي "، فاختلف ذو الرمة، وعتيبة بن طرثوث في بئر عادية، فخاصم ذو الرمة إلى رومي، فقضى رومي لابن طرثوث قبل فصل الخصومة، وكتب له بذلك سجلا، فقال ذو الرمة من قصيدته تلك، برواية ديوانه: أقُولُ لِنَفْسِي، لا أُعَاتِبُ غَيْرَهَا ... وَذُو اللُّبِّ مَهْمَا كَانَ، لِلنَّفْسِ قائِلُهْ
لَعَلَّ ابْنَ طُرْثُوثٍ عَتَيْبَةُ ذَاهِبٌ ... بِعَادِيَّتِي تَكْذَابُهُ وَجَعَائِلُهْ
بِقَاعٍ، مَنَعْنَاهُ ثَمَانينَ حِجَّةً ... وَبِضْعًا، لَنَا أَحْرَاجُه وَمَسَايِلُهْ
ثم ذكر المهاجر بالذكر الجميل، ثم قال: يَعِزُّ، ابْنَ عَبْدِ اللهِ، مَنْ أَنْتَ نَاصِرٌ ... وَلا يَنْصُرُ الرَّحْمَنُ مَنْ أنْتَ خَاذِلُهْ
إذَا خَافَ قَلْبِي جَوْرَ سَاعٍ وَظُلْمَهُ ... ذَكَرْتُكَ أُخْرَى فَاطْمَأَنَّتْ بَلابِلُهْ
تَرَى اللهَ لا تَخْفَى عَلَيْهِ سَرِيرَةٌ ... لِعَبْدٍ، ولا أَسْبَابُ أَمْرٍ يُحَاوِلهْ
لَقَدْ خَطَّ رُومِيٌّ، وَلا زَعَمَاتِهِ، ... لِعُتْبَةَ خَطًّا لَمْ تُطَبَّقْ مَفَاصِلُهْ
بِغَيْرِ كتابٍ وَاضِحٍ مِنْ مُهَاجِرٍ ... وَلا مُقْعَدٍ مِنِّي بخَصْمٍ أُجَادِلهْ
هذه قصة حية. وكان في المطبوعة: " عيينة "، والصواب من الديوان، ومما يدل عليه الشعر السالف إذ سماه " عتبة "، ثم صغره. و " العادية "، البئر القديمة، كأنها من زمن " عاد ". و " التكذاب "، مصدر مثل " الكذب ". و " الجعائل "، الرشي، تجعل للعامل المرتشي.(14/29)
بمعنى: أظن ابن طرثوث أن يذهب بعاديتي تكذابه وجعائله؟ وكذلك قراءة من قرأ ذلك بالياء، يوجه "سبقوا" إلى "سابقين" على هذا المعنى. (1)
والوجه الثاني على أنه أراد إضمار منصوب بـ "يحسب"، كأنه قال: ولا يحسب الذين كفروا أنهم سبقوا =ثم حذف "أنهم" وأضمر. (2)
وقد وجه بعضهم معنى قوله: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ) ، [سورة آل عمران: 175] : إنما ذلكم الشيطان يخوف المؤمن من أوليائه، وأن ذكر المؤمن مضمر في قوله: "يخوف"، إذ كان الشيطان عنده لا يخوف أولياءه. (3)
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الشأم: "وَلا تحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا " بالتاء من "تحسبن" = (سَبَقُوا أَنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) ، بفتح الألف من "أنهم"، بمعنى: ولا تحسبن الذين كفروا أنهم لا يعجزون.
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجه لهذه القراءة يُعقل، إلا أن يكون أراد القارئ بـ "لا" التي في "يعجزون"، "لا" التي تدخل في الكلام حشوًا وصلة، (4) فيكون معنى الكلام حينئذ: ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا أنهم يعجزون =ولا وجه لتوجيه حرف في كتاب الله إلى التطويل، (5) بغير حجة يجب التسليم لها، وله في الصحة مخرج.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي، قراءة من قرأ:
__________
(1) انظر هذا في معاني القرآن للفراء 1: 414 - 416.
(2) كان في المطبوعة: " ثم حذف الهمز وأضمر "، وهو كلام لا تفلته الخساسة. وصواب قراءة المخطوطة: " أنهم " كما أثبتها، وهو واضح جدًا.
(3) انظر ما سلف 7: 417، تفسير هذه الآية.
(4) " الصلة "، الزيادة، كما سلف مرارًا، انظر فهارس المصطلحات فيما سلف.
(5) " التطويل "، الزيادة أيضًا. انظر ما سلف 1: 118، 224، 405، 406، 440، 441، وهو هناك " التطول ".(14/30)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
(لا تَحْسَبَنَّ) ، بالتاء (الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ) ، بكسر الألف من "إنهم"، (لا يُعْجِزُونَ) ، بمعنى: ولا تحسبن أنت، يا محمد، الذين جحدوا حجج الله وكذبوا بها، سبقونا بأنفسهم ففاتونا، إنهم لا يعجزوننا =أي: يفوتوننا بأنفسهم، ولا يقدرون على الهرب منا، (1) كما:-
16223- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون) ، يقول: لا يفوتون.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ (60) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وأعدوا) ، لهؤلاء الذين كفروا بربهم، الذين بينكم وبينهم عهد، إذا خفتم خيانتهم وغدرهم، أيها المؤمنون بالله ورسوله = (ما استطعتم من قوة) ، يقول: ما أطقتم أن تعدّوه لهم من الآلات التي تكون قوة لكم عليهم، (2) من السلاح والخيل= (ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، يقول: تخيفون بإعدادكم ذلك عدوَّ الله وعدوكم من المشركين.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16224- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن رجل من جهينة، يرفع الحديث إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، ألا إنَّ الرمي هو القوة، ألا إنّ الرمي هو القوة. (3)
__________
(1) انظر تفسير " أعجز " فيما سلف 12: 128.
(2) انظر تفسير " الاستطاعة "، فيما سلف 4: 315 \ 9: 284.
(3) الأثر: 16224 - " ابن إدريس "، وهو " عبد الله بن إدريس الأودي " الإمام، مضى مرارًا. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " أبو إدريس " وهو خطأ صرف.
و" أسامة بن زيد الليثي "، ثقة، مضى برقم: 2867، 3354.
و" صالح بن كيسان المدني "، روى له الجماعة، مضى برقم: 1020، 5321.
وسيأتي هذا الخبر من طرق أخرى رقم: 16226 - 16228، وسأذكرها عند كل واحد منها، وانظر تخريج الخبر التالي.(14/31)
16225- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سعيد بن شرحبيل قال، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، وعبد الكريم بن الحارث، عن أبي علي الهمداني: أنه سمع عقبة بن عامر على المنبر يقول: قال الله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) ، ألا وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر: قال الله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي، ثلاثا. (1)
__________
(1) الأثر: 16225 - " سعيد بن شرحبيل الكندي "، روى عنه البخاري، وروى له النسائي وابن ماجه بالواسطة. ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 442، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 33.
و" ابن لهيعة "، مضى مرارًا، ومضى الكلام في أمر توثيقه.
و" يزيد بن أبي حبيب الأزدي المصري "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا آخرها: 11871.
و" عبد الكريم بن الحارث بن يزيد الحضرمي المصري "، ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 60.
و" أبو علي الهمداني "، هو " ثمامة بن شفي الهمداني " المصري، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 177، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 466.
وهذا إسناد فيه ضعف لمن ضعف ابن لهيعة، والطبري نفسه سيقول في ص: 37، تعليق: 2، أنه سند فيه وهاء ".
بيد أن هذا الخبر روي من طرق صحيحة جدا:
رواه مسلم في صحيحه 13: 64، من طريق هارون بن معروف، عن ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي علي ثمامة بن شفي، بمثله.
ورواه أبو داود في سننه 3: 20، رقم: 2514، من طريق سعيد بن منصور، عن ابن وهب، بمثله.
ورواه ابن ماجه في سننه: 940 رقم: 2813، من طريق يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب بمثله.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 328، من طريق سعيد بن ابي أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير، عن عقبة، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين. ولك يخرجه البخاري، لأن صالح بن كيسان أوقفه " ووافقه الذهبي.(14/32)
16226- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محبوب، وجعفر بن عون، ووكيع، وأبو أسامة، وأبو نعيم=، عن أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن رجل، عن عقبة بن عامر الجهني قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل) ، فقال: "ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة، الرمي" ثلاث مرات. (1)
16227- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن رجل، عن عقبة بن عامر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية على المنبر، فذكر نحوه. (2)
16228- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (3)
16229- حدثنا أحمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا موسى بن عبيدة، عن أخيه، محمد بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة، عن عقبة بن عامر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، "ألا إن القوة الرمي. (4)
__________
(1) الأثر: 16226 - " محبوب "، هو " محبوب بن محرز القواريري "، وثقه ابن حبان، وضعفه الدارقطني. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 388.
و" جعفر بن عون المخزومي "، ثقة، أخرج له الجماعة، مضى برقم: 9506.
وهذا الخبر رواه الترمذي من طريق وكيع عن أسامة بن زيد، ثم قال: " وقد روى بعضهم هذا الحديث عن أسامة بن زيد، عن صالح بن كيسان، عن عقبة بن عامر، وحديث وكيع أصح، وصالح بن كيسان لم يدرك عقبة بن عامر، وأدرك ابن عمر ". وانظر الخبر رقم: 16228.
(2) الأثر: 16227 - هو مكرر الأثر السالف، وانظر تخريجه، رواه من هذه الطريق، الترمذي في سننه، كما سلف.
(3) الأثر: 16228 - هذا هو الحديث الذي أشار إليه الترمذي، وقال فيه: " صالح بن كيسان، لم يدرك عقبة بن عامر ". انظر ما سلف: 16226.
(4) الأثر: 16229 - " موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي "، ضعيف بمرة، لا تحل الرواية عنه. سلف مرارًا، آخرها رقم: 11811، 14045، روى عن أخويه " عبد الله " و " محمد " وأخوه " محمد بن عبيدة بن نشيط الربذي "، لم أجد له ترجمة، وهو مذكور في ترجمة أخيه " موسى "، وترجمة أخيه " عبد الله "، وأنه روى عنه. وكان أكبر من أخيه موسى بثمانين سنة. وأخوه " عبد الله بن عبيدة بن نشيط الربذي "، روى عن جماعة من الصحابة، وثقه بعضهم، وضعفه آخرون، وقال أحمد: " موسى بن عبيدة وأخوه، لا يشتغل بهما ". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 101.(14/33)
16230- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن شعبة بن دينار، عن عكرمة في قوله: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، قال: الحصون = (ومن رباط الخيل) ، قال: الإناث. (1)
16231- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن رجاء بن أبي سلمة قال: لقي رجل مجاهدًا بمكة، ومع مجاهد جُوَالَق،، (2) قال: فقال مجاهد: هذا من القوة! =ومجاهد يتجهز للغزو.
16232- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) ، من سلاح.
* * *
وأما قوله: (ترهبون به عدو الله وعدوكم) =
= فقال ابن وكيع:
16233- حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة الثقفي، عن مجاهد، عن ابن عباس: (ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، قال: تخزون به عدو الله وعدوكم.
16234- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن عثمان، عن مجاهد، عن ابن عباس، مثله.
16235- حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عباس: (ترهبون به عدو الله
__________
(1) الأثر: 16230 - " شعبة بن دينار الكوفي "، روى عن مكرمة، وأبي بردة بن أبي موسى الأشعري، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 2 \ 245، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 368.
(2) " الجوالق " (بضم الجيم، وفتح اللام أو كسرها) ، وعاء من الأوعية، هو الذي نسميه اليوم في مصر محرفا " الشوال ".(14/34)
وعدوكم) ، قال: تخزون به عدو الله وعدوكم. وكذا كان يقرؤها: (تُخْزُونَ) . (1)
16237- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن عثمان بن المغيرة، وخصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس: (ترهبون به) ، تخزون به. (2)
16238- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.
* * *
يقال منه: "أرهبت العدو، ورهَّبته، فأنا أرهبه وأرهِّبه، إرهابًا وترهيبًا، وهو الرَّهَب والرُّهْب"، ومنه قول طفيل الغنوي:
وَيْلُ أُمِّ حَيٍّ دَفَعْتُمْ فِي نُحُورِهِمُ بَنِي كِلابٍ غَدَاة الرُّعْبِ والرَّهَبِ (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هؤلاء "الآخرين"، من هم، وما هم؟
فقال بعضهم: هم بنو قريظة.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " وكذا كان يقرؤها: ترهبون "، والصواب الذي لا شك فيه هنا، هو " تخزون "، كما أثبتها، وقد ذكر قراءة ابن عباس هذه، ابن خالويه في القراءات الشاذة: 50 (وفي المطبوعة خطأ، كتب: يجرون به عدو الله، والصواب ما أثبت) ، وقال أبو حيان في تفسيره 4: 512: " وقرأ ابن عباس، وعكرمة، ومجاهد: " تخزون به "، مكان: ترهبون به = وذكرها الطبري على وجه التفسير لا على وجه القراءة، وهو الذي ينبغي، لأنه مخالف لسواد المصحف ".
قلت: وقد رأيت بعد أن الطبري ذكرها أيضًا على جهة القراءة، ولا يستقيم نصه إلا بما أثبت.
(2) سقط من الترقيم: 16236، سهوًا.
(3) ديوانه: 56، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 249 يمدح بها بني جعفر بن كلاب، من أبيات ثلاثة، مفردة.(14/35)
16239- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرين من دونهم) ، يعني: من بني قريظة.
16240- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرين من دونهم) ، قال: قريظة.
* * *
وقال آخرون: من فارس.
* ذكر من قال ذلك:
16241- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) ، هؤلاء أهل فارس.
* * *
وقال آخرون: هم كل عدو للمسلمين، غير الذي أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يشرِّد بهم من خلفهم. قالوا: وهم المنافقون.
* ذكر من قال ذلك:
16242- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: (فإما تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم) ، قال: أخفهم بهم، لما تصنع بهؤلاء. وقرأ: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) . (1)
16243- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم) ، قال: هؤلاء المنافقون، لا تعلمونهم لأنهم معكم، يقولون: لا إله إلا الله، ويغزون معكم.
* * *
__________
(1) الأثر: 16242 - هذا مكرر الأثر السالف رقم 16220، ولا أدري فيم جاء به هنا مفردًا، وأما الأثر الذي عناه، فهو الذي يليه، والظاهر أنه خطأ من الطبري نفسه في النقل. ولفظ هذا الخبر، يخالف لفظ الخبر السالف قليلا.(14/36)
وقال آخرون: هم قوم من الجنّ.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله أمر المؤمنين بإعداد الجهاد وآلة الحرب وما يتقوّون به على جهاد عدوه وعدوهم من المشركين، من السلاح والرمي وغير ذلك، ورباط الخيل =ولا وجه لأن يقال: عني بـ "القوة"، معنى دون معنى من معاني "القوة"، وقد عمَّ الله الأمر بها.
فإن قال قائل: فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بيَّن أن ذلك مرادٌ به الخصوص بقوله: "ألا إن القوة الرمي"؟ (1)
قيل له: إن الخبر، وإن كان قد جاء بذلك، فليس في الخبر ما يدلّ على أنه مرادٌ بها الرمي خاصة، دون سائر معاني القوة عليهم، فإن الرمي أحد معاني القوة، لأنه إنما قيل في الخبر: "ألا إن القوة الرمي"، ولم يقل: "دون غيرها"، ومن "القوة" أيضًا السيف والرمح والحربة، وكل ما كان معونة على قتال المشركين، كمعونة الرمي أو أبلغ من الرمي فيهم وفي النكاية منهم. هذا مع وهاء سند الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
وأما قوله: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) ، فإن قول من قال: عنى به الجن، أقربُ وأشبهُ بالصواب، لأنه جل ثناؤه قد أدخل بقوله: (ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم) ، الأمرَ بارتباط الخيل لإرهاب كل عدوٍّ لله وللمؤمنين يعلمونهم، ولا شك أن المؤمنين كانوا عالمين بعداوة قريظة وفارس لهم، لعلمهم بأنهم مشركون، وأنهم لهم حرب. ولا معنى لأن يقال: وهم يعلمونهم لهم
__________
(1) انظر الآثار السالفة رقم: 16224 - 16229.
(2) هذه مرة أخرى تختلف فيها كتابة المخطوطة، فههنا: " وهاء "، كما أثبتها، وكان في المطبوعة: " وهي "، وانظر ما كتبته ما سلف 9: 531، تعليق: 2.
ثم انظر ما قلته في تخريج الخبر السالف رقم: 16225، وما ذكرته من الطريق الصحيحة في رواية هذا الخبر.(14/37)
أعداءً: (وآخرين من دونهم لا تعلمونهم) ، ولكن معنى ذلك إن شاء الله: ترهبون بارتباطكم، أيها المؤمنون، الخيلَ عدوَّ الله وأعداءكم من بني آدم الذين قد علمتم عداوتهم لكم، لكفرهم بالله ورسوله، وترهبون بذلك جنسًا آخر من غير بني آدم، لا تعلمون أماكنهم وأحوالهم، الله يعلمهم دونكم، لأن بني آدم لا يرونهم. وقيل: إن صهيل الخيل يرهب الجن، وأن الجن لا تقرب دارًا فيها فرس. (1)
* * *
فإن قال قائل: فإن المؤمنين كانوا لا يعلمون ما عليه المنافقون، فما تنكر أن يكون عُنِي بذلك المنافقون؟
قيل: فإن المنافقين لم يكن تروعهم خيل المسلمين ولا سلاحهم، وإنما كان يَرُوعهم أن يظهر المسلمون على سرائرهم التي كانوا يستسرُّون من الكفر، وإنما أمر المؤمنون بإعداد القوة لإرهاب العدو، فأما من لم يرهبه ذلك، فغير داخل في معنى من أمر بإعداد ذلك له المؤمنون. وقيل: "لا تعلمونهم"، فاكتفي لـ "العلم"، بمنصوب واحد في هذا الموضع، لأنه أريد: لا تعرفونهم، كما قال الشاعر: (2)
__________
(1) ذكر ابن كثير في تفسيره خبرين، أحدهما رواه ابن أبي حاتم، عن زيد بن عبد الله بن عريب، عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: هم الجن، في هذه الآية ثم قال رواه الطبراني، وزاد: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا يخبل بيت فيه عتيق الخيل "، (انظر الإصابة: ترجمة عريب) ، ثم قال ابن كثير: " هذا الحديث منكر، لا يصح إسناده ولا متنه ". وانظر القرطبي 8: 38.
وهذا الذي قاله الطبري، رده العلماء من قوله، وحق لهم. وقد رجح ابن كثير وأبو حبان (4: 513) ، أن المعنى بذلك هم المنافقون، وهو القول الذي رده أبو جعفر فيما يلي، ورد أبي جعفر رد محكم.
فإن كان لنا أن نختار، فإني أختار أن يكون عني بذلك، من خفي على المؤمنين أمره من أهل الشرك، كنصارى الشأم وغيرهم، ممن لم ينظر المؤمنون عدواتهم بعد، وهي آتية سوف يرونها عيانًا بعد قليل. وفي الكلام فضل بحث ليس هذا مكانه، والآية عامة لا أدري كيف يخصصها أبو جعفر، بخبر لا حجة فيه.
(2) هو النمر بن تولب العكلي.(14/38)
فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا وَأَنَّا سَوْفَ يَلْقَاهُ كِلانا (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما أنفقتم، أيها المؤمنون، من نفقة في شراء آلة حرب من سلاح أو حراب أو كُرَاع أو غير ذلك من النفقات، (2) في جهاد أعداء الله من المشركين يخلفه الله عليكم في الدنيا، ويدَّخر لكم أجوركم على ذلك عنده، حتى يوفِّيكموها يوم القيامة (3) (وأنتم لا تظلمون) ، يقول: يفعل ذلك بكم ربكم، فلا يضيع أجوركم عليه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الاقتضاب: 303، المفصل الزمخشري: 88. وكان النمر بن تولب، نازع رجلا يقال له " وهب "، من قومه، في بئر تدعى " الدحول " (بالحاء المهملة) ، في أرض عكل، نميرة الماء، يقول فيها من هذه الأبيات: ولكنَّ الدَّحُولَ إذَا أتَاهَا ... عِجَافُ المَالِ تتْرُكُهُ سِمَانَا
وكان النمر سقاه منها، فلم يشكر له، وخان الأمانة ونازعه فيها فقال: يُريدُ خِيَانَتِي وَهْبٌ، وأَرْجُو ... مِنَ اللهِ البراءَةَ وَالأمَانَا
فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُنِي وَوَهْبًا ... وَيَعْلَمُ أَنْ سَيَلقَاهُ كِلانَا
وَإنَّ بَنِي رَبِيعَةَ بَعْدَ وَهْبٍ ... كَرَاعِي البَيْتِ يَحْفَظُهُ فخانَا
وكان البيت في المطبوعة والمخطوطة: فإن اللهَ يعلمني ... وأَنا سوف يلقاهُ كلانا
(2) انظر تفسير " النفقة " فيما سلف من فهارس اللغة (نفق) .
(3) انظر تفسير " وفي " فيما سلف 12: 224، تعليق: 3، والمراجع هناك.(14/39)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61)
16244- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (وما تنفقوا من شيء في سبيل الله يوف إليكم وأنتم لا تظلمون) ، أي لا يضيع لكم عند الله أجرُه في الآخرة، وعاجل خَلَفه في الدنيا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإما تخافنّ من قوم خيانة وغدرًا، فانبذ إليهم على سواء وآذنهم بالحرب = (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، وإن مالوا إلى مسالمتك ومتاركتك الحربَ، إما بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية، وإما بموادعة، ونحو ذلك من أسباب السلم والصلح (2) = (فاجنح لها) ، يقول: فمل إليها، وابذل لهم ما مالوا إليه من ذلك وسألوكه.
* * *
يقال منه: "جنح الرجل إلى كذا يجنح إليه جنوحًا"، وهي لتميم وقيس، فيما ذكر عنها، تقول: "يجنُح"، بضم النون، وآخرون: يقولون: "يَجْنِح" بكسر النون، وذلك إذا مال، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
جَوَانِحَ قَدْ أَيْقَنَّ أَنَّ قَبِيلَهُ إذَا مَا التَقَى الجمْعانِ أَوَّلُ غَالِبِ (3)
جوانح: موائل.
* * *
__________
(1) الأثر: 16244 - سيرة ابن هشام 2: 329، 330، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16218.
(2) انظر تفسير " السلم " فيما سلف 4: 251 - 255.
(3) ديوانه: 43، من شعره المشهور في عمرو بن الحارث الأعرج، حين هرب إلى الشأم، من النعمان بن المنذر في خبر المتجردة، وقبله، ذكر فيها غارة جيشه، والنسور التي تتبع الجيش: إذَا مَا غَزَوْا بِالجَيْشِ، حَلَّقَ فَوْقَهُمْ ... عَصَائِبُ طَيْرٍ تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ
يُصَاحبْنَهُمْ حَتَّى يُغِرْنَ مُغَارَهم ... مِنَ الضَّارِيَاتِ بالدِّمَاءِ الدَّوَارِبِ
تَرَاهُنَّ خَلْفَ القومِ خُزْرًا عُيُونهَا ... جُلُوسَ الشُّيُوخِ فِي ثِيَابِ المَرَانِبِ
جَوانِحَ قَدْ أيْقَنَّ. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا من جيد الشعر وخالصه.(14/40)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16245- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وإن جنحوا للسلم) قال: للصلح، ونسخها قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة: 5]
16246- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (وإن جنحوا للسلم) ، إلى الصلح= (فاجنح لها) ، قال: وكانت هذه قبل "براءة"، وكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يوادع القوم إلى أجل، فإما أن يسلموا، وإما أن يقاتلهم، ثم نسخ ذلك بعد في "براءة" فقال: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، وقال: (قاتلوا المشركين كافة) ، [سورة التوبة: 36] ، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمره بقتالهم حتى يقولوا "لا إله إلا الله" ويسلموا، وأن لا يقبلَ منهم إلا ذلك. وكلُّ عهد كان في هذه السورة وفي غيرها، وكل صلح يصالح به المسلمون المشركين يتوادعون به، فإن "براءة" جاءت بنسخ ذلك، فأمر بقتالهم على كل حال حتى يقولوا: "لا إله إلا الله".
16247- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، نسختها الآية التي في "براءة" قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) ، إلى قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) [سورة التوبة: 29](14/41)
16248- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، يقول: وإن أرادوا الصلح فأرده.
16249- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، أي: إن دعوك إلى السلم =إلى الإسلام= فصالحهم عليه. (1)
16250- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، قال: فصالحهم. قال: وهذا قد نسخه الجهاد.
* * *
قال أبو جعفر: فأما ما قاله قتادة ومن قال مثل قوله، من أن هذه الآية منسوخة، فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة ولا فطرة عقل.
وقد دللنا في غير موضع من كتابنا هذا وغيره على أن الناسخ لا يكون إلا ما نفى حكم المنسوخ من كل وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائنٍ ناسخا. (2)
وقول الله في براءة: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله. (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، لأن قوله: (وإن جنحوا للسلم) ، إنما عني به بنو قريظة، وكانوا يهودًا أهلَ كتاب، وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحربَ على أخذ الجزية منهم.
وأما قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. فليس في إحدى
__________
(1) الأثر: 16249 - سيرة ابن هشام 2: 330، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16244، وفي السيرة: " إلى السلم على الإسلام ".
(2) انظر مقالته في " النسخ " فيما سلف 11: 209، وما بعده وما قبله في فهارس الكتاب، وفي فهارس العربية والنحو وغيرها.(14/42)
الآيتين نفي حكم الأخرى، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه.
16251- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن جنحوا للسلم) ، قال: قريظة.
* * *
وأما قوله: (وتوكل على الله) ، يقول: فوِّض إلى الله، يا محمد، أمرك، واستكفِه، واثقًا به أنه يكفيك (1) كالذي:-
16252- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وتوكل على الله) ، إن الله كافيك. (2)
* * *
وقوله: (إنه هو السميع العليم) ، يعني بذلك: إن الله الذي تتوكل عليه، "سميع"، لما تقول أنت ومن تسالمه وتتاركه الحربَ من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه، وما يشترط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط (3) ="العليم"، بما يضمره كل فريق منكم للفريق الآخر من الوفاء بما عاقده عليه، ومن المضمر ذلك منكم في قلبه، والمنطوي على خلافه لصاحبه. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التوكل " فيما سلف ص: 15 تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 16252 - سيرة ابن هشام 2: 330، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16249.
(3) في المطبوعة: " ويشرط كل فريق. . . "، وفي المخطوطة: " ويشترط. . . "، والصواب بينهما ما أثبت.
(4) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) .(14/43)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإن يرد، يا محمد، هؤلاء الذين أمرتك بأن تنبذ إليهم على سواء إن خفت منهم خيانة، وبمسالمتهم إن جنحوا للسلم، خداعَك والمكرَ بك (1) = (فإن حسبك الله) ، يقول: فإن الله كافيكهم وكافيك خداعَهم إياك، (2) لأنه متكفل بإظهار دينك على الأديان، ومتضمِّنٌ أن يجعل كلمته العليا وكلمة أعدائه السفلى = (هو الذي أيدك بنصره) ، يقول: الله الذي قواك بنصره إياك على أعدائه (3) = (وبالمؤمنين) ، يعني بالأنصار.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16253- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، (وإن يريدوا أن يخدعوك) ، قال: قريظة.
16254- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله) ، هو من وراء ذلك. (4)
16255- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (هو الذي أيدك بنصره) ، قال: بالأنصار.
__________
(1) انظر تفسير " الخداع " فيما سلف 1: 273 - 277، 302 \ 9: 329.
(2) انظر تفسير " حسبك " فيما سلف 11: 137، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " أيد " فيما سلف 13: 377، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) الأثر: 16254 - سيرة ابن هشام، 2: 331، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16252.(14/44)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
القول في تأويل قوله: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) }
قال أبو جعفر: يريد جل ثناؤه بقوله: (وألف بين قلوبهم) ، وجمع بين قلوب المؤمنين من الأوس والخزرج، بعد التفرق والتشتت، على دينه الحق، فصيَّرهم به جميعًا بعد أن كانوا أشتاتًا، وإخوانًا بعد أن كانوا أعداء.
وقوله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) ، يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لو أنفقت، يا محمد، ما في الأرض جميعا من ذهب ووَرِق وعَرَض، ما جمعت أنت بين قلوبهم بحيْلك، (1) ولكن الله جمعها على الهدى فأتلفت واجتمعت، تقوية من الله لك وتأييدًا منه ومعونة على عدوك. يقول جل ثناؤه: والذي فعل ذلك وسبَّبه لك حتى صاروا لك أعوانًا وأنصارًا ويدًا واحدة على من بغاك سوءًا هو الذي إن رام عدوٌّ منك مرامًا يكفيك كيده وينصرك عليه، فثق به وامض لأمره، وتوكل عليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16256- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وألف بين قلوبهم) ، قال: هؤلاء الأنصار، ألف بين قلوبهم من بعد حرب، فيما كان بينهم. (2)
__________
(1) " الحيل " (بفتح فسكون) ، القوة، مثل " الحول "، يقال: " إنه لشديد الحيل "، وفي الحديث: " اللهم ذا الحيل الشديد ". وهو لا يزال يستعمل كذلك في عامية مصر.
(2) ما بين " من بعد حرب " و " فيما كان بينهم "، بياض في المخطوطة، فيه معقوفة بالحمرة، لا أدري أهو بياض تركه لسقط، أم هو سهو من الناسخ ملأه بالحمرة.(14/45)
16257- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن بشير بن ثابت، رجل من الأنصار: أنه قال في هذه الآية: (لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم) ، يعني: الأنصار (1)
16258- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وألف بين قلوبهم) ، على الهدى الذي بعثك به إليهم = (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم) ، بدينه الذي جمعهم عليه =يعني الأوس والخزرج. (2)
16259- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن إبراهيم الخوزيّ، عن الوليد بن أبي مغيث، عن مجاهد قال: إذا التقى المسلمان فتصافحا غُفِر لهما. قال قلت لمجاهد: بمصافحةٍ يغفر لهما؟ (3) فقال مجاهد: أما سمعته يقول: (لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم) ؟ فقال الوليد لمجاهد: أنت أعلم مني. (4)
16260- حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد، عن أبي عمرو قال، حدثني عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد، ولقيته وأخذ بيدي فقال: إذا تراءى المتحابَّان في الله، (5) فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه، تحاتّت
__________
(1) الأثر: 16257 - " بشير بن ثابت الأنصاري "، مولى النعمان " بن بشير "، ذكره ابن حبان في الثقات. روى عنه شعبة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 97، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 372.
(2) الأثر: 16258 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16254.
(3) في المخطوطة: " يغفر الله له " والذي في المطبوعة أجود.
(4) الأثر: 16259 - " إبراهيم الخوزي "، هو: " إبراهيم بن يزيد الخوزي الأموي "، مولى عمر بن عبد العزيز، ضعيف، مضى برقم: 7484، وكان في المطبوعة والمخطوطة: " إبراهيم الجزري "، وهو خطأ محض.
و" الوليد بن أبي مغيث "، نسب إلى جده، ولم أجده منسوبًا إليه في غير هذا المكان، وإنما هو: " الوليد بن عبد الله بن أبي مغيث "، مولى بني عبد الدار، ثقة. روى عن يوسف بن ماهك، ومحمد بن الحنفية. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 146، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 9.
(5) " تراءى الرجلان "، رأى أحدهما الآخر.(14/46)
خطاياهما كما يتحاتُّ ورق الشجر. (1) قال عبدة: فقلت له: إنّ هذا ليسير! قال: لا تقل ذلك، فإن الله يقول: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) ! قال عبدة: فعرفت أنه أفقه مني. (2)
16261- حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا فضيل بن غزوان قال، أتيت أبا إسحاق فسلمت عليه فقلت (3) أتعرفني؟ فقال فضيل: نعم! لولا الحياء منك لقبَّلتك = حدثني أبو الأحوص، عن عبد الله، قال: نزلت هذه الآية في المتحابين في الله: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) . (4)
16262- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون،
__________
(1) " تحات ورق الشجر "، تساقط من غصنه إذا ذبل، ثم انتثر.
(2) الأثر: 16260 - " عبد الكريم بن أبي عمير "، شيخ الطبري، سلف برقم: 7578، 11368، 12867.
و" الوليد "، هو " الوليد بن مسلم "، سلف مرارًا.
و" أبو عمرو "، هو الأوزاعي الإمام.
و" عبدة بن أبي لبابة الأسدي "، مضى برقم: 5859.
وانظر الخبر الآتي رقم: 16263.
(3) في المستدرك: " لقيت أبا إسحاق بعد ما ذهب بصره ".
(4) الأثر: 16261 - " أبو إسحاق " هو: السبيعي.
و" أبو الأحوص "، هو " عوف بن مالك بن نضلة "، تابعي ثقة، مضى مرارًا.
و" عبد الله "، هو " عبد الله بن مسعود ".
وهذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 329، من طريق يعلي بن عبيد، عن فضيل، وقال: " هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 27، 28، من طريق أخرى، وقال: " رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، غير جنادة بن مسلم، وهو ثقة ".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 199، وزاد نسبته إلى ابن المبارك، وابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في كتاب الإخوان، والنسائي، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.
وسيأتي من طريق أخرى رقم: 16264.(14/47)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64)
عن عمير بن إسحاق قال: كنا نُحدَّث أن أوّل ما يرفع من الناس =أو قال: عن الناس= الألفة. (1)
16263- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن الأوزاعي قال، حدثني عبدة بن أبى لبابة، عن مجاهد =ثم ذكر نحو حديث عبد الكريم، عن الوليد. (2)
16264- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، وابن نمير، وحفص بن غياث=، عن فضيل بن غزوان، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص قال: سمعت عبد الله يقول: (لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم) ، الآية، قال: هم المتحابون في الله. (3)
* * *
وقوله: (إنه عزيز حكيم) ، يقول: إن الله الذي ألف بين قلوب الأوس والخزرج بعد تشتت كلمتهما وتعاديهما، وجعلهم لك أنصارًا = (عزيز) ، لا يقهره شيء، ولا يردّ قضاءه رادٌّ، ولكنه ينفذ في خلقه حكمه. يقول: فعليه فتوكل، وبه فثق= (حكيم) ، في تدبير خلقه. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (يا أيها النبي حسبك الله) ، وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله. يقول لهم جل ثناؤه: ناهضوا
__________
(1) الأثر: 16262 - " عمير بن إسحاق "، مضى قريبًا برقم: 16148.
(2) الأثر: 16263 - انظر ما سلف رقم: 16260، والتعليق عليه.
(3) الأثر: 16264 - طريق أخرى للأثر السالف رقم: 16261.
(4) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) .(14/48)
عدوكم، فإن الله كافيكم أمرهم، ولا يهولنكم كثرة عددهم وقلة عددكم، فإن الله مؤيدكم بنصره. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16265- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان، عن شوذب أبي معاذ، عن الشعبي في قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال: حسبك الله وحسب من اتبعك من المؤمنين، الله. (2)
16266- حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم الأودي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا سفيان، عن شوذب، عن الشعبي في قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال: حسبك الله، وحسب من معك.
16267- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن سفيان، عن شوذب، عن عامر، بنحوه =إلا أنه قال: حسبك الله، وحسب من شهد معك.
16268- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله: (يا أيها النبي حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين) ، قال: يا أيها النبي حسبك الله، وحسب من اتبعك من المؤمنين، إنّ حسبك أنت وهم، الله.
* * *
فـ "منْ" قوله: (ومن اتبعك من المؤمنين) ، على هذا التأويل الذي
__________
(1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص: 44، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 16265 - " شوذب، أبو معاذ "، ويقال: " أبو عثمان "، مولى البراء بن عازب. قال سفيان، عن شوذب: " كنت تياسًا، فنهاني البراء بن عازب عن عسب الفحل " روى عنه سفيان الثوري، وشعبة. مترجم في الكبير 2 \ 2 \ 261، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 377، وكان في المطبوعة: "شوذب بن معاذ" وهو خطأ، صوابه في المخطوطة.
وسيأتي في الإسنادين التاليين.(14/49)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
ذكرناه عن الشعبي، نصب، عطفا على معنى "الكاف" في قوله: (حسبك الله) لا على لفظه، لأنها في محل خفض في الظاهر، وفي محل نصب في المعنى، لأن معنى الكلام: يكفيك الله، ويكفي من اتبعك من المؤمنين.
* * *
وقد قال بعض أهل العربية في "من"، أنها في موضع رفع على العطف على اسم "الله"، كأنه قال: حسبك الله ومتبعوك إلى جهاد العدو من المؤمنين، دون القاعدين عنك منهم. واستشهد على صحة قوله ذلك بقوله: (حرض المؤمنين على القتال) . (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) ، حُثَّ متبعيك ومصدِّقيك على ما جئتهم به من الحق، على قتال من أدبر وتولى عن الحق من المشركين (2) = (إن يكن منكم عشرون) رجلا= (صابرون) ، عند لقاء العدو، ويحتسبون أنفسهم ويثبتون
__________
(1) هو الفراء في معاني القرآن 1: 417.
(2) انظر تفسير " التحريض " فيما سلف 8: 579.(14/50)
لعدوهم = (يغلبوا مئتين) ، من عدوهم ويقهروهم = (وإن يكن منكم مئة) ، عند ذلك (يغلبوا) ، منهم (ألفا) = (بأنهم قوم لا يفقهون) ، يقول: من أجل أن المشركين قوم يقاتلون على غير رجاء ثواب، ولا لطلب أجر ولا احتساب، لأنهم لم يفقهوا أن الله مُوجبٌ لمن قاتل احتسابًا، وطلب موعود الله في الميعاد، ما وعد المجاهدين في سبيله، فهم لا يثبتون إذا صدقوا في اللقاء، خشية أن يُقتلوا فتذهب دنياهم. (1) ثم خفف تعالى ذكره عن المؤمنين، إذ علم ضعفهم فقال لهم: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، يعني: أن في الواحد منهم عن لقاء العشرة من عدوهم ضعفًا = (فإن يكن منكم مئة صابرة) ، عند لقائهم للثبات لهم = (يغلبوا مئتين) منهم = (وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) منهم = (بإذن الله) يعني: بتخلية الله إياهم لغلبتهم، ومعونته إياهم (2) = (والله مع الصابرين) ، لعدوهم وعدو الله، احتسابًا في صبره، وطلبًا لجزيل الثواب من ربه، بالعون منه له، والنصر عليه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16269- حدثنا محمد بن بشار قال. حدثنا محمد بن محبب قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن عطاء في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال: كان الواحد لعشرة، ثم جعل الواحد باثنين; لا ينبغي له أن يفرَّ منهما. (3)
16270- حدثنا سعيد بن يحيى قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج،
__________
(1) انظر تفسير " فقه " فيما سلف 13: 278، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الإذن " فيما سلف 11: 215، تعليق: 2. والمراجع هناك.
(3) الأثر: 16269 - " محمد بن محبب بن إسحاق القرشي "، ثقة، مضى برقم: 6320.(14/51)
عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: جعل على المسلمين على الرجل عشر من الكفار، فقال: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، فخفف ذلك عنهم، فجعل على الرجل رجلان. قال ابن عباس: فما أحب أن يعلم الناس تخفيف ذلك عنهم.
16271- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال: قال محمد بن إسحاق، حدثني عبد الله بن أبي نجيح المكي، عن عطاء بن أبي رباح، عن عبد الله بن عباس، قال: لما نزلت هذه الآية، ثقلت على المسلمين، وأعظموا أن يقاتل عشرون مئتين، ومئة ألفا، فخفف الله عنهم. فنسخها بالآية الأخرى فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) ، قال: وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم ينبغ لهم أن يفروا منهم. وإن كانوا دون ذلك، لم يجب عليهم أن يقاتلوا، وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم. (1)
16272- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال: كان لكل رجل من المسلمين عشرة لا ينبغي له أن يفرّ منهم. فكانوا كذلك حتى أنزل الله: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) ، فعبأ لكل رجل من المسلمين رجلين من المشركين، فنسخ الأمر الأول =وقال مرة أخرى في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، فأمر الله الرجل من المؤمنين أن يقاتل عشرة من الكفار، فشق ذلك على المؤمنين، ورحمهم الله، فقال: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله والله مع الصابرين) ،
__________
(1) الأثر: 16271 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو تابع الأثر التالي رقم: 16285، قدم الطبري وأخر في هذا الموضع، فاختلف ترتيب نقله من تفسير ابن إسحاق في سيرته.(14/52)
فأمر الله الرجلَ من المؤمنين أن يقاتل رجلين من الكفار.
16273- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال) ، إلى قوله: (بأنهم قوم لا يفقهون) ، وذلك أنه كان جعل على كل رجل من المسلمين عشرة من العدو يؤشِّبهم =يعني: يغريهم (1) = بذلك، ليوطنوا أنفسهم على الغزو، وأن الله ناصرهم على العدو، ولم يكن أمرًا عزمه الله عليهم ولا أوجبه، ولكن كان تحريضًا ووصية أمر الله بها نبيه، ثم خفف عنهم فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، فجعل على كل رجلٍ رجلين بعد ذلك، تخفيفا، ليعلم المؤمنون أن الله بهم رحيم، فتوكلوا على الله وصبروا وصدقوا، ولو كان عليهم واجبًا كفّروا إذنْ كلَّ رجل من المسلمين [نكل] عمن لقي من الكفار إذا كانوا أكثر منهم فلم يقاتلوهم. (2) فلا يغرنَّك قولُ رجالٍ! فإني قد سمعت رجالا يقولون: إنه لا يصلح لرجل من المسلمين أن يقاتل حتى يكون على كل رجل رجلان، وحتى يكون على كل رجلين أربعة، ثم بحساب ذلك، وزعموا أنهم يعصون الله إن قاتلوا حتى يبلغوا عدة ذلك، وإنه لا حرج عليهم أن لا يقاتلوا حتى يبلغوا عدَّةَ أن يكون على كل رجل رجلان، وعلى كل رجلين أربعة، وقد قال الله: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) [سورة البقرة: 207] ، وقال الله: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة النساء: 84] ، فهو التحريض الذي أنزل الله
__________
(1) " التأشيب " التحريش بين القوم بالشر، ومثله " التأشيب " بمعنى الإغراء بالعدو، انظر كما سلف في التعليق على رقم: 16059، ج 13: 531، تعليق رقم: 2، وكتب اللغة مقصرة في بيان معنى هذا الحرف من العربية.
(2) في المطبوعة: " ولو كان عليهم واجبًا الغزو إذا بعد كل رجل من المسلمين عمن لقي من الكفار "، جاء بكلام لا معنى له. وكان في المخطوطة: " ولو كان عليهم واجبًا كفروا إذا كل رجل من المسلمين عمن لقي من الكفار "، وصواب الجملة ما أثبت، ولكن الناسخ أسقط، والله أعلم، [نكل] التي وضعها بين القوسين. و " نكل عن عدوه "، نكص.(14/53)
عليهم في "الأنفال"، فلا تعجزنَّ، قاتلْ، قد سقطت بين ظَهْرَيْ أناس كما شاء الله أن يكونوا. (1)
16274- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحصين، عن زيد، عن عكرمة والحسن قالا قال في "سورة الأنفال" = (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون) ، ثم نسخ فقال: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، إلى قوله: (والله مع الصابرين) .
16275- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة، في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون) ، قال: واحد من المسلمين وعشرة من المشركين. ثم خفف عنهم فجعل عليهم أن لا يفرَّ رجل من رجلين.
16276- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون) ، إلى قوله: (وإن يكن منكم مئة) ، قال: هذا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يوم بدر، جعل على الرجل منهم عشرة من الكفار، (2) فضجوا من ذلك، فجعل على الرجل قتال رجلين، تخفيفا من الله.
16277- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إبراهيم بن يزيد، عن عمرو بن دينار، وأبي معبد عن ابن عباس قال: إنما أمر الرجل أن يصبر نفسه لعشرة، والعشرة لمئة إذ المسلمون قليل، فلما كثر
__________
(1) في المطبوعة: " فلا يعجزك قائل قد سقطت "، وهو بلا معنى، صوابه ما في المخطوطة كما أثبته، وهو فيها غير منقوط، وهذا صواب قراءة. وقوله: " فلا تعجزن "، يعني لا تقعد عن القتال عجزًا، ولكن قاتل، فإنك قد وقعت بين عدد من العدو، كما شاء الله أن يكون عددهم، قلوا أو كثروا.
(2) في المطبوعة في الموضعين حذف " قتال "، لأنها في المخطوطة: " فقال "، وصواب قراءتها ما أثبت.(14/54)
المسلمون، خفف الله عنهم. فأمر الرجل أن يصبر لرجلين، والعشرة للعشرين، والمئة للمئتين.
16278- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال: كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفروا، فإنهم إن لم يفروا غَلَبوا، ثم خفف الله عنهم وقال: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) ، فيقول: لا ينبغي أن يفر ألف من ألفين، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم.
16279- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين) ، جعل الله على كل رجل رجلين، بعد ما كان على كل رجل عشرة = وهذا الحديث عن ابن عباس.
16280- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن جرير بن حازم، عن الزبير بن الخرِّيت، عن عكرمة، عن ابن عباس: كان فُرِض على المؤمنين أن يقاتل الرجل منهم عشرة من المشركين. قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا) ، فشق ذلك عليهم، فأنزل الله التخفيف، فجعل على الرجل أن يقاتل الرجلين، قوله: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) ، فخفف الله عنهم، ونُقِصوا من الصبر بقدر ذلك. (1)
16281- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، يقول: يقاتلوا مئتين، فكانوا أضعف من ذلك، فنسخها الله عنهم. فخفف
__________
(1) في المطبوعة: " ونقصوا من الصبر "، زاد " واوًا "، وغير " النصر "، فأفسد الكلام. غفر الله له.(14/55)
فقال: (فإن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين) ، فجعل أول مرة الرجل لعشرة، ثم جعل الرجل لاثنين.
16282- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، قال: كان فرض عليهم إذا لقي عشرون مئتين أن لا يفروا، فإنهم إن لم يفرُّوا غَلَبوا. ثم خفف الله عنهم فقال: (إن يكن منكم مئة صابرة يغلبوا مئتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله) ، فيقول: لا ينبغي أن يفرّ ألف من ألفين، فإنهم إن صبروا لهم غلبوهم.
16283- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان هذا واجبًا أن لا يفر واحد من عشرة.
16284- وبه قال: أخبرنا الثوري، عن الليث، عن عطاء، مثل ذلك.
* * *
وأما قوله: (بأنهم قوم لا يفقهون) ، فقد بينّا تأويله. (1)
* * *
وكان ابن إسحاق يقول في ذلك ما:-
16285- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (بأنهم قوم لا يفقهون) ، أي لا يقاتلون على نِيَّةٍ ولا حقٍّ فيه، ولا معرفة بخير ولا شر. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الآية =أعني قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين) ، = وإن كان مخرجها مخرج الخبر، فإن معناها الأمر. يدلّ على
__________
(1) انظر ما سلف ص: 51.
(2) الأثر: 16285 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16257، وقد أخره أبو جعفر عن موضعه إلى هذا الموضع، وقدم عليه الخبر رقم: 16271، وهو تال له في تفسير السورة في سيرة ابن هشام.
كان في المطبوعة. " ولا معرفة لخير "، وأثبت ما في المخطوطة والسيرة.(14/56)
ذلك قوله: (الآن خفف الله عنكم) ، فلم يكن التخفيف إلا بعد التثقيل. ولو كان ثبوت العشرة منهم للمئة من عدوهم كان غير فرض عليهم قبل التخفيف، وكان ندبًا، لم يكن للتخفيف وجه، لأن التخفيف إنما هو ترخيص في ترك الواحد من المسلمين الثبوتَ للعشرة من العدو. وإذا لم يكن التشديد قد كان له متقدِّمًا، لم يكن للترخيص وجه، إذ كان المفهوم من الترخيص إنما هو بعد التشديد. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن حكم قوله: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) ، ناسخ لحكم قوله: (إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مئتين وإن يكن منكم مئة يغلبوا ألفا من الذين كفروا) . وقد بينا في كتابنا "البيان عن أصول الأحكام"، (1) أن كل خبرٍ من الله وعد فيه عباده على عملٍ ثوابًا وجزاء، وعلى تركه عقابًا وعذابًا، وإن لم يكن خارجًا ظاهرُه مخرج الأمر، ففي معنى الأمر= بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (وعلم أن فيكم ضعفًا) .
فقرأه بعض المدنيين وبعض البصريين: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضُعْفًا) ، بضم "الضاد" في جميع القرآن، وتنوين "الضعف" على المصدر من: "ضَعُف الرجل ضُعْفًا".
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) ، بفتح "الضاد"، على المصدر أيضًا من "ضَعُف".
* * *
وقرأه بعض المدنيين: (ضُعَفَاء) ، على تقدير "فعلاء"، جمع "ضعيف" على "ضعفاء"، كما يجمع "الشريك"، "شركاء"، و"الرحيم"، "رحماء".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك بالصواب، قراءة من قرأه: (وَعَلِمَ
__________
(1) في المطبوعة: " كتاب لطيف البيان "، وأثبت ما في المخطوطة، والكتاب هو هو.(14/57)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67)
أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) ، و (ضُعْفًا) ، بفتح الضاد أو ضمها، لأنهما القراءتان المعروفتان، وهما لغتان مشهورتان في كلام العرب فصيحتان بمعنى واحد، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيبٌ الصوابَ.
* * *
فأما قراءة من قرأ ذلك: "ضعفاء"، فإنها عن قراءة القرأة شاذة، وإن كان لها في الصحة مخرج، فلا أحبُّ لقارئٍ القراءةَ بها.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما كان لنبي أن يحتبس كافرًا قدر عليه وصار في يده من عبدة الأوثان للفداء أو للمنّ.
* * *
و"الأسر" في كلام العرب: الحبس، يقال منه: "مأسورٌ"، يراد به: محبوس. ومسموع منهم: "أبَاله الله أسْرًا". (1)
* * *
وإنما قال الله جل ثناؤه [ذلك] لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يعرِّفه أن قتل المشركين الذين أسرهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثم فادى بهم، كان أولى بالصواب من أخذ الفدية منهم وإطلاقهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأسير " فيما سلف 2: 311، 312.
وأما قوله: " أباله الله أسرا "، فإن " الأسر " " بضم الألف وسكون السين "، وهو احتباس البول، يقال: " أخذه الأسر ". وهذه الجملة كانت في المخطوطة: " أبي الله أسرًا "، وفي لسان العرب، كما في المطبوعة " أناله بالنون "، وفي أساس البلاغة: " وفي أدعيتهم: أبي لك الله أسرا ".
والذي في المخطوطة وأساس البلاغة يرجح صواب ما قرأته بالباء.(14/58)
وقوله: (حتى يثخن في الأرض) ، يقول: حتى يبالغ في قتل المشركين فيها، ويقهرهم غلبة وقسرًا.
* * *
يقال منه: "أثخن فلان في هذا الأمر"، إذا بالغ فيه. وحكي: "أثخنته معرفةً"، بمعنى: قتلته معرفةً.
* * *
= (تريدون) ، يقول للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تريدون) ، أيها المؤمنون، (عرض الدنيا) ، بأسركم المشركين =وهو ما عَرَض للمرء منها من مال ومتاع. (1) يقول: تريدون بأخذكم الفداء من المشركين متاع الدنيا وطُعْمها = (والله يريد الآخرة) ، يقول: والله يريد لكم زينة الآخرة وما أعدّ للمؤمنين وأهل ولايته في جناته، بقتلكم إياهم وإثخانكم في الأرض. يقول لهم: فاطلبوا ما يريد الله لكم وله اعملوا، (2) لا ما تدعوكم إليه أهواء أنفسكم من الرغبة في الدنيا وأسبابها = (والله عزيز) ، يقول: إن أنتم أردتم الآخرة، لم يغلبكم عدوّ لكم، لأن الله عزيز لا يقهر ولا يغلب = وأنه (حكيم) (3) في تدبيره أمرَ خلقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16286- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، وذلك يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كثروا واشتد سلطانهم، أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) ، [سورة محمد: 4] ، فجعل الله النبيَّ والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار، إن
__________
(1) انظر تفسير " العرض " فيما سلف 9: 71 \ 13: 211.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " واطلبوا "، والسياق للفاء لا للواو.
(3) انظر تفسير " عزيز " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) .(14/59)
شاءوا قتلوهم، وإن شاءوا استعبدوهم، وإن شاءوا فادَوْهم.
16287- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا) ، الآية، قال: أراد أصحاب نبيّ الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر الفداءَ، ففادوهم بأربعة آلاف أربعة آلاف. (1) ولعمري ما كان أثخن رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ! وكان أول قتال قاتله المشركين.
16288- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن حبيب بن أبي عمرة، عن مجاهد قال: "الإثخان"، القتل. (2)
16289- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شريك، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير في قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، قال: إذا أسرتموهم فلا تفادوهم حتى تثخنوا فيهم القتلَ.
16290- ... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) ، الآية، نزلت الرخصة بعدُ، إن شئت فمنّ، وإن شئت ففاد.
16291- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، يعني: الذين أسروا ببدر.
16292- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى) ، من عدوه = (حتى يثخن في الأرض) ، أي:
__________
(1) في المطبوعة حذف " أربعة آلاف "، الثانية، كأنها لم تعجبه، غفر الله له! ! .
(2) الأثر: 16288 - " حبيب بن أبي عمرة "، القصاب، أو: اللحام، " أبو عبد الله الحماني "، ثقة قليل الحديث سلف برقم: 10224.(14/60)
يثخن عدوه حتى ينفيهم من الأرض = (تريدون عرض الدنيا) ، أي: المتاع والفداء بأخذ الرجال = (والله يريد الآخرة) ، بقتلهم، لظهور الدين الذي يريدون إطفاءه، الذي به تدرك الآخرة. (1)
16293- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية قال، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما تقولون في هؤلاء الأسرى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، قومك وأهلك، استبقهم واستأنهم، (2) لعل الله أن يتوب عليهم. وقال عمر: يا رسول الله، كذبوك وأخرجوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم! وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله، انظر واديًا كثير الحطب فأدخلهم فيه، ثم أضرمه عليهم نارا. قال: فقال له العباس: قُطِعتْ رَحِمُك! قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يجبهم، ثم دخل. فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر. وقال ناس: يأخذ بقول عُمر. وقال ناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة. ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "إنّ الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله ليشدد قلوبَ رجال حتى تكون أشد من الحجارة! وإن مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، قال: (فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة إبراهيم: 36] ، ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى قال: (إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ) ، الآية [سورة المائدة: 118] .
__________
(1) الأثر: 16292 - سيرة ابن هشام 2: 332، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16271. وفي لفظ سيرة ابن هشام بعض الاختلاف، وأشك في قوله هناك: " أي: قتلهم لظهور الدين الذي يريد إظهاره، والذي تدرك به الآخرة ".
(2) كان في المطبوعة: " واستأن بهم "، وهو نص الخبر في مسند أحمد وغيره، من " الأناة ". يقال: " استأنى بالشيء "، ترفق به، وأخره وانتظر به، وتربص به. ونقل صاحب أساس البلاغة: " واستأنيت فلانًا ": لم أعجله، وأنشد لابن مقبل: وَقَوْمٌ بأَيدِيهِمْ رِمَاحُ رُدَينَةٍ ... شَوَارِعَ تَسْتأني دَمًا أو تسَلَّفُ
قال: " تنظره أو تتعجله ".
ورواية " واستأنهم " هذه هي الثابتة في تاريخ أبي جعفر، في رواية هذا الخبر.(14/61)
ومثلك يا عمر مثل نوح، قال: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [سورة نوح: 26] ، ومثلك كمثل موسى قال: (1) (رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الألِيمَ) [سورة يونس: 88] . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنتم اليوم عالة، (2) فلا ينفلتّنَ أحدٌ منهم إلا بفداء أو ضرب عنق. قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام! فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما رأيتُني في يوم أخوفَ أن تقع عليَّ الحجارة من السماء، مني في ذلك اليوم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إلا سهيل بن بيضاء. قال: فأنزل الله: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، إلى آخر الثلاث الآيات. (3)
16294- حدثنا ابن بشار قال، [حدثنا عمر بن يونس اليمامي] قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثنا أبو زميل قال، حدثني عبد الله بن عباس قال: لما أسروا الأسارى، يعني يوم بدر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين أبو بكر وعمر وعلي؟ قال: ما ترون في الأسارى؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العم والعشيرة، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ فقال: لا والذي لا إله إلا هو، ما أرى الذي رأى أبو بكر، يا نبي الله، ولكن أرى أن تمكننا منهم، فتمكن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان - نسيبٍ لعمر - فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها. فهويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهوَ ما قلت. (4) قال عمر: فلما كان من الغد، جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان، فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أيّ شيء تبكي أنتَ وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أبكي للذي عرَض لأصحابي من أخذهم الفداء، ولقد عُرِض علي عذابكم أدنى من هذه الشجرة! لشجرة قريبة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، إلى قوله: (حلالا طيبا) ، وأحلّ الله الغنيمة لهم. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " ومثلك يا بن أبي رواحة كمثل موسى "، زاد من عنده ما ليس في المخطوطة، وهو اجتراء قبيح بلا علم، فإن الحديث ليس فيه هذه الزيادة، والقول فيه موجه إلى عمر، ولم يذكر فيه عن ابن رواحة مثل، كما في جميع المراجع، بل في بعضها: " وإن مثلك يا عمر كمثل موسى ". فهذه زيادة لا تحل لأحد.
وإنما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب مثل لعبد الله بن رواحة، والله أعلم، لما في مشورته من النكال الشديد، فإنه لا يعذب بالنار إلا رب النار سبحانه وتعالى، وأعاذنا من عذاب جهنم بفضله ورحمته ومنه على كل عاص من عباده.
(2) " العالة ": الفقراء ذوي الفاقة، جمع " عائل ". و " عال الرجل "، احتاج وافتقر.
(3) الأثر: 16293 - إسناده منقطع، لأن "أبا عبيدة بن عبد الله بن مسعود"، لم يسمع من أبيه.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده من هذه الطريق نفسها رقم: 3632 - 3634،
ورواه الحاكم في المستدرك 3: 21، 22، من طريق جرير بن عبد الحميد، عن الأعمش، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "، وقال الذهبي: " صحيح، سمعه جرير بن عبد الحميد ".
ورواه الطبري في تاريخه 2: 259، بلفظه وإسناده.
ورواه الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 86، 87، وفصل الكلام فيه، وقال: " رواه أحمد. . . ورواه الطبراني، وفيه أبو عبيدة، ولم يسمع من أبيه، ولكن رجاله ثقات ".
ورواه الواحدي في أسباب النزول: 178.
وأما قوله: " إلا سهيل بن بيضاء "، فهو خطأ من بعض الرواة، وإنما هو " سهل بن بيضاء " أخو " سهيل " لأبيه وأمه، قال ابن سعد: " أسلم بمكة وكتم إسلامه، فأخرجته قريش معها في نفير بدر، فشهد بدرًا مع المشركين، فأسر يومئذ. فشهد له عبد الله بن مسعود أنه رآه يصلي بمكة، فخلى عنه. والذي روى القصة في سهيل بن بيضاء قد أخطأ، سهيل بن بيضاء أسلم قبل عبد الله بن مسعود، ولم يستخف بإسلامه، وهاجر إلى المدينة، وشهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلمًا، لا شك فيه. فخلط من روى ذلك الحديث ما بينه وبين أخيه، لأن سهيلا أشهر من أخيه سهل، والقصة في سهل "، ابن سعد 4 \ 1 \ 156.
(4) هذا الخبر عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه، كما سترى في التخريج.
(5) الأثر: 16294 - " أبو زميل "، هو " سماك بن الوليد الحنفي "، سلف أخيرًا برقم: 15734، 1600، وسائر رجال الإسناد قد مضوا جميعًا.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " حدثنا ابن بشار قال حدثنا عكرمة بن عمار "، وهو إسناد مختل، والظاهر أن الناسخ كتب " ابن بشار " في آخر الصفحة، كما هو في مخطوطتنا، ثم لما انتقل إلى أول الصفحة التالية كتب: " حدثنا عكرمة بن عمار "، فأسقط من الإسناد ما أثبته بين القوسين، واستظهرته من رواية صدر هذا الخبر نفسه في الترمذي، في كتاب التفسير، حيث رواه مختصرًا، قال: " حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عمر بن يونس اليمامي، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثنا أبو زميل، حدثني عبد الله بن عباس، حدثني عمر بن الخطاب ".
وقد مضى مختصرًا كما في الترمذي، برقم: 15734، وقد بينت تخريج الخبر هناك.
وهذا الخبر مطولا رواه أحمد في مسنده رقم: 208، 221، من طريق أبي نوح قراد، عن عكرمة بن عمار.
ورواه مسلم في صحيحه مطولا 12: 84 - 87، من طريق هناد بن السري، عن ابن المبارك، عن عكرمة، ثم من طريق زهير بن حرب، عن عمر بن يونس الحنفي (اليمامي) ، عن عكرمة.
ورواه أبو جعفر في التاريخ 2: 294، مطولا، من طريق أحمد بن منصور، عن عاصم بن علي، عن عكرمة.
ورواه الواحدي في أسباب النزول: 179.
وهو حديث صحيح، لا يعرف إلا من طريق عكرمة بن عمار، كما سلف.
وخرجه ابن كثير في تفسير 45: 18، 19.(14/62)
لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68)
القول في تأويل قوله: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لأهل بدر الذين غنموا وأخذوا من الأسرى الفداء: (لولا كتاب من الله سبق) ، يقول: لولا قضاء من الله سبق لكم أهل بدر في اللوح المحفوظ، بأن الله مُحِلٌّ لكم الغنيمة، وأن الله قضى فيما قضى أنه لا يُضِلّ قومًا بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون، (1) وأنه لا يعذب أحدًا شهد المشهد الذي شهدتموه ببدر مع رسولا الله صلى الله عليه وسلم ناصرًا دينَ الله = لنالكم من الله، بأخذكم الغنيمة والفداء، عذاب عظيم. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " كتاب" فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) .
(2) انظر تفسير " المس " فيما سلف 13: 333، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/64)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16295- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية، قال: إن الله كان مُطْعِم هذه الأمة الغنيمةَ، وإنهم أخذوا الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به. قال: فعاب الله ذلك عليهم، ثم أحله الله.
16296- حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل عن عوف، عن الحسن في قول الله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية، وذلك يوم بدر، وأخذ أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المغانمَ والأسارى قبل أن يؤمروا به، وكان الله تبارك وتعالى قد كتب في أم الكتاب: "المغانم والأسارى حلال لمحمد وأمته"، ولم يكن أحله لأمة قبلهم، وأخذوا المغانم وأسروا الأسارى قبل أن ينزل إليهم في ذلك، قال الله: (لولا كتاب من الله سبق) ، يعني في الكتاب الأول. أن المغانم والأسارى حلال لكم = (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .
16297- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لولا كتاب من الله سبق) الآية، وكانت الغنائم قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم في الأمم، إذا أصابوا مغنمًا جعلوه للقربان، وحرم الله عليهم أن يأكلوا منه قليلا أو كثيرًا. حُرِّم ذلك على كل نبي وعلى أمته، فكانوا لا يأكلون منه، ولا يغلُّون منه، ولا يأخذون منه قليلا ولا كثيرًا إلا عذبهم الله عليه. وكان الله حرمه عليهم تحريمًا شديدًا، فلم يحله لنبيّ إلا لمحمد صلى الله عليه وسلم. وكان قد سبق من الله في قضائه أن المغنم له ولأمته حلال، فذلك قوله يوم بدر، في أخذ الفداء من الأسارى: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .
16298- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عروة، عن(14/65)
الحسن: (لولا كتاب من الله سبق) قال: إن الله كان مُعطِيَ هذه الأمة الغنيمةَ، وفعلوا الذي فعلوا قبل أن تُحَلّ الغنيمة.
16299- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، قال الأعمش في قوله: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: سبق من الله أن أحل لهم الغنيمة.
16300- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن بشير بن ميمون قال: سمعت سعيدًا يحدث، عن أبي هريرة، قال: قرأ هذه الآية: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ، قال: يعني: لولا أنه سبق في علمي أني سأحلُّ الغنائم، لمسكم فيما أخذتم من الأسارى عذاب عظيم. (1)
16301- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، وأبو معاوية بنحوه، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أحلت الغنائم لأحدٍ سُودِ الرؤوس من قبلكم، كانت تنزل نارٌ من السماء وتأكلها، حتى كان يوم بدر، فوقع الناس في الغنائم، فأنزل الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم) ، حتى بلغ، (حلالا طيبًا) .
16302- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه = قال: فلما كان يوم بدر أسرَع الناس في الغنائم. (2)
__________
(1) الأثر: 16300 - " بشير بن ميمون الخراساني الواسطي "، أبو صيفي، ضعيف، منكر الحديث، متهم بالوضع. وقال أبو حاتم: " ضعيف الحديث، وعامة روايته مناكير ". وأجمعوا على طرح حديثه، مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 105، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 379، وميزان الاعتدال 1: 153، 154.
و" سعيد " هو " سعيد بن أبي سعيد المقبري ".
(2) الأثران: 16301، 16302 - حديث صحيح الإسناد، إلا ما كان من أمر " جابر بن نوح الحماني "، ليس حديثه بشيء، ضعيف، قال يحيى بن معين: " جابر بن نوح، إمام مسجد بني حمان، ولم يكن بثقة، كان ضعيفًا ". مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 210، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 500، وميزان الاعتدال 1: 176، وأبو كريب رواه عن جابر، وعن أبي معاوية، فحديث أبي معاوية هو الصحيح.
وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير من طريق عبد بن حميد، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن الأعمش، وقال: " هذا حديث حسن صحيح ".
ورواه البيهقي في السنن 6: 290 من طريق محاضر، عن الأعمش، ومن طريق أبي معاوية، عن الأعمش.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 203، وزاد نسبته إلى النسائي، وابن أبي شيبة في المصنف، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه.(14/66)
16303- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: أسر المسلمون من المشركين سبعين وقتلوا سبعين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اختاروا أن تأخذوا منهم الفداء فتقوَّوْا به على عدوكم، وإن قبلتموه قتل منكم سبعون = أو تقتلوهم! فقالوا: بل نأخذ الفدية منهم، وقُتل منهم سبعون، قال عبيدة، وطلبوا الخيرتين كلتيهما. (1)
16304- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن عبيدة قال: كان فداء أسارى بدر مئة أوقية، و"الأوقية" أربعون درهمًا، ومن الدنانير ستة دنانير. (2)
16305- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة: أنه قال في أسارى بدر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئتم قتلتموهم، وإن شئتم فاديتموهم واستشْهِد منكم بعِدَّتهم! فقالوا: بلى، (3) نأخذ الفداء فنستمتع به، ويستشهد منا بعِدَّتهم.
__________
(1) " الخيرة " (بكسر الخاء وسكون الياء، أو فتح الياء) ، هو ما يختار ويصطفى من الخير.
(2) انظر تقدير " الأوقية " فيما سلف في الأثر رقم: 16058.
(3) انظر مجيء " بلى " في غير جحد، فيما سلف في الأثر رقم: 781 ج 1: 554 \ ثم 2: 280، 510 \ 10: 98، تعليق: 4 \ ثم 10: 253، تعليق: 3 \ ثم 12: 174، تعليق: 3.(14/67)
16306- حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا همام بن يحيى قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي وائل، عن عبد الله بن مسعود قال: أمر عمر رحمه الله عنه بقتل الأسارى، فأنزل الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذت عذاب عظيم) . (1)
16307- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: كان المغنم محرَّمًا على كل نبي وأمته، وكانوا إذا غنموا يجعلون المغنم لله قربانًا تأكله النار. وكان سبق في قضاء الله وعلمه أن يحلّ المغنم لهذه الأمة، يأكلون في بطونهم.
16308- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء في قول الله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم) ، قال: كان في علم الله أن تحلّ لهم الغنائم، فقال: (لولا كتاب من الله سبق) ، بأنه أحل لكم الغنائم = (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لولا كتاب من الله سبق لأهل بدر، أن لا يعذبهم، لمسهم عذاب عظيم.
* ذكر من قال ذلك:
16309- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن شريك، عن سالم، عن سعيد: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: لأهل بدر، من السعادة.
16310- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن
__________
(1) الأثر: 16306 - " همام بن يحيى بن دينار الأزدي "، ثقة، مضى برقم: 10190، 11725.
وهذا خبر صحيح إسناده.(14/68)
أبي نجيح، عن مجاهد: (لولا كتاب من الله سبق) ، لأهل بدر مَشْهدَهم.
16311- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: سبق من الله خيرٌ لأهل بدر.
16312- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ، كان سبق لهم من الله خير، وأحلّ لهم الغنائم.
16313- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن: (لولا كتاب من الله سبق) ، قال: (سبق) ، أن لا يعذب أحدًا من أهل بدر.
16314- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لولا كتاب من الله سبق) ، لأهل بدر، ومشهدَهم إياه.
16315- حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) ، لمسكم فيما أخذتم من الغنائم يوم بدر قبل أن أحلها لكم. فقال: سبق من الله العفو عنهم والرحمة لهم، سبق أنه لا يعذب المؤمنين، لأنه لا يعذب رَسوله ومن آمن به وهاجر معه ونصره.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: (لولا كتاب من الله سبق) ، أن لا يؤاخذ أحدًا بفعل أتاه على جهالة = (لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم) .
* ذكر من قال ذلك:
16316- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن(14/69)
ابن جريج، عن مجاهد قوله: (لولا كتاب من الله سبق) ، لأهل بدر ومشهدَهم إياه، قال: كتاب سبق لقوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ) [سورة التوبة: 115] ، سبق ذلك، وسبق أن لا يؤاخذ قومًا فعلوا شيئًا بجهالة = (لمسكم فيما أخذتم) ، قال ابن جريج، قال ابن عباس: (فيما أخذتم) ، مما أسرتم. ثم قال بعد: (فكلوا مما غنمتم) .
16317- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: عاتبه في الأسارى وأخذ الغنائم، ولم يكن أحد قبله من الأنبياء يأكل مغنمًا من عدوٍّ له. (1)
16318- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد قال، حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نُصِرت بالرعب، وجُعِلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا، وأعطيت جوامع الكلم، وأحلّت لي المغانم، ولم تحلّ لنبيٍّ كان قبلي، وأعطيت الشفاعة، خمسٌ لم يُؤْتَهُنَّ نبيٌّ كان قبلي = قال محمد (2) فقال: (ما كان لنبي) ، أي: قبلك = (أن يكون له أسرى) إلى قوله: (لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم) ، أي: من الأسارى والمغانم = (عذاب عظيم) ، أي: لولا أنه سبق مني أن لا أعذب إلا بعد النهي، ولم أكن نهيتكم، لعذبتكم فيما صنعتم. ثم أحلها له ولهم رحمةً ونعمةً وعائدةً من الرحمن الرحيم. (3)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، ما قد بيناه قبلُ. وذلك أن قوله: (لولا كتاب من الله سبق) ، خبر عامٌّ غير محصور على معنى دون
__________
(1) الأثر: 16317 - سيرة ابن هشام 2: 331، وهو سابق الأثر السالف رقم: 16292 في ترتيب السيرة.
(2) قوله: " محمد "، يعني محمد بن إسحاق، لا " محمد بن علي ".
(3) الأثر: 16318 - سيرة ابن هشام 2: 332، وصدره تابع الأثر السالف رقم: 16317، وسابق للأثر رقم: 16292، ثم روى صدرًا من الأثر رقم: 16292، وأتبعه بما يليه في السيرة.(14/70)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
معنى، وكل هذه المعاني التي ذكرتها عمن ذكرت، مما قد سبق في كتاب الله أنه لا يؤاخذ بشيء منها هذه الأمة، وذلك: ما عملوا من عمل بجهالة، وإحلال الغنيمة، والمغفرة لأهل بدر، وكل ذلك مما كتب لهم. وإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يخصّ من ذلك معنى دون معنى، وقد عم الله الخبر بكل ذلك، بغير دلالة توجب صحة القول بخصوصه.
16319- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لم يكن من المؤمنين أحد ممن نُصِر إلا أحبَّ الغنائم، إلا عمر بن الخطاب، جعل لا يلقى أسيرًا إلا ضرب عنقه، وقال: يا رسول الله، ما لنا وللغنائم، نحن قوم نجاهد في دين الله حتى يُعبد الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو عذبنا في هذا الأمر يا عمر ما نجا غيرك! قال الله: لا تعودوا تستحلون قبل أن أحلّ لكم.
16320- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: لما نزلت: (لولا كتاب من الله سبق) ، الآية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لو نزل عذابٌ من السماء لم ينج منه إلا سعد بن معاذ، لقوله: يا نبي الله، كان الإثخان في القتل أحبّ إلي من استبقاء الرجال. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين من أهل بدر: (فكلوا) ، أيها المؤمنون = (مما غنمتم) ، من أموال المشركين = (حلالا) ، بإحلاله لكم = (طيبا واتقوا الله) ، يقول: وخافوا الله أن تعودوا، أن تفعلوا في دينكم شيئا بعد هذه
__________
(1) الأثر: 16320 - لم أجد هذا الخبر في سيرة ابن هشام، فيما أقدر.(14/71)
من قبل أن يُعْهَد فيه إليكم، كما فعلتم في أخذ الفداء وأكل الغنيمة، وأخذتموهما من قبل أن يحلا لكم = (إن الله غفور رحيم) . (1)
* * *
وهذا من المؤخر الذي معناه التقديم، وتأويل الكلام: (فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا) ، (إن الله غفور رحيم) ، (واتقوا الله) .
* * *
ويعني بقوله: (إن الله غفور) ، لذنوب أهل الإيمان من عباده = (رحيم) ، بهم، أن يعاقبهم بعد توبتهم منها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ الآية فيما سلف من فهارس اللغة.(14/72)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا أيها النبي، قل لمن في يديك وفي يدي أصحابك من أسرى المشركين الذين أخذ منهم من الفداء ما أخذ: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرا) ، يقول: إن يعلم الله في قلوبكم إسلامًا = (يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) ، من الفداء = (ويغفر لكم) ، يقول: ويصفح لكم عن عقوبة جُرْمكم الذي اجترمتموه بقتالكم نبي الله وأصحابه وكفركم بالله = (والله غفور) ، لذنوب عباده إذا تابوا = (رحيم) ، بهم، أن يعاقبهم عليها بعد التوبة. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.(14/72)
وذكر أن العباس بن عبد المطلب كان يقول: فيّ نزلت هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك:
16321- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال العباس: فيّ نزلت: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامي، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذ مني فأبى، فأبدلني الله بها عشرين عبدًا، كلهم تاجر، مالي في يديه. (1)
* * *
وقد:-
16322- حدثنا بهذا الحديث ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد، حدثني الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، عن جابر بن عبد الله بن رئاب قال: كان العباس بن عبد المطلب يقول: فيّ والله نزلت، حين ذكرتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم إسلامي = ثم ذكر نحو حديث ابن وكيع. (2)
16323- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية، قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مالُ البحرين ثمانون ألفًا، وقد توضأ لصلاة الظهر،
__________
(1) الأثر: 16321 - في المطبوعة: " أبي إسحاق "، والصواب من المخطوطة، وانظر التعليق التالي.
(2) الأثر: 16322 - هذا الخبر والذي قبله، ذكرهما الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 8، مطولا، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط والكبير باختصار، ورجال الأوسط رجال الصحيح، غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع ".
وظاهر أنه يعني إسنادًا غير هذين الإسنادين، فإن الأول لم يصرح فيه السماع، والثاني فيه " الكلبي ".
وذكره الواحدي في أسباب النزول، عن الكلبي، مطولا: 180، 181.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: " جابر بن عبد الله بن رباب "، وهو خطأ، صوابه ما أثبت.(14/73)
فما أعطى يومئذ شاكيًا ولا حرم سائلا وما صلى يومئذ حتى فرّقه، وأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي، فأخذ. قال: وكان العباس يقول: هذا خير مما أخذ منا، وأرجو المغفرة.
16324- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية، وكان العباس أسر يوم بدر، فافتدى نفسه بأربعين أوقية من ذهب، فقال العباس حين نزلت هذه الآية: لقد أعطاني الله خَصلتين، ما أحب أن لي بهما الدنيا: أني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية، فآتاني أربعين عبدًا، وأنا أرجو المغفرة التي وعدنا الله.
16325- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) إلى قوله: (والله غفور رحيم) ، يعني بذلك: من أسر يوم بدر. يقول: إن عملتم بطاعتي ونصحتم لرسولي، آتيتكم خيرًا مما أخذ منكم، وغفرت لكم.
16326- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني. عن ابن عباس: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) ، عباس وأصحابه، قال: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: آمنا بما جئت به، ونشهد إنك لرسول الله، لننصحن لك على قومنا. فنزل: (إن يعلم الله في قلوبكم خيرًا يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) ، إيمانًا وتصديقًا، يخلف لكم خيرًا مما أصيب منكم = (ويغفر لكم) ، الشرك الذي كنتم عليه. قال: فكان العباس يقول: ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا، وأن لي الدنيا، لقد قال: (يؤتكم خيرًا مما أخذ منكم) فقد أعطاني خيرًا مما أخذ مني مئة ضعف، وقال: (ويغفر لكم) ، وأرجو أن يكون قد غُفِر لي.(14/74)
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
16327- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى) الآية، يعني العباسَ وأصحابه، أسروا يوم بدر. يقول الله: إن عملتم بطاعتي ونصحتم لي ولرسولي، أعطيتكم خيرًا مما أخذ منكم وغفرت لكم. وكان العباس بن عبد المطلب يقول: لقد أعطانا الله خصلتين، ما شيء هو أفضل منهما: عشرين عبدًا. وأما الثانية: فنحن في موعود الصادق ننتظر المغفرة من الله سبحانه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن يرد هؤلاء الأسارى الذين في أيديكم = (خيانتك) ، أي الغدر بك والمكرَ والخداع، بإظهارهم لك بالقول خلافَ ما في نفوسهم (1) = (فقد خانوا الله من قبل) ، يقول: فقد خالفوا أمر الله من قبل وقعة بدر، وأمكن منهم ببدر المؤمنين (2) = (والله عليم) ، بما يقولون بألسنتهم ويضمرونه في نفوسهم = (حكيم) ، في تدبيرهم وتدبير أمور خلقه سواهم. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16328- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن
__________
(1) انظر تفسير " الخيانة " فيما سلف ص: 25، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " أمكن " فيما سلف 11: 263 \ 12: 315.
(3) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) ، (حكم) .(14/75)
ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس: (وإن يريدوا خيانتك) ، يعني: العباس وأصحابه في قولهم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحن لك على قومنا"، يقول: إن كان قولهم خيانة = (فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ، يقول: قد كفروا وقاتلوك، فأمكنك الله منهم.
16329- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإن يريدوا خيانتك) الآية، قال: ذكر لنا أن رجلا كتب لنبي الله صلى الله عليه وسلم، ثم عمد فنافق، فلحق بالمشركين بمكة، ثم قال: "ما كان محمد يكتب إلا ما شئت! " فلما سمع ذلك رجل من الأنصار، نذر لئن أمكنه الله منه ليضربنه بالسيف. فلما كان يوم الفتح، أمَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا عبد الله بن سعد بن أبي سرح، ومِقْيَس بن صُبابة، (1) وابن خطل، وامرأة كانت تدعو على النبيّ صلى الله عليه وسلم كل صباح. فجاء عثمان بابن أبي سرح، وكان رضيعه = أو: أخاه من الرضاعة = فقال: يا رسول الله، هذا فلان أقبل تائبًا نادمًا! فأعرض نبي الله صلى الله عليه وسلم. فلما سمع به الأنصاريّ أقبل متقلدًا سيفه، فأطاف به، (2) وجعل ينظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجاء أن يومئ إليه. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدّم يده فبايعه، فقال: أما والله لقد تلوَّمتك فيه لتوفي نذرك! (3) فقال: يا نبيّ الله إنيّ هِبْتك، فلولا أوْمضت إليّ! (4) فقال: إنه لا ينبغي لنبيٍّ أن يومض. (5)
16330- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
__________
(1) في المطبوعة: " بن ضبابة "، وهو خطأ محض.
(2) يقال: " طاف بالقوم، وأطاف بهم "، إذا استدار، وجاء من نواحيهم وهو يحوم حولهم.
(3) " تلوم في الأمر " و " تلوم به "، انتظر وتلبث وتأنى، وتعدية مثل هذا الفعل من صريح العربية.
(4) " أومض إليه "، أشار إشارة خفية، من " إيماض البرق "، إذا لمع لمعًا خفيًا، ثم يخفى.
(5) الأثر: 16329 - انظر مسند أحمد 3: 151، حديث أنس، بغير هذا اللفظ.(14/76)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن يريدوا خيانتك فقد خانوا الله من قبل فأمكن منهم) ، يقول: قد كفروا بالله ونقضوا عهده، فأمكن منهم ببدر.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن الذين صدقوا الله ورسوله = "وهاجروا"، يعني: هجروا قومهم وعشيرتهم ودورهم، يعني: تركوهم وخرجوا عنهم، وهجرهم قومهم وعشيرتهم (1) = (وجاهدوا في سبيل الله) ، يقول: بالغوا في إتعاب نفوسهم وإنصَابها في حرب أعداء الله من الكفار (2) = (في سبيل الله) ، يقول: في دين الله الذي جعله طريقا إلى رحمته والنجاة من عذابه (3) = (والذين آووا ونصروا) ، يقول: والذين آووا رسول الله والمهاجرين معه، يعني: أنهم جعلوا لهم مأوًى يأوون إليه، وهو المثوى والمسكن، يقول: أسكنوهم، وجعلوا لهم من منازلهم مساكنَ إذ أخرجهم قومهم من منازلهم (4) = (ونصروا) ، يقول: ونصروهم على أعدائهم وأعداء الله من المشركين = (أولئك بعضهم أولياء بعض) ، يقول: هاتان الفرقتان، يعني المهاجرين والأنصار، بعضهم أنصار بعض، وأعوان على من سواهم من
__________
(1) انظر تفسير " المهاجرة " فيما سلف 4: 317، 318 \ 7: 490 \ 9: 100، 122.
(2) انظر تفسير " المجاهدة " فيما سلف 4: 318 \ 10: 292، 423.
(3) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(4) انظر تفسير " آوى "، و " المأوى " فيما سلف 13: 477، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/77)
المشركين، وأيديهم واحدة على من كفر بالله، وبعضهم إخوان لبعض دون أقربائهم الكفار. (1)
* * *
وقد قيل: إنما عنى بذلك أن بعضهم أولى بميراث بعض، وأن الله ورَّث بعضهم من بعض بالهجرة والنصرة، دون القرابة والأرحام، وأن الله نسخ ذلك بعدُ بقوله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) ، [سورة الأنفال: 75 \ وسورة الأحزاب: 6] .
* ذكر من قال ذلك:
16331- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) ، يعني: في الميراث، جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون ذوي الأرحام، قال الله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) ، يقول: ما لكم من ميراثهم من شيء، وكانوا يعملون بذلك حتى أنزل الله هذه الآية: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [سورة الأنفال: 75 \ وسورة الأحزاب: 6] ، في الميراث، فنسخت التي قلبها، وصار الميراث لذوي الأرحام.
16332- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) ، يقول: لا هجرة بعد الفتح، إنما هو الشهادة بعد ذلك = (والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض) ، إلى قوله: (حتى يهاجروا) . وذلك أن المؤمنين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم على ثلاث منازل: منهم المؤمن المهاجر المباين لقومه في الهجرة، خرج إلى
__________
(1) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .(14/78)
قوم مؤمنين في ديارهم وعَقارهم وأموالهم = و (آووا ونصروا) ، (1) وأعلنوا ما أعلن أهل الهجرة، وشهروا السيوف على من كذّب وجحد، فهذان مؤمنان، جعل الله بعضهم أولياء بعض، فكانوا يتوارثون بينهم، إذا توفي المؤمن المهاجر ورثه الأنصاري بالولاية في الدين. وكان الذي آمن ولم يهاجر لا يرث من أجل أنه لم يهاجر ولم ينصر. فبرَّأ الله المؤمنين المهاجرين من ميراثهم، وهي الولاية التي قال الله: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) . وكان حقا على المؤمنين الذين آووا ونصروا إذا استنصروهم في الدين أن ينصروهم إن قاتلوا، إلا أن يستنصروا على قوم بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم ميثاق، فلا نصر لهم عليهم، إلا على العدوِّ الذين لا ميثاق لهم. ثم أنزل الله بعد ذلك أن ألحقْ كل ذي رحم برحمه من المؤمنين الذين هاجروا والذين آمنوا ولم يهاجروا. فجعل لكل إنسان من المؤمنين نصيبًا مفروضًا بقوله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة الأنفال: 75] ، وبقوله: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [سورة التوبة: 71] .
16333- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الثلاث الآيات خواتيم الأنفال، فيهن ذكر ما كان والىَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مهاجري المسلمين وبين الأنصار في الميراث. ثم نسخ ذلك آخرها: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
16334- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا) ، إلى قوله: (بما تعملون بصير) ، قال: بلغنا أنها كانت في الميراث، لا يتوارث المؤمنون الذين هاجروا، والمؤمنون الذين لم يهاجروا. قال: ثم نزل بعد: (وَأُولُو
__________
(1) في المطبوعة: " وفي قوله: آووا ونصروا ". زاد ما ليس في المطبوعة.(14/79)
الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فتوارثوا ولم يهاجروا = قال ابن جريج، قال مجاهد: خواتيم "الأنفال" الثلاث الآيات، فيهن ذكر ما كان واليَ رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين المسلمين وبين الأنصار في الميراث، ثم نسخ ذلك آخرها: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) .
16335- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ، إلى قوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، قال: لبث المسلمون زمانا يتوارثون بالهجرة، والأعرابي المسلم لا يرث من المهاجر شيئًا، فنسخ ذلك بعد ذلك، فألحق الله (1) (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا) ، [سورة الأحزاب: 6] ، أي: من أهل الشرك، فأجيزت الوصية، (2) ولا ميراث لهم، وصارت المواريث بالملل، والمسلمون يرث بعضهم بعضًا من المهاجرين والمؤمنين، ولا يرث أهل ملتين.
16336- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسن، عن يزيد، عن عكرمة والحسن قالا (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله) ، إلى قوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، كان الأعرابي لا يرث المهاجر، ولا يرثه المهاجر، فنسخها فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) .
16337- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
__________
(1) في المطبوعة: " قول الله "، مكان " فألحق الله "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(2) في المخطوطة: " حرت الوصية "، هكذا غير منقوط، وكأن الصواب ما في المطبوعة.
ولو قرئت: " خيرت الوصية " (بالبناء للمجهول) ، لكان وجها.(14/80)
حدثنا أسباط، عن السدي: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعهم أولياء بعض) ، في الميراث = (والذين آمنوا ولم يهاجروا) ، وهؤلاء الأعراب = (ما لكم من ولايتهم من شيء) ، في الميراث = (وإن استنصروكم في الدين) يقول: بأنهم مسلمون = (فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، في الميراث = (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم) ، ثم نسختها الفرائض والمواريث، = "وأولوا الأرحام". الذين توارثوا على الهجرة = (بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ، فتوارث الأعرابُ والمهاجرون. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنْ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره: (والذين آمنوا) . الذين صدقوا بالله ورسوله = (ولم يهاجروا) . قومهم الكفار، ولم يفارقوا دارَ الكفر إلى دار الإسلام = (ما لكم) ، أيها المؤمنون بالله ورسوله. المهاجرون قومَهم المشركين وأرضَ الحرب (2) = (من ولايتهم) ، يعني: من نصرتهم وميراثهم.
* * *
__________
(1) كانت هذه الجملة في المطبوعة: " فأولئك منكم، والذين توارثوا على الهجرة في كتاب الله، ثم نسختها الفرائض والمواريث، فتوارث الأعراب والمهاجرون " قدم وأخر فيما كان في المخطوطة، وهو: " فأولئك منكم، ثم نسختها الفرائض والمواريث " الذي توارثوا على الهجرة في كتاب الله، فتوارث الأعراب والمهاجرون. واستظهرت الصواب.
(2) انظر تفسير " الهجرة " فيما سلف ص 77، تعليق:، والمراجع هناك.(14/81)
وقد ذكرت قول بعض من قال: "معنى الولاية، ههنا الميراث"، وسأذكر إن شاء الله من حضرني ذكره بعدُ.
* * *
= (من شيء حتى يهاجروا) ، قومَهم ودورَهم من دار الحرب إلى دار الإسلام = (وإن استنصروكم في الدين) ، يقول: إن استنصركم هؤلاء الذين آمنوا ولم يهاجروا = (في الدين) ، يعني: بأنهم من أهل دينكم على أعدائكم وأعدائهم من المشركين، "فعليكم"، أيها المؤمنون من المهاجرين والأنصار، (النصر) = (إلا) أن يستنصروكم = (على قوم بينكم وبينهم ميثاق) ، يعني: عهد قد وثَّق به بعضكم على بعض أن لا يحاربه (1) = (والله بما تعملون بصير) ، يقول: والله بما تعملون فيما أمركم ونهاكم من ولاية بعضكم بعضًا، أيها المهاجرون والأنصار، وترك ولاية من آمن ولم يهاجر ونصرتكم إياهم عند استنصاركم في الدين، وغير ذلك من فرائض الله التي فرضها عليكم = (بصير) ، يراه ويبصره، فلا يخفى عليه من ذلك ولا من غيره شيء. (2)
16338- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، قال: كان المسلمون يتوارثون بالهجرة، وآخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم، فكانوا يتوارثون بالإسلام والهجرة. وكان الرجل يسلم ولا يهاجر، لا يرث أخاه، فنسخ ذلك قوله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ) [سورة الأحزاب: 6] .
16339- حدثنا محمد قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ على رجل دخل في الإسلام فقال:
__________
(1) انظر تفسير " الميثاق " فيما سلف 13، 315، تعليق: والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " بصير " فيما سلف من فهارس اللغة (بصر) .(14/82)
تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتحج البيت، وتصوم رمضان، وأنك لا ترى نار مشرك إلا وأنت حرب. (1)
16340- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وإن استنصروكم في الدين) ، يعني: إن استنصركم الأعراب المسلمون، أيها المهاجرون والأنصار، على عدوهم، فعليكم أن تنصروهم، إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق.
16341- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الناسَ يوم تُوفي على أربع منازل: مؤمن مهاجر، والأنصار، وأعرابي مؤمن لم يهاجر; إن استنصره النبي صلى الله عليه وسلم نصره، وإن تركه فهو إذْنُه، (2) وإن استنصر النبي صلى الله عليه وسلم في الدين كان حقًّا عليه أن ينصره، فذلك قوله: (وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر) = والرابعة: التابعون بإحسان.
16342- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا) ، إلى آخر السورة، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي وترك الناس على أربع منازل (3) مؤمن مهاجر. ومسلم أعرابي، والذين آووا ونصروا، والتابعون بإحسان.
* * *
__________
(1) يعني بذلك: أن يبعد منزله عن منزل المشرك " حتى لا يرى ناره " نهى منه صلى الله عليه وسلم عن جوار لمشرك.
(2) في المطبوعة: " فهو إذن له " ثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " قال رسول الله " وذلك أن كاتب المخطوطة وصل لام "قال" بألف "إن"، ووصل ألف "إن" بنونها.(14/83)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (والذين كفروا) ، بالله ورسوله = (بعضهم أولياء بعض) ، يقول: بعضهم أعوان بعض وأنصاره، وأحق به من المؤمنين بالله ورسوله. (1)
* * *
وقد ذكرنا قول من قال: "عنى بذلك أن بعضهم أحق بميراث بعض من قرابتهم من المؤمنين"، (2) وسنذكر بقية من حضرنا ذكره.
16343- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك قال، قال رجل: نورّث أرحامنا من المشركين! فنزلت: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، الآية.
16344- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، نزلت في مواريث مشركي أهل العهد.
16345- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا) ، إلى قوله: (وفساد كبير) ، قال: كان المؤمن المهاجر والمؤمن الذي ليس بمهاجر، لا يتوارثان وإن كانا أخوين مؤمنين. قال: وذلك لأن هذا الدين كان بهذا البلد
__________
(1) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي)
(2) في المطبوعة: " عنى بيان أن بعضهم "، وهو سياق فاسد. وفي المخطوطة: " عنى بيان بعضهم "، غير منقوط، مضطرب أيضا فاسد. والصواب ما أثبت.(14/84)
قليلا حتى كان يوم الفتح، فلما كان يوم الفتح، وانقطعت الهجرة توارثوا حيثما كانوا بالأرحام. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا هجرة بعد الفتح"، وقرأ: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) .
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الكفار بعضهم أنصار بعض = وإنه لا يكون مؤمنًا من كان مقيمًا بدار الحرب لم يهاجر. (1)
* ذكر من قال ذلك:
16346- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، قال: كان ينزل الرجل بين المسلمين والمشركين، فيقول: إن ظهر هؤلاء كنت معهم، وإن ظهر هؤلاء كنت معهم! فأبى الله عليهم ذلك، وأنزل الله في ذلك، فلا تراءى نار مسلم ونار مشرك، (2) إلا صاحب جزية مُقِرّ بالخراج.
16347- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: حض الله المؤمنين على التواصل، فجعل المهاجرين والأنصار أهل ولاية في الدين دون سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض. (3)
* * *
وأما قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: إلا تفعلوا، أيها المؤمنون، ما أمرتم به من موارثة المهاجرين منكم بعضهم من بعض بالهجرة، والأنصار بالإيمان، دون أقربائهم من أعراب المسلمين ودون الكفار = (تكن فتنة) ، يقول: يحدث بلاء في الأرض
__________
(1) في المطبوعة: " ولم " بزيادة الواو.
(2) قوله: " لا تراءى نار مسلم ومشرك "، أسند الترائي إلى النار، كناية عن الجوار، وانظر التعليق السالف ص: 83، رقم: 1.
(3) الأثر: 16347 - سيرة ابن هشام 2: 332، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16318.(14/85)
بسبب ذلك (1) = (وفساد كبير) ، يعني: ومعاصٍ لله. (2)
* ذكر من قال ذلك:
16348- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، إلا تفعلوا هذا، تتركوهم يتوارثون كما كانوا يتوارثون = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) . قال: ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل الإيمان إلا بالهجرة، ولا يجعلونهم منهم إلا بالهجرة. (3)
16349- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، يعني في الميراث = (إلا تفعلوه) ، يقول: إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ،
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا تَناصروا، أيها المؤمنون، في الدين، تكن فتنة في الأرض وفساد كبير.
* ذكر من قال ذلك:
16350- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: جعل المهاجرين والأنصار أهلَ ولاية في الدين دون من سواهم، وجعل الكفار بعضهم أولياء بعض، ثم قال: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، إلا يوالِ المؤمن المؤمن من دون الكافر، وإن كان ذا رحم به = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، أي: شبهة في الحق والباطل، وظهور الفساد في الأرض، بتولّي
__________
(1) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف 13: 537، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الفساد " فيما سلف 13: 36، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) في المخطوطة: " ولا يجعلونهم مقيم "، والصواب ما في المطبوعة.(14/86)
المؤمن الكافرَ دون المؤمن. (1) ثم رد المواريث إلى الأرحام. (2)
16351- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، قال: إلا تعاونوا وتناصروا في الدين = (تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل قوله: (والذين كفروا بعضهم أولياء بعض) ، قول من قال: معناه: أن بعضهم أنصار بعض دون المؤمنين، وأنه دلالة على تحريم الله على المؤمن المقامَ في دار الحرب وترك الهجرة، لأن المعروف في كلام العرب من معنى "الوليّ"، أنه النصير والمعين، أو: ابن العم والنسيب. (3) فأما الوارث فغير معروف ذلك من معانيه، إلا بمعنى أنه يليه في القيام بإرثه من بعده. وذلك معنى بعيد، وإن كان قد يحتمله الكلام. وتوجيه معنى كلام الله إلى الأظهر الأشهر، أولى من توجيهه إلى خلاف ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن أولى التأويلين بقوله: (إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير) ، تأويلُ من قال: إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التعاون والنصرة على الدين، تكن فتنة في الأرض = إذْ كان مبتدأ الآية من قوله: (إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) . بالحث على الموالاة على الدين والتناصر جاء، فكذلك (4) الواجب أن يكون خاتمتها به.
* * *
__________
(1) كان في المطبوعة بعد قوله " فساد كبير " ما نصه: " إن يتول المؤمن الكافر دون المؤمن، ثم رد المواريث إلى الأرحام "، ومثلها في المخطوطة إلا أنه كتب " إن يتولى ". وهو كلام مضطرب، سببه أن " المؤمن " ذكر في الكلام مرات، فأسقط ما بين " المؤمن " في قوله " إلا يوال المؤمن المؤمن "، إلى قوله بعد: " بتولي المؤمن الكافر "، فاضطراب الكلام، وسقته على الصواب من سيرة ابن هشام.
(2) الأثر: 16350 - سيرة ابن هشام 2: 332، 333، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16347، وفيه جزء منه.
(3) انظر تفسير " الولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(4) في المطبوعة والمخطوطة " وكذلك " بالواو، والفاء حق السياق.(14/87)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74)
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ، آوَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمهاجرين معه ونصروهم، ونصروا دين الله، أولئك هم أهل الإيمان بالله ورسوله حقًّا، لا من آمن ولم يهاجر دارَ الشرك، وأقام بين أظهر أهل الشرك، ولم يغزُ مع المسلمين عدوهم (1) = (لهم مغفرة) ، يقول: لهم ستر من الله على ذنوبهم، بعفوه لهم عنها (2) = (ورزق كريم) ، يقول: لهم في الجنة مطعم ومشرب هنيٌّ كريم، (3) لا يتغير في أجوافهم فيصير نجْوًا، (4) ولكنه يصير رشحًا كرشح المسك (5)
* * *
وهذه الآية تنبئ عن صحة ما قلنا: أن معنى قول الله: (بعضهم أولياء بعض) في هذه الآية، وقوله: (ما لكم من ولايتهم من شيء) ، إنما هو النصرة والمعونة، دون الميراث. لأنه جل ثناؤه عقّب ذلك بالثناء على المهاجرين والأنصار والخبر عما لهم عنده، دون من لم يهاجر بقوله: (والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا
__________
(1) انظر تفسير " هاجر " و " جاهد "، و " آوى " فيما سلف قريبا ص 77، تعليق: 1 - 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " المغفرة " فيما سلف من فهارس اللغة " غفر ".
(3) انظر تفسير " رزق كريم " فيما سلف وكان في المطبوعة هنا " طعم ومشرب "، والصواب من المخطوطة.
(4) " النجو "، ما يخرج من البطن.
(5) روى مسلم وأبو داود من حديث جابر: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنَّ أهْلَ الجَنَّةِ يَأكُلُونَ فِيهَا ويَشْرَبُونَ، وَلا يَتْفُلُونَ وَلا يَبُولُونَ وَلا يَتَغَوَّطُونَ وَلا يَمْتَخِطُونَ. قِيلَ: فَمَا بَالُ الطَّعَامِ؟ قال: جُشاء ورَشْحٌ كَرَشْحِ المِسْك، يُلهمون التسبيح والتحميد كما تُلهمُونَ النَّفَس "
(صحيح مسلم 17: 173) .(14/88)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
في سبيل الله والذين آووا ونصروا) ، الآية، ولو كان مرادًا بالآيات قبل ذلك، الدلالةُ على حكم ميراثهم، لم يكن عَقِيبَ ذلك إلا الحثّ على إمضاء الميراث على ما أمر. (1) وفي صحة ذلك كذلك، الدليلُ الواضح على أن لا ناسخ في هذه الآيات لشيء، ولا منسوخ.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: "والذين آمنوا"، بالله ورسوله، من بعد تبياني ما بيَّنت من ولاية المهاجرين والأنصار بعضهم بعضًا، وانقطاع ولايتهم ممن آمن ولم يهاجر حتى يهاجر = (وهاجروا) ، دارَ الكفر إلى دار الإسلام = (وجاهدوا معكم) ، أيها المؤمنون = (فأولئك منكم) ، في الولاية، يجب عليكم لهم من الحق والنصرة في الدين والموارثة، مثل الذي يجب لكم عليهم، ولبعضكم على بعض، (2) كما:-
16352- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، قال: ثم ردّ المواريث إلى الأرحام ممن أسلم بعد الولاية من المهاجرين والأنصار دونهم، إلى الأرحام التي بينهم، (3) فقال: (والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ، أي: بالميراث (4) = (إن الله بكل شيء عليم) . (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " إلا الحث على مضى "، وفي المخطوطة: "على أمضى"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) انظر تفسير " هاجر "، و " جاهد " فيما سلف ص: 88، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " ثم المواريث إلى الأرحام التي بينهم "، أسقط من الكلام تمام الكلام الذي أثبته من سيرة ابن هشام، وسبب ذلك كما فعل في رقم: 16350، هو ذكر " الأرحام " مرتين، فاختلط عليه بصره فنقل ما نقل.
(4) في المطبوعة: " أي: في الميراث "، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة والسيرة.
(5) الأثر: 16352 - سيرة ابن هشام 2: 333، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16350.(14/89)
القول في تأويل قوله: {وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والمتناسبون بالأرحام = (بعضهم أولى ببعض) ، في الميراث، إذا كانوا ممن قسم الله له منه نصيبًا وحظًّا، من الحليف والولي = (في كتاب الله) ، يقول: في حكم الله الذي كتبه في اللوح المحفوظ والسابق من القضاء (1) = (إن الله بكل شيء عليم) ، يقول: إن الله عالم بما يصلح عباده، في توريثه بعضهم من بعض في القرابة والنسب، دون الحلف بالعقد، وبغير ذلك من الأمور كلها، لا يخفى عليه شيء منها. (2)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16353- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، حدثنا أبي، قال، حدثنا قتادة أنه قال: كان لا يرث الأعرابيُّ المهاجرَ، حتى أنزل الله: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) .
16354- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا ابن عون، عن عيسى بن الحارث: أن أخاه شريح بن الحارث كانت له سُرِّيَّة، فولدت منه جارية، فلما شبت الجارية زُوِّجت، فولدت غلامًا، ثم ماتت السرِّية، واختصم شريح بن الحارث والغلام إلى شريح القاضي في ميراثها، فجعل شريح بن الحارث يقول: ليس له ميراث في كتاب الله! قال: فقضى شريح بالميراث للغلام. قال: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) ، فركب ميسرة بن يزيد إلى ابن الزبير، فأخبره بقضاء شريح وقوله، فكتب ابن
__________
(1) انظر تفسير " كتاب " فيما سلف ص: 64، تعليق 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .(14/90)
الزبير إلى شريح: "إن ميسرة أخبرني أنك قضيت بكذا وكذا"، وقلت: (وأولوا الأرحام بعضهم أؤلى ببعض في كتاب الله) ، وإنه ليس كذلك، إنما نزلت هذه الآية: أنّ الرجل كان يعاقد الرجل يقول: "ترثني وأرثك"، فنزلت: (وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) . فجاء بالكتاب إلى شريح، فقال شريح: أعتقها حيتان بطنها! (1) وأبى أن يرجع عن قضائه. (2)
16355- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال، حدثني عيسى بن الحارث قال: كانت لشريح بن الحارث سُرِّية، فذكر نحوه = إلا إنه قال في حديثه: كان الرجل يعاقد الرجل يقول: "ترثني وأرثك"، فلما نزلت تُرِك ذلك. (3)
آخر تفسير "سورة الأنفال"
والحمد لله وحده، وصلى الله على سيدنا محمد وآله.
__________
(1) في المطبوعة: " جنين "، غير ما في المخطوطة. وفي أخبار القضاة لوكيع " جنان بطنها "، والذي هنا، وفي أخبار القضاة، مشكل، فأثبته حتى أعرف صوابه، أو يعرفه غيري.
(2) الأثر: 16354، 16355 - رواه وكيع في أخبار القضاة 2: 320، 321، من طريق عمرو بن بشر، عن حسن بن عيسى، عن عبد الله، عن ابن عون، بنحوه.
(3) الأثر: 16354، 16355 - رواه وكيع في أخبار القضاة 2: 320، 321، من طريق عمرو بن بشر، عن حسن بن عيسى، عن عبد الله، عن ابن عون، بنحوه.(14/91)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
(القول في تفسير السورة التي يذكر فيها التوبة)
* * *
القول في تأويل قوله: {بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (براءة من الله ورسوله) ، هذه براءة من الله ورسوله.
فـ "براءة"، مرفوعة بمحذوف، وهو "هذه"، كما قوله: (سُورَةٌ أَنزلْنَاهَا) ، [سورة النور: 1] ، مرفوعة بمحذوف هو "هذه". ولو قال قائل: "براءة" مرفوعة بالعائد من ذكرها في قوله: (إلى الذين عاهدتم) ، وجعلها كالمعرفة ترفع ما بعدها، إذ كانت قد صارت بصلتها وهي قوله: (من الله ورسوله) ، كالمعرفة، وصار معنى الكلام: البراءة من الله ورسوله، إلى الذين عاهدتم من المشركين (1) = كان مذهبًا غير مدفوعة صحته، وإن كان القول الأول أعجبَ إليّ، لأن من شأن العرب أن يضمروا لكلِّ معاين نكرةً كان أو معرفةً ذلك المعاين، "هذا" و"هذه"، فيقولون عند معاينتهم الشيء الحسنَ: "حسن والله"، والقبيحَ: "قبيح والله"، يريدون: هذا حسن والله، وهذا قبيح والله، فلذلك اخترت القول الأول.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " براءة " مكان " البراءة "، والسياق يقتضي ما أثبت إن شاء الله.(14/93)
وقال: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم) ، والمعنى: إلى الذين عاهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من المشركين، لأن العهود بين المسلمين والمشركين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لم يكن يتولى عقدها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم أو من يعقدها بأمره، ولكنه خاطب المؤمنين بذلك لعلمهم بمعناه، وأن عقودَ النبي صلى الله عليه وسلم على أمته كانت عقودهم، لأنهم كانوا لكل أفعاله فيهم راضين، ولعقوده عليهم مسلِّمين، فصار عقده عليهم كعقودهم على أنفسهم، فلذلك قال: (إلى الذين عاهدتم من المشركين) ، لما كان من عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهده.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل فيمن بَرِئَ الله ورسوله إليه من العهد الذي كان بينه وبين رسول الله من المشركين، فأذن له في السياحة في الأرض أربعة أشهر.
فقال بعضهم: هم صنفان من المشركين: أحدهما كانت مدة العهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أقلَّ من أربعة أشهر، وأمْهِل بالسياحة أربعة أشهر = والآخر منهما: كانت مدة عهده بغير أجل محدود، فقُصِر به على أربعة أشهر ليرتاد لنفسه، ثم هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله وللمؤمنين، يقتل حيثما أدرك ويؤسَرُ، إلا أن يتوب.
* ذكر من قال ذلك:
16356- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر الصديق رضى الله عنه أميرًا على الحاجّ من سنة تسع، ليقيم للناس حجهم، والناسُ من أهل الشرك على منازلهم من حجهم. فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين، ونزلت "سورة براءة" في نقض ما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم: أن لا يُصَدَّ عن البيت أحد جاءه، وأن لا يُخَاف أحد في الشهر الحرام. وكان ذلك عهدًا عامًّا بينه وبين الناس من أهل الشرك. وكانت بين(14/96)
ذلك عهود بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قبائل من العرب خصائصَ إلى أجل مسمًّى، (1) فنزلت فيه وفيمن تخلف عنه من المنافقين في تبوك، وفي قول من قال منهم، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون، منهم من سُمِّي لنا، ومنهم من لم يُسَمَّ لنا، فقال: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) ، أي: لأهل العهد العام من أهل الشرك من العرب = (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، إلى قوله: (أن الله بريء من المشركين ورسوله) ، أي: بعد هذه الحجة. (2)
* * *
وقال آخرون: بل كان إمهالُ الله عز وجل بسياحة أربعة أشهر، مَنْ كان من المشركين بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، فأما من لم يكن له من رسول الله عهد، فإنما كان أجله خمسين ليلة، وذلك عشرون من ذي الحجة والمحرم كله. قالوا: وإنما كان ذلك كذلك، لأن أجَل الذين لا عهد لهم كان إلى انسلاخ الأشهر الحرم، كما قال الله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، الآية [سورة التوبة: 5] . قالوا: والنداء ببراءة، كان يوم الحج الأكبر، وذلك يوم النحر في قول قوم، وفي قول آخرين يوم عرفة، وذلك خمسون يوما. قالوا: وأما تأجيل الأشهر الأربعة، فإنما كان لأهل العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من يوم نزلت "براءة". قالوا: ونزلت في أول شوّال، فكان انقضاء مدة أجلهم، انسلاخ الأشهر الحرم. وقد كان بعض من يقول هذه المقالة يقول: ابتداء التأجيل كان للفريقين واحدًا = أعني الذي له العهد، والذي لا عهد له = غير أن أجل الذي كان له عهد كان أربعة أشهر، والذي لا عهد له انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك انقضاء المحرم.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) " خصائص " يعني لأنها لهم خاصة دون غيرهم.
(2) الأثر: 16356 - سيرة ابن هشام 4: 188.(14/97)
16357- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، قال: حدّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر، يسيحون فيها حيثما شاؤوا، وحدّ أجل من ليس له عهد، انسلاخَ الأشهر الحرم من يوم النحر إلى انسلاخ المحرم، فذلك خمسون ليلة. فإذا انسلخ الأشهر الحرم، أمره بأن يضع السيف فيمن عاهد.
16358- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما نزلت (براءة من الله) ، إلى: (وأن الله مخزي الكافرين) ، يقول: براءة من المشركين الذين كان لهم عهد يوم نزلت "براءة"، فجعل مدة من كان له عهد قبل أن تنزل "براءة"، أربعة أشهر، وأمرهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر. وجعل مدة المشركين الذين لم يكن لهم عهد قبل أن تنزل "براءة"، انسلاخ الأشهر الحرم، وانسلاخ الأشهر الحرم من يوم أذن ببراءة إلى انسلاخ المحرّم، وهي خمسون ليلة: عشرون من ذي الحجة، وثلاثون من المحرم = (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) إلى قوله: (واقعدوا لهم كل مرصد) ، يقول: لم يبق لأحد من المشركين عهد ولا ذمة منذ نزلت "براءة" وانسلخ الأشهر الحرم، ومدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل "براءة"، أربعة أشهر من يوم أذّن ببراءة، إلى عشر من أول ربيع الآخر، فذلك أربعة أشهر.
16359- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) . قبل أن تنزل "براءة"، عاهد ناسًا من المشركين من أهل مكة وغيرهم، فنزلت: براءة من الله إلى كل أحد ممن كان عاهدك من المشركين، فإني أنقض العهد الذي بينك وبينهم، فأؤجلهم أربعة أشهر يسيحون(14/98)
حيث شاؤوا من الأرض آمنين. وأجَّل من لم يكن بينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد انسلاخَ الأشهر الحرم، من يوم أذِّن ببراءة، وأذن بها يوم النحر، فكان عشرين من ذي الحجة والمحرم ثلاثين، فذلك خمسون ليلة. فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبين نبي الله صلى الله عليه وسلم عهد، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعةٌ من يوم النحر، أن يضع فيهم السيف أيضًا، يقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام. فكانت مدة من لا عهد بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسين ليلة من يوم النحر، ومدة من كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد، أربعة أشهر: من يوم النحر، إلى عشر يخلُون من شهر ربيع الآخر.
16360- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (براءة من الله ورسوله) ، إلى قوله: (وبشر الذين كفروا بعذاب أليم) ، قال: ذكر لنا أن عليًّا نادى بالأذان، وأُمِّر على الحاجّ أبو بكر رحمة الله عليهما. وكان العامَ الذي حج فيه المسلمون والمشركون، ولم يحج المشركون بعد ذلك العام = قوله: (الذين عاهدتم من المشركين) ، إلى قوله: (إلى مدتهم) ، قال: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمنَ الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر، وأمر الله نبيه أن يوفِّي بعهدهم إلى مدتهم، ومن لا عهد له انسلاخَ المحرّم، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمر بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، ولا يقبل منهم إلا ذلك.
* * *
وقال آخرون: كان ابتداء تأخير المشركين أربعة أشهر وانقضاء ذلك لجميعهم، وقتًا واحدًا. قالوا: وكان ابتداؤه يوم الحج الأكبر، وانقضاؤه انقضاء عشر من ربيع الآخر.
* ذكر من قال ذلك:
16361- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) ،(14/99)
قال: لما نزلت هذه الآية. برئ من عهد كل مشرك، ولم يعاهد بعدها إلا من كان عاهد، وأجرى لكلّ مدتهم = (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، لمن دخل عهده فيها، من عشر ذي الحجة والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر.
16362- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر قال، حدثنا محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر أميرًا على الموسم سنة تسع، وبعث عليّ بن أبي طالب، رضي الله عنهما، بثلاثين أو أربعين آية من "براءة"، فقرأها على الناس، يؤجِّل المشركين أربعة أشهر يسيحون في الأرض، فقرأ عليهم "براءة" يوم عرفة، أجَّل المشركين عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وشهر ربيع الأول، وعشرًا من ربيع الآخر، وقرأها عليهم في منازلهم، وقال: لا يحجنّ بعد عامنا هذا مشرك، ولا يطوفنّ بالبيت عُريان.
16363- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، عشرون من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع الأول، وعشر من ربيع الآخر. كان ذلك عهدَهم الذي بينهم.
16364- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (براءة من الله ورسوله) ، إلى أهل العهد: خزاعة، ومُدْلج، ومن كان له عهد منهم أو غيرهم. (1) أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحجَّ، ثم قال: إنه يحضر المشركون فيطوفون عُرَاةً، فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر وعليًّا رحمة الله عليهما فطافا بالناس بذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالمواسم كلها، فآذنوا أصحابَ العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون
__________
(1) في المخطوطة: " ومن كان له أو غيرهم "، والذي في المطبوعة: " ومن كان له عهد من غيرهم "، وصححتها كما ترى.(14/100)
من شهر ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلها بالقتال إلا أن يؤمنوا.
16365- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين) ، قال: أهل العهد: مدلج، والعرب الذين عاهدهم، ومن كان له عهد. قال: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرغ منها وأراد الحج، ثم قال: إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك. فأرسل أبا بكر وعليًّا رحمة الله عليهما، فطافا بالناس بذي المجاز، وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها، وبالموسم كله، وآذنوا أصحابَ العهد بأن يأمنوا أربعة أشهر، فهي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر يخلون من شهر ربيع الآخر، ثم لا عهد لهم. وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا. فآمن الناس أجمعون حينئذ، ولم يَسِحْ أحد. وقال: حين رجع من الطائف، مضى من فوره ذلك، فغزا تبوك، بعد إذ جاء إلى المدينة.
* * *
وقال آخرون ممن قال: "ابتداء الأجل لجميع المشركين وانقضاؤه كان واحدًا". كان ابتداؤه يوم نزلت "براءة"، وانقضاء الأشهر الحرم، وذلك انقضاء المحرم.
* ذكر من قال ذلك:
16366- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، قال: نزلت في شوال، فهذه الأربعة الأشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
* * *
وقال آخرون: إنما كان تأجيلُ الله الأشهرَ الأربعة المشركين في السياحة، لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد مدته أقل من أربعة أشهر. أما من كان له عهد مدته أكثر من أربعة أشهر، فإنه أمر صلى الله عليه وسلم أن يُتمّ له عهده إلى مدته.(14/101)
* ذكر من قال ذلك:
16367- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال: قال الكلبي: إنما كان الأربعة الأشهر لمن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد دون الأربعة الأشهر، فأتم له الأربعة. ومن كان له عهد أكثر من أربعة أشهر، فهو الذي أمر أن يتم له عهده، وقال: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ) ، [سورة التوبة: 4] .
* * *
قال أبو جعفر رحمه الله: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: الأجلُ الذي جعله الله لأهل العهد من المشركين، وأذن لهم بالسياحة فيه بقوله: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، إنما هو لأهل العهد الذين ظاهروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونقضوا عهدهم قبل انقضاء مدته. فأما الذين لم ينقضوا عهدهم ولم يظاهروا عليه، فإن الله جل ثناؤه أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بإتمام العهد بينه وبينهم إلى مدته بقوله: (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، [سورة التوبة: 4]
فإن ظنّ ظانٌّ أن قول الله تعالى ذكره: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، [سورة التوبة: 5] ، يدلُّ على خلاف ما قلنا في ذلك، إذ كان ذلك ينبئ على أن الفرض على المؤمنين كان بعد انقضاء الأشهر الحرم، (1) قتْلَ كل مشرك، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن، وذلك أن الآية التي تتلو ذلك تبين عن صحة ما قلنا، (2) وفسادِ ما ظنه من ظنّ أن انسلاخ الأشهر
__________
(1) في المطبوعة: " ينبئ عن أن. . . "، وقد سلف مرارا أن استعمل أبو جعفر " على " مع " ينبئ "، فأثبتها كما في المخطوطة، وهي جائزة لتضمنها معنى " يدل ".
(2) في المطبوعة: " تنبئ عن صحة "، وأثبت ما في المخطوطة.(14/102)
الحرم كان يبيح قتل كل مشرك، كان له عهد من رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو لم يكن له منه عهد، وذلك قوله: (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، [سورة التوبة: 7] ، فهؤلاء مشركون، وقد أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بالاستقامة لهم في عهدهم، ما استقاموا لهم بترك نقض صلحهم، وترك مظاهرة عدوهم عليهم.
وبعدُ، ففي الأخبار المتظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه حين بعث عليًّا رحمة الله عليه ببراءة إلى أهل العهود بينه وبينهم، أمره فيما أمره أن ينادي به فيهم: "ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته"، أوضحُ الدليل على صحة ما قلنا. وذلك أن الله لم يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بنقض عهد قوم كان عاهدهم إلى أجل فاستقاموا على عهدهم بترك نقضه، وأنه إنما أجل أربعة أشهر من كان قد نقض عهده قبل التأجيل، أو من كان له عهد إلى أجل غير محدود. فأما من كان أجل عهده محدودًا، ولم يجعل بنقضه على نفسه سبيلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بإتمام عهده إلى غاية أجله مأمورًا. وبذلك بعث مناديه ينادي به في أهل الموسم من العرب.
16368- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن مغيرة، عن الشعبي قال، حدثني محرّر بن أبي هريرة، عن أبي هريرة قال: كنت مع علي رحمة الله عليه، حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ينادي. فكان إذا صَحِل صوته ناديتُ، (1) قلت: بأي شيء كنتم تنادون؟ قال: بأربع: لا يطُفْ بالكعبة عُريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ
__________
(1) " صحل صوته "، هو البحح. وله معنى آخر شبيه به في حديث أم معبد، في صفة رسول الله، بأبي هو وأمي، صلى الله عليه وسلم قالت: " وفي صوته صحل "، (بفتحتين) ، وهو مثل البحة في الصوت. فلا يكون حادا رفيعا.(14/103)
فعهده إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة، ولا يحج بعد عامنا هذا مشرك. (1)
16369- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عفان قال، حدثنا قيس بن الربيع قال، حدثنا الشيباني، عن الشعبي قال: أخبرنا المحرّر بن أبي هريرة، عن أبيه قال: كنت مع علي رضي الله عنه، فذكر نحوه = إلا أنه قال: ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فعهده إلى أجله. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وقد حدث بهذا الحديث شعبة، فخالف قيسًا في الأجل.
16370- فحدثني يعقوب بن إبراهيم ومحمد بن المثنى قالا حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن الشعبي، عن المحرّر بن أبي هريرة، عن أبيه قال: كنت مع علي حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة إلى أهل مكة، فكنت أنادي حتى صَحِل صوتي. فقلت: بأي شيء كنت تنادي؟ قال: أمرنا أن ننادي: أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ومن كان بينه وبين رسول
__________
(1) الأثر: 16368 - رواه أبو جعفر بثلاثة أسانيد، وسيأتي تخريجه فيما بعد. " قيس "، هو: " قيس بن الربيع الأسدي "، لينه أحمد وغيره، وقد سلف مرارا آخرها رقم: 12802. و"مغيرة" هو: "مغيرة بن مقسم الضبي"، ثقة، روى له الجماعة. سلف مرارا، آخرها رقم: 11340. و " محرر بن أبي هريرة "، تابعي ثقة، قليل الحديث، سلف برقم: 2863. وهذا خبر ضعيف إسناده، لضعف " قيس بن الربيع ".
(2) الأثر: 16369 - هذا الإسناد الثاني من حديث المحرر بن أبي هريرة. " عفان "، هو: " عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار "، روى له الجماعة، كان يروي عن قيس بن الربيع، ويقع فيه. مضت ترجمته برقم: 5392. و " الشيباني " هو " أبو إسحاق الشيباني "، " سليمان بن أبي سليمان "، الإمام، مضى مرارا، من آخرها رقم: 12489. وعلة إسناده ضعف " قيس بن الربيع ". ولكن رواه الحاكم في المستدرك 2: 331 من طريق شعبة، عن سليمان الشيباني، وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. انظر التعليق التالي.(14/104)
الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى أربعة أشهر، فإذا حلّ الأجل فإن الله بريء من المشركين ورسوله، ولا يطُفْ بالبيت عريان، ولا يحج بعد العام مشرك. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأخشى أن يكون هذا الخبر وهمًا من ناقله في الأجل، لأن الأخبار متظاهرة في الأجل بخلافه، مع خلاف قيس شعبة في نفس هذا الحديث على ما بينته.
16371- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق، عن الحارث الأعور، عن علي رحمة الله عليه قال: أمرت بأربع: أمرت أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك، ولا يطف رجل بالبيت عريانًا، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، وأن يتمّ إلى كل ذي عهد عهده. (2)
__________
(1) الأثر: 16370 - هذا هو الإسناد الثالث: " عثمان بن عمر بن فارس العبدي "، ثقة روى له الجماعة، مضى مرارا. منها رقم: 5458، وغيره. وهذا الخبر من طريق شعبة، عن المغيرة، رواه أحمد في مسنده رقم: 7964، ورواه النسائي في سننه 5: 234. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 331 من طريق أخرى، عن النضر بن شميل، عن شعبة، عن سليمان الشيباني وقال: " هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه "، ووافقه الذهبي. انظر التعليق السالف. واستوفى الكلام فيه ابن كثير في تفسيره 4: 111، وفي التاريخ 5: 38، وقال في التاريخ: " وهذا إسناد جيد، ولكن فيه نكارة من جهة قول الراوي: إن من كان له عهد فأجله إلى أربعة أشهر. وقد ذهب إلى هذا ذاهبون، ولكن الصحيح: أن من كان له عهد فأجله إلى أمده بالغا ما بلغ، ولو زاد على أربعة أشهر. ومن ليس له أمد بالكلية، فله تأجيل أربعة أشهر. بقى قسم ثالث، وهو: من له أمد يتناهى إلى أقل من أربعة أشهر من يوم التأجيل، وهذا يحتمل أن يلتحق بالأول، فيكون أجله إلى مدته وإن قل. ويحتمل أن يقال إنه يؤجل إلى أربعة أشهر، لأنه أولى ممن ليس له عهد بالكلية ". وانظر شرح الخبر في مسند أحمد.
(2) الأثر: 16371 - " الحارث الأعور "، هو " الحارث بن عبد الله الهمداني "، ضعيف جدا، سلف مرارا، انظر رقم: 174. فإسناده ضعيف. وسيأتي بإسناد آخر رقم: 16374.(14/105)
16372- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع قال: نزلت "براءة"، فبعث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر، ثم أرسل عليًّا فأخذها منه. فلما رجع أبو بكر قال: هل نزل فيَّ شيء؟ قال: لا ولكني أمرت أن أبلغها أنا أو رجل من أهل بيتي. فانطلق إلى مكة، (1) فقام فيهم بأربع: أن لا يدخل مكة مشرك بعد عامه هذا، ولا يطف بالكعبة عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله عهدٌ فعهده إلى مدته. (2)
16373- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن علي قال: بعثني النبي صلى الله عليه وسلم حين أنزلت: "براءة" بأربع: أن لا يطف بالبيت عريان، ولا يقرب المسجد الحرام مشرك بعد عامهم هذا، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة. (3)
16374- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عبد الأعلى، عن معمر،
__________
(1) قوله: " فانطلق "، يعني عليا رحمه الله.
(2) الأثران: 16372، 16373 - حديث زيد بن يثيع، سيرويه من ثلاث طرق، هذا، والذي يليه، ثم رقم: 16379. و " زيد بن يثيع "، أو " أثيع " بالتصغير فيهما، تابعي ثقة قليل الحديث، مضى برقم: 15737. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم: 594، من طريق سفيان، عن أبي إسحاق السبيعي، وإسناده صحيح. ورواه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية الطواف عريانا، وقال: " وفي الباب عن أبي هريرة، قال أبو عيسى: حديث على حسن ". ويعني بحديث أبي هريرة ما سلف رقم: 16368 - 16370. ثم رواه أيضا في كتاب التفسير وقال: " هذا حديث حسن صحيح ". وروى أحمد في مسند أبي بكر رقم: 4، نحو هذا الحديث مطولا، من حديث زيد بن يثيع، عن أبي بكر.
(3) الأثران: 16372، 16373 - حديث زيد بن يثيع، سيرويه من ثلاث طرق، هذا، والذي يليه، ثم رقم: 16379. و " زيد بن يثيع "، أو " أثيع " بالتصغير فيهما، تابعي ثقة قليل الحديث، مضى برقم: 15737. وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم: 594، من طريق سفيان، عن أبي إسحاق السبيعي، وإسناده صحيح. ورواه الترمذي في كتاب الحج، باب ما جاء في كراهية الطواف عريانا، وقال: " وفي الباب عن أبي هريرة، قال أبو عيسى: حديث على حسن ". ويعني بحديث أبي هريرة ما سلف رقم: 16368 - 16370. ثم رواه أيضا في كتاب التفسير وقال: " هذا حديث حسن صحيح ". وروى أحمد في مسند أبي بكر رقم: 4، نحو هذا الحديث مطولا، من حديث زيد بن يثيع، عن أبي بكر.(14/106)
عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي رحمة الله عليه، قال: بعثت إلى أهل مكة بأربع، ثم ذكر الحديث. (1)
16375- حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا حسين بن محمد قال، حدثنا سليمان بن قرم، عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر ببراءة، ثم أتبعه عليًّا، فأخذها منه، فقال أبو بكر: يا رسول الله حدث فيّ شيء؟ قال: "لا أنت صاحبي في الغار وعلى الحوض، ولا يؤدِّي عني إلا أنا أو عليّ! وكان الذي بعث به عليًّا أربعا: لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مُدَّته. (2)
16376- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن عامر قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم عليًّا رحمة الله عليه، فنادى: ألا لا يحجنَّ بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فأجله إلى مدته، والله بريء من المشركين ورسوله.
16377- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف، عن أبي جعفر محمد بن علي بن حسين
__________
(1) الأثر: 16374 - انظر التعليق على الأثر رقم: 16371.
(2) الأثر: 16375 - " حسين بن محمد المروزي "، روى له الجماعة، مضى مرارا، آخرها رقم: 15338. و"سليمان بن قرم بن معاذ التيمي"، ثقة، غمزوه بالغلو في التشيع. مضى برقم: 9163. و " الحكم " هو " الحكم بن عتيبة "، مضى مرارا. وهذا الخبر رواه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق أخرى، من طريق عباد بن العوام، عن سفيان بن الحسين، عن الحكم بن عتيبة، بنحوه، وقال: " هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، من حديث ابن عباس ".(14/107)
بن علي قال: لما نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان بعث أبا بكر الصديق رحمة الله عليه ليقيم الحج للناس; قيل له: يا رسول الله، لو بعثت إلى أبي بكر! فقال: لا يؤدِّي عني إلا رجل من أهل بيتي! ثم دعا علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، فقال: اخرج بهذه القصة من صدر "براءة"، وأذِّن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنًى: أنه لا يدخل الجنة كافر، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ومن كان له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فهو إلى مدته. فخرج علي بن أبي طالب رحمة الله عليه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء، حتى أدرك أبا بكر الصديق بالطريق. فلما رآه أبو بكر قال: أميرٌ أو مأمور؟ قال: مأمور، ثم مضيا رحمة الله عليهما، فأقام أبو بكر للناس الحج، والعرب إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحجّ التي كانوا عليها في الجاهلية. حتى إذا كان يوم النحر، قام علي بن أبي طالب رحمة الله عليه، فأذن في الناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا أيها الناس، لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ولا يحج بعد العام مشرك، ولا يطف بالبيت عريان، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته. فلم يحجّ بعد ذلك العام مشرك، ولم يطف بالبيت عريان. ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان هذا من "براءة"، فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العامّ، وأهل المدة إلى الأجل المسمى. (1)
16378- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما نزلت هذه الآيات إلى رأس أربعين آية، بعث بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر وأمَّره على الحج. فلما سار فبلغ
__________
(1) الأثر: 16377 - سيرة ابن هشام 4: 190، 191. " حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري "، ثقة، تكلموا فيه، حتى قال ابن سعد: " كان قليل الحديث، ولا يحتجون بحديثه "، مضى برقم: 11741.(14/108)
الشجرة من ذي الحليفة، أتبعه بعليّ فأخذها منه. فرجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أنزل في شأني شيء؟ قال: لا ولكن لا يبلِّغ عني غيري، أو رجل مني، أما ترضى يا أبا بكر أنك كنت معي في الغار، وأنك صاحبي على الحوض؟ قال: بلى، يا رسول الله! فسار أبو بكر على الحاجّ، وعلي يؤذن ببراءة، فقام يوم الأضحى فقال: لا يقربنَّ المسجد الحرام مشرك بعد عامه هذا، ولا يطوفنّ بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فله عهده إلى مدته، وإن هذه أيام أكل وشرب، وإن الله لا يدخل الجنة إلا من كان مسلما. فقالوا: نحن نبرأ من عهدك وعهد ابن عمك إلا من الطعن والضرب! فرجع المشركون، فلام بعضهم بعضًا وقالوا: ما تصنعون، وقد أسلمت قريش؟ فأسلموا.
16379- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق، عن زيد بن يثيع، عن علي قال: أمرت بأربع: أن لا يقربَ البيتَ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده = قال معمر: وقاله قتادة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فقد أنبأت هذه الأخبار ونظائرها عن صحة ما قلنا، وأن أجل الأشهر الأربعة إنما كان لمن وصفنا. فأما من كان عهده إلى مدة معلومة، فلم يجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين لنَقْضِه ومظاهرة أعدائهم عليهم سبيلا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وَفَى له بعهده إلى مدته، عن أمر الله إياه بذلك. وعلى ذلك دلّ ظاهرُ التنزيل، وتظاهرت به الأخبار عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأما الأشهر الأربعة، فإنها كانت أجلَ من ذكرنا. وكان ابتداؤها يوم
__________
(1) الأثر: 16379 - انظر التعليق على الأثرين رقم: 16372، 16373.(14/109)
الحج الأكبر، وانقضاؤها انقضاء عشر من ربيع الآخر، فذلك أربعة أشهر متتابعة، جُعِل لأهل العهد الذين وصفنا أمرهم، فيها، السياحةُ في الأرض، يذهبون حيث شاؤوا، لا يعرض لهم فيها من المسلمين أحدٌ بحرب ولا قتل ولا سلب.
* * *
فإن قال قائل: فإذا كان الأمر في ذلك كما وصفت، فما وجه قوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، [سورة التوبة: 5] . وقد علمت أن انسلاخها انسلاخ المحرّم، وقد زعمت أن تأجيل القوم من الله ومن رسوله كان أربعة أشهر، وإنما بين يوم الحجّ الأكبر وانسلاخ الأشهر الحرم خمسون يومًا أكثرُه، فأين الخمسون يومًا من الأشهر الأربعة؟
قيل: إن انسلاخَ الأشهر الحرم، إنما كان أجل من لا عهد له من المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأشهر الأربعة لمن له عهد، إما إلى أجل غير محدود، وإما إلى أجل محدود قد نقضه، فصار بنقضه إياه بمعنى من خِيف خيانته، فاستحقّ النبذ إليه على سواء، غير أنه جُعل له الاستعداد لنفسه والارتياد لها من الأجل الأربعة الأشهر. ألا ترى الله يقول لأصحاب الأشهر الأربعة، ويصفهم بأنهم أهل عهد: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر واعلموا أنكم غير معجزي الله) ، ووصف المجعول لهم انسلاخ الأشهر الحرم أجلا بأنهم أهل شرك لا أهل عهد فقال: (وأذانٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) الآية = (إلا الذين عاهدتم من المشركين) الآية؟ ثم قال: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ، فأمر بقتل المشركين الذين لا عهد لهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وبإتمام عهد الذين لهم عهد. إذا لم يكونوا نقضوا عهدهم بالمظاهرة على المؤمنين، وإدخال النقص فيه عليهم.
فإن قال قائل: وما الدليل على أن ابتداء التأجيل كان يوم الحج الأكبر،(14/110)
دون أن يكون كان من شوال على ما قاله قائلو ذلك؟
قيل له: إن قائلي ذلك زعموا أن التأجيل كان من وقت نزول "براءة"، وذلك غير جائز أن يكون صحيحًا، لأن المجعول له أجلُ السياحة إلى وقت محدود. إذا لم يعلم ما جُعل له، ولا سيما مع عهد له قد تقدم قبل ذلك بخلافه، فكمن لم يجعل له ذلك، لأنه إذا لم يعلم ما له في الأجل الذي جُعل له وما عليه بعد انقضائه، فهو كهيئته قبل الذي جُعل له من الأجل. ومعلوم أن القوم لم يعلموا بما جُعل لهم من ذلك، إلا حين نودي فيهم بالموسم. وإذا كان ذلك كذلك. صحَّ أن ابتداءه ما قلنا، وانقضاءه كان ما وصفنا.
وأما قوله: (فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، فإنه يعني: فسيروا فيها مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه.
* * *
يقال منه: "ساح فلان في الأرض يسيح، سياحة. وسُيُوحًا. وسَيَحانًا.
* * *
وأما قوله: (واعلموا أنكم غير معجزي الله) ، فإنه يقول لأهل العهد من الذين كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ قبل نزول هذه الآية: اعلموا، أيها المشركون، أنكم إن سحتم في الأرض، واخترتم ذلك مع كفركم بالله. على الإقرار بتوحيد وتصديق رسوله = (غير معجزي الله) ، يقول: غير مُفِيتيه بأنفسكم، لأنكم حيث ذهبتم وأين كنتم من الأرض، ففي قبضته وسلطانه، لا يمنعكم منه وزيرٌ، ولا يحول بينكم وبينه إذا أرادكم بعذاب معقلٌ ولا موئل. (1) إلا الإيمان به وبرسوله. والتوبة من معصيته. يقول: فبادروا عقوبته بتوبة، ودعوا السياحة التي لا تنفعكم.
__________
(1) انظر تفسير " الإعجاز" فيما سلف 12: 128 / 13: 31.(14/111)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
وأما قوله: (وأن الله مخزي الكافرين) ، يقول: واعلموا أن الله مُذلُّ الكافرين، ومُورثهم العارَ في الدنيا، والنارَ في الآخرة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإعلامٌ من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر.
* * *
وقد بينا معنى "الأذان"، فيما مضى من كتابنا هذا بشواهده. (2)
* * *
وكان سليمان بن موسى يقول في ذلك ما:-
16380- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: زعم سليمان بن موسى الشاميّ أن قوله: (وأذان من الله ورسوله) ، قال: "الأذان"، القصص، فاتحة "براءة" حتى تختم: (وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) ، [سورة التوبة: 28] فذلك ثمان وعشرون آية. (3)
16381- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (وأذان من الله ورسوله) ، قال: إعلام من الله ورسوله.
* * *
ورفع قوله: (وأذان من الله) ، عطفًا على قوله: (براءة من الله) ، كأنه قال: هذه براءة من الله ورسوله، وأذانٌ من الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخزي " فيما سلف 10: 318، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الأذان " فيما سلف. . . تعليق:. . . والمراجع هناك.
(3) الأثر: 16380 - " سليمان بن موسى الأموي الدمشقي "، الأشدق، فقيه أهل الشأم في زمانه. مضى برقم: 15654، 15655.(14/112)
وأما قوله: (يوم الحج الأكبر) ، فإنه فيه اختلافًا بين أهل العلم.
فقال بعضهم: هو يوم عرفة.
* ذكر من قال ذلك:
16382- حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا أبو صخر: أنه سمع أبا معاوية البجليّ من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري وهو يقول: سألت علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن "يوم الحج الأكبر" فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث أبا بكر بن أبي قحافة رضي الله عنه يقيم للناس الحج، وبعثني معه بأربعين آية من براءة، حتى أتى عرفة فخطب الناس يوم عرفة، فلما قضى خطبته التفت إليّ، فقال: قم، يا علي وأدِّ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقمت فقرأت عليهم أربعين آية من "براءة"، ثم صدرنا، (1) حتى أتينا مِنًى، فرميت الجمرة ونحرتُ البدنة، ثم حلقت رأسي، وعلمت أن أهل الجمع لم يكونوا حضروا خطبة أبي بكر يوم عرفة، فطفقت أتتبع بها الفساطيط أقرؤها عليهم. (2) فمن ثَمَّ إخال حسبتم أنه يوم النحر، ألا وهو يوم عرفة. (3)
__________
(1) " صدر عن الماء والبلاد "، رجع. و " الصدر "، (بفتحتين) ليلة رجوع الناس من عرفة إلى منى. و " صدار البيت " (بضم الصاد وتشديد الدال) : الحجاج الراجعون من حجهم.
(2) " الفساطيط " جمع " فسطاط "، مثل السرادق، وهو أصغر منه، يتخذه المسافرون.
(3) الأثر: 16382 - سبق شرح هذا الإسناد برقم: 5386. " أبو زرعة "، " وهب الله بن راشد المصري "، مضى مرارا، آخرها برقم: 11510، ومراجعه هناك. وكان في المطبوعة هنا: " أبو زرعة وهبة الله بن راشد قالا "، جعله رجلين! ومثله في المخطوطة مثله، إلا أنه كتب " قال " بالإفراد، قدم الكنية على الاسم. والصواب ما أثبت. و " حيوة بن شريح "، مضى مرارا، آخرها: 11510. و " أبو صخر "، هو " حميد بن زياد الخراط "، قال أحمد: " ليس به بأس "، أخرج له مسلم. مضى برقم 4325، وغيرها كثير. و " أبو معاوية البجلي "، هو " عمار بن معاوية الدهني "، كما صرح به الطبري في رقم: 4325، وهو ثقة. مضى في مواضع. و" أبو الصهباء البكري "، سلف بيانه برقم: 5386. وهو إسناد صحيح.(14/113)
16383- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق قال: سألت أبا جُحَيفة عن "يوم الحج الأكبر" فقال: يوم عرفة. فقلت: أمن عندك، أو من أصحاب محمد؟ قال: كلُّ ذلك. (1)
16384- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: الحج الأكبر، يوم عرفة.
16385- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عمر بن الوليد الشنّيّ، عن شهاب بن عبّاد العَصَريّ، عن أبيه قال: قال عمر رحمه الله: يوم الحج الأكبر، يوم عرفة = فذكرته لسعيد بن المسيب فقال: أخبرك عن ابن عمر: أن عمر قال: الحج الأكبر يومُ عرفة.
16386- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عمر بن الوليد الشني قال، حدثنا شهاب بن عباد العصري، عن أبيه قال: سمعت عمر بن الخطاب رحمة الله عليه يقول: هذا يوم عرفة، يوم الحج الأكبر فلا يصومَنَّه أحد. قال: فحججت بعد أبي فأتيت المدينة، فسألت عن أفضل أهلها، فقالوا: سعيد بن المسيب، فأتيته فقلت: إني سألت عن أفضل أهل المدينة فقالوا: سعيد بن المسيب، فأخبرني عن صوم يوم عرفة؟ فقال: أخبرك عمن هو أفضل مني مئة ضعف، (2) عمر، أو: ابن عمر، كان ينهى عن صومه ويقول: هو يوم الحج الأكبر. (3)
__________
(1) الأثر: 16383 - " أبو جحيفة السوائي "، هو " وهب بن عبد الله " ويقال له " وهب الخير "، مات رسول الله قبل أن يبلغ الحلم. ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/162، وابن أبي حاتم 4/2/22.
(2) في المخطوطة: " أفضل مني أضعافا "، وفي المخطوطة " أفضل مني ضعف "، والصواب من تفسير ابن كثير 4: 113.
(3) الأثران: 16385، 16386 - " عمر بن الوليد الشني "، " أبو سلمة العبدي "، ثقة، مضى برقم 435، 11185. " شهاب بن عباد العصري العبدي "، روى عن أبيه، وهو غير " شهاب بن عباد العبدي "، شيخ البخاري ومسلم. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 235، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 361، ولم يذكر فيه جرحا. وذكر في التهذيب في ترجمته: " قال الدارقطني: صدوق زائغ "، وظني أنه أخطأ، ذاك " شهاب بن عباد " آخر، ذكره الذهبي في ميزان الاعتدال 1: 451. وأبوه " عباد العصري "، روى عن عمر، مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 88.(14/114)
16387- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عبد الصمد بن حبيب، عن معقل بن داود قال: سمعت ابن الزبير يقول: يوم عرفة هذا، يوم الحج الأكبر، فلا يصمه أحد. (1)
16388- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا غالب بن عبيد الله قال: سألت عطاء عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم عرفة، فأفِضْ منها قبل طلوع الفجر. (2)
16389- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: أخبرني محمد بن قيس بن مخرمة قال: خطب النبي صلى الله عليه وسلم عشية عرفة ثم قال: "أما بعد" = "وكان لا يخطب إلا قال: أما بعد = "فإن هذا يوم الحج الأكبر". (3)
16390- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد الوهاب، عن مجاهد قال: يوم الحج الأكبر، يوم عرفة.
__________
(1) الأثر: 16387 - " عبد الصمد بن حبيب الأزدي العوذي "، ضعفه البخاري وأحمد. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 51. و " معقل بن داود "، لم أجد له ترجمة، وفي ترجمة " عبد الصمد بن حبيب " أنه روى عن " معقل القسملي "، ولكني لم أجد لهذا " القسملي "، " الأزدي "، ذكرا في شيء من مراجعي.
(2) الأثر: 16388 - " غالب بن عبيد الله العقيلي الجزري "، منكر الحديث، مضى برقم: 12214.
(3) الأثر: 16389 - " محمد بن بكر العثماني البرساني "، ثقة، مضى مرارا. و " محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف "، تابعي ثقة، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا، مضى برقم: 10520.(14/115)
16391- حدثني الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن سلمة بن بُخْت، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: يوم الحج الأكبر، يوم عرفة. (1)
16392- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني طاوس، عن أبيه قال: قلنا: ما الحج الأكبر؟ قال: يوم عرفة.
16393- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال: أخبرنا ابن جريج، عن محمد بن قيس بن مخرمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوم عرفة فقال: هذا يوم الحج الأكبر.
* * *
وقال آخرون: هو يوم النحر.
* ذكر من قال ذلك:
16394- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16395- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن سلام، عن الأجلح، عن أبي إسحاق، عن الحارث قال: سمعت عليًّا يقول: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16396- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن أبي إسحاق، عن الحارث قال: سألت عليًّا عن الحج الأكبر فقال: هو يوم النحر.
16397- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا سليمان
__________
(1) الأثر: 16391 - " إسحاق بن سليمان الرازي "، سلف مرارا. و " سلمة بن بخت " مدني، مولى قريش، قال أحمد: " لا بأس به "، ووثقه ابن معين. مترجم في الكبير 2 / 2 / 83، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 156. وكان في المطبوعة: " سلمة بن محب "، وهو خطأ محض، وهي في المخطوطة، غير منقوطة.(14/116)
الشيباني قال: سألت عبد الله بن أبي أوفى عن الحج الأكبر، قال: فقال: يوم النحر. (1)
16398- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عيّاش العامري، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. (2)
16399-...... قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16400- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك قال: دخلت أنا وأبو سلمة على عبد الله بن أبي أوفى، قال: فسألته عن يوم الحج الأكبر، فقال: يوم النحر، يوم يُهَرَاقُ فيه الدم.
16401- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق، عن سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن عبد الله قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16402- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني قال: سألت ابن أبي أوفى عن يوم الحج الأكبر قال: هو يوم النحر.
16403- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال: أخبرنا الشيباني، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16404-...... قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير قال، سَمعت عبد الله بن أبي أوفى، وسُئل عن قوله: (يوم الحج الأكبر) ، قال: هو اليوم الذي يُرَاق فيه الدم، ويُحلق فيه الشعر.
__________
(1) الأثر: 16396 - " الحارث "، في هذا الإسناد وما قبله، هو " الحارث الأعور " وقد مضى بيان ضعفه مرارا.
(2) الأثر: 16398 - " عياش العامري "، هو " عياش بن عمرو العامري "، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 48، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 6. و " عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي "، صحابي شهد بيعة الرضوان. مضى برقم: 7758.(14/117)
16405- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت يحيى بن الجزار يحدّث، عن علي: أنه خرج يوم النحر على بغلة بيضاء يريد الجبّانة، فجاءه رجل فأخذ بلجام بغلته، فسأله عن الحج الأكبر، فقال: هو يومك هذا، خَلِّ سبيلها. (1)
16406- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، حدثنا إسحاق، عن مالك بن مغول، وشُتَير، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16407- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: سئل عن يوم الحج الأكبر قال: هو يوم النحر.
16408- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار، عن علي: أنه لقيه رجل يوم النحر فأخذ بلجامه، فسأله عن يوم الحج الأكبر، قال: هو هذا اليوم. (2)
16409- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن عبد الملك بن عمير، وعياش العامري، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: هو اليوم الذي تُهَراق فيه الدماء. (3)
16410- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ابن أبي أوفى قال: الحج الأكبر، يوم تُهَرَاق فيه الدماء، ويحلق فيه الشعر، ويَحِلّ فيه الحرام.
16411- حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثنا يحيى بن
__________
(1) الأثر: 16405 - " يحيى بن الجزار "، ثقة، كان، كان يغلو في التشيع، لم يسمع من علي إلا ثلاثة أحاديث، هذا أحدها، والحديث الآخر، مضى برقم: 5425، 16106. وانظر الأثر التالي رقم: 16408.
(2) الأثر: 16408 - هو مكرر الأثر. رقم: 16405، مختصرا.
(3) الأثر: 16409 - انظر التعليق على رقم: 16398.(14/118)
عيسى، عن الأعمش، عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى علي بعير فقال: هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر.
16412- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير وقال: هذا يوم الأضحى، وهذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر.
16413- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الأعمش، عن عبد الله بن سنان قال: خطبنا المغيرة بن شعبة، فذكر نحوه. (1)
16414- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حماد بن سلمة، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الحج الأكبر، يوم النحر.
16415- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: الحج الأكبر، يوم النحر.
16416- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي جحيفة قال: الحج الأكبر، يوم النحر. (2)
16417- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، قال: اختصم علي بن عبد الله بن عباس ورجل من آل شيبة في "يوم الحج الأكبر"، قال علي: هو يوم النحر. وقال الذي من آل شيبة:
__________
(1) الآثار: 16411 - 16413 " عبد الله بن سنان الأسدي "، " أبو سنان "، روى عن علي، وابن مسعود، وضرار بن الأزور، والمغيرة بن شعبة. روى عنه الأعمش، وأبو حصين. وهو ثقة له أحاديث. توفي أيام الحجاج، قبل يوم الجماجم. مترجم في ابن سعد 6: 123، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 68، وتعجيل المنفعة ص: 224. وكان في المطبوعة: " عبد الله بن يسار "، في المواضع كلها، خطأ محض، وهو في المخطوطة " سنان " غير منقوط كله.
(2) الأثر: 16416 - " أبو جحيفة "، " وهب بن عبد الله "، سلف برقم: 16383.(14/119)
هو يوم عرفة. فأرسل إلى سعيد بن جبير فسألوه، فقال: هو يوم النحر، ألا ترى أن من فاته يوم عرفة لم يفته الحج، فإذا فاته يوم النحر فقد فاته الحج؟
16418- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يونس، عن سعيد بن جبير أنه قال: الحج الأكبر، يوم النحر. قال فقلت له: إن عبد الله بن شيبة، ومحمد بن علي بن عبد الله بن عباس اختلفا في ذلك، فقال محمد بن علي: هو يوم النحر. وقال عبد الله: هو يوم عرفة. فقال سعيد بن جبير: أرأيت لو أن رجلا فاته يوم عرفة، أكان يفوته الحج؟ وإذا فاته يوم النحر فاته الحج!
16419- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: الحج الأكبر، يوم النحر.
16420- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، حدثني رجل، عن أبيه، عن قيس بن عبادة قال: ذو الحجة العاشر النحرُ، وهو يوم الحج الأكبر.
16421- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن شداد قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر. والحج الأصغر، العمرة.
16422- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: الحج الأكبر، يوم النحر.
16423- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن مسلم الحجبي قال: سألت نافع بن جبير بن مطعم عن يوم الحج الأكبر، قال: يوم النحر.
16424- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: كان يقال: الحج الأكبر، يوم النحر.
16425- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: يوم الحج الأكبر، يوم يُهَراق فيه الدم، ويحلّ فيه الحرام.(14/120)
16426- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم أنه قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر، الذي يحلّ فيه كل حرام.
16427-...... قال حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن علي، قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16428- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن عون قال: سألت محمدًا عن يوم الحجّ الأكبر فقال: كان يومًا وافق فيه حج رسول الله صلى الله عليه وسلم وحج أهل الوَبر.
16429- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمر بن ذر قال: سألت مجاهدًا عن يوم الحج الأكبر فقال: هو يوم النحر.
16430- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن مجاهد: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16431- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن ثور، عن مجاهد: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16432- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: يوم الحجّ الأكبر، يوم النحر = وقال عكرمة: يوم الحج الأكبر: يوم النحر، يوم تهراق فيه الدماء، ويحلّ فيه الحرام = قال وقال مجاهد: يوم يجمع فيه الحج كله، وهو يوم الحج الأكبر.
16433-...... قال حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن محمد بن علي: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16434-...... قال، حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
16435-...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حماد بن سلمة،(14/121)
عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.
16436- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أبي إسحاق قال، قال علي: الحج الأكبر، يوم النحر = قال: وقال الزهري: يوم النحر، يوم الحج الأكبر.
16437- حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثنا عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني يونس، وعمرو، عن الزهري، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي هريرة قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر في الحجة التي أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم عليها قبل حجة الوداع، في رَهْط يؤذِّنون في الناس يوم النحر: ألا لا يحجّ بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان = قال الزهري: فكان حميد يقول: يوم النحر، يوم الحح الأكبر. (1)
16438- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الشعبي، عن أبي إسحاق قال: سألت عبد الله بن شداد عن الحج الأكبر، والحج الأصغر، فقال: الحج الأكبر يوم النحر، والحج الأصغر العمرة.
16439-...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق قال، سألت عبد الله بن شداد، فذكر نحوه.
16440-...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عبد الملك بن عمير قال: سمعت عبد الله بن أبي أوفى يقول: يوم الحج الأكبر، يوم يوضع فيه الشعر، ويُهَراق فيه الدم، ويحلّ فيه الحرام. (2)
__________
(1) الأثر: 16437 - " يونس "، هو " يونس بن يزيد الأيلي " ثقة، سلف مرارا. و " عمرو "، هو " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري "، ثقة مضى مرارا. و " حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري "، الثقة، مضى مرارا. وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 387 / 8: 238 - 241) من طرق، واستوفى الكلام عليه الحافظ بن حجر هناك. وبمثله في السنن لأبي داود 2: 264، رقم: 1946.
(2) الأثر: 16440 - انظر ما سلف رقم: 16399.(14/122)
16441-...... قال، حدثنا الثوري، عن أبي إسحاق، عن علي قال: الحج الأكبر، يوم النحر.
16442- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن عياش العامري، عن عبد الله بن أبي أوفى: أنه سئل عن يوم الحج الأكبر فقال: سبحان الله، هو يوم تهراق فيه الدماء، ويحل فيه الحرام، ويوضع فيه الشعر، وهو يوم النحر. (1)
16443-...... قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن عبد الله بن سنان، قال: خطبنا المغيرة بن شعبة على ناقة له فقال: هذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر. (2)
16444-...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا حسن بن صالح، عن مغيرة، عن إبراهيم قال، يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16445- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، عن إبراهيم بن طهمان، عن مغيرة، عن إبراهيم: يوم الحج الأكبر، يوم النحر، يحلّ فيه الحرام.
16446- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبيه قال: لما كان ذلك اليوم، قعد على بعير له، (3) وأخذ إنسان بخطامه = أو: زمامه = فقال: أي يوم هذا؟ قال: فسكتنا حتى ظننا أنه سيسمِّيه غير اسمه فقال: أليس يوم الحج؟. (4)
__________
(1) الأثر: 16442 - انظر ما سلف رقم: 16398.
(2) الأثر: 16443 - انظر ما سلف رقم: 16411 - 16413.، وكان في المطبوعة هنا أيضا: " عبد الله بن يسار"، والصواب " ابن سنان "، كما في المخطوطة أيضا.
(3) زاد في المطبوعة هنا فكتب: " قعد على بعير له النبي ".
(4) الأثر: 16446 - رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 459) من طريق أبي عامر العقدي، عن قرة بن خالد، عن محمد بن سيرين، مطولا وفيه: " أليس يوم النحر ".(14/123)
16447- حدثنا سهل بن محمد السجستاني قال، حدثنا أبو جابر الحرمي قال، حدثنا هشام بن الغاز الجرشي، عن نافع، عن ابن عمر قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر عند الجمرات في حجة الوداع فقال: هذا يوم الحج الأكبر. (1)
__________
(1) الأثر: 16447 - " سهل بن محمد بن عثمان السجستاني "، هو " أبو حاتم "، النحوي، المقرئ، البصري المشهور. ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 204. وكان في المطبوعة والمخطوطة، وتفسير ابن كثير " سهل بن محمد الحساني ". وكان الصواب هو ما أثبته لما سترى بعد. و " أبو جابر الحرمي "، هو " محمد بن عبد الملك الأزدي البصري " نزيل مكة، مشهور بكنيته. روى عنه " أبو حاتم السجستاني "، فمن أجل ذلك صححت الاسم السالف " سهل بن محمد السجستاني ". ونسبته " الحرمي "، كانت في المخطوطة " الحربي "، تشبه أن تكون " باءا " أو " تاء " أو " ثاء "، أو " ميما "، فرجحت أنها " ميم " لأنه نزيل مكة، نسبة إلى " الحرم ". وكانت في المطبوعة: " الحرثي "، وفي تفسير ابن كثير " الحربي " ولم يوجد شيء من ذلك في ترجمته. و " أبو جابر "، ذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم: " أدركته، مات قبلنا بيسير، وليس بقوي ". وهو مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 165، ولم يذكر فيه جرحا، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 5، وميزان الاعتدال 3: 95. و " هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي "، ثقة صالح الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 199، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 67. وهذا الخبر، خرجه ابن كثير في تفسيره 4: 114، وقال: " هكذا رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه " من حديث أبي جابر - واسمه: محمد بن عبد الملك - به. ورواه ابن مردويه أيضا من حديث الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغاز. ثم رواه من حديث سعيد بن عبد العزيز، عن نافع، به ". وفاته أن البخاري أخرجه في صحيحه تعليقا (الفتح 3: 459) ، مطولا، وأخرجه أبو داود في سننه 2: 264 رقم: 1945، من طريق مؤمل بن الفضل، عن الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغاز "، بمثله مطولا. وأخرجه ابن ماجه في سننه: 1016 رقم 3058، من طريق هشام بن عمار، عن صدقة بن خالد، عن هشام بن الغاز، بمثله مطولا. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 5: 139. وقال الحافظ ابن حجر (الفتح 3: 459، 460) : " وأخرجه الطبراني عن أحمد بن المعلي، والإسماعيلي عن جعفر الفريابي، كلاهما عن هشام بن عمار = وعن جعفر الفريابي، عن دحيم، عن الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغاز، ومن هذا الوجه أخرجه أبو داود ". أما الحاكم، فقد أخرجه في المستدرك 2: 331 من طريق سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي، عن الوليد بن مسلم، عن هشام بن الغاز، ثم قال: " وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه بهذه السياقة. وأكثر هذا المتن مخرج في الصحيحين إلا قوله: إن يوم الحج الأكبر، يوم النحر سنة. فإن الأقاويل فيه عن الصحابة والتابعين رضى الله عنهم، على خلاف بينهم فيه، فمنهم من قال: يوم عرفة، ومنهم من قال: يوم النحر "، ووافقه الذهبي على صحته.(14/124)
16448- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ناقة حمراء مخضرمة، (1) فقال: أتدرون أيَّ يوم يومكم؟ قالوا: يوم النحر! قال: صدقتم، يوم الحج الأكبر. (2)
16449- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني عمرو بن مرة قال، حدثنا مرة قال، حدثنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
16450- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبيه، عن...... قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عليًّا بأربع كلمات حين حج أبو بكر بالناس، فنادى ببراءة: إنه يوم الحج الأكبر، ألا إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة، ألا ولا يطوف بالبيت عريان، ألا ولا يحج بعد العام مشرك، ألا ومن كان بينه وبين محمد عهدٌ فأجله إلى مدته، والله بريء
__________
(1) " المخضرمة "، المقطوع طرف أذنها، وكان أهل الجاهلية يخضرمون نعمهم، فلما جاء الإسلام، أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يخضرموا من غير الموضع الذي يخضرم منه أهل الجاهلية، فكانت خضرمة أهل الإسلام بائنة من خضرمة أهل الجاهلية.
(2) الأثر: 16448 - " رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم "، ربما كان: " عبد الله بن مسعود "، فقد روى الخبر مطولا ابن ماجه في السنن: 1016، رقم: 3057، من طريق إسماعيل بن توبة، عن زافر بن سليمان، عن أبي سنان، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن مسعود ". وسيأتي برقم: 16454، من حديث شعبة، عن عمرو بن مرة، عن رجل من أصحاب رسول الله "، كمثل ما في رواية ابن ماجه، ليس فيه " مرة الطيب ".(14/125)
من المشركين ورسوله. (1)
16451- حدثني يعقوب قال، حدثني هشيم، عن حجاج بن أرطأة، عن عطاء قال: يوم الحج الأكبر، يوم النحر.
16452- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يوم الحج الأكبر) ، قال: يوم النحر، يوم يحلّ فيه المحرم، وينحر فيه البُدْن. وكان ابن عمر يقول: هو يوم النحر. وكان أبي يقوله. وكان ابن عباس يقول: هو يوم عرفة. ولم أسمع أحدًا يقول إنه يوم عرفة إلا ابن عباس. قال ابن زيد: والحج يفوت بفوت يوم النحر، ولا يفوت بفوت يوم عرفة، إن فاته اليوم لم يفته الليل، يقف ما بينه وبين طلوع الفجر.
16453- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: يوم الأضحى، يوم الحج الأكبر.
16454- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال، حدثني رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في غرفتي هذه، حسبته قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر على ناقة حمراء مُخَضرَمة فقال: أتدرون أي يوم هذا؟ هذا يوم النحر، وهذا يوم الحج الأكبر. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (يوم الحج الأكبر) ، حين الحجّ الأكبر ووقته. قال: وذلك أيام الحج كلها، لا يوم بعينه.
__________
(1) الأثر: 16450 - " إسماعيل بن أبي خالد الأحمسي "، مضى مرارا. و " أبوه ": " أبو خالد الأحمسي البجلي "، مترجم في التهذيب، روى عن أبي هريرة، وجابر بن سمرة. ذكره ابن حبان في الثقات. وقد حذفت المطبوعة ما أثبت، وهو " عن. . . "، وبعدها بياض، سقط من المخطوطة اسم الصحابي الذي روى عنه أبو خالد هذا الخبر. ولم أجد الخبر في مكان آخر.
(2) الأثر: 16454 - انظر التعليق على رقم: 16448.(14/126)
* ذكر من قال ذلك:
16455- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يوم الحج الأكبر) ، حين الحجّ، أيامه كلها.
16456- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: الحج الأكبر، أيام منى كلها، ومجامع المشركين حين كانوا بذي المجاز وعكاظ ومَجَنَّة، حين نودي فيهم: أن لا يجتمع المسلمون والمشركون بعد عامهم هذا، وأن لا يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ فعهده إلى مدته.
16457- حدثني الحارث قال، حدثنا أبو عبيد قال، كان سفيان يقول: "يوم الحج"، و"يوم الجمل"، و"يوم صفين"، أي: أيامه كلها.
16458- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: (يوم الحج الأكبر) ، قال: حين الحجّ، أي: أيامه كلها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصحة، قولُ من قال: "يوم الحج الأكبر، يوم النحر"، لتظاهر الأخبار عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن عليًّا نادى بما أرسله به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الرسالة إلى المشركين، وتلا عليهم "براءة"، يوم النحر. هذا، مع الأخبار التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم النحر: أتدرون أيّ يوم هذا؟ هذا يوم الحج الأكبر.
وبعدُ، فإن "اليوم" إنما يضاف إلى المعنى الذي يكون فيه، كقول الناس: "يوم عرفة"، وذلك يوم وقوف الناس بعرفة = و"يوم الأضحى"، وذلك يوم(14/127)
يضحون فيه = "ويوم الفطر"، وذلك يوم يفطرون فيه. وكذلك "يوم الحج"، يوم يحجون فيه، وإنما يحج الناس ويقضون مناسكهم يوم النحر، لأن في ليلة نهار يوم النحر الوقوفُ بعرفة غير فائت إلى طلوع الفجر، (1) وفي صبيحتها يعمل أعمال الحج. فأما يوم عرفة، فإنه وإن كان الوقوف بعرفة، فغير فائت الوقوف به إلى طلوع الفجر من ليلة النحر، والحج كله يوم النحر.
* * *
وأما ما قال مجاهد: من أن "يوم الحج"، إنما هو أيامه كلها، فإن ذلك وإن كان جائزًا في كلام العرب، فليس بالأشهر الأعرف في كلام العرب من معانيه، بل أغلبُ على معنى "اليوم" عندهم أنه من غروب الشمس إلى مثله من الغد. وإنما محمل تأويل كتاب الله على الأشهر الأعرف من كلام من نزل الكتابُ بلسانه.
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله قيل لهذا اليوم: "يوم الحج الأكبر".
فقال بعضهم: سمي بذلك، لأن ذلك كان في سنة اجتمع فيها حجّ المسلمين والمشركين.
* ذكر من قال ذلك:
16459- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن قال: إنما سمي "الحج الأكبر"، من أجل أنه حج أبو بكر الحجة التي حجها، واجتمع فيها المسلمون والمشركون، فلذلك سمي "الحج الأكبر"، ووافق أيضًا عيدَ اليهود والنصارى.
16460- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: " الوقوف بعرفة كان إلى طلوع الفجر "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب المحض.(14/128)
حماد بن سلمة، عن علي بن زيد بن جدعان، عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: يوم الحج الأكبر، كانت حجة الوداع، اجتمع فيه حج المسلمين والنصارى واليهود، ولم يجتمع قبله ولا بعده.
16461- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن قال: قوله: (يوم الحج الأكبر) ، قال: إنما سمي "الحج الأكبر"، لأنه يوم حج فيه أبو بكر، ونُبذت فيه العهود.
* * *
وقال آخرون: "الحج الأكبر"، القِرآنُ، و"الحج الأصغر"، الإفراد.
* ذكر من قال ذلك:
16462- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو بكر النهشلي، عن حماد، عن مجاهد قال: كان يقول: "الحج الأكبر" و"الحج الأصغر"، فالحج الأكبر، القِرآن = و"الحج الأصغر"، إفراد الحج.
* * *
وقال آخرون: "الحج الأكبر"، الحج = و"الحج الأصغر"، العمرة.
* ذكر من قال ذلك:
16463- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: "الحج الأكبر"، الحج، و"الحج الأصغر"، العمرة.
16464-...... قال، حدثنا عبد الأعلى، عن داود، عن عامر قال: قلت له: هذا الحج الأكبر، فما "الحج الأصغر"، قال: العمرة.
16465- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: كان يقال: "الحج الأصغر"، العمرة في رمضان.
16466-...... قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: كان يقال: "الحج الأصغر"، العمرة.(14/129)
16467-...... قال، حدثنا عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي أسماء، عن عبد الله بن شداد قال: "يوم الحج الأكبر"، يوم النحر، و"الحج الأصغر"، العمرة.
16468- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: أن أهل الجاهلية كانوا يسمون "الحج الأصغر"، العمرة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قول من قال: "الحج الأكبر، الحج"، لأنه أكبر من العمرة بزيادة عمله على عملها، فقيل له: "الأكبر"، لذلك. وأما "الأصغر" فالعمرة، لأن عملها أقل من عمل الحج، فلذلك قيل لها: "الأصغر"، لنقصان عملها عن عمله.
* * *
وأما قوله: (أن الله بريء من المشركين ورسوله) ، فإن معناه: أن الله بريء من عهد المشركين ورسوله، بعد هذه الحجة.
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى الكلام: وإعلام من الله ورسوله إلى الناس في يوم الحج الأكبر: أن الله ورسوله من عهد المشركين بريئان، كما:-
16469- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (أن الله بريء من المشركين ورسوله) ، أي: بعد الحجة. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 16469 - سيرة ابن هشام 4: 188، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16356.(14/130)
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (فإن تبتم) ، من كفركم، أيها المشركون، ورجعتم إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له = دون الآلهة والأنداد (1) = فالرجوع إلى ذلك (خير لكم) ، من الإقامة على الشرك في الدنيا والآخرة = (وإن توليتم) ، يقول: وإن أدبرتم عن الإيمان بالله وأبيتم إلا الإقامة على شرككم = (فاعلموا أنكم غير معجزي الله) ، يقول: فأيقنوا أنكم لا تُفِيتون الله بأنفسكم من أن يحلّ بكم عذابه الأليم وعقابه الشديد، على إقامتكم على الكفر، (2) كما فعل بمن قبلكم من أهل الشرك من إنزال نقمه به، (3) وإحلاله العذاب عاجلا بساحته = (وبشر الذين كفروا) ، يقول: واعلم، يا محمد، الذين جحدوا نبوتك وخالفوا أمر ربهم (4) = (بعذاب) ، موجع يحلُّ بهم. (5)
16470- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله: (فإن تبتم) ، قال: آمنتم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة (توب) .
(2) انظر تفسير " الإعجاز " فيما سلف ص 111، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: " كما فعل بذويكم من أهل الشرك "، وفي المخطوطة: " كما فعل برونكم "، ولا أدري ما هو، فآثرت أن أجعلها " بمن قبلكم " لتستقيم الضمائر بعد ذلك.
(4) انظر تفسير " بشر " فيما سلف 13: 418، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .(14/131)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
القول في تأويل قوله: {إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين ورسوله) ،، إلا من عَهْدِ الذين عاهدتم من المشركين، أيها المؤمنون (1) = (ثم لم ينقصوكم شيئا) ، من عهدكم الذي عاهدتموهم = (ولم يظاهروا عليكم أحدًا) ، من عدوكم، فيعينوهم بأنفسهم وأبدانهم، ولا بسلاح ولا خيل ولا رجال (2) = (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) ، يقول: فَفُوا لهم بعهدهم الذي عاهدتموهم عليه، (3) ولا تنصبوا لهم حربًا إلى انقضاء أجل عهدهم الذي بينكم وبينهم = (إن الله يحب المتقين) ، يقول: إن الله يحب من اتقاه بطاعته، بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (4)
16471- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم) ، يقول: إلى أجلهم.
16472- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إلا الذين عاهدتم من المشركين) ،: أي العهد الخاص إلى الأجل المسمى = (ثم لم ينقصوكم شيئا) ، الآية. (5)
__________
(1) انظر تفسير " المعاهدة " فيما سلف ص: 21، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "المظاهرة" فيما سلف 2: 304.
(3) انظر تفسير " الإتمام " فيما سلف 13: 87، تعليق 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .
(5) الأثر: 16472 - سيرة ابن هشام 2: 188، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16469.(14/132)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
16473- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا ولم يظاهروا عليكم أحدا) ، الآية، قال: هم مشركو قريش، الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية، وكان بقي من مدتهم أربعة أشهر بعد يوم النحر. فأمر الله نبيه أن يوفي لهم بعهدهم إلى مدتهم، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده، وأمره بقتالهم حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وأن لا يقبل منهم إلا ذلك.
16474- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: مدة من كان له عهد من المشركين قبل أن تنزل "براءة" أربعة أشهر، من يوم أذن ببراءة إلى عشر من شهر ربيع الآخر، وذلك أربعة أشهر. فإن نقضَ المشركون عهدهم، وظاهروا عدوًّا فلا عهد لهم. وإن وفوْا بعهدهم الذي بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يظاهروا عليه عدوًّا، فقد أمر أن يؤدِّي إليهم عهدهم ويفي به.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، فإذا انقضى ومضى وخرج.
* * *(14/133)
يقال منه: سلخنا شهر كذا نسلَخه سَلْخًا وسُلُوخًا، بمعنى: خرجنا منه. ومنه قولهم: "شاة مسلوخة"، بمعنى: المنزوعة من جلدها، المخرجة منه. (1)
* * *
ويعني بـ "الأشهر الحرم"، ذا القعدة، وذا الحجة، والمحرم. (2)
وإنما أريد في هذا الموضع انسلاخ المحرم وحده، لأن الأذان كان ببراءة يوم الحج الأكبر. فمعلوم أنهم لم يكونوا أجَّلوا الأشهرَ الحرم كلَّها = وقد دللنا على صحة ذلك فيما مضى = ولكنه لما كان متصلا بالشهرين الآخرين قبله الحرامين، وكان هو لهما ثالثًا، وهي كلها متصل بعضها ببعض، قيل: "فإذا انسلخ الأشهر الحرم"، ومعنى الكلام: فإذا انقضت الأشهر الحرم الثلاثة عن الذين لا عهد لهم، أو عن الذين كان لهم عهد فنقضوا عهدهم بمظاهرتهم الأعداءَ على رسول الله وعلى أصحابه، أو كان عهدهم إلى أجل غيره معلوم.
* * *
= (فاقتلوا المشركين) ، يقول: فاقتلوهم = (حيث وجدتموهم) ، يقول: حيث لقيتموهم من الأرض، في الحرم، وغير الحرم في الأشهر الحرم وغير الأشهر الحرم = (وخذوهم) يقول: وأسروهم = (واحصروهم) ، يقول: وامنعوهم من التصرف في بلاد الإسلام ودخول مكة = (واقعدوا لهم كل مرصد) ، يقول: واقعدوا لهم بالطلب لقتلهم أو أسرهم = "كل مرصد"، يعني: كل طريق ومرقَب.
* * *
وهو "مفعل"، من قول القائل: "رصدت فلانًا أرصُده رَصْدًا"، بمعنى: رقبته.
* * *
(فإن تابوا) ، يقول: فإن رجعوا عما نهاهم عليه من الشرك بالله وجحود نبوة نبيه محمد
__________
(1) انظر تفسير " الانسلاخ " فيما سلف 13: 260.
(2) انظر تفسير " الأشهر الحرم " فيما سلف 3: 575 - 579 / 9: 456، 466 / 11: 91، 94.(14/134)
صلى الله عليه وسلم، (1) إلى توحيد الله وإخلاص العبادة له دون الآلهة والأنداد، والإقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم = (وأقاموا الصلاة) ، يقول: وأدّوا ما فرض الله عليهم من الصلاة بحدودها = وأعطوا الزكاة التي أوجبها الله عليهم في أموالهم أهلها (2) = (فخلوا سبيلهم) ، يقول: فدعوهم يتصرفون في أمصاركم، ويدخلون البيت الحرام = (إن الله غفور رحيم) ، لمن تاب من عباده = فأناب إلى طاعته، بعد الذي كان عليه من معصيته، ساتر على ذنبه، رحيم به، أن يعاقبه على ذنوبه السالفة قبل توبته، بعد التوبة. (3)
* * *
وقد ذكرنا اختلاف المختلفين في الذين أجِّلوا إلى انسلاخ الأشهر الحرم.
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16475- حدثنا عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أنس قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا يشرك له شيئًا، فارقها والله عنه راضٍ = قال: وقال أنس: هو دين الله الذي جاءت به الرسل وبلغوه عن ربهم، قبل هَرْج الأحاديث، (4) واختلاف الأهواء. وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما أنزل الله، قال الله: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم) ، قال: توبتهم، خلع الأوثان، وعبادة ربهم، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، ثم قال في آية أخرى: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ
__________
(1) انظر تفسير " التوبة " فيما سلف من فهارس اللغة (تاب) .
(2) انظر تفسير " إقامة الصلاة "، و " إيتاء الزكاة " فيما سلف منم فهارس اللغة (قوم) ، (أتى) .
(3) انظر تفسير " غفور " و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) .
(4) "هرج الأحاديث"، الإكثار فيها، واختلاف المختلفين، واختلاط أصواتهم.(14/135)
وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) ، [سورة التوبة: 11] . (1)
16476- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ، حتى ختم آخر الآية. وكان قتادة يقول: خلوا سبيل من أمركم الله أن تخلوا سبيله، فإنما الناس ثلاثة: رَهْط مسلم عليه الزكاة، ومشرك عليه الجزية، وصاحب حرب يأمن بتجارته في المسلمين إذا أعطى عُشُور ماله.
16477- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، وهي الأربعة التي عددت لك = يعني: عشرين من ذي الحجة، والمحرم، وصفر، وربيعًا الأول، وعشرًا من شهر ربيع الآخر.
* * *
وقال قائلو هذه المقالة: قيل لهذه: "الأشهر الحرم"، لأن الله عز وجل حرّم على المؤمنين فيها دماءَ المشركين، والعَرْضَ لهم إلا بسبيلِ خيرٍ. (2)
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 16475 - " عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى بن هلال الأسدي "، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 11125.
و" عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي "، روى له الجماعة، سلف مرارا، آخرها: 13177. وسائر رجال السند، ثقات، مضوا جميعا، إلا أبا جعفر الرازي، فقد تكلموا فيه، وهو ثقة إن شاء الله
وهذا الخبر رواه ابن ماجه في سننه: 27، رقم: 70، من طريقتين: من طريق نصر بن علي الجهضمي، عن أبي أحمد، عن أبي جعفر الرازي، ثم من طريق أبي حاتم، عن عبيد الله بن موسى العبسي، عن أبي جعفر، بمثله.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 331، 332 عن طريق إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي جعفر الرازي، ولم يقل فيه: " قال أنس: وهو دين الله. . .، بل ساقه مدرجا في الحديث، ثم قال: " وهذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، وافقه الذهبي، إلا أنه استدرك عليه فقال: " صدر الخبر مرفوع، وسائره مدرج فيما أرى "، وصدق الذهبي.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " والعرض لهم "، وهو بمعنى " التعرض ".(14/136)
16478- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن إبراهيم بن أبي بكر: أنه أخبره عن مجاهد وعمرو بن شعيب في قوله: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، أنها الأربعة التي قال الله: (فسيحوا في الأرض) ، قال: هي "الحُرم"، من أجل أنهم أومنوا فيها حتى يسيحوها. (1)
16479- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (براءة من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر) ، قال: ضُرِب لهم أجلُ أربعة أشهر، وتبرأ من كل مشرك. ثم أمر إذا انسلخت تلك الأشهر الحرم = (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) ، لا تتركوهم يضربون في البلاد، ولا يخرجوا لتجارة، (2) ضَيِّقوا عليهم بعدها. ثم أمر بالعفو (3) (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم) ،.
16480- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم) ، يعني: الأربعة التي ضربَ الله لهم أجلا = لأهل العهد العامّ من المشركين = (فاقتلوهم حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد) ، الآية. (4)
* * *
__________
(1) الأثر: 16478 - " إبراهيم بن أبي بكر الأخنسي "، ثقة، مضى برقم: 10758.
(2) في المطبوعة: " ولا يخرجون للتجارة "، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة: " بعد ما أمر بالعفو "، وفي المطبوعة: " بعدها أمر بالعفو "، وصواب السياق يقتضي ما أثبت، وزيادة " ثم ".
(4) الأثر: 16480 - سيرة ابن هشام 3: 189، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16472، قوله: " لأهل العهد العام من المشركين "، من كلام أبي جعفر، استظهارا مما سلف قبله في السيرة، وفي رقم: 16356.(14/137)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه: وإن استأمنك، يا محمد، من المشركين، الذين أمرتك بقتالهم وقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، أحدٌ ليسمع كلام الله منك = وهو القرآن الذي أنزله الله عليه = (فأجره) ، يقول: فأمّنه حتى يسمع كلام الله وتتلوه عليه = (ثم أبلغه مأمنه) ، يقول: ثم رُدَّه بعد سماعه كلام الله إن هو أبَي أن يسلم، ولم يتعظ لما تلوته عليه من كلام الله فيؤمن = "إلى مأمنه"، يقول: إلى حيث يأمن منك وممن في طاعتك، حتى يلحق بداره وقومه من المشركين (1) = (ذلك بأنهم قوم لا يعلمون) ، يقول: تفعل ذلك بهم، من إعطائك إياهم الأمان ليسمعوا القرآن، وردِّك إياهم إذا أبوا الإسلام إلى مأمنهم، من أجل أنهم قوم جهلة لا يفقهون عن الله حجة، ولا يعلمون ما لهم بالإيمان بالله لو آمنوا، وما عليهم من الوِزْر والإثم بتركهم الإيمان بالله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16481- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وإن أحد من المشركين استجارك) ، أي: من هؤلاء الذين أمرتك بقتالهم، (فأجره) . (2)
__________
(1) انظر تفسير " الأمن " فيما سلف 13: 420، تعليق 1، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 16481 - سيرة ابن هشام 4: 189، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16480.(14/138)
16482- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فأجره حتى يسمع كلام الله) ، أما "كلام الله"، فالقرآن.
16483- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) ، قال: إنسان يأتيك فيسمع ما تقول، ويسمع ما أنزل عليك، فهو آمنٌ حتى يأتيك فيسمع كلام الله، وحتى يبلغ مأمنه، حيث جاءه. (1)
16484- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
16485- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: خرج رسوله الله صلى الله عليه وسلم غازيًا، فلقي العدوَّ، وأخرج المسلمون رجلا من المشركين وأشرعوا فيه الأسنّة، فقال الرجل: ارفعوا عني سلاحكم، وأسمعوني كلام الله! فقالوا: تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وتخلع الأنداد، وتتبرأ من اللات والعزى! فقال: فإنّي أشهدكم أني قد فعلت.
16486- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ثم أبلغه مأمنه) ، قال: إن لم يوافقه ما تتلو عليه وتحدثه، (2) فأبلغه. قال: وليس هذا بمنسوخ.
* * *
واختلفت في حكم هذه الآية، وهل هو منسوخ أو هو غير منسوخ؟
فقال بعضهم: هو غير منسوخ. وقد ذكرنا قول من قال ذلك.
* * *
وقال آخرون: هو منسوخ.
__________
(1) في المطبوعة: " حيث جاء "، والصواب من المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: " ما تقول عليه وتحدثه "، وفي المخطوطة فوق " تقول " حرف (ط) دلالة على الخطأ، والصواب ما أثبت.(14/139)
* ذكر من قال ذلك:
16487- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ، نسختها: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) ،. [سورة محمد: 4]
16488-...... قال، حدثنا سفيان، عن السدي، مثله.
* * *
وقال آخرون: بل نسخ قوله: (فاقتلوا المشركين) ، قوله: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ) .
* ذكر من قال ذلك:
16489- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة: (حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ) ، [سورة محمد: 4] نسخها قوله: (فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ،
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قولُ من قال: "ليس ذلك بمنسوخ". وقد دللنا على أن معنى "النسخ"، هو نفي حكم قد كان ثبت بحكم آخر غيره. (1) ولم تصحّ حجةٌ بوجوب حكم الله في المشركين بالقتل بكل حال، ثم نسخه بترك قتلهم على أخذ الفداء، ولا على وجه المنّ عليهم. فإذ كان ذلك كذلك، وكان الفداء والمنّ والقتل لم يزل من حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم من أول حرب حاربهم، (2) وذلك من يوم بدر = كان معلومًا أن معنى الآية: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم، وخذوهم للقتل أو المنِّ أو الفداء، واحصروهم. وإذا كان ذلك معناه، صحّ ما قلنا في ذلك دون غيره.
* * *
__________
(1) انظر ما قاله أبو جعفر في " النسخ " مرارا في فهارس الكتاب.
(2) في المطبوعة: "فكان الفداء"، وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة.(14/140)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
القول في تأويل قوله: {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أنّى يكون أيها المؤمنون بالله ورسوله، وبأيِّ معنى، يكون للمشركين بربهم عهدٌ وذمة عند الله وعند رسوله، يوفّى لهم به، ويتركوا من أجله آمنين يتصرفون في البلاد؟ (1) وإنما معناه: لا عهد لهم، وأن الواجب على المؤمنين قتلهم حيث وجدوهم، إلا الذين أعطوا العهد عند المسجد الحرام منهم، فإن الله جل ثناؤه أمرَ المؤمنين بالوفاء لهم بعهدهم، والاستقامة لهم عليه، ما داموا عليه للمؤمنين مستقيمين.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بقوله: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) .
فقال بعضهم: هم قوم من جذيمة بن الدُّئِل.
* ذكر من قال ذلك:
16490- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، هم بنو جذيمة بن الدُّئِل. (2)
__________
(1) انظر تفسير "العهد" و"المعاهدة" فيما سلف ص: 132، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) هكذا جاء هنا " بنو جذيمة بن الدئل "، وفي رقم: 16491: " جذيمة بكر كنانة ". ولا أعلم في " الدئل بن بكر بن عبد مناة بن كنانة "، " جذيمة " فإن " جذيمة كنانة " إنما هم: " بنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة بن كنانة "، أبناء عمومة " الدئل "، و " بكر بن عبد مناة ".
وبنو جذيمة بن عامر بن عبد مناة، هم أهل الغميصاء، الذين أوقع بهم خالد بن الوليد بعد الفتح، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عليا رضي الله عنه ليتلافى خطأ خالد بن الوليد، فودي لهم الدماء وما أصيب من الأموال، حتى إنه إنه ليدي لهم ميلغة الكلب.
(انظر سيرة ابن هشام 4: 70 - 73) .(14/141)
16491- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن محمد بن عباد بن جعفر قوله: (إلا الذين عاهدتم من المشركين) ، قال: هم جذيمة بكر كنانة. (1)
16492- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (كيف يكون للمشركين) ، الذين كانوا هم وأنتم على العهد العام، (2) بأن لا تخيفوهم ولا يخيفوكم في الحرمة ولا في الشهر الحرام (3) = (عهد عند الله وعند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، وهي قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبية، إلى المدة التي كانت بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش، فلم يكن نَقَضَها إلا هذا الحيُّ من قريش، وبنو الدُّئِل من بكر. فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته = (فما استقاموا لكم) ، الآية. (4)
* * *
وقال آخرون: هم قريش.
__________
(1) الأثر: 16491 - راجع التعليق السالف. وكان في المطبوعة: " بكر، من كنانة "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " كانوا وأنتم "، واثبتت ما في سيرة ابن هشام.
(3) في المطبوعة: " بأن لا تمنعوهم ولا يمنعوكم من الحرم "، غير ما في المخطوطة، لأنه لم يحسن قراءتها. والصواب ما في المخطوطة، مطابقا لما في السيرة.
وقوله: " في الحرمة "، يعني في مكة البلد الحرام، وسائر مناسك الحج، وهي بضم الحاء وسكون الراء. وهي من " الحرمة "، وهو ما لا يحل انتهاكه. وقد قصرت كتب اللغة في إثبات لفظ " الحرمة " بهذا المعنى الذي فسرته، وهو كثير في أخبارهم بالمعنى الذي ذكرت، فأثبته هناك. ومن أجل هذا ظن الناشر أنه حين كتب " من الحرم "، أن " الحرمة " لا تأتي بمعنى " الحرم ".
(4) الأثر: 16492 - سيرة ابن هشام 4: 189، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16481.(14/142)
* ذكر من قال ذلك:
16493- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس قوله: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، هم قريش.
16494- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، يعني: أهل مكة.
16495- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، يقول: هم قوم كان بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم مدة، ولا ينبغي لمشرك أن يدخل المسجد الحرام ولا يعطي المسلمَ الجزيةَ. (فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، يعني: أهل العهد من المشركين.
16496- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، قال: هؤلاء قريش. وقد نسخ هذا الأشهر التي ضربت لهم، وغدروا بهم فلم يستقيموا، كما قال الله. فضرب لهم بعد الفتح أربعة أشهر، يختارون من أمرهم: إما أن يسلموا، وإما أن يلحقوا بأيِّ بلاد شاؤوا. قال: فأسلموا قبل الأربعة الأشهر، وقبل قَتْلٍ. (1)
16497- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم) ، قال: هو يوم الحديبية، (2) قال: فلم يستقيموا، نقضوا عهدهم،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " وقبل وقبل "، ولا معنى له، ولكنه في المخطوطة غير منقوط والصواب إن شاء الله ما أثبت.
(2) كان في المطبوعة: " هم قوم جذيمة "، وهذا كلام فاسد كل الفساد. وفي المخطوطة:
" هم يوم الحديبية "، وصواب قراءته ما أثبت. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب الهدنة بينه وبين قريش عام الحديبية، تواثبت بنو بكر بن عبد مناة فقالت: " نحن في عقد قريش وعهدهم "، وتواثبت خزاعة فقالت: " نحن في عقد محمد وعهده " (سيرة ابن هشام 3: 332) . ثم كان بعد ذلك بمدة أن تظاهرت بنو بكر وقريش على خزاعة، وهم حلف رسول الله، فكان ذلك أحد الأسباب الموجبة المسير إلى مكة وفتحها. وهذا ما دل عليه سائر الخبر.(14/143)
أي أعانوا بني بكرٍ حِلْفِ قريش، على خزاعة حِلْفِ النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
وقال آخرون: هم قوم من خزاعة.
* ذكر من قال ذلك:
16498- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن مجاهد: (إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام) ، قال: أهل العهد من خزاعة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندي، قولُ من قال: هم بعضُ بني بكر من كنانة، ممن كان أقام على عهده، ولم يكن دخل في نقض ما كان بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين قريش يوم الحديبية من العهد مع قريش، حين نقضوه بمعونتهم حلفاءَهم من بني الدُّئِل، على حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة.
* * *
وإنما قلتُ: هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لأن الله أمر نبيه والمؤمنين بإتمام العهد لمن كانوا عاهدوه عند المسجد الحرام، ما استقاموا على عهدهم. وقد بينَّا أن هذه الآيات إنما نادى بها عليّ في سنة تسع من الهجرة، وذلك بعد فتح مكة بسنة، فلم يكن بمكة من قريش ولا خزاعة كافرٌ يومئذ بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهدٌ، فيؤمر بالوفاء له بعهده ما استقام على عهده، لأنّ من كان منهم من ساكني مكة، كان قد نقض العهد وحورب قبل نزول هذه الآيات.
* * *
__________
(1) هو " حلفه "، أي: حليفة، وهو الذي بينه وبينه عهد.(14/144)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
وأما قوله: (إن الله يحب المتقين) ، فإن معناه: إن الله يحب من اتقى الله وراقبه في أداء فرائضه، والوفاء بعهده لمن عاهده، واجتناب معاصيه، وترك الغدر بعهوده لمن عاهده.
* * *
القول في تأويل قوله: {كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلا وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم أو لمن لا عهد له منهم منكم، أيها المؤمنون، عهد وذمة، وهم = (إن يظهروا عليكم) ، يغلبوكم = (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) .
* * *
واكتفى بـ "كيف" دليلا على معنى الكلام، لتقدم ما يراد من المعني بها قبلها. وكذلك تفعل العرب، إذا أعادت الحرف بعد مضيّ معناه، استجازوا حذف الفعل، كما قال الشاعر: (1)
وَخَبَّرْتُمَانِي أَنَّمَا الْمَوْتُ فِي الْقُرَى ... فَكَيْفَ وَهَذِي هَضْبَةٌ وَكَثِيبُ (2)
فحذف الفعل بعد "كيف"، لتقدم ما يراد بعدها قبلها. ومعنى الكلام: فكيف يكون الموت في القرى، وهذي هضبة وكثيب، لا ينجو فيهما منه أحد.
* * *
__________
(1) هو كعب بن سعد الغنوي.
(2) الأصمعيات: 99، طبقات فحول الشعراء: 176، أمالي القالي: 151، جمهرة أشعار العرب: 135، ومعاني القرآن للفراء: 1: 424 وغيرها كثير. وهي من أشهر المرائي وأنبلها. وكان لكعب بن سعد أخ يقال له " أبو المغوار "، فأخذ المدينة وباء، فنصحوه بأن يفر بأخيه من الأرض الوبيئة، لينجو من طوارق الموت، فلما خرج به إلى البادية هلك أخوه، فتفجع عليه تفجع العربي النبيل.(14/145)
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) .
فقال بعضهم، معناه: لا يرقبوا الله فيكم ولا عهدًا.
* ذكر من قال ذلك:
16499- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لا يرقبون في مؤمن إلا) ، [سورة التوبة: 10] ، قال: الله.
16500- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان، عن أبي مجلز في قوله: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، قال: مثل قوله: "جبرائيل"، "ميكائيل"، "إسرافيل"، كأنه يقول: يضيف "جَبْر" و "ميكا" و "إسراف"، إلى "إيل"، (1) يقول: عبد الله = (لا يرقبون في مؤمن إلا) ، كأنه يقول: لا يرقبون الله.
16501- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثني محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا ولا ذمة) ، لا يرقبون الله ولا غيره.
* * *
وقال آخرون: "الإلّ"، القرابة.
* ذكر من قال ذلك:
16502- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، يقول: قرابةً ولا عهدًا. وقوله: (وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال: "الإل"، يعني: القرابة، و"الذمة"، العهد.
16503- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
__________
(1) في المخطوطة: " كأنه يقول: يضاف جبر "، وفي المخطوطة: " كأنه يقول جبر يضف جبر. . . ". وفي المخطوطة أيضا " سراف " بغير ألف.(14/146)
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، "الإلّ"، القرابة، و"الذمة"، العهد، يعني أهل العهد من المشركين، يقول: ذمتهم.
16504- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية وعبدة، عن جويبر، عن الضحاك، "الإل"، القرابة. (1)
16505- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا محمد بن عبد الله، عن سلمة بن كهيل، عن عكرمة، عن ابن عباس: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، قال: "الإلّ"، القرابة، و"الذمة"، العهد.
16506- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان، قال سمعت، الضحاك يقول في قوله: (لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً) ، "الإل"، القرابة، و"الذمة"، الميثاق.
16507- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كيف وإن يظهروا عليكم) ، المشركون = (لا يرقبوا فيكم) ، عهدًا ولا قرابة ولا ميثاقًا.
* * *
وقال آخرون: معناه: الحلف.
* ذكر من قال ذلك:
16508- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال: "الإل"، الحلف، و"الذمة"، العهد.
* * *
وقال آخرون: "الإلّ"، هو العهد، ولكنه كرِّر لما اختلف اللفظان، وإن كان معناهما واحدًا.
__________
(1) الأثر: 16504 - في المطبوعة: " عن حوشب، عن الضحاك "، غير ما في المخطوطة، وهو الصواب وهذا إسناد مضى مثله مرارا.(14/147)
* ذكر من قال ذلك:
16509- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا) ، قال: عهدًا.
16510- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) ، قال: لا يرقبوا فيكم عهدًا ولا ذمة. قال: إحداهما من صاحبتها كهيئة "غفور"، "رحيم"، قال: فالكلمة واحدة، وهي تفترق. قال: والعهد هو "الذمة".
16511- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن خصيف، عن مجاهد (ولا ذمة) ، قال: العهد.
16512- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس، عن خصيف، عن مجاهد: (ولا ذمة) ، قال: "الذمة"، العهد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن هؤلاء المشركين الذين أمر نبيَّه والمؤمنين بقتلهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم، وحصرهم والقعود لهم على كل مرصد: أنهم لو ظهروا على المؤمنين لم يرقبوا فيهم "إلا".
و"الإلّ": اسم يشتمل على معان ثلاثة: وهي العهد، والعقد، والحلف، والقرابة، وهو أيضا بمعنى "الله". فإذْ كانت الكلمة تشمل هذه المعاني الثلاثة، ولم يكن الله خصّ من ذلك معنى دون معنى، فالصواب أن يُعَمّ ذلك كما عمّ بها جل ثناؤه معانيها الثلاثة، فيقال: لا يرقبون في مؤمنٍ اللهَ، ولا قرابةً، ولا عهدًا، ولا ميثاقًا.
ومن الدلالة على أنه يكون بمعنى "القرابة" قول ابن مقبل:
أَفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ... قَطَعُوا الإلَّ وَأَعْرَاقَ الرَّحِمْ (1)
__________
(1) من أبيات مفرقة، لم أجدها مجموعة في مكان، وهذا بيت لم أجده أيضا في مكان آخر.
و" خلوف " جمع " خلف " (بفتح فسكون) ، وهو بقية السوء والأشرار تخلف من سبقها. وفي المخطوطة: " أخلفوا " بالألف، والصواب ما في المطبوعة. و " الأعراق " جمع " عرق " وعرق كل شيء: أصله الذي منه ثبت. ويقال منه: " تداركه أعراق خير، وأعراق شر ".(14/148)
بمعنى: قطعوا القرابة، وقول حسان بن ثابت:
لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُرَيْشٍ ... كَإلِّ السَّقْبِ مِنْ رَأْلِ النَّعامِ (1)
وأما معناه إذا كان بمعنى "العهد"، فقول القائل: (2)
وَجَدْنَاهُمُ كَاذِبًا إلُّهُمْ ... وَذُو الإلِّ وَالْعَهْدِ لا يَكْذِبُ
* * *
وقد زعم بعض من ينسب إلى معرفة كلام العرب من البصريين: أن "الإلّ"، و"العهد"، و"الميثاق"، و"اليمين" واحد = وأن "الذمة" في هذا الموضع، التذمم ممن لا عهد له، والجمع: "ذِمَم". (3)
* * *
وكان ابن إسحاق يقول: عنى بهذه الآية أهل العهد العام.
16513- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (كيف وإن يظهروا عليكم) ، أي: المشركون الذين لا عهد لهم إلى مدة من أهل العهد
__________
(1) ديوانه: 407، واللسان (ألل) ، من أبيات هجا بها أبا سفيان بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، ابن عم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأخوه من الرضاعة، وكان ممن يشبه برسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان أبو سفيان ممن يؤذي النبي صلى الله عليه وسلم، ويهجوه، ويؤذي المسلمين، فانبرى له حسان فأخذ منه كل ما أخذ. ثم أسلم في فتح مكة، وشهد حنينا، وثبت فيمن ثبت مع نبي الله، وظل آخذا بلجام بغلة رسول الله يكفها ورسول الله يركضها إلى الكفار. ثم ظل أبو سفيان بعد ذلك لا يرفع رأسه إلى رسول الله حياء منه.
ولكن كان من هجاء حسان له، بعد البيت: فَإنَّكَ إِن تَمُتَّ إلى قُرَيْشٍ ... كَذَاتِ البَوِّ جائِلَةَ المَرَامِ
وَأَنْتَ مُنَوَّطٌ بِهِمُ هَجِينٌ ... كما نِيطَ السَّرَائِحُ بالخِدَامِ
فَلا تَفْخَر بِقَوْمٍ لَسْتَ مِنْهُمْ ... ولا تَكُ كاللِّئَامِ بَنِي هِشامِ
" السقب "، ولد الناقة ساعة يولد. و " الرأل "، ولد النعام. يقول: ما قرابتك في قريش، إلا كقرابة الفصيل، من ولد النعام! .
(2) لم أعرف قائله.
(3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 253.(14/149)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9)
العام = (لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة) . (1)
* * *
فأما قوله: (يرضونكم بأفواههم) ، فإنه يقول: يعطونكم بألسنتهم من القول، خلاف ما يضمرونه لكم في نفوسهم من العداوة والبغضاء (2) = (وتأبى قلوبهم) ، أي: تأبَى عليهم قلوبهم أن يذعنوا لكم، بتصديق ما يبدونه لكم بألسنتهم. يحذِّر جل ثناؤه أمرَهم المؤمنين، ويشحذهم على قتلهم واجتياحهم حيث وجدوا من أرض الله، وأن لا يقصِّروا في مكروههم بكل ما قدروا عليه = (وأكثرهم فاسقون) ، يقول: وأكثرهم مخالفون عهدَكم، ناقضون له، كافرون بربهم، خارجون عن طاعته. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ابتاع هؤلاء المشركون الذين أمركم الله، أيها المؤمنون، بقتلهم حيث وجدتموهم، بتركهم اتباعَ ما احتج الله به عليهم من حججه، يسيرًا من العوض قليلا من عرض الدنيا. (4)
* * *
وذلك أنهم، فيما ذُكر عنهم، كانوا نقضوا العهد الذي كان بينهم وبين رسول
__________
(1) الأثر: 16513 - سيرة ابن هشام 4: 189، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16492.
(2) انظر تفسير " بدت البغضاء من أفواههم " 7: 145 - 147 / و " يقولون بأفواههم " 7: 378 / و " قالوا آمنا بأفواههم "، 10: 301 - 308.
(3) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف من فهارس اللغة (فسق) .
(4) انظر تفسير " اشترى " فيما سلف 10: 344، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير " الآيات" فيما سلف من فهارس اللغة " (أيي) .
= وتفسير " الثمن القليل " فيما سلف 10: 344، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/150)
لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10)
الله صلى الله عليه وسلم بأكلةٍ أطعمهموها أبو سفيان بن حرب.
16514- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (اشتروا بآيات الله ثمنًا قليلا) ، قال: أبو سفيان بن حرب أطعم حلفاءه، وترك حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
16515- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
وأما قوله: (فصدوا عن سبيله) ، فإن معناه: فمنعوا الناس من الدخول في الإسلام، وحاولوا ردَّ المسلمين عن دينهم (1) = (إنهم ساء ما كانوا يعلمون) ، يقول جل ثناؤه: إن هؤلاء المشركين الذين وصفت صفاتهم، ساء عملهم الذي كانوا يعملون، من اشترائهم الكفرَ بالإيمان، والضلالة بالهدى، وصدهم عن سبيل الله من آمن بالله ورسوله، أو من أراد أن يؤمن. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلا وَلا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لا يتقي هؤلاء المشركون الذين أمرتكم، أيها المؤمنون، بقتلهم حيث وجدتموهم، في قتل مؤمن لو قدورا عليه = (إلا ولا ذمة) ، يقول: فلا تبقوا عليهم، أيها المؤمنون، كما لا يبقون عليكم لو ظهروا عليكم (3) = (وأولئك هم المعتدون) ، يقول: المتجاوزون فيكم إلى ما ليس لهم بالظلم والاعتداء. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الصد " فيما سلف 13: 581، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير " سبيل الله " في سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(2) انظر تفسير " ساء " فيما سلف 13: 275، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الإل " و " الذمة " فيما سلف قريبا ص: 145 - 149.
(4) انظر تفسير " الاعتداء " فيما سلف 13: 182، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/151)
فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: فإن رجع هؤلاء المشركون الذين أمرتكم، أيها المؤمنون، بقتلهم عن كفرهم وشركهم بالله، إلى الإيمان به وبرسوله، وأنابوا إلى طاعته = (وأقاموا الصلاة) ، المكتوبة، فأدّوها بحدودها = (وآتوا الزكاة) ، المفروضة أهلَها (1) = (فإخوانكم في الدين) ، يقول: فهم إخوانكم في الدين الذي أمركم الله به، وهو الإسلام = (ونفصل الآيات) ، يقول: ونبين حجج الله وأدلته على خلقه (2) = (لقوم يعلمون) ، ما بُيِّن لهم، فنشرحها لهم مفصلة، دون الجهال الذين لا يعقلون عن الله بيانه ومحكم آياته.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16516- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) ، يقول: إن تركوا اللات والعزّى، وشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله = (فإخوانكم في الدين ونفصل الآيات لقوم يعلمون) .
16517- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن ليث،
__________
(1) انظر تفسير " التوبة " و " إقامة الصلاة " و " إيتاء الزكاة " في فهارس اللغة (توب) ، (قوم) ، (أتى) .
(2) انظر تفسير " التفصيل " فيما سلف 13: 252، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " الآيات " فيما سلف من فهارس اللغة (أيى) .(14/152)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
عن رجل، عن ابن عباس: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة) ، قال: حرَّمت هذه الآية دماءَ أهل القِبْلة.
16518- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد: افترضت الصلاة والزكاة جميعًا لم يفرَّق بينهما. وقرأ: (فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فإخوانكم في الدين) ، وأبى أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة. وقال: رحم الله أبا بكر، ما كان أفقهه.
16519- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: أمرتم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ومن لم يزك فلا صلاة له.
* * *
وقيل: (فإخوانكم) ، فرفع بضمير: "فهم إخوانكم"، إذ كان قد جرى ذكرهم قبل، كما قال: (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) ، [سورة الأحزاب: 5] ، فهم إخوانكم في الدين. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فإن نقض هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم من قريش، عهودَهم من بعد ما عاقدوكم أن لا يقاتلوكم ولا يظاهروا عليكم أحدًا من أعدائكم (2) = (وطعنوا في دينكم) ، يقول: وقدَحوا في دينكم الإسلام،
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 425.
(2) انظر تفسير " نكث " فيما سلف 13: 73.(14/153)
فثلبوه وعابوه (1) = (فقاتلوا أئمة الكفر) ، يقول: فقاتلوا رؤساء الكفر بالله (2) = (إنهم لا أيمان لهم) ، يقول: إن رؤساء الكفر لا عهد لهم (3) = (لعلهم ينتهون) ، لكي ينتهوا عن الطعن في دينكم والمظاهرة عليكم. (4)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل، على اختلاف بينهم في المعنيِّين بأئمة الكفر.
فقال بعضهم: هم أبو جهل بن هشام، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان بن حرب ونظراؤهم. وكان حذيفة يقول: لم يأت أهلها بعدُ.
* ذكر من قال: هم من سمَّيتُ:
16520- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم) ، إلى: (لعلهم ينتهون) ، يعني أهل العهد من المشركين، سماهم "أئمة الكفر"، وهم كذلك. يقول الله لنبيه: وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم، فقاتلهم، أئمةُ الكفر لا أيمان لهم (5) = (لعلهم ينتهون) .
16521- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم) ، إلى: (ينتهون) ، فكان من أئمة الكفر: أبو جهل بن هشام، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو سفيان، وسهيل بن عمرو، وهم الذين همُّوا بإخراجه.
16522- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر،
__________
(1) في المطبوعة: " فثلموه "، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر تفسير " الإمام " فيما سلف 3: 18.
(3) انظر تفسير " اليمين " فيما سلف 8: 272، 273، 281.
(4) انظر تفسير " الانتهاء " فيما سلف 13: 543، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(5) أثبتت ما في المخطوطة، وهو صواب محض، وصححها في المطبوعة هكذا، كما ظن: " فقاتل أئمة الكفر لأنهم لا أيمان له " فزاد وغير! ! .(14/154)
عن قتادة: (أئمة الكفر) ، أبو سفيان، وأبو جهل، وأمية بن خلف، وسهيل بن عمرو، وعتبة بن ربيعة.
16523- حدثنا ابن وكيع وابن بشار = قال، ابن وكيع، حدثنا غندر = وقال ابن بشار، حدثنا محمد بن جعفر=، عن شعبة، عن أبي بشر، عن مجاهد: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) ، قال: أبو سفيان منهم.
16524- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن نكثوا أيمانهم) ، إلى: (ينتهون) ، هؤلاء قريش. يقول: إن نكثوا عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام، وطعنوا فيه، فقاتلهم. (1)
16525- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (فقاتلوا أئمة الكفر) ، يعني رؤوسَ المشركين، أهلَ مكة.
16526- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فقاتلوا أئمة الكفر) ، أبو سفيان بن حرب، وأمية بن خلف، وعتبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وسهيل بن عمرو، وهم الذين نكثوا عهد الله، وهمُّوا بإخراج الرسول. وليس والله كما تأوَّله أهل الشبهات والبدع والفِرَى على الله وعلى كتابه. (2)
* * *
* ذكر الرواية عن حذيفة بالذي ذكرنا عنه:
16527- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن زيد بن وهب، عن حذيفة: (فقاتلوا أئمة الكفر) ، قال: ما قوتل أهلُ هذه الآية بعدُ. (3)
__________
(1) في المطبوعة: " فقاتلوهم "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) " الفرى " (بكسر ففتح) جمع " فرية "، وهي الكذب. ويعني بذلك الخوارج، فهم يستدلون بهذه الآية على قتال من خالفهم من أهل القبلة، ويستحلون بها دماءهم وأموالهم.
(3) الأثر: 16527 - " زيد بن وهب الهمداني الجهني "، تابعي مخضرم، سمع عمر، وعبد الله، وحذيفة، وأبا الدرداء. روى له الجماعة. مضى برقم: 4222.
وهذا الخبر رواه البخاري مطولا (الفتح 8: 243) ، بغير هذا اللفظ، من طريق محمد بن المثني، عن يحيى بن سعيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن زيد بن وهب قال، كنا عند حذيفة. . . "
وانظر الآثر التالي، والذي بعده.(14/155)
16528- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا حبيب بن حسان، عن زيد بن وهب قال: كنت عند حذيفة، فقرأ هذه الآية: (فقاتلوا أئمة الكفر) ، فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعدُ. (1)
16529- حدثني أبو السائب قال، حدثنا الأعمش، عن زيد بن وهب قال: قرأ حذيفة: (فقاتلوا أئمة الكفر) ، قال: ما قوتل أهل هذه الآية بعدُ. (2)
16530- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، وإسرائيل، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر: (إنهم لا أيمان لهم) ، لا عهد لهم. (3)
16531- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (وإن نكثوا أيمانهم) ، قال: عهدهم.
16532- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وإن نكثوا أيمانهم) ، عهدهم الذي عاهدوا على الإسلام.
16533- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صلة، عن عمار بن ياسر، في قوله: (لا أيمان لهم) ، قال: لا عهد لهم. (4)
__________
(1) الأثر 16528 - مكرر الأثر السالف، وانظر تخريجه هناك. و " حبيب بن حسان "، هو " حبيب بن أبي الأشرس "، وهو " حبيب بن أبي هلال "، منكر الحديث، متروك قال ابن حبان: " منكر الحديث جدا، وكان قد عشق نصرانية، فقيل إنه تنصر وتزوج بها. فأما اختلافه إلى البيعة من أجلها فصحيح ". وقال يحيى بن معين: " كانت له جاريتان نصرانيتان، فكان يذهب معهما إلى البيعة ".
مترجم في الكبير 1 / 2 / 311، وميزان الاعتدال 1: 209، 211، ولسان الميزان 2: 167، 170.
(2) الأثر: 16529 - مكرر الأثرين السالفين.
(3) الأثر: 16530 - " صلة ابن زفر العبسي " تابعي ثقة. روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 322، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 446.
وانظر رقم: 16533، مرفوعا إلى عمار بن ياسر. ورقم: 16534 مرفوعا إلى حذيفة.
(4) الأثر: 16533 - مكرر الأثر رقم 16530، مرفوعا إلى عمار بن ياسر.
و" صلة "، هو " صلة بن زفر العبسي " كما سلف.(14/156)
16534- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن صلة بن زفر، عن حذيفة في قوله: (فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم) ، قال: لا عهد لهم. (1)
* * *
وأما "النكث" فإن أصله النقض، يقال منه: "نكث فلان قُوَى حبله"، إذا نقضها. (2)
* * *
و"الأيمان": جمع "اليمين". (3)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (إنهم لا أيمان لهم) .
فقرأه قرأة الحجاز والعراق وغيرهم: (إِنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ) ، بفتح الألف من "أيمان" بمعنى: لا عهود لهم، على ما قد ذكرنا من قول أهل التأويل فيه.
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: (إِنَّهُمْ لا إِيمَانَ لَهُمْ) ، بكسر الألف، بمعنى: لا إسلام لهم.
* * *
وقد يتوجَّه لقراءته كذلك وجهٌ غير هذا. وذلك أن يكون أراد بقراءته ذلك كذلك: أنهم لا أمان لهم = أي: لا تؤمنوهم، ولكن اقتلوهم حيث وجدتموهم = كأنه أراد المصدر من قول القائل: "آمنته فأنا أومنه إيمانًا". (4)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك، الذي لا أستجيز القراءة بغيره، قراءة من قرأ بفتح "الألف" دون كسرها، لإجماع الحجة من القرأة على
__________
(1) الأثر: 16534 - مكرر الأثرين السالفين مرفوعا إلى حذيفة.
(2) انظر تفسير " النكث " فيما سلف ص: 153، وتعليق: 2 والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " اليمين " فيما سلف ص: 154، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 425.(14/157)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)
القراءة به، ورفض خلافه، ولإجماع أهل التأويل على ما ذكرت من أن تأويله: لا عهد لهم = و"الأيمان" التي هي بمعنى العهد، لا تكون إلا بفتح "الألف"، لأنها جمع "يمين" كانت على عقدٍ كان بين المتوادعين.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين بالله ورسوله، حاضًّا لهم على جهاد أعدائهم من المشركين: (ألا تقاتلون) ، أيها المؤمنون، هؤلاء المشركين الذين نقضوا العهد الذي بينكم وبينهم، وطعنوا في دينكم، وظاهروا عليكم أعداءكم، (1) = (وهموا بإخراج الرسول) ، من بين أظهرهم فاخرجوه (2) = (وهم بدءوكم أول مرة) ، بالقتال، يعني فعلهم ذلك يوم بدر، وقيل: قتالهم حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة = (أتخشونهم) ، يقول: أتخافونهم على أنفسكم فتتركوا قتالهم خوفًا على أنفسكم منهم (3) = (فالله أحق أن تخشوه) ، يقول: فالله أولى بكم أن تخافوا عقوبته بترككم جهادهم، وتحذروا سخطه عليكم، من هؤلاء المشركين الذين لا يملكون لكم ضرًّا ولا نفعًا إلا بإذن الله = (إن كنتم مؤمنين) ، يقول: إن كنتم مقرِّين أن خشية الله لكم أولى من خشية هؤلاء المشركين على أنفسكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " النكث "، ص: 157، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الهم " فيما سلف 9: 199 / 10: 100.
(3) انظر تفسير " الخشية " فيما سلف 10، 344، تعليق: 1، والمراجع هناك.(14/158)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16535- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم) ، من بعد عهدهم = (وهموا بإخراج الرسول) ، يقول: هموا بإخراجه فأخرجوه = (وهم بدأوكم أول مرة) ، بالقتال.
16536- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وهم بدأوكم أول مرة) ، قال: قتال قريش حلفاءَ محمد صلى الله عليه وسلم.
16537- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
16538- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
16539- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أمر الله رسوله بجهاد أهل الشرك ممن نقض من أهل العهد الخاص، (1) ومن كان من أهل العهد العامّ، بعد الأربعة الأشهر التي ضرب لهم أجلا إلا أن يعدُوَ فيها عادٍ منهم، فيقتل بعدائه، (2) ثم قال: (ألا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم وهموا بإخراج الرسول) ، إلى قوله: (والله خبير بما تعملون) . (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة أسقط " الخاص " وأثبتها من ابن هشام.
(2) في المطبوعة: " إلا أن يعودوا فيها على دينهم فيقبل بعد ثم قال "، وهو كلام لا معنى له البتة وفي المخطوطة: " إلا أن يعودوا فيها على دينهم فيقتل بعدائه، فقال "، وقد دخلها تحريف شديد، فقوله: " يعودوا "، هو تحريف: " يعدو " و " على دينهم "، صوابها " عاد منهم "، فأساء كتابتها، والصواب من سيرة ابن هشام.
(3) الأثر: 16539 - سيرة ابن هشام 4: 191، وهو تابع الأثر السالف قديما رقم: 16377.(14/159)
قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14)
القول في تأويل قوله: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: قاتلوا، أيها المؤمنون بالله ورسوله، هؤلاء المشركين الذين نكثوا أيمانهم، ونقضوا عهودهم بينكم وبينهم، وأخرجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم = (يعذبهم الله بأيديكم) ، يقول: يقتلهم الله بأيديكم = (ويخزهم) ، يقول: ويذلهم بالأسر والقهر (1) = (وينصركم عليهم) ، فيعطيكم الظفر عليهم والغلبة = (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، يقول: ويبرئ داء صدور قوم مؤمنين بالله ورسوله، بقتل هؤلاء المشركين بأيديكم، وإذلالكم وقهركم إياهم. وذلك الداء، هو ما كان في قلوبهم عليهم من الموْجِدة بما كانوا ينالونهم به من الأذى والمكروه.
* * *
وقيل: إن الله عنى بقوله: (ويشف صدور قوم مؤمنين) ،: صدورَ خزاعة حلفاءِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن قريشًا نقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم بمعونتهم بكرًا عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
16540- حدثنا محمد بن المثنى وابن وكيع قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في هذه الآية: (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، قال: خزاعة.
16541- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، عن أسباط، عن السدي: (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، قال: خزاعة، يشف صدورهم من بني بكر.
__________
(1) انظر تفسير " الإخزاء " فيما سلف ص: 112، تعليق: 1، والمراجع هناك.(14/160)
وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
16542- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، مثله.
16543- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، خزاعة حلفاء محمد صلى الله عليه وسلم.
16544- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله بن رجاء، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد: (ويشف صدور قوم مؤمنين) ، قال: حلفاء رسول الله صلى الله عليه وسلم من خزاعة.
16545- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) }
قال أبو جعفر: يقول الله تعالى ذكره: ويذهب وَجْدَ قلوب هؤلاء القوم المؤمنين من خزاعة، (1) على هؤلاء القوم الذين نكثوا أيمانهم من المشركين، وغمَّها وكربَها بما فيها من الوجد عليهم، بمعونتهم بكرًا عليهم، (2) كما:-
16546- حدثني ابن وكيع قال، حدثنا عمرو بن محمد العنقزي، عن أسباط، عن السدي: (ويذهب غيظ قلوبهم) ، حين قتلهم بنو بكر، وأعانتهم قريش.
__________
(1) انظر تفسير " الإذهاب " فيما سلف 12: 126 تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الغيظ " فيما سلف 7: 215.(14/161)
16547- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، مثله = إلا أنه قال: وأعانتهم عليهم قريش. (1)
* * *
وأما قوله: (ويتوب الله على من يشاء) ، فإنه خبر مبتدأ، ولذلك رفع، وجُزِم الأحرفُ الثلاثة قبل ذلك على وجه المجازاة، كأنه قال: قاتلوهم، فإنكم إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم، وينصركم عليهم = ثم ابتدأ فقال: (ويتوب الله على من يشاء) ، لأن القتال غير موجب لهم التوبةَ من الله، وهو موجبٌ لهم العذابَ من الله، والخزيَ، وشفاءَ صدور المؤمنين، وذهابَ غيظ قلوبهم، فجزم ذلك شرطًا وجزاءً على القتال، ولم يكن موجبًا القتالُ التوبةَ، فابتُدِئ الخبرُ به ورُفع. (2)
* * *
ومعنى الكلام: ويمنّ الله على من يشاء من عباده الكافرين، فيقبل به إلى التوبة بتوفيقه إياه = (والله عليم) ، بسرائر عباده، ومَنْ هو للتوبة أهلٌ فيتوب عليه، ومَنْ منهم غير أهل لها فيخذله = (حكيم) ، في تصريف عباده من حال كفر إلى حال إيمان بتوفيقه من وفَّقه لذلك (3) = ومن حال إيمان إلى كفر، بخذلانه من خذل منهم عن طاعته وتوحيده، (4) وغير ذلك من أمرهم. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " وأعانهم "، وفي المخطوطة: " وأعلسهم، وصواب قراءتها ما أثبت. "
(2) في المطبوعة: " فابتدأ الحكم به "، والصواب ما أثبت من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " بتوفيق "، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) السياق: " في تصريف عباده من حال كفر. . . ومن حال إيمان ".
(5) انظر تفسير " تاب "، و " عليم "، و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (توب) ، (علم) ، (حكم) .(14/162)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
القول في تأويل قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين الذين أمرهم بقتال هؤلاء المشركين، الذين نقضوا عهدهم الذي بينهم وبينه بقوله: (قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم) ، الآية، حاضًّا على جهادهم: (أم حسبتم) ، أيها المؤمنون (1) = أن يترككم الله بغير محنة يمتحنكم بها، وبغير اختبار يختبركم به، فيعرف الصادقَ منكم في دينه من الكاذب فيه = (ولما يعلم الله الذين جاهدوا) ، يقول: أحسبتم أن تتركوا بغير اختبار يعرف به أهل ولايته المجاهدين منكم في سبيله، من المضيِّعين أمرَ الله في ذلك المفرِّطين (2) = (ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله) ، يقول: ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم، والذين لم يتخذوا من دون الله ولا من دون رسوله ولا من دون المؤمنين = (وليجة) .
* * *
= هو الشيء يدخل في آخر غيره، يقالُ منه: "ولج فلان في كذا يلجِه، فهو وليجة". (3)
* * *
وإنما عنى بها في هذا الموضع: البطانة من المشركين. نهى الله المؤمنين أن يتخذوا من عدوهم من المشركين أولياء، يفشون إليهم أسرارهم = (والله خبير بما تعملون) ، يقول: والله ذو خبرة بما تعملون، (4) من اتخاذكم من دون الله
__________
(1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف 12: 388، تعليق 3: والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 77، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) في المخطوطة: " ولج في فلان كذا "، والذي في المطبوعة أجود.
(4) انظر تفسير " خبير " فيما سلف من فهارس اللغة (خبر) .(14/163)
ودون رسوله والمؤمنين به أولياءَ وبطانةً، بعد ما قد نهاكم عنه، لا يخفى ذلك عليه، ولا غيره من أعمالكم، والله مجازيكم على ذلك، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا.
* * *
وبنحو الذي قلت في معنى "الوليجة"، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16548- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ولا المؤمنين وليجة) ، يتولّجها من الولاية للمشركين.
16549- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن أبي جعفر، عن الربيع: (وليجة) ، قال: دَخَلا.
16550- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله: (أم حسبتم أن تتركوا) ، إلى قوله: (وليجة) ، قال: أبي أن يدعهم دون التمحيص. وقرأ: (" أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ "، وقرأ: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ) ، [سورة آل عمران: 142] ، (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم) ، الآيات كلها، (1) [سورة البقرة 214] أخبرهم أن لا يتركهم حتى يمحِّصهم ويختبرهم. وقرأ: (الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) ، لا يختبرون (وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) ، [سورة العنكبوت: 1 - 3] ، أبى الله إلا أن يمَحِّص.
16551- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (وليجة) ، قال: هو الكفر والنفاق = أو قال أحدَهما.
* * *
__________
(1) صدر هذه الآية، لم يكن في المخطوطة ولا المطبوعة، كان بدؤها " ولم يأتكم. . . ".(14/164)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17)
وقيل: (أم حسبتم) ، ولم يقل: "أحسبتم"، لأنه من الاستفهام المعترض في وسط الكلام، فأدخلت فيه "أم" ليفرَّق بينه وبين الاستفهام المبتدأ. وقد بينت نظائر ذلك في غير موضع من الكتاب. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما ينبغي للمشركين أن يعمروا مساجد الله وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر. يقول: إن المساجد إنما تعمر لعبادة الله فيها، لا للكفر به، فمن كان بالله كافرًا، فليس من شأنه أن يعمُرَ مساجد الله.
* * *
وأما شهادتهم على أنفسهم بالكفر، فإنها كما:-
16552- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله شاهدين على أنفسهم بالكفر) ، يقول: ما ينبغي لهم أن يعمروها. وأما (شاهدين على أنفسهم بالكفر) ، فإن النصراني يسأل: ما أنت؟ فيقول: نصراني = واليهودي، فيقول: يهودي = والصابئ، فيقول: صابئ = والمشرك يقول إذا سألته: ما دينك؟ فيقول: مشرك! لم يكن ليقوله أحدٌ إلا العرب.
16553- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو العنقزي، عن أسباط، عن
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " أم " 2: 492 - 494 / 3: 97 / 4: 287، 288، ثم انظر معاني القرآن للفراء 1: 426.(14/165)
السدي: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) ، قال: يقول: ما كان ينبغي لهم أن يعمروها.
16554- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي: (شاهدين على أنفسهم بالكفر) ، قال: النصراني يقال له: ما أنت؟ فيقول: نصراني = واليهودي يقال له: ما أنت؟ فيقول: يهودي = والصابئ يقال له: ما أنت؟ فيقول: صابئ.
* * *
وقوله: (أولئك حبطت أعمالهم) ، يقول: بطلت وذهبت أجورها، لأنها لم تكن لله بل كانت للشيطان (1) = (وفي النار هم خالدون) ، يقول: ماكثون فيها أبدًا، لا أحياءً ولا أمواتًا. (2)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله) ، فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (مساجد الله) ، على الجماع. (3)
* * *
وقرأ ذلك بعض المكيين والبصريين: (مَسْجِدَ اللهِ) ، على التوحيد، بمعنى المسجد الحرام.
* * *
قال أبو جعفر: وهم جميعًا مجمعون على قراءة قوله: (4) (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ) ، على الجماع، لأنه إذا قرئ كذلك، احتمل معنى الواحد والجماع، لأن العرب
__________
(1) انظر تفسير " حبط " فيما سلف 113: 116، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(3) في المطبوعة: " على الجمع "، وأثبت ما في المخطوطة، في هذا الموضوع ما يليه جميعا.
(4) يعني أبو جعفر أن جميع القرأة مجمعون على قراءة الآية التالية: " إنما يعمر مساجد الله "، على الجماع، بلا خلاف بينهم في ذلك ولذلك زدت تمام الآية، وكان في المطبوعة والمخطوطة: " مساجد الله "، دون: " إنما يعمر ".(14/166)
إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
قد تذهب بالواحد إلى الجماع، وبالجماع إلى الواحد، كقولهم: "عليه ثوب أخلاق". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إنما يعمر مساجد الله) ، المصدِّق بوحدانية الله، المخلص له العبادة = (واليوم الآخر) ، يقول: الذي يصدق ببعث الله الموتى أحياءً من قبورهم يوم القيامة (2) = (وأقام الصلاة) ، المكتوبة، بحدودها = وأدَّى الزكاة الواجبة عليه في ماله إلى من أوجبها الله له (3) = (ولم يخش إلا الله) ، يقول: ولم يرهب عقوبة شيء على معصيته إياه، سوى الله (4) = (فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) ، يقول: فخليق بأولئك الذين هذه صفتهم، أن يكونوا عند الله ممن قد هداه الله للحق وإصابة الصواب. (5)
16555- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) ، يقول: من وحَّد الله، وآمن باليوم الآخر. يقول: أقرّ بما أنزل
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 426، 427.
(2) انظر تفسير " اليوم الآخر " فيما سلف من فهارس اللغة (آخر) .
(3) انظر تفسير " إقامة الصلاة " و " إيتاء الزكاة " فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) ، (أتى) .
(4) انظر تفسير " الخشية " فيما سلف ص: 158، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " عسى " فيما سلف 13: 45، تعليق 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " الاهتداء " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .(14/167)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19)
الله = (وأقام الصلاة) ، يعني الصلوات الخمس = (ولم يخش إلا الله) ، يقول: ثم لم يعبد إلا الله = قال: (فعسى أولئك) ، يقول: إن أولئك هم المفلحون، كقوله لنبيه: (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا) ، [سورة الإسراء: 79] : يقول: إن ربك سيبعثك مقامًا محمودًا، وهي الشفاعة، وكل "عسى"، في القرآن فهي واجبة.
16556- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: ثم ذكر قول قريش: إنَّا أهلُ الحرم، وسُقاة الحاج، وعُمَّار هذا البيت، ولا أحد أفضل منا! فقال: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر) ، أي: إن عمارتكم ليست على ذلك، (إنما يعمر مساجد الله) ، أي: من عمرها بحقها = (من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله) = فأولئك عمارها = (فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين) ، و"عسى" من الله حق. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) }
قال أبو جعفر: وهذا توبيخ من الله تعالى ذكره لقوم افتخروا بالسقاية وسدانة البيت، فأعلمهم جل ثناؤه أن الفخر في الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيله، لا في الذي افتخروا به من السِّدانة والسقاية. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 16556 - سيرة ابن هشام 4: 192، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16539.
(2) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.(14/168)
وبذلك جاءت الآثار وتأويل أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16557- حدثنا أبو الوليد الدمشقي أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثني معاوية بن سلام، عن جده أبي سلام الأسود، عن النعمان بن بشير الأنصاري قال: كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه، فقال رجل منهم: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج! وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام! وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم! فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم = وذلك يوم الجمعة = ولكن إذا صليتُ الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه. قال: ففعل، فأنزل الله تبارك وتعالى: (أجعلتم سقاية الحاج) إلى قوله: (والله لا يهدي القوم الظالمين) . (1)
16558- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
__________
(1) الأثر: 16557 - " أحمد بن عبد الرحمن بن بكار القرشي، الدمشقي "، " أبو الوليد "، شيخ الطبري، مضى مرارا، آخرها رقم: 11416.
و" الوليد بن مسلم القرشي الدمشقي "، سلف مرارا، آخرها رقم: 9071 روى له الجماعة.
و" معاوية بن سلام بن أبي سلام ممطور الحبشي "، " أبو سلام الدمشقي "، روى له الجماعة، روى عن جده أبي سلام. مترجم في التهذيب، والكبير 4 /1 / 335، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 383.
و" أبو سلام الأسود " واسمه " ممطور "، تابعي ثقة، مضى برقم: 15654، 15655.
وهذا الخبر رواه مسلم في صحيحه (13: 25، 26) ، من طريق أبي توبة، عن معاوية بن سلام، عن زيد بن سلام، أنه سمع أبا سلام قال: حدثني النعمان بن بشير، ثم رواه من طريق يحيى بن حسان، عن معاوية، عن زيد، بمثله.
وذكره ابن كثير في تفسيره 4: 131، ونسبه لأبي داود، ولم استطع أن عليه في السنن.
وزاد السيوطي في الدر المنثور 3: 218 نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
وسيأتي بإسناد آخر رقم: 16560، من طريق أخرى مرسلة.(14/169)
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر) ، قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، ونفك العاني! (1) قال الله: (أجعلتم سقاية الحاج) ، إلى قوله: (الظالمين) ، يعني أن ذلك كان في الشرك، ولا أقبل ما كان في الشرك.
16559- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (أجعلتم سقاية الحاج) ، إلى قوله: (الظالمين) ، وذلك أن المشركين قالوا: عمارة بيت الله، وقيام على السقاية، خير ممن آمن وجاهد، وكانوا يفخرون بالحرم ويستكبرون، (2) من أجل أنهم أهله وعُمَّاره. فذكر الله استكبارهم وإعراضهم، فقال لأهل الحرم من المشركين: (قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ) [سورة المؤمنون: 66، 67] ، يعني أنهم يستكبرون بالحرم. وقال: (به سامرًا) ، لأنهم كانوا يسمرون، ويهجرون القرآن والنبيَّ صلى الله عليه وسلم. فخيَّر الإيمان بالله والجهاد مع نبي الله صلى الله عليه وسلم، على عمران المشركين البيتَ وقيامهم على السقاية. ولم يكن ينفعهم عند الله مع الشرك به، أن كانوا يعمرون بيته ويخدمونه. قال الله: (لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين) ، يعني: الذين زعموا أنهم أهل العمارة، فسماهم الله "ظالمين"، بشركهم، فلم تغن عنهم العمارة شيئًا.
16560- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن يحيى بن أبي كثير، عن النعمان بن بشير، أن رجلا قال: ما أبالي أن لا
__________
(1) " العاني "، الأسير.
(2) في المطبوعة: " يستكبرون به "، بزيادة " به "، وليست في المخطوطة، وفيها " يستكثرون " وهو خطأ.(14/170)
أعمل عملا بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج! وقال آخر: ما أبالي أن لا أعمل عملا بعد الإسلام، إلا أن أعمر المسجد الحرامَ! وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل مما قلتم! فزجرهم عمر وقال: لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم = وذلك يوم الجمعة = ولكن إذا صلى الجمعة دخلنا عليه! فنزلت: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) ، إلى قوله: (لا يستوون عند الله) ، (1)
16561- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عمرو، عن الحسن قال: نزلت في علي، وعباس، وعثمان، وشيبة، تكلموا في ذلك، فقال العباس: ما أراني إلا تارك سقايتنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أقيموا على سقايتكم، فإن لكم فيها خيرًا.
16562- ... قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: نزلت في علي، والعباس، تكلما في ذلك.
16563- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرت عن أبي صخر قال: سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: افتخر طلحة بن شيبة من بني عبد الدار، وعباس بن عبد المطلب، وعلي بن أبي طالب، فقال طلحة، أنا صاحب البيت، معي مفتاحه، لو أشاء بِتُّ فيه! وقال عباس: أنا صاحب السقاية والقائم عليها، ولو أشاء بِتُّ في المسجد! وقال علي: ما أدري ما تقولان، لقد صليت إلى القبلة ستة أشهر قبل الناس، وأنا صاحب الجهاد! فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) ، الآية كلها.
16564- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن قال: لما نزلت (أجعلتم سقاية الحاج) ، قال العباس:
__________
(1) الأثر 16560 - " يحيى بن أبي كثير الطافي "، ثقة، روى له الجماعة، روى عن زيد بن سلام بن أبي سلام، وأرسل عن أبي سلام الحبشي وغيره وهذا من مرسله عن النعمان بن بشير، أو عن أبي سلام. وقد مضى برقم: 9189، 11505 - 11507.(14/171)
ما أراني إلا تارك سقايتنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم "أقيموا على سقايتكم فإن لكم فيها خيرًا".
16565- حدثني محمد بن الحسن قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدى: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله) ، قال: افتخر علي، وعباس، وشيبة بن عثمان، فقال للعباس: أنا أفضلكم، أنا أسقي حُجَّاج بيت الله! وقال شيبة: أنا أعمُر مسجد الله! وقال علي: أنا هاجرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأجاهد معه في سبيل الله! فأنزل الله: (الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله) ، إلى: (نعيم مقيم) .
16566- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (أجعلتم سقاية الحاج) ، الآية، أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسرُوا يوم بدر يعيِّرونهم بالشرك، فقال العباس: أما والله لقد كنَّا نَعمُر المسجدَ الحرام، ونفُكُّ العاني، ونحجب البيتَ، ونسقي الحاج! فأنزل الله: (أجعلتم سقاية الحاج) ، الآية.
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: أجعلتم، أيها القوم، سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام، كإيمان من آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله = (لا يستوون) هؤلاء، وأولئك، ولا تعتدل أحوالهما عند الله ومنازلهما، لأن الله تعالى لا يقبل بغير الإيمان به وباليوم الآخر عملا = (والله لا يهدي القوم الظالمين) ، يقول: والله لا يوفّق لصالح الأعمال من كان به كافرًا ولتوحيده جاحدا.
* * *
ووضع الاسم موضع المصدر في قوله: (كمن آمن بالله) ، إذ كان معلومًا(14/172)
الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
معناه، كما قال الشاعر: (1)
لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى ... وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي (2)
فجعل خبر "الفتيان"، "أن"، وهو كما يقال: "إنما السخاء حاتم، والشعر زهير".
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) }
قال أبو جعفر: وهذا قضاءٌ من الله بَيْن فِرَق المفتخرين الذين افتخرَ أحدهم بالسقاية، والآخرُ بالسِّدانة، والآخر بالإيمان بالله والجهاد في سبيله. يقول تعالى ذكره: (الذين أمنوا) بالله، وصدقوا بتوحيده من المشركين = (وهاجروا) دورَ قومهم (3) = (وجاهدوا) المشركين في دين الله (4) = (بأموالهم وأنفسهم أعظم درجة عند الله) ، وأرفع منزلة عنده، (5) من سُقَاة الحاج وعُمَّار المسجد الحرام، وهم بالله مشركون = (وأولئك) ، يقول: وهؤلاء الذين وصفنا صفتهم، أنهم آمنوا وهاجروا وجاهدوا = (هم الفائزون) ، بالجنة، الناجون من النار. (6)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 427، شرح شواهد المغني: 325. و " الندي "، السخي.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 427.
(4) انظر تفسير " هاجر " فيما سلف ص: 81، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " جاهد " فيما سلف ص: 163، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(6) انظر تفسير " الدرجة " فيما سلف: 13: 389، تعليق: 1، والمراجع هناك.(14/173)
يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21)
القول في تأويل قوله: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يبشر هؤلاء الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله (1) = (ربُّهم برحمة منه) ، لهم، أنه قد رحمهم من أن يعذبهم = وبرضوان منه لهم، بأنه قد رضي عنهم بطاعتهم إياه، وأدائهم ما كلَّفهم (2) = (وجنات) ، يقول: وبساتين (3) = (لهم فيها نعيم مقيم) ، لا يزول ولا يبيد، ثابت دائمٌ أبدًا لهم. (4)
16567- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: إذا دخل أهل الجنة الجنة، قال الله سبحانه: أُعطيكم أفضل من هذا، فيقولون: ربَّنا، أيُّ شيء أفضل من هذا؟ قال: رِضْواني. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف 11: 286، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " التبشير " فيما سلف ص: 131 تعليق: 4، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الرضوان " فيما سلف 11: 245، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " النعيم " فيما سلف 10: 461، 462.
= وتفسير " مقيم " فيما سلف 10: 293.
(5) الأثر: 16567 - مضى هذا الخبر بإسناده ولفظه، وسلف تصحيحه برقم: 651 (ج 6: 262) . وكان في المطبوعة: " أبو أحمد الموسوي "، خطأ محض، لم يحسن قراءة المخطوطة.(14/174)
خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23)
القول في تأويل قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره = (خالدين فيها) ، ماكثين فيها، يعنى في الجنات (1) = (أبدا) ، لا نهاية لذلك ولا حدَّ (2) = (إن الله عنده أجر عظيم) ، يقول: إن الله عنده لهؤلاء المؤمنين الذين نعتَهم جل ثناؤه النعتَ الذي ذكر في هذه الآية = (أجر) ، ثواب على طاعتهم لربّهم، وأدائهم ما كلفهم من الأعمال (3) = (عظيم) ، وذلك النعيم الذي وعدَهم أن يعطيهم في الآخرة. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله: لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم بطانة وأصدقاء تفشون إليهم أسرارَكم، وتطلعونهم على عورة الإسلام وأهله، وتؤثرون المُكْثَ بين أظهرهم على الهجرة إلى دار الإسلام (5) = (إن استحبُّوا الكفر على الإيمان) ، يقول: إن اختاروا الكفر بالله، على التصديق به والإقرار
__________
(1) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(2) انظر تفسير " أبدًا " فيما سلف 11: 244، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الأجر " فيما سلف من فهارس اللغة (أجر) .
(4) انظر تفسير " عظيم " فيما سلف من فهارس اللغة (عظم) .
(5) انظر تفسير " ولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .(14/175)
بتوحيده = (ومن يتولهم منكم) ، يقول: ومن يتخذهم منكم بطانة من دون المؤمنين، ويؤثر المقَام معهم على الهجرة إلى رسول الله ودار الإسلام (1) = (فأولئك هم الظالمون) ، يقول: فالذين يفعلون ذلك منكم، هم الذين خالفوا أمرَ الله، فوضعوا الولاية في غير موضعها، وعصوا الله في أمره. (2)
* * *
وقيل: إن ذلك نزل نهيًا من الله المؤمنين عن موالاة أقربائهم الذين لم يهاجروا من أرض الشرك إلى دار الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
16568- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام) ، قال: أمروا بالهجرة، فقال العباس بن عبد المطلب: أنا أسقي الحاج! وقال طلحة أخو بني عبد الدار: أنا صاحب الكعبة، فلا نهاجر! فأنزلت: (لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء) ، إلى قوله: (يأتي الله بأمره) ، بالفتح، في أمره إياهم بالهجرة. هذا كله قبل فتح مكة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(2) انظر تفسير " الظلم " فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) .(14/176)
قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) }
قال أبو جعفر: يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) يا محمد، للمتخلفين عن الهجرة إلى دار الإسلام، المقيمين بدار الشرك: إن كان المقام مع آبائكم وأبنائكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم = وكانت (أموال اقترفتموها) ، يقول: اكتسبتموها (1) = (وتجارة تخشون كسادها) ، بفراقكم بلدَكم = (ومساكن ترضونها) ، فسكنتموها = (أحب إليكم) ، من الهجرة إلى الله ورسوله، من دار الشرك = ومن جهاد في سبيله، يعني: في نصرة دين الله الذي ارتضاه (2) = (فتربصوا) ، يقول: فتنظّروا (3) = (حتى يأتي الله بأمره) ، حتى يأتي الله بفتح مكة = (والله لا يهدي القوم الفاسقين) ، يقول: والله لا يوفّق للخير الخارِجين عن طاعته وفي معصيته. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " الاقتراف " فيما سلف 12: 76: 173، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف من: 173، تعليق: 5، والمراجع هناك.
= وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(3) انظر تفسير " التربص " فيما سلف 9؛ 323: تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .
= وتفسير " الفسق " فيما سلف من فهارس اللغة (فسق)(14/177)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25)
16569- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (حتى يأتي الله بأمره) ، بالفتح.
16570- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (فتربصوا حتى يأتي الله بأمره) ، فتح مكة.
16571- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها) ، يقول: تخشون أن تكسد فتبيعوها = (ومساكن ترضونها) ، قال: هي القصور والمنازل.
16572- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأموال اقترفتموها) ، يقول: أصبتموها.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (لقد نصركم الله) ، أيها المؤمنون = في أماكن حرب توطِّنون فيها أنفسكم على لقاء عدوّكم، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة = (ويوم حنين) ، يقول: وفي يوم حنين أيضًا قد نصركم.
* * *
و (حنين) وادٍ، فيما ذكر، بين مكة والطائف. وأجرِيَ، لأنه مذكر اسم لمذكر. وقد يترك إجراؤه، ويراد به أن يجعل اسمًا للبلدة التي هو بها، (1) ومنه قول الشاعر: (2)
نَصَرُوا نَبِيَّهُمْ وَشَدُّوا أَزْرَهُ ... بِحُنَيْنَ يَوْمَ تَوَاكُلِ الأَبْطَالِ (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 429.
(2) هو حسان بن ثابت.
(3) ديوانه: 334، ومعاني القرآن للفراء 1: 429، واللسان (حنن) ، وسيأتي في التفسير 16: 111 (بولاق) ، وهو بيت مفرد.
وقوله: " تواكل الأبطال "، من قولهم: " تواكل القوم "، إذا اتكل بعضهم على بعض، ولم يعفه في مأزق الحرب. وفي الحديث أنه نهى عن المواكلة، وهو: أن يكل كل امرئ صاحبه إلى نفسه، فلا يعينه فيما ينويه، وهو مفض إلى الضعف والتقاطع وفساد الأمور، أعاذنا الله من كل ذلك.(14/178)
16573- حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: "حُنَين"، واد إلى جنب ذي المجاز. (1)
* * *
(إذ أعجبتكم كثرتكم) ، وكانوا ذلك اليوم، فيما ذكر لنا، اثنى عشر ألفًا.
* * *
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك اليوم: لن نغلب من قِلَّة.
* * *
وقيل: قال ذلك رجل من المسلمين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وهو قول الله: (إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا) ، يقول: فلم تغن عنكم كثرتكم شيئا (2) = (وضاقت عليكم الأرض بما رحبت) ، يقول: وضاقت الأرض بسعتها عليكم.
* * *
و"الباء" ههنا في معنى "في"، ومعناه: وضاقت عليكم الأرض في رحبها، وبرحبها. (3)
* * *
يقال منه: "مكان رحيب"، أي واسع. وإنما سميت الرِّحاب "رحابًا" لسَعَتَها.
* * *
= (ثم وليتم مدبرين) ، عن عدوكم منهزمين = "مدبرين"، يقول: وليتموهم، الأدبار، وذلك الهزيمة. يخبرهم تبارك وتعالى أن النصر بيده ومن عنده، وأنه ليس
__________
(1) الأثر: 16572 - هو جزء من كتاب عروة، إلى عبد الملك بن مروان، الذي خرجته فيما سلف رقم: 16083، ورواه الطبري في تاريخه، في أثناء خبر طويل 2: 125.
(2) انظر تفسير " أغنى " فيما سلف: 13: 445، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 430.(14/179)
بكثرة العدد وشدة البطش، وأنه ينصر القليلَ على الكثير إذا شاء، ويخلِّي الكثيرَ والقليلَ، فَيهْزِم الكثيرُ. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16574- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين) ، حتى بلغ: (وذلك جزاء الكافرين) ، قال: "حنين"، ماء بين مكة والطائف، قاتل عليها نبيُّ الله هوازن وثقيفَ، وعلى هوازن: مالك بن عوف أخو بني نصر، وعلى ثقيف: عبد يا ليل بن عمرو الثقفيّ. قال: وذُكر لنا أنه خرج يومئذ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر ألفًا: عشرة آلافٍ من المهاجرين والأنصار، وألفان من الطُّلقَاء، وذكر لنا أنَّ رجلا قال يومئذٍ: "لن نغلب اليوم بكَثْرة"! قال: وذكر لنا أن الطُّلقَاء انجفَلوا يومئذ بالناس، (2) وجلَوْا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل عن بغلته الشهباء. وذكر لنا أن نبيَّ الله قال: "أي رب، آتني ما وعدتني"! قال: والعباسُ آخذ بلجام بغلةِ رسول الله، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ناد يا معشر الأنصار، ويا معشر المهاجرين! "، فجعل ينادي الأنصار فَخِذًا فخِذًا، ثم قال: "نادِ بأصحاب سورة البقرة! ". (3) قال: فجاء الناس عُنُقًا واحدًا. (4) فالتفت نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، وإذا عصابة من الأنصار، فقال: هل معكم غيركم؟ فقالوا: يا نبي الله، والله لو عمدت إلى بَرْك الغِمادِ من ذي يَمَنٍ
__________
(1) في المطبوعة: " ويخلي القليل فيهزم الكثير "؛ حذف بسوء رأيه فأفسد الكلام. وإنما أراد أن الله يخلي بين الكثير والقليل فلا ينصر القليل، فيهزم الكثير القليل، على ما جرت به العادة من غلبة الكثير على القليل.
(2) " انجفل القوم عن رئيسهم "، ذعروا، فانقلعوا من حوله، ففروا مسرعين.
(3) في المطبوعة: " ثم نادى بأصحاب سورة البقرة "، غير ما في المخطوطة عبثا.
(4) قوله: " عنقا واحدا "، أي: جملة واحدة. ويقال: " جاء القوم عنقا عنقا "، أي: طائفة طائفة. ويقال: " هم عليه عنق "، أي: هم عليه إلب واحد.(14/180)
لكنَّا مَعَك، (1) ثم أنزل الله نصره، وهزَمَ عدوّهم، وتراجع المسلمون. قال: وأخذ رسول الله كفًّا من تراب = أو: قبضةً من حَصْباء = فرمى بها وجوه الكفار، وقال: "شاهت الوجوه! "، فانهزموا. فلما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم، وأتى الجعرَّانة، فقسم بها مغانم حنين، وتألَّف أناسًا من الناس، فيهم أبو سفيان بن حرب، والحارث بن هشام، وسهيل بن عمرو، والأقرع بن حابس، فقالت الأنصار: "أمن الرجل وآثر قومه"! (2) فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قُبَّة له من أَدَم، فقال: "يا معشر الأنصار، ما هذا الذي بلغني؟ ألم تكونوا ضُلالا فهداكم الله، وكنتم أذلَّةً فأعزكم الله، وكنتم وكنتم! " قال: فقال سعد بن عبادة رحمه الله: ائذن لي فأتكلم! قال: تكلم. قال: أما قولك: "كنتم ضلالا فهداكم الله"، فكنا كذلك = "وكنتم أذلة فأعزكم الله"، فقد علمت العربُ ما كان حيٌّ من أحياء العرب أمنعَ لما وراء ظهورهم منَّا! فقال عمر: يا سعد أتدري من تُكلِّم! فقال: نعم أكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو سلكَتِ الأنصارُ واديًا والناس واديًا لسكت وادي الأنصار، ولولا الهجرةُ لكنت امرءًا من الأنصار. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: " الأنصار كَرِشي وَعَيْبتي، فاقبلوا من مُحِسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم". (3) ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الأنصار، أما ترضون أن ينقلب الناس بالإبل والشاء، وتنقلبون برسولِ الله إلى بيوتكم! فقالت الأنصار: رضينا عن الله ورسوله، والله ما قلنا ذلك إلا حرصا على رسول الله صلى الله عليه وسلم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله يصدِّقانكم ويعذِرَانكم". (4)
16575- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن أمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أرضعته أو ظِئْره من بني سعد بن بكر، أتته فسألته سَبَايا يوم حنين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لا أملكهم، وإنما لي منهم نصيبي، ولكن ائتيني غدًا فسلِيني والناس عندي، فإني إذا أعطيتُك نصيبي أعطاك الناس. فجاءت الغد، فبسط لها ثوبًا، فقعدت عليه، ثم سألته، فأعطاها نصيبه. فلما رأى ذلك الناس أعطوْها أنصباءهم.
16576- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ، الآية: أن رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قال: يا رسول الله، لن نغلب اليوم من قِلّة! وأعجبته كثرة الناس، وكانوا اثني عشر ألفًا. فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوُكِلوا إلى كلمة الرجل، فانهزموا عن رسول الله، غير العباس، وأبي سفيان بن الحارث، وأيمن بن أم أيمن، قتل يومئذ بين يديه. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الأنصار؟ أين الذين بايعوا تحت الشجرة؟ فتراجع الناس، فأنزل الله الملائكة بالنصر، فهزموا المشركين يومئذٍ، وذلك قوله: (ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودًا لم تروها) ، الآية.
16577- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري، عن كثير بن عباس بن عبد المطلب، عن أبيه قال: لما كان يوم حنين، التقى المسلمون والمشركون، فولّى المسلمون يومئذٍ. قال: فلقد رأيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وما معه أحدٌ إلا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، آخذًا بغَرْزِ النبي صلى الله عليه وسلم، لا يألو ما أسرع نحو
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير " برك الغماد " رقم: 15720.
(2) في المطبوعة: " حن الرجل إلى قومه "، غير ما في المخطوطة بلا ورع.
(3) " الكرش "، وعاء الطيب، و " العيبة " وعاء من أدم يكون فيه المتاع والثياب.
يقول: الأنصار خاصتي وموضع سري، أثق بهم، وأعتمد عليهم، وهم أنفس ما أحرز.
(4) الأثر: 16574 - رواه ابن سعد مختصرا في الطبقات 4 / 1 / 11، 12.(14/181)
المشركين. (1) قال: فأتيت حتى أخذتُ بلجامه، وهو على بغلةٍ له شهباء، فقال: يا عباس. ناد أصحابَ السمرة! وكنت رجلا صَيِّتًا، (2) فأذَّنت بصوتي الأعلى: أين أصحاب السمرة! فالتفتوا كأنها الإبل إذا حُشِرت إلى أولادها، (3) يقولون: "يا لبيك، يا لبَّيك، يا لبيك"، وأقبل المشركون. فالتقوا هم والمسلمون، وتنادت الأنصار: "يا معشر الأنصار"، ثم قُصرت الدعوة في بني الحارث بن الخزرج، فتنادوا: "يا بني الحارث بن الخزرج"، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على بغلته كالمتطاوِل، إلى قتالهم فقال: "هذا حين حَمِي الوَطِيس"! (4) ثم أخذ بيده من الحصباء فرماهم بها، ثم قال: "انهزموا وربِّ الكعبة، انهزموا ورب الكعبة! " قال: فوالله ما زال أمرُهم مدبرًا، وحدُّهم كليلا حتى هزمهم الله، قال: فلكأنّي أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يركُضُ خلفهم على بَغْلَتِه. (5)
16578- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أنهم أصابوا يومئذٍ ستة آلاف سَبْيٍ، ثم جاء قومهم مسلمين بعد ذلك، فقالوا: يا رسول الله: أنت خيرُ الناس، وأبرُّ الناس، وقد أخذت أبناءنا ونساءنا وأموالَنا! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن عندي من ترونَ! وإن خير القولِ أصدقُه، اختاروا: إما ذَراريكم ونساءكم، وإمّا أموالكم. قالوا: ما كنا نعدِل بالأحساب شيئًا! فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن هؤلاء جاءوني مسلمين، وإنا خيَّرناهم بين الذَّراريّ والأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئًا، فمن كان بيده منهم شيء فطابت نفسُه أن يردَّه فليفعل ذلك، ومن لا فليُعْطِنا، وليكن قَرْضًا علينا حتى نصيب شيئًا، فنعطيه مكانه. فقالوا: يا نبي الله، رضينا وسلَّمنا! فقال: "إني لا أدري لعلَّ منكم من لا يرضَى، فَمُروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك إلينا. فرفعتْ إليه العُرَفاء أن قد رضوا وسلموا. (6)
16579- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا يعلى بن عطاء، عن أبي همام، عن أبي عبد الرحمن = يعني الفهريّ = قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، فلما رَكَدت الشمس، (7) لبستُ لأمَتي، (8) وركبت فرسي، حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في ظِلّ شجرة، فقلت: يا رسول الله، قد حان الرَّواح، فقال: أجل! فنادى: "يا بِلال! يا بلال! " فقام بلال من تحت سمرة، فأقبل كأن ظله ظلُّ طير، فقال: لبيك وسعديك، ونفسي فداؤك، يا رسول الله! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أسرج فرسي! فأخرج سَرْجًا دَفَّتَاه حشْوهما ليفٌ، ليس فيهما أَشَرٌ
__________
(1) " الغرز "، ركاب الدابة. و " لا يألو " لا يقصر.
(2) " الصيت " (على وزن جيد) : البعيد الصوت العاليه.
(3) في المطبوعة: " إذا حنت إلى أولادها "، غير ما في المخطوطة، و " الحشر "، الجمع.
وفي المراجع الأخرى: " لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها ". والذي في طبقات ابن سعد، موافق لما في المطبوعة.
(4) " الوطيس ": حفرة تحتفر، فتوقد فيها النار، فإذا حميت يختبز فيها ويشوى، ويقال لها " الإرة " وهذا من بليغ الكلام، ولم تسمع هذه الكلمة من أحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(5) الأثر: 16577 - " كثير بن العباس بن عبد المطلب "، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولد على عهد رسول الله، ولم يسمع منه، تابعي ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 207، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 153.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده رقم: 1775 من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري. وفصل أخي السيد أحمد تخريجه هناك، ثم رقم: 1776.
ورواه مسلم في صحيحه 12: 113، من طريق يونس، عن الزهري. ثم رواه أيضا (12: 117) من طريق عبد الرزاق، عن معمر، ومن طريق سفيان بن عيينه عن الزهري.
ورواه الحاكم في المستدرك 3: 327، من طريق يونس، عن الزهري.
ورواه ابن سعد في الطبقات 2 / 1 / 112 = 4 / 1 / 11، الثاني طريق محمد بن عبد الله، عن عمه، عن ابن شهاب الزهري، والأول من طريق محمد بن حميد العبدي، عن معمر، عن الزهري.
ثم انظر تاريخ الطبري 3: 128، حديث ابن إسحاق، في سيرة ابن هشام 4: 87، 88.
(6) الأثر: 16578 - رواه ابن سعد في الطبقات 2 / 1 / 112. 87، 88.
(7) " ركدت الشمس "، ثبتت، وذلك حين يقوم قائم الظهيرة.
(8) " اللأمة " الدرع، وسلاح الحرب كله.(14/183)
ولا بَطَرٌ (1) قال: فركب النبي صلى الله عليه وسلم، فصافَفْناهم يومَنا وليلتنا، فلما التقى الخيلان ولَّى المسلمون مدبرين، كما قال الله. فنادى رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا عباد الله، يا معشر المهاجرين! ". قال: ومال النبي صلى الله عليه وسلم عن فرسه، فأخذ حَفْنَةً من تراب فرمى بها وجوههم، فولوا مدبرين = قال يعلى بن عطاء: فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا: ما بقي مِنَّا أحد إلا وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب. (2)
16580- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت البراء وسأله رجل من قيس: فَرَرتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال البراء: لكن رسول الله لم يفرَّ، وكانت هَوازن يومئذ رُماةً، وإنَّا لما حملنا عليهم انكشَفُوا فأكبَبْنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسِّهام، ولقد رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذٌ بلجامها وهو يقول:
أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عبدِ المُطَّلِبْ (3)
__________
(1) " الأشر "، المرح والخيلاء. و " البطر "، الطغيان في النعمة من قلة احتمالها.
(2) الأثر: 16579 - " يعلى بن عطاء العامري الطائفي "، ثقة مضى برقم: 2858، 11527، 11529.
و" أبو همام " هو " عبد الله بن يسار "، روى عن عمرو بن حريث. وأبي عبد الرحمن الفهري. ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 202.
و" أبو عبد الرحمن الفهري "، صحابي مختلف في اسمه، مترجم في الإصابة، والتهذيب، وأسد الغابة 5: 245، 246، والاستيعاب: 676.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 286 من طريق بهز عن حماد بن سلمة، ومن طريق عفان، عن حماد.
ورواه ابن سعد في الطبقات 2 / 1 / 112، 113، من طريق عفان، عن حماد بن سلمة.
ورواه أبو داود في سننه 4: 485، 486، برقم: 5233 من طريق موسى بن إسماعيل، عن حماد مختصرا.
ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب 676، بغير إسناد.
ورواه ابن الأثير في أسد الغابة من طريق موسى بن إسماعيل، عن حماد.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 181، 182، وقال: " رواه البزار، والطبراني، ورجالها ثقات ".
(3) الأثران: 16580، 16581 - خبر البراء بن عازب، رواه مسلم من طرق كثيرة في صحيحه 12: 117 - 121، ورواه من طريق شعبة، عن أبي إسحاق في 12: 121.
ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 24) من طرق.(14/185)
16581- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: سأله رجل: يا أبا عُمارة، وليتم يوم حنين؟ فقال البراء وأنا أسمع: أشهد أن رسول الله لم يولِّ يومئذ دُبُره، وأبو سفيان يقود بغلته. فلما غشيه المشركون نزل فجعل يقول:
أَنَا النَّبِيُّ لا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عبدِ المُطَّلِبْ
فما رُؤي يومئذ أحد من الناس كان أشدَّ منه.
16582- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني جعفر بن سليمان، عن عوف الأعرابي، عن عبد الرحمن مولى أم برثن قال، حدثني رجل كان من المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن وأصحابَ محمد عليه السلام، لم يقفوا لنا حَلَبَ شاةٍ أن كشفناهم، فبينا نحن نسوقهم، إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، فتلقانا رجالٌ بيضٌ حسانُ الوجوه، فقالوا لنا: شاهت الوجوه، ارجعوا"! فرجعنا، وركبنا القوم، فكانت إياها. (1)
__________
(1) الأثر: 16582 - " عبد الرحمن، مولى أم برثن "، هو " عبد الرحمن بن آدم، صاحب السقاية ". وكانت أم برثن تعالج الطيب، فأصابت غلاما لقطة، فربته حتى أدرك، وسمته عبد الرحمن، فكان مما يقال له " عبد الرحمن بن أم برثن "، وإنما قيل له: " عبد الرحمن بن آدم، نسب إلى أبي البشر جميعا، " آدم " عليه السلام، لم يكن يعرف له أب، وهو ثقة، مضى برقم: 7145.
وكان في المخطوطة: " مولى برثن "، وهو خطأ، وانظر الخبر التالي رقم: 19587 من طريق أخرى.
وقوله: " لم يقفوا لنا حلب شاة "، يعني: إلا قدر ما تحلب شاة، كناية من قلة الزمن، كما يقال: " فواق ناقة "، و " الفواق " ما بين الحلبتين إذا قبض الجانب على الضرع ثم أرسله.
قوله: " فكانت إياها "، يعني، فكانت الهزيمة التي تعلم. وفي حديث معاوية بن عطاء:
" كان معاوية رضي الله عنه إذا رفع رأسه من السجدة الأخيرة كانت إياها ". قالوا: اسم " كان " ضمير " السجدة "، و " إياها " الخبر، أي: كانت هي هي، أي: كان يرفع منها وينهض قائما إلى الركعة الأخرى من غير أن يقعد قعدة الاستراحة.(14/186)
16583- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: أمدَّ الله نبيه صلى الله عليه وسلم يوم حنين بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين. قال: ويومئذ سمَّى الله الأنصار "مؤمنين". قال: (فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم يَروها) .
16584- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا) ، قال: كانوا اثني عشر ألفًا.
16585- حدثنا محمد بن يزيد الأدَميّ قال، حدثنا معن بن عيسى، عن سعيد بن السائب الطائفي، عن أبيه، عن يزيد بن عامر قال: لما كانت انكشافةُ المسلمين حين انكشفوا يوم حنين، ضَرَب النبي صلى الله عليه وسلم يَده إلى الأرض، فأخذ منها قبضة من تراب، فأقبل بها على المشركين وهم يتْبعون المسلمين، فحثَاها في وجوهم وقال: "ارجعوا: شاهت الوجوه! ". قال: فانصرفنا، ما يلقى أحدٌ أحدًا إلا وهو يمسَحُ القَذَى عن عينيه. (1)
__________
(1) الأثر: 16585 - " محمد بن يزيد الأدمي الخراز "، شيخ الطبري، ثقة زاهد، مضى برقم: 4894.
و" معن بن عيسى الأشجعي، القزاز "، أحد أئمة الحديث، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 1 / 390، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 277.
و" سعيد بن السائب الطائفي "، ثقة، مضى برقم: 15402.
وأبوه " السائب بن أبي حفص الطائفي "، ثقة، مترجم في الكبير 2 / 2 / 156، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 245.
و" يزيد بن عامر السوائي " " أبو حاجز " صحابي، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 316، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 281.
وهذا الخبر، رواه البخاري في تاريخه 4 / 2 / 316 من طريق إبراهيم بن المنذر، عن معن بن عيسى.
ورواه ابن الأثير في أسد الغابة 5: 115، 116.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (6: 182، 183) ، حديثان، كما جاء هنا في التفسير، وقال في الأول والثاني " رواه الطبراني، ورجاله ثقات ".(14/187)
16586- وبه، عن يزيد بن عامر السُّوائي قال: قيل له: يا أبا حاجز، الرعب الذي ألقى الله في قلوب المشركين، ماذا وجدتم؟ قال: وكان أبو حاجز مع المشركين يوم حنين، فكان يأخذ الحصاة فيرمي بها في الطَّستِ فيطنُّ، ثم يقول: كان في أجوافِنَا مثل هذا! (1)
16587- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثني المعتمر بن سليمان، عن عوف قال، سمعت عبد الرحمن مولى أم برثن = أو: أم برثم = قال، حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين، قال: لما التقينا نحن وأصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين، لم يقوموا لنا حَلَب شاة. قال: فلما كشفناهم جعلنا نسُوقهم في أدبارهم، حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فتلقانا عندَه رجالٌ بيضٌ حسانُ الوجوه فقالوا لنا: "شاهت الوجوه، ارجعوا! "، قال: فانهزمنا، وركِبُوا أكتافنا، فكانت إيَّاهَا. (2)
* * *
__________
(1) 16586 - مكرر الأثر السالف، وتخريجه هناك.
(2) الأثر: 16587 - " عبد الرحمن، مولى أم برثن، أو: أم برثم "، بإبدال النون ميما، مضى في الأثر رقم: 16582، وكان في المطبوعة هنا: " أو: أم مريم "، وهو خطأ محض، وتصرف في رسم المخطوطة، وهي غير منقوطة.(14/188)
ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26)
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ أَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم من بعد ما ضاقت عليكم الأرض بما رحبت، وتوليتكم الأعداءَ أدباركم، كشف الله نازل البلاء عنكم، بإنزاله السكينة = وهي الأمنة والطمأنينة = عليكم.
* * *
= وقد بينا أنها "فعيلة"، من "السكون"، فيما مضى من كتابنا هذا قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
= (وأنزل جنودًا لم تروها) ، وهي الملائكة التي ذكرتُ في الأخبار التي قد مضى ذكرها = (وعذب الذين كفروا) ، يقول: وعذب الله الذين جحدوا وحدانيّته ورسالةَ رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، بالقتل وسَبْي الأهلين والذراريّ، وسلب الأموال والذلة = (وذلك جزاء الكافرين) ، يقول: هذا الذي فعلنا بهم من القتل والسبي = (جزاء الكافرين) ، يقول: هو ثواب أهل جحود وحدانيته ورسالة رسوله. (2)
16588- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وعذب الذين كفروا) ، يقول: قتلهم بالسيف.
16589- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد: (وعذب الذين كفروا) ، قال: بالهزيمة والقتل.
16590- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين) ، قال: من بَقي منهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " السكينة " فيما سلف 3: 66، 70 /5: 326 - 330.
(2) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) .(14/189)
ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ثم يتفضل الله بتوفيقه للتوبة والإنابة إليه، من بعد عذابه الذي به عذَّب من هلك منهم قتلا بالسيف = (على من يشاء) ، أي يتوب الله على من يشاء من الأحياء، يُقْبِل به إلى طاعته = (والله غفور) ، لذنوب من أناب وتاب إليه منهم ومن غيرهم منها = (رحيم) ، بهم، فلا يعذبهم بعد توبتهم، ولا يؤاخذهم بها بعد إنابتهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله وأقرُّوا بوحدانيته: ما المشركون إلا نَجَس.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى "النجس"، وما السبب الذي من أجله سمَّاهم بذلك.
فقال بعضهم: سماهم بذلك، لأنهم يجنبون فلا يغتسلون، فقال: هم نجس،
__________
(1) انظر تفسير " التوبة "، و " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (توب) ، (غفر) ، (رحم) .(14/190)
ولا يقربوا المسجد الحرام = لأن الجنب لا ينبغي له أن يدخل المسجد.
* ذكر من قال ذلك:
16591- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، في قوله: (إنما المشركون نجس) ،: لا أعلم قتادة إلا قال: "النجس"، الجنابة.
16592- وبه، عن معمر قال: وبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي حذيفة، وأخذ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بيده، فقال حذيفة: يا رسول الله، إني جُنُب! فقال: إنّ المؤمن لا ينجُس.
16593- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، في قوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس) ، أي: أجْنَابٌ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ما المشركون إلا رِجْسُ خنزير أو كلب.
وهذا قولٌ رُوِي عن ابن عباس من وجه غير حميد، فكرهنا ذكرَه.
* * *
وقوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، يقول للمؤمنين: فلا تدعوهم أن يقربوا المسجد الحرام بدخولهم الحرَم. وإنما عنى بذلك منعَهم من دخول الحرم، لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم فيه نحو الذي قلناه.
* ذكر من قال ذلك:
16594- حدثنا بشر، وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال: قال عطاء: الحرمُ كله قبلةٌ ومسجد. قال: (فلا يقربوا المسجد الحرام) ، لم يعن المسجدَ وحده، إنما عنى مكة والحرم. قال ذلك غير مرَّةٍ.(14/191)
وذكر عن عمر بن عبد العزيز في ذلك ما:-
16595- حدثنا عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثني الوليد بن مسلم قال، حدثنا أبو عمرو: أن عمر بن عبد العزيز كتب: "أنِ آمنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين"، وأَتْبَعَ في نهيه قولَ الله: (إنما المشركون نجس) .
16596- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن الحسن: (إنما المشركون نجس) ، قال: لا تصافحوهم، فمن صافحَهم فليتوضَّأ.
* * *
وأما قوله: (بعد عامهم هذا) ، فإنه يعني: بعد العام الذي نادَى فيه علي رحمة الله عليه ببراءة، وذلك عام حجَّ بالناس أبو بكر، وهي سنة تسع من الهجرة، كما:-
16597- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر، ونادى عليّ رحمة الله عليهما بالأذان، وذلك لتسع سنين مضين من هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وحجَّ نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل حجّة الوداع، لم يحجَّ قبلها ولا بعدها.
* * *
وقوله: (وإن خفتم عيلة) ، يقول للمؤمنين: وإن خفتم فاقَةً وفقرًا، بمنع المشركين من أن يقربوا المسجد الحرام = (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) .
* * *
يقال منه: عال يَعِيلُ عَيْلَةً وعُيُولا ومنه قول الشاعر: (1)
وَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتَى غِنَاه ... وَمَا يَدْرِي الغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ (2)
__________
(1) هو أحيحة بن الجلاح.
(2) سلف البيت وتخريجه وشرحه، فيما سلف 7: 459، وانظر مجاز القرآن 1: 255.(14/192)
وقد حكي عن بعضهم أنّ من العرب من يقولُ في الفاقة: "عال يعول" بالواو. (1)
* * *
وذكر عن عمرو بن فائد أنه كان تأوّل قوله (2) (وإن خفتم عيلة) ، بمعنى: وإذ خفتم. ويقول: كان القوم قد خافُوا، وذلك نحو قول القائل لأبيه: "إن كنت أبي فأكرمني"، بمعنى: إذ كنت أبي.
* * *
وإنما قيل ذلك لهم، لأن المؤمنين خافوا بانقطاع المشركين عن دخول الحرم، انقطاع تجاراتهم، ودخول ضرر عليهم بانقطاع ذلك. وأمَّنهم الله من العيلة، وعوَّضهم مما كانوا يكرهون انقطاعه عنهم، ما هو خير لهم منه، وهو الجزية، فقال لهم: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) ، إلى: (صَاغِرُون) .
* * *
وقال قوم: بإدرار المطر عليهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16598- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال: لما نَفَى الله المشركين عن المسجد الحرام، ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحَزَن، قال: من أين تأكلون، وقد نُفِيَ المشركون وانقطعت عنهم العيرُ! (3) فقال الله: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من
__________
(1) انظر تفسير " عال " فيما سلف 7: 548، 549.
(2) " عمرو بن فائد "، أبو علي الأسواري، وردت عنه الرواية في حروف من القرآن.
مترجم في طبقات القراء 1: 602 رقم: 2462، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 253، ولسان الميزان 4: 372، وميزان الاعتدال، 2: 298، وهو في الحديث ليس بشيء، بل هو منكر الحديث، متروك.
(3) في المطبوعة: " وانقطعت عنكم " وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.(14/193)
فضله إن شاء) ، فأمرهم بقتال أهل الكتاب، وأغناهم من فضله.
16599- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال: كان المشركون يجيئون إلى البيت، ويجيئون معهم بالطعام، وَيتَّجرون فيه. فلما نُهُوا أن يأتوا البيت، قال المسلمون: من أين لنا طعام؟ فأنزل الله: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) ، فأنزل عليهم المطر، وكثر خيرهم، حتى ذهب عنهم المشركون.
16600- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن علي بن صالح، عن سماك، عن عكرمة: (إنما المشركون نجس) ، الآية = ثم ذكر نحو حديث هنّاد، عن أبي الأحوص.
16601- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن واقد، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: مَنْ يأتينا بطعامنا، ومن يأتينا بالمتاع؟ فنزلت: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) . (1)
16602- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن واقد مولى زيد بن خليدة، عن سعيد بن جبير، قال: كان المشركون يقدَمون عليهم بالتجارة، فنزلت هذه الآية: (إنما المشركون نجس) ، إلى قوله: (عيلة) ، قال: الفقر = (فسوف يغنيكم الله من فضله) .
16603- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن أبيه، عن عطية العوفي قال: قال المسلمون: قد كنّا نصيب من تجارتهم وبِياعاتهم،
__________
(1) الأثران: 16601، 16602 - " واقد، ولي زيد بن خليدة "، ثقة، سلف برقم: 11450.(14/194)
فنزلت: (إنما المشركون نجس) ، إلى قوله: (من فضله) .
16604- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي =أحسِبه قال: أنبأنا أبو جعفر، عن عطية، قال: لما قيل: ولا يحج بعد العام مشرك! قالوا: قد كنا نصيب من بياعاتهم في الموسم. قال: فنزلت: (يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، يعني: بما فاتهم من بياعاتهم.
16605- حدثنا أبو كريب وابن وكيع، قالا حدثنا ابن يمان، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، قال: الجزية.
16606- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان وأبو معاوية، عن أبي سنان، عن ثابت، عن الضحاك، قال: أخرج المشركون من مكة، فشقَّ ذلك على المسلمين وقالوا: كنا نُصيب منهم التجارة والميرة. فأنزل الله: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ،
16607- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، كان ناس من المسلمين يتألَّفون العير; فلما نزلت "براءة" بقتال المشركين حيثما ثقفوا، وأن يقعدُوا لهم كل مرصد، قذف الشيطان في قلوب المؤمنين: فمن أين تعيشون وقد أمرتم بقتال أهل العير؟ فعلم الله من ذلك ما علم، فقال: أطيعوني، وامضوا لأمري، وأطيعوا رسولي، فإني سوف أغنيكم من فضلي. فتوكل لهم الله بذلك.
16608- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (إنما المشركون نجس) ، إلى قوله: (فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء) ، قال: قال المؤمنون: كنا نصيب(14/195)
من متاجر المشركين! فوعدهم الله أن يغنيهم من فضله، عوضًا لهم بأن لا يقربوهم المسجد الحرام. فهذه الآية مع أول "براءة" في القراءة، ومع آخرها في التأويل (1) (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، إلى قوله: (عن يد وهم صاغرون) ، حين أمر محمد وأصحابه بغزْوة تبوك.
16609- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
16609م- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، شقَّ ذلك على المسلمين، وكانوا يأتون بِبَيْعَات ينتفع بذلك المسلمون. (2) فأنزل الله تعالى ذكره: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، فأغناهم بهذا الخراج، الجزيةَ الجاريةَ عليهم، يأخذونها شهرًا شهرًا، عامًا عامًا، فليس لأحد من المشركين أن يقرب المسجد الحرام بعد عامهم بحالٍ، إلا صاحب الجزية، أو عبد رجلٍ من المسلمين.
16610- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرنا أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في قوله: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، إلا أن يكون عبدًا أو أحدًا من أهل الذمّة.
16611-...... قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال: إلا صاحب جزية، أو عبد لرجلٍ من المسلمين.
16612- حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة: " من أول براءة. . . ومن آخرها "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(2) في المطبوعة: " ببياعات "، وأثبت ما في المخطوطة.(14/196)
عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج. قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول في هذه الآية: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام) ، إلا أن يكون عبدًا، أو أحدًا من أهل الجزية.
16613- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، قال: أغناهم الله بالجزية الجارية شهرًا فشهرًا، وعامًا فعامًا.
16614- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عباد بن العوام، عن الحجاج، عن أبي الزبير، عن جابر: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا) ، قال: لا يقرب المسجد الحرام بعد عامه هذا مشركٌ ولا ذميٌّ.
16615- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة) ، وذلك أن الناس قالوا: لتقطعنَّ عنا الأسواق، ولتهلكن التجارة، وليذهبنّ ما كنا نصيب فيها من المَرافق! (1) فقال الله عز وجل: (وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله) ، من وجه غير ذلك = (إن شاء) ، إلى قوله: (وهم صاغرون) ، ففي هذا عوَض مما تخوَّفتم من قطع تلك الأسواق، فعوَّضهم الله بما قطع عنهم من أمر الشرك، ما أعطَاهم من أعْناق أهلِ الكتاب من الجزية. (2)
* * *
وأما قوله: (إن الله عليم حكيم) ، فإن معناه: (إن الله عليم) ، بما حدثتكم به أنفسكم، أيها المؤمنون، من خوف العيلة عليها بمنع المشركين من أن يقربوا
__________
(1) في المطبوعة: " فنزل: وإن خفتم "، ولم تكن " فنزل " في المخطوطة، سها الكاتب وتجاوز ما كان ينقل منه، وأثبته من نص ابن إسحاق في سيرة ابن هشام.
(2) الأثر: 16615 - سيرة ابن هشام 4: 192، 193، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16556.(14/197)
قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
المسجد الحرام، وغير ذلك من مصالح عباده = (حكيم) ، في تدبيره إياهم، وتدبير جميع خلقه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله صلى الله عليه وسلم: (قاتلوا) ، أيها المؤمنون، القومَ = (الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر) ، يقول: ولا يصدّقون بجنة ولا نار (2) = (ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق) ، يقول: ولا يطيعون الله طاعة الحقِّ، يعني: أنهم لا يطيعون طاعةَ أهل الإسلام (3) = (من الذين أوتوا الكتاب) ، وهم اليهود والنصارَى.
* * *
وكل مطيع ملكًا وذا سلطانٍ، فهو دائنٌ له. يقال منه: دان فلان لفلان فهو يدين له، دينًا"، قال زهير:
لَئِنَ حَلَلْتَ بِجَوٍّ فِي بَنِي أَسَدٍ ... فِي دِينِ عَمْرٍو وَحَالَتْ بَيْنَنا فَدَكُ (4)
__________
(1) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) ، (حكم) .
(2) انظر تفسير " اليوم الآخر " فيما سلف من فهارس اللغة (أخر) .
(3) انظر تفسير " الدين " فيما سلف 1: 155 /3: 571 / 9: 522.
(4) ديوانه: 183، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 286، من قصيدة من جيد الكلام، أنذر بها الحارث بن ورقاء الصيداوي، من بني أسد، وكان أغار على بني عبد الله بن غطفان، فغنم، واستاق إبل زهير، وراعيه يسارا: يا حَارِ، لا أُرْمَيَنْ مِنْكُمْ بِدَاهِيَةٍ ... لَمْ يَلْقَهَا سُوقَةٌ قَبْلِي ولا مَلِكُ
فَارْدُدْ يَسَارًا، وَلا تَعْنُفْ عَلَيَّ وَلا ... تَمْعَكْ بِعِرْضِكَ إِن الغَادِرَ المَعِكَ
وَلا تَكُونَنْ كَأَقْوَامٍ عَلِمْتَهُمُ ... يَلْوُونَ مَا عَنْدَهُمْ حَتَّى إذَا نَهِكُوا
طَابْتْ نُفُوسُهُمُ عَنْ حَقِّ خَصْمِهِمْ ... مَخَافَهُ الشَّرِّ، فَارْتَدُّوا لِمَا تَرَكُوا
تَعَلَّمَنْ: هَا، لَعَمْرُ اللهِ ذَا ; قَسَمًا ... فَاقْصِدْ بِذَرْعِكَ، وانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكَ
لَئِنْ حَلَلْتَ. . . . . .. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
لَيَأتِيَنَّكَ مِنِّي مَنْطِقٌ قَذَعٌ ... بَاقٍ، كَمَا دَنَّسَ القُبْطِيَّةَ الوَدَكُ
و" جو " اسم لمواضع كثيرة في الجزيرة، وهذا " الجو " هنا في ديار بني أسد. و " عمرو "، هو: " عمرو بن هند بن المنذر بن ماء السماء "، و " فدك " قرية مشهورة بالحجاز، لها ذكر في السير كثير.(14/198)
وقوله: (من الذين أوتوا الكتاب) ، يعني: الذين أعطوا كتاب الله، (1) وهم أهل التوراة والإنجيل = (حتى يعطوا الجزية) .
* * *
و"الجزية": الفِعْلة من: "جزى فلان فلانًا ما عليه"، إذا قضاه، "يجزيه"، و"الجِزْية" مثل "القِعْدة" و"الجِلْسة".
* * *
ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراجَ عن رقابهم، الذي يبذلونه للمسلمين دَفْعًا عنها.
* * *
وأما قوله: (عن يد) ، فإنه يعني: من يده إلى يد من يدفعه إليه.
* * *
وكذلك تقول العرب لكل معطٍ قاهرًا له، شيئًا طائعًا له أو كارهًا: "أعطاه عن يده، وعن يد". وذلك نظير قولهم: "كلمته فمًا لفمٍ"، و"لقيته كَفَّةً
__________
(1) انظر تفسير " الإيتاء " فيما سلف من فهارس اللغة (أتى) .(14/199)
لكَفَّةٍ، (1) وكذلك: "أعطيته عن يدٍ ليد".
* * *
وأما قوله: (وهم صاغرون) ، فإن معناه: وهم أذلاء مقهورون.
* * *
يقال للذليل الحقير: "صاغر". (2)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمره بحرب الروم، فغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزولها غزوة تبوك.
* ذكر من قال ذلك:
16616- حدثني محمد بن عروة قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر ولا يحرّمون ما حرّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، حين أمر محمدٌ وأصحابه بغزوة تبوك.
16617- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى "الصغار"، الذي عناه الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم: أن يعطيها وهو قائمٌ، والآخذ جالسٌ.
* ذكر من قال ذلك:
16618- حدثني عبد الرحمن بن بشر النيسابوري قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعد، عن عكرمة: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، قال:
__________
(1) يقال: " لقيته كفة كفة " (بفتح الكاف، ونصب التاء) ، إذا استقبلته مواجهته، كأن كل واحد منهما قد كف صاحبه عن مجاوزته إلى غيره ومنعه. وانظر تفصيل ذلك في مادته في لسان العرب (كفف) .
(2) انظر تفسير " الصغار " فيما سلف 13: 22، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/200)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30)
أي تأخذها وأنت جالس، وهو قائم. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) ، عن أنفسهم، بأيديهم يمشون بها، وهم كارهون، وذلك قولٌ رُوي عن ابن عباس، من وجهٍ فيه نظر.
* * *
وقال آخرون: إعطاؤهم إياها، هو الصغار.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) }
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في القائل: (عزير ابن الله) .
فقال بعضهم: كان ذلك رجلا واحدًا، هو فِنْحاص.
* ذكر من قال ذلك:
16619- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سمعت عبد الله بن عبيد بن عمير قوله: (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، قال: قالها رجل واحد، قالوا: إن اسمه فنحاص. وقالوا: هو الذي قال: (إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ) ، [سورة آل عمران: 181] .
__________
(1) الأثر: 16618 - " عبد الرحمن بن بشر بن الحكم النيسابوري "، شيخ الطبري، ثقة، من شيوخ البخاري، مضى برقم: 13805.
وفي المطبوعة: " عن ابن سعد "، وهو خطأ، خالف ما في المخطوطة وانظر " أبا سعد " في فهرس الرجال.(14/201)
وقال آخرون: بل كان ذلك قول جماعة منهم.
* ذكر من قال ذلك:
16620- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم سَلامُ بن مشكم، ونعمانُ بن أوفى، (1) وشأسُ بن قيس، ومالك بن الصِّيف، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قِبْلتنا، وأنت لا تزعم أنّ عزيرًا ابن الله؟ فأنزل في ذلك من قولهم: (وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله) ، إلى: (أنى يؤفكون) . (2)
16621- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، وإنما قالوا: هو ابن الله من أجل أن عُزَيرًا كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم، فعملوا بها ما شاء الله أن يعملوا، (3) ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التّابوت فيهم. فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء، رفع الله عنهم التابوت، وأنساهُم التوراة، ونسخها من صدورهم، وأرسل الله عليهم مرضًا، فاستطلقت بطونهم حتى جعل الرجل يمشي كبدُه، حتى نسوا التوراة، ونسخت من صدورهم، وفيهم عزير. فمكثوا ما شاء الله أن يمكثُوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم، وكان عزير قبلُ من علمائهم، فدعا عزيرٌ الله، وابتهل إليه أن يردّ إليه الذي نسخَ من صدره من التوراة. فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله، نزل نور من الله فدخل جَوْفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من
__________
(1) في سيرة ابن هشام: " ونعمان بن أوفى أبو أنس، ومحمود بن دحية، وشاس. . . ".
(2) الأثر: 16620 - سيرة ابن هشام 2: 219.
(3) في المطبوعة: " يعملون بها ما شاء الله "، وأثبت ما في المخطوطة.(14/202)
التوراة، فأذّن في قومه فقال: يا قوم، قد آتاني الله التوراةَ وردَّها إليَّ! فعلقَ بهم يعلمهم، (1) فمكثوا ما شاء الله وهو يعلمهم. ثم إنَّ التابوت نزل بعد ذلك وبعد ذهابه منهم، فلما رأوا التابوت عرَضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلِّمهم، فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله.
16622- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (وقالت اليهود عزير ابن الله) ، إنما قالت ذلك، لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم، وأخذوا التوراة، وذهب علماؤهم الذين بقُوا، وقد دفنوا كتب التوراة في الجبال. (2) وكان عزير غلامًا يتعبَّد في رءوس الجبال، لا ينزل إلا يوم عيد. فجعل الغلام يبكي ويقول: "ربِّ تركتَ بني إسرائيل بغير عالم"! فلم يزل يبكي حتى سقطت أشفارُ عينيه، فنزل مرة إلى العيد، فلما رجع إذا هو بامرأة قد مثلتْ له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يا مطعماه، ويا كاسِياه! فقال لها: ويحك، من كان يطعمك أو يكسوك أو يسقيك أو ينفعك قبل هذا الرجل؟ (3) قالت: الله! قال: فإن الله حي لم يمت! قالت: يا عزير، فمن كان يعلِّم العلماء قبلَ بني إسرائيل؟ قال: الله! قالت: فلم تبكي عليهم؟ فلما عرف أنه قد خُصِم، (4) ولَّى مدبرًا، فدعته فقالت: يا عزير، إذا أصبحت غدًا فأت نهر كذا وكذا فاغتسل فيه، ثم اخرج فصلِّ ركعتين،
__________
(1) في المطبوعة: " فعلق يعلمهم "، وفي المخطوطة "فعلق به يعلمهم، ورجحت صواب ما أثبت. يقال: " علقت أفعل كذا " بمعنى: طفقت. من قولهم: " علق بالشيء "، إذا لزمه، قال يزيد بن الطثرية: عَلِقْنَ حَوْلِي يَسْأَلْنَ القِرَى أُصُلا ... وليسَ يَرْضَيْنَ مِنِّي بالمعَاذِيرِ
بمعنى: طفقن (انظر طبقات فحول الشعراء: 587، تعليق: 4) .
(2) في المطبوعة: " فدفنوا "، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة، جعلها جميعًا بالواو على العطف، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) " خصم "، أي: غلب في الخصام والحجاج.(14/203)
فإنه يأتيك شيخٌ، فما أعطاك فخُذْه. فلما أصبح انطلق عزير إلى ذلك النهر، فاغتسل فيه، ثم خرج فصلى ركعتين. فجاءه الشيخُ فقال: افتح فمك! ففتح فمه، فألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة، مجتمع كهيئة القوارير، ثلاث مرار. (1) فرجع عزير وهو من أعلم الناس بالتوراة، فقال: يا بني إسرائيل، إني قد جئتكم بالتوراة! فقالوا: يا عزير، ما كنت كذَّابًا! فعمد فربط على كل إصبع له قلمًا، وكتب بأصابعه كلها، فكتب التوراة كلّها. فلما رجعَ العلماء، أخبروا بشأن عزير، فاستخرج أولئك العلماء كُتبهم التي كانوا دفنوها من التوراة في الجبال، وكانت في خوابٍ مدفونة، (2) فعارضوها بتوراة عزير، فوجدوها مثلها، فقالوا: ما أعطاك الله هذا إلا أنك ابنه!
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض المكيين والكوفيين: " وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرُ ابْنُ اللَّهِ "، لا ينونون "عزيرًا".
* * *
وقرأه بعض المكيين والكوفيين: (عُزَيْرٌ ابْنُ الله) ، بتنوين "عزير" قال: هو اسم مجْرًى وإن كان أعجميًّا، لخفته. وهو مع ذلك غير منسوب إلى الله، فيكون بمنزلة قول القائل: "زيدٌ بن عبد الله"، وأوقع "الابن" موقع الخبر. ولو كان منسوبًا إلى الله لكان الوجه فيه، إذا كان الابن خبرًا، الإجراء، والتنوين، فكيف وهو منسوب إلى غير أبيه.
وأما من ترك تنوين "عزير"، فإنه لما كانت الباء من "ابن" ساكنة مع التنوين الساكن، والتقى ساكنان، فحذف الأول منهما استثقالا لتحريكه، قال الراجز: (3)
__________
(1) في المطبوعة: " مجتمعا "، وأثبت ما في المخطوطة، والدر المنثور. وهذا الموضع من الخبر، يحتاج إلى نظر في صحته ومعناه.
(2) " خوابي " جمع " خابية "، وهي الجرة الكبيرة.
(3) لم أعرف قائله.(14/204)
لَتَجدَنِّي بِالأمِيرِ بَرًّا ... وَبِالقَنَاةِ مِدْعَسًا مِكَرَّا
إذَا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فَرَّا (1)
فحذف النون للساكن الذي استقبلها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءةُ من قرأ: (عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ) ، بتنوين "عزير"، لأن العرب لا تنون الأسماء إذا كان "الابن" نعتًا للاسم، [وتنونه إذا كان خبرًا] ، كقولهم: "هذا زيدٌ بن عبد الله"، فأرادوا الخبر عن "زيد" بأنه "ابن الله"، (2) ولم يريدوا أن يجعلوا "الابن" له نعتًا و"الابن" في هذا الموضع خبر لـ "عزير"، لأن الذين ذكر الله عنهم أنهم قالوا ذلك، إنما أخبروا عن "عزير"، أنه كذلك، وإن كانوا بقيلهم ذلك كانوا كاذبين على الله مفترين.
* * *
= (وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يعني قول اليهود: (عزير ابن الله) . يقول: يُشْبه قول هؤلاء في الكذب على الله والفرية عليه ونسبتهم المسيح إلى أنه لله ابنٌ، كذِبَ اليهود وفريتهم على الله في نسبتهم عزيرًا إلى أنه لله ابن، (3) ولا ينبغي أن يكون لله ولدٌ سبحانه،
__________
(1) نوادر أبي زيد: 91، معاني القرآن للفراء 1: 431. اللسان (صهب) ، (دعس) ، (دعص) ، وغيرها، وقبله في النوادر: جاءُوا يجرُّون الحدِيدَ جَرًّا ... صُهْبَ السِّبالِ يَبتغونَ الشرَّا
في النوادر: " يجرون السود "، وهذه رواية غيره.
(2) هذه الجملة كانت في المخطوطة هكذا: " لأن النون العرب من الأسماء إذا كان الابن نعتا للاسم، كقولهم: هذا زيد بن عبد الله، فأرادوا الخبر عن زيد بأنه ابن الله ". وهو كلام مضطرب غاية الاضطراب.
وصححها في المطبوعة هكذا: " لأن العرب لا تنون الأسماء، إذا كان الابن نعتا للاسم، كقولهم: هذا زيد بن عبد الله، فأرادوا الخبر عن عزير بأنه ابن الله "، وهو أيضا مضطرب.
فأبقيت تصحيح الناشر الأول في صدر الجملة، ثم صححت سائر الكلام بما يوافق المخطوطة، ثم زدت فيه ما بين القوسين، حتى يستقيم الكلام على وجه مرضي بعض الرضى. ولا أشك أن الناسخ قد أسقط قدرا من كلام أبي جعفر.
(3) في المطبوعة: " نسبة قول هؤلاء. . . ككذب اليهود وفريتهم "، أخطأ في قراءة " يشبه "، فجعلها " نسبة "، ثم زاد في " كذب " كافًا أخرى في أولها، ليستقيم الكلام، فلم يستقم. وقوله: " كذب " مفعول قوله: " يشبه ". وذلك معنى " المضاهأة " كما سيأتي.(14/205)
بل له ما في السماوات والأرض، كل له قانتون.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16623- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول: يُشبِّهون.
16624- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، ضاهت النصارى قول اليهود قبلهم.
16625- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدّي: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، النصارى يضاهئون قول اليهود في "عزيز".
16626- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول: النصارى، يضاهئون قول اليهود.
16627- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يضاهئون قول الذين كفروا من قبل) ، يقول: قالوا مثل ما قال أهل الأوثان.
* * *
وقد قيل: إن معنى ذلك: يحكون بقولهم قولَ أهل الأوثان، (1) الذين قالوا: "اللات، والعزَّى، ومناة الثالثة الأخرى". (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " أهل الأديان "، والصواب ما أثبت من المخطوطة.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 433.(14/206)
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق: (يُضَاهُونَ) ، بغير همز.
* * *
وقرأه عاصم: (يُضَاهِئُونَ) ، بالهمز، وهي لغة لثقيف.
* * *
وهما لغتان، يقال: "ضاهيته على كذا أضَاهيه مضاهاة" و"ضاهأته عليه مُضَأهاة"، إذا مالأته عليه وأعنته.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءَة في ذلك ترك الهمز، لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار، واللغة الفصحى.
* * *
وأما قوله: (قاتلهم الله) ، فإن معناه، فيما ذكر عن ابن عباس، ما:-
16628- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (قاتلهم الله) ، يقول: لعنهم الله. وكل شيء في القرآن "قتل"، فهو لعن.
* * *
وقال ابن جريج في ذلك ما:-
16629- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله: (قاتلهم الله) ، يعني النصارى، كلمةٌ من كلام العرب. (1)
* * *
فأما أهل المعرفة بكلام العرب فإنهم يقولون: معناه: قتلهم الله. والعرب تقول: "قاتعك الله"، و"قاتعها الله"، بمعنى: قاتلك الله. قالوا: و"قاتعك الله" أهون من "قاتله الله".
وقد ذكروا أنهم يقولون: "شاقاه الله ما تاقاه"، يريدون: أشقاه الله ما أبقاه.
__________
(1) يعني أنها كلمة تقولها العرب، لا تريد بها معنى " القتل "، كقولهم: " تربت يداك "، لا يراد بها وقوع الأمر.(14/207)
اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
قالوا: ومعنى قوله: (قاتلهم الله) ، كقوله: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) ، [سورة الذاريات: 10] ، و (قُتِلَ أَصْحَابُ الأخْدُودِ) ، [سورة البروج: 4] ، واحدٌ هو بمعنى التعجب.
* * *
فإن كان الذي قالوا كما قالوا، فهو من نادر الكلام الذي جاء على غير القياس، لأنّ "فاعلت" لا تكاد أن تجيء فعلا إلا من اثنين، كقولهم: "خاصمت فلانًا"، و"قاتلته"، وما أشبه ذلك. وقد زعموا أن قولهم: "عافاك الله" منه، وأن معناه: أعفاك الله، بمعنى الدعاء لمن دعا له بأن يُعْفيه من السوء.
* * *
وقوله: (أنى يؤفكون) ، يقول: أيَّ وجه يُذْهبُ بهم، ويحيدون؟ وكيف يصدُّون عن الحق؟ وقد بينا ذلك بشواهده فيما مضى قبل. (1)
القول في تأويل قوله: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: اتخذ اليهود أحبارهم، وهم العلماء.
* * *
وقد بينت تأويل ذلك بشواهده فيما مضى من كتابنا هذا قبل. واحدهم "حَبْرٌ"، و"حِبْرٌ" بكسر الحاء منه وفتحها. (2)
وكان يونس الجرمي، (3) فيما ذكر عنه، يزعم أنه لم يسمع ذلك إلا "حِبر"
__________
(1) انظر تفسير " الإفك " فيما سلف 10: 486 / 11: 554.
(2) انظر تفسير " الحبر " فيما سلف 6: 543، 544 / 10: 341، 448.
(3) " يونس الجرمي "، انظر ما سلف 10: 120، تعليق: 1 / 11: 544، تعليق: 3 / 13: 129، تعليق: 3 = 138، تعليق: 4.(14/208)
بكسر الحاء، ويحتج بقول الناس: "هذا مِدَادُ حِبْرٍ"، يراد به: مدادُ عالم.
وذكر الفرَّاء أنه سمعه "حِبْرًا"، و"حَبْرًا" بكسر الحاء وفتحها.
* * *
= والنصارى "رهبانهم"، (1) وهم أصحاب الصوامع وأهل الاجتهاد في دينهم منهم، (2) كما:-
16630- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم) ، قال: قُرَّاءهم وعلماءهم.
* * *
= (أربابا من دون الله) ، يعني: سادةً لهم من دون الله، (3) يطيعونهم في معاصي الله، فيحلون ما أحلُّوه لهم مما قد حرَّمه الله عليهم، ويحرِّمون ما يحرِّمونه عليهم مما قد أحلَّه الله لهم، كما:-
16631- حدثني الحسين بن يزيد الطحّان قال، حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي، عن غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: انتهيتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في "سورة براءة": (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله) ، فقال: "أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكن كانوا يحلّون لهم فيُحلُّون". (4)
__________
(1) قوله: " والنصارى، ورهبانهم " هذا معطوف على قوله آنفا: " اتخذ اليهود أحبارهم ".
(2) انظر تفسير " الرهبان " فيما سلف 10: 502، 503.
(3) انظر تفسير " الرب " فيما سلف 1: 142 / 12: 286، 482.
(4) الأثر: 16631 - حديث (عدي بن حاتم الطائي) ، رواه أبو جعفر من ثلاث طرق متابعة، كلها من طريق عبد السلام بن حرب، عن غطيف بن أعين، من 16631 - 16633.
" الحسين بن يزيد السبيعي الطحان "، شيخ الطبري، وثقه ابن حبان، ولين حديثه أبو حاتم، مضى برقم: 2892، 7863، 9153. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " الحسن بن يزيد "، وهو خطأ "
و" عبد السلام بن حرب الملائي النهدي "، الحافظ الثقة، مضى برقم: 1184، 5471، 12478.
و" غطيف بن أعين الشيباني الجزري " أو " غصيف " وثقه ابن حبان، وقال الترمذي: " ليس بمعروف في الحديث " وضعفه الدارقطني، مترجم التهذيب، والكبير 4 / 1 / 106، ولم يذكر فيه جرحا، وترجمه ابن أبي حاتم في " غضيف " بالضاد، 3 / 2 / 55، ولم يذكر فيه جرحا. وسيأتي " غضيف " في رقم: 16633.
و (مصعب بن سعد بن أبي وقاص) ، روى عن أبيه، وعلي، وعكرمة بن أبي جهل، وعدي بن حاتم، وابن عمر. وغيرهم، وروي عن غطيف بن أعين، وهو ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 9841، 11450.
وهذا الخبر مختصر الذي يليه، فراجع التخريج التالي.
ورواه الترمذي من هذه الطريق نفسها عن الحسين بن يزيد الكوفي الطحان في كتاب التفسير، وقال: " هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد السلام بن حرب. وغطيف بن أعين، ليس بمعروف في الحديث ".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 230، وزاد نسبته إلى ابن سعد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في سننه. ولم أجده في المطبوع من طبقات ابن سعد، وضل عني مكانه في سنن البيهقي.(14/209)
16632- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا مالك بن إسماعيل = وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد = جميعًا، عن عبد السلام بن حرب قال، حدثنا غطيف بن أعين، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وفي عُنُقي صليبٌ من ذهب، فقال: يا عديّ، اطرح هذا الوثنَ من عنقك! قال: فطرحته، وانتهيت إليه وهو يقرأ في "سورة براءة"، فقرأ هذه الآية: (اتخذوا أحبارهم ورُهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم! = واللفظ لحديث أبي كريب. (1)
16633- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال: حدثنا بقية، عن قيس
__________
(1) الأثر: 16632 - رواه من طريق مالك بن إسماعيل، عن عبد السلام بن حرب، بلفظه، البخاري في الكبير 4 / 1 / 106. وانظر التخريج السالف.(14/210)
بن الربيع، عن عبد السلام بن حرب النهدي، عن غضيف، عن مصعب بن سعد، عن عدي بن حاتم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ "سورة براءة"، فلما قرأ: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قلت: يا رسول الله، إما إنهم لم يكونوا يصلون لهم! قال: صدقت، ولكن كانوا يُحلُّون لهم ما حرَّم الله فيستحلُّونه، ويحرّمون ما أحلّ الله لهم فيحرِّمونه. (1)
16634- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري، عن حذيفة: أنه سئل عن قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه.
16635- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب، عن أبي البختري قال: قيل لأبي حذيفة، فذكر نحوه = غير أنه قال: ولكن كانوا يحلُّون لهم الحرام فيستحلُّونه، ويحرِّمون عليهم الحلال فيحرِّمونه.
16636- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن حبيب عن أبي البختري قال: قيل لحذيفة: أرأيت قول الله: (اتخذوا أحبارهم) ؟ قال: أمَا إنهم لم يكونوا يصومون لهم ولا يصلون لهم، ولكنهم كانوا إذا أحلوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرّموا عليهم شيئًا أحله الله لهم حرَّموه، فتلك كانت رُبوبيَّتهم.
16637-...... قال، حدثنا جرير وابن فضيل، عن عطاء، عن أبي البختري: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال: انطلقوا
__________
(1) الأثر: 16633 - " غضيف "، هو " غضيف بن أعين "، و " غطيف "، كما مر في تخريج الأثر: 16631. وكان في المخطوطة: " حصف " وجعلها في المطبوعة: " غطيف "، والصواب ما أثبت. كما أشرت إليه في التعليق المذكور.(14/211)
إلى حلال الله فجعلوه حرامًا، وانطلقوا إلى حرام الله فجعلوه حلالا فأطاعوهم في ذلك. فجعل الله طاعتهم عبادتهم. ولو قالوا لهم: "اعبدونا"، لم يفعلوا.
16638- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي البختري قال: سأل رجل حذيفة فقال: يا أبا عبد الله، أرأيت قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، أكانوا يعبدونهم؟ قال: لا كانوا إذا أحلُّوا لهم شيئًا استحلُّوه، وإذا حرَّموا عليهم شيئًا حرَّموه.
16639- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن أشعث، عن الحسن: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا) ، قال: في الطاعة.
16640- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، يقول: زيَّنُوا لهم طاعتهم.
16641- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال عبد الله بن عباس: لم يأمروهم أن يسجُدوا لهم، ولكن أمروهم بمعصية الله، فأطاعوهم، فسمَّاهم الله بذلك أربابًا.
16642- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا) ، قال: قلت لأبي العالية: كيف كانت الرُّبوبية التي كانت في بني إسرائيل؟ قال: [لم يسبوا أحبارنا بشيء مضى] (1) "ما أمرونا به ائتمرنا، وما نهونا عنه انتهينا لقولهم"، وهم يجدون في كتاب الله ما أمروا به وما نهوا عنه، فاستنصحوا الرجالَ، ونبذُوا كتاب الله وراء ظهورهم.
__________
(1) هذه الجملة التي وضعتها بين قوسين من المخطوطة، ولا أدري ما هي، ولكني أثبتها كما جاءت، فلعل أحدا يجد الخبر في مكان آخر فيصححه.(14/212)
16643- حدثني بشر بن سويد قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري، عن حذيفة: (اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله) ، قال: لم يعبدوهم، ولكنهم أطاعوهم في المعاصي. (1)
* * *
وأما قوله: (والمسيح ابن مريم) ، فإن معناه: اتخذوا أحبارهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا من دون الله.
* * *
وأما قوله: (وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا) ، فإنه يعني به: وما أمر هؤلاء اليهود والنصارى الذين اتخذوا الأحبارَ والرهبان والمسيحَ أربابًا، إلا أن يعبدوا معبودًا واحدًا، وأن يطيعوا إلا ربًّا واحدًا دون أرباب شتَّى، وهو الله الذي له عبادة كل شيء، وطاعةُ كل خلق، المستحقُّ على جميع خلقه الدينونة له بالوحدانية والربوبية = "لا إله إلا هو"، يقول تعالى ذكره: لا تنبغي الألوهية إلا للواحد الذي أمر الخلقُ بعبادته، ولزمت جميع العباد طاعته = (سبحانه عما يشركون) ، يقول: تنزيهًا وتطهيرًا لله عما يُشرك في طاعته وربوبيته، القائلون: (عزير ابن الله) ، والقائلون: (المسيح ابن الله) ، المتخذون أحبارهم أربابًا من دون الله. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 16643 - " بشر بن سويد "، لم أجد من يسمى بهذا الاسم، أخشى أن يكون: " بشر بن معاذ " شيخ الطبري، عن " سويد بن نصر المروزي ".
(2) انظر تفسير " سبحان " فيما سلف 13: 102، تعليق: 3، والمراجع هناك.(14/213)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)
القول في تأويل قوله: {يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يريد هؤلاء المتخذون أحبارَهم ورهبانهم والمسيحَ ابن مريم أربابًا = (أن يطفئوا نور الله بأفواههم) ، يعني: أنهم يحاولون(14/213)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
بتكذيبهم بدين الله الذي ابتعثَ به رسوله، وصدِّهم الناسَ عنه بألسنتهم، أن يبطلوه، وهو النُّور الذي جعله الله لخلقه ضياءً (1) = (ويأبى الله إلا أن يتم نوره) ، يعلو دينُه، وتظهر كلمته، ويتم الحقّ الذي بعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم = (ولو كره) إتمامَ الله إياه = (الكافرون) ، يعني: جاحديه المكذِّبين به.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16644- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم) ، يقول: يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الله الذي يأبى إلا إتمام دينه ولو كره ذلك جاحدوه ومنكروه = (الذي أرسل رسوله) ، محمدًا صلى الله عليه وسلم = (بالهدى) ، يعني: ببيان فرائض الله على خلقه، وجميع اللازم لهم (2) = وبدين الحق، وهو الإسلام = (ليظهره على الدين كله) ، يقول: ليعلي الإسلام على الملل كلها = (ولو كره المشركون) ، بالله ظهورَه عليها.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في معنى قوله: (ليظهره على الدين كله) .
__________
(1) انظر تفسير " الإطفاء " فيما سلف 10: 458.
(2) انظر تفسير " الهدى " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .(14/214)
فقال بعضهم: ذلك عند خروج عيسى، حين تصير المللُ كلُّها واحدةً.
* ذكر من قال ذلك:
16645- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد القطان قال، حدثنا شقيق قال، حدثني ثابت الحدّاد أبو المقدام، عن شيخ، عن أبي هريرة في قوله: (ليظهره على الدين كله) ، قال: حين خروج عيسى ابن مريم. (1)
16646- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن فضيل بن مرزوق قال، حدثني من سمع أبا جعفر: (ليظهره على الدين كله) ، قال: إذا خرج عيسى عليه السلام، اتبعه أهل كل دين.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ليعلمه شرائعَ الدين كلها، فيطلعه عليها.
* ذكر من قال ذلك:
16647- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ليظهره على الدين كله) ، قال: ليظهر الله نبيّه على أمر الدين كله، فيعطيه إيّاه كله، ولا يخفى عليه منه شيء. وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك.
* * *
__________
(1) الأثر: 16645 - " ثابت الحداد "، " أبو المقدام " هو: " ثابت بن هرمر الكوفي " مضى برقم: 5969.(14/215)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ (34) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقروا بوحدانية ربهم، إن كثيرًا من العلماء والقُرَّاء من بني إسرائيل من اليهود والنصارى (1) = (ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، يقول: يأخذون الرشى في أحكامهم، ويحرّفون كتاب الله، ويكتبون بأيديهم كتبًا ثم يقولون: "هذه من عند الله"، ويأخذون بها ثمنًا قليلا من سِفلتهم (2) = (ويصدُّون عن سبيل الله) ، يقول: ويمنعون من أرادَ الدخول في الإسلام الدخولَ فيه، بنهيهم إياهم عنه. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16648- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (يا أيها الذين آمنوا إن كثيرًا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، أما "الأحبار"، فمن اليهود. وأما "الرهبان"، فمن النصارى. وأما "سبيل الله"، فمحمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأحبار "، و " الرهبان " فيما سلف ص: 209، تعليق: 2، وص: 208، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " أكل الأموال بالباطل " فيما سلف 9: 392، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الصمد " فيما سلف ص: 151، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " سبيل الله " في فهارس اللغة (سبل) .(14/216)
القول في تأويل قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنزونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) .
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (إن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) ، ويأكلها أيضًا معهم (الذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ، يقول: بشّر الكثيرَ من الأحبار والرهبان الذين يأكلون أموال الناس بالباطل، والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله، بعذابٍ أليم لهم يوم القيامة، مُوجع من الله. (1)
* * *
واختلف أهل العلم في معنى "الكنز".
فقال بعضهم: هو كل مال وجبت فيه الزكاة، فلم تؤدَّ زكاته. قالوا: وعنى بقوله: (ولا ينفقونها في سبيل الله) ، ولا يؤدُّون زكاتها.
* ذكر من قال ذلك:
16649- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال: كل مال أدَّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا. وكل مالٍ لم تؤدَّ زكاته، فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن، يكوى به صاحبه، وإن لم يكن مدفونًا. (2)
16650- حدثنا الحسن بن الجنيد قال، حدثنا سعيد بن مسلمة قال، حدثنا إسماعيل بن أمية، عن نافع، عن ابن عمر، أنه قال: كل مالٍ أدَّيت منه الزكاة فليس بكنز وإن كان مدفونًا. وكل مال لم تودَّ منه الزكاة، وإن لم
__________
(1) انظر تفسير " أليم " فينا سلف من فهارس اللغة (ألم) .
(2) الأثر: 16649 - حديث ابن عمرو في الكنز، رواه أبوه جعفر من طرق، بألفاظ مختلفة، موقوفا على ابن عمر، وهو الصواب، وإسناد هذا الخبر صحيح إلى ابن عمرو.
رواه مالك بمعناه من طريق عبد الله بن دينار. عن عبد الله بن عمرو في الموطأ: 256.(14/217)
يكن مدفونًا، فهو كنز. (1)
16651- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن يحيى بن سعيد، عن نافع، عن ابن عمر قال: أيُّما مالٍ أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا في الأرض. وأيُّما مالٍ لم تودِّ زكاته، فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض. (2)
16652- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وجرير، عن الأعمش، عن عطية، عن ابن عمر قال: ما أدَّيت زكاته فليس بكنز. (3)
16653-...... قال، حدثنا أبي، عن العمري، عن نافع، عن ابن عمر قال: ما أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرَضِين. وما لم تؤدِّ زكاته فهو كنز وإن كان ظاهرًا. (4)
16654-...... قال، حدثنا جرير، عن الشيباني، عن عكرمة قال: ما أدَّيت زكاته فليس بكنز.
__________
(1) الأثر: 16650 - " الحسن بن الجنيد البلخي "، شيخ الطبري، ويقال " الحسين "، مضى برقم: 8458. وكان في المخطوطة: " الحسين " وأثبت ما في المخطوطة.
و" سعيد بن مسلمة بن هشام بن عبد الملك بن مروان "، ضعيف الحديث، مضى برقم: 8458.
و" إسماعيل بن أمية الأموي "، مضى برقم: 2615، 8458.
وهذا إسناد ضعيف لضعف " سعيد بن مسلمة ".
(2) الأثر: 16651 - رواه البيهقي في السنن 4: 82، بنحو هذا اللفظ من طريق ابن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، وقال: " هذا هو الصحيح، موقوف. وكذلك رواه جماعة عن نافع، وجماعة عن عبيد الله بن عمر. وقد رواه سويد بن عبد العزيز، وليس بالقوي، مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ".
(3) الأثر: 16652 - "عطية"، هو "عطية بن سعد العوفي"، ضعيف الحديث، مضى تضعيفه في رقم: 305.
(4) الأثر: 16653 - " العمري " وهو " عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب "، سلف مرارا وهذا الإسناد هو الذي أشار إليه البيهقي فيما سلف رقم 16551، في التعليق.(14/218)
16655- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أما (الذين يكنزون الذهب والفضة) ، فهؤلاء أهل القبلة، و"الكنز"، ما لم تؤدِّ زكاته وإن كان على ظهر الأرض، وإن قلّ. وإن كان كثيرًا قد أدّيت زكاته، فليس بكنز.
16656- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر قال: قلت لعامر: مالٌ على رَفٍّ بين السماء والأرض لا تؤدَّى زكاته، أكنز هو؟ قال: يُكْوَى به يوم القيامة.
* * *
وقال آخرون: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز أدَّيت منه الزكاة أو لم تؤدِّ.
* ذكر من قال ذلك:
16657- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي رحمة الله عليه قال: أربعة آلاف درهم فما دونها "نفقة"، فما كان أكثر من ذلك فهو "كنز"، (1)
16658- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي مثله.
16659- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الشعبي قال، أخبرني أبو حصين، عن أبي الضحى، عن جعدة بن هبيرة، عن علي رحمة الله عليه في قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، وما فوقها كنز.
* * *
__________
(1) الأثر: 16657 - " جعدة بن هبيرة المخزومي "، تابعي ولد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ابن أم هانئ بنت أبي طالب. خاله علي رضي الله عنهم. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 238،وابن أبي حاتم 1 / 1 / 526.
وسيأتي بعد من طريقين.(14/219)
وقال آخرون: "الكنز" كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه.
* ذكر من قال ذلك:
16660- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن معاذ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن عبد الواحد: أنه سمع أبا مجيب قال: كان نعل سيف أبي هريرة من فضة، فنهاه عنها أبو ذر وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صَفْرَاء أو بيضاء كُوِي بها. (1)
16661- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الأعمش وعمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزلت: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "تبًّا للذهب! تبًّا للفضة! يقولها ثلاثًا، قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: فأيَّ مال نتخذ؟! فقال عمر: أنا أعلم لكم
__________
(1) الأثر: 16660 - " ابن عبد الواحد "، يقال: " عبد الله بن عبد الواحد الثقفي "، ويقال: " فلان بن عبد الواحد، رجل من ثقيف "، ويقال: " يحيى بن عبد الواحد " ويقال: " عبد الواحد ". مجهول، وكان في المطبوعة: " عن أنس، عن عبد الواحد "، غير فيها وزاد ما لم يكن في المخطوطة.
و" أبو مجيب "، الشاشي. مجهول.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 168 من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة، عن رجل من ثقيف يقال له فلان بن عبد الواحد قال: سمعت أبا مجيب.
وذكره الحافظ في تعجيل المنفعة: 518، في ترجمة " أبو محمد ". وذكر نص حديث أحمد ثم قال: " وهذا الحديث أخرجه البخاري في كتاب الكنى، فيما حكاه الحاكم أبو أحمد عنه، من طريق ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عبد الله بن عبد الواحد الثقفي، عن أبي مجيب الشاشي، فذكره. وحكى الحاكم أنه قيل في اسم هذا الثقفي: يحيى، وقيل: عبد الواحد. وقال: الاختلاف فيه على شعبة ".
وفي رواية أحمد: " لقي أبو ذر أبا هريرة، وجعل = أراه قال = قبيعة سيفه فضة ".
و" قبيعة السيف "، هي التي تكون على رأس قائم السيف. وقيل: هي ما تحت شاربي السيف، مما يكون فوق الغمد، فيجيء مع قائم السيف. والشاربان: أنفان طويلان أسفل القائم، أحدهما من هذا الجانب، والآخر من هذا الجانب.
وأما " نعل السيف "، فهو ما يكون في أسفل جفنه من حديدة أو فضة.(14/220)
ذلك! فقال: يا رسول الله، إن أصحابك قد شق عليهم، وقالوا: فأيَّ المال نتخذ؟ فقال: لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وزوجةً تُعين أحدكم على دينه. (1)
16662- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن ثوبان، بمثله. (2)
16663- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزلت هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال المهاجرون: وأيَّ المال نتّخذ؟ فقال عمر: اسأل النبي صلى الله عليه وسلم عنه. قال: فأدركته على بعيرٍ فقلت: يا رسول الله، إن المهاجرين قالوا: فأيَّ المال نتخذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لسانًا ذاكرًا، وقلبًا
__________
(1) الأثر: 16661 - خبر عمر هذا رواه أبو جعفر من طرق. أولها هذا، ثم رقم: 16662، 16663، 16666.
و" سالم بن أبي الجعد الأشجعي، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارا. روى عن عمر، ولم يدركه. ومن هذا، هذا الخبر، ورقم: 16663.
فهذا خبر ضعيف، لانقطاعه. وانظر تخريج الخبر التالي، وروايته في المسند من طريق عبد الله بن عمرو بن مرة، عن عمرو بن مرة، عن سالم، عن ثوبان.
(2) الأثر: 16662 - " سالم بن أبي الجعد "، عن " ثوبان "، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، اشتراه ثم أعتقه.
و" سالم بن أبي الجعد " لم يسمع من ثوبان، قال أحمد: " لم يسمع سالم من ثوبان، ولم يلقه. بينهما: معدان بن أبي طلحة. وليست هذه الأحاديث بصحاح ".
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 5: 278 من طريق إسرائيل، عن منصور، عن سالم.
ثم رواه أيضا 5: 282، من طريق وكيع، عن عبد الله بن عمرو بن مرة، عن عمرو بن مرة، عن سالم، عن ثوبان.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن منصور، بنحوه، وقال: " هذا حديث حسن. سألت محمد بن إسماعيل (البخاري) فقلت له: سالم بن أبي الجعد سمع ثوبان؟ فقال! لا؛ قلت له، ممن سمع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: سمع من جابر بن عبد الله، وأنس بن مالك، وذكر غير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ".
وسيأتي من طريق سالم عن ثوبان برقم: 16666.
وانظر تفسير ابن كثير 4: 155.(14/221)
شاكرًا، وزوجةً مؤمنةً، تعين أحدكم على دينه. (1)
16664- حدثنا الحسن قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: توفي رجل من أهل الصُّفة، فوُجد في مئزرِه دينارٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيَّةٌ! ثم توفي آخر فوُجد في مئزره ديناران، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: كيَّتان! (2)
16665- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن صديّ بن عجلان أبي أمامة قال: مات رجل: من أهل الصُّفة، فوجد في مئزره دينارٌ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيّةٌ! ثم توفيّ آخر، فوجد في مئزره ديناران، فقال نبي الله: كيّتان! (3)
16666- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سالم، عن ثوبان قال: كنا في سفر، ونحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال المهاجرون: لوددنا أنَّا علمنا أيُّ المال خيرٌ فنتخذه؟ إذ نزل في الذهب والفضة ما نزل! فقال عمر: إن شئتم سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك! فقالوا: أجل!
__________
(1) الأثر: 16663 - انظر تخريج الآثار السالفة.
(2) الأثران: 16664، 16665 - " شهر بن حوشب "، مضى توثيقه مرارا.
فهذا خبر صحيح الإسناد، رواه أحمد في المسند 5: 253، من طرق، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر. ورواه من طريق روح، عن معمر، عن قتادة، ومن طريق حسين، عن شيبان، عن قتادة.
ورواه أيضا 5: 252 عن حجاج قال: سمعت شعبة يحدث عن قتادة وهاشم = قال حدثني شعبة أنبأنا قتادة قال: سمعت أبا الحسن يحدث = قال هاشم في حديثه: أبو الجعد مولى لبني ضبيعة، عن أبي أمامة.
ثم رواه أيضا 5: 253، من حجاج، عن شعبة، عن عبد الرحمن، من أهل حمص، من بني العداء، من كندة، مختصرا.
وروى أحمد نحوه في حديث علي بن أبي طالب، بإسناد ضعيف رقم: 788، 1155، 1156، 1157.
وانظر تفسير ابن كثير 4: 158، 159.
(3) الأثران: 16664، 16665 - " شهر بن حوشب "، مضى توثيقه مرارا.
فهذا خبر صحيح الإسناد، رواه أحمد في المسند 5: 253، من طرق، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن شهر. ورواه من طريق روح، عن معمر، عن قتادة، ومن طريق حسين، عن شيبان، عن قتادة.
ورواه أيضا 5: 252 عن حجاج قال: سمعت شعبة يحدث عن قتادة وهاشم = قال حدثني شعبة أنبأنا قتادة قال: سمعت أبا الحسن يحدث = قال هاشم في حديثه: أبو الجعد مولى لبني ضبيعة، عن أبي أمامة.
ثم رواه أيضا 5: 253، من حجاج، عن شعبة، عن عبد الرحمن، من أهل حمص، من بني العداء، من كندة، مختصرا.
وروى أحمد نحوه في حديث علي بن أبي طالب، بإسناد ضعيف رقم: 788، 1155، 1156، 1157.
وانظر تفسير ابن كثير 4: 158، 159.(14/222)
فانطلق، فتبعته أوضع على بعيري، (1) فقال: يا رسول الله إن المهاجرين لما أنزل الله في الذهب والفضة ما أنزل قالوا: وددنا أنّا علمنا أيّ المال خير فنتخذه؟ قال: نعم! فيتخذ أحدكم لسانًا ذاكرًا، وقلبًا شاكرًا، وزوجةٌ تعين أحدَكم على إيمانه. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، القولُ الذي ذكر عن ابن عمر: من أن كل مالٍ أدّيت زكاته فليس بكنز يحرُم على صاحبه اكتنازُه وإن كثر = وأنّ كل مالٍ لم تُؤَّد زكاته فصاحبه مُعاقب مستحقٌّ وعيدَ الله، إلا أن يتفضل الله عليه بعفوه وإن قلّ، إذا كان مما يجبُ فيه الزكاة.
وذلك أن الله أوجب في خمس أواقٍ من الوَرِق على لسان رسوله رُبع عُشْرها، (3) وفي عشرين مثقالا من الذهب مثل ذلك، رُبْع عشرها. فإذ كان ذلك فرضَ الله في الذهب والفضَّة على لسان رسوله، فمعلومٌ أن الكثير من المال وإن بلغ في الكثرة ألوفَ ألوفٍ، لو كان = وإن أدِّيت زكاته = من الكنوز التي أوعدَ الله أهلَها عليها العقاب، لم يكن فيه الزكاة التي ذكرنا من رُبْع العُشْر. لأن ما كان فرضًا إخراجُ جميعِه من المال، وحرامٌ اتخاذه، فزكاته الخروجُ من جميعه إلى أهله، لا رُبع عُشره. وذلك مثلُ المال المغصوب الذي هو حرامٌ على الغاصب إمساكُه، وفرضٌ عليه إخراجه من يده إلى يده، التطهّر منه: ردُّه إلى صاحبه. فلو كان ما زادَ من المال على أربعة آلاف درهم، أو ما فضل عن حاجة ربِّه التي لا بد منها، مما يستحق صاحبُه باقتنائه = إذا أدَّى إلى أهل السُّهْمان حقوقهم منها من الصدقة = وعيدَ الله، لم يكن اللازمُ ربَّه فيه رُبْع عشره، بل كان اللازم له الخروج من جميعه إلى أهله، وصرفه فيما يجب عليه صرفه، كالذي ذكرنا
__________
(1) " أوضع الراكب "، أسرع بدابته إسراعا دون العدو الشديد.
(2) الأثر: 16666 - مكرر الخبر رقم: 16662، وانظر تخريج الأخبار السالفة.
(3) " الورق " (بكسر الراء) ، الفضة.(14/223)
من أن الواجب على غاصِبِ رجلٍ مالَه، رَدُّه على ربِّه.
* * *
وبعدُ، فإن فيما:-
16667- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور قال، قال معمر، أخبرني سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من رجل لا يؤدِّي زكاةَ ماله إلا جُعل يوم القيامة صفائحَ من نار يُكْوَى بها جبينه وجبهته وظهره، (1) في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضي بين الناس، ثم يرى سبيله، وإن كانت إبلا إلا بُطِحَ لها بقاع قرقرٍ، (2) تطؤه بأخفافها = حسبته قال: وتعضه بأفواهها = يردّ أولاها على أخراها، حتى يقضي بين الناس، ثم يرى سبيله. وإن كانت غنمًا فمثل ذلك، إلا أنها تنطحه بقُرُونها، وتطؤُه بأظلافها. (3)
* * *
= وفي نظائر ذلك من الأخبار التي كرهنا الإطالة بذكرها، الدلالةُ الواضحة على أن الوعيد إنما هو من الله على الأموال التي لم تُؤَدَّ الوظائفُ المفروضةُ فيها لأهلها من الصدقة، لا على اقتنائها واكتنازها. وفيما بيّنا من ذلك البيانُ الواضح على أن الآية لخاصٍّ، كما قال ابن عباس، وذلك ما:-
16668- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي،
__________
(1) في المخطوطة: " جسه " غير منقوطة، والذي في مسلم: " جنباه وجبينه " والاختلاف في هذه الأحرف ذكره مسلم في صحيحه، وأثبت ما في المخطوطة لموافقته لما في مسند أحمد رقم: 7706.
(2) " بطح " (بالبناء للمجهول) ، ألقي على وجهه. و " القاع ": الأرض المستوية الفسيحة. و " قرقر "، هي الصحراء البارزة الملساء.
(3) الأثر: 16667 - حديث صحيح. رواه مسلم مطولا في صحيحه 7: 67، من طريق محمد بن عبد الملك الأموي، عن عبد العزيز بن المختار، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي صالح. ورواه من طرق أخرى عن أبي صالح، ومن طرق عن أبي هريرة.
ورواه أحمد في مسنده رقم: 7553، مطولا، وقد استوفى أخي السيد أحمد تخريجه هناك. ثم رواه أيضا رقم: 7706، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن سهيل بن أبي صالح، مختصرا، وفيه: " جبينه وجبهته وظهره " فمن أجل ذلك أثبت ما كان في المخطوطة (تعليق: 1) .(14/224)
قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم) ، يقول: هم أهل الكتاب. وقال: هي خاصَّة وعامةٌ.
* * *
قال أبو جعفر: يعني بقوله: "هي خاصة وعامة"، هي خاصة من المسلمين فيمن لم يؤدِّ زكاة ماله منهم، وعامة في أهل الكتاب، لأنهم كفار لا تقبل منهم نفقاتهم إن أنفقوا. يدلُّ على صحة ما قلنا في تأويل قول ابن عباس هذا، ما:-
16669- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها) ، إلى قوله: (هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون) ، قال: هم الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم. قال: وكل مالٍ لا تؤدَّى زكاته، كان على ظهر الأرض أو في بطنها، فهو كنز وكل مالٍ تؤدَّى زكاته فليس بكنز كان على ظهر الأرض أو في بطنها.
16670- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، قال: "الكنز"، ما كنز عن طاعة الله وفريضته، وذلك "الكنز". وقال: افترضت الزكاة والصلاة جميعًا لم يفرَّق بينهما.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا: "ذلك على الخصوص"، لأن "الكنز" في كلام العرب: كل شيء مجموع بعضُه على بعضٍ، في بطن الأرض كان أو على ظهرها، يدلُّ على ذلك قول الشاعر: (1)
لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أَطْعَمْتُ نَازِلَهُمْ ... قَرْفَ الْحَتِيِّ وعِنْدِي الْبُرُّ مَكْنُوزُ (2)
__________
(1) هو المتنخل الهذلي.
(2) ديوان الهذليين 2: 15، اللسان (كنز) ، وغيرهما كثير، وهي أبيات جياد، وصف فيها جوع الجائع وصفا لا يبارى، يقول بعده، ووصف رجلا ضاعت نعمه، وشردته البيد: * * *لَوْ أنَّهُ جَاءَني جَوْعَانُ مُهْتَلِكٌ ... مِنْ بُؤسِ النَّاسِ، عَنْهُ الخيْرُ مَحْجُوزُ
أعْيَى وقَصَّرَ لَمَّا فَاتَهُ نَعَمٌ ... يُبَادِرُ اللَّيْلَ بالعَلْيَاء مَحْفُوزُ
حَتَّى يَجِيءَ، وَجِنُّ اللَّيْلِ يُوغِلُهُ ... والشَّوْكُ فِي وَضَحِ الرِّجْلَيْنِ مَرْكُوزُ
قَدْ حَالَ دُونَ دَرِيسَيْهِ مُؤَوِّبَةٌ ... نِسْعٌ، لَهَا بِعِضَاهِ الأرْضِ تَهْرِيزُ
كَأنَّمَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَلبَّتِهِ ... مِنْ جُلْبَةِ الجُوعِ جَيَّارٌ وإرْزِيزُ
لَبَاتَ أُسْوَةَ حَجَّاجٍ وَإخْوَتِهِ ... فِي جَهْدِنا، أوْ لَهُ شَفٌّ وَتْمرِيزُ
" القرف "، ما يقرف عن الشيء، وهي قشره. و " الحتى " الدوم. يقول: لا أطعمه الخسيس، والبر عندي مخزون بعضه على بعض.
ثم يقول: ضاعت إبله، فتقاذفته البيد، فهو من قلقه يصعد على الروابي يتنور نارا يقصدها.
ثم قال: يدفعه سواد الليل ومخاوفه، وقد أضناه السير، فوقع في أرض ذات شوك، فعلق به، لا يكاد ينقشه من شدة ضعفه. ثم يقول: اشتدت ريح الشمال الباردة بالليل = وهي المؤوبة، والشمال، هي النسع = فطيرت عنه ثوبيه الباليين، فأخذه الجوع والبرد، فحمي جوفه من شدة الجوع، وذلك هو " الجيار "، واصطكت أسنانه، وذلك هو " الإرزيز ". ثم يقول: لو جاءني هذا الجائع المشرد، لكان بين أهله، فهو عندي بمنزلة حجاج وإخوته، وهم أولاد المتنخل، في ساعة العسرة، بل لكان له فضل عليهم = وهو " الشف " =، ولكان له زيادة وتمييز = وهو " التمزيز ".(14/225)
يعني بذلك: وعندي البرُّ مجموع بعضه على بعض. وكذلك تقول العرب للبدن المجتمع: "مكتنز"، لانضمام بعضه إلى بعض.
وإذا كان ذلك معنى "الكنز"، عندهم، وكان قوله: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، معناه: والذين يجمعون الذهب والفضة بعضَها إلى بعض ولا ينفقونها في سبيل الله، وهو عامٌّ في التلاوة، ولم يكن في الآية بيانُ كم ذلك القدر من الذهب والفضّة الذي إذا جمع بعضُه إلى بعض، (1) استحقَّ الوعيدَ = (2) كان معلومًا أن خصوص ذلك إنما أدرك، لوقْف الرسول عليه، وذلك كما بينا من أنه المال الذي لم يودَّ حق الله منه من الزكاة دون غيره، لما قد أوضحنا من الدلالة على صحته.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " لم يكن في الآية "، بغير واو، والصواب إثباتها.
(2) السياق: " وإ ذا كان ذلك معنى الكنز عندهم. . . كان معلوما. . . ".(14/226)
وقد كان بعض الصحابة يقول: هي عامة في كل كنز غير أنها خاصّة في أهل الكتاب، وإياهم عَنَى الله بها.
* ذكر من قال ذلك:
16671- حدثني أبو حصين عبد الله بن أحمد بن يونس قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذَة، فلقيت أبا ذَرّ، فقلت: يا أبا ذرّ، ما أنزلك هذه البلاد؟ قال: كنت بالشأم، فقرأت هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة) ، الآية، فقال معاوية: ليست هذه الآية فينَا، إنما هذه الآية في أهل الكتاب! قال: فقلت: إنها لفينا وفيهم! قال: فارتَفَع في ذلك بيني وبينه القولُ، فكتب إلى عثمان يشكُوني، فكتب إليَّ عثمان أنْ أقبل إليّ! قال: فأقبلت، فلما قدمت المدينة ركِبني الناسُ كأنهم لم يروني قبل يومئذ، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تَنَحَّ قريبًا. قلت: والله لن أدعَ ما كنت أقول! (1)
16672- حدثنا أبو كريب وأبو السائب وابن وكيع قالوا، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررنا بالربذة، ثم ذكر عن أبي ذر نحوه. (2)
__________
(1) الأثر: 16671 - " أبو حصين "، " عبد الله بن أحمد بن يونس اليربوعي "، شيخ الطبري، ثقة. مضى برقم: 12336.
و" حصين "، هو " حصين بن عبد الرحمن الهذلي "، ثقة سلف مرارا، آخرها رقم: 12193، 12304.
و" زيد بن وهب الجهني" تابعي كبير، هاجر إلى رسول الله، ولم يدركه. مضى برقم: 4222، 16527، 16528.
وهذا الخبر رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 217 / 8: 244) ، أولهما من طريق هشيم، عن حصين، والثاني من طريق جرير، عن حصين.
ورواه ابن سعد في الطبقات 4 / 1 / 166، من طريق هشيم، عن حصين.
وسيرويه أبو جعفر من طريق هشيم أيضا برقم: 16674.
(2) الأثر: 16672 - هذا مكرر الذي قبله.(14/227)
16673- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن أشعث وهشام، عن أبي بشر قال، قال أبو ذر: خرجت إلى الشأم، فقرأت هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، فقال معاوية: إنما هي في أهل الكتاب! قال فقلت: إنها لفينا وفيهم. (1)
16674- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن زيد بن وهب قال: مررت بالرَّبَذة، فإذا أنا بأبي ذر قال قلت له: ما أنزلك منزلك هذا؟ قال: كنت بالشأم، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية: (والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله) ، قال: فقال: نزلت في أهل الكتاب. فقلت: نزلت فينا وفيهم = ثم ذكر نحو حديث هشيم، عن حصين. (2)
* * *
فإن قال قائل: فكيف قيل: (ولا ينفقونها في سبيل الله) ، فأخرجت "الهاء" و"الألف" مخرج الكناية عن أحدِ النوعين.
قيل: يحتمل ذلك وجهين:
أحدهما: أن يكون "الذهب والفضة" مرادًا بها الكنوز، كأنه قيل: والذين يكنزون الكنوز ولا ينفقونَها في سبيل الله، لأن الذهب والفضة هي "الكنوز"، في هذا الموضع.
والأخر أن يكون استغنى بالخبر عن إحداهما في عائد ذكرهما، من الخبر عن الأخرى، لدلالة الكلام على الخبر عن الأخرى مثل الخبر عنها، وذلك كثير موجود في كلام العرب وأشعارها، ومنه قول الشاعر: (3)
__________
(1) الأثر: 16673 - " أبو بشر "، هو: " جعفر بن أبي وحشية "، مضى مرارا. وهو إسناد منقطع.
(2) الأثر: 16674 - هو مكرر الأثر السالف رقم: 16671، انظر تخريجه هناك.
(3) هو عمرو بن امرئ القيس، من بني الحارث بن الخزرج، جد عبد الله بن رواحة، جاهلي قديم.(14/228)
يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاض، وَالرَّأْيُ مُخْتَلِفُ (1)
فقال: "راض"، ولم يقل: "رضوان"، وقال الآخر: (2)
إِنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ والشَّعَرَ الأسْ ... وَدَ مَا لَمْ يُعَاصَ كانَ جُنُونَا (3)
فقال: "يعاص"، ولم يقل: "يعاصيا" في أشياء كثيرة. ومنه قول الله: (وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا) ، [سورة الجمعة: 11] ، ولم يقل: "إليهما"
* * *
القول في تأويل قوله: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنزتُمْ لأنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنزونَ (35) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فبشر هؤلاء الذين يكنزون الذهب والفضة، ولا يخرجون حقوق الله منها، يا محمد، بعذاب أليم = (يوم يحمى عليها في نار جهنم) ، فـ "اليوم" من صلة "العذاب الأليم"، كأنه قيل: يبشرهم بعذاب أليم، يعذبهم الله به في يوم يحمى عليها.
__________
(1) جمهرة أشعار العرب: 127، سيبويه 1: 37، 38 (منسوبا لقيس بن الخطيم، وهو خطأ) ، ومعاني القرآن للفراء 1: 434، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 258، الخزانة 2: 190، وغيرها، ومضى بيت منها 2: 21، وسيأتي في التفسير 22: 68 / 26: 99 (بولاق) من قصيدة قالها لمالك بن العجلان النجاري، في خبر طويل، يقول له: يا مَالِ، والسَّيِّدُ المُعَمَّمُ قَدْ ... يَطْرَأُ فِي بَعْضِ رأيِهِ السَّرَفُ
خالَفْتَ فِي الرأيِ كُلَّ ذِي فَخَرٍ ... وَالحقُّ، يا مَالِ، غيرُ مَا تَصِفُ.
(2) هو حسان بن ثابت.
(3) ديوانه: 413، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 258، والكامل 2: 79، واللسان (شرخ) ، و " الشرخ ": الحد، أي غاية ارتفاعه، يعني بذلك: أقصى قوته ونضارته وعنفوانه.(14/229)
ويعني بقوله: (يحمي عليها) ، تدخل النار فيوقد عليها، أي: على الذهب والفضة التي كنزوها = (في نار جهنم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم) .
* * *
وكل شيء أدخل النار فقد أحمي إحماءً، يقال منه: "أحمَيت الحديدة في النار أحميها إحماءً".
* * *
وقوله: (فتكوى بها جباههم) ، يعني بالذهب والفضة المكنوزة، يحمى عليها في نار جهنم، يكوي الله بها. يقول: يحرق الله جباهَ كانزيها وجنوبَهم وظهورهم = (هذا ما كنزتم) ، ومعناه: ويقال لهم: هذا ما كنزتم في الدنيا، أيها الكافرون الذين منعوا كنوزهم من فرائض الله الواجبة فيها لأنفسكم = (فذوقوا ما كنتم تكنزون) ، يقول: فيقال لهم: فاطعَمُوا عذاب الله بما كنتم تمنعون من أموالكم حقوقَ الله وتكنزونها مكاثرةً ومباهاةً. (1)
وحذف من قوله: (هذا ما كنزتم) و "يقال لهم"، لدلالة الكلام عليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16675- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن حميد بن هلال قال: كان أبو ذر يقول: بشّر الكنّازين بكيّ في الجباه، وكيّ في الجنوب، وكيٍّ في الظهور، حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم. (2)
__________
(1) انظر تفسير " ذاق " فيما سلف ص: 15، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 16675 - " حميد بن هلال العدوي "، ثقة، متكلم فيه، لأنه دخل في عمل السلطان. وقال البزار في مسنده: لم يسمع من أبي ذر. ومات حميد في ولاية خالد بن عبد الله القسري على العراق. مضى برقم: 13768.(14/230)
16676-...... قال: حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي العلاء بن الشخير، عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة، فبينا أنا في حَلْقَة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، (1) فقام عليهم فقال: بشِّر الكنازين برضْفٍ يحمى عليه في نار جهنم، (2) فيوضع على حَلَمة ثدْي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه، ويوضع على نُغْضِ كتفه، (3) حتى يخرج من حَلَمة ثدييه، يتزلزل، (4) قال: فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا. قال: وأدبر، فاتبعته، حتى جلس إلى ساريةٍ، فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قُلْت! فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا. (5)
16677- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم قال، حدثني عمرو بن قيس، عن عمرو بن مرة الجملي، عن أبي نصر، عن الأحنف بن قيس، قال: رأيت في مسجد المدينة رجلا غليظ الثياب، رثَّ الهيئة، يطوف في الحِلَق وهو يقول: بشر أصحاب الكنوز بكيٍّ في جنوبهم، وكي في جباههم، وكيٍّ في
__________
(1) في المطبوعة " خشن " في المواضع الثلاث. وأثبت ما في المخطوطة. وهو المطابق لرواية مسلم. " الخشن " و " الأخشن "، والأنثى " خشنة " و " خشناء ". من الخشونة. وهو الأحرش من كل شيء. ويقال. " رجل أخشن، خشن ".
(2) " الرضف " (بفتح فسكون) : الحجارة المحماة على النار، والعرب يوغرون بها اللبن، ويشوون عليها اللحم.
(3) " نغض الكتف " (بضم فسكون، أو فتح فسكون) و " ناغض الكتف "، هو عند أعلى الكتف، عظم رقيق على طرفه، ينغض إذا مشى الماشي، أي يتحرك.
(4) " يتزلزل "، أي يتحرك ويضطرب، كأنه يزل مرة بعد أخرى، يقول: يضطرب الرضف المحمي نازلا من نغض الكتف حتى يخرج من حلمة الثدي.
(5) الأثر 16676 - " الجريري "، هو " سعيد بن إياس الجريري " الحافظ المشهور، روى له الجماعة، مضى برقم: 196، 12274.
و" أبو العلاء بن الشخير "، هو " يزيد بن عبد الله بن الشخير " ثقة وروى له الجماعة. مضى برقم 15514، 15515.
وهذا الخبر رواه البخاري بنحوه مطولا في صحيحه (الفتح 3: 128) - ورواه مسلم في صحيحه 7 / 77 بلفظه من هذا الطريق مطولا أيضا.(14/231)
ظهورهم! ثم انطلق وهو يتذمَّر يقول (1) ما عسى تصنعُ بي قريش!! (2)
16678- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: قال أبو ذر: بشر أصحاب الكنوز بكيٍّ في الجباه، وكيٍّ في الجنوب، وكيٍّ في الظهور.
16679- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس: (يوم يحمى عليها في نار جهنم) ، قال: حية تنطوي على جبينه وجبهته تقول: أنا مالُك الذي بخلت به! (3)
16680- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن ثوبان: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: من ترك بعدَه كنزا مثَلَ له يوم القيامة شُجَاعًا أقرعَ له زبيبتان، (4) يتبعه يقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الذي تركته بعدك! فلا يزال يتبعه حتى يُلْقِمه يده فيقضمها، ثم يتبعه سائر جسده. (5)
__________
(1) " يتذمر "، أي: يصخب من الغضب، كأنه يعاتب نفسه.
(2) الأثر: 16677 - " عمرو بن قيس الملائي، ثقة، مضى مرارا.
و" عمرو بن مرة الجملي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارا.
و" أبو نصر "، لم أعرف من هو؟
(3) الأثر: 16679 - " قابوس بن أبي ظبيان الجنبي "، ضعيف، لا يحتج به، مضى برقم: 9745، 10683.
وأبوه: " أبو ظبيان الجنبي "، هو " حصين بن جندب "، ثقة، روى له الجماعة، مضى أيضا برقم: 9745، 10683.
وانظر ما سلف في حديث ابن مسعود رقم: 8285 - 8289.
(4) " الشجاع "، ضرب من الحيات مارد خبيث. " والأقرع "، هو الذي لا شعر له على رأسه، قد تمعط عليه رأسه لكثرة سمه، وطول عمره. و " الزبيبتان ": نكتتان سوداوان تكونان فوق عينيه، وهو أوحش ما يكون من الحيات وأخبثه.
(5) الأثر: 16680 - " سالم بن أبي الجعد الأشجعي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 4244، 11546، 16661 - 16666.
و" معدان بن أبي طلحة الكناني "، تابعي ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 38، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 404.
وهذا الخبر، ذكره ابن كثير في تفسيره 4: 157، وقال: " رواه ابن حبان في صحيحه من حديث يزيد بن سعيد، به. وأصل هذا الحديث في الصحيحين، من رواية أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، رضي الله عنه = وفي صحيح مسلم من حديث سهيل بن أبي صالح عن أبيه، عن أبي هريرة "، وذكر الخبر.(14/232)
16681- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: بلغني أن الكنوز تتحوَّل يوم القيامة شجاعًا يتبع صاحبه وهو يفرُّ منه، ويقول: أنا كنزك! لا يدرك منه شيئًا إلا أخذه.
16682- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: والذي لا إله غيره، لا يكوى عبد بكنز فيمسُّ دينارٌ دينارًا ولا درهم درهمًا، ولكن يوسع جلده، فيوضع كل دينار ودرهم على حِدَته. (1)
16683-...... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: ما من رجل يكوَى بكنز فيوضع دينار على دينارٍ ولا درهم على درهم، ولكن يوسَّع جلده. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 16682 - هذا الخبر، ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 29، 30، وقال: " رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح ".
وذكره ابن كثير في تفسيره 4: 156، وقال: " وقد رواه ابن مردويه، عن أبي هريرة مرفوعا، ولا يصح رفعه، والله أعلم ".
وذكره السيوطي في الدر المنثور 3: 233، ونسبه إلى ابن أبي حاتم، والطبراني، وأبي الشيخ، لم يذكر ابن جرير.
(2) الأثر: 16683 - هو مكرر الأثر السالف، بإسناد آخر، مختصرا.(14/233)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: إن عدة شهور السنة اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، الذي كتبَ فيه كل ما هو كائن في قضائه الذي قضى = (يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، يقول: هذه الشهور الاثنا عشر منها أربعة أشهر حرم كانت الجاهلية تعظمهن، وتحرِّمهن، وتحرِّم القتال فيهن، حتى لو لقي الرجل منهم فيهن قاتل أبيه لم يَهِجْهُ، وهن: رجب مُضر وثلاثة متواليات، ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
16684- حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا موسى بن عبيدة الربذي قال: حدثني صدقة بن يسار، عن ابن عمر قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنًى في أوسط أيام التشريق، فقال: يا أيها الناس، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، أوّلهن رجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. (1)
__________
(1) الأثر: 16684 - " موسى بن عبد الرحمن المسروقي "، شيخ الطبري، مضى مرارا، آخرها رقم 8906.
و" زيد بن حباب العكلي "، مضى مرارا، منها رقم: 11134.
و" موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي "، ضعيف جدا، منكر الحديث مضى مرارا، منها رقم: 11134.
و" صدقة بن يسار الجزري "، مكي ثقة، روى عن ابن عمر. مترجم في التهذيب والكبير 2 / 2/ 294، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 428.
وهذا إسناد ضعيف، لضعف موسى بن عبيدة الربذي.(14/234)
16685- حدثنا محمد بن معمر قال، حدثنا روح قال، حدثنا أشعث عن محمد بن سيرين، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ورجبُ مُضَر بين جمادى وشعبان. (1)
16686- حدثنا يعقوب قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين، عن أبي بكرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع فقال: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجبُ مضر الذي بين جمادى وشعبان. (2)
__________
(1) الأثر: 16685 - "محمد بن معمر بن ربعي البحراني"، شيخ الطبري، ثقة من شيوخ البخاري ومسلم، مضى برقم: 241، 3056، 5393.
و"روح"، هو "روح بن عبادة القيسي"، ثقة، مضى مرارًا كثيرة.
و"أشعث"، هو "أشعث بن عبد الملك الحمراني"، ثقة مأمون، مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 1 \ 431، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 275.
وهذا الخبر، نقله ابن كثير في تفسيره 4: 160، عن هذا الوضع، ثم قال: "رواه البزار، عن محمد بن معمر، به، ثم قال: لا يروى عن أبي هريرة إلا من هذا الوجه".
(2) الأثر: 16686 - هذا خبر منقطع الإسناد، لأن محمد بن سيرين لم يسمع من أبي بكرة، ووصله البخاري في مواضع صحيحه، من طريق "أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن أبي بكرة، عن أبي بكرة" (الفتح 1: 145، 177، 178 \ 3: 459 \ 6: 210، 211 \ 8: 83، 244) ، مطولا.
ووصله مسلم أيضًا في صحيحه 11: 167.
ورواه أحمد في مسنده 5: 37، منقطعا، كما رواه الطبري، وقد استوفى الحافظ ابن حجر، تفصيل القول في ذلك في الفتح، في المواضع التي ذكرتها آنفًا.
والحديث صحيح متفق عليه.(14/235)
16687- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سليمان التيمي قال، حدثني رجل بالبحرين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجبُ الذي بين جمادى وشعبان".
16688- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن ابن أبي نجيح قوله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب الذي بين جمادى وشعبان.
16689- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم منًى: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان".
* * *
وهو قول عامة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16690- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض منها أربعة حرم) ، أما (أربعة حرم) ، فذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب. وأما (كتاب الله) ، فالذي عنده.
16691- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله: (إن عدة الشهور عند الله(14/236)
اثنا عشر شهرًا) ، قال: يعرف بها شأن النسيء ما نقص من السنة.
16692- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قول الله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله) ، قال: يذكر بها شأن النسيء.
* * *
وأما قوله: (ذلك الدين القيم) ، فإن معناه: هذا الذي أخبرتكم به، من أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله، وأن منها أربعة حرمًا: هو الدين المستقيم، كما:-
16693- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ذلك الدين القيم) ، يقول: المستقيم.
16694- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في قوله: (ذلك الدين القيم) ، قال: الأمر القيم. يقول: قال تعالى: واعلموا، أيها الناس، أن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله الذي كتب فيه كل ما هو كائن، وأن من هذه الاثنى عشر شهرًا أربعةُ أشهرٍ حرمًا، ذلك دين الله المستقيم، لا ما يفعله النسيء من تحليله ما يحلل من شهور السنة، وتحريمه ما يحرِّمه منها. (1)
وأما قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، فإن معناه: فلا تعصوا الله فيها، ولا تحلُّوا فيهن ما حرَّم الله عليكم، فتكسبوا أنفسكم ما لا قِبَل لها به من سخط الله وعقابه. كما:-
__________
(1) "النسئ"، هكذا جاءت في المخطوطة أيضًا، بمعنى "الناسئ"، وهو الذي كان يحلل لهم الشهر ويحرمه. وأخشى أن يكون وهمًا من الناسخ، فإن "النسئ" على وزن "فعيل"، وهو بمعنى "مفعول"، أو مصدر "نسأ الشهر"، ولم أرهم قالوا في الرجل إلا "ناسئ"، وجمعه "نسأة"، مثل "فاسق" و "فسقة".
وانظر ما سيأتي في تفسير "النسئ" ص: 343، والخبر رقم: 16708، 16709، والتعليق هناك.(14/237)
16695- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: الظلم العمل بمعاصي الله، والترك لطاعته.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الذي عادت عليه "الهاء"، و"النون" في قوله: (فيهن) .
فقال بعضهم: عاد ذلك على "الاثنى العشر الشهر"، (1) وقال: معناه: فلا تظلموا في الأشهر كلِّها أنفسكم.
* ذكر من قال ذلك:
16696- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، في كلِّهن. ثم خصَّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهن حُرُمًا، وعظّم حُرُماتهن، وجعل الذنبَ فيهن أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم.
16697- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: في الشهور كلها.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في الأربعة الأشهر الحرُم أنفسكم = و"الهاء والنون" عائدة على "الأشهر الأربعة".
* ذكر من قال ذلك:
16698- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أما قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، فإن الظلم في الأشهر الحرم
__________
(1) في المطبوعة: "على الاثنى عشر شهرًا"، وأثبت ما في المخطوطة.(14/238)
أعظم خطيئةً ووِزْرًا، من الظلم فيما سواها، وإن كان الظلم على كل حال عظيمًا، ولكن الله يعظِّم من أمره ما شاء. وقال: إن الله اصطفى صَفَايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسُلا ومن الناس رسلا واصطفى من الكلام ذكرَه، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشهور رمضانَ والأشهر الحرم، واصطفى من الأيام يوم الجمعة، واصطفى من الليالي ليلةَ القدر، فعظِّموا ما عظم الله، فإنما تعظم الأمور بما عظَّمها الله عند أهل الفهم وأهل العقل.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فلا تظلموا في تصييركم حرامَ الأشهر الأربعة حلالا وحلالها حرامًا = أنفسَكم.
* ذكر من قال ذلك:
16699- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا) ، إلى قوله: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ،: أي: لا تجعلوا حرامها حلالا ولا حلالها حرامًا، كما فعل أهل الشرك، فإنما النسيء، الذي كانوا يصنعون من ذلك، (زيادة في الكفر يُضَل به الذين كفروا) ، الآية. (1)
166700- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: "ظلم أنفسكم"، أن لا تحرِّموهن كحرمتهن.
16701- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد بن علي: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، قال: "ظلم أنفسكم"، أن لا تحرِّموهن كحرمتهن.
16702- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 16699 - سيرة ابن هشام 4: 193، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16615.(14/239)
سفيان، عن قيس بن مسلم، عن الحسن بن محمد، بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: فلا تظلموا في الأشهر الأربعة أنفسَكم، باستحلال حرامها، فإن الله عظمها وعظَّم حرمتها.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويله، لقوله: (فلا تظلموا فيهن) ، فأخرج الكناية عنه مُخْرَج الكناية عن جمع ما بين الثلاثة إلى العشرة. وذلك أن العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة، إذا كَنَتْ عنه: "فعلنا ذلك لثلاث ليال خلون، ولأربعة أيام بقين" وإذا أخبرت عما فوق العشرة إلى العشرين قالت: "فعلنا ذلك لثلاث عشرة خلت، ولأربع عشرة مضت" = فكان في قوله جل ثناؤه: (فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ، وإخراجِه كناية عدد الشهور التي نهى المؤمنين عن ظلم أنفسهم فيهن مخرج عدد الجمع القليل من الثلاثة إلى العشرة، الدليلُ الواضح على أن "الهاء والنون"، من ذكر الأشهر الأربعة، دون الاثنى العشر. لأن ذلك لو كان كناية عن "الاثنى عشر شهرًا"، لكان: فلا تظلموا فيها أنفُسكم. (1)
* * *
فإن قال قائل: فما أنكرت أن يكون ذلك كنايةً عن "الاثنى عشر"، وإن كان الذي ذكرت هو المعروف في كلام العرب؟ فقد علمت أن [من] المعروف من كلامها، (2) إخراجُ كناية ما بين الثلاث إلى العشر، بالهاء دون النون، وقد قال الشاعر: (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 435.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أن المعروف من كلامها"، والسياق يقتضي إثبات ما أثبت بين القوسين، لأن هذا القائل، أقر أولا بأن ما قاله الطبري هو "المعروف من كلامها"، أي المشهور المتفق عليه. فالجيد أن يعترض عليه بشيء آخر، هو "الجائز في كلامها"، فمن أجل هذا المعنى زدت " من " بين القوسين، ليستقيم منطق الكلام.
(3) هو عمر بن لجأ التيمي.(14/240)
أَصْبَحْنَ فِي قُرْحٍ وَفِي دَارَاتِها ... سَبْعَ لَيَالٍ غَيْرَ مَعْلُوفَاتِهَا (1)
ولم يقل: "معلوفاتهن"، وذلك كناية عن "السبع"؟
قيل: إن ذلك وإن كان جائزًا، فليس الأفصحَ الأعرفَ في كلامها. وتوجيهُ كلام الله إلى الأفصح الأعرف، أولى من توجيهه إلى الأنكر.
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فقد يجب أن يكون مباحًا لنا ظُلْم أنفسنا في غيرهن من سائر شهور السنة؟
قيل: ليس ذلك كذلك، بل ذلك حرام علينا في كل وقتٍ وزمانٍ، ولكن الله عظَّم حرمة هؤلاء الأشهر وشرَّفهن على سائر شهور السنة، فخصّ الذنب فيهن بالتعظيم، كما خصّهن بالتشريف، وذلك نظير قوله: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى) [سورة البقرة: 238] ، ولا شك أن الله قد أمرنا بالمحافظة على الصلوات المفروضات كلها بقوله: (حافظوا على الصلوات) ، ولم يبح ترك المحافظة عليهن، بأمره بالمحافظة على الصلاة الوسطى، ولكنه تعالى ذكره زادَها تعظيمًا، وعلى المحافظة عليها توكيدًا وفي تضييعها تشديدًا. فكذلك ذلك في قوله: (منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم) ،.
* * *
وأما قوله: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ، فإنه يقول جل ثناؤه: وقاتلوا المشركين بالله، أيها المؤمنون، جميعًا غير مختلفين، مؤتلفين غير مفترقين، كما يقاتلكم المشركون جميعًا، مجتمعين غير متفرقين، كما:-
16703- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال،
__________
(1) حماسة أبي تمام 4: 157، ومعاني القرآن للفراء 1: 435. واللسان (قرح) ، غير منسوبة ودل على أنها لعمر بن لجأ، أبيات رواها الأصمعي في الأصمعيات ص: 25، 26 و " قرح " (بضم القاف وسكون الراء) ، هو سوق وادي القرى، صلى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبنى به مسجدا، ورواية الحماسة واللسان، " حبسن في قرح ".(14/241)
حدثنا أسباط، عن السدي: (وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة) ، أما "كافة"، فجميع، وأمركم مجتمع.
16704- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وقاتلوا المشركين كافة) ، يقول: جميعًا.
* * *
16705- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وقاتلوا المشركين كافة) ،: أي: جميعا.
* * *
و"الكافة" في كل حال على صورة واحدة، لا تذكّر ولا تجمع، لأنها وإن كانت بلفظ "فاعلة"، فإنها في معنى المصدر، ك"العافية" و"العاقبة"، ولا تدخل العربُ فيها "الألف واللام"، لكونها آخر الكلام، مع الذي فيها من معنى المصدر، كما لم يدخلوها إذا قاتلوا: "قاموا معًا"، و"قاموا جميعا". (1)
* * *
وأما قوله: (واعلموا أن الله مع المتقين) ، فإن معناه: واعلموا، أيها المؤمنون بالله، أنكم إن قاتلتم المشركين كافة، واتقيتم الله فأطعتموه فيما أمركم ونهاكم، ولم تخالفوا أمره فتعصوه، كان الله معكم على عدوكم وعدوه من المشركين، ومن كان الله معه لم يغلبه شيء، (2) لأن الله مع من اتقاه فخافه وأطاعه فيما كلفه من أمره ونهيه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " كافة " فيما سلف 4: 257، 258، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 436.
(2) انظر تفسير " مع " فيما سلف 13: 576 تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/242)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما النّسيء إلا زيادة في الكفر.
* * *
و"النسيء" مصدر من قول القائل: "نسأت في أيامك، ونسأ الله في أجلك"، أي: زاد الله في أيام عمرك ومدة حياتك، حتى تبقى فيها حيًّا. وكل زيادة حدثت في شيء، فالشيء الحادث فيه تلك الزيادة بسبب ما حدث فيه: "نسيء". ولذلك قيل للبن إذا كُثِّر بالماء: "نسيء"، وقيل للمرأة الحبلى: "نَسُوء"، و"نُسِئت المرأة"، لزيادة الولد فيها، وقيل: "نسأتُ الناقة وأنسأتها"، إذا زجرتها ليزداد سيرها.
وقد يحتمل أن: "النسيء"، "فعيل" صرف إليه من "مفعول"، كما قيل: "لعينٌ" و"قتيل"، بمعنى: ملعون ومقتول. ويكون معناه: إنما الشهر المؤخَّر زيادة في الكفر.
وكأنّ القول الأوّل أشبه بمعنى الكلام، وهو أن يكون معناه: إنما التأخير الذي يؤخِّره أهل الشرك بالله من شهور الحرم الأربعة، وتصييرهم الحرام منهن حلالا والحلال منهن حرامًا، زيادة في كفرهم وجحودهم أحكامَ الله وآياته.
* * *
وقد كان بعض القرأة يقرأ ذلك: (إِنَّمَا النَّسْيُ) بترك الهمز، وترك مدِّه: (يضل به الذين كفروا) ،.
* * *
واختلف القرأة في قراءة ذلك.(14/243)
فقرأته عامة الكوفيين: (يَضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا) بمعنى: يضل الله بالنسيء الذي ابتدعوه وأحدثوه، الذين كفروا.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة والبصرة وبعض الكوفيين: (يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا) ، بمعنى: يزول عن محجة الله التي جعلها لعباده طريقًا يسلكونه إلى مرضاته، الذين كفروا.
* * *
وقد حكي عن الحسن البصري: (يُضِلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفُرُوا) ، بمعنى: يضل بالنسيء الذي سنه الذين كفروا، الناسَ.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هما قراءتان مشهورتان، قد قرأت بكل واحدةٍ القرأة أهل العلم بالقرآن والمعرفة به، وهما متقاربتا المعنى. لأن من أضله الله فهو "ضال"، ومن ضل فبإضلال الله إياه وخذلانه له ضلّ. فبأيتهما قرأ القارئ فهو للصواب في ذلك مصيبٌ.
* * *
وأما الصواب من القراءة في "النسيء"، فالهمزة، وقراءته على تقدير "فعيل" لأنها القراءة المستفيضة في قرأة الأمصار التي لا يجوز خلافها فيما أجمعت عليه.
* * *
وأما قوله: (يحلونه عامًا) ، فإن معناه: يُحلُّ الذين كفروا النسيء = و"الهاء" في قوله: (يحلونه) ، عائدة عليه.
ومعنى الكلام: يحلُّون الذي أخَّروا تحريمه من الأشهر الأربعة الحرم، عامًا = (ويحرمونه عامًا ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، يقول: ليوافقوا بتحليلهم ما حلَّلوا من الشهور، وتحريمهم ما حرموا منها، عدّة ما حرّم الله (1) = (فيحلوا ما حرّم الله زُيِّن لهم سوء أعمالهم) ، يقول: حُسِّن لهم وحُبِّب إليهم سيئ أعمالهم وقبيحها،
__________
(1) انظر تفسير " عدة " فيما سلف 3: 459 \ 14: 234.(14/244)
وما خولف به أمرُ الله وطاعته (1) = (والله لا يهدي القوم الكافرين) ، يقول: والله لا يوفق لمحاسن الأفعال وجميلها، (2) وما لله فيه رضًى، القومَ الجاحدين توحيدَه، والمنكرين نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنه يخذّلهم عن الهُدى، كما خذَّل هؤلاء الناس عن الأشهر الحرم. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16706- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: "النسيء"، هو أن "جُنَادة بن عوف بن أمية الكناني"، كان يوافي الموسم كلَّ عام، وكان يُكنى "أبا ثُمَامة"، (4) فينادي: "ألا إنّ أبا ثمامة لا يُحَابُ ولا يُعَابُ، (5) ألا وإن صَفَر العامِ الأوَّلِ العامَ حلالٌ"، (6) فيحله الناس، فيحرم صَفَر عامًا، ويحرِّم المحرم عامًا، فذلك قوله تعالى: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى قوله: (الكافرين) . وقوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، يقول: يتركون المحرم عامًا، وعامًا يحرِّمونه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " زين " فيما سلف ص: 7: تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: " لمحاسن الأفعال وحلها "، لم يحسن قراءة المخطوطة، وصوابه ما أثبت.
(3) انظر تفسير " هدى " فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .
(4) انظر أخبار " النسأة "، وخبر " جنادة بن عوف بن أمية " في سيرة ابن هشام 1: 44 - 47، والمحبر: 156، 157، وغيرهما. و " جنادة بن عوف "، هو الذي قام عليه الإسلام من النسأة.
(5) كان في المطبوعة: " لا يجاب " بالجيم، ووردت بالجيم في كثير من الكتب، منها لسان العرب (نسأ) ، ولكنه ورد في المحبر: 157، بالحاء المهملة، وهو من " الحوب "، أي: الإثم، أي: لا ينسب إلى الإثم. وانظر الخبر التالي رقم: 16710.
(6) في المطبوعة: " صفر العام الأول حلال"، حذف " العام " الثانية، وهي ثابتة في المخطوطة.(14/245)
قال أبو جعفر: وهذا التأويلُ من تأويل ابن عباس، يدل على صحة قراءة من قرأ (النَّسْيُ) ، بترك الهمزة وترك المدّ، وتوجيهه معنى الكلام إلى أنه "فَعْلٌ"، من قول القائل: "نسيت الشيء أنساه"، ومن قول الله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) ، [سورة التوبة: 67] ، بمعنى: تركوا الله فتركهم.
16707- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: فهو المحرَّم، كان يحرَّم عامًا، وصفرُ عامًا، وزيد صفرٌ آخر في الأشهر الحُرُم، وكانوا يحرمون صفرًا مرة، ويحلُّونه مرة، فعاب الله ذلك. وكانت هوازن وغطفان وبنو سُلَيْم تفعله.
16708- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي وائل: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: كان "النسيء" رجلا من بني كنانة، (1) وكان ذا رأي فيهم، وكان يجعل سنةً المحرمَ صفرًا، فيغزون فيه، فيغنمون فيه، ويصيبون، ويحرِّمه سنة.
16709-...... قال حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي وائل: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، الآية، وكان رجل من بني كنانة يُسَمَّى "النسيء"، فكان يجعل المحرَّم صفرًا، ويستحل فيه الغنائم، فنزلت هذه الآية.
16710- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد قال، كان رجل من بني كنانة يأتي كلَّ عام في الموسم على حمار له، فيقول: "أيها الناس، إني لا أعاب ولا أحَابُ، (2) ولا مَرَدَّ لما أقول، إنَّا قد
__________
(1) قوله: " كان النسيء رجلا "، دال على صواب قوله هناك ص: 237، تعليق 1:، على أن " النسيء " في ذلك الموضع صواب أيضًا، وانظر الأثر التالي، قوله: "وكان رجل من بني كنانة يسمى النسيء"، وهذا كله لم تذكره كتب اللغة التي بين يدي.
(2) " أحاب " مضى تفسيرها ص: 243، تعليق: 2، وكانت هنا في المطبوعة أيضًا "أجاب" بالجيم.(14/246)
حرمنا المحرَّم، وأخَّرنا صفر". ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته، ويقول: "إنا قد حرَّمنا صفر وأخَّرنا المحرَّم"، فهو قوله: (ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، قال: يعني الأربعة = (فيحلوا ما حرم الله) ، لتأخير هذا الشهر الحرام.
16711- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، "النسيء"، المحرّم، وكان يحرم المحرَّم عامًا ويحرِّم صفر عامًا، فالزيادة "صفر"، وكانوا يؤخرون الشهور حتى يجعلون صفر المحرم، فيحلوا ما حرم الله. وكانت هوازن وغطفان وبنو سليم يعظمونه، هم الذين كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية.
16712- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى قوله: (الكافرين) ، عمد أناسٌ من أهل الضلالة فزادوا صفرًا في الأشهر الحرم، فكان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: "ألا إن آلهتكم قد حرمت العام المحرَّم"، فيحرمونه ذلك العام. ثم يقول في العام المقبل فيقول: "ألا إن آلهتكم قد حرمت صفر"، فيحرمونه ذلك العام. وكان يقال لهما "الصفران". قال: فكان أول من نَسَأ النسيء: بنو مالك بن كنانة، وكانوا ثلاثة: أبو ثمامة صفوان بني أمية أحد بني فقيم بن الحارث، ثم أحد بني كنانة. (1)
__________
(1) هكذا جاء في المخطوطة: " وكانوا ثلاثة "، ثم لم يذكر غير واحد. وقوله: " أبو ثمامة، صفوان بن أمية "، مضى قبل في الأثر رقم: 16706 أن "أبا ثمامة" هو "جنادة بن عوف بن أمية"، أما صفوان هذا فقد ذكره أبو عبيد البكري في شرح الأمالي: 10، وقال: قال الليثي: كان الذي انبرى للنسئ، القلمس، وهو: صفوان بن محرث، أحد بني مالك بن كنانة، وكان له بذلك ملكة وأكل، وتوارثه بنوه إلى الإسلام ". ولكن الذي ذكره ابن حبيب في المحبر، وابن هشام في سيرته 1: 44. قال ابن إسحاق: " وكان أول من نسأ الشهور على العرب، فأحلت ما أحل، وحرمت منها ما حرم: القلمس، وهو حذيفة بن عبد بن فقيم ابن عدي بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة بن خزيمة. ثم قام بعده على ذلك، ابنه: عباد بن حذيفة. ثم قام بعد عباد: قلع بن عباد. ثم قام بعد قلع: أمية بن قلع. ثم قلم بعد أمية: عوف بن أمية. ثم قام بعد عوف: أبو ثمامة جنادة بن عوف، وكان آخرهم، وعليه قام الإسلام ". وذلك ما قاله ابن حبيب، وما قاله ابن حزم في الجمهرة: 178، والمصعب الزبيري في نسب قريش: 12.
ولم أجد هذا الخبر في مكان آخر، فأعرف مقالة قتادة في أمر النسئ والنسأة.
و" صفوان بن محرث " الذي ذكره البكري، هو " صفوان بن أمية " المذكور في هذا الخبر، وهو: " صفوان بن أمية بن محرث بن بن خمل بن شق بن رقبة بن مخدج بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك بن كنانة "، وكان أحد حكام العرب في الجاهلية، وأحد من حرم الخمر على نفسه في الجاهلية (انظر المحبر: 133، 237 \ أمالي القالي 1: 240 وذكر شعره في تحريم الخمر) . وبين من هذا كله أن " صفوان بن أمية "، ليس من " بني فقيم بن الحارث بن مالك ". بل من بني " مخدج بن عامر بن ثعلبة بن الحارث بن مالك ".
ثم انظر ص: 250، تعليق: 1، وذكر " القلمس " للناسئ في شعر عبد الرحمن بن الحكم، وأمه هي: " آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية بن محرث ".(14/247)
16713- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: فرض الله الحج في ذي الحجة. قال: وكان المشركون يسمون الأشهر: ذو الحجة، والمحرم، وصفر، وربيع، وربيع، وجمادى، وجمادى، ورجب، وشعبان، ورمضان، وشوال، وذو القعدة، وذو الحجة، يحجون فيه مرة، ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه، ثم يعودون فيسمُّون صفر صفر. ثم يسمون رجب جمادى الآخرة، ثم يسمون شعبان ورمضان، ثم يسمون رمضانَ شوالا ثم يسمُّون ذا القعدة شوالا ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة، ثم يسمون المحرم ذا الحجة، فيحجون فيه، واسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا بمثل هذه القصة، فكانوا يحجون في كل شهر عامين، حتى وافق حجةُ أبي بكر رضي الله عنه الآخرَ من العامين في ذي القعدة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم حجَّته التي حجَّ، فوافق ذا الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض".
16714- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن(14/248)
معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: حجوا في ذي الحجة عامين، ثم حجوا في المحرم عامين، ثم حجُّوا في صفر عامين، فكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، حتى وافقت حجة أبي بكر الآخرَ من العامين في ذي القعدة، قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة. ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابلٍ في ذي الحجة، فذلك حين يقول النبي صلى الله عليه وسلم في خطبته: "إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض".
16715- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثةَ عشرا شهرًا، فيجعلون المحرَّم صفرًا، فيستحلُّون فيه الحرمات. فأنزل الله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) .
16716- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إنما النسيء زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا) ، الآية. قال: هذا رجل من بني كنانة يقال له: "القَلَمَّس"، كان في الجاهلية. وكانوا في الجاهلية لا يغير بعضهم على بعض في الشهر الحرام، يلقى الرجل قاتل أبيه فلا يمُدّ إليه يده. فلما كان هو، قال: "أخرجوا بنا"، قالوا له: "هذا المحرَّم"! فقال: "ننسئه العام، هما العام صفران، فإذا كان عام قابلٍ قضينا، فجعلناهما محرَّمَين". قال: ففعل ذلك. فلما كان عام قابل قال: "لا تغزوا في صفر، حرِّموه مع المحرم، هما محرَّمان، المحرَّم أنسأناه عامًا أوَّلُ ونقضيه. ذلك "الإنساء"، وقال منافرهم: (1)
__________
(1) في المطبوعة: " وقال شاعرهم "، وأثبت ما في المخطوطة. و " المنافر "، هو المفاخر في المنافرة. قال ابن سيده: " وكأنما جاءت المنافرة، في أول ما استعملت، أنهم كانوا يسألون الحاكم: أينا أعز نفرا؟ ". و " المنافرة ": هي أن يفتخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكما بينهما رجلا.(14/249)
وَمِنَّا مُنْسِي الشُّهُورِ القَلَمَّسُ (1)
وأنزل الله: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، إلى آخر الآية.
* * *
وأما قوله: (زيادة في الكفر) ، فإن معناه زيادة كُفْر بالنسيء، إلى كفرهم بالله قبلَ ابتداعهم النسيء، (2) كما:-
16717- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (إنما النسيء زيادة في الكفر) ، يقول: ازدادوا به كفرًا إلى كفرهم.
* * *
وأما قوله: (ليواطئوا) ، فإنه من قول القائل: "واطأت فلانا على كذا أواطئه مُواطأة"، إذا وافقته عليه، معينًا له، غير مخالف عليه.
* * *
وروي عن ابن عباس في ذلك ما:-
16718- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ليواطئوا عدة ما حرم الله) ، يقول: يشبهون.
* * *
__________
(1) هكذا جاء في المخطوطة مضطرب الميزان، وذكره القرطبي في تفسيره 8: 138. ومنا ناسئ الشهر القلمس
وهو أيضًا غير مستقيم، والذي وجدته، هو ما قاله عبد الرحمن بن الحكم بن أبي العاص بن أمية، قال: نمَانِي أبُو العَاصِي الأمِينُ وَهَاشِمٌ ... وعُثْمانُ، والنَّاسِي الشُّهُورَ القَلَمَّسُ
وأم عبد الرحمن بن الحكم، ومروان بن الحكم، هي: " آمنة بنت علقمة بن صفوان بن أمية بن محرث بن خمل بن شق"، و "صفوان" هذا هو الذي جاء ذكره في الخبر رقم: 16712، وأنه كان من " النسأة "، وكل ناسئ كان يقال له: "القلمس"، فهذا البيت يؤيد ما قاله قتادة بعض التأييد. وانظر البيت الذي ذكرته في نسب قريش للمصعب الزبيري ص: 98.
(2) في المطبوعة: " وقيل: ابتداعهم النسئ "، غير ما في المخطوطة، فأفسد الكلام كله.(14/250)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)
قال أبو جعفر: وذلك قريب المعنى مما بَيَّنَّا، وذلك أن ما شابه الشيء، فقد وافقه من الوجه الذي شابهه.
وإنما معنى الكلام: أنهم يوافقون بعدة الشهور التي يحرِّمونها، عدة الأشهر الأربعة التي حرَّمها الله، لا يزيدون عليها ولا ينقصون منها، وإن قدَّموا وأخَّروا. فذلك مواطأة عِدتهم عدَّةَ ما حرّم الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلا قَلِيلٌ (38) }
قال أبو جعفر: وهذه الآية حثٌّ من الله جل ثناؤه المؤمنين به من أصحاب رسوله على غزو الروم، وذلك غزوة رسول الله صلى الله عليه وسلم تبوك.
يقول جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله = (ما لكم) ، أيّ شيء أمرُكم = (إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله) ، يقول: إذا قال لكم رسولُ الله محمدٌ = (انفروا) ، أي: اخرجوا من منازلكم إلى مغزاكم.
* * *
وأصل "النفر"، مفارقة مكان إلى مكان لأمرٍ هاجه على ذلك. ومنه: "نفورًا الدابة". غير أنه يقال: من النفر إلى الغزو: "نَفَر فلان إلى ثغر كذا ينْفِر نَفْرًا ونَفِيرًا"، وأحسب أن هذا من الفروق التي يفرِّقون بها بين اختلاف المخبر عنه، (1)
__________
(1) يعني أبو جعفر، أنهم لم يقولوا في النفر إلى الغزو " نفورا " في مصدره، وقد أثبتت كتب اللغة أنه يقال في مصدره "نفر إلى الغزو نفورا".(14/251)
وإن اتفقت معاني الخبر. (1)
* * *
فمعنى الكلام: ما لكم أيها المؤمنون، إذا قيل لكم: اخرجُوا غزاة = "في سبيل الله"، أي: في جهاد أعداء الله (2) = (اثَّاقلتم إلى الأرض) ، يقول: تثاقلتم إلى لزوم أرضكم ومساكنكم والجلوس فيها.
* * *
وقيل: "اثّاقلتم" لإدغام "التاء" في "الثاء" فأحدثتْ لها ألف. (3) ليُتَوصَّل إلى الكلام بها، لأن "التاء" مدغمة في "الثاء". ولو أسقطت الألف، وابتدئ بها، لم تكن إلا متحركة، فأحدثت الألف لتقع الحركة بها، كما قال جل ثناؤه: (حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا) ، [سورة الأعراف: 38] ، وكما قال الشاعر: (4)
تُولِي الضَّجِيعَ إذَا مَا اسْتَافَهَا خَصِرًا ... عَذْبَ المَذَاقِ، إذَا مَا أتَّابَعَ القُبَلُ (5)
[فهو من "الثقل"، ومجازه مجاز "افتعلتم"] ، من "التثاقل". (6)
وقوله: (أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة) ، يقول جل ثناؤه، أرضيتم بحظ الدنيا والدّعة فيها، عوضًا من نعيم الآخرة، وما عند الله للمتقين في جنانه = (فما
__________
(1) انظر "النفر" فيما سلف 8: 536، ولم يفسره هناك.
(2) انظر تفسير "سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(3) في المطبوعة: "لأنه أدغم التاء في الثاء فأحدث لها ألف"، وكان في المخطوطة: "لأنه غام"، فلم يحسن قراءتها، فغير الكلام، فأثبته على الصواب من المخطوطة. وانظر ما سلف في الإدغام 2: 224.
(4) لم أعرف قائله
(5) مضى شرحه وتفسيره آنفًا 2: 223، ومعاني القرآن للفراء 1: 438.
(6) مكان هذه الجملة في المطبوعة: "فهو بنى الفعل افتعلتم من التثاقل"، وهو كلام غث جدا. وفي المخطوطة: " فهو بين الفعل افتعلتم من التثاقل "، غير منقوط، وصححت هذه العبارة اجتهادا، مؤتنسًا بما قاله أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 260، قال: " ومجاز: اثاقلتم، مجاز: افتعلتم، من التثاقل، فأدغمت التاء في الثاء، فثقلت وشددت ". يعني أبو عبيدة: أنك لو بنيت " افتعل " من " الثقل "، كان واجبا إدغام التاء في الثاء. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 437، 438.(14/252)
متاع الحياة الدنيا في الآخرة) ، يقول: فما الذي يستمتع به المتمتعون في الدنيا من عيشها ولذَّاتها في نعيم الآخرة والكرامة التي أعدَّها الله لأوليائه وأهل طاعته (1) = (إلا قليل) ، يسير. يقول لهم: فاطلبوا، أيها المؤمنون، نعيم الآخرة، وشرف الكرامة التي عند الله لأوليائه، (2) بطاعتِه والمسارعة إلى الإجابة إلى أمره في النفير لجهاد عدوِّه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16719- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) ، أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح، وبعد الطائف، وبعد حنين. أمروا بالنَّفير في الصيف، حين خُرِفت النخل، (3) وطابت الثمار، واشتَهُوا الظلال، وشقّ عليهم المخرج.
16720- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض) الآية، قال: هذا حين أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح وحنين وبعد الطائف. أمرهم بالنَّفير في الصيف، حين اختُرِفت النخل، وطابت الثمار، واشتهوا الظلال، وشقَّ عليهم المخرج. قال: فقالوا: "الثقيل"، ذو الحاجة، والضَّيْعة، والشغل، (4) والمنتشرُ به أمره في ذلك كله. فأنزل الله: (انفروا خفافا وثقالا) ، [سورة التوبة: 41]
* * *
__________
(1) انظر تفسير "متاع" فيما سلف من فهارس اللغة (متع) .
(2) في المطبوعة: "وترف الكرامة"، والصواب ما في المخطوطة.
(3) "خرف النخل يخرفه خرفًا، واخترفه اخترافًا"، صرم ثمره واجتناه بعد أن يطيب.
(4) في المطبوعة: "فقالوا: منا الثقيل وذو الحاجة والضيعة ... "، غير ما في المخطوطة، وكان في المخطوطة ما أثبت. وهو مقبول، مع شكي في أن يكون سقط من الكلام شيء. وقوله: " الثقيل: ذو الحاجة والضيعة " هو تفسير قوله تعالى: (انفروا خفافًا وثقالا) ، جمع " ثقيل "، كما سترى في تفسير الآية ص: 262 وما بعدها.(14/253)
إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
القول في تأويل قوله: {إِلا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به من أصحاب رسوله، متوعِّدَهم على ترك النَّفْر إلى عدوّهم من الروم: إن لم تنفروا، أيها المؤمنون، إلى من استنفركم رسول الله، يعذّبكم الله عاجلا في الدنيا، بترككم النَّفْر إليهم، عذابًا مُوجعًا (1) = (ويستبدل قومًا غيركم) ، يقول: يستبدل الله بكم نبيَّه قومًا غيرَكم، ينفرون إذا استنفروا، ويجيبونه إذا دعوا، ويطيعون الله ورسوله (2) = (ولا تضروه شيئا) ، يقول: ولا تضروا الله، بترككم النّفير ومعصيتكم إياه شيئًا، لأنه لا حاجة به إليكم، بل أنتم أهل الحاجة إليه، وهو الغني عنكم وأنتم الفقراء = (والله على كل شيء قدير) ، يقول جل ثناؤه: والله على إهلاككم واستبدال قوم غيركم بكم، وعلى كل ما يشاء من الأشياء، قدير. (3)
* * *
وقد ذكر أن "العذاب الأليم" في هذا الموضع، كان احتباسَ القَطْر عنهم.
* ذكر من قال ذلك:
16721- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثني عبد المؤمن بن خالد الحنفي قال، حدثني نجدة الخراساني قال: سمعت ابن عباس، سئل عن قوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، قال: إن رسول الله
__________
(1) انظر تفسير "النفر" فيما سلف قريبا ص: 249.
(2) انظر تفسير "الاستبدال" فيما سلف 8: 123، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " قدير " فيما سلف من فهارس اللغة (قدر)(14/254)
صلى الله عليه وسلم استنفر حيًّا من أحياء العرب فتثاقلوا عنه، فأمسك عنهم المطر، فكان ذلك عذابَهم، فذلك قوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليما) . (1)
16722- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبد المؤمن، عن نجدة قال: سألت ابن عباس، فذكر نحوه = إلا أنه قال: فكان عذابهم أنْ أمسك عنهم المطر. (2)
16723- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، استنفر الله المؤمنين في لَهَبَان الحرِّ في غزوة تبوك قِبَل الشأم، (3) على ما يعلم الله من الجَهْد.
* * *
وقد زعم بعضهم أن هذه الآية منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
16724- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، وقال: (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا
__________
(1) الأثر: 16721 - "زيد بن الحباب العكلي"، سلف مرارًا، آخرها رقم: 16684.
و"عبد المؤمن بن خالد الحنفي"، ثقة، مضى برقم 11914.
و" نجدة الخراساني " هو: " نجدة بن نفيع الحنفي "، ثقة، مضى أيضًا برقم: 11914.
وهذا الخبر، رواه الطبري فيما يلي برقم: 16722، من طريق يحيى بن واضح، عن عبد المؤمن.
ورواه أبو داود في سننه 3: 16، رقم: 2506، من طريق زيد بن الحباب، مختصرًا، ورواه البيهقي في السنن 9: 48، بنحوه. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 239، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والحاكم، وصححه الحاكم.
(2) الأثر: 16722 - هو مكرر الأثر السالف، وهذا أيضا لفظ أبي داود والبيهقي: "المطر"، من طريق زيد بن الحباب السالف.
(3) "لهبان الحر"، (بفتح اللام والهاء) ، شدته في الرمضاء. ويقال: " يوم لهبان "، صفة، أي شديد الحر. و " اللهبان " مصدر مثل: اللهب، واللهيب، واللهاب (بضم اللام) ، وهو اشتعال النار إذا خلصت من الدخان.(14/255)
عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ) ، إلى قوله: (لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، فنسختها الآية التي تلتها: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) ، إلى قوله: (لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) ، [سورة التوبة: 120 - 122] .
* * *
قال أبو جعفر: ولا خبرَ بالذي قال عكرمة والحسن، من نسخ حكم هذه الآية التي ذكَرا، (1) يجب التسليم له، ولا حجةَ نافٍ لصحة ذلك. (2) وقد رأى ثبوت الحكم بذلك عددٌ من الصحابة والتابعين سنذكرهم بعدُ، وجائزٌ أن يكون قوله: (إلا تنفروا يعذبكم عذابًا أليمًا) ، الخاص من الناس، ويكون المراد به من استنفرَه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفر، على ما ذكرنا من الرواية عن ابن عباس.
وإذا كان ذلك كذلك، كان قوله: (وما كان المؤمنون لينفروا كافة) ، نهيًا من الله المؤمنين عن إخلاء بلاد الإسلام بغير مؤمنٍ مقيم فيها، وإعلامًا من الله لهم أن الواجب النَّفرُ على بعضهم دون بعض، وذلك على من استُنْفِرَ منهم دون من لم يُسْتَنْفَر. وإذا كان ذلك كذلك، لم يكن في إحدى الآيتين نسخ للأخرى، وكان حكم كل واحدة منهما ماضيًا فيما عُنِيَتْ به.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "التي ذكروا"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ولا حجة تأتي بصحة ذلك" وفي المخطوطة: "ولا حجة بات بصحة ذلك"، غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت.(14/256)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
القول في تأويل قوله: {إِلا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا}
قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله أصحابَ رسوله صلى الله عليه وسلم أنّه المتوكّل بنصر رسوله على أعداء دينه وإظهاره عليهم دونهم، أعانوه أو لم يعينوه، = وتذكيرٌ منه لهم فعلَ ذلك به، وهو من العدد في قلة، والعدوُّ في كثرة، فكيف به وهو من العدد في كثرة، والعدو في قلة؟
يقول لهم جل ثناؤه: إلا تنفروا، أيها المؤمنون، مع رسولي إذا استنفركم فتنصروه، فالله ناصره ومعينه على عدوّه ومغنيه عنكم وعن معونتكم ونصرتكم; كما نصره = (إذ أخرجه الذين كفروا) ، بالله من قريش من وطنه وداره = (ثاني اثنين) ، يقول: أخرجوه وهو أحد الاثنين، أي: واحد من الاثنين.
* * *
وكذلك تقول العرب: "هو ثاني اثنين" يعني: أحد الاثنين، و"ثالث ثلاثة، ورابع أربعة"، يعني: أحد الثلاثة، وأحد الأربعة. وذلك خلاف قولهم: "هو أخو ستة، وغلام سبعة"، لأن "الأخ"، و"الغلام" غير الستة والسبعة، "وثالث الثلاثة"، أحد الثلاثة.
* * *
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله: (ثاني اثنين) ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه، لأنهما كانا اللذين خرجَا هاربين من قريش إذ همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم واختفيا في الغار.
* * *
وقوله: (إذ هما في الغار) ، يقول: إذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر(14/257)
رحمة الله عليه، في الغار.
* * *
و"الغار"، النقب العظيم يكون في الجبل.
* * *
= (إذ يقول لصاحبه) ، يقول: إذ يقول رسول الله لصاحبه أبي بكر، (لا تحزن) ، وذلك أنه خافَ من الطَّلَب أن يعلموا بمكانهما، فجزع من ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحزن"، لأن الله معنا والله ناصرنا، (1)
فلن يعلم المشركون بنا ولن يصلوا إلينا.
يقول جل ثناؤه: فقد نصره الله على عدوه وهو بهذه الحال من الخوف وقلة العدد، فكيف يخذله ويُحْوِجه إليكم، وقد كثَّر الله أنصاره، وعدد جنودِه؟
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16725- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إلا تنصروه) ، ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثَه. يقول الله: فأنا فاعلٌ ذلك به وناصره، كما نصرته إذ ذاك وهو ثاني اثنين.
16726- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله) ، قال: ذكر ما كان في أول شأنه حين بُعثَ، فالله فاعلٌ به كذلك، ناصره كما نصره إذ ذاك (ثانيَ اثنين إذ هما في الغار) .
16727- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إلا تنصروه فقد نصره الله) ، الآية، قال: فكان صاحبَه أبو بكر، وأما
__________
(1) انظر تفسير "مع" فيما سلف ص: 240، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/258)
"الغار"، فجبل بمكة يقال له: "ثَوْر".
16728- حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي قال، حدثنا أبان العطار قال، حدثنا هشام بن عروة، عن عروة قال: لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رضي الله عنه، وكان لأبي بكر مَنِيحةٌ من غَنَم تروح على أهله، (1) فأرسل أبو بكر عامر بن فهيرة في الغنم إلى ثور. وكان عامر بن فهيرةَ يروح بتلك الغنم على النبي صلى الله عليه وسلم بالغار في ثور، وهو "الغار" الذي سماه الله في القرآن. (2)
16729- حدثني يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي قال، حدثنا عفان وحَبَّان قالا حدثنا همام، عن ثابت، عن أنس، أن أبا بكر رضي الله عنه حدَّثهم قال: بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وأقدامُ المشركين فوق رؤوسنا، فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قَدَمَه أبصرنا! فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ (3)
__________
(1) " المنيحة"، شاة أو ناقة يعيرها الرجل أخاه، يحتلبها وينتفع بلبنها سنة، ثم يردها إليه.
(2) الأثر: 16728 - هذا جزء من كتاب عروة بن الزبير إلى عبد الملك بن مروان، والذي خرجته فيما سلف برقم: 16083، ومواضع أخرى كثيرة. وهذا الجزء من الكتاب في تاريخ الطبري 2: 246.
(3) الأثر: 16729 - " يعقوب بن إبراهيم بن جبير الواسطي"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة في غير الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 302.
و"عفان" هو "عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار"، ثقة، من شيوخ أحمد والبخاري، مضى برقم: 5392.
و"حبان"، هو "حبان بن هلال الباهلي"، ثقة، روى له الجماعة. مضى برقم: 5472. " حبان " بفتح الحاء لا بكسرها.
و"همام" هو "همام بن يحيى بن دينار الأزدي"، ثقة روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها: 16306.
و"ثابت" هو "ثابت بن أسلم البناني"، ثقة روى له الجماعة، مضى برقم: 2942، 7030.
وهذا الخبر رواه من طريق عفان بن مسلم، ابن سعد في الطبقات 3 \ 1 \ 123، وأحمد في مسنده رقم: 11، والترمذي في تفسير الآية.
ورواه من طريق حبان بن هلال، البخاري في صحيحه (الفتح 8: 245) ، ومسلم في صحيحه 15: 149.
ورواه البخاري من طريق محمد بن سنان، عن هلال في صحيحه (الفتح 7: 9) .
وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب، إنما يروى من حديث همام. وقد روى هذا الحديث حبان بن هلال، وغير واحد، عن همام، نحو هذا ".
وخرجه السيوطي في الدر 3: 242، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وأبي عوانة، وابن حبان، وابن المنذر، وابن مردويه.(14/259)
16730- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قال: مكث أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثًا.
16731- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري: (إذ هما في الغار) ، قال: في الجبل الذي يسمَّى ثورًا، مكث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ثلاث ليالٍ.
16732- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمرو بن الحارث، عن أبيه: أن أبا بكر الصديق رحمة الله تعالى عليه حين خطب قال: أيُّكم يقرأ "سورة التوبة"؟ (1) قال رجل: أنا. قال: اقرأ. فلما بلغ: (إذ يقول لصاحبه لا تحزن) ، بكى أبو بكر وقال: أنا والله صاحبُه. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "سورة البقرة"، وهو خطأ أبين من أن يدل على تصحيحه.
(2) الأثر: 16732 - " عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري"، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 5973.
وأبوه "الحارث بن يعقوب بن ثعلبة، أو: ابن عبد الله، الأنصاري المصري". ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1\ 2 \ 282، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 93.(14/260)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأَنزلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فأنزل الله طمأنينته وسكونه على رسوله (1) = وقد قيل: على أبي بكر = (وأيده بجنود لم تروها) ، يقول: وقوّاه بجنودٍ من عنده من الملائكة، لم تروها أنتم (2) = (وجعل كلمة الذين كفروا) ، وهي كلمة الشرك = (السُّفْلى) ، لأنها قُهِرَت وأذِلَّت، وأبطلها الله تعالى، ومحق أهلها، وكل مقهور ومغلوب فهو أسفل من الغالب، والغالب هو الأعلى = (وكلمة الله هي العليا) ، يقول: ودين الله وتوحيده وقولُ لا إله إلا الله، وهي كلمتُه = (العليا) ، على الشرك وأهله، الغالبةُ، (3) كما:-
16733- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) ، وهي: الشرك بالله = (وكلمة الله هي العليا) ، وهي: لا إله إلا الله.
* * *
وقوله: (وكلمة الله هي العليا) ، خبر مبتدأ، غيرُ مردودٍ على قوله: (وجعل كلمة الذين كفروا السفلى) ، لأن ذلك لو كان معطوفًا على "الكلمة" الأولى، لكان نصبًا. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير "السكينة" فيما سلف ص: 189، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " التأييد " فيما سلف ص: 44، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير "الأعلى" فيما سلف 7: 234.
(4) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 438، وهو فصل جيد واضح.(14/261)
وأما قوله: (والله عزير حكيم) ، فإنه يعني: (والله عزيز) ، في انتقامه من أهل الكفر به، لا يقهره قاهر، ولا يغلبه غالب، ولا ينصر من عاقبه ناصر = (حكيم) ، في تدبيره خلقَه، وتصريفه إياهم في مشيئته. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير "عزيز" و "حكيم"، فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) .(14/262)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
القول في تأويل قوله: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) }
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في معنى "الخفة" و"الثقل"، اللذين أمر الله من كان به أحدهما بالنفر معه.
فقال بعضهم: معنى "الخفة"، التي عناها الله في هذا الموضع، الشباب = ومعنى "الثقل"، الشيخوخة.
* ذكر من قال ذلك:
16734- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن رجل، عن الحسن في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: شيبًا وشبّانًا.
16735- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن عمرو، عن الحسن قال: شيوخًا وشبانًا.
16736-...... قال، حدثنا ابن عيينة، عن علي بن زيد، عن أنس، عن أبي طلحة: (انفروا خفافا وثقالا) ، قال: كهولا وشبانًا، ما أسمع الله عَذَر واحدًا!! (1) فخرج إلى الشأم، فجاهد حتى مات. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "عذر أحدًا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 16736 - " علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة"، مضى مرارًا، وثقة.
أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: 4897، وقد تكلم فيه أحمد وغيره قال: "ضعيف الحديث". و "أنس" هو "أنس بن مالك" خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
و"أبو طلحة"، هو "زيد بن سهل الأنصاري"، صاحب رسول الله، شهد العقبة، وبدرا، المشاهد كلها.
وهذا الخبر، رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 2 \ 66 من طريق عفان بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن ثابت، وعلي بن يزيد، عن أنس، مطولا، بغير هذا اللفظ. ورواه الحاكم في المستدرك 3: 353، من هذه الطريق نفسها وقال: " هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه ".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 246، وزاد نسبته إلى ابن أبي عمر العدني في مسنده، وعبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد الزهد، وأبي يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وأبي الشيخ، وابن مردويه.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 312، بغير هذا اللفظ، وقال: " رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح".(14/262)
16737- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن المغيرة بن النعمان قال: كان رجل من النَّخع، وكان شيخًا بادنًا، فأراد الغزوَ، فمنعه سعد بن أبي وقاص فقال: إن الله يقول: (انفروا خفافًا وثقالا) ، فأذن له سعد، فقتل الشيخ، فسأل عنه بعدُ عُمَرُ، فقال: ما فعل الشيخ الذي كأنّه من بني هاشم؟ (1) فقالوا: قتل يا أمير المؤمنين! (2)
16738- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: الشابُّ والشيخ.
16739-...... قال، حدثنا أبو أسامة، عن مالك بن مغول، عن إسماعيل، عن عكرمة، قال: الشاب والشيخ.
16740-...... قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: كهولا وشبَّانًا.
16741-...... قال، حدثنا حبويه أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن جعفر بن حميد، عن بشر بن عطية: كهولا وشبانًا (3)
__________
(1) في المطبوعة: "كان من بني هاشم"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن الرجل "من النخع"، كما ذكر قبل، والصواب ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 16737 - "المغيرة بن النعمان النخعي"، ثقة، مضى برقم: 13622.
(3) الأثر: 16741 - " حبويه، أبو يزيد "، هو " إسحاق بن إسماعيل الرازي "، مضى مرارًا، منها رقم: 15993، وكتب في المطبوعة: "حيوة"، وغير ما في المخطوطة، وهو خطأ محض.
وأما "جعفر بن حميد"، فلم أجد له ذكرًا في شيء من مراجعي، والذي يروي عنه يعقوب بن عبد الله القمي، هو: " جعفر بن أبي المغيرة الخزاعي القمي"، والذي نقله ابن حجر في التهذيب في ترجمته عن أبي نعيم أن اسم "أبي المغيرة" هو: "دينار" لا "حميد".
وأما " بشر بن عطية "، فلم أجد من يسمى بهذا إلا "بشر بن عطية"، رجل روى عنه مكحول، يقال هو صحابي، ويقال هو: "بشر بن عصمة المزني"، انظر لسان الميزان 2: 26، 27، في الترجمتين، والإصابة في ترجمة الاسمين. وهذا كله مضطرب.(14/263)
16742- حدثنا الوليد قال، حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن بكير بن معروف، عن مقاتل بن حيان، في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: شبانًا وكهولا.
16743- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: شبابًا وشيوخًا، وأغنياء ومساكين.
16744- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، قال الحسن: شيوخًا وشبّانًا.
16745- حدثني سعيد بن عمرو قال، حدثنا بقية قال، حدثنا حَرِيز قال، حدثني حبان بن زيد الشرعبيّ قال: نفرنا مع صَفْوان بن عمرو، وكان واليًا على حمص قِبَلَ الأفْسوس، إلى الجَرَاجمة، (1) فلقيت شيخًا كبيرًا هِمًّا، (2) قد سقط حاجباه على عينيه، من أهل دمشق، على راحلته، فيمن أغار. (3) فأقبلت عليه فقلت: يا عمِّ، لقد أعذر الله إليك! قال: فرفع حاجبيه، فقال: يا ابن
__________
(1) "الأفسوس"، بلد بثغور طرسوس، و "طرسوس" مدينة بثغور الشأم بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم.
و" الجراجمة "، نبط الشأم، ويقال: هم قوم من العجم بالجزيرة.
وكان في المخطوطة: " قبل الأفسون إلى الحراصه"، والصواب في المطبوعة وهو مطابق لما في تفسير ابن كثير 4: 176، نقلا عن هذا الموضع من الطبري.
(2) " الهم " (بكسر الهاء) : الشيخ الكبير الفاني البالي.
(3) في المخطوطة: "أعات"، والصواب ما في المطبوعة، وهو موافق لما في ابن كثير.(14/264)
أخي استنفرنا الله خفافًا وثقالا من يحبَّه الله يبتَليه، ثم يعيده فيبْتليه، (1) إنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ولم يعبد إلا الله. (2)
16746- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: كل شيخ وشابّ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: مشاغيل وغير مشاغيل.
* ذكر من قال ذلك:
16747- حدثنا ابن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الحكم في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: مشاغيل وغير مشاغيل.
* * *
وقال آخرون: معناه: انفروا أغنياء وفقراء.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: " من يحبه الله يبتليه، ثم يعيده فيبقيه "، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب وحده.
(2) الأثر: 16745 - "بقية" هو "بقية بن الوليد"، سلف مرارًا كثيرة.
و" حريز" هو " حريز بن عثمان بن جبر الرحبي "، ثقة مأمون، ثبت في الحديث، وإنما وضع منه من وضع، لأنه كان ينال من علي رضي الله عنه، ثم ترك ذلك. و " حريز " (بفتح الحاء، وكسر الراء) . وقال أبو داود: " شيوخ حريز، كلهم ثقات ". مترجم في التهذيب، والكبير 2\ 1 \ 96، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 289.
وكان في المطبوعة: " جرير "، وهو في المخطوطة غير منقوط.
و" حبان بن زيد الشرعبي (بكسر الحاء من: حبان) ، أبو خداش الحمصي، ذكره ابن حبان في الثقات، وسلف قبل أن أبا داود، وثق جميع شيوخ حريز بن عثمان. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 78، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 269.
و" صفوان بن عمرو "، كأنه هو " صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي "، ثقة. والذي حملني على هذا الظن، أني رأيت في ترجمته في التهذيب عن أبي اليمان، عن صفوان: " أدركت من خلافة عبد الملك، وخرجنا في بعث سنة 94 "، ولكني لم أجد ذكرًا لولايته على حمص.
وقد سلف " صفوان بن عمرو السكسكي " مرارًا، منها رقم: 7009، 12807، 13108.(14/265)
16748- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عمن ذكره، عن أبي صالح: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: أغنياء وفقراء.
* * *
وقال آخرون: معناه: نِشاطًا وغير نِشاط.
* ذكر من قال ذلك:
16749- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، يقول: انفروا نِشاطًا وغير نِشاط.
* * *
16750- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر عن قتادة: (خفافًا وثقالا) ، قال: نِشاطًا وغير نِشاط.
* * *
وقال آخرون: معناه: ركبانًا ومشاةَ.
* ذكر من قال ذلك:
16751- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: إذا كان النَّفْر إلى دروب الشأم، نفر الناس إليها "خفافًا"، ركبانًا. وإذا كان النَّفْر إلى هذه السواحل، نفروا إليها "خفافًا وثقالا"، ركبانًا ومشاة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ذا ضَيْعَة، وغير ذي ضَيْعة.
* ذكر من قال ذلك:
16752- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (انفروا خفافًا وثقالا) ، قال: "الثقيل"، الذي له الضيعة، فهو ثقيل يكره أن يُضيع ضَيْعته ويخرج = و"الخفيف" الذي لا ضيعة له، فقال الله: (انفروا خفافًا وثقالا) .
16753- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه قال:(14/266)
زعم حضرميّ أنه ذُكر له أن ناسًا كانوا عسى أن يكون أحدهم عليلا أو كبيرًا فيقول: إن أجتنبْه إباءً، فإني آثم! (1) فأنزل الله: (انفروا خفافًا وثقالا) .
16754- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن محمد قال: شهد أبو أيوب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بدرًا، ثم لم يتخلف عن غَزاة للمسلمين إلا وهو في أخرى، (2) إلا عامًا واحدًا. وكان أيوب يقول: (انفروا خفافًا وثقالا) ، فلا أجدني إلا خفيفًا أو ثقيلا. (3)
16755- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثنا حَرِيز بن عثمان، عن راشد بن سعد، عمن رأى المقداد بن الأسود فارسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على تابوتٍ من توابيت الصَّيارفة بحمص، وقد فَضَل عنها من عِظَمِه، فقلت له: لقد أعذر الله إليك! فقال: أبتْ علينا "سورة البعوث"، (4) (انفروا خفافًا وثقالا) . (5)
__________
(1) في المطبوعة مكان: " إن أحتنبه إباء، فإني آثم " ما نصه: " فيقول: إني أحسبه قال: أنا لا آثم "، وهو مضطرب جدًا، وفي تفسير ابن كثير 4: 174، 175، اختصر الكلام وكتب: " فيقول: إني لا آثم "، وفي الدر المنثور 3: 246، مثله مختصرًا.
وأما المخطوطة فكان رسمها هكذا: "فيقول: إن أحسبه أبًا قال آثم"، فآثرت قراءتها كما أثبتها، ومعناه: إن أجتنب النفر إباء للغزو، فإني آثم، ولكن علتي أو كبرى عذر يدفع عنى إثم التخلف. هذا ما رجحته، والله أعلم.
(2) في المطبوعة: "إلا وهو في أخرى "، وفي المخطوطة: "في آخرين"، وحذف هذه العبارة ابن كثير في تفسيره، والسيوطي في الدر المنثور. وهي صحيحة المعنى، رواها ابن سعد " في أخرى " كما في المطبوعة: ورواها الحاكم: " إلا هو فيها ".
(3) الأثر: 16754 - رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 2 \ 49 من طريق إسماعيل بن إبراهيم الأسدي، وهو " ابن عطية "، مطولا مفصلا.
ورواه الحاكم في المستدرك 3: 458، من هذه الطريق نفسها، مطولا.
(4) هكذا جاء هنا في المخطوطة: " البعوث "، وأنا في شك منه شديد، لأني لم أجد من سمى " سورة التوبة "، " سورة البعوث "، بل أجمعوا على تسميتها " سورة البحوث "، كما سأفسره بعد ص: 265، تعليق: 6. ثم انظر آخر التعليق على الخبر رقم: 16756.
(5) الأثر: 16755. " حريز بن عثمان بن جبر الرحبي "، مضى آنفا برقم 16745. وكان في المطبوعة: " جرير "، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط.
و" راشد بن سعد المقرائي الحبراني الحمصي "، ثقة، لا بأس به إذا لم يحدث عنه متروك، وشيوخ " حريز بن عثمان " ثقات جميعًا، كما أسلفت في رقم: 16745، و " حريز " ثقة في نفسه. وهذا الخبر سيأتي بعد هذا، ليس فيه مجهول.(14/267)
16756- حدثنا سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد قال: حدثنا حريز قال، حدثني عبد الرحمن بن ميسرة قال، حدثني أبو راشد الحبراني قال: وافيت المقداد بن الأسود فارسَ رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا على تابوت من توابيت الصيارفة بحمص، قد فَضَل عنها من عِظَمه، (1) يريد الغزو، فقلت له: لقد أعذر الله إليك! فقال: أبَتْ علينا "سورة البُحُوث": (2) (انفروا خفافًا وثقالا) . (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " فضل عنه "، وأثبت ما في المخطوطة، لأنه صواب محض، فالتابوت، يذكر، وقد يؤنث.
(2) في المطبوعة: " البعوث "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق لرواية هذا الأثر في المراجع التي سأذكرها. و " البحوث ": منهم من يقولها بضم الباء، جمع " بحث "، سميت بذلك لأنها بحثت عن المنافقين وأسرارهم، أي: استثارتها وفتشت عنها.
وقد قال ابن الأثير إنه رأى في "الفائق" للزمخشري "البحوث" بفتح الباء، ومطبوعة الفائق، لا ضبط فيها. ثم قال ابن الأثير: " فإن صحت، فهي فعول، من أبنية المبالغة، أما الزمخشري فقال: " سورة البحوث: هي سورة التوبة، لما فيها من البحث عن المنافقين وكشف أسرارهم، وتسمى المبعثرة ".
وهذا كله يؤيد ما ذهبت إليه في ص، 265، التعليق رقم: 3.
(3) الأثر: 16756 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 16755.
" سعيد بن عمرو السكوني"، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 5563، 6521، وغيرهما.
و" بقية بن الوليد "، مضى توثيقه، ومن تكلم فيه قريبًا رقم: 16745.
و" حريز " هو " حريز بن عثمان "، سلف في الأثر السالف، ومراجعه هناك، وكان في المطبوعة هنا " جرير " أيضًا، والمخطوطة غير منقوطة.
و" عبد الرحمن بن ميسرة الحضرمي "، أبو سلمة الحمصي، ثقة، لأن أبا داود قال: و "أبو راشد الحبراني الحميري الحمصي"، تابعي ثقة. لم يرو عنه غير "حريز". مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري: 30.
وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات 3 \ 1 \ 115، من طريق يزيد بن هارون، عن حريز بن عثمان (وفي الطبقات: جرير، وهو خطأ كما بينت) .
ورواه الحاكم في المستدرك من طريق: بقية بن الوليد، عن حريز بن عثمان (وفيه: جرير، وهو خطأ) .
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 30، وقال: " رواه الطبراني، وفيه بقية بن الوليد، وفيه ضعف، وقد وثق. وبقية رجاله ثقات ".
قلت: قد تبين من التخريج أنه رواه عن " حريز"، " يزيد بن هارون "، وهو ثقة روى له الجماعة، كما سلف مرارًا.
هذا، وقد جاء في مجمع الزوائد "سورة البعوث"، وانظر ما كتبته آنفا في ص: 265، تعليق: 3، وص: 265، تعليق: 6.(14/268)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أمر المؤمنين بالنَّفر لجهاد أعدائه في سبيله، خفافًا وثقالا. وقد يدخل في "الخفاف" كل من كان سهلا عليه النفر لقوة بدنه على ذلك، وصحة جسمه وشبابه، ومن كان ذا يُسْرٍ بمالٍ وفراغ من الاشتغال، (1) وقادرًا على الظهر والركاب.
ويدخل في "الثقال"، كل من كان بخلاف ذلك، من ضعيف الجسم وعليله وسقيمه، ومن مُعسِرٍ من المال، ومشتغل بضيعة ومعاش، ومن كان لا ظهرَ له ولا ركاب، والشيخ وذو السِّن والعِيَال.
فإذ كان قد يدخل في "الخفاف" و"الثقال" من وصفنا من أهل الصفات التي ذكرنا، ولم يكن الله جل ثناؤه خصَّ من ذلك صنفًا دون صنف في الكتاب، ولا على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا نَصَب على خصوصه دليلا وجب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر المؤمنين من أصحاب رسوله بالنفر للجهاد في سبيله خفافًا وثقالا مع رسوله صلى الله عليه وسلم، على كل حال من أحوال الخفّة والثقل.
* * *
16757- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن مسلم بن صبيح قال: أول ما نزل من "براءة": (انفروا خفافًا وثقالا) .
__________
(1) في المطبوعة: "ذا تيسر"، والذي في المخطوطة محض الصواب.(14/269)
16758- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، مثله.
16759- حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: إن أول ما نزل من "براءة": (لقد نصركم الله في مواطن كثيرة) ، قال: يعرِّفهم نصره، ويوطِّنهم لغزوة تَبُوك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: (وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ)
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جاهدوا) ، أيها المؤمنون، الكفارَ = (بأموالكم) ، فأنفقوها في مجاهدتهم على دين الله الذي شرعه لكم، حتى ينقادوا لكم فيدخلوا فيه طوعًا أو كرهًا، أو يعطوكم الجزية عن يدٍ صَغَارًا، إن كانوا أهل كتابٍ، أو تقتلوهم (1) = (وأنفسكم) ، يقول: وبأنفسكم، فقاتلوهم بأيديكم، يخزهم الله وينصركم عليهم = (ذلكم خير لكم) ، يقول: هذا الذي آمركم به من النفر في سبيل الله تعالى خفافًا وثقالا وجهادِ أعدائه بأموالكم وأنفسكم، خيرٌ لكم من التثاقل إلى الأرض إذا استنفرتم، والخلودِ إليها، والرضا بالقليل من متاع الحياة الدنيا عِوضًا من الآخرة = إن كنتم من أهل العلم بحقيقة ما بُيِّن لكم من فضل الجهاد في سبيل الله على القعود عنه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 173، تعليق: 5، والمراجع هناك.
= وتفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .(14/270)
لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42)
القول في تأويل قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه للنبي صلى الله عليه وسلم، وكانت جماعة من أصحابه قد استأذنوه في التخلُّف عنه حين خرج إلى تبوك، فأذن لهم: لو كان ما تدعو إليه المتخلفين عنك والمستأذنيك في ترك الخروج معك إلى مغزاك الذي استنفرتهم إليه = (عرضا قريبا) ، يقول: غنيمة حاضرة (1) = (وسفرًا قاصدًا) ، يقول: وموضعًا قريبًا سهلا = (لاتبعوك) ، ونفروا معك إليهما، ولكنك استنفرتهم إلى موضع بعيد، وكلفتهم سفرًا شاقًّا عليهم، لأنك استنهضتهم في وقت الحرّ، وزمان القَيْظ وحين الحاجة إلى الكِنِّ = (وسيحلفون بالله لو استطعنا لخرجنا معكم) ، يقول تعالى ذكره: وسيحلف لك، يا محمد، هؤلاء المستأذنوك في ترك الخروج معك، اعتذارًا منهم إليك بالباطل، لتقبل منهم عذرهم، وتأذن لهم في التخلُّف عنك، بالله كاذبين = "لو استطعنا لخرجنا معكم"، يقول: لو أطقنا الخروجَ معكم بوجود السَّعة والمراكب والظهور وما لا بُدَّ للمسافر والغازي منه، وصحة البدن والقوى، لخرجنا معكم إلى عدوّكم = (يهلكون أنفسهم) ،
يقول: يوجبون لأنفسهم، بحلفهم بالله كاذبين، الهلاك والعطب، (2) لأنهم يورثونها سَخَط الله، ويكسبونها أليم عقابه = (والله يعلم إنهم لكاذبون) ، في حلفهم بالله: (لو استطعنا لخرجنا معكم) ، لأنهم كانوا للخروج مطيقين، بوجود السبيل إلى ذلك بالذي كان عندهم من الأموال، مما يحتاج إليه الغازي في غزوه، والمسافر في سفره،
__________
(1) انظر تفسير " العرض " فيما سلف ص: 59، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الهلاك " فيما سلف 13: 150. تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/271)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)
وصحة الأبدان وقوَى الأجسام.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16760- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لو كان عرضًا قريبًا) ، إلى قوله (لكاذبون) ، إنهم يستطيعون الخروج، ولكن كان تَبْطِئَةً من عند أنفسهم والشيطان، وزَهَادة في الخير.
16761- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (لو كان عرضًا قريبًا) ، قال: هي غزوة تبوك.
16762- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (والله يعلم إنهم لكاذبون) ، أي: إنهم يستطيعون. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) }
قال أبو جعفر: وهذا عتاب من الله تعالى ذكره، عاتبٌ به نبيَّه صلى الله عليه وسلم في إذنه لمن أذن له في التخلف عنه، حين شخص إلى تبوك لغزو الروم، من المنافقين.
يقول جل ثناؤه: (عفا الله عنك) ، يا محمد، ما كان منك في إذنك لهؤلاء المنافقين الذي استأذنوك في ترك الخروج معك، وفي التخلف عنك، من قبل أن تعلم صدقه من كذبه (2)
= (لم أذنت لهم) ، لأي شيء أذنت لهم؟ =
__________
(1) الأثر: 16762 - سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16699.
(2) انظر تفسير " العفو " فيما سلف من فهارس اللغة (عفا) .(14/272)
(حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين) ، يقول: ما كان ينبغي لك أن تأذن لهم في التخلف عنك إذ قالوا لك: (لو استطعنا لخرجنا معك) ، حتى تعرف مَن له العذر منهم في تخلفه، ومن لا عذر له منهم، فيكون إذنك لمن أذنتَ له منهم على علم منك بعذره، وتعلمَ مَنِ الكاذبُ منهم المتخلفُ نفاقًا وشكًّا في دين الله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16763- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) ، قال: ناسٌ قالوا: استأذِنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا.
16764- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا) ، الآية، عاتبه كما تسمعون، ثم أنزل الله التي في "سورة النور"، فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء، فقال: (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ، [سورة النور: 62] ، فجعله الله رخصةً في ذلك من ذلك.
16765- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن ميمون الأودي قال: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، وأخذه من الأسارى، فأنزل الله: (عفا الله عنك لم أذنت لهم) ، الآية.
16766- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، قرأت على سعيد بن أبي عروبة، قال: هكذا سمعته من قتادة، قوله: (عفا الله عنك لم(14/273)
لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44)
أذنت لهم) ، الآية، ثم أنزل الله بعد ذلك في "سورة النور": (فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ) ، الآية.
16767- حدثنا صالح بن مسمار قال، حدثنا النضر بن شميل قال، أخبرنا موسى بن سَرْوان، قال: سألت مورِّقًا عن قوله: (عفا الله عنك) ، قال: عاتبه ربه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) }
قال أبو جعفر: وهذا إعلامٌ من الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم سِيمَا المنافقين: أن من علاماتهم التي يُعرفون بها تخلُّفهم عن الجهاد في سبيل الله، باستئذانهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تركهم الخروجَ معه إذا استنفروا بالمعاذير الكاذبة.
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تأذننَّ في التخلُّف عنك إذا خرجت لغزو عدوّك، لمن استأذنك في التخلف من غير عذر، فإنه لا يستأذنك في ذلك إلا منافق لا يؤمن بالله واليوم الآخر. فأمَّا الذي يصدّق بالله، ويقرُّ بوحدانيته وبالبعث والدار الآخرة والثواب والعقاب، فإنه لا يستأذنك في
__________
(1) الأثر: 16767 - "صالح بن مسمار المروزي السلمي"، شيخ الطبري، مضى برقم: 224.
و"النضر بن شميل المازني" الإمام النحوي، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 11512.
و" موسى بن سروان العجلي "، ويقال: " ثروان " و " فروان " مضى برقم: 11411، وكان في المطبوعة هنا " موسى بن مروان "، وهو خطأ، وأثبت ما في المخطوطة.
و" مورق "، هو " مورق بن مشمرج العجلي "، ثقة عابد من العباد الخشن. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 51، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 403.(14/274)
إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
ترك الغزو وجهاد أعداء الله بماله ونفسه (1) = (والله عليم بالمتقين) ، يقول: والله ذو علم بمن خافه، فاتقاه بأداء فرائضه، واجتناب معاصيه، والمسارعة إلى طاعته في غزو عدوّه وجهادهم بماله ونفسه، وغير ذلك من أمره ونهيه. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16768- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) ، فهذا تعييرٌ للمنافقين حين استأذنوا في القُعود عن الجهاد من غير عُذْر، وعَذَر الله المؤمنين، فقال: (لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ) ، [سورة النور: 62] .
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: إنما يستأذنك، يا محمد، في التخلف خِلافكَ، وترك الجهاد معك، من غير عذر بيِّنٍ، الذين لا يصدّقون بالله، ولا يقرّون بتوحيده = (وارتابت قلوبهم) ، يقول: وشكت قلوبهم في حقيقة وحدانية الله، وفي ثواب أهل طاعته، وعقابه أهل معاصيه (3) = (فهم في ريبهم يترددون) ، يقول: في شكهم متحيِّرون، وفي ظلمة الحيرة متردِّدون، لا يعرفون حقًّا من باطل، فيعملون على بصيرة. وهذه صفة المنافقين.
__________
(1) انظر تفسير "جاهد" فيما سلف ص: 270، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " التقوى " فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .
(3) انظر تفسير "الارتياب" و "الريب" فيما سلف 11: 172، تعليق: 3، والمراجع هناك = ثم 11: 280، تعليق: 1، والمراجع هناك.(14/275)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46)
وكان جماعة من أهل العلم يرون أن هاتين الآيتين منسوختان بالآية التي ذكرت في "سورة النور".
* ذكر من قال ذلك:
16769- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قوله: (لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله) ، إلى قوله: (فهم في ريبهم يترددون) ، نسختهما الآية التي في "النور": (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ) ، إلى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، [سورة النور: 62] .
* * *
وقد بيَّنَّا "الناسخ والمنسوخ" بما أغنى عن إعادته ههنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أراد هؤلاء المستأذنوك، يا محمد، في ترك الخروج معك لجهاد عدوّك، الخروجَ معك = (لأعدوا له عدة) ، يقول: لأعدوا للخروج عدة، ولتأهّبوا للسفر والعدوِّ أهْبَتهما (2) = (ولكن كره الله انبعاثهم) ، يعني: خروجهم لذلك (3) (فثبطهم) ، يقول: فثقَّل عليهم الخروجَ حتى استخفُّوا القعودَ في منازلهم خِلافك، واستثقلوا السفر والخروج معك، فتركوا
__________
(1) انظر مقالته في " الناسخ والمنسوخ " فيما سلف ص 42، تعليق: 2، والمراجع هناك. وانظر الفهارس العامة، وفهارس النحو والعربية وغيرهما.
(2) انظر تفسير " أعد "، فيما سلف ص: 31.
(3) انظر تفسير "الكره" فيما سلف 8: 104، تعليق: 1، والمراجع هناك. - وتفسير "البعث" فيما سلف 11: 407، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/276)
لذلك الخروج = (وقيل اقعدوا مع القاعدين) ، يعني: اقعدوا مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون، ومع النساء والصبيان، واتركوا الخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمجاهدين في سبيل الله. (1)
* * *
وكان تثبيط الله إياهم عن الخروج مع رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، لعلمه بنفاقهم وغشهم للإسلام وأهله، وأنهم لو خرجوا معهم ضرُّوهم ولم ينفعوا. وذكر أن الذين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود كانوا: "عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول"، و"الجد بن قيس"، ومن كانا على مثل الذي كانا عليه. كذلك:-
16770- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذين استأذنوه فيما بلغني، من ذوي الشرف، منهم: عبد الله بن أبيّ ابن سلول، والجدّ بن قيس، وكانوا أشرافًا في قومهم، فثبطهم الله، لعلمه بهم، أن يخرجوا معهم، (2) فيفسدوا عليه جنده. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " القعود " فيما سلف 9: 85.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يخرجوا معهم" وفي سيرة ابن هشام: "معه".
(3) الأثر: 16770 - سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16762. وكان في المخطوطة: "فيفسدوا عليه حسه" غير منقوطة، فاسدة الكتابة. والذي في المطبوعة مطابق لما في سيرة ابن هشام، وهو الصواب.(14/277)
لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
القول في تأويل قوله: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلا خَبَالا وَلأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لو خرج، أيها المؤمنون، فيكم هؤلاء المنافقون = (ما زادوكم إلا خبالا) ، يقول: لم يزيدوكم بخروجهم فيكم إلا فسادًا وضرًّا، ولذلك ثبَّطتُهم عن الخروج معكم.
* * *
وقد بينا معنى "الخبال"، بشواهده فيما مضى قبل. (1)
* * *
(ولأوضعوا خلالكم) ، يقول: ولأسرعوا بركائبهم السَّير بينكم.
* * *
وأصله من "إيضاع الخيل والركاب"، وهو الإسراع بها في السير، يقال للناقة إذا أسرعت السير: "وضعت الناقة تَضَع وَضعًا ومَوْضوعًا"، و"أوضعها صاحبها"، إذا جدّ بها وأسرع، "يوضعها إيضاعًا"، ومنه قول الراجز: (2)
يَا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعْ ... أَخُبُّ فِيهَا وَأَضَعْ (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير "الخبال" فيما سلف 7: 139، 140.
(2) هو دريد بن الصمة.
(3) سيرة ابن هشام 4: 82، واللسان (وضع) ، وغيرهما، وهذا رجز قاله دريد في يوم غزوة حنين، وكان خرج مع هوزان، عليهم مالك بن عوف النصري، ودريد بن الصمة يومئذ شيخ كبير، ليس فيه شيء إلا التيمن برأيه ومعرفته بالحرب، وكان شيخًا مجربًا. وكان مالك بن عوف كره أن يكون لدريد بن الصمة رأي في حربهم هذه أو ذكر، فقال دريد: "هذا يوم لم أشهده ولم يفتني". يَا لَيْتنِي فِيها جَذَعْ ... أَخُبُّ فيها وأَضَعْ
أَقُودُ وَطْفَاء الزَّمَعْ ... كَأَنَّهَا شَاةٌ صَدَعْ
"الجذع"، الصغير الشاب. و "الخبب"، ضرب من السير كالوضع. ثم وصف فرسه فيما تمنى. "وطفاء"، طويلة الشعر، و "الزمعة" الهنة الزائدة الناتئة فوق ظلف الشاة. و "الشاة" هنا: الوعل وهو شاة الجبل. و "صدع" الفتى القوي من الأوعال.(14/278)
وأما أصل "الخلال"، فهو من "الخَلَل"، وهي الفُرَج تكون بين القوم، في الصفوف وغيرها. ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: "تَرَاصُّوا فِي الصُّفُوفِ لا يَتَخَلَّلكُمْ [الشَّيَاطين، كأنها] أَوْلادُ الحذَفِ". (1)
* * *
وأما قوله: (يبغونكم الفتنة) ، فإن معنى: "يبغونكم الفتنة"، يطلبون لكم ما تفتنون به، عن مخرجكم في مغزاكم، بتثبيطهم إياكم عنه. (2)
* * *
يقال منه: "بغيتُه الشر"، و"بغيتُه الخير" "أبغيه بُغاء"، إذا التمسته له، بمعنى: "بغيت له"، وكذلك "عكمتك" و"حلبتك"، بمعنى: "حلبت لك"، و"عكمت لك"، (3) وإذا أرادوا: أعنتك على التماسه وطلبه، قالوا: "أبْغَيتُك كذا"، و"أحلبتك"، و"أعكمتك"، أي: أعنتك عليه. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16771- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن
__________
(1) لم يذكر إسناده، وهو حديث مشهور، رواه أبو داود في سننه 1: 252، رقم: 667، بغير هذا اللفظ، والنسائي في السنن 2: 92. والذي وضعته بين القوسين فيما رواه صاحب اللسان، لأنه في السنن: " كأنها الحذف "، وفي اللسان أيضًا " كأنها بنات حذف ". أما المطبوعة فقد ضم الكلام بعضه إلى بعض، مع أنه كان في المخطوطة، بياض بين "لا يتخللكم"، وبين "أولاد الحذف"، وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ.
و" الحذف " ضأن سود جرد صغار، ليس لها آذان ولا أذناب، يجاء بها إلى الحجاز من جرش اليمن، واحدتها " حذفة " (بفتحتين) ، شبه الشياطين بها.
(2) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص: 86، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) "عكمه" و "عكم له"، هو أن يسوي له الأعدال على الدابة ويشدها.
(4) انظر تفسير "بغى" فيما سلف 13: 84، تعليق: 1، والمراجع هناك.
ثم انظر مثل هذا التفصيل فيما سلف 7: 53.(14/279)
معمر، عن قتادة: (ولأوضعوا خلالكم) ، بينكم = (يبغونكم الفتنة) ، بذلك.
16772- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله: (ولأوضعوا خلالكم) ، يقول: [ولأوضعوا بينكم] ، خلالكم، بالفتنة. (1)
16773- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ، يبطئونكم قال: رفاعة بن التابوت، وعبد الله بن أبيّ ابن سلول، وأوس بن قيظيّ.
16774- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ولأوضعوا خلالكم) ، قال: لأسرعوا الأزقة (2) = (خلالكم يبغونكم الفتنة) ، يبطِّئونكم = عبد الله بن نبتل، ورفاعة بن تابوت، وعبد الله بن أبي ابن سلول.
16775-...... قال حدثنا الحسين قال، حدثني أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: (ولأوضعوا خلالكم) ، قال: لأسرعوا خلالكم يبغونكم الفتنة بذلك.
16776- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) ، قال: هؤلاء المنافقون في غزوة تبوك. يسلِّي الله عنه نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين فقال: وما يُحزنكم؟ (لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا) ،! يقولون: "قد جُمع لكم، وفُعِل وفُعِل، يخذِّلونكم" = (ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة) ، الكفر.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ولأضعوا أسلحتهم خلالكم بالفتنة"، وهو لا يفيد معنى، وظني أن "أسلحتهم" هي "بينكم" وهو تفسير "خلالكم" كما مر في أثر قتادة السالف، ولكنه أخر اللفظ الذي فسره وهو "خلالكم".
(2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "الأزقة"، وهو جمع "زقاق" "بضم الزاي"، وهو الطريق الضيق، دون السكة، وجعل "الأزقة" مفعولا لقوله: "أسرعوا"، غريب، وأخشى أن يكون في الكلام خلل أو تصحيف.(14/280)
وأما قوله: (وفيكم سَمَّاعون لهم) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى ذلك: وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يؤدُّونه إليهم، عيون لهم عليكم.
* ذكر من قال ذلك:
16777- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وفيكم سماعون لهم) ، يحدِّثون أحاديثكم، عيونٌ غير منافقين.
16778- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وفيكم سماعون لهم) ، قال: محدِّثون، عيون، غير المنافقين. (1)
16779- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وفيكم سماعون لهم) ، يسمعون ما يؤدُّونه لعدوِّكم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وفيكم من يسمع كلامهم ويُطيع لهم.
* ذكر من قال ذلك:
16780- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وفيكم سماعون لهم) ، وفيكم من يسمع كلامهم.
16781- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذين استأذنوا، فيما بلغني من ذوي الشرف، منهم عبد الله بن أبي ابن سلول، والجدُّ بن قيس، وكانوا أشرافًا في قومهم، فثبطهم الله، لعلمه بهم: أن يخرجوا معهم، فيفسدوا عليه جُنده. وكان في جنده قوم أهلُ محبةٍ لهم وطاعةٍ فيما يدعونهم إليه، لشرفهم فيهم، فقال: (وفيكم سمَّاعون لهم) . (2)
__________
(1) في المطبوعة: "غير منافقين"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 16781 - صدر هذا الخبر مضى برقم: 16770، وساقه هنا فيما بعد، وهو في سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16762.(14/281)
قال أبو جعفر: فعلى هذا التأويل: وفيكم أهلُ سمع وطاعة منكم، لو صحبوكم أفسدوهم عليكم، بتثبيطهم إياهم عن السير معكم.
وأما على التأويل الأول، فإن معناه: وفيكم منهم سمَّاعون يسمعون حديثكم لهم، فيبلغونهم ويؤدونه إليهم، عيون لهم عليكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين عندي في ذلك بالصواب، تأويلُ من قال: معناه: "وفيكم سماعون لحديثكم لهم، يبلغونه عنكم، عيون لهم"، لأن الأغلب من كلام العرب في قولهم: "سمَّاع"، وصف من وصف به أنه سماع للكلام، كما قال الله جل ثناؤه في غير موضع من كتابه: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) [سورة المائدة: 41] ، واصفًا بذلك قومًا بسماع الكذب من الحديث. وأما إذا وصفوا الرجل بسماع كلام الرجل وأمره ونهيه وقبوله منه وانتهائه إليه فإنما تصفه بأنه: "له سامع ومطيع"، ولا تكاد تقول: = "هو له سماع مطيع". (1)
* * *
وأما قوله: (والله عليم بالظالمين) ، فإن معناه: والله ذو علم بمن يوجّه أفعاله إلى غير وجوهها، ويضعها في غير مواضعها، ومن يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعذر، ومن يستأذنه شكًّا في الإسلام ونفاقًا، ومن يسمع حديث المؤمنين ليخبر به المنافقين، ومن يسمعه ليسرَّ بما سُرَّ به المؤمنون، (2) ويساء بما ساءهم، لا يخفى عليه شيء من سرائر خلقه وعلانيتهم. (3)
* * *
وقد بينا معنى "الظلم" في غير موضع من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " سماع " فيما سلف 10: 309.
(2) في المطبوعة: "بما سر المؤمنين"، وفي المخطوطة: "بما سر المؤمنون"، وصوابها ما أثبت.
(3) انظر تفسير "عليم" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) .
(4) انظر تفسير "الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة (ظلم) .(14/282)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
القول في تأويل قوله: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لقد التمس هؤلاء المنافقون الفتنة لأصحابك، يا محمد، التمسوا صدَّهم عن دينهم (1) وحرصوا على ردّهم إلى الكفرِ بالتخذيل عنه، (2) كفعل عبد الله بن أبيّ بك وبأصحابك يوم أحدٍ، حين انصرف عنك بمن تبعه من قومه. وذلك كان ابتغاءهم ما كانوا ابتغوا لأصحاب وسول الله صلى الله عليه وسلم من الفتنة من قبل. ويعني بقوله: (من قبل) ، من قبل هذا = (وقلبوا لك الأمور) ، يقول: وأجالوا فيك وفي إبطال الدين الذي بعثك به الله الرأيَ بالتخذيل عنك، (3) وإنكار ما تأتيهم به، وردّه عليك = (حتى جاء الحق) ، يقول: حتى جاء نصر الله = (وظهر أمر الله) ، يقول: وظهر دين الله الذي أمرَ به وافترضه على خلقه، وهو الإسلام (4) = (وهم كارهون) ، يقول: والمنافقون بظهور أمر الله ونصره إياك كارهون. (5) وكذلك الآن، يظهرك الله ويظهر دينه على الذين كفروا من الروم وغيرهم من أهل الكفر به، وهم كارهون.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16782- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وقلبوا
__________
(1) انظر تفسير "ابتغى" فيما سلف قريبا ص: 279، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الفتنة " فيما سلف ص:، 279 تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير "التقليب" فيما سلف 12: 44، 45، ومادة (قلب) في فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير "الظهور" فيما سلف ص: 214، 215.
(5) انظر تفسير " الكره " فيما سلف ص: 276، تعليق: 3، والمراجع هناك.(14/283)
لك الأمور) ، أي: ليخذِّلوا عنك أصحابك، ويردُّوا عليك أمرك = (حتى جاء الحق وظهر أمر الله) . (1)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت في نفرٍ مسمَّين بأعيانهم.
16783- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو، عن الحسن قوله: (وقلبوا لك الأمور) ، قال: منهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، وعبد الله بن نبتل أخو بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن رافع، وزيد بن التابوت القينقاعي. (2)
* * *
وكان تخذيل عبد الله بن أبيٍّ أصحابَه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الغزاة، كالذي:
16784- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة، وغيرهم، كلُّ قد حدَّث في غزوة تبوك ما بلغَه عنها، وبعض القوم يحدِّث ما لم يحدِّث بعضٌ، وكلٌّ قد اجتمع حديثه في هذا الحديث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك في زمان عُسْرةٍ من الناس، (3) وشدة من الحرّ، وجَدْبٍ من البلاد، وحين طاب الثمار، وأحِبَّتِ الظلال، (4) فالناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم، ويكرهون الشخوص عنها، على الحال من الزمان الذي هم عليه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلَّما يخرج في غزوةٍ
__________
(1) الأثر: 16782 - سيرة ابن هشام 4: 194، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16781.
(2) الأثر: 16782 - لم أجده في سيرة ابن هشام. ولكنه في تاريخ الطبري 3: 143، بمثله.
(3) في السيرة: "في زمان من عسرة الناس".
(4) "وأحبت الظلال" ليس في سيرة ابن هشام، وهو ثابت في رواية أبي جعفر في التاريخ 3: 142. وكذلك في المطبوعة: "والناس يحبون" وأثبت ما في المخطوطة، فهو مطلب السياق.(14/284)
إلا كَنَى عنها، وأخبر أنه يريد غير الذي يَصْمِدُ له، (1) إلا ما كان من غزوة تبوك، فإنه بيَّنها للناس، لبعد الشُّقَّة، وشدة الزمان وكثرة العدوّ الذي صَمَد له، ليتأهَّب الناس لذلك أُهْبَتَه. فأمر الناس بالجهاد، وأخبرهم أنه يريد الروم. فتجهز الناسُ على ما في أنفسهم من الكره لذلك الوجه، لما فيه، مع ما عظَّموا من ذكر الروم وغزوهم. (2)
= ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَدَّ في سفره، فأمر الناس بالجهازِ والانكماش، (3) وحضَّ أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله. (4)
= فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع، (5) وضرب عبد الله بن أبي ابن سلول عسكره على حِدَةٍ أسفلَ منه بحذاء "ذباب" (6) = جبل بالجبانة أسفل من ثنية الوداع = وكان فيما يزعمون، ليس بأقل العسكرين. فلما سار رَسول الله صلى الله عليه وسلم، تخلف عنه عبد الله بن أبي فيمن تخلَّف
__________
(1) "صمد للأمر يصمد"، قصده قصدًا.
(2) هذه الجملة الأخيرة من أول قوله: "فتجهز الناس"، لم أجدها في هذا الموضع من سيرة ابن هشام 4: 159، وسأذكر موضع ما يليه في التخريج، فإنه قد أسقط ما بعد ذلك، حتى بلغ ما بعده.
(3) "الانكماش" الإسراع والجد في العمل والطلب.
(4) "الحملان" (بضم فسكون) مصدر مثل "الحمل"، يريد: حمل من لا دابة له على دابة يركبها في وجهه هذا.
وهذه الجملة من أول قوله: "ثم إن رسول الله"، إلى هذا الموضع، في سيرة ابن هشام 4: 161، والذي يليه من موضع آخر سأبينه.
(5) وهذه الجملة مفردة في سيرة ابن هشام 4: 162، بعدها كلام حذفه أبو جعفر، ووصله بما بعده.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "على ذي حدة"، وكان في المخطوطة كتب قبل "ذي" "دين" ثم ضرب عليها. ولم أجدهم قالوا: "على ذي حدة"، يؤيد صواب ذلك أن ابن هشام قال: "على حدة"، وذكر أبو جعفر هذا الخبر في تاريخه 3: 143، فيه أيضًا "على حدة"، فمن أجل ذلك أغفلت ما كان في المطبوعة والمخطوطة = وكان في المطبوعة، وفي سيرة ابن هشام " نحو ذباب "، وفي المخطوطة: " نحوا "، والألف مطموسة قصيرة، والذي في التاريخ ما أثبته " بحذاء "، وهو الصواب الذي لا شك فيه. وبيان موضع الجبل، ليس مذكورًا في السيرة، وهو مذكور في التاريخ.(14/285)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
من المنافقين وأهل الريب. وكان عبد الله بن أبي، أخا بني عوف بن الخزرج، وعبد الله بن نبتل، أخا بني عمرو بن عوف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، (1) أخا بني قينقاع، وكانوا من عظماء المنافقين، وكانوا ممن يكيد للإسلام وأهله.
= قال: وفيهم، فيما حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري، أنزل الله: (لقد ابتغوا الفتنة من قبل) ، الآية. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) }
قال أبو جعفر: وذكر أن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس.
* * *
ويعني جل ثناؤه بقوله: (ومنهم) ، ومن المنافقين = (من يقول ائذن لي) ، أقم فلا أشخَصُ معك = (ولا تفتني) ، يقول: ولا تبتلني برؤية نساء بني الأصفر وبناتِهم، فإنّي بالنساء مغرمٌ، فأخرج وآثَمُ بذلك. (3)
* * *
وبذلك من التأويل تظاهرت الأخبار عن أهل التأويل.
* ذكر الرواية بذلك عمن قاله:
16785- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "رفاعة بن يزيد"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، والتاريخ.
(2) الأثر: 16784 - هذا خبر مفرق، ذكرت مواضعه فيما سلف، وهو في سيرة ابن هشام 4: 159 \ ثم 4: 161 \ ثم 4: 162، وهو بتمامه في تاريخ الطبري 3: 142، 143. والجزء الأخير من هذا الخبر، مضى برقم: 16873.
(3) انظر تفسير "الفتنة" فيما سلف ص: 283، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/286)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ائذن لي ولا تفتني) ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغزُوا تبوك، تغنموا بنات الأصفر ونساء الروم! فقال الجدّ: ائذن لنا، ولا تفتنَّا بالنساء.
16786- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قالوا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغزوا تغنَموا بنات الأصفر = يعني نساء الروم، ثم ذكر مثله.
16787-...... قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: (ائذن لي ولا تفتني) ، قال: هو الجدّ بن قيس قال: قد علمت الأنصار أني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي.
16788- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه، للجد بن قيس أخي بني سلمة: هل لك يا جدُّ العامَ في جلاد بني الأصفر؟ فقال: يا رسول الله، أوْ تأذن لي ولا تفتني، فوالله لقد عرف قومي ما رَجل أشدّ عُجْبًا بالنساء منِّي، وإني أخشى إن رأيت نساءَ بني الأصفر أن لا أصبر عنهن! فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك، ففي الجد بن قيس نزلت هذه الآية: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، الآية، أي: إن كان إنما يخشى الفتنة من نساء بني الأصفر وليس ذلك به، فما سقط فيه من الفتنة بتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه، أعظم. (1)
16789- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في
__________
(1) الأثر: 16788 - سيرة ابن هشام 4: 159، 160، وهو تابع صدر الأثر السالف رقم: 16784، بعد قوله هناك: "وأخبرهم أنه يريد الروم"، وبين الذي رواه أبو جعفر، وما في السيرة خلاف يسير في ختام الخبر.(14/287)
قوله: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، قال: هو رجل من المنافقين يقال له جَدُّ بن قيس، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: العامَ نغزو بني الأصفر ونتَّخذ منهم سراريّ ووُصفاءَ (1) = فقال: أي رسول الله، ائذن لي ولا تفتني، إن لم تأذن لي افتتنت وقعدت! (2) وغضب [رسول الله صلى الله عليه وسلم] ، (3) فقال الله: (ألا في الفتنة سقطوا وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) ، وكان من بني سلمة، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: من سيدكم يا بني سَلِمة؟ فقالوا: جدُّ بن قيس، غير أنه بخيلٌ جبان! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "وأيُّ داءٍ أدْوَى من البخل، ولكن سيِّدكم الفتى الأبيض، الجعد: بشر بن البراء بن مَعْرُور. (4)
16790- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، يقول: ائذن لي ولا تحرجني = (ألا في الفتنة سقطوا) ، يعني: في الحرج سقطوا.
16791- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ومنهم من يقول ائذن لي ولا تفتني) ، ولا تؤثمني، ألا في الإثم سقطوا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "سراري ووصفانًا"، والصواب من المخطوطة. و "الوصفاء" جمع "وصيف"، والأنثى "وصيفة"، وجمعها "وصائف"، وهو الخادم الغلام الشاب، ومثله الخادمة.
(2) في المطبوعة: "ووقعت"، مكان "وقعدت"، وأثبت ما في المخطوطة، وأراد القعود عن الخروج إلى الغزوة خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(3) في المطبوعة: "فغضب"، وفي المخطوطة: "وغضب"، وظاهر أنه سقط من الخبر ما أثبته بين القوسين.
(4) في المطبوعة: "الجعد الشعر البراء بن معرور"، غير ما كان في المخطوطة، وهو الصواب المحض، فإن الخبر هو خبر "بشر بن البراء بن معرور" في تسويده على بني سلمة. وأما أبوه "البراء بن معرور"، فهو من أول من بايع بيعة العقبة الأولى، وأول من استقبل القبلة، وأول من أوصى بثلث ماله، وهو أحد النقباء، ومات قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قبل مقدم رسول الله المدينة بشهر، ولما دفنوه، وجهوا قبره إلى القبلة.
ويقال: "رجل جعد"، يراد به أنه مدمج الخلق، معصوب الجوارح، شديد الأسر، غير مسترخ ولا مضطرب، وهو من حلية الكريم. ويراد به أيضا: جعودة الشعر، وهو مدح العرب، لأن سبوطة الشعر إنما هي في الروم وفي الفرس. وإنما أراد في الخبر المعنى الأول.(14/288)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50)
وقوله: (وإن جهنم لمحيطة بالكافرين) ، يقول: وإن النار لمطيفة بمن كفر بالله وجحد آياته وكذَّب رسله، محدقة بهم، جامعة لهم جميعًا يوم القيامة. (1)
يقول: فكفى للجدّ بن قيس وأشكاله من المنافقين بِصِلِيِّها خزيًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إن يصبك سرورٌ بفتح الله عليك أرضَ الروم في غَزاتك هذه، (2) يسؤ الجدَّ بن قيس ونظراءه وأشياعهم من المنافقين، وإن تصبك مصيبة بفلول جيشك فيها، (3) يقول الجد ونظراؤه: (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، أي: قد أخذنا حذرَنا بتخلّفنا عن محمد، وترك أتباعه إلى عدوّه = (من قبل) ، يقول: من قبل أن تصيبه هذه المصيبة = (ويتولوا وهم فرحون) ، يقول: ويرتدُّوا عن محمد وهم فرحون بما أصاب محمدًا وأصحابه من المصيبة، (4) بفلول أصحابه وانهزامهم عنه، (5) وقتل من قُتِل منهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير " الإحاطة " فيما سلف 13: 581، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الإصابة " فيما سلف: 13: 473، تعليق: 2، والمراجع هناك.
= وتفسير "الحسنة" فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) .
(3) "الفلول"، مصدر "فل"، لازمًا، بمعنى: انهزم. وقد مر آنفًا في كلام الطبري أيضًا، ولم أجد له ذكرًا في كتب اللغة. انظر ما سلف 7: 313، تعليق: 3، وما قلته في تصحيح ذلك استظهارًا من قولهم: "من فل ذل"، أي: من انهزم وفر عن عدوه، ذل.
(4) انظر تفسير "التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) .
(5) "الفلول"، مصدر "فل"، لازمًا، بمعنى: انهزم. وقد مر آنفًا في كلام الطبري أيضًا، ولم أجد له ذكرًا في كتب اللغة. انظر ما سلف 7: 313، تعليق: 3، وما قلته في تصحيح ذلك استظهارًا من قولهم: "من فل ذل"، أي: من انهزم وفر عن عدوه، ذل.(14/289)
قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
* ذكر من قال ذلك:
16792- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (إن تصبك حسنة تسؤهم) ، يقول: إن تصبك في سفرك هذه الغزوة تبوك = (حسنة تسؤهم) ، قال: الجدُّ وأصحابه.
16793- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، حِذْرنا.
16794- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (قد أخذنا أمرنا من قبل) ، قال: حِذْرنا.
16795- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إن تصبك حسنة تسؤهم) ، إن كان فتح للمسلمين كبر ذلك عليهم وساءَهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره مؤدِّبًا نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عنك: (لن يصيبنا) ، أيها المرتابون في دينهم = (إلا ما كتب الله لنا) ، في اللوح المحفوظ، وقضاه علينا (1) = (هو مولانا) ، يقول: هو ناصرنا على أعدائه (2) = (وعلى الله فليتوكل المؤمنون) ،
__________
(1) انظر تفسير "كتب" فيما سلف من فهارس اللغة (كتب) .
(2) انظر تفسير "المولى" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) .(14/290)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)
يقول: وعلى الله فليتوكل المؤمنون، فإنهم إن يتوكلوا عليه، ولم يرجُوا النصر من عند غيره، ولم يخافوا شيئًا غيره، يكفهم أمورهم، وينصرهم على من بغاهم وكادهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم وبينت لك أمرهم: هل تنتظرون بنا إلا إحدى الخَلَّتين اللتين هما أحسن من غيرهما، (2) إما ظفرًا بالعدو وفتحًا لنا بِغَلَبَتِناهم، ففيها الأجر والغنيمة والسلامة = وإما قتلا من عدوِّنا لنا، ففيه الشهادة، والفوز بالجنة، والنجاة من النار. وكلتاهما مما نُحبُّ ولا نكره = (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده) ، يقول: ونحن ننتظر بكم أن يصيبكم الله بعقوبة من عنده عاجلة، تهلككم = (أو بأيدينا) ، فنقتلكم = (فتربصوا إنا معكم متربصون) ، يقول: فانتظروا إنا معكم منتظرون ما الله فاعل بنا، وما إليه صائرٌ أمر كلِّ فريقٍ منَّا ومنكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر تفسير "التوكل" فيما سلف ص: 43، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "التربص" فيما سلف ص: 177، تعليق: 3، والمراجع هناك.
= وتفسير " الحسنى " فيما سلف 9: 96، 97.(14/291)
* ذكر من قال ذلك:
16796- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (هل تربصون لنا إلا إحدى الحسنيين) ، يقول: فتح أو شهادة = وقال مرة أخرى: يقول القتل، فهي الشهادة والحياة والرزق. وإما يخزيكم بأيدينا.
16797- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) ، يقول: قتل فيه الحياة والرزق، وإما أن يغلب فيؤتيه الله أجرًا عظيمًا، وهو مثل قوله: (وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ، إلى (فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [سورة النساء: 74] .
16798- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (إلا إحدى الحسنيين) ، قال: القتل في سبيل الله، والظهور على أعدائه.
16799-...... قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد قال: القتل في سبيل الله، والظهور.
16800- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إحدى الحسنيين) ، القتل في سبيل الله، والظهور على أعداء الله.
16801- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه = قال ابن جريج، قال ابن عباس: (بعذاب من عنده) ، بالموت = (أو بأيدينا) ، قال: القتل.
16802- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين) ، إلا فتحًا أو قتلا في سبيل(14/292)
قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53)
الله = (ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا) ، أي: قتل.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) ، يا محمد، لهؤلاء المنافقين: أنفقوا كيف شئتم أموالكم في سفركم هذا وغيره، وعلى أي حال شئتم، من حال الطوع والكره، (1) فإنكم إن تنفقوها لن يتقبَّل الله منكم نفقاتكم، وأنتم في شك من دينكم، وجهلٍ منكم بنبوة نبيكم، وسوء معرفة منكم بثواب الله وعقابه = (إنكم كنتم قومًا فاسقين) ، يقول: خارجين عن الإيمان بربكم. (2)
* * *
وخرج قوله: (أنفقوا طوعا أو كرها) ، مخرج الأمر، ومعناه الجزاء، (3) والعرب تفعل ذلك في الأماكن التي يحسن فيها "إن"، التي تأتي بمعنى الجزاء، كما قال جل ثناؤه: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) [سورة التوبة: 80] ، فهو في لفظ الأمر، ومعناه الجزاء، (4) ومنه قول الشاعر: (5)
أَسِيئي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا، ولا مَقْلِيَّةً إِنْ تَقَلَّتِ (6)
__________
(1) انظر تفسير "الطوع" فيما سلف 6: 564، 565.
= وتفسير " الكره " فيما سلف ص: 283، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "الفسق" فيما سلف 13: 110، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة في الموضعين: "ومعناه الخبر"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 441.
(4) في المطبوعة في الموضعين: "ومعناه الخبر"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 441.
(5) هو كثير عزة.
(6) سلف تخريجه وبيانه في التفسير 2: 294، ولم أشر هناك إلى هذا الموضع، ومعاني القرآن للفراء 1: 441.(14/293)
وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
فكذلك قوله: (أنفقوا طوعًا أو كرهًا) ، إنما معناه: إن تنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يُتَقَبَّل منكم.
* * *
وقيل: إن هذه الآية نزلت في الجدّ بن قيس، حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم، لما عرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم الخروج معه لغزو الروم: "هذا مالي أعينك به".
16803- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: قال، الجدّ بن قيس: إني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن، ولكن أعينك بمالي! قال: ففيه نزلت (أنفقوا طوعًا أو كرهًا لن يتقبل منكم) ، قال: لقوله "أعينك بمالي".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلا وَهُمْ كُسَالَى وَلا يُنْفِقُونَ إِلا وَهُمْ كَارِهُونَ (54) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وما منع هؤلاء المنافقين، يا محمد، أن تقبل منهم نفقاتهم التي ينفقونها في سفرهم معك، وفي غير ذلك من السبل، إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله، فـ "أن" الأولى في موضع نصب، والثانية في موضع رفع، (1) لان معنى الكلام: ما منع قبول نفقاتهم إلا كفرهم بالله = (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) ،
__________
(1) يعني بالثانية "أن" المشددة في "أنهم"، وأما الأولى فهي "أن" الخفيفة.(14/294)
يقول: لا يأتونها إلا متثاقلين بها. (1) لأنهم لا يرجون بأدائها ثوابًا، ولا يخافون بتركها عقابًا، وإنما يقيمونها مخافةً على أنفسهم بتركها من المؤمنين، فإذا أمنوهم لم يقيموها = (ولا ينفقون) ، يقول: ولا ينفقون من أموالهم شيئًا = (إلا وهم كارهون) ، أن ينفقونه في الوجه الذي ينفقونه فيه، مما فيه تقوية للإسلام وأهله. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير "كسالى" فيما سلف 9: 330، 331.
(2) انظر تفسير "الكره" فيما سلف ص: 293. تعليق: 1 والمراجع هناك.(14/295)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
القول في تأويل قوله: {فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: فلا تعجبك، يا محمد، أموال هؤلاء المنافقين ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. وقال: معنى ذلك التقديمُ، وهو مؤخر.
* ذكر من قال ذلك:
16804- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم) ، قال: هذه من تقاديم الكلام، (1)
__________
(1) هذه أول مرّة أجد استعمال "تقاديم" جمعًا في هذا التفسير. وهي جمع "تقديم" كأمثاله من قولهم "التكاذيب"، "والتكاليف"، و "التحاسين"، و "التقاصيب"، وما أشبهها.
وكان في المخطوطة: "هذه من تقاديم الله، ليعذبهم بها في الآخرة"، ولكن ناشر المطبوعة نقل هذا النص الثابت في المطبوعة، من الدر المنثور 3: 249، وكأنه الصواب، إن شاء الله، ولذلك تركته على حاله.
وانظر معاني القرآن للفراء 1: 442.(14/295)
يقول: لا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
16805- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا، بما ألزمهم فيها من فرائضه.
* ذكر من قال ذلك:
16806- حدثت عن المسيّب بن شريك، عن سلمان الأنصري، عن الحسن: (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) ، قال: بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله. (1)
16807- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (إنما يريد الله ليعذبهم بها في الحياة الدنيا) ، بالمصائب فيها، هي لهم عذابٌ، وهي للمؤمنين أجرٌ.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك عندنا، التأويلُ الذي ذكرنا عن الحسن. لأن ذلك هو الظاهر من التنزيل، فصرْفُ تأويله إلى ما دلَّ عليه ظاهره، أولى من صرفه إلى باطنٍ لا دلالةَ على صحته.
وإنما وجَّه من وجَّه ذلك إلى التقديم وهو مؤخر، لأنه لم يعرف لتعذيب الله المنافقين بأموالهم وأولادهم في الحياة الدنيا، وجهًا يوجِّهه إليه، وقال: كيف يعذِّبهم
__________
(1) الأثر: 16806 - " المسيب بن شريك التميمي، أبو سعيد "، ترك الناس حديثه، وقال البخاري: " سكتوا عنه ". مترجم في الكبير 4 \ 1 \ 408، وإن أبي حاتم 4 \ 1 \ 294، وميزان الاعتدال 3: 171، ولسان الميزان 6: 38.
و"سلمان الأنصري"، هكذا في المخطوطة، وفي المطبوعة " الأقصري "، ولم أستطع أن أعرف شيئًا عن هذا الاسم.(14/296)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)
بذلك في الدنيا، وهي لهم فيها سرور؟ وذهبَ عنه توجيهه إلى أنه من عظيم العذاب عليه إلزامُه ما أوجب الله عليه فيها من حقوقه وفرائضه، إذ كان يلزمه ويؤخذ منه وهو غير طيِّب النفس، ولا راجٍ من الله جزاءً، ولا من الآخذ منه حمدًا ولا شكرًا، على ضجرٍ منه وكُرْهٍ.
* * *
وأما قوله: (وتزهق أنفسهم وهم كافرون) ، فإنه يعني وتخرج أنفسهم، فيموتوا على كفرهم بالله، وجحودهم نبوّةَ نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
يقال منه: "زَهَقَت نفس فلان، وزَهِقَت"، فمن قال: "زَهَقت" قال: "تَزْهَق"، ومن قال: "زَهِقت"، قال: "تزهق"، "زهوقًا"، ومنه قيل: "زَهَق فلان بين أيدي القوم يَزْهَق زُهُوقا" إذا سبقهم فتقدمهم. ويقال: "زهق الباطل"، إذا ذهب ودرس. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ويحلف بالله لكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون كذبًا وباطلا خوفًا منكم: (إنهم لمنكم) في الدين والملة. يقول الله تعالى، مكذّبًا لهم: (وما هم منكم) ، أي ليسوا من أهل دينكم وملتكم، بل هم أهل
__________
(1) لا أدري ما هذا، فإن أصحاب اللغة لم يذكروا في مضارع اللغتين إلا "تزهق" بفتح الهاء، أما الأخرى فلا أدري ما تكون، ولا أجد لها عندي وجهًا، فتركتها على حالها لم أضبطها.(14/297)
لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
شكٍّ ونفاقٍ = (ولكنهم قوم يفرقون) ، يقول: ولكنهم قوم يخَافونكم، فهم خوفًا منكم يقولون بألسنتهم: "إنا منكم"، ليأمنوا فيكم فلا يُقْتَلوا.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لو يجد هؤلاء المنافقون "ملجأ"، يقول: عَصَرًا يعتصِرون به من حِصْن، ومَعْقِلا يعتقِلون فيه منكم = (أو مغارات) ،
* * *
= وهي الغيران في الجبال، واحدتها: "مغارة"، وهي "مفعلة"، من: "غار الرجل في الشيء، يغور فيه"، إذا دخل، ومنه قيل، "غارت العين"، إذا دخلت في الحدقة.
* * *
(أو مدَّخلا) ، يقول: سَرَبًا في الأرض يدخلون فيه.
* * *
وقال: "أو مدّخلا"، الآية، لأنه "من ادَّخَل يَدَّخِل". (1)
* * *
وقوله: (لولَّوا إليه) ، يقول: لأدبروا إليه، هربًا منكم (2) = (وهم يجمحون) . يقول: وهم يسرعون في مَشْيِهم.
* * *
وقيل: إن "الجماح" مشيٌ بين المشيين، (3) ومنه قول مهلهل:
__________
(1) في المطبوعة: " أو مدخلا الآية، لأنه "، وهو خطأ في الطباعة فيما أرجح، زاد " الآية لشبهه بقوله: " لأنه " بعده، وخالف الطابع المصحح، فأثبت له ما صححه! !
(2) انظر تفسير "التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) .
(3) هذا نص نادر لا تجده في كتاب اللغة، فليقيد فيها هو وشاهده.(14/298)
لَقَدْ جَمَحْتُ جِمَاحًا فِي دِمَائِهِمُ ... حَتَّى رَأَيْتُ ذَوِي أَحْسَابِهِمْ خَمَدُوا (1)
* * *
وإنما وصفهم الله بما وصفهم به من هذه الصفة، لأنهم إنما أقاموا بين أَظْهُرِ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على كفرهم ونفاقهم وعداوتهم لهم ولما هم عليه من الإيمان بالله وبرسوله، لأنهم كانوا في قومهم وعشيرتهم وفي دورهم وأموالهم، فلم يقدروا على ترك ذلك وفراقه، فصانعوا القوم بالنفاق، ودافعوا عن أنفسهم وأموالهم وأولادهم بالكفر ودعوى الإيمان، وفي أنفسهم ما فيها من البغض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان به والعداوة لهم. فقال الله واصِفَهم بما في ضمائرهم: (لو يجدون ملجأ أو مغاراتٍ) ، الآية.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16808- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لو يجدون ملجأ) ، "الملجأ" الحِرْز في الجبال، "والمغارات"، الغِيران في الجبال. وقوله: (أو مدَّخلا) ، و"المدّخل"، السَّرَب.
16809- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا لولّوا إليه وهم يجمحون) ، "ملجأ"، يقول: حرزًا = (أو مغارات) ، يعني الغيران = (أو مدخلا) ، يقول: ذهابًا في الأرض، وهو النفق في الأرض، وهو السَّرَب.
16810- وحدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) لم أجد هذا البيت فيما وقفت عليه من شعر مهلهل. وقوله: " خمدا "، أي: سكنوا فماتوا، كما تنطفئ الجمرة.(14/299)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا) ، قال: حرزًا لهم يفرُّون إليه منكم.
16811- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدخلا) ، قال: محرزًا لهم، لفرُّوا إليه منكم = وقال ابن عباس: قوله: (لو يجدون ملجأ) ، حرزًا = (أو مغارات) ، قال: الغيران = (أو مدّخلا) ، قال: نفقًا في الأرض.
16812- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: (لو يجدون ملجأ أو مغارات أو مدّخلا) ، يقول: "لو يجدون ملجأ"، حصونًا = (أو مغارات) ، غِيرانًا = (أو مدخلا) ، أسرابًا = (لولوا إليه وهم يجمحون) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن المنافقين الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم في هذه الآيات = (من يلمزك في الصدقات) ، يقول: يعيبك في أمرها، ويطعُنُ عليك فيها.
* * *
يقال منه: "لمز فلان فلانًا يَلْمِزُه، ويَلْمُزُه" إذا عابه وقرصه، وكذلك "همزه"، ومنه قيل: "فلان هُمَزَةً لُمَزَة، ومنه قول رؤبة:
قَارَبْتُ بَيْنَ عَنَقِي وَجَمْزِي ... فِي ظِلِّ عَصْرَيْ بَاطِلي وَلَمْزِي (1)
__________
(1) ديوانه: 64، من رجزه في أبان بن الوليد البجلي، ثم ذكر فيها نفسه، فقال: فَإن ترَيْنِي الْيَوْمَ أُمَّ حَمْزِ ... قَارَبْتُ بَيْنَ عَنَقِي وجَمْزِي
مِنْ بَعْدِ تَقْمَاص الشَّبَابِ الأَبْزِ ... فِي ظِلِّ عَصْرَيْ باطِلِي وَلَمْزِي
فَكُلُّ بَدْءِ صَالحٍ أَوْ نِقْزِ ... لاقٍ حِمَامَ الأَجَلِ المُجْتَزِّ
"أم حمز"، يعني "أم حمزة". و "العنق" ضرب من العدو، و "الجمز" فوق العنق، ودون الحضر، وهو العدو الشديد. يعني ما تقارب من جريه لما كبر، "تقماص الشباب"، من "القمص"، "قمص الفرس"، إذا نفر واستن، وهو أن يرفع يديه ويطرحهما معًا، ويعجن برجليه. و "التقماص" مصدر لم تذكره كتب اللغة. و "الأبز": الشديد الوثب، المتطلق في عدوه، يقال: "ظبي أبوز، وأباز"، ولم يذكروا في الصفات "الأبز"، وهو هنا صفة بالمصدر. و "البدء": السيد الشاب المقدم المستجاد الرأي. و "النقز" (بكسرالنون) : الخسيس الرذال من الناس.(14/300)
ومنه قول الآخر: (1)
إِذَا لَقَيْتُكَ تُبْدِي لِي مُكَاشَرَةً ... وَإِنْ أُغَيَّبْ، فَأَنْتَ العَائِبُ اللُّمَزَهْ (2)
= (فإن أعطوا منها رضوا) ، يقول: ليس بهم في عيبهم إياك فيها، وطعنهم عليك بسببها، الدِّينُ، ولكن الغضب لأنفسهم، فإن أنت أعطيتهم منها ما يرضيهم رضوا عنك، وإن أنت لم تعطهم منهم سخطوا عليك وعابوك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) هو زياد الأعجم.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 263، إصلاح المنطق: 475، والجمهرة لابن دريد 3: 18، والمقاييس 6: 66، واللسان (همز) ، وسيأتي في التفسير 30: 188 (بولاق) بغير هذه الرواية، وهي: تُدْلِي بِوُدٍّ إذَا لاقَيْتَنِي كَذِبًا ... وَإِنْ أُغَيِّبْ فأنت الهَامِزُ اللُّمَزَهْ
وهي رواية ابن السكيت، وابن فارس، والطبري بعد، ورواية ابن دريد، وصاحب اللسان، وابن دريد. إذَا لَقِيتُكَ عن شَحْطٍ تُكَاشِرُني
وقوله: "وإن أغيب" بالبناء للمجهول، لا كما ضبط في مجاز القرآن.(14/301)
16813- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، قال: يروزك. (1)
16814- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، يروزك ويسألك، (2) قال ابن جريج: وأخبرني داود بن أبي عاصم قال: قال أتي النبي صلى الله عليه وسلم بصدقة فقسمها ههنا وههنا حتى ذهبت. قال: ورآه رجل من الأنصار فقال: ما هذا بالعدل؟ فنزلت هذه الآية.
16815- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، يقول: ومنهم من يطعُنُ عليك في الصدقات. وذكر لنا أن رجلا من أهل البادية حديثَ عهدٍ بأعرابيّةٍ، أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهبًا وفضة، فقال: يا محمد، والله لئن كان الله أمرك أن تعدل، ما عدلت! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: ويلك! فمن ذا يعدل عليك بعدي! ثم قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: احذروا هذا وأشباهه فإن في أمتي أشباه هذا، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "والذي نفسي بيده ما أعطيكم شيئا ولا أمنعكموه، إنما أنا خازن.
16816- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) ، قال: يطعن.
16817-...... قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري
__________
(1) "رازه يروزه روزًا"، اختبره وامتحنه، وقد ذكر هذا الخبر في المعاجم من كلام مجاهد، وفسروه فقالوا: "يقال: رزت ما عند فلان، إذا اختبرته وامتحنته. والمعنى: يمتحنك ويذوق أمرك، هل تخاف لائمته أم لا".
(2) "رازه يروزه روزًا"، اختبره وامتحنه، وقد ذكر هذا الخبر في المعاجم من كلام مجاهد، وفسروه فقالوا: "يقال: رزت ما عند فلان، إذا اختبرته وامتحنته. والمعنى: يمتحنك ويذوق أمرك، هل تخاف لائمته أم لا".(14/302)
عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قَسْمًا، إذ جاءه ابن ذي الخُوَيْصِرَة التميمي، (1) فقال: اعدل، يا رسول الله! فقال: ويلك، ومن يعدل إن لم أعدل! فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه! قال: دَعْه، فإن له أصحابًا يحتقر أحدكم صلاته مع صَلاتهم، (2) وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميَّة، (3) فينظر في قُذَذَه فلا ينظر شيئًا، (4) ثم ينظر في نَصْله، فلا يجد شيئًا، ثم ينظر في رِصَافه فلا يجد شيئًا، (5) قد سبق الفَرْثَ والدم، (6) آيتهم رجل، أسود، (7) إحدى يده = أو قال: يديه = مثل ثدي المرأة، أو مثل البَضْعَة تَدَرْدَرُ، (8) يخرجون على حين فترة من الناس. قال: فنزلت: (ومنهم من يلمزك في الصدقات) = قال أبو سعيد: أشهد أني سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليًّا رحمة الله عليه حين، قتلهم جيء بالرجل على النعت الذي نعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. (9)
16817م- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
__________
(1) في مسلم والبخاري "ذو الخويصرة"، ليس فيها (ابن) ، وهذا هو المعروف المشهور.
(2) في المطبوعة: " يحقر "، وهي كذلك في رواية الخبر في الصحيحين، ولكن هكذا جاءت في المخطوطة.
(3) "مرق السهم من الرمية"، خرج من الجانب الآخر خروجًا سريعًا. و "الرمية"، المرمية، يعني الصيد المرمي بالسهم ونحوه.
(4) "القذذ" جمع "قذة" (بضم القاف) ، وهي ريش السهم.
(5) "الرصاف" جمع "رصفة" (بفتحات) ، وهي العقبة التي تلوى على موضع الفوق من السهم.
(6) "الفرث"، سرجين الدابة، ما دام في كرشها.
(7) "الآية"، العلامة.
(8) "البضعة" القطعة من اللحم. "تدردر"، "تتدردر"، أي: تضطرب.
(9) الأثر: 16817 - هذا حديث صحيح الإسناد، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 6: 455) ومسلم في صحيحه 7: 165، من طريق الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن.
وجاء الخبر من طرق صحاح كثيرة، انظر شرح البخاري، وصحيح مسلم.(14/303)
وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
قوله: (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) ، قال: هؤلاء المنافقون، قالوا: والله ما يعطيها محمد إلا من أحبَّ، ولا يؤثر بها إلا هواه! فأخبر الله نبيه، وأخبرهم أنه إنما جاءت من الله، وإن هذا أمر من الله ليس من محمد: (إنما الصدقات للفقراء) ، الآية.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولو أنّ هؤلاء الذين يلمزونك، يا محمد، في الصدقات، رضَوا ما أعطاهم الله ورسوله من عطاء، وقسم لهم من قسم = (وقالوا حسبنا الله) ، يقول: وقالوا: كافينا الله، (1) = (سيؤتينا الله من فضله ورسوله) ، يقول: سيعطينا الله من فضل خزائنه، ورسوله من الصدقة وغيرها (2) = (إنا إلى الله راغبون) ، يقول: وقالوا: إنا إلى الله نرغب في أن يوسع علينا من فضله، فيغنينا عن الصدقة وغيرها من صلات الناس والحاجة إليهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حسب " فيما سلف ص: 49، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "آتى" و "فضل" في فهارس اللغة (آتى) ، (فضل) .(14/304)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما الصدقات إلا للفقراء والمساكين، (1) ومن سماهم الله جل ثناؤه.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة "الفقير" و"المسكين".
فقال بعضهم: "الفقير"، المحتاج المتعفف عن المسألة، و"المسكين"، المحتاج السائل. (2)
* ذكر من قال ذلك:
16818- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال: "الفقير"، الجالس في بيته = "والمسكين"، الذي يسعى.
16819- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، = قال: "المساكين"، الطوافون، و"الفقراء"، فقراء المسلمين.
16820- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن جرير بن حازم قال، حدثني رجل، عن جابر بن زيد: أنه سئل عن "الفقراء"، قال: "الفقراء"، المتعففون، و"المساكين"، الذين يسألون.
__________
(1) في المطبوعة: "لا ينال الصدقات"، وهو كلام غير مستقيم، والصواب ما كان في المخطوطة، ولكنه لم يحسن قراءته.
(2) انظر تفسير "المسكين" فيما سلف 13: 560، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/305)
16821- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله الجزريّ قال: سألت الزهري عن قوله: (إنما الصدقات للفقراء) ، قال: الذين في بيوتهم لا يسألون، و"المساكين"، الذين يخرجون فيسألون. (1)
16822- حدثنا الحارث قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبد الوارث بن سعيد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "الفقير" الذي لا يسأل، و"المسكين"، الذي يسأل.
16823- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال: "الفقراء"، الذين لا يسألون الناس، أهلُ حاجة (2) = و"المساكين"، الذين يسألون الناس.
16824- حدثنا الحارث قال، حدثني عبد العزيز قال، حدثنا عبد الوارث، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: "الفقراء"، الذين لا يسألون، و"المساكين" الذين يسألون.
* * *
وقال آخرون: "الفقير"، هو ذو الزمانة من أهل الحاجة، و"المسكين"، هو الصحيح الجسم منهم. (3)
* ذكر من قال ذلك:
16825- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال: "الفقير"، من به زَمانة = و"المسكين"، الصحيح المحتاج.
__________
(1) الأثر: 16821 - "معقل بن عبيد الله الجزري العبسي، الحراني"، ثقة، ليس به بأس. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 1 \ 393، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 286.
وكان في المطبوعة: "الحراني"، مكان "الجزري"، وهو صواب، ولكني أثبت ما كان في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "وهو أهل حاجة"، زاد ما ليس في المخطوطة.
(3) في المطبوعة، أسقط "منهم".(14/306)
16826- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، أما "الفقير"، فالزَّمِن الذي به زَمانة، وأما "المسكين"، فهو الذي ليست به زمانة.
* * *
وقال آخرون: "الفقراء"، فقراء المهاجرين، و"المساكين"، من لم يهاجر من المسلمين، وهو محتاج.
* ذكر من قال ذلك:
16827- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا جرير بن حازم، عن علي بن الحكم، عن الضحاك بن مزاحم: (إنما الصدقات للفقراء) ، قال: فقراء المهاجرين = و"المساكين"، الذين لم يهاجروا. (1)
16828-...... قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم: (إنما الصدقات للفقراء) ، المهاجرين، قال: سفيان: يعني: ولا يعطى الأعراب منها شيئًا.
16829- حدثنا ابن وكيع قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، قال: كان يقال: إنما الصدقة لفقراء المهاجرين.
16830-...... قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: كانت تجعل الصدقة في فقراء المهاجرين، وفي سبيل الله.
16831- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزي قالا (2) كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار، والزوجة، والعبد، والناقة يحج عليها ويغزو، فنسبهم الله إلى أنهم فقراء، وجعل لهم سهمًا في الزكاة.
16832- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 16827 - "علي بن الحكم البناني"، ثقة، له أحاديث. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 181.
(2) في المطبوعة: "قال"، والصواب من المخطوطة.(14/307)
سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: كان يقال: إنما الصدقات في فقراء المهاجرين، وفي سبيل الله.
* * *
وقال آخرون: "المسكين"، الضعيف الكسب. (1)
* ذكر من قال ذلك:
16833- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد قال: قال عمر: ليس الفقير بالذي لا مال له، ولكن الفقير الأخلقُ الكسْب = قال يعقوب: قال ابن علية: "الأخلق"، المحارَفُ، عندنا. (2)
16834- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب عن ابن سيرين: أن عمر بن الخطاب رحمه الله قال: ليس المسكين بالذي لا مال له، ولكن المسكين الأخلقُ الكسْبِ.
* * *
وقال بعضهم: "الفقير"، من المسلمين، و"المسكين" من أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
16835- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا عمر بن نافع قال: سمعت عكرمة في قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، قال: لا تقولوا لفقراء المسلمين "مساكين"، إنما "المساكين"، مساكين أهل الكتاب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: "الفقير"،
__________
(1) في المطبوعة: "الضعيف البئيس"، لم يحسن قراءة المخطوطة، وكان فيها: " النسب "، وهو تحريف، دل على صوابه الآثار التالية.
(2) أراد عمر: أن الفقير، هو الذي لم يقدم لآخرته شيئًا يثاب عليه، وأن الفقر الأكبر إنما هو فقر الآخرة، وأن فقر الدنيا أهون الفقرين. و "الأخلق" من قولهم: "هضبة خلقاء"، ملساء لا نبات بها. وللجبل المصمت الذي لا يؤثر فيه شيء "أخلق". وفي حديث فاطمة بنت قيس: "أما معاوية، فرجل أخلق من المال"، أي: خلو عار منه.
وأما "المحارف"، كما فسره ابن علية، فهو المنقوص الحظ، فهو محدود محروم، إذا طلب الرزق لم يرزق، ضد " المبارك ".(14/308)
هو ذو الفقر أو الحاجة، ومع حاجته يتعفّف عن مسألة الناس والتذلل لهم، في هذا الموضع = و"المسكين" هو المحتاج المتذلل للناس بمسألتهم.
وإنما قلنا إن ذلك كذلك، وإن كان الفريقان لم يُعْطَيا إلا بالفقر والحاجة، دون الذلة والمسألة، (1) لإجماع الجميع من أهل العلم أن "المسكين"، إنما يعطى من الصدقة المفروضة بالفقر، وأن معنى "المسكنة"، عند العرب، الذلة، كما قال الله جل ثناؤه: (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ) ، [سورة البقرة: 61] ، يعني بذلك: الهون والذلة، لا الفقر. فإذا كان الله جل ثناؤه قد صنَّف من قسم له من الصدقة المفروضة قسمًا بالفقر، فجعلهم صنفين، كان معلومًا أن كل صنف منهم غير الآخر. وإذ كان ذلك كذلك، كان لا شك أن المقسوم له باسم "الفقير"، غير المقسوم له باسم الفقر و"المسكنة"، والفقير المعطَى ذلك باسم الفقير المطلق، هو الذي لا مسكنة فيه. والمعطى باسم المسكنة والفقر، هو الجامع إلى فقره المسكنة، وهي الذلّ بالطلب والمسألة.
= فتأويل الكلام، إذ كان ذلك معناه: إنما الصدقات للفقراء: المتعفِّف منهم الذي لا يسأل، والمتذلل منهم الذي يسأل.
* * *
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي قلنا في ذلك خبَرٌ.
16836- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا إسماعيل بن جعفر، عن شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس المسكين بالذي تردّه اللقمة واللقمتان، والتمرة والتمرتان، إنما المسكين المتعفف! اقرءوا إن شئتم: (لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) ، (2) [سورة البقرة: 273] .
__________
(1) في المطبوعة: "الذل والمسكنة"، والصواب ما في المخطوطة، ولم يحسن قراءتها.
(2) الأثر: 16836 - "إسماعيل بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري" روى له الجماعة، مضى برقم: 6884، 8398.
و" شريك بن أبي نمر "، هو " شريك بن عبد الله بن أبي نمر القرشي " ثقة، روى له البخاري ومسلم، مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 2 \ 237، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 363.
وهذا الخبر رواه البخاري من طريق محمد بن جعفر عن شريك بن أبي نمر (الفتح 8: 152) ، ورواه مسلم في الصحيح من طريق إسماعيل بن جعفر، عن شريك، ومن طريق محمد بن جعفر، عن شريك، عن عطاء بن يسار، وعبد الرحمن بن أبي عمرة، عن أبي هريرة (7: 129) .(14/309)
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إنما المسكين المتعفف" على نحو ما قد جرى به استعمال الناس من تسميتهم أهل الفقر "مساكين"، لا على تفصيل المسكين من الفقير.
ومما ينبئ عن أن ذلك كذلك، انتزاعه صلى الله عليه وسلم بقول الله: (1) اقرءوا إن شئم: (لا يسألون الناس إلحافًا) ، وذلك في صفة من ابتدأ الله ذكره ووصفه بالفقر فقال: (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) ، [سورة البقرة: 273] .
* * *
وقوله: (والعاملين عليها) ، وهم السعاة في قبضها من أهلها، ووضعها في مستحقِّيها، يعطون ذلك بالسعاية، أغنياء كانوا أو فقراء.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16837- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألت الزهري: عن "العاملين عليها"، فقال: السعاة.
16838- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (والعاملين عليها) ، قال: جُباتها الذين يجمعونها ويسعون فيها.
16839- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
__________
(1) في المطبوعة: "انتزاعًا لقول الله"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. يقال: "انتزع بالآية، وبالشعر"، إذا تمثل به.(14/310)
(والعاملين عليها) ، الذي يعمل عليها.
* * *
ثُمّ اختلف أهل التأويل في قدر ما يعطى العامل من ذلك.
فقال بعضهم: يعطى منه الثُّمُن.
* ذكر من قال ذلك:
16840- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن حسن بن صالح، عن جويبر، عن الضحاك قال: للعاملين عليها الثمن من الصدقة.
16841- حدثت عن مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (والعاملين عليها) ، قال: يأكل العمال من السهم الثامن.
* * *
وقال آخرون: بل يعطى على قدر عُمالته.
* ذكر من قال ذلك:
16842- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن الأخضر بن عجلان قال، حدثنا عطاء بن زهير العامري، عن أبيه: أنه لقي عبد الله بن عمرو بن العاص فسأله عن الصدقة: أيُّ مالٍ هي؟ فقال: مالُ العُرْجان والعُوران والعميان، وكل مُنْقَطَع به. (1) فقال له: إن للعاملين حقًّا والمجاهدين! قال: إن المجاهدين قوم أحل لهم، والعاملين عليها على قدر عُمالتهم. (2) ثم قال: لا تحل الصدقة لغنيّ، ولا لذي مِرَّة سويّ (3)
__________
(1) "منقطع به" (بالبناء للمجهول) ، هو الرجل إذا عجز عن سفره من نفقة ذهبت، أو قامت عليه راحلته، أو أتاه أمر لا يقدر على أن يتحرك معه. يقال: "قطع به"، و "انقطع به".
(2) في المطبوعة: " وللعاملين "، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر: 16842 - " عبد الوهاب بن عطاء الخفاف "، ثقة، مضى برقم: 5429، 5432، 10522.
و"الأخضر بن عجلان الشيباني"، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 67.
و" عطاء بن زهير بن الأصبغ العامري "، روى عن أبيه، روى عنه شميط، والأخضر بن عجلان، هكذا ذكره ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 332، ولم أجد له ترجمة في غيره.
وأبوه: " زهير بن الأصبغ العامري "، روى عن عبد الله بن عمرو، روى عنه ابنه عطاء. مترجم في الكبير 2 \ 1 \ 392، وابن حاتم 1 \ 2 \ 587، ولم يذكرا فيه جرحًا.
وهذا الخبر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 252، ولم ينسبه إلا إلى أبي الشيخ، وفيه "عبد الله بن عمر"، وهو خطأ.(14/311)
16843- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: يكون للعامل عليها إن عمل بالحق، ولم يكن عمر رحمه الله تعالى ولا أولئك يعطون العامل الثمن، إنما يفرضون له بقدر عُمالته.
16844- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن: (والعاملين عليها) ، قال: كان يعطى العاملون.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: يعطى العامل عليها على قدر عُمالته وأجر مثله.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه لم يقسم صدقة الأموال بين الأصناف الثمانية على ثمانية أسهم، وإنما عرّف خلقه أن الصدقات لن تجاوز هؤلاء الأصناف الثمانية إلى غيرهم، وإذ كان كذلك، بما سنوضح بعدُ، وبما قد أوضحناه في موضع آخر، كان معلومًا أن من أعطي منها حقًّا، فإنما يعطى على قدر اجتهاد المعطى فيه. وإذا كان ذلك كذلك، وكان العامل عليها إنما يعطى على عمله، لا على الحاجة التي تزول بالعطية، كان معلومًا أن الذي أعطاه من ذلك إنما هو عِوَض من سعيه وعمله، وأن ذلك إنما هو قدر يستحقه عوضًا من عمله الذي لا يزول بالعطية، وإنما يزول بالعزل.
* * *
وأما "المؤلفة قلوبهم"، فإنهم قوم كانوا يُتَألَّفون على الإسلام، ممن لم تصحّ نصرته، استصلاحًا به نفسَه وعشيرتَه، كأبي سفيان بن حرب، وعيينة بن بدر،(14/312)
والأقرع بن حابس، ونظرائهم من رؤساء القبائل.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16845- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (والمؤلفة قلوبهم) ، وهم قوم كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسلموا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرضَخ لهم من الصدقات، (1) فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرًا قالوا: هذا دين صالح! وإن كان غير ذلك، عابوه وتركوه.
16846- حدثنا ابن عبد الأعلى قال، (2) حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن يحيى بن أبي كثير: أن المؤلفة قلوبهم من بني أمية: أبو سفيان بن حرب = ومن بني مخزوم: الحارث بن هشام، وعبد الرحمن بن يربوع = ومن بني جُمَح: صفوان بن أمية = ومن بني عامر بن لؤي: سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزى = ومن بني أسد بن عبد العزى: حكيم بن حزام = ومن بني هاشم: سفيان بن الحارث بن عبد المطلب = ومن بني فزارة: عيينة بن حصن بن بدر = ومن بني تميم: الأقرع بن حابس = ومن بني نصر: مالك بن عوف = ومن بني سليم: العباس بن مرداس = ومن ثقيف: العلاء بن حارثة = أعطى النبي صلى الله عليه وسلم كل رجل منهم مئة ناقة، إلا عبد الرحمن بن يربوع، وحويطب بن عبد العزى، فإنه أعطى كلَّ رجل منهم خمسين.
16847- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) "رضخ له من ماله رضيخة"، أعطاه عطية مقاربة، ليست بالكثيرة، وأصله من "الرضخ"، وهو كسر النوى وغيره، كأنه كسر له من ماله شيئا.
(2) في المطبوعة: "حدثنا عبد الأعلى"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وهذا إسناد دائر في التفسير وشيخ الطبري "محمد بن عبد الأعلى".(14/313)
عيسى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الزهري قال، قال صفوان بن أمية: لقد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لأبغض الناس إليّ، فما بَرِح يعطيني حتى إنه لأحبُّ الناس إليّ. (1)
16848- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: ناس كان يتألفهم بالعطية، عيينة بن بدر ومن كان معه.
16849- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، عن حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن: (والمؤلفة قلوبهم) ،: الذين يُؤَلَّفون على الإسلام.
16850- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: وأما "المؤلفة قلوبهم"، فأناس من الأعراب ومن غيرهم، كان نبي الله صلى الله عليه وسلم يتألفهم بالعطية كيما يؤمنوا.
16851- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألت الزهري عن قوله: (والمؤلفة قلوبهم) ، فقال: من أسلم من يهوديّ أو نصراني. قلت: وإن كان غنيًّا؟ قال: وإن كان غنيًّا.
16852- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا معقل بن عبيد الله الجزري، عن الزهري: (والمؤلفة قلوبهم) ، قال: من هو يهوديّ أو نصرانيّ. (2)
__________
(1) الأثر: 16847 - رواه مسلم في صحيحه 15: 72، 73، مطولا من طريق عبد الله بن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان بن أمية.
ورواه أحمد في مسنده 3: 401 من طريق زكريا بن عدي، عن سعيد بن المسيب، عن صفوان، (هكذا جاء هنا في المسند) ، والصواب ما سيأتي في المسند 6: 465، من طريق زكريا بن عدي، عن ابن المبارك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب.
(2) الأثر: 16852 - " معقل بن عبيد الله الجزري "، مضى قريبًا برقم: 16821، وكان في المطبوعة هنا أيضًا "الحراني"، مكان "الجزري"، وهو صواب، ولكني أثبت ما في المخطوطة.(14/314)
ثم اختلف أهل العلم في وجود المؤلفة اليوم وعدمها، وهل يعطى اليوم أحدٌ على التألف على الإسلام من الصدقة؟
فقال بعضهم: قد بطلت المؤلفة قلوبهم اليوم، ولا سهم لأحد في الصدقة المفروضة إلا لذي حاجة إليها، وفي سبيل الله، أو لعامل عليها.
* ذكر من قال ذلك:
16853- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن الحسن: (والمؤلفة قلوبهم) ، قال: أما "المؤلفة قلوبهم" فليس اليوم.
16854- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: لم يبق في الناس اليوم من المؤلفة قلوبهم، إنما كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
16855- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى، عن حبان بن أبي جبلة قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: وأتاه عيينة بن حصن: (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ) ، [سورة الكهف: 29] ، أي: ليس اليوم مؤلفة.
168856- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن قال: ليس اليوم مؤلفة.
16857- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر قال: إنما كانت المؤلفة قلوبهم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فلما ولي أبو بكر رحمة الله تعالى عليه، انقطعت الرشى.
* * *
وقال آخرون: "المؤلفة قلوبهم"، في كل زمان، وحقهم في الصدقات.
* ذكر من قال ذلك:
16858- حدثنا أحمد بن إسحاق قال حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا(14/315)
إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: في الناس اليوم، المؤلفة قلوبهم.
16859- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أن الله جعل الصدقة في معنيين أحدهما: سدُّ خَلَّة المسلمين، والآخر: معونة الإسلام وتقويته. فما كان في معونة الإسلام وتقوية أسبابه، فإنه يُعطاه الغني والفقير، لأنه لا يعطاه من يعطاه بالحاجة منه إليه، وإنما يعطاه معونةً للدين. وذلك كما يعطى الذي يُعطاه بالجهاد في سبيل الله، فإنه يعطى ذلك غنيًّا كان أو فقيرًا، للغزو، لا لسدّ خلته. وكذلك المؤلفة قلوبهم، يعطون ذلك وإن كانوا أغنياء، استصلاحًا بإعطائهموه أمرَ الإسلام وطلبَ تقويته وتأييده. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى من المؤلفة قلوبهم، بعد أن فتح الله عليه الفتوح، وفشا الإسلام وعز أهله. فلا حجة لمحتجّ بأن يقول: "لا يتألف اليوم على الإسلام أحد، لامتناع أهله بكثرة العدد ممن أرادهم"، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من أعطى منهم في الحال التي وصفت.
* * *
وأما قوله: (وفي الرقاب) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه.
فقال بعضهم، وهم الجمهور الأعظم: هم المكاتبون، يعطون منها في فك رقابهم. (1)
* ذكر من قال ذلك:
16860- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن الحسين: أن مكاتبًا قام إلى أبي موسى الأشعري رحمه الله تعالى وهو يخطب الناسَ يوم الجمعة، فقال له: أيها الأمير، حُثَّ الناس عليَّ! فحثَّ
__________
(1) انظر تفسير " الرقاب " فيما سلف 3: 347 \ 9: 35، 36 \ 10: 552 - 557.(14/316)
عليه أبو موسى، فألقى الناسُ عليه عمامة وملاءة وخاتمًا، حتى ألقوا سَوادًا كثيرًا، فلما رأى أبو موسى ما ألقي عليه قال: اجمعوه! فجمع، ثم أمر به فبيع. فأعطى المكاتب مكاتبته، ثم أعطى الفضل في الرقاب، ولم يرده على الناس، وقال: إنما أعطي الناسُ في الرقاب.
16861- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال، سألت الزهري عن قوله: (وفي الرقاب) ، قال: المكاتَبون.
16862- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وفي الرقاب) ، قال: المكاتَب.
16863- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن: (وفي الرقاب) ، قال: هم المكاتبون.
* * *
وروي عن ابن عباس أنه قال: لا بأس أن تُعْتَقَ الرقبة من الزكاة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، قولُ من قال: "عنى بالرقاب، في هذا الموضع، المكاتبون"، لإجماع الحجة على ذلك، فإن الله جعل الزكاة حقًّا واجبًا على من أوجبها عليه في ماله، يخرجها منه، لا يرجع إليه منها نفعٌ من عرض الدنيا، ولا عِوَض. والمعتق رقبةً منها، راجع إليه ولاء من أعتقه، وذلك نفع يعود إليه منها.
* * *
وأما "الغارمون"، فالذين استدانوا في غير معصية الله، ثم لم يجدوا قضاء في عين ولا عَرَض.
* * *
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:(14/317)
16864- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد قال: "الغارمون"، من احترق بيته، أو يصيبه السيل فيذهب متاعه، ويدَّانُ على عياله، فهذا من الغارمين.
16865- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد في قوله: (والغارمين) ، قال: من احترق بيته، وذهب السيل بماله، وادَّان على عياله.
16866- حدثنا أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر قال: "الغارمين"، المستدين في غير سَرَف، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم من بيت المال.
16867-...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألنا الزهري عن "الغارمين"، قال: أصحاب الدين.
16868-...... قال، حدثنا معقل، عن عبد الكريم قال، حدثني خادم لعمر بن عبد العزيز خدمه عشرين سنة قال: كتب عمر بن عبد العزيز: أن يُعْطى الغارمون = قال أحمد: أكثر ظني: من الصدقات.
16869-...... قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: "الغارمون"، المستدين في غير سرف.
16870- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أما "الغارمون"، فقوم غرَّقتهم الديون في غير إملاق، (1) ولا تبذير ولا فساد.
16871- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: "الغارم"، الذي يدخل عليه الغُرْم.
16872- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: (والغارمين) ، قال: هو الذي يذهب السيل والحريق بماله، ويدَّان على عياله.
__________
(1) " الإملاق " هنا هو: إنفاق المال وتبذيره حتى يورث حاجة، و " الإملاق " أيضًا: الإفساد. وانظر ما سلف في الخبر رقم: 6233، ج 5: 602، تعليق: 2.(14/318)
16873-...... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: المستدين في غير فساد.
16874-...... قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: "الغارمون"، الذين يستدينون في غير فساد، ينبغي للإمام أن يقضي عنهم.
16875- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: هم قوم ركبتهم الديون في غير فساد ولا تبذير، فجعل الله لهم في هذه الآية سهمًا.
* * *
وأما قوله: (وفي سبيل الله) ، فإنه يعني: وفي النفقة في نصرة دين الله وطريقه وشريعته التي شرعها لعباده، بقتال أعدائه، وذلك هو غزو الكفار. (1)
* * *
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16876- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (وفي سبيل الله) ، قال: الغازي في سبيل الله.
16877- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: رجل عمل عليها، أو رجل اشتراها بماله، أو في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو رجل كان له جار تصدَّق عليه فأهداها له. (2)
__________
(1) انظر تفسير " سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(2) الأثر: 16877 - رواه أبو داود في سننه 2: 158، رقم: 1635 من طريق مالك، عن زيد بن أسلم، موقوفًا، ثم رواه برقم: 1636، من طريق معمر، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا.
ورواه ابن ماجه في سننه: 589، رقم: 1841، مرفوعًا، بنحوه.(14/319)
16878-...... قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحل الصدقة لغني إلا لثلاثة: في سبيل الله، أو ابن السبيل، أو رجل كان له جار فتصدق عليه، فأهداها له. (1)
* * *
وأما قوله: (وابن السبيل) ، فالمسافر الذي يجتاز من بلد إلى بلد.
* * *
و"السبيل": الطريق، (2) وقيل للضارب فيه: "ابن السبيل"، للزومه إياه، كما قال الشاعر: (3)
أنَا ابنُ الحَرْبِ رَبَّتْنِي وَلِيدًا ... إلَى أنْ شِبْتُ واكْتَهَلَتْ لِدَاتِي
وكذلك تفعل العرب، تسمي اللازم للشيء يعرف به: "ابنه". (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16879- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: "ابن السبيل"، المجتاز من أرض إلى أرض.
16880- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 16878 - "عطية" هو "عطية بن سعد بن جنادة العوفي"، ضعيف، مضى مرارًا.
وهذا الخبر رواه أبو داود في سننه 2: 160، رقم: 1637، من طريق سفيان، عن عمران البارقي، عن عطية، بنحوه، ثم قال أبو داود: "ورواه فراس، وابن أبي ليلى، عن عطية، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله".
وهو حديث ضعيف لضعف "عطية العوفي".
(2) انظر تفسير "السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
= وتفسير " ابن السبيل " فيما سلف 3: 345 \ 4: 295 \ 8: 346 - 347.
(3) لم أعرف قائله.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "يعرف بابنه"، وهو لا يستقيم، صوابه ما أثبت.(14/320)
مندل، عن ليث، عن مجاهد: (وابن السبيل) ، قال: لابن السبيل حق من الزكاة وإن كان غنيًّا، إذا كان مُنْقَطَعًا به.
16881- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا معقل بن عبيد الله قال: سألت الزهري عن "ابن السبيل"، قال: يأتي عليَّ ابن السبيل، وهو محتاج. قلت: فإن كان غنيًّا؟ قال: وإن كان غنيًا.
16882- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وابن السبيل) ، الضيف، جعل له فيها حق.
16883- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال [ابن زيد] : "ابن السبيل"، المسافر من كان غنيًّا أو فقيرًا، إذا أصيبت نفقته، أو فقدت، أو أصابها شيء، أو لم يكن معه شيء، فحقه واجب. (1)
16884- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، أنه قال: في الغني إذا سافر فاحتاج في سفره. قال: يأخذ من الزكاة.
16885- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر قال: "ابن السبيل"، المجتاز من الأرض إلى الأرض.
* * *
وقوله: (فريضة من الله)) ، يقول جل ثناؤه: قَسْمٌ قسمه الله لهم، فأوجبه في أموال أهل الأموال لهم (2) = (والله عليم) ، بمصالح خلقه فيما فرض لهم، وفي غير ذلك، لا يخفى عليه شيء. فعلى علم منه فرض ما فرض من الصدقة وبما فيها من المصلحة = (حكيم) ، في تدبيره خلقه، لا يدخل في تدبيره خلل. (3)
__________
(1) الأثر: 16883 - في المطبوعة والمخطوطة: " قال قال ابن السبيل ". والزيادة بين القوسين من إسناده قبل، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم 16876.
(2) انظر تفسير " الفريضة " فيما سلف 9: 212، تعليق:، والمرجع هناك.
(3) انظر تفسير "عليم" و "حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة (علم) ، (حكم) .(14/321)
واختلف أهل العلم في كيفية قسم الصدقات التي ذكرها الله في هذه الآية، وهل يجب لكل صنف من الأصناف الثمانية فيها حق، أو ذلك إلى رب المال؟ ومن يتولى قسمها، في أن له أن يعطي جميعَ ذلك من شاء من الأصناف الثمانية.
فقال عامة أهل العلم: للمتولي قسمُها ووضعُها في أيِّ الأصناف الثمانية شاء. وإنما سمَّى الله الأصناف الثمانية في الآية، إعلامًا منه خلقَه أن الصدقة لا تخرج من هذه الأصناف الثمانية إلى غيرها، لا إيجابًا لقسمها بين الأصناف الثمانية الذين ذكرهم.
* ذكر من قال ذلك:
16886- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن الحجاج بن أرطاة، عن المنهال بن عمرو، عن زرّ بن حبيش، عن حذيفة في قوله: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) ، قال: إن شئت جعلته في صنف واحد، أو صنفين، أو لثلاثة.
16887- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن الحجاج، عن المنهال، عن زر، عن حذيفة قال: إذا وضعتها في صنف واحد أجزأ عنك.
16888-...... قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن عطاء، عن عمر: (إنما الصدقات للفقراء) ، قال: أيُّما صنف أعطيته من هذا أجزأك.
16889-...... قال، حدثنا ابن نمير، عن عبد المطلب، عن عطاء: (إنما الصدقات للفقراء) ، الآية، قال: لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك. ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعفِّفين فجبرتهم بها، كان أحبَّ إليَّ.
16890-...... قال أخبرنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين ... وابن السبيل) ، فأيّ صنف أعطيته من هذه الأصناف أجزأك.(14/322)
16891-...... قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
16892-...... قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها) ، قال: إنما هذا شيء أعلمَهُ، فأيَّ صنف من هذه الأصناف أعطيته أجزأ عنك.
16893-...... قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم: (إنما الصدقات للفقراء) ، قال: في أيّ هذه الأصناف وضعتها أجزأك.
16894-...... قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمَّى الله أجزأك.
16895-...... قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: إذا وضعتها في صنف واحد مما سمَّى الله أجزأك.
16896-...... قال، حدثنا خالد بن حيان أبو يزيد، عن جعفر بن يرقان، عن ميمون بن مهران: (إنما الصدقات للفقراء) ، قال: إذا جعلتها في صنف واحد من هؤلاء أجزأ عنك. (1)
16897-...... قال، حدثنا محمد بن بشر، عن مسعود، عن عطاء، عن سعيد بن جبير: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) ، الآية، قال: أعلمَ أهلَها مَنْ همْ.
16898-...... قال، حدثنا حفص، عن ليث، عن عطاء، عن عمر: أنه كان يأخذ الفرْض في الصدقة، ويجعلها في صنف واحد.
* * *
وكان بعض المتأخرين يقول: إذا تولى رب المال قَسْمها كان عليه وضعها في ستة أصناف، وذلك أن المؤلفة قلوبهم عنده قد ذهبوا، وأنّ سهم العاملين
__________
(1) الأثر: 16896 - " خالد بن حيان الرقي "، أبو يزيد الكندي الخراز، ثقة، متكلم فيه، مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 133، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 326.(14/323)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
يبطل بقسمه إياها. ويزعم أنه لا يجزيه أن يعطي من كل صنف أقل من ثلاثة أنفس. وكان يقول: إن تولى قَسْمها الإمامُ، كان عليه أن يقسمها على سبعة أصناف، لا يجزي عنده غير ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين جماعة يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعيبونه (1) = (ويقولون هو أذن) ، سامعةٌ، يسمع من كل أحدٍ ما يقول فيقبله ويصدِّقه.
* * *
وهو من قولهم: "رجل أذنة"، مثل "فعلة" (2) إذا كان يسرع الاستماع والقبول، كما يقال: "هو يَقَن، ويَقِن" إذا كان ذا يقين بكل ما حُدِّث. وأصله من "أذِن له يأذَن"، إذا استمع له. ومنه الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "ما أذِن الله لشيء كأذَنِه لنبيّ يتغنى بالقرآن"، (3) ومنه قول عدي بن زيد:
__________
(1) انظر تفسير "الأذى" فيما سلف 8: 84 - 86، وص: 85، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة: "رجل أذنة مثل فعلة"، وهذا شيء لم أعرف ضبطه، ولم أجد له ما يؤيده في مراجع اللغة، والذي فيها أنه يقال: "رجل أذن" (بضم فسكون) و "أذن" (بضمتين) ، ولا أدري أهذه على وزن "فعلة" (بضم ففتح) : "همزة" و "لمزة"، أم على نحو وزن غيره. وأنا في ارتياب شديد من صواب ما ذكره هنا، وأخشى أن يكون سقط من الناسخ شيء، أو أن يكون حرف الكلام.
(3) هذا الحديث، استدل به بغير إسناد، وهو حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه (6: 78، 79) من حديث أبي هريرة.(14/324)
أَيُّها القَلْبُ تَعَلَّلْ بِدَدَنْ ... إنَّ هَمِّي فِي سَمَاعِ وَأَذَنْ (1)
وذكر أن هذه الآية نزلت في نبتل بن الحارث. (2)
16899- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، ذكر الله غشَّهم (3) = يعني: المنافقين = وأذاهم للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: (ومنهم الذين يؤذون النبيّ ويقولون هو أذن) ، الآية. وكان الذي يقول تلك المقالة، فيما بلغني، نبتل بن الحارث، أخو بني عمرو بن عوف، وفيه نزلت هذه الآية، وذلك أنه قال: "إنما محمد أذُنٌ! من حدّثه شيئًا صدّقه! "، يقول الله: (قل أذن خير لكم) ، أي: يسمع الخير ويصدِّق به. (4)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله: (قل أذن خير لكم) .
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) ، بإضافة "الأذن" إلى "الخير"، يعني: قل لهم، يا محمد: هو أذن خير، لا أذن شرٍّ.
* * *
وذكر عن الحسن البصري أنه قرأ ذلك: (قُلْ أُذُنٌ خَيْرٌ لَكُمْ) ، بتنوين "أذن"، ويصير "خير" خبرًا له، بمعنى: قل: من يسمع منكم، أيها المنافقون، ما تقولون ويصدقكم، إن كان محمد كما وصفتموه، من أنكم إذا أتيتموه، فأنكرتم (5) ما ذكر له عنكم من أذاكم إياه وعيبكم له، سمع منكم وصدقكم = خيرٌ
__________
(1) أمالي الشريف المرتضى 1: 33، واللسان (أذن) و (ددن) ، و "الدد" (بفتح الدال) و "الددن"، اللهو. و "السماع"، الغناء، والمغنية يقال لها "المسمعة".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: " في ربيع بن الحارث "، وهو خطأ محض، لا شك فيه.
(3) في المطبوعة: "ذكر الله عيبهم"، أخطأ، والصواب ما في المخطوطة، وسيرة ابن هشام.
(4) الأثر: 16899 - سيرة ابن هشام 4: 195، وهو تابع الأثر السلف رقم: 16783، وانظر خبر نبتل بن الحارث أيضًا في سيرة ابن هشام 2: 168.
(5) في المطبوعة: "إذا آذيتموه فأنكرتم"، وهو كلام لا معنى له، لم يحسن قراءة المخطوطة، والصواب ما أثبت.(14/325)
لكم من أن يكذبكم ولا يقبل منكم ما تقولون. ثم كذبهم فقال: بل لا يقبل إلا من المؤمنين = (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك، قراءةُ من قرأ: (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ) ، بإضافة "الأذن" إلى "الخير"، وخفض "الخير"، يعني: قل هو أذن خير لكم، لا أذن شر. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16900- حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) ، يسمع من كل أحد.
16901- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن) ، قال: كانوا يقولون: "إنما محمد أذن، لا يحدَّث عنا شيئًا، إلا هو أذن يسمع ما يقال له".
16902- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ويقولون هو أذن) ، نقول ما شئنا، ونحلف، فيصدقنا.
16903- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (هو أذن) ، قال: يقولون: "نقول ما شئنا، ثم نحلف له فيصدقنا".
16904- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 444.(14/326)
وأما قوله: (يؤمن بالله) ، فإنه يقول: يصدِّق بالله وحده لا شريك له.
وقوله: (ويؤمن للمؤمنين) ، يقول: ويصدق المؤمنين، لا الكافرين ولا المنافقين.
وهذا تكذيب من الله للمنافقين الذين قالوا: "محمد أذن! "، يقول جل ثناؤه: إنما محمد صلى الله عليه وسلم مستمعُ خيرٍ، يصدِّق بالله وبما جاءه من عنده، ويصدق المؤمنين، لا أهل النفاق والكفر بالله.
* * *
وقيل: (ويؤمن للمؤمنين) ، معناه: ويؤمن المؤمنين، لأن العرب تقول فيما ذكر لنا عنها: "آمنتُ له وآمنتُه"، بمعنى: صدّقته، كما قيل: (رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) ، [سورة النمل: 72] ، ومعناه: ردفكم = وكما قال: (لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ) [سورة الأعراف: 154] ، ومعناه: للذين هم ربّهم يرهبون. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16905- حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله قال: حدثنى معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين) ، يعني: يؤمن بالله، ويصدق المؤمنين.
* * *
وأما قوله: (ورحمة للذين آمنوا منكم) ، فإن القرأة اختلفت في قراءته، فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: (وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا) ، بمعنى: قل هو
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 444.(14/327)
أذن خير لكم، وهو رحمة للذين آمنوا منكم = فرفع "الرحمة"، عطفًا بها على "الأذن".
* * *
وقرأه بعض الكوفيين: (وَرَحْمَةٍ) ، عطفا بها على "الخير"، بتأويل: قل أذن خير لكم، وأذن رحمة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءةُ من قرأه: (وَرَحْمَةٌ) ، بالرفع، عطفًا بها على "الأذن"، بمعنى: وهو رحمة للذين آمنوا منكم. وجعله الله رحمة لمن اتبعه واهتدى بهداه، وصدَّق بما جاء به من عند ربه، لأن الله استنقذهم به من الضلالة، وأورثهم باتِّباعه جنّاته.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لهؤلاء المنافقين الذين يعيبون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقولون: "هو أذن"، وأمثالِهم من مكذِّبيه، والقائلين فيه الهُجْرَ والباطل، (2) عذابٌ من الله موجع لهم في نار جهنم. (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 444.
(2) انظر تفسير "الأذى" فيما سلف ص: 324، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير "أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .(14/328)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62)
القول في تأويل قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله صلى الله عليه وسلم: يحلف لكم، أيها المؤمنون، هؤلاء المنافقون بالله، ليرضوكم فيما بلغكم عنهم من أذاهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وذكرِهم إياه بالطعن عليه والعيب له، ومطابقتهم سرًّا أهلَ الكفر عليكم = بالله والأيمان الفاجرة: أنهم ما فعلوا ذلك، وإنهم لعلى دينكم، ومعكم على من خالفكم، يبتغون بذلك رضاكم. يقول الله جل ثناؤه: (والله ورسوله أحق أن يرضوه) ، بالتوبة والإنابة مما قالوا ونطقوا = (إن كانوا مؤمنين) ، يقول: إن كانوا مصدِّقين بتوحيد الله، مقرِّين بوعده ووعيده.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16906- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم) ، الآية، ذكر لنا أن رجلا من المنافقين قال: والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا، وإن كان ما يقول محمد حقًّا، لهم شَرٌّ من الحمير! قال: فسمعها رجل من المسلمين فقال: والله إن ما يقول محمد حق، ولأنت شر من الحمار! فسعى بها الرجل إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال له: ما حملك على الذي قلت؟ فجعل يلتَعنُ، ويحلف بالله ما قال ذلك. (1) قال: وجعل الرجل المسلم يقول: اللهم صدِّق الصادق، وكذِّب
__________
(1) "التعن الرجل"، إذا أنصف في الدعاء على نفسه، أو لعن نفسه.(14/329)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
الكاذب! فأنزل الله في ذلك: (يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه إن كانوا مؤمنين) .
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يحلفون بالله كذبًا للمؤمنين ليرضوهم، وهم مقيمون على النفاق، أنه من يحارب الله ورسوله، ويخالفهما فيناوئهما بالخلاف عليهما = (فأن له نار جهنم) ، في الآخرة = (خالدًا فيها) ، يقول: لابثًا فيها، مقيمًا إلى غير نهاية؟ (1) = (ذلك الخزي العظيم) ، يقول: فلُبْثُه في نار جهنم وخلوده فيها، هو الهوان والذلُّ العظيم. (2)
* * *
وقرأت القرأة: (فَأَنَّ) ، بفتح الألف من "أن" بمعنى: ألم يعلموا أنَّ لمن حادَّ الله ورسوله نارُ جهنم = وإعمال "يعلموا" فيها، كأنهم جعلوا "أن" الثانية مكررة على الأولى، واعتمدوا عليها، إذ كان الخبر معها دون الأولى.
* * *
وقد كان بعض نحويي البصرة يختار الكسر في ذلك، على الابتداء، بسبب دخول "الفاء" فيها، وأن دخولها فيها عنده دليلٌ على أنها جواب الجزاء، وأنها إذا كانت للجزاء جوابًا، (3) كان الاختيار فيها الابتداء.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(2) انظر تفسير "الخزي" فيما سلف ص: 160، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: "إذا كانت جواب الجزاء"، وفي المخطوطة: "إذا كانت الجواب جزاء"، والصواب ما أثبت، إنما أخطأ الناسخ.(14/330)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز غيرها فتح الألف في كلام الحرفين، أعني "أن" الأولى والثانية، لأن ذلك قراءة الأمصار، وللعلة التي ذكرت من جهة العربية.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يخشى المنافقون أن تنزل فيهم (1) = (سورة تنبئهم بما في قلوبهم) ، يقول: تظهر المؤمنين على ما في قلوبهم. (2)
* * *
وقيل: إن الله أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن المنافقين كانوا إذا عابوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكروا شيئًا من أمره وأمر المسلمين، قالوا: "لعل الله لا يفشي سِرَّنا! "، فقال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: (استهزءوا) ، متهددًا لهم متوعدًا: (إن الله مخرج ما تحذرون) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16907- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة) ، قال: يقولون القول بينهم، ثم يقولون: "عسى الله أن لا يفشي سرنا علينا! ".
16908- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
__________
(1) انظر تفسير "الحذر" فيما سلف 10: 575.
(2) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف 13: 252، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/331)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65)
عن ابن جريج، عن مجاهد مثله = إلا أنه قال: سِرَّنا هذا.
* * *
وأما قوله: (إن الله مخرجٌ ما تحذرون) ، فإنه يعني به: إن الله مظهر عليكم، أيها المنافقون ما كنتم تحذرون أن تظهروه، فأظهر الله ذلك عليهم وفضحهم، (1) فكانت هذه السورة تدعَى: (الفَاضِحَةَ) .
16909- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كانت تسمَّى هذه السورة: (الفَاضِحَةَ) ، فاضحة المنافقين.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولئن سألت، يا محمد، هؤلاء المنافقين عما قالوا من الباطل والكذب، ليقولن لك: إنما قلنا ذلك لعبًا، وكنا نخوض في حديثٍ لعبًا وهزؤًا! (2) يقول الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، أبالله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزءون؟
وكان ابن إسحاق يقول: الذي قال هذه المقالة: كما:-
16910- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذي قال هذه المقالة فيما بلغني، وديعة بن ثابت، أخو بني أمية بن زيد، من بني عمرو بن عوف. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير "الإخراج" فيما سلف 2: 228 \ 12: 211.
(2) انظر تفسير "الخوض" فيما سلف 11: 529، تعليق: 3، والمراجع هناك.
= وتفسير "اللعب" فيما سلف 11: 529، تعليق: 4، والمراجع هناك.
= وتفسير "الاستهزاء" فيما سلف 11: 262، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) الأثر: 16910 - سيرة ابن هشام 4: 195، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16899.(14/332)
16911- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم: أن رجلا من المنافقين قال لعوف بن مالك في غزوة تبوك: ما لقُرَّائنا هؤلاء أرغبُنا بطونًا وأكذبُنا ألسنةً، وأجبُننا عند اللقاء! فقال له عوف: كذبت، ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم! فذهب عوف إلى رسول الله ليخبره، فوجد القرآن قد سبقه = قال زيد (1) قال عبد الله بن عمر: فنظرت إليه متعلقًا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبُهُ الحجارة، (2) يقول: (إنما كنا نخوض ونلعب) ! فيقول له النبي صلى الله عليه وسلم: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن) ؟ ما يزيده. (3)
16912- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عبد الله بن عمر قال: قال رجل في غزوة تبوك في مجلس: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغبَ بطونًا، ولا أكذبَ ألسنًا، ولا أجبن عند اللقاء! فقال رجل في المجلس: كذبتَ، ولكنك منافق! لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ونزل القرآن. قال عبد الله بن عمر: فأنا رأيته متعلقًا بحَقَب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فقال زيد"، بالفاء، والسياق يقتضي إسقاطها.
(2) "الحقب" (بفتحتين) : حبل يشد به الرحل في بطن البعير مما يلي ثيله، لئلا يؤذيه التصدير، أو يجتذبه التصدير فيقدمه. و "نكبته الحجارة"، لثمت الحجارة رجله وظفره، أي نالته وآذته وأصابته.
(3) الأثر: 16911 - "هشام بن سعد المدني"، ثقة، متكلم في، مضى برقم: 5490، 11704، 12821.
" زيد بن أسلم العدوي" الفقيه، روى عن عبد الله بن عمر، روى له جماعة، مضى مرارًا كثيرة وسيأتي الخبر الذي يليه، من طريق ابن وهب، عنه. وهذا إسناد صحيح.(14/333)
تَنْكُبه الحجارة، وهو يقول: "يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب! "، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم) . (1)
16913- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة في قوله: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) ، إلى قوله: (بأنهم كانوا مجرمين) ، قال: فكان رجل ممن إن شاء الله عفا عنه يقول: "اللهم إني أسمع آية أنا أعْنَى بها، تقشعرُّ منها الجلود، وتَجِبُ منها القلوب، (2) اللهم فاجعل وفاتي قتلا في سبيلك، لا يقول أحدٌ: أنا غسَّلت، أنا كفَّنت، أنا دفنت"، قال: فأصيب يوم اليمامة، فما من أحدٌ من المسلمين إلا وُجد غيره.
16914- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) ، الآية، قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوته إلى تبوك، وبين يديه ناس من المنافقين فقالوا: "يرجو هذا الرجل أن يفتح قصور الشأم وحصونها! هيهات هيهات"! فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: "احبسوا عليَّ الرَّكْب! (3) فأتاهم فقال: قلتم كذا، قلتم كذا. قالوا: "يا نبي الله، إنما كنا نخوض ونلعب"، فأنزل الله تبارك وتعالى فيهم ما تسمعون.
16915- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب) ، قال: بينما النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، ورَكْب من المنافقين يسيرون بين يديه، فقالوا: يظن هذا أن يفتح قصورَ الروم وحصونها! فأطلع الله نبيه صلى الله عليه
__________
(1) الأثر: 16912 - مكرر الأثر السالف، وهو صحيح الإسناد.
(2) "وجب قلبه يجب وجيبًا"، خفق واضطرب. وكان في المطبوعة: "وتجل" باللام، كأنه يعني من "الوجل"، ولكنه لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة.
(3) في المطبوعة: "على هؤلاء الركب"، زاد "هؤلاء" لغير طائل.(14/334)
وسلم على ما قالوا، فقال: عليّ بهؤلاء النفر! فدعاهم فقال: قلتم كذا وكذا! فحلفوا: ما كنا إلا نخوض ونلعب!
16916- حدثنا الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب وغيره قالوا: قال رجل من المنافقين: ما أرى قُرَّاءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطونًا، وأكذبنا ألسنة، وأجبننا عند اللقاء! فرُفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما كنا نخوض ونلعب! فقال: (أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزءون) ، إلى قوله: (مجرمين) ، وإن رجليه لتنسفان الحجارة، (1) وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو متعلق بنِسْعَةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
16917- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إنما كنا نخوض ونلعب) ، قال: قال رجل من المنافقين: "يحدثنا محمد أن ناقة فلان بوادي كذا وكذا، في يوم كذا وكذا! وما يدريه ما الغيب؟ ".
16918- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، بنحوه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ليسفعان بالحجارة"، غير ما كان في المخطوطة مسيئًا في فعله، والصواب ما في المخطوطة. "نسفت الناقة الحجارة والتراب في عدوها تنسفه نسفًا"، إذا أطارته، وكذلك يقال في الإنسان إذا اشتد عدوه.
(2) "النسعة" (بكسر فسكون) : سير مضفور يجعل زمامًا للبعير، وقد تنسج عريضة تجعل على صدر البعير. ويقال للبطان والحقب: "النسعان".(14/335)
لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
القول في تأويل قوله: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الذين وصفت لك صفتهم: (لا تعتذروا) ، بالباطل، فتقولوا: (كنا نخوض ونلعب) = (قد كفرتم) ، يقول: قد جحدتم الحق بقولكم ما قلتم في رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به (1) = (بعد إيمانكم) ، يقول: بعد تصديقكم به وإقراركم به = (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) . (2)
* * *
وذكر أنه عُنِي: بـ "الطائفة"، في هذا الموضع، رجلٌ واحد. (3)
وكان ابن إسحاق يقول فيما:-
16919- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذي عُفِي عنه، فيما بلغني مَخْشِيّ بن حُمَيِّر الأشجعي، (4) حليف بني سلمة، وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع. (5)
16920- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حبان، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب: (إن نعف عن طائفة منكم) ، قال: "طائفة"، رجل.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: " يقول: لحم الحق "، وهي لا تقرأ، والذي في المطبوعة مقارب للصواب، فتركته على حاله.
(2) انظر تفسير "العفو" فيما سلف من فهارس اللغة (عفا) .
(3) انظر تفسير "الطائفة" فيما سلف 13: 398، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) في سيرة ابن هشام في هذا الموضع "مخشن بن حمير"، وقد أشار ابن هشام إلى هذا الاختلاف فيما سلف من سيرته، ابن هشام 4: 168. ولكني أثبت ما في المخطوطة.
(5) الأثر: 16919 - سيرة ابن هشام 4: 195، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16910.(14/336)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67)
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: (إن نعف عن طائفة منكم) ، بإنكاره ما أنكر عليكم من قبل الكفر = (نعذب طائفة) ، بكفره واستهزائه بآيات الله ورسوله.
* ذكر من قال ذلك:
16922- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر قال، قال بعضهم: كان رجل منهم لم يمالئهم في الحديث، يسير مجانبًا لهم، (1) فنزلت: (إن نعف عن طائفة منكم نعذب طائفة) ، فسُمِّي "طائفةً" وهو واحدٌ.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك. إن تتب طائفة منكم فيعفو الله عنه، يعذب الله طائفة منكم بترك التوبة.
* * *
وأما قوله: (إنهم كانوا مجرمين) ، فإن معناه: نعذب طائفة منهم باكتسابهم الجرم، وهو الكفر بالله، وطعنهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (المنافقون والمنافقات) ، وهم الذين يظهرون للمؤمنين الإيمانَ بألسنتهم، ويُسِرُّون الكفرَ بالله ورسوله (3) = (بعضهم
__________
(1) في المطبوعة: "فيسير"، بالفاء، أثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير " الإجرام " فيما سلف 13: 408، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير "النفاق" فيما سلف 1: 234، 270، 273، 324 - 327، 346 - 363، 408، 409، 414 \ 4: 232، 233 \ 8: 513 \ 9: 7.(14/337)
من بعض) ، يقول: هم صنف واحد، وأمرهم واحد، في إعلانهم الإيمان، واستبطانهم الكفر = (يأمرون) مَنْ قبل منهم = (بالمنكر) ، وهو الكفر بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما جاء به وتكذيبه (1) = (وينهون عن المعروف) ، يقول: وينهونهم عن الإيمان بالله ورسوله، وبما جاءهم به من عند الله (2)
* * *
وقوله: (ويقبضون أيديهم) ، يقول: ويمسكون أيديهم عن النفقة في سبيل الله، ويكفُّونها عن الصدقة، فيمنعون الذين فرضَ الله لهم في أموالهم ما فرَض من الزكاة حقوقَهم، كما:-
16923- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (ويقبضون أيديهم) ، قال: لا يبسطونها بنفقة في حق.
16924- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
16925- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
16926- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
16927- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ويقبضون أيديهم) ، لا يبسطونها بخير.
16928- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (ويقبضون أيديهم) ، قال: يقبضون أيديهم عن كل خير.
* * *
__________
(1) انظر تفسير "المنكر" فيما سلف 13: 165، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "المعروف" فيما سلف 13: 165، تعليق: 1، والمراجع هناك.(14/338)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
وأما قوله: (نسوا الله فنسيهم) ، فإن معناه: تركوا الله أن يطيعوه ويتبعوا أمره، فتركهم الله من توفيقه وهدايته ورحمته.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى "النسيان"، الترك، بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته ههنا. (1)
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك ما:-
16929- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، قتادة قوله: (نسوا الله فنسيهم) ، نُسُوا من الخير، ولم ينسوا من الشرّ.
* * *
قوله: (إن المنافقين هم الفاسقون) ، يقول: إن الذين يخادعون المؤمنين بإظهارهم لهم بألسنتهم الإيمانَ بالله، وهم للكفر مستبطنون، (2) هم المفارقون طاعةَ الله، الخارجون عن الإيمان به وبرسوله. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار) بالله = (نار جهنم) ، أن يصليهموها جميعًا = (خالدين فيها) ، يقول: ماكثين فيها أبدًا، لا يحيون فيها ولا يموتون (4) = (هي حسبهم) ، يقول: هي
__________
(1) انظر تفسير "النسيان" فيما سلف 12: 475، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "النفاق" فيما سلف قريبا ص: 337، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف ص: 293، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .(14/339)
كافيتهم عقابًا وثوابًا على كفرهم بالله (1) = (ولعنهم الله) ، يقول: وأبعدهم الله وأسحقهم من رحمته = (ولهم عذاب مقيم) ، يقول: وللفريقين جميعًا: يعني من أهل النفاق والكفر، عند الله = (عذابٌ مقيم) ، دائم، لا يزول ولا يبيد. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير "حسب" فيما سلف ص: 403، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "مقيم" فيما سلف 10: 293، 294 \ 14: 172.(14/340)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
القول في تأويل قوله: {كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، لهؤلاء المنافقين الذين قالوا: (إنما كنا نخوض ونلعب) : أبالله وآيات كتابه ورسوله كنتم تستهزئون؟ = (كالذين من قبلكم) ، من الأمم الذين فعلوا فعلكم، فأهلكهم الله، وعجل لهم في الدنيا الخزي، مع ما أعدَّ لهم من العقوبة والنكال في الآخرة. يقول لهم جل ثناؤه: واحذروا أن يحل بكم من عقوبة الله مثل الذي حلّ بهم، فإنهم كانوا أشد منكم قوةً وبطشًا، وأكثر منكم أموالا وأولادًا = (فاستمتعوا بخلاقهم) ، يقول: فتمتعوا بنصيبهم وحظهم من دنياهم ودينهم، (1) ورضوا بذلك من نصيبهم في الدنيا عوضًا من نصيبهم في الآخرة، (2)
__________
(1) انظر تفسير "الاستمتاع" فيما سلف 12: 116، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "الخلاق" فيما سلف 2: 452 - 454 \ 4: 201 - 203 \ 6: 527، 528.(14/340)
وقد سلكتم، أيها المنافقون، سبيلهم في الاستمتاع بخلاقكم. يقول: فعلتم بدينكم ودنياكم، كما استمتع الأمم الذين كانوا من قبلكم، الذين أهلكتهم بخِلافهم أمري = (بخلاقهم) ، يقول: كما فعل الذين من قبلكم بنصيبهم من دنياهم ودينهم = (وخضتم) ، في الكذب والباطل على الله = (كالذي خاضوا) ، يقول: وخضتم أنتم أيضًا، أيها المنافقون، كخوض تلك الأمم قبلكم. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16930- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني أبو معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لتأخذُنَّ كما أخذ الأمم من قبلكم، ذراعًا بذراع، وشبرًا بشبر، وباعًا بباع، حتى لو أن أحدًا من أولئك دخل جُحر ضبٍّ لدخلتموه! = قال أبو هريرة: اقرأوا إن شئتم القرآن: (كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا) = قالوا: يا رسول الله، كما صنعت فارس والروم؟ قال: فهل الناس إلا هم؟ (2)
16931- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
__________
(1) انظر تفسير "الخوض" فيما سلف ص: 332، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 16930 - إسناده ضعيف.
"أبو معشر"، هو: "نجيج بن عبد الرحمن السندي"، منكر الحديث، مضى برقم: 1275.
ولكن هذا الخبر له أصل في الصحيح، فقد رواه البخاري في صحيحه من طريق أحمد بن يونس، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة (الفتح 13: 254) ، بغير هذا اللفظ.
يقال: "أخذ إخذ فلان"، إذا سار بسيرته.(14/341)
عن ابن جريج، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله: (كالذين من قبلكم) ، الآية قال، قال ابن عباس: ما أشبه الليلة بالبارحة! (كالذين من قبلكم) ، هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم، لا أعلم إلا أنه قال: والذي نفسي بيده لتَتَّبِعُنَّهم حتى لو دخل الرجل منهم جُحْر ضبٍّ لدخلتموه. (1)
16932-...... قال ابن جريج: وأخبرنا زياد بن سعد، عن محمد بن زيد بن مهاجر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده لتتبعُن سَننَ الذين من قبلكم، شبرًا بشبر، وذراعًا بذراع، وباعًا بباع، حتى لو دخلوا جحر ضبّ لدخلتموه! قالوا: ومن هم، يا رسول الله؟ أهلُ الكتاب! قال: فَمَهْ! (2)
__________
(1) الأثر: 16931 - "عمر بن عطاء"، هذا الراوي عن عكرمة هو: "عمر بن عطاء بن وراز"، وهو ضعيف، ليس بشيء. قال أحمد: "روى ابن جريج، عن عمر بن عطاء، عن عكرمة، فهو: ابن وراز. وكل شيء روى ابن جريج، عن عمر بن عطاء، عن ابن عباس فهو ابن أبي الخوار"، فهما رجلان. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 13 \ 126، وميزان الاعتدال 2: 265.
فهذا إسناد ضعيف أيضًا، ولكن له أصل في الصحيح، كما سلف من قبل.
(2) الأثر: 16932 - هذا إسناد تابع للإسناد السالف، ولكني فصلته عنه، لأن الإسناد الأول قد تم برواية ابن جريج حديث ابن عباس، ثم انتقل إلى إسناد آخر إلى أبي هريرة.
و"زياد بن سعد بن عبد الرحمن الخرساني"، وكان شريك ابن جريج، وهو ثقة، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 1 \ 327، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 533.
و"محمد بن زيد بن مهاجر بن قنفذ التيمي القرشي"، ثقة، مضى برقم: 10521.
فهذا خبر صحيح الإسناد.
وأما قوله: "فمه"، فقد كتبها في المطبوعة: "فمن"، وهي في المخطوطة بالهاء واضحة عليها سكون، ويدل على صواب ذلك، اقتصار ابن جريج في الخبر التالي على ذكر "فمن"، دون ذكر الخبر، فهذا دال على أن الأولى مخالفة للثانية، لا مطابقة لها.
واستعمال "مه" بمعنى الاستفهام، قد ذكر له صاحب اللسان في مادة "ما"، شاهدًا،
ولكنه أساء في نقله عن ابن جني بعده، فلم يتبين ما أراد قبله. قال: "ما: حرف نفي، وتكون بمعنى الذي. . . وتكون موضوعة موضع: من، وتكون بمعنى الاستفهام وتبدل من الألف الهاء، فيقال: مه، قال الراجز: قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أَمْكِنَهْ
ومِنْ هَاهُنَا وَمْنِ هُنَهْ
إِنْ لَمْ أُرَوِّها فَمَهْ
قال ابن جني: يحتمل، مه، هنا وجهين: أحدهما أن تكون: فمه، زجرًا منه، أي: فاكفف عني. ولست أهلا للعتاب = أو: فمه يا إنسان، يخاطب نفسه ويزجرها".
قلت: وهذا تحكم من أبي الفتح بن جني، فإن سياق الرجز يوجب أن يكون معناه: إن لم أرو أنا هذا الإبل، فمن يرويها؟ وهو صريح معنى الاستدلال الذي ساقه صاحب اللسان، ولكنه أساء في البيان وقصر، وأساء في إردافه الكلام ما أردفه من كلام أبي الفتح.
وهذا الخبر الذي رواه ابن جريج، عن أبي هريرة، دليل آخر وشاهد قوي على استعمالهم "مه"، بمعنى الاستفهام.(14/342)
16933- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال أبو سعيد الخدري أنه قال: فمن. (1)
16934- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فاستمتعوا بخلاقهم) ، قال: بدينهم.
16935- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حَذَّركم أن تحدثوا في الإسلام حَدَثًا، وقد علم أنه سيفعل ذلك أقوامٌ من هذه الأمة، (2) فقال الله في ذلك: (فاستمتعوا بخلاقهم فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم وخضتم كالذي خاضوا) ، وإنما حسبوا أن لا يقع بهم من الفتنة ما وقع ببني إسرائيل قبلهم، وإن الفتنة عائدة كما بدأت.
* * *
__________
(1) الأثر: 16933 - حديث أبي سعيد الخدري، في معنى الأخبار السالفة رواه البخاري في صحيحه (الفتح 13: 255) ، ومسلم في صحيحه 16: 219، من طريق زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري.
وهذا الخبر رواه ابن جريج مختصرًا على كلمة واحدة، وهي "فمن"، ليبين معنى رواية أبي هريرة قبل: "فمه"، أنها بمعنى "فمن"، استفهامًا، كما سلف في التعليق قبله.
(2) جاء هكذا في المخطوطة: "حدثكم أن تحثوا في الإسلام حدثًا، وقد علمتم أنه ... "، وهو غير مقروء، ولا مستقيم، والذي في المطبوعة، كأنه منقول من الدر المنثور 3: 255، فقد نسبه إلى أبي الشيخ، ولم ينسبه إلى ابن جرير، وهو فضلا عن ذلك، مختصر في الدر المنثور.(14/343)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
وأما قوله: (أولئك حبطت أعمالهم) ، فإن معناه: هؤلاء الذين قالوا: (إنما كنا نخوض ونلعب، وفعلوا في ذلك فعل الهالكين من الأمم قبلهم = (حبطت أعمالهم) ، يقول: ذهبت أعمالهم باطلا. فلا ثوابَ لها إلا النار، لأنها كانت فيما يسخط الله ويكرهه (1) = (وأولئك هم الخاسرون) ، يقول: وأولئك هم المغبونون صفقتهم، ببيعهم نعيم الآخرة بخلاقهم من الدنيا اليسيرِ الزهيدِ (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألم يأت هؤلاء المنافقين الذين يُسِرُّون الكفرَ بالله، وينهون عن الإيمان به وبرسوله = (نبأ الذين من قبلهم) ، يقول: خبر الأمم الذين كانوا من قبلهم، (3) حين عصوا رسلنا وخالفوا أمرنا، ماذا حلّ بهم من عقوبتنا؟
ثم بين جل ثناؤه مَنْ أولئك الأمم التي قال لهؤلاء المنافقين ألم يأتهم نَبَأهُم، فقال: (قوم نوح) ، ولذلك خفض "القوم"، لأنه ترجم بهن عن "الذين"، و"الذين" في موضع خفض.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حبط " فيما سلف ص: 166، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "الخسران" فيما سلف 13: 535، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير "النبأ" فيما سلف ص: 331، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/344)
ومعنى الكلام: ألم يأت هؤلاء المنافقين خبر قوم نوح وصنيعي بهم، إذ كذبوا رسولي نوحًا، وخالفوا أمري؟ ألم أغرقهم بالطوفان؟
= (وعاد) ، يقول: وخبر عاد، إذ عصوا رسولي هودًا، ألم أهلكهم بريح صرصر عاتية؟ = وخبر ثمود، إذ عصوا رسولي صالحًا، ألم أهلكهم بالرجفة، فأتركهم بأفنيتهم خمودًا؟ = وخبر قوم إبراهيم، إذ عصوه وردُّوا عليه ما جاءهم به من عند الله من الحق، ألم أسلبهم النعمة، وأهلك ملكهم نمرود؟ = وخبر أصحابِ مَدْين بن إبراهيم، ألم أهلكهم بعذاب يوم الظلة إذ كذبوا رسولي شعيبًا؟ = وخبر المنقلبة بهم أرضُهم، فصار أعلاها أسفلها، إذ عصوا رسولي لوطًا، (1) وكذبوا ما جاءهم به من عندي من الحق؟ يقول تعالى ذكره: أفأمن هؤلاء المنافقون الذين يستهزءون بالله وبآياته ورسوله، أن يُسْلك بهم في الانتقام منهم، وتعجيل الخزي والنكال لهم في الدنيا، سبيلُ أسلافهم من الأمم، ويحلّ بهم بتكذيبهم رسولي محمدًا صلى الله عليه وسلم ما حلّ بهم في تكذيبهم رُسلنا، إذ أتتهم بالبينات.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16936- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (والمؤتفكات) ، قال: قوم لوط، انقلبت بهم أرضهم، فجعل عاليها سافلها.
16937- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والمؤتفكات) ، قال: هم قوم لوط.
* * *
__________
(1) انظر تفسير "الائتفاك" فيما سلف ص: 208، تعليق: 1، والمراجع هناك.(14/345)
فإن قال قائل: فإن كان عني بـ "المؤتفكات" قوم لوط، فكيف قيل: "المؤتفكات"، فجمعت ولم توحّد؟
قيل: إنها كانت قريات ثلاثًا، فجمعت لذلك، ولذلك جمعت بالتاء، على قول الله: (وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى) ، [سورة النجم: 53] . (1)
فإن قال: وكيف قيل: أتتهم رسلهم بالبينات، وإنما كان المرسل إليهم واحدًا؟
قيل: معنى ذلك: أتى كل قرية من المؤتفكات رسولٌ يدعوهم إلى الله، فتكون رُسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين بعثهم إليهم للدعاء إلى الله عن رسالته، رسلا إليهم، كما قالت العرب لقوم نسبوا إلى أبي فديك الخارجي: "الفُدَيْكات"، و"أبو فديك"، واحدٌ، ولكن أصحابه لما نسبوا إليه وهو رئيسهم، دعوا بذلك، ونسبوا إلى رئيسهم. فكذلك قوله: (أتتهم رسلهم بالبينات) .
* * *
وقد يحتمل أن يقال معنى ذلك: أتت قوم نوح وعاد وثمود وسائر الأمم الذين ذكرهم الله في هذه الآية، رسلهم من الله بالبينات.
* * *
وقوله: (فما كان الله ليظلمهم) ، يقول جل ثناؤه: فما أهلك الله هذه الأمم التي ذكر أنه أهلكها إلا بإجرامها وظلمها أنفسها، واستحقاقها من الله عظيم العقاب، لا ظلمًا من الله لهم، ولا وضعًا منه جل ثناؤه عقوبةً في غير من هو لها أهلٌ، لأن الله حكيم لا خلل في تدبيره، ولا خطأ في تقديره، ولكن القوم الذين أهلكهم ظلموا أنفسهم بمعصية الله وتكذيبهم رسله، حتى أسخطوا عليهم ربهم، فحقت عليهم كلمة العذاب فعذِّبوا.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 446.(14/346)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
القول في تأويل قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وأما "المؤمنون والمؤمنات"، وهم المصدقون بالله ورسوله وآيات كتابه، فإن صفتهم: أن بعضهم أنصارُ بعض وأعوانهم (1) = (يأمرون بالمعروف) ، يقول: يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله، وبما جاء به من عند الله، (2) = [ (وينهون عن المنكر) ... ] (3) = (ويقيمون الصلاة) ، يقول: ويؤدُّون الصلاة المفروضة (4) = (ويؤتون الزكاة) ، يقول: ويعطون الزكاة المفروضةَ أهلَها (5) = (ويطيعون الله ورسوله) ، فيأتمرون لأمر الله ورسوله، وينتهون عما نهياهم عنه = (أولئك سيرحمهم الله) ، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم، الذين سيرحمهم الله، فينقذهم من عذابه، ويدخلهم جنته، لا أهل النفاق والتكذيب بالله ورسوله، الناهون عن المعروف، الآمرون بالمنكر، القابضون أيديهم عن أداء حقّ الله من أموالهم = (إن الله عزيز حكيم) ، يقول: إن الله ذو عزة في انتقامه ممن انتقم من خلقه على معصيته وكفره به، لا يمنعه من الانتقام منه مانع، ولا ينصره منه ناصر = (حكيم) ، في انتقامه منهم، وفي جميع أفعاله. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الأولياء " فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(2) انظر تفسير " المعروف " فيما سلف ص: 338، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) ما بين القوسين زدته استظهارًا، وهو تمام الآية، أخل به الناسخ، وأسقط تفسيره، كما هو بين من سياق أبي جعفر في تفسيره.
انظر تفسير "المنكر" فيما سلف ص: 338، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " إقامة الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) .
(5) انظر تفسير " إيتاء الزكاة " فيما سلف من فهارس اللغة (أتى) .
(6) انظر تفسير "عزيز"، و "حكيم"، فيما سلف من فهارس اللغة (عزز) ، (حكم) .(14/347)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
16938- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: كل ما ذكره الله في القرآن من "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر"، فـ "الأمر بالمعروف"، دعاء من الشرك إلى الإسلام = و"النهي عن المنكر"، النهي عن عبادة الأوثان والشياطين.
16939-...... قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (يقيمون الصلاة) ، قال: الصلوات الخمس.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وعد الله الذين صدقوا الله ورسوله، وأقرُّوا به وبما جاء به من عند الله، من الرجال والنساء = (جنات تجري من تحتها الأنهار) ، يقول: بساتين تجري تحت أشجارها الأنهار (1) = (خالدين فيها) ، يقول: لابثين فيها أبدًا، مقيمين لا يزول عنهم نعيمها ولا يبيد (2) = (ومساكن طيبة) ، يقول: ومنازل يسكنونها طيبةً. (3)
__________
(1) انظر تفسير "جنة" فيما سلف من فهارس اللغة (جنن) .
(2) انظر تفسير "الخلود" فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(3) انظر تفسير " طيبة " فيما سلف من فهارس اللغة (طيب) .(14/348)
و"طيبها" أنها، فيما ذكر لنا، كما:-
16940- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن جَسْر، عن الحسن قال: سألت عمران بن حصين وأبا هريرة عن آية في كتاب الله تبارك وتعالى: (ومساكن طيبة في جنات عدن) ، فقالا على الخبير سقطت! سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قصرٌ في الجنة من لؤلؤ، فيه سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتًا من زمردة خضراء، في كل بيت سبعون سريرًا. (1)
16941- حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا قرة بن حبيب، عن جَسْر بن فرقد، عن الحسن، عن عمران بن حصين وأبي هريرة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية: (ومساكن طيبه في جنات عدن) ، قال: قصر من لؤلؤة، في ذلك القصر سبعون دارًا من ياقوتة حمراء، في كل دار سبعون بيتًا من زبرجدة خضراء، في كل بيت سبعون سريرًا، على كل سرير فراشًا من كل لون، على كل فراش زوجة من الحور العين، في كل بيت سبعون مائدة،
__________
(1) الأثر: 16940 - " إسحاق بن سليمان الرازي "، شيخ أبي كريب، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 13224.
و" جسر " هو: " جسر بن فرقد، أبو جعفر القصاب "، روى عنه إسحاق بن سليمان، وروى هو عن الحسن وغيره، وكان رجلا صالحًا، ولكنه في الحديث ليس بشيء. مترجم في الكبير 1 \ 2 \ 245، وقال: "ليس بذاك"، وفي ابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 538، وميزان الاعتدال 1: 184، ولسان الميزان 2: 104.
وكان في المطبوعة: "إسحاق بن سليمان، عن الحسن قال سألت"، واسقط اسم "جسر"، لأنه كان في المخطوطة قد كتب: "عن الحسن، عن الحسن"، ثم ضرب الناسخ على "الألف واللام" من "الحسن" الأولى، فظنه قد ضرب عليه كله، والصواب ما أثبت، وسيأتي في الإسناد التالي.
وهذا الخبر، ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 30، 31، وقال: " رواه البزار والطبراني في الأوسط. وفيه جسر بن فرقد، وهو ضعيف، وقد وثقه سعيد بن عامر، وبقية رجال الطبراني ثقات".
ثم خرجه في مجمع الزوائد 10: 420 وقال: " رواه الطبراني، وفيه: جسر بن فرقد، وهو ضعيف"، فاختصر ما سلف.
وهو إسناد ضعيف كما قال، فقد ضعف جسر بن فرقد، البخاري وغيره من الأئمة.(14/349)
على كل مائدة سبعون لونًا من طعام، في كل بيت سبعون وصيفة، ويعطى المؤمن من القوة في غَداةٍ واحدة ما يأتي على ذلك كله أجمع. (1)
* * *
وأما قوله: (في جنات عدن) ، فإنه يعني: وهذه المساكن الطيبة التي وصفها جل ثناؤه، (في جنات عدن) .
* * *
و"في" من صلة "مساكن".
* * *
وقيل: "جنات عدن"، لأنها بساتين خلد وإقامة، لا يظعَنُ منها أحدٌ.
* * *
وقيل: إنما قيل لها (جنات عدن) ، لأنها دارُ الله التي استخلصها لنفسه، ولمن شاء من خلقه = من قول العرب: "عَدَن فلان بأرض كذا"، إذا أقام بها وخلد بها، ومنه "المَعْدِن"، ويقال: "هو في معدِن صدق"، يعني به: أنه في أصلٍ ثابت. وقد أنشد بعض الرواة بيت الأعشى:
وَإنْ يَسْتَضِيفُوا إلَى حِلْمِه ... يُضَافُوا إلَى رَاجِحٍ قَدْ عَدَن (2)
__________
(1) 16941 - " قرة بن حبيب بن يزيد بن شهرزاد القنوي الرماح "، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 41 \ 183، وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 132.
و" جسر بن فرقد " سلف في الإسناد وقبله. وكان في المطبوعة والمخطوطة: " حسن بن فرقد "، وصوابه ما أثبت.
وهو إسناد ضعيف أيضًا.
(2) ديوانه: 17، ومخطوطة ديوانه القصيدة رقم: 15، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 264، واللسان " وزن "، وهي من كلمته الأولى التي أقبل بها على قيس بن معد يكرب الكندي، ورواية الديوان "إلى حكمه"، ولكنها في المخطوطة ومجاز القرآن كما أثبتها، ولكن المطبوعة كتب "حكمه".
يقول قبله: ولكنّ رَبِّي كَفَى غُرْبتِي ... بِحَمْدِ الإِلَهِ، فقد بَلَّغَنْ
أَخَا ثِقَةٍ عَاليًا كَعْبُهْ ... جَزيلَ العَطاء كَرِيمَ المِنَنْ
كَرِيمًا شَمائلُهُ، مِنْ بَني ... مُعَاوِيةَ الأَكْرَمِينَ السُّنَنْ
فَإنْ يَتْبَعُوا أَمْرَهُ يَرْشُدُوا ... وَإنْ يَسْأَلُوا مَالَهُ لا يَضِنّْ
و"استضاف إليه"، لجأ إليه عند الحاجة.(14/350)
وينشد: "قد وَزَن". (1)
* * *
وكالذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وجماعة معه فيما ذكر، يتأوّلونه.
16942- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس: (جنات عدن) ، قال: "معدن الرجل"، الذي يكون فيه.
16943- حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا الليث بن سعد، عن زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يفتح الذكرَ في ثلاث ساعات يبقين من الليل، في الساعة الأولى منهن ينظر في الكتاب الذي لا ينظر فيه أحد غيره، فيمحو ما يشاء ويثبت. ثم ينزل في الساعة الثانية إلى جنة عدن، وهي في داره التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، وهي مسكنه، ولا يسكن معه من بني آدم غير ثلاثة: النبيين، والصديقين، والشهداء، ثم يقول: طوبى لمن دخلك، وذكر في الساعة الثالثة. (2)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "قد وزن"، بالواو ورواية الديوان: "قد رزن" بالراء، وكله صحيح المعنى. وهذه التي ذكرها الطبري، هي الرواية التي فسرها صاحب اللسان في "وزن".
يقال: "وزن الشيء"، أي: رجح، و "وزن الرجل وزانة"، إذا كان متثبتًا، و "رجل وزين الرأي"، أصيله. و "رزن" بالراء مثله في المعنى، يقال: "رجل رزين"، أي: وقور.
(2) الأثران: 16943، 16944 - " زيادة بن محمد الأنصاري "، منكر الحديث، مترجم في التهذيب والكبير 2 \ 1 \ 407، وذكر إسناد هذا الخبر، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 619، وميزان الاعتدال 1: 361، وساق هذا الحديث بطوله، وفيه ذكر الساعة الثالثة، ثم قال: "وهذه ألفاظ منكرة، لم يأت بها غير زيادة".
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 412 وقال: "رواه البزار، وفيه زيادة بن محمد، وهو ضعيف".
وكان في المطبوعة في الخبر الأول: " الكندي سعد، عن زيادة بن محمد "، وصوابه " الليث بن سعد "، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنه وصل الحروف بعضها ببعض.(14/351)
16944- حدثني موسى بن سهل قال، حدثنا آدم قال، حدثنا الليث بن سعد قال، حدثنا زيادة بن محمد، عن محمد بن كعب القرظي، عن فضالة بن عبيد، عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: عدن دارُه = يعني دار الله = التي لم ترها عين ولم تخطر على قلب بشر، وهي مسكنه، ولا يسكنها معه من بني آدم غير ثلاثة: النبيين، والصديقين، والشهداء. يقول الله تبارك وتعالى: طوبى لمن دخلك. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى (جنات عدن) ، جنات أعناب وكروم.
* ذكر من قال ذلك:
16945- حدثني أحمد بن أبي سريج الرازي قال، حدثنا زكريا بن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن زيد بن أبي أنيسة، عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث: أن ابن عباس سأل كعبًا عن جنات عدن، فقال: هي الكروم والأعناب، بالسريانية. (2)
* * *
وقال آخرون: هي اسم لبُطْنان الجنة ووَسطها.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 16944 - انظر التعليق السالف. و "آدم"، هو "آدم بن أبي إياس".
(2) الأثر: 16945 - " أحمد بن أبي سريج الرازي "، هو " أحمد بن الصباح النهشلي الرازي "، شيخ أبي جعفر. روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي. ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 56.
و" زكريا بن عدي بن زريق التيمي "، ثقة، مضى برقم: 15446.
و" عبيد الله بن عمرو الرقي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا، منها رقم: 7187.
و"زيد بن أبي أنيسة الجزري"، ثقة، مضى مرارًا آخرها: 13855.
و"يزيد بن أبي زياد القرشي"، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل، ثقة، يضعف حديثه. مضى مرارًا، آخرها رقم: 13308.
و"عبد الله بن الحارث بن نوفل الهاشمي"، روى له الجماعة، مضى أيضا، برقم: 13308.(14/352)
16946- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا شعبة، عن سليمان الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: "عدن"، بُطْنان الجنة.
16947- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان وشعبة، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله في قوله: (جنات عدن) ، قال: بُطْنان الجنة = قال ابن بشار في حديثه، فقلت: ما بطنانها؟ = وقال ابن المثنى في حديثه، فقلت للأعمش: ما بطنان الجنة؟ = قال: وَسطها.
16948- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، وأبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله: (جنات عدن) ، قال: بطنان الجنة.
16949-...... قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله، بمثله.
16950- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، مثله.
16951- حدثنا أحمد بن أبي سريج قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، وعبد الله بن مرة، عنهما جميعًا، أو عن أحدهما، عن مسروق، عن عبد الله: (جنات عدن) ، قال: بطنان الجنة.
16952- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود في قول الله: (جنات عدن) ، قال: بُطْنان الجنة.
* * *(14/353)
وقال آخرون: "عدن"، اسم لقصر.
* ذكر من قال ذلك:
16953- حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبدة أبو غسان، عن عون بن موسى الكناني، عن الحسن قال: "جنات عدن"، وما أدراك ما جنات عدن؟ قصرٌ من ذهَب، لا يدخله إلا نبي، أو صدّيق، أو شهيد، أو حكم عدل، ورفع به صوته. (1)
16954- حدثنا أحمد بن أبي سريج قال، حدثنا عبد الله بن عاصم قال، حدثنا عون بن موسى قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول: جنات عدن، وما أدراك ما جنات عدن؟ قصر من ذهب، لا يدخله إلا نبيّ، أو صدّيق، أو شهيد، أو حكم عدل = رفع الحسن به صوته. (2)
16955- حدثنا أحمد قال، حدثنا يزيد قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن يعلى بن عطاء، عن نافع بن عاصم، عن عبد الله بن عمرو قال: إن في الجنة قصرًا يقال له "عدن"، حوله البروج والرُّوح، له خمسون ألف باب، على كل باب حِبَرة، (3) لا يدخله إلا نبيّ أو صدّيق.
16956- حدثنا الحسن بن ناصح قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء قال: سمعت يعقوب بن عاصم يحدث، عن عبد الله بن عمرو:
__________
(1) الأثر: 16953 - " عبدة، أبو غسان "، لم أعرف من يكون؟
و"عون بن موسى الكنافي الليثي"، أبو روح، ثقة سمع الحسن. مترجم في الكبير 4 \ 1 \ 17، وابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 386.
(2) الأثر: 16954 - " أحمد بن أبي سريج "، مضى برقم: 16945.
" عبد الله بن عاصم الحماني "، صدوق، روى عنه أبو حاتم، وأبو زرعة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 134.
"عون بن موسى الكناني"، مضى قبله.
(3) "الحبرة" (بكسر الحاء وفتح الباء) : ضرب من برود اليمن منمر. وقالوا: " ليس: حبرة، موضعًا أو شيئًا معلومًا، إنما هو شيء ". وكأنه هو المراد في مثل هذا الخبر، أي: ستور موشية.(14/354)
إن في الجنة قصرًا يقال له "عدن"، له خمسة آلاف باب، على كل باب خمسة آلاف حِبَرة، لا يدخله إلا نبي أو صدّيق أو شهيد. (1)
* * *
وقيل: هي مدينة الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
16957- حدثت عن عبد الرحمن المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: في (جنات عدن) ، قال: هي مدينة الجنة، فيها الرُّسُل والأنبياء والشهداء، وأئمة الهدى، والناس حولهم بعدُ، والجنات حولها.
* * *
وقيل: إنه اسم نهر.
* ذكر من قال ذلك:
16958- حدثت عن المحاربي، عن واصل بن السائب الرقاشي، عن عطاء قال: "عدن"، نهر في الجنة، جنّاته على حافتيه.
* * *
وأما قوله: (ورضوان من الله أكبر) ، فإن معناه: ورضَى الله عنهم أكبر من ذلك كله، (2) وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الأثر: 16956 - "الحسن بن ناصح"، هو "الحسن بن ناصح البصري السراج"، قال ابن أبي حاتم: "روى عن عثمان بن عثمان الغطفاني، ومعتمر بن سليمان، ومعاذ بن معاذ، ويحيى بن راشد، سمع منه أبي في المرحلة الثانية "، الجرح والتعديل 1 \ 2 \ 39، تاريخ بغداد 7: 435.
وهناك أيضا: " الحسن بن ناصح الخلال المخرمي "، روى عن إسحاق بن منصور، وغيره قال ابن أبي حاتم: " أدركته. ولم أكتب عنه، وكان صدوقًا "، وكأن هذا هو شيخ الطبري.
مترجم في ابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 39، وتاريخ بغداد 7: 435.
وكان في المطبوعة: " الحسن بن ناجح "، وهو مخالفة لما في المخطوطة.
و" يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي "، ذكره ابن حبان في الثقات، مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 388، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 211.
(2) انظر تفسير "الرضوان" فيما سلف ص 174، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/355)
16959- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال: أخبرنا ابن المبارك، عن مالك بن أنس، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! فيقولون: لبّيك ربَّنَا وسعْدَيك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: ما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحدًا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضلَ من ذلك. قالوا: يا ربّ، وأيُّ شيء أفضل من ذلك! قال: أحِلّ عليكم رضوَاني، فلا اسخط عليكم بعده أبدًا. (1)
16960- حدثنا ابن حميد قال، حدثني يعقوب، عن حفص، عن شمر قال: يجيء القرآن يوم القيامة في صورة الرجل الشاحب، إلى الرجل حين ينشقُّ عنه قبره، فيقول: أبشر بكرامة الله! أبشر برضوان الله! فيقول مثلك من يبشِّر بالخير؟ ومن أنت؟ فيقول: أنا القرآن الذي كُنْت أسهِر ليلك، وأُظمئ نهارك! فيحمله على رقبته حتى يُوافي به ربَّه، فيمثُلُ بين يديه فيقول: يا رب، عبدك هذا، اجزه عني خيرًا، فقد كنت أسهر ليله، وأظمئ نهاره، وآمره فيطيعني، وأنهاه فيطيعني. فيقول الرب تبارك وتعالى: فله حُلَّة الكرامة. فيقول: أي ربّ، زدْهُ، فإنه أهلُ ذلك! فيقول: فله رِضْواني = قال: (ورضوان من الله أكبر) . (2)
__________
(1) الأثر: 16959 - هذا حديث صحيح رواه البخاري بهذا الإسناد نفسه، وبلفظه في صحيحه (الفتح 11: 363، 364) ، واستوفى الكلام عليه الحافظ ابن حجر في شرحه. ورواه مسلم في صحيحه 17: 168، وانظر ما سلف رقم: 6751، 16567، من حديث جابر بن عبد الله، غير مرفوع، وما علقت به عليه هناك. وذكره ابن كثير في تفسيره في هذا الموضع 4: 202 وقال: "رواه البزار في مسنده، من حديث الثوري. وقال الحافظ الضياء المقدسي في كتابه صفة الجنة. هذا عندي على شرط الصحيح".
(2) الأثر: 16960 - "يعقوب"، هو: "يعقوب بن عبد الله القمي"، ثقة، مضى مرارًا، منها: 13045.
و"حفص" هو "حفص بن حميد القمي"، ثقة، مضى برقم: 8518.
و"شمر" هو "شمر بن عطية الأسدي الكاهلي"، ثقة، مضى برقم: 11545.
وانظر شواهد لبعض ألفاظ هذا الخبر فيما رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 159 - 165.
ولم أجد هذا الخبر مسندًا بلفظه هذا.(14/356)
وابتُدِئ الخبر عن "رضوان الله" للمؤمنين والمؤمنات أنه أكبر من كلّ ما ذكر جل ثناؤه، فرفع، وإن كان "الرضوان" فيما قد وعدهم. ولم يعطف به في الإعراب على "الجنات" و"المساكن الطيبة"، ليعلم بذلك تفضيلُ الله رضوانَه عن المؤمنين، على سائر ما قسم لهم من فضله، وأعطاهم من كرامته، نظير قول القائل في الكلام لآخر: "أعطيتك ووصلتك بكذا، وأكرمتك، ورضاي بعدُ عنك أفضل لك". (1)
* * *
= (ذلك هو الفوز العظيم) ، هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات = (هو الفوز العظيم) ، يقول: هو الظفر العظيم، والنجاء الجسيم، لأنهم ظفروا بكرامة الأبد، ونَجوْا من الهوان في سَقَر، (2) فهو الفوز العظيم الذي لا شيء أعظم منه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة، جعل الكلام هكذا: " أفضل ذلك، هذه الأشياء التي وعدت المؤمنين والمؤمنات. . . "، وهو غير مستقيم، والذي أثبته هو الذي في المخطوطة، ولكن ظاهر أنه قد سقط من الناسخ بعض كلام أبي جعفر. فاستظهرت أن السياق هو ذكر لفظ الآية، ثم تفسير " ذلك " بقوله: " هذه الأشياء. . . "، فأثبتها كذلك، وفصلت بين الكلامين فصلا تامًا.
وانظر معاني القرآن للفراء 1: 446.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " الهوان في السفر "، وهو لا معنى له، والصواب ما أثبت.
(3) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف، 11: 286، تعليق: 1، والمراجع هناك.(14/357)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (يا أيها النبي جاهد الكفار) ، بالسيف والسلاح = (والمنافقين) .
* * *(14/357)
واختلف أهل التأويل في صفة "الجهاد" الذي أمر الله نبيه به في المنافقين. (1) فقال بعضهم: أمره بجهادهم باليد واللسان، وبكل ما أطاق جهادَهم به.
* ذكر من قال ذلك:
16961- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، ويحيى بن آدم، عن حسن بن صالح، عن علي بن الأقمر، عن عمرو بن جندب، عن ابن مسعود في قوله: (جاهد الكفار والمنافقين) ، قال: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، فإن لم يستطع فليكفهرَّ في وجهه. (2)
* * *
وقال آخرون: بل أمره بجهادهم باللسان.
* ذكر من قال ذلك:
16962- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن
__________
(1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 257، تعليق: 1، والمراجع هناك.
= وتفسير " المنافق " فيما سلف ص: 339؛ تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 16961 - " حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا.
و" يحيى بن آدم "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا.
و"حسن بن صالح بن صالح بن حي الثوري"، ثقة، مضى مرارًا.
و" علي بن الأقمر الوادعي الهمداني "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا.
و" عمرو بن أبي جندب " أو " عمرو بن جندب "، هو " أبو عطية الوادعي "، مختلف في اسمه. ترجم له في التهذيب، في الأسماء، وفي الكنى، وقال: " قال البخاري في تاريخه: روى عنه أبو إسحاق، وعلي بن الأقمر "، ثم قال: " والصواب أنه وإن كان يكنى أبا عطية، فإنه غير الوادعي ". وهو ثقة، من أصحاب عبد الله بن مسعود. ترجم له ابن أبي حاتم 3 \ 1 \ 224 باسم " عمرو بن جندب "، وكان في المطبوعة " عمرو بن جندب "، ولكني أثبت ما في المخطوطة، وهما صواب كما ترى.
وهذا الخبر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 248، ونسبه إلى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في كتاب الأمر بالمعروف، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.
وقوله: " فليكفهر في وجهه ": أي فليلقه بوجه منقبض عابس لإطلاقه فيه ولا بشر ولا انبساط.(14/358)
علي، عن ابن عباس قوله تعالى: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) ، فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف، والمنافقين باللسان، وأذهبَ الرفق عنهم.
16963- حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (جاهد الكفار والمنافقين) ، قال: "الكفار"، بالقتال، و"المنافقين"، أن يغلُظ عليهم بالكلام.
16964- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) ، يقول: جاهد الكفار بالسيف، وأغلظ على المنافقين بالكلام، وهو مجاهدتهم.
* * *
وقال آخرون: بل أمره بإقامة الحدود عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
16965- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (جاهد الكفار والمنافقين) ، قال: جاهد الكفار بالسيف، والمنافقين بالحدود، أقم عليهم حدودَ الله.
16966- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) ، قال: أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يجاهد الكفار بالسيف، ويغلظ على المنافقين في الحدود.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب، ما قال ابن مسعود: من أنّ الله أمر نبيَه صلى الله عليه وسلم من جهاد المنافقين، بنحو الذي أمرَه به من جهاد المشركين.
فإن قال قائل: فكيف تركهم صلى الله عليه وسلم مقيمين بين أظُهرِ أصحابه، مع علمه بهم؟(14/359)
قيل: إن الله تعالى ذكره إنما أمر بقتال من أظهرَ منهم كلمةَ الكفر، ثم أقام على إظهاره ما أظهر من ذلك. وأمّا مَنْ إذا اطُّلع عليه منهم أنه تكلم بكلمة الكفر وأُخِذ بها، أنكرها ورجع عنها وقال: "إني مسلم"، فإن حكم الله في كلّ من أظهر الإسلام بلسانه، أن يحقِنَ بذلك له دمه وماله، وإن كان معتقدًا غير ذلك، وتوكَّل هو جلّ ثناؤه بسرائرهم، ولم يجعل للخلق البحثَ عن السرائر. فلذلك كان النبيّ صلى الله عليه وسلم، مع علمه بهم وإطْلاع الله إياه على ضمائرهم واعتقاد صُدورهم، كان يُقِرّهم بين أظهر الصحابة، ولا يسلك بجهادهم مسلك جهاد من قد ناصبَه الحرب على الشرك بالله، لأن أحدهم كان إذا اطُّلِع عليه أنه قد قال قولا كفر فيه بالله، ثم أخذ به أنكره وأظهر الإسلام بلسانه. فلم يكن صلى الله عليه وسلم يأخذه إلا بما أظهر له من قوله، عند حضوره إياه وعزمه على إمضاء الحكم فيه، دون ما سلف من قولٍ كان نطقَ به قبل ذلك، ودون اعتقاد ضميرِه الذي لم يبح الله لأحَدٍ الأخذ به في الحكم، وتولَّى الأخذَ به هو دون خلقه.
* * *
وقوله: (واغلظ عليهم) ، (1) يقول تعالى ذكره: واشدد عليهم بالجهاد والقتال والإرْهاب. (2)
* * *
وقوله: (ومأواهم جهنم) ، يقول: ومساكنهم جهنم، وهي مثواهم ومأواهم (3) = (وبئس المصير) ، يقول: وبئس المكان الذي يُصَار إليه جهنَّمُ. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الغلظة " فيما سلف 7: 341.
(2) في المطبوعة: " والإرعاب " بالعين، خالف ما هو الصواب في العربية، وفي المخطوطة إنما يقال: " رعبه يرعبه رعبًا، فهو مرعوب ورعيب و " رعبه " ترعيبًا "، ونصوا فقالوا: " ولا تقل: أرعبه ".
(3) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف ص: 77، تعليق: والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " المصير " فيما سلف 13: 441 تعليق: 4، والمراجع هناك.(14/360)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
القول في تأويل قوله: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي نزلت فيه هذه الآية، والقول الذي كان قاله، الذي أخبر الله عنه أنه يحلف بالله ما قاله.
فقال بعضهم: الذي نزلت فيه هذه الآية: الجُلاس بن سويد بن الصامت.
* * *
وكان القولُ الذي قاله، ما:-
16967- حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) ، قال: نزلت في الجلاس بن سويد بن الصامت، قال: "إن كان ما جاء به محمد حقًّا، لنحن أشرُّ من الحُمُر! "، (1) فقال له ابن امرأته: والله، يا عدو الله، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت، فإني إن لا أفعل أخاف أن تصيبني قارعةٌ، وأؤاخذ بخطيئتك! فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الجلاس، فقال: "يا جُلاس، أقلت كذا وكذا؟ فحلف ما قال، فأنزل الله تبارك وتعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهمُّوا بما لم ينالوا وما نَقَموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) .
__________
(1) انظر استعمال " أشر "، فيما سلف في الأثرين رقم: 5080، 11723. وكان في المطبوعة: " الحمير "، وأثبت ما في المخطوطة.(14/361)
16968- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية الضرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: نزلت هذه الآية: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) ، في الجلاس بن سويد بن الصامت، أقبل هو وابن امرأته مُصْعَب من قُباء، فقال الجلاس: إن كان ما جاء به محمد حقًّا لنحن أشرُّ من حُمُرنا هذه التي نحن عليها! (1) فقال مصعب: أما والله، يا عدو الله، لأخبرنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلتَ! فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وخشيت أن ينزل فيَّ القرآن، أو تصيبني قارعة، أو أن أخْلَط [بخطيئته] ، (2) قلت: يا رسول الله، (3) أقبلت أنا والجلاس من قباء، فقال كذا وكذا، ولولا مخافة أن أُخْلَط بخطيئته، (4) أو تصيبني قارعة، ما أخبرتك. قال: فدعا الجلاس فقال له: يا جلاس، أقلت الذي قال مصعب؟ قال: فحلف، فأنزل الله تبارك وتعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) ، الآية.
16969- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان الذي قال تلك المقالة، فيما بلغني، الجلاس بن سويد بن الصامت، فرفعها عنه رجلٌ كان في حجره، يقال له "عمير بن سعيد"، (5) فأنكرها، (6) فحلف
__________
(1) في المطبوعة: " حميرنا " بالإفراد وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " أخلط "، ليس فيها ذكر الخطيئة واستظهرتها من باقي الخبر، ومن تفسير ابن كثير.
(3) في المطبوعة: " يا رسول أقبلت "، وهو من الطباعة.
(4) في المطبوعة: " أن أؤاخذ بخطيئته "، غير ما في المخطوطة، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب، وهو موافق لما في تفسير ابن كثير 4: 204، 205.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: " سعيد "، والذي في سيرة ابن هشام، " سعد "، ولكني تركت ما في المخطوطة، لأني وجدت الحافظ ابن حجر في الإصابة، ذكر هذا الاختلاف، فأخشى أن تكون هذه رواية أبي جعفر في سيرة ابن إسحاق.
(6) في المطبوعة: "فأنكر"، أثبت ما في المخطوطة، موافقا لابن هشام.(14/362)
بالله ما قالها. فلما نزل فيه القرآن، تاب ونزع وحسنت، توبته فيما بلغني. (1)
16970- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (كلمة الكفر) ، قال أحدهم: "لئن كان ما يقول محمد حقًّا لنحن شر من الحمير"! فقال له رجل من المؤمنين: أن ما قال لحقٌّ، ولأنت شر من حمار! قال: فهمَّ المنافقون بقتله، فذلك قوله: (وهموا بما لم ينالوا) .
16971- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
16972-...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
16973- حدثني أيوب بن إسحاق بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن رجاء قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسًا في ظلّ شجرة، فقال: إنه سيأتيكم إنسانٌ فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه. فلم يلبث أن طلَع رجل أزرقُ، (2) فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: علامَ تشتمني أنت وأصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا، حتى تجاوَز عنهم، فأنزل الله: (يحلفون بالله ما قالوا) ، ثم نعتهم جميعًا، إلى آخر الآية. (3)
__________
(1) الأثر: 16969 - سيرة ابن هشام 4: 196، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16919.
(2) إذا قيل: "رجل أزرق"، فإنما يعنون زرقة العين، وقد عدد الجاحظ في الحيوان 5: 330، " الزرق من العرب "، وكانت العرب تتشاءم بالأزرق، وتعده لئيما. وانظر طبقات فحول الشعراء: 111، في قول مزرد، في قاتل عمر رضي الله عنه: وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أَنْ تَكُونَ وَفَاتُهُ ... بِكَفَّيْ سَبَنْتَى أَزْرَقِ العَيْنِ مُطْرِقِ
(3) الأثر: 16973 - " أيوب بن إسحاق بن إبراهيم بن سافري "، أبو أيوب البغدادي، شيخ الطبري. قال ابن أبو حاتم: " كتبنا عنه بالرملة، وذكرته لأبي فعرفه، وقال: كان صدروقًا ". مترجم في ابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 241، وتاريخ بغداد 7: 9، 10.
و" عبد الله بن رجاء بن عمرو "، أبو عمرو الغداني. كان حسن الحديث عن إسرائيل. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
وهذا إسناد صحيح. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 258، وزاد نسبته إلى الطبراني، وأبي الشيخ، وابن مردويه.(14/363)
وقال آخرون: بل نزلت في عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول: قالوا: والكلمة التي قالها ما:-
16974- حدثنا به بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يحلفون بالله ما قالوا) ، إلى قوله: (من وليّ ولا نصير) ، قال: ذكر لنا أنّ رجلين اقتتلا أحدهما من جهينة، والآخر من غِفار، وكانت جهينة حلفاء، الأنصار، وظهر الغفاريّ على الجهنيّ، فقال عبد الله بن أبيّ للأوس: انصروا أخاكم، فوالله ما مثلنا ومَثَلُ محمد إلا كما قال القائل: "سمِّن كلبك يأكلك"، وقال: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) [سورة المنافقون: 8] ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه فسأله، فجعل يحلف بالله ما قاله، فأنزل الله تبارك وتعالى: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) .
16975- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر) ، قال: نزلت في عبد الله بن أبي ابن سلول.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إن الله تعالى أخبر عن المنافقين أنّهم يحلفون بالله كذبًا على كلمة كُفْر تكلموا بها أنهم لم يقولوها. وجائز أن يكون ذلك القول ما روي عن عروة: أن الجلاس قاله = وجائز أن يكون قائله عبد الله بن أبي ابن سلول، والقول ما ذكر قتادة عنه أنه قال.(14/364)
ولا علم لنا بأيّ ذلك من أيٍّ، (1) إذ كان لا خبر بأحدهما يوجب الحجة، ويُتوصَّل به إلى يقين العلم به، وليس مما يدرك علمه بفطرة العقل، فالصواب أن يقال فيه كما قال الله جل ثناؤه: (يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) .
* * *
وأما قوله: (وهموا بما لم ينالوا) ، فإن أهل التأويل اختلفوا في الذي كان همَّ بذلك، وما الشيء الذي كان هم به.
[فقال بعضهم: هو رجل من المنافقين، وكان الذي همَّ به] ، قتلَ ابن امرأته الذي سمع منه ما قال، (2) وخشي أن يفشيه عليه.
* ذكر من قال ذلك:
16976- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: همَّ المنافق بقتله = يعني قتل المؤمن الذي قال له: "أنت شر من الحمار"! فذلك قوله: (وهموا بما لم ينالوا) .
16977- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بأن ذلك من ي"، وهو لا معنى له، وصوابه ما أثبت، كما نبهت عليه مرارًا انظر ما سلف: 13: 260، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) كان في المخطوطة: ". . . وما الشيء الذي كان هم به قيل ابن امرأته، وجعلها في المطبوعة: ". . . هم به أقتل ابن امرأته، وعلق عليه فقال: " في العبارة سقط، ولعل الأصل: فقال بعضهم: كان الذي هم الجلاس بن سويد، والشيء الذي كان هم به قتل ابن امرأته إلخ، تأمل".
والصواب، إن شاء الله، ما أثبت بين القوسين، لأن الخبر التالي من خبر مجاهد، ولم يبين فيه اسم المنافق، كما لم يبينه في رقم: 16970، وما بعده، فالصواب الجيد، أن يكون اسم المنافق مبهما في ترجمة سياق الأخبار، كدأب أبي جعفر في تراجم فصول تفسيره.
(3) في المطبوعة: "عن مجاهد، به"، وفي المخطوطة، قطع فلم يذكر شيئًا، فأقررت ما درج على مثله أبو جعفر.(14/365)
وقال آخرون: كان الذي همَّ، رجلا من قريش = والذي همّ به، قتلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
16978- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا شبل، عن جابر، عن مجاهد في قوله: (وهموا بما لم ينالوا) ، قال: رجل من قريش، همّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، يقال له: "الأسود".
* * *
وقال آخرون: الذي همّ، عبد الله بن أبي ابن سلول، وكان همُّه الذي لم ينله، قوله: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) ، [سورة المنافقون: 8] ، من قول قتادة وقد ذكرناه. (1)
* * *
وقوله: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، ذكر لنا أن المنافق الذي ذكر الله عنه أنه قال كلمة الكفر، كان فقيرًا فأغناه الله بأن قُتِل له مولًى، فأعطاه رسول الله ديتَه. فلما قال ما قال، قال الله تعالى: (وما نقموا) ، يقول: ما أنكروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، (2) = (إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) .
* ذكر من قال ذلك:
16979- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، وكان الجلاس قُتِل له مولًى، فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته، فاستغنى، فذلك قوله: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) .
16980-...... قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال:
__________
(1) انظر ما سلف رقم: 16974.
(2) انظر تفسير " نقم " 10: 433 \ 13: 35.(14/366)
قضى النبي صلى الله عليه وسلم بالدية اثنى عشر ألفًا في مولى لبني عديّ بن كعب، وفيه أنزلت هذه الآية: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) .
16981- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، قال: كانت لعبد الله بن أبيٍّ ديةٌ، فأخرجها رسول الله صلى الله عليه وسلم له.
16982- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن سفيان قال، حدثنا عمرو قال: سمعت عكرمة: أن مولى لبني عدي بن كعب قتل رجلا من الأنصار، فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية اثنى عشر ألفا، وفيه أنزلت: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، قال عمرو: لم أسمع هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا من عكرمة = يعني: الدية اثني عشر ألفًا.
16983- حدثنا صالح بن مسمار قال، حدثنا محمد بن سنان العَوَقيّ قال، حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، مولى ابن عباس، عن ابن عباس: أن النبيّ صلى الله عليه وسلم جعل الدية اثني عشر ألفًا. فذلك قوله: (وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله) ، قال: بأخذ الديِّة. (1)
* * *
وأما قوله: (فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) ، يقول تعالى ذكره: فإن يتب هؤلاء القائلون كلمة الكفر من قِيلهم الذي قالوه فرجعوا عنه، يك رجوعهم وتوبتهم من
__________
(1) الأثر: 16983 - " صالح بن مسمار السلمي المروزي "، شيخ الطبري، مضى برقم: 224.
و" محمد بن سنان الباهلي العوقي "، أبو بكر البصري، ثقة مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 1 \ 109 وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 279.
و" محمد بن مسلم الطائفي "، ثقة، يضعف، مضى برقم: 447، 3473، 4491.
وهذا الخبر، لم يذكره أبو جعفر في باب الديات من تفسيره، انظر ما سلف رقم: 10143، في ج 9: 50.(14/367)
ذلك، خيرًا لهم من النفاق (1) = (وإن يتولوا) ، يقول: وإن يدبروا عن التوبة، فيأتوها ويصرُّوا على كفرهم، (2) = (يعذبهم الله عذابًا أليمًا) ، يقول: يعذبهم عذابًا موجعًا في الدنيا، إما بالقتل، وإما بعاجل خزي لهم فيها، ويعذبهم في الآخرة بالنار. (3)
* * *
وقوله: (وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير) ، يقول: وما لهؤلاء المنافقين إن عذبهم الله عاجل الدنيا = (من ولي) ، يواليه على منعه من عقاب الله (4) = (ولا نصير) ينصره من الله فينقذه من عقابه. (5) وقد كانوا أهل عز ومنعة بعشائرهم وقومهم، يمتنعون بهم من أرادهم بسوء، فأخبر جل ثناؤه أن الذين كانوا يمنعونهم ممن أرادهم بسوء من عشائرهم وحلفائهم، لا يمنعونهم من الله ولا ينصرونهم منه، إن احتاجوا إلى نصرهم.
* * *
وذكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية تاب مما كان عليه من النفاق.
* ذكر من قال ذلك:
16984- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) ، قال: قال الجلاس: قد استثنى الله لي التوبة، فأنا أتوب. فقبل منه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
16985- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة عن أبيه: (فإن يتوبوا يك خيرًا لهم) ، الآية، فقال الجلاس:
__________
(1) انظر تفسير "التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة (توب) .
(2) انظر تفسير "التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(3) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .
(4) انظر تفسير "الولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(5) انظر تفسير "النصير" فيما سلف من فهارس اللغة (نصر) .(14/368)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77)
يا رسول الله، إني أرى الله قد استثنى لي التوبة، فأنا أتوب! فتابَ، فقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم منه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المنافقين الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم = (من عاهد الله) ، يقول: أعطى الله عهدًا (1) = (لئن آتانا من فضله) ، يقول: لئن أعطانا الله من فضله، ورزقنا مالا ووسَّع علينا من عنده (2) = (لنصدقن) ، يقول: لنخرجن الصدقة من ذلك المال الذي رزقنا ربُّنا (3) = (ولنكونن من الصالحين) ، يقول: ولنعملنّ فيها بعَمَل أهل الصلاح بأموالهم، من صلة الرحم به، وإنفاقه في سبيل الله. (4) يقول الله تبارك وتعالى: فرزقهم الله وأتاهم من فضله = (فلما آتاهم الله من فضله بخلوا به) ، بفضل الله الذي آتاهم، فلم يصدّقوا منه، ولم يصلوا منه قرابةً، ولم ينفقوا منه في حق الله = (وتولوا) ، يقول: وأدبروا عن عهدهم الذي عاهدوه الله (5) = (وهم معرضون) ، عنه (6) = (فأعقبهم)
__________
(1) انظر تفسير "عاهد" فيما سلف: ص 141، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "آتى"، و "الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة (أتى) و (فضل) .
(3) انظر تفسير " التصدق " فيما سلف 9: 31، 37، 38.
(4) انظر تفسير "الصالح" فيما سلف من فهارس اللغة (صلح) .
(5) انظر تفسير "التولي" فيما سلف من فهارس اللغة (ولي) .
(6) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف 13: 463، تعليق: 6، والمراجع هناك. ج 14 (24) .(14/369)
الله = (نفاقا في قلوبهم) ، ببخلهم بحق الله الذي فرضه عليهم فيما آتاهم من فضله، وإخلافهم الوعد الذي وعدُوا الله، ونقضهم عهدَه في قلوبهم (1) = (إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه) ، من الصدقة والنفقة في سبيله = (وبما كانوا يكذبون) ، في قيلهم، وحَرَمهم التوبة منه، لأنه جل ثناؤه اشترط في نفاقهم أنَّه أعقبهموه إلى يوم يلقونه، وذلك يوم مماتهم وخروجهم من الدنيا.
* * *
واختلف أهل التأويل في المعني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عُني بها رجل يقال له: "ثعلبة بن حاطب"، من الأنصار. (2)
* ذكر من قال ذلك:
16986- محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، الآية، وذلك أن رجلا يقال له: "ثعلبة بن حاطب"، من الأنصار، أتى مجلسًا فأشهدهم فقال: لئن آتاني الله من فضله، آتيت منه كل ذي حقٍّ حقه، وتصدّقت منه، ووصلت منه القرابة! فابتلاه الله فآتاه من فضله، فأخلف الله ما وعدَه، وأغضبَ الله بما أخلفَ ما وعده. فقصّ الله شأنه في القرآن: (ومنهم من عاهد الله) ، الآية، إلى قوله: (يكذبون) .
16987- حدثني المثنى قال، حدثنا هشام بن عمار قال، حدثنا محمد بن شعيب قال، حدثنا معان بن رفاعة السلمي، عن أبي عبد الملك علي بن يزيد الإلهاني: أنه أخبره عن القاسم بن عبد الرحمن: أنه أخبره عن أبي أمامة الباهلي، عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري، أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع
__________
(1) انظر تفسير " النفاق " فيما سلف ص: 358، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المخطوطة، وقف عند قوله: "يقال له"، ولم يذكر اسم الرجل، واستظهره الناشر الأول من الأخبار، وأصاب فيما فعل.(14/370)
الله أن يرزقني مالا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك يا ثعلبة، قليل تؤدِّي شكره، خير من كثير لا تطيقه! قال: ثم قال مرة أخرى، فقال: أما ترضى أن تكون مثل نبيِّ الله، فوالذي نفسي بيده، لو شئتُ أن تسيرَ معي الجبال ذهبًا وفضة لسارت! قال: والذي بعثك بالحق لئن دعوتَ الله فرزقني مالا لأعطينّ كلّ ذي حق حقه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم ارزق ثعلبه مالا! قال: فاتَّخذ غنمًا، فنمت كما ينمو الدُّود، فضاقت عليه المدينة، فتنحَّى عنها، فنزل واديًا من أوديتها، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة، ويترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت، فتنحّى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمو كما ينمو الدود، حتى ترك الجمعة. فطفق يتلقَّى الركبان يوم الجمعة، يسألهم عن الأخبار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما فعل ثعلبة؟ فقالوا: يا رسول الله، اتخذ غنمًا فضاقت عليه المدينة! فأخبروه بأمره، فقال: يا ويْحَ ثعلبة! يا ويح ثعلبه! يا ويح ثعلبة! قال: وأنزل الله: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) [سورة التوبة: 103] الآية، ونزلت عليه فرائض الصدقة، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة، رجلا من جهينة، ورجلا من سليم، وكتب لهما كيفَ يأخذان الصدقة من المسلمين، وقال لهما: مرَّا بثعلبة، وبفلان، رجل من بني سليم، فخذا صدقاتهما! فخرجا حتى أتيا ثعلبة، فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما هذه إلا جزية! ما هذه إلا أخت الجزية! ما أدري ما هذا! انطلقا حتى تفرُغا ثم عودا إليّ. فانطلقا، وسمع بهما السُّلمي، فنظر إلى خِيار أسنان إبله، فعزلها للصدقة، ثم استقبلهم بها. فلما رأوها قالوا: ما يجب عليك هذا، وما نريد أن نأخذ هذا منك. قال: بلى، فخذوه، (1) فإنّ نفسي بذلك طيّبة، وإنما هي لي! فأخذوها منه. فلما فرغا من صدقاتهما رجعا، حتى مرَّا بثعلبة، فقال: أروني كتابكما! فنظر فيه، فقال: ما هذه إلا أخت الجزية! انطلقا حتى أرى رأيي. فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآهما قال: يا ويح ثعلبة! قبل أن يكلِّمهما، ودعا للسلميّ بالبركة، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة، والذي صنع السلميّ، فأنزل الله تبارك وتعالى فيه: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) ، إلى قوله: (وبما كانوا يكذبون) ، وعند رسول الله رجلٌ من أقارب ثعلبة، فسمع ذلك، فخرج حتى أتاه، فقال: ويحك يا ثعلبة! قد أنزل الله فيك كذا وكذا! فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يقبل منه صدقته. فقال: إن الله منعني أن أقبل منك صدقتك! فجعل يَحْثِي على رأسه التراب، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني! فلما أبَى أن يقبض رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، رجع إلى منزله، وقُبِض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقبل منه شيئًا. ثم أتى أبا بكر حين اسْتخلِف، فقال: قد علمت منزلتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموضعي من الأنصار، فاقبل صدقتي! فقال أبو بكر: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أقبلها! فقُبِض أبو بكر، ولم يقبضها. فلما ولي عمر، أتاه فقال: يا أمير المؤمنين، اقبل صدقتي! فقال: لم يقبلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر، وأنا أقبلها منك! فقُبِض ولم يقبلها، ثم ولي عثمان رحمة الله عليه، فأتاه فسأله أن يقبل صدقته فقال: لم يقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر رضوان الله عليهما وأنا أقبلها منك! (2) فلم يقبلها منه. وهلك ثَعْلبة في خلافة عثمان رحمة الله عليه. (3)
16988- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، الآية: ذكر لنا أن رجلا من الأنصار أتى على مجلس من الأنصار، فقال: لئن آتاه الله مالا ليؤدِّين إلى كل ذي حقّ حقه! فآتاه الله مالا فصنع فيه ما تسمعون، قال: (فلما آتاهم من فضله بخلوا به) إلى قوله: (وبما كانوا يكذبون) . ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم حدَّث أن موسى عليه الصلاة والسلام لما جاء بالتوراة إلى بني إسرائيل، قالت بنو إسرائيل: إن التوراة كثيرة، وإنا لا نفرُغ لها، فسل لنا ربَّك جِماعًا من الأمر نحافظ عليه، ونتفرغ فيه لمعاشنا! (4) قال: يا قوم، مهلا مهلا!
__________
(1) " بلي " واستعمالها في غير جحد، قد سلف مرارًا، آخرها في رقم: 16305، ص: 67، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنا لا أقبلها"، والجيد حذف " لا " كما سلف في مقالة أبي بكر وعمر، وهو مطابق لما في أسد الغابة.
(3) الأثر: 16987 - "هشام بن عمار بن نصير السلمي"، ثقة، روى له البخاري، وأبو داود، والنسائي، وابن ماجه. وتكلموا فيه قالوا: لما كبر تغير. ومضى برقم: 11108. و " محمد بن شعيب بن شابور الأموي " ثقة، مضى برقم: 16987.
و"معان بن رفاعة السلمي" أو: "السلامي" وهو المشهور، لين الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 70، وفي إحدى نسخه "السلمي" كما جاء في الطبري، ولذلك تركته على حاله، وابن أبي حاتم.
و" علي بن يزيد الألهاني "، " أبو عبد الملك "، ضعيف بمرة، روى من القاسم بن عبد الرحمن صاحب أبي أمامة نسخة كبيرة، وأحاديثه هذه ضعاف كلها. مضى برقم: 11525.
و" القاسم بن عبد الرحمن الشامي "، تقدم بيان توثيقه، وأن ما أنكر عليه إنما جاء من قبل الرواة عنه الضعفاء، مضى برقم: 1939، 11525.
وأما ثعلبة بن حاطب الأنصاري، ففي ترجمته خلط كثير. أهو رجل واحد، أم رجلان؟ أولهما هو الذي آخى رسول الله بينه وبين معتب بن الحمراء، والذي شهد بدرًا وأحدًا. والآخر هو صاحب هذه القصة. يقال: إن الأول قتل يوم أحد. وجعلهما بعضهم رجلا واحدًا ونفوا أن يكون قتل يوم أحد. انظر ترجمته في الإصابة، والاستيعاب: 78، وأسد الغابة 1: 237، وابن سعد: 3 \ 2 \ 32.
وهذا الخبر رواه بهذا الإسناد، ابن الأثير في أسد الغابة 1: 237، 238، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 21، 32، وقال: " رواه الطبراني، وفيه علي بن يزيد الألهاني، وهو متروك ".
وهو ضعيف كل الضعف، ليس له شاهد من غيره، وفي بعض رواته ضعف شديد.
وهذا الخبر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 260، ونسبه إلى الحسن بن سفيان، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي الشيخ، والعسكري في الأمثال، والطبراني، وابن منده، والبارودي، وأبي نعيم في معرفة الصحابة، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل، وابن عساكر.
(4) في المطبوعة: "لمعايشنا"، وأثبت ما في المخطوطة.(14/371)
هذا كتاب الله، ونور الله، وعِصْمة الله! قال: فأعادوا عليه، فأعاد عليهم، قالها ثلاثًا. قال: فأوحى الله إلى موسى: ما يقول عبادي؟ قال: يا رب، يقولون: كيت وكيت. قال: فإني آمرهم بثلاثٍ إن حافظوا عليهن دخلوا بهن الجنة، أن ينتهوا إلى قسمة الميراثِ فلا يظلموا فيها، ولا يدخلوا أبصارَهم البيوت حتى يؤذن لهم، وأن لا يطعموا طعامًا حتى يتوضأوا وضوء الصلاة. قال: فرجع بهن نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى قومه، ففرحوا، ورأوا أنهم سيقومون بهن. قال: فوالله ما لبث القومُ إلا قليلا حتى جَنَحُوا وانْقُطِع بهم. فلما حدّث نبيُّ الله بهذا الحديث عن بني إسرائيل، قال: تكفَّلوا لي بستٍّ، أتكفل لكم بالجنة! قالوا: ما هنّ، يا رسول الله؟ قال: إذا حدثتم فلا تكذبوا، وإذا وعدتم فلا تُخْلفوا، وإذا اؤتمنتم فلا تخونوا، وكُفُّوا أبصاركم وأيديكم وفروجكم: أبصارَكم عن الخيانة، وأيديكم عن السرقة، وفروجكم عن الزِّنا.
16989- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ثلاثٌ من كن فيه صار منافقًا وإن صامَ وصلى وزعم أنه مُسلم: إذا حدث كذب، وإذا أؤتمن خان، وإذا وعد أخلف.
* * *
وقال آخرون: بل المعنيُّ بذلك: رجلان: أحدهما ثعلبة، والآخر معتب بن قشير.
* ذكر من قال ذلك:
16990- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) الآية، (1) وكان الذي عاهد الله منهم: ثعلبة بن حاطب، ومعتب بن قشير، وهما من بني
__________
(1) كان في المطبوعة: "من فضله، إلى الآخر"، وهو غريب جدًا، وفي المخطوطة: "من فضله الآخر"، وصواب قراءتها ما أثبت، وإنما سها الناسخ كعادته.(14/374)
عمرو بن عوف. (1)
16991- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، قال رجلان خرجا على ملأ قُعُود فقالا والله لئن رزقنا الله لنصدقن! فلما رزقهم بخلوا به.
16992- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبى نجيح، عن مجاهد: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، رجلان خرجا على ملأ قُعُود فقالا والله لئن رزقنا الله لنصدقن! فلما رزقهم بخلوا به، = (فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم بما أخلفوا الله ما وعدوه) ، حين قالوا: "لنصدقن"، فلم يفعلوا.
16993- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
16994- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) الآية، قال: هؤلاء صنف من المنافقين، فلما آتاهم ذلك بخلوا به، فلما بخلوا بذلك أعقبهم بذلك نفاقًا إلى يوم يلقونه، ليس لهم منه توبة ولا مغفرة ولا عفو، كما أصاب إبليس حين منعه التوبة.
* * *
وقال أبو جعفر: في هذه الآية، الإبانةُ من الله جل ثناؤه عن علامةِ أهل النفاق، أعني في قوله: (فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون) .
* * *
__________
(1) الأثر: 16990 - سيرة ابن هشام 4: 196، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16969.(14/375)
وبنحو هذا القول كان يقول جماعة من الصحابة والتابعين، ورُوِيت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)
* ذكر من قال ذلك:
16995- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد قال، قال عبد الله: اعتبروا المنافق بثلاثٍ: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدَر، وأنزل الله تصديقَ ذلك في كتابه: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، إلى قوله: (يكذبون) . (2)
16996- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك، عن صبيح بن عبد الله بن عميرة، عن عبد الله بن عمرو قال: ثلاث من كن فيه كان منافقًا: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان. قال: وتلا هذه الآية: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين) ، إلى آخر الآية. (3)
__________
(1) في المطبوعة: " ووردت به "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 16995 - " عمارة "، هو " عمارة بن عمير التيمي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 3294، 5789، 15359.
و" عبد الرحمن بن يزيد النخعي "، تابعي ثقة، روى له الجماعة. مضى برقم: 3294، 3295، 3299.
و" عبد الله "، إنما يعني " عبد الله بن مسعود ".
وهذا خبر صحيح الإسناد، موقوف على ابن مسعود، ولم أجده مرفوعًا عنه. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 108، بلفظه هذا، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح ". وذكر قبله حديثا نحوه، ليس فيه الآية: " عن عبد الله، يعني ابن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم "، ثم قال: " رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح ".
(3) الأثر: 16996 - هذا الخبر، يأتي بإسناد آخر بعده.
و" صبيح بن عبد الله بن عميرة " و " صبيح بن عبد الله العبسي "، في الذي يليه. وقد سلف برقم: 12741، 12742، وسلف أن البخاري ترجم له في الكبير 2 \ 2 \ 319، باسم " صبيح بن عبد الله "، زاد في الإسناد "العبسي"، وعلق المعلق هناك أنه في ابن ماكولا: " صبيح بن عبد الله بن عمير التغلبي " والذي قاله الطبري هنا " عميرة "، ولم أجد ما أرجح به، وترجم له في ابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 449، ولم يذكروا له رواية عن " عبد الله بن عمرو "، وكان في المطبوعة هنا " عبد الله بن عمر "، وأظنه خطأ، يدل عليه ما في الخبر بعده. (وانظر ما يلي) .
وهذا الخبر بهذا الإسناد نقله أخي السيد أحمد في شرحه على المسند، في مسند " عبد الله بن عمرو بن العاص " رقم: 6879، ثم قال: " ورواه الحافظ أبو بكر الفريابي في كتاب صفة النفاق (ص: 50 - 51) ، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن غندر، عن شعبة، عن سماك بن حرب، عن صبيح بن عبد الله، عن عبد الله بن عمرو "، ثم ساق الخبر بنحوه، ثم قال: " وهذا موقوف، وإسناده صحيح، وهو شاهد جيد لهذا الحديث، لأنه مثله مرفوع حكمًا. وصبيح بن عبد الله، بضم الصاد، تابعي كبير، أدرك عثمان وعليًا. وترجمه البخاري في الكبير 2 \ 2 \ 319، ولم يذكر فيه جرحًا ".
وحديث المسند، حديث مرفوع.
وحديث آية المنافق، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 1: 83، 84) من حديث أبي هريرة. وعبد الله بن عمرو. ورواه مسلم في صحيحه (2: 46 - 48) ، من حديث عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة.(14/376)
16997- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت صبيح بن عبد الله العبسيّ يقول: سألت عبد الله بن عمرو عن المنافق، فذكر نحوه. (1)
16998- حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو هشام المخزومي قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا عثمان بن حكيم قال، سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: كنت أسمع أن المنافق يعرف بثلاث: بالكذب، والإخلاف، والخيانة، فالتمستُها في كتاب الله زمانًا لا أجدُها، ثم وجدتها في اثنتين من كتاب الله، (2) قوله: (ومنهم من عاهد الله) حتى بلغ: (وبما كانوا يكذبون) ، وقوله: (إِنَّا عَرَضْنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة الأحزاب: 72] ، هذه الآية.
16999- حدثني القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا محمد المحرم قال: سمعت الحسن يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) الأثر: 16997 - "صبيح بن عبد الله العبسي"، انظر ما سلف رقم: 16996، وكان في المطبوعة والمخطوطة "القيسي" بالقاف والياء، وصححته من المراجع، ومما سلف رقم: 12741، 12742.
(2) في المطبوعة: "في آيتين" وأثبت ما في المخطوطة والذي رجح ذلك عندي، أن الذي ذكره بعد هذا، ثلاث آيات من سورة التوبة، وآية من سورة الأحزاب، فهذه أربعة. ولكنه أراد في سورتين من القرآن، أو نحو ذلك.(14/377)
ثلاث من كن فيه فهو منافق، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان، فقلت للحسن: يا أبا سعيد، لئن كان لرجل عليّ دين فلقيني فتقاضاني، وليس عندي، وخفت أن يحبسني ويهلكني، فوعدته أن أقضيه رأسَ الهلال، فلم أفعل، أمنافق أنا؟ قال: هكذا جاء الحديث! ثم حدّث عن عبد الله بن عمرو: أن أباه لما حضره الموت قال: زوِّجوا فلانًا، فإني وعدته أن أزوجه، لا ألقى الله بثُلُثِ النفاق! قال قلت: يا أبا سعيد، ويكون ثُلُث الرجل منافقًا، وثلثاه مؤمن؟ قال: هكذا جاء الحديث. قال: فحججت فلقيت عطاء بن أبي رباح، فأخبرته الحديثَ الذي سمعته من الحسن، وبالذي قلت له وقال لي، فقال لي: (1) أعجزت أن تقول له: أخبرني عن إخوة يوسف عليه السلام، ألم يعدوا أباهم فأخلفوه، وحدَّثوه فكذبوه، وأتمنهم فخانوه، أفمنافقين كانوا؟ ألم يكونوا أنبياء؟ أبوهم نبيٌّ، وجدُّهم نبي؟ قال: فقلت لعطاء: يا أبا محمد، حدِّثني بأصل النفاق، وبأصل هذا الحديث. فقال: حدثني جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قال هذا الحديث في المنافقين خاصَّة، الذين حدَّثوا النبي فكذبوه، وأتمنهم على سرّه فخانوه، ووعدوه أن يخرجوه معه في الغزو فأخلفوه. قال: وخرج أبو سفيان من مكة، فأتى جبريلُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه، واكتموا. قال: فكتب رجل من المنافقين إليه" "إن محمدًا يريدكم، فخذوا حذرَكم". فأنزل الله: (لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) ، [سورة الأنفال: 27] ، وأنزل في المنافقين: (ومنهم من عاهد الله لئن آتانا من فضله) ، إلى: (فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدو وبما كانوا يكذبون) ، فإذا لقيت الحسن فأقرئه السلام، وأخبره بأصل هذا الحديث، وبما قلت لك. قال: فقدمت على الحسن فقلت: يا أبا سعيد، إن أخاك عطاءً يقرئك السلام، فأخبرته بالحديث الذي حدث، وما قال لي، فأخذ الحسن بيدي فأشالها، (2) وقال: يا أهل العراق، أعجزتم أن تكونوا مثلَ هذا؟ سمع مني حديثًا فلم يقبله حتى استنبط أصله، صدق عطاء، هكذا الحديث، وهذا في المنافقين خاصة. (3)
17000- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا يعقوب، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ثلاث من كن فيه، وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم، فهو منافق. فقيل له: ما هي يا رسول الله؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان.
17001- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثنا مبشّر، عن الأوزاعي عن هارون بن رباب، عن عبد الله بن عمرو بن وائل: أنه لما حضرته الوفاة قال: إنّ فلانًا خطب إليّ ابنتي، وإني كنت قلت له فيها قولا شبيهًا بالعِدَة، والله لا ألقى الله بثُلُث النفاق، وأشهدكم أني قد زوَّجته. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " فقال "، أسقط " لي "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فأمالها"، وهو لا معنى له البتة. وفي المخطوطة: "فأسالها"، غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها. يقال: "شالت الناقة بذنبها وأشالته"، رفعته. ويقال: " أشال الحجر، وشال به، وشاوله "، رفعه، ويقال: " شال السائل بيديه "، إذا رفعهما يسأل بهما.
(3) الأثر: 16999 - " القاسم بن بشر بن أحمد بن معروف "، شيخ الطبري، مضى برقم: 10509، 10531.
و" شبابة "، هو " شبابة بن سوار الفزاري "، روى له الجماعة، مضى برقم: 12851، وقبله. وكان في المطبوعة: " أسامة "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فحرفه تحريفًا منكرًا. و " محمد المحرم "، هو " محمد بن عمر المحرم " ويقال هو: " محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي "، وهو منكر الحديث. سلف بيان حاله برقم: 15922، تفصيلا، ومواضع ترجمته. وكان في المطبوعة: " محمد المخرمي "، غير ما في المخطوطة بلا دليل ولا بيان، وهو إساءة وخطأ. وهذا خبر منكر جدًا، أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير 1 \ 1 \ 248 في ترجمة " محمد المحرم "، قال: " عن عطاء، والحسن. منكر الحديث: إذا وعد أخلف، سمع منه شبابة "، يعني هذا الخبر.
(4) الأثر: 17001 - "مبشر"، هو "مبشر بن إسماعيل الحلبي"، ثقة، من شيوخ أحمد، روى له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 11، وابن أبي حاتم 4 \ 1 \ 343. وكان في المطبوعة: "ميسرة"، تصرف تصرفًا معيبًا، وفي المخطوطة: "مسر" غير منقوطة.
و"هارون بن رياب التميمي الأسيدي"، كان من العباد ممن يخفي الزهد. ثقة. قال ابن حزم: " اليمان، وهارون، وعلي، بنو رياب = كان هارون من أهل السنة، واليمان من أئمة الخوارج، وعلي من أئمة الروافض، وكانوا متعادين كلهم "! ! مترجم في التهذيب، والكبير 4 \ 2 \ 219، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 89.
وأما " عبد الله بن عمرو بن وائل "، فهذا غريب ولكنه صحيح، فإنه " عبد الله بن عمرو بن العاص بن وائل "، فلا أدري لما فعل ذلك في سياق اسمه، إلا أن يكون سقط من الناسخ.
هذا، وقد كان الإسناد في المطبوعة هكذا: " حدثنا القاسم، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح، قال حدثنا ميسرة "، وقد صححت " ميسرة " قبله، أما " قال حدثني حجاج عن ابن جريج "، فقد كتبها ناسخ المخطوطة، ولكنه ضرب عليها ضربات بالقلم، يعني بذلك حذفه، ولكن الناشر لم يعرف اصطلاحهم في الضرب على الكلام، فأثبت ما حذفته.(14/378)
وقال قوم: كان العهد الذي عاهد الله هؤلاء المنافقون، شيئًا نووه في أنفسهم، ولم يتكلموا به.
* ذكر من قال ذلك:
17002- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: سمعت معتمر بن سليمان التيمي يقول: ركبت البحرَ، فأصابنا ريحٌ شديدة، فنذر قوم منا نذورًا، ونويت أنا، لم أتكلم به. فلما قدمت البصرة سألت أبي سليمانَ فقال لي: يا بُنَيّ، فِ به. (1)
= قال معتمر: وحدثنا كهمس، عن سعيد بن ثابت قال قوله: (ومنهم من عاهد الله) ، الآية، قال: إنما هو شيء نووه في أنفسهم ولم يتكلموا به، ألم تسمع إلى قوله: (ألم يعلموا أن الله يعلم سِرَّهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب) ؟ (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فه به"، ولا يقال ذلك إلا عند الوقف، والصواب "ف" على حرف واحد، أمرًا من "وفى يفي". وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 17002 - "كهمس بن الحسن التميمي"، ثقة، روى له الجماعة، مترجم في التهذيب، والكبير 4\ 1 \ 239، وابن أبي حاتم 3 \ 2 \ 170.
و"سعيد بن ثابت"، هكذا هو في المخطوطة، ولم أجد له ذكرًا فيما بين يدي من كتب الرجال، وأخشى أن يكون قد دخله تحريف.(14/380)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلامُ الْغُيُوبِ (78) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ألم يعلم هؤلاء المنافقون الذين يكفرون بالله ورسوله سرًّا، ويظهرون الإيمان بهما لأهل الإيمان بهما جهرًا = (أن الله يعلم سرهم) ، الذي يسرُّونه في أنفسهم، من الكفر به وبرسوله = (ونجواهم) ، يقول: "ونجواهم"، إذا تناجوا بينهم بالطعن في الإسلام وأهله، وذكرِهم بغير ما ينبغي أن يُذكروا به، فيحذروا من الله عقوبته أن يحلَّها بهم، وسطوته أن يوقعها بهم، على كفرهم بالله وبرسوله، وعيبهم للإسلام وأهله، فينزعوا عن ذلك ويتوبوا منه = (وأن الله علام الغيوب) ، يقول: ألم يعلموا أن الله علام ما غاب عن أسماع خلقه وأبصارهم وحواسّهم، مما أكنّته نفوسهم، فلم يظهرْ على جوارحهم الظاهرة، فينهاهم ذلك عن خداع أوليائه بالنفاق والكذب، ويزجرهم عن إضمار غير ما يبدونه، وإظهار خلاف ما يعتقدونه؟ (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الذين يلمزون المطوّعين في الصدقة على أهل المسكنة والحاجة، بما لم يوجبه الله عليهم في أموالهم، ويطعنون فيها عليهم
__________
(1) انظر تفسير "علام الغيوب" فيما سلف 11: 238، تعليق: 1، والمراجع هناك.(14/381)
بقولهم: "إنما تصدقوا به رياءً وسُمْعة، ولم يريدوا وجه الله" (1) = ويلمزون الذين لا يجدون ما يتصدَّقون به إلا جهدهم، وذلك طاقتهم، فينتقصونهم ويقولون: "لقد كان الله عن صدقة هؤلاء غنيًّا! " سخريةً منهم بهم = (فيسخرون منهم سخر الله منهم) .
* * *
وقد بينا صفة "سخرية الله"، بمن يسخر به من خلقه، في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته ههنا. (2)
* * *
= (ولهم عذاب أليم) ، يقول: ولهم من عند الله يوم القيامة عذابٌ موجع مؤلم. (3)
* * *
وذكر أن المعنيّ بقوله: (المطوعين من المؤمنين) ، عبد الرحمن بن عوف، وعاصم بن عدي الأنصاري = وأن المعنيّ بقوله: (والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، أبو عقيل الأراشيّ، أخو بني أنيف.
* ذكر من قال ذلك:
17003- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام، فقال بعض المنافقين: والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياءً! وقالوا: إن كان الله ورسولُه لَغنِيّيْنِ عن هذا الصاع!
__________
(1) انظر تفسير "اللمز" فيما سلف ص: 300، 301.
= وانظر تفسير "التطوع" فيما سلف 3: 247، 441، وسيأتي تفسيره بعد قليل ص: 392، 393.
(2) لم يمض تفسير "سخر"، وإنما عني أبو جعفر قوله تعالى في سورة البقرة: (الله يستهزئ بهم) ، انظر ما سلف 1: 301 - 306.
(3) انظر تفسير "أليم" فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .(14/382)
17004- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الناس يومًا فنادى فيهم: أن أجمعوا صدقاتكم! فجمع الناس صدقاتهم. ثم جاء رجل من آخرهم بِمَنٍّ من تمر، (1) فقال: يا رسول الله، هذا صاع من تمرٍ، بِتُّ ليلتي أجرُّ بالجرير الماءَ، (2) حتى نلت صاعين من تمرٍ، فأمسكت أحدَهما، وأتيتك بالآخر. فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينثره في الصدقات. فسخر منه رجال وقالوا: والله إن الله ورسوله لغنيَّان عن هذا! وما يصنعان بصاعك من شيء"! ثم إن عبد الرحمن بن عوف، رجل من قريش من بني زهرة، قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هل بقي من أحد من أهل هذه الصدقات؟ فقال: لا! فقال عبد الرحمن بن عوف: إن عندي مئة أوقية من ذهب في الصدقات. فقال له عمر بن الخطاب: أمجنون أنت؟ فقال: ليس بي جنون! فقال: فعلِّمنا ما قلت؟ (3) قال: نعم! مالي ثمانية آلاف، أما أربعة آلافٍ فأقرضها ربيّ، وأما أربعة آلاف فلي! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت! وكره المنافقون فقالوا: "والله ما أعطى عبد الرحمن عطيَّته إلا رياءً "! وهم كاذبون، إنما كان به متطوِّعًا. فأنزل الله عذرَه وعذرَ صاحبه المسكين الذي جاء بالصاع من التمر، فقال الله في كتابه: (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات) ، الآية.
__________
(1) في المطبوعة: "من أحوجهم بمن من تمر"، غير ما في المخطوطة بلا طائل، و "المن" مكيال.
(2) "الجرير"، الحبل، وأراد أنه أنه كان يسقي الماء بالحبل.
(3) في المطبوعة: "أتعلم ما قلت"، وفي المخطوطة: "أفعلمنا ما قلت"، وهذا صواب قراءتها.(14/383)
17005- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين) ، قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بصدقة ماله أربعة آلاف، فلمزه المنافقون وقالوا: "راءَى" = (والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، قال: رجل من الأنصار آجرَ نفسه بصاع من تمر، لم يكن له غيره، فجاء به فلمزوه، وقالوا: كان الله غنيًّا عن صاع هذا!
17006- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
17007- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
17008- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين) ، الآية، قال: أقبل عبد الرحمن بن عوف بنصف ماله، فتقرَّب به إلى الله، فلمزه المنافقون فقالوا: ما أعطى ذلك إلا رياء وسمعة! فأقبل رجل من فقراء المسلمين يقال له "حبحاب، أبو عقيل" (1)
__________
(1) "حبحاب"، ذكره ابن حجر في الإصابة في "حبحاب". ثم قال: "قليل فيه بموحدتين، والأشهر بمثلثتين، وسيأتي" ولم يذكره في "حثحاث" كما يدل عليه تعقيبه هذا، وإنما ذكره في "جثجاث" بالجيم والثاء المثلثة فيما سلف قبله، وقال هناك: "قيل: هو اسم أبي عقيل، صاحب الصاع، ضبطه السهيلي تبعًا لابن عبد البر، وضبطه غير بالحاء المهملة. وقيل في اسمه غير ذلك. وتأتي ترجمته في الكنى" بيد أن الحافظ ابن حجر قال في فتح الباري 8: 249 "وذكر السهيلي أنه رآه بخط بعض الحفاظ مضبوطًا بجيمين".
ولم أجد في الاستيعاب لابن عبد البر ضبطًا له، وهو مترجم هناك في "أبو عقيل صاحب الصاع" ص: 673، وهو في مطبوعة الاستيعاب بالحاء والثاء المثلثة من ضبط مصححه. وفي السهيلي (الروض الأنف 2: 331) : "جثجاث"، بالجيم والثاء.
وأما صاحب أسد الغابة فترجم له في " أبو عقيل، صاحب الصاع " (5: 257) ، ولم يضبطه، وهو محرف في المطبوعة. ولكنه أورده في "حبحاب" (بالحاء والباء) ، وقال: هو أبو عقيل الأنصاري. أسد الغابة 1: 366.
وترجم له ابن سعد في الطبقات 3 \ 2 \ 41 في "بني أنيف بن جشم بن عائذ الله، من بلى، حلفا بني جحجبا بن كلفة" وقال: " أبو عقيل، واسمه عبد الرحمن الإراشي الأنيفي "، ولم يذكر خبر الصاع.
هذا، وقد استوفى الحافظ ابن حجر في فتح الباري 8: 249، ذكر " أبي عقيل "، فذكر الاختلاف في صاحب الصاع، وهذا ملخصه:
الأول: أنه " الحبجاب، أبو عقيل "، وذكر ما رواه الطبري هنا وفيما سيأتي، وما رواه غيره.
الثاني: أنه " سهل بن رافع "، وحجته فيه، خبر رواه الطبراني في الأوسط من طريق سعيد بن عثمان البلوي، " عن جدته بنت عدي أن أمهما عميرة بنت سهل بن رافع صاحب الصاع الذي لمزه المنافقون "، وهكذا قال ابن الكلبي.
الثالث: من طريق عكرمة: أنه " رفاعة بن سهل بن رافع "، وقال: وعند أبي حاتم " رفاعة بن سعد "، ويحتمل أن يكون تصحيفًا، ويحتمل أن يكون اسم " أبي عقيل " " سهل "، ولقبه " حبحاب " = أو هما اثنان من الصحابة.
الرابع: في الصحابة " أبو عقيل بن عبد الله بن ثعلبة البلوي "، بدري، لم يسمه موسى ابن عقبة، ولا ابن إسحاق، وسماه الواقدي " عبد الرحمن ". قال: واستشهد باليمامة. قال: وكلام الطبري يدل على أنه هو صاحب الصاع عنده. وتبعه بعض المتأخرين، والأول أولى.
الخامس: أنه "عبد الرحمن بن سمحان"؟ ؟ (هكذا جاء) .
السادس: أن صاحب الصاع هو "أبو خيثمة": " عبد الله بن خشيمة، من بني سالم، من الأنصار"، ودليله ما جاء في حديث توبة كعب بن مالك، وانظر الأثر رقم: 17016.
السابع: عن الواقدي أن صاحب الصاع، هو "علية بن زيد المحاربي".
وقال الحافظ: " وهذا يدل على تعدد من جاء بالصاع ".
وهذا اختلاف شديد، يحتاج إلى فضل تحقيق ومراجعة، قيدته هنا ليكون تذكرة لمن أراد تتبعه وتحقيقه.(14/384)
فقال: يا نبي الله، بتُّ أجرُّ الجرير على صاعين من تمر، أما صاع فأمسكته لأهلي، وأما صاع فها هو ذا! فقال المنافقون: "والله إن الله ورسوله لغنيَّان عن هذا". فأنزل الله في ذلك القرآن: (الذين يلمزون) ، الآية.
17009- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، قال: تصدق عبد الرحمن بن عوف بشطر ماله، وكان ماله ثمانية آلاف دينار، فتصدق بأربعة آلاف دينار، فقال ناس من المنافقين: إن عبد الرحمن بن عوف لعظيم الرياء! فقال الله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) = وكان لرجل صاعان من تمر، فجاء بأحدهما، فقال ناس من المنافقين: إن(14/385)
كان الله عن صاع هذا لغنيًّا! فكان المنافقون يطعنون عليهم ويسخرون بهم، فقال الله: (والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) .
17010- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي قال، حدثنا أبو عوانة، عن [عمر بن] أبي سلمة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: تصدقوا، فإني أريد أن أبعث بعثًا. قال: فقال عبد الرحمن بن عوف: يا رسول الله، إن عندي أربعة آلاف، ألفين أقرضهما الله، وألفين لعيالي. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله لك فيما أعطيت، وبارك لك فيما أمسكت! فقال رجل من الأنصار: وإن عندي صاعين من تمرٍ، صاعًا لربي، وصاعًا لعيالي! قال: فلمز المنافقون وقالوا: ما أعطى ابن عوف هذا إلا رياءً! وقالوا: أو لم يكن الله غنيًّا عن صاع هذا! فأنزل الله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين) ، إلى آخر الآية. (1)
17011- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن
__________
(1) الأثر: 17010 - " أبو عوانة "، هو "الوضاح بن عبد الله اليشكري"، ثقة روى له الجماعة، مضى برقم: 4498، 10336، 10337.
و"عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف"، يضعف، مضى مرارًا، آخرها رقم: 12755. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أبو عوانة، عن أبي سلمة"، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه من إسناده في تفسير ابن كثير، ومن مجمع الزوائد.
وأبوه "أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف"، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها: 12822.
خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 32، عن أبي سلمة، وعن أبي هريرة، ثم قال: "رواه البزار من طريقين: إحداهما متصلة عن أبي هريرة، والأخرى عن أبي سلمة مرسلة. قال: ولم نسمع أحدًا أسنده من حديث عمر بن أبي سلمة، إلا طالوت بن عباد. وفيه عمر بن أبي سلمة، وثقه العجلي، وأبو خيثمة وابن حبان، وضعفه شعبة وغيره. وبقية رجالهما ثقات".
وحديث البزار رواه ابن كثير في تفسيره 4: 212، 213، وهذا إسناده: "قال الحافظ أبو بكر البزار، حدثنا طالوت بن عباد، حدثنا أبو عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة"، وساق الخبر. ثم قال ابن كثير: "ثم رواه عن أبي كامل، عن أبي عوانة، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه مرسلا. قال: ولم يسنده أحد إلا طالوت".(14/386)
بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، قال: أصاب الناس جَهْدٌ شديد، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتصدَّقوا، فجاء عبد الرحمن بأربعمائة أوقية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم بارك له فيما أمسك. فقال المنافقون: ما فعل عبد الرحمن هذا إلا رياء وسمعة! قال: وجاء رجل بصاع من تمر، فقال: يا رسول الله آجرت نفسي بصاعين، فانطلقت بصاع منهما إلى أهلي، وجئت بصاع من تمر. فقال المنافقون: إن الله غنىٌّ عن صاع هذا! فأنزل الله هذه الآية: (والذين لا يجدون إلا جهدهم فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) . (1)
17012- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، الآية، وكان المطوعون من المؤمنين في الصدقات، (2) عبد الرحمن بن عوف، تصدق بأربعة آلاف دينار، وعاصم بن عدي أخا بني العَجلان، (3) وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغَّب في الصدقة، وحضَّ عليها، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف درهم، وقام عاصم بن عدي فتصدق بمئة وَسْقٍ من تمر، فلمزوهما وقالوا: ما هذا إلا رياء! وكان الذي تصدّق بجهده: أبو عقيل، أخو بني أنيف، الأراشي، حليف بني عمرو بن عوف، (4) أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة، فتضاحكوا به وقالوا: إن الله لغنيٌّ عن صاع أبي عقيل!! (5)
__________
(1) الأثر: 17011 - " عبد الرحمن بن سعد "، هو "عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد الدشتكي الرازي"، مضى برقم: 10666، 10855.
(2) في المطبوعة: "من المطوعين"، وكان في المخطوطة قد كتب "وكان المطوعين"، ثم عاد بالقلم على الياء فجعلها واوًا، فتصرف الناشر ولم يبال بفعل الناسخ. والذي أثبته مطابق لما في السيرة. ولذلك غير الناسخ ما بعده فكتب، "أخو بني العجلان"، غير ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "أخو بني عجلان"، تصرف تصرفًا معيبًا.
(4) قوله: "الأراشي، حليف بني عمر بن عوف"، ليس في المطبوع من سيرة ابن هشام، وانظر التعليق السالف ص: 384، رقم: 1.
(5) الأثر: 17012 - سيرة ابن هشام 4: 196، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16990.(14/387)
17013- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله قال، حدثنا شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود قال: لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل (1) = قال أبو النعمان: كنا نعمل = قال: فجاء رجل فتصدق بشيء كثير. قال: وجاء رجل فتصدق بصاع تمر، فقالوا: إن الله لغنيٌّ عن صاع هذا! فنزلت: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) . (2)
17014- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة قال، حدثني خالد بن يسار، عن ابن أبي عقيل، عن أبيه قال: بتُّ أجرُّ الجرير على ظهري على صاعين من تمر (3) فانقلبتُ بأحدهما إلى أهلي يتبلَّغون به، (4) وجئت بالآخر أتقرَّب به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. (5) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال: انثره في الصدقة. فسخر المنافقون منه. وقالوا:
__________
(1) قوله "كنا نحامل"، من "المحاملة" وفسره الحافظ ابن حجر في الفتح فقال: "أي نحمل على ظهورنا بالأجرة. يقال: حاملت، بمعنى: حملت، كسافرت. وقال الخطابي: يريد: نتكلف الحمل بالأجرة، لنكسب ما نتصدق به. ويؤيده في الرواية الثانية التي بعده - يعني في البخاري - حيث قال: انطلق أحدنا إلى السوق فيحامل، أي: يطلب الحمل بالأجرة ".
ويبين هذا أيضًا، تفسير أبي النعمان بقوله: " كنا نعمل "، وهو تفسير فيما أرجح، لا رواية أخرى في الخبر.
(2) الأثر: 17013 - " أبو النعمان "، " الحكم بن عبد الله الأنصاري "، ثقة، قال البخاري: "حديثه معروف، كان يحفظ". وليس له في صحيح البخاري غير هذا الحديث. مترجم في التهذيب.
و" أبو مسعود "، هو " أبو مسعود الأنصاري البدري "، واسمه " عقبة بن عمرو بن ثعلبة "، صاحب رسول الله، شهد العقبة. وكان في المخطوطة: " عن ابن مسعود "، وهو خطأ صرف.
وهذا الخبر، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 224) من طريق عبيد الله بن سعيد، عن أبي النعمان الحكم بن عبد الله البصري بمثله، وفيه زيادة بعد قوله: "بشيء كثير"، هي "فقالوا: مرائي".
ثم رواه البخاري أيضًا في صحيحه (الفتح 8: 249) من طريق بشر بن خالد، عن محمد بن جعفر، عن شعبة عن سليمان، عن أبي وائل، عن أبي مسعود، بغير هذا اللفظ، وفيه التصريح باسم " أبي عقيل " الذي أتى بنصف صاع. ومن هذه الطريق رواه مسلم في صحيحه 7: 105. ثم انظر: ص: 389، تعليق رقم: 1.
(3) "الجرير": الحبل، وسلف شرحه ص: 383، تعليق: 2.
(4) " تبلغ ببعض الطعام "، أي: اكتفى به من كثيره، حتى يبلغ ما يشبعه.
(5) قوله: " إلى رسول الله "، متعلق بقوله: " جئت "، لا بقوله: " أتقرب به "، أي: جئت به إلى رسول الله، أتقرب به إلى الله.(14/388)
لقد كان الله غنيًّا عن صدقة هذا المسكين! فأنزل الله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، الآيتين. (1)
17015- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا الجريري، عن أبي السليل قال: وقف على الحيّ رجل، (2) فقال: حدثني أبي أو عمي فقال: شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: من يتصدق اليوم بصدقة أشهدُ له بها عند الله يوم القيامة؟ قال: وعليّ عمامة لي. قال: فنزعت لَوْثًا أو لوثيْن لأتصدق بهما، (3) قال: ثم أدركني ما يدرك ابن آدم، فعصبت بها رأسي. قال: فجاء
__________
(1) الأثر: 17014 - "موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي"، ضعيف بمرة، لا تحل الرواية عنه، كما قال أحمد. مضى مرارًا، آخرها رقم: 11811.
وأما "خالد بن يسار"، الذي روى عن ابن أبي عقيل، وروى عنه "موسى بن عبيدة"، فلم أجد له ترجمة ولا ذكرا. وهناك "خالد بن يسار"، روى عن أبي هريرة، روى عنه شعيب بن الحبحاب، ولا أظنه هو هو، وهذا أيضا قالوا: هو مجهول.
وأما " ابن أبي عقيل "، فاسمه " رضى بن أبي عقيل "، مترجم في الكبير 2\ 1\ 313، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 523، قالا: " روى عن أبيه، وروى عن محمد بن فضيل " ولم يذكر فيه جرحًا.
و"أبو عقيل"، مضى ذكره، وهو مترجم في الكنى للبخاري: 62، وابن أبي حاتم 4 \ 2 \ 416، وقالا: روى عنه ابنه: رضى بن أبي عقيل.
وهذا خبر ضعيف الإسناد جدًا، لضعف "موسى بن عبيدة"، وللمجهول الذي فيه، وهو " خالد بن يسار ".
بيد أن الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 32، 33، روى هذا الخبر، بنحو لفظه، ثم قال: " رواه الطبراني، ورجاله ثقات، إلا خالد بن يسار، لم أجد من وثقه ولا جرحه ". فلا أدري أرواه عن " خالد بن يسار "، أحد غير " موسى بن عبيدة " في إسناد الطبراني، أم رواه " موسى بن عبيدة "، فإن يكن " موسى " هو راويه، فقد سلف مرارًا أن ضعفه الهيثمي. والظاهر أنه من رواية " موسى " لأني رأيت ابن كثير في تفسيره 4: 213، نقل هذا الخبر عن الطبري، ثم قال: " وكذا رواه الطبراني من حديث زيد بن الحباب، به. وقال: اسم أبي عقيل حباب (حبحاب) ، ويقال: عبد الرحمن بن عبد الله بن ثعلبة " (انظر ص: 383، تعليق: 2) ، فهذا دال على أن في إسناد الطبراني "موسى بن عبيدة"، الضعيف بمرة.
(2) في المسند: "وقف علينا رجل في مجلسنا بالبقيع"، واختلف لفظ الخبر بعد.
(3) " لاث العمامة على رأسه، يلوثها " أي: عصبها ولفها وأدارها. و " اللوث " اللفة من لفائف العمامة.(14/389)
رجل لا أرى بالبقيع رجلا أقصرَ قِمَّة، (1) ولا أشدَّ سوادًا، ولا أدَمَّ بعينٍ منه، (2) يقود ناقة لا أرى بالبقيع أحسن منها ولا أجمل منها. قال: أصدقةٌ هي، يا رسول الله؟ قال: نعم! قال: فدُونَكها! (3) فألقى بخطامها = أو بزمامها (4) = قال: فلمزه رجل جالسٌ فقال: والله إنه ليتصدّق بها، ولهي خيرٌ منه! فنظر إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم فقال: بل هو خير منك ومنها! (5) يقول ذلك ثلاثًا صلى الله عليه وسلم. (6)
17016- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك يقول: الذي تصدّق بصاع التمر فلمزه المنافقون: "أبو خيثمة الأنصاري". (7)
__________
(1) " القمة " بالكسر، شخص الإنسان إذا كان قائمًا، وهي " القامة ". وهذا هو المراد هنا. و " القمة " أيضا، رأس الإنسان، وليس بمراد هنا.
(2) في المطبوعة: " ولا أذم لعيني منه "، وهو فاسد، غير ما في المخطوطة. وهذه الجملة في مسند أحمد محرفة: " ولا آدم يعير بناقة "، وفي تفسير ابن كثير نقلا عن المسند: " ولا أذم ببعير ساقه "، فزاده تحريفا. والصواب ما في تفسير الطبري.
" ولا أدم " من " الدمامة "، " دم الرجل يدم دمامة "، وهو القصر والقبح. وفي حديث ابن عمر: " لا يزوجن أحدكم ابنته بدميم ".
(3) " دونكها "، أي: خذها.
(4) في المخطوطة: " فألقى الله بخطامها أبو بزمامها "، وهو خطأ ظاهر، صوابه ما أثبت. ولكن ناشر المطبوعة حذف فكتب: " فألقى بخطامها ".
(5) في المطبوعة والمخطوطة: " يقول ذلك نبينا صلى الله عليه وسلم "، وهو تحريف من الناسخ، وصوابه ما أثبت، وذلك أنه رأى في النسخة التي نقلنا عنها: " يقول ذلك ثلثا " فقرأها " نبينا "، وصوابه " ثلثا "، كما كانوا يكتبونها بحذف الألف. واستظهرت ذلك من حديث أحمد في المسند قال: " ثلاث مرات ".
(6) الأثر: 1715 - "أبو السليل"، هو: "ضريب بن نقير بن سمير القيسي الجريري"، ثقة. روى عن سعيد الجريري وغيره. مترجم في التهذيب، والكبير 2 \ 2 \ 343، وابن أبي حاتم 2 \ 1 \ 470.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 5: 34، ونقله عن ابن كثير في تفسيره 4: 211، 212، بزيادة، واختلاف في بعض لفظه، كما أشرت إليه آنفًا في التعليقات.
(7) الأثر: 17016 - "عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك الأنصاري"، ثقة. مضى برقم: 16147. وانظر ما سلف ج 13: 567، تعليق: 1.(14/390)
17017- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن رجاء أبو سهل العباداني قال، حدثنا عامر بن يساف اليمامي، عن يحيى بن أبي كثير اليمامي قال: جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعة آلاف درهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله مالي ثمانية آلاف، جئتك بأربعة آلاف، فاجعلها في سبيل الله، وأمسكت أربعة آلاف لعيالي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت! وجاء رجل آخر فقال: يا رسول الله، بتُّ الليلة أجرُّ الماء على صاعين، فأما أحدهما فتركت لعيالي وأما الآخر فجئتك به، أجعله في سبيل الله، فقال: بارك الله فيما أعطيت وفيما أمسكت! فقال ناس من المنافقين: والله ما أعطى عبد الرحمن إلا رياءً وسمعة، ولقد كان الله ورسوله غنيَّين عن صاع فلان! فأنزل الله: (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات) ، يعني عبد الرحمن بن عوف: (والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، يعني صاحب الصاع = (فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) . (1)
17018- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال، قال ابن عباس: أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين أن يجمعوا صدَقاتهم، وإذا عبد الرحمن بن عوف قد جاء بأربعة آلاف، فقال: هذا مالي أقرِضُه الله، وقد بقي لي مثله. فقال له: بورك لك فيما أعطيت وفيما أمسكت! فقال المنافقون: ما أعطى إلا رياءً، وما أعطى صاحبُ الصّاع إلا رياءً، إن كان الله ورسوله لغنيين عن هذا! وما يصنع الله بصاع من شيء!
__________
(1) الأثر: 17017 - "ومحمد بن رجاء"، "أبو سهل العباداني"، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من المراجع.
و" عامر بن يساف اليمامي"، وهو " عامر بن عبد الله بن يساف " وثقه ابن معين وغيره، وقال ابن عدي: " منكر الحديث عن الثقات. ومع ضعفه يكتب حديثه ". مترجم في ابن أبي حاتم 3 \ 1 329، وميزان الاعتدال 2: 7، وتعجيل المنفعة: 206، ولسان الميزان 3: 224.
و" يحيى بن أبي كثير اليمامي "، ثقة، روى له الجماعة، مضى مرارًا، آخرها رقم: 12760.(14/391)
17019- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات) ، إلى قوله: (ولهم عذاب أليم) ، قال: أمر النبي عليه الصلاة والسلام المسلمين أن يتصدّقوا، فقام عمر بن الخطاب: فألفَى ذلك مالي وافرًا، فآخذ نصفه. (1)
قال: فجئت أحمل مالا كثيرًا. فقال له رجل من المنافقين: ترائِي يا عمر! فقال: نعم، أرائي الله ورسوله، (2) وأما غيرهما فلا! قال: ورجلٌ من الأنصار لم يكن عنده شيء، فواجَرَ نفسه ليجرّ الجرير على رقبته بصاعين ليلته، (3) فترك صاعًا لعياله، وجاء بصاع يحمله، فقال له بعض المنافقين: إن الله ورسوله عن صاعك لغنيَّان! فذلك قول الله تبارك وتعالى: (الذين يلمزون المطوّعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم) ، هذا الأنصاري = (فيسخرون منهم سخر الله منهم ولهم عذاب أليم) .
* * *
وقد بينا معنى "اللمز" في كلام العرب بشواهده وما فيه من اللغة والقراءة فيما مضى. (4)
* * *
وأما قوله: (المطوّعين) ، فإن معناه: المتطوعين، أدغمت التاء في
__________
(1) في المطبوعة: " فقام عمر بن الخطاب، فألفى مالا وافرًا، فأخذ نصفه "، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة، فحرف وبدل وحذف، وأساء بما فعل غاية الإساءة. وإنما هذا قول عمر، يقول: فألفى هذا الأمر بالصدفة، مالي وافرا، فآخذ نصفه.
(2) في المطبوعة: " فقال عمر: أراني الله. . .، وفي المخطوطة: " فقال نعم: إن الله ورسوله "، لم يحسن كتابتها، وأثبت الصواب من الدر المنثور 3: 263.
(3) في المطبوعة: "فآجر نفسه"، وهي الصواب المحض، من قولهم: " أجر المملوك يأجره أجرًا، فهو مأجور" و "آجره إيجارًا، ومؤاجرة". وأما ما أثبته عن المخطوطة، فليس بفصيح، وإنما هو قياس ضعيف على قولهم في: "آمرته"، "وأمرته"، وقولهم في "آكله"، "وأكله" على البدل، وذلك كله ليس بفصيح ولا مرضي. وإنما أثبتها لوضوحها في المخطوطة، ولأنه من الكلام الذي يقال مثله.
(4) انظر تفسير "اللمز" فيما سلف ص: 300، 301، 382.(14/392)
الطاء، فصارت طاء مشددة، كما قيل: (وَمَنْ يَطَّوَّعْ خَيْرًا) [سورة البقرة: 158] ، (1) يعني: يتطوّع. (2)
* * *
وأما "الجهد"، فإن للعرب فيه لغتين. يقال: "أعطاني من جُهْده"، بضم الجيم، وذلك فيما ذكر، لغة أهل الحجاز = ومن "جَهْدِه" بفتح الجيم، وذلك لغة نجد. (3)
وعلى الضم قراءة الأمصار، وذلك هو الاختيار عندنا، لإجماع الحجة من القرأة عليه.
وأما أهل العلم بكلام العرب من رواة الشعر وأهل العربية، فإنهم يزعمون أنها مفتوحة ومضمومة بمعنى واحد، وإنما اختلاف ذلك لاختلاف اللغة فيه، كما اختلفت لغاتهم في "الوَجْد"، "والوُجْد" بالضم والفتح، من: "وجدت". (4)
* * *
وروي عن الشعبي في ذلك ما:-
17020- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن المغيرة، عن الشعبي قال: "الجَهْدُ"، و"الجُهْد"، الجَهْدُ في العمل، والجُهْدُ في القوت. (5)
17021- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن عيسى بن المغيرة، عن الشعبي، مثله.
__________
(1) هذه القراءة، ذكرها أبو جعفر فيما سلف 3: 247، وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين.
وأما قراءتنا في مصحفنا اليوم: (ومن تطوع خيرا) .
(2) انظر تفسير " التطوع " فيما سلف 3: 247، 441 \ 14: 382، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 447.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 447،ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 264، وما سلف ص: 382.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 447،ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 264، وما سلف ص: 382.
(5) في المطبوعة، حذف قوله: " الجهد، والجهد " وجعل " فالجهد "، " الجهد "، وبدأ به الكلام. وأثبت ما في المخطوطة.(14/393)
17022-...... قال، حدثنا ابن إدريس، عن عيسى بن المغيرة، عن الشعبي قال: الجَهْد في العمل، والجُهد في القِيتَة. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " والجهد في المعيشة "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فغيرها. و " القوت "
و" القيت " (بكسر القاف) و " القيتة " (بكسر القاف) ، كله واحد، وهو المسكة من الرزق، وما يقوم به بدن الإنسان من الطعام.(14/394)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
القول في تأويل قوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ادع الله لهؤلاء المنافقين، الذين وصفت صفاتهم في هذه الآيات (1) بالمغفرة، أو لا تدع لهم بها.
وهذا كلام خرج مخرج الأمر، وتأويله الخبر، ومعناه: إن استغفرت لهم، يا محمد، أو لم تستغفر لهم، فلن يغفر الله لهم.
وقوله: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، يقول: إن تسأل لهم أن تُسْتر عليهم ذنوبهم بالعفو منه لهم عنها، وترك فضيحتهم بها، فلن يستر الله عليهم، ولن يعفو لهم عنها، ولكنه يفضحهم بها على رءوس الأشهاد يوم القيامة (2) (ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله) ، يقول جل ثناؤه: هذا الفعل من الله بهم، وهو ترك عفوه لهم عن ذنوبهم، من أحل أنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله = (والله لا يهدي القوم الفاسقين) ، يقول: والله لا يوفق للإيمان به وبرسوله، (3)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " وصف صفاتهم "، وما أثبت أبين.
(2) انظر تفسير "الاستغفار" و "المغفرة" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) .
(3) انظر تفسير "الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة (هدى) .(14/394)
من آثر الكفر به والخروج عن طاعته، على الإيمان به وبرسوله. (1)
* * *
ويروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حين نزلت هذه الآية قال: "لأزيدنّ في الاستغفار لهم على سبعين مرة"، رجاءً منه أن يغفر الله لهم، فنزلت: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) [سورة المنافقون: 6] .
17023- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عبد الله بن أبي ابن سلول قال لأصحابه: لولا أنكم تُنْفقون على محمد وأصحابه لانفَضُّوا من حوله! وهو القائل: (لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأعَزُّ مِنْهَا الأذَلَّ) [سورة المنافقون: 8] ، فأنزل الله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدنّ على السبعين! فأنزل الله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ) ، فأبى الله تبارك وتعالى أن يغفر لهم.
17024- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن شباك، عن الشعبي قال: دعا عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول النبيَّ صلى الله عليه وسلم إلى جنازة أبيه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: من أنت؟ قال: حُباب بن عبد الله بن أبيّ. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بل أنت عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول، إن "الحُبَاب" هو الشيطان. (2)
ثم قال النبي عليه الصلاة والسلام: إنه قد قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فأنا استغفر لهم سبعين وسبعين وسبعين، وألبسه النبي صلى الله عليه وسلم قميصَه وهو عَرِقٌ.
__________
(1) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف: 339، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) " الحباب " (بضم الحاء) ، الحية، قال ابن كثير: " ويقع على الحية أيضا، كما يقال لها الشيطان، فهما مشتركان فيه ".(14/395)
17025- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (إن تستغفر لهم سبعين مرة) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: سأزيد على سبعين استغفارة! فأنزل الله في السورة التي يذكر فيها المنافقون: (لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) ، عزمًا. (1)
17026- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17027-...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
17028- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، نحوه.
17029-...... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي قال: لما ثَقُل عبد الله بن أبيّ، انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له: إن أبي قد احْتُضِر، فأحبُّ أن تشهده وتصليّ عليه! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما اسمك؟ قال: الحُباب بن عبد الله. قال: بل أنت عبد الله بن عبد الله بن أبي، إن "الحباب" اسم شيطان. قال: فانطلق معه حتى شهده وألبسه قميصه وهو عَرِق، وصلى عليه، فقيل له: أتصلي عليه وهو منافق؟ فقال: إن الله قال: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، ولأستغفرن له سبعين وسبعين! = قال هشيم: وأشكُّ في الثالثة.
17030- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) إلى قوله: (القوم الفاسقين) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية: أسمعُ ربّي قد رَخّص لي فيهم، فوالله لأستغفرن أكثر من سبعين مرة،
__________
(1) "عزما"، يعني توكيدًا، وحقًا واجبًا.(14/396)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81)
فلعل الله أن يغفر لهم! فقال الله، من شدة غضبه عليهم: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [سورة المنافقون: 6] .
17031- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فقال نبي الله: قد خيَّرني ربي، فلأزيدنهم على سبعين! فأنزل الله (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ) ، الآية.
17032- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: لما نزلت: (إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لأزيدنّ على سبعين! فقال الله: (سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) .
* * *
القول في تأويل قوله: {فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرح الذين خلَّفهم الله عن الغزو مع رسوله والمؤمنين به وجهاد أعدائه = (بمقعدهم خلاف رسول الله) ، يقول: بجلوسهم في منازلهم (1) = (خلاف رسول الله) ، يقول: على الخلاف لرسول الله في جلوسه
__________
(1) انظر تفسير "القعود" فيما سلف 9: 85 \ 14: 277.(14/397)
ومقعده. وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم بالنَّفْر إلى جهاد أعداء الله، فخالفوا أمْرَه وجلسوا في منازلهم.
* * *
وقوله: (خِلاف) ، مصدر من قول القائل: "خالف فلان فلانًا فهو يخالفه خِلافًا"، فلذلك جاء مصدره على تقدير "فِعال"، كما يقال: "قاتله فهو يقاتله قتالا"، ولو كان مصدرًا من "خَلَفه" لكانت القراءة: "بمقعدهم خَلْفَ رسول الله"، لأن مصدر: "خلفه"، "خلفٌ" لا "خِلاف"، ولكنه على ما بينت من أنه مصدر: "خالف"، فقرئ: (خلاف رسول الله) ، وهي القراءة التي عليها قرأة الأمصار، وهي الصواب عندنا.
* * *
وقد تأول بعضهم ذلك بمعنى: "بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، (1) واستشهد على ذلك بقول الشاعر: (2)
عَقَبَ الرَّبِيعُ خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا (3)
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 264.
(2) هو الحارث بن خالد المخزومي.
(3) الأغاني 3: 336 (دار الكتب) 15: 128 (ساسي) ، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 264، واللسان (عقب) ، (خلف) ، من قصيدة روى بعضها أبو الفرج في أغانيه، يقوله في عائشة بنت طلحة تعريضًا، وتصريحًا ببسرة جاريتها، يقول قبله: يَا رَبْع بُسرَةَ إن أضَرَّ بِكَ البِلَى ... فَلَقد عَهِدتُكَ آهلا مَعْمورًا
ورواية أبي الفرج " عقب الرذاذ "، و " الرذاذ " صغار المطر. وأما " الربيع "، فهو المطر الذي يكون في الربيع. قال أبو الفرج الأصبهاني: " وقوله: عقب الرذاذ، يقول: جاء الرذاذ بعده. ومنه يقال: عقب لفلان غنى بعد فقر = وعقب الرجل أباه: إذا قام بعده مقامه. وعواقب الأمور، مأخوذة منه، واحدتها عاقبة. . . والشواطب: النساء اللواتي يشطبن لحاء السعف، يعملن منه الحصر. ومنه السيف المشطب، والشطبية: الشعبة من الشيء. ويقال: بعثنا إلى فلان شطبية من خيلنا، أي: قطعة ". قلت: وإنما وصف آثار الغيث في الديار، فشبه أرضها بالحصر المنمقة، للطرائق التي تبقى في الرمل بعد المطر.(14/398)
وذلك قريبٌ لمعنى ما قلنا، لأنهم قعدوا بعده على الخلافِ له.
* * *
وقوله: (وكرهوا أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله) ، يقول تعالى ذكره: وكره هؤلاء المخلفون أن يغزُوا الكفار بأموالهم وأنفسهم (1) = (في سبيل الله) ، يعني: في دين الله الذي شرعه لعباده لينصروه، (2) ميلا إلى الدعة والخفض، وإيثارًا للراحة على التعب والمشقة، وشحًّا بالمال أن ينفقوه في طاعة الله.
* * *
= (وقالوا لا تنفروا في الحر) ، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم استنفرهم إلى هذه الغزوة، وهي غزوة تبوك، في حرّ شديدٍ، (3) فقال المنافقون بعضهم لبعض: "لا تنفروا في الحر"، فقال الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (قل) لهم، يا محمد = (نار جهنم) ، التي أعدّها الله لمن خالف أمره وعصى رسوله = (أشد حرًّا) ، من هذا الحرّ الذي تتواصون بينكم أن لا تنفروا فيه. يقول: الذي هو أشد حرًا، أحرى أن يُحذر ويُتَّقى من الذي هو أقلهما أذًى = (لو كانوا يفقهون) ، يقول: لو كان هؤلاء المنافقون يفقهون عن الله وعظَه، ويتدبَّرون آي كتابه، (4) ولكنهم لا يفقهون عن الله، فهم يحذرون من الحرّ أقله مكروهًا وأخفَّه أذًى، ويواقعون أشدَّه مكروهًا (5) وأعظمه على من يصلاه بلاءً.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 358، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " سبيل الله " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .
(3) انظر تفسير " النفر " فيما سلف 58: 536 \ 14: 251، 254.
(4) انظر تفسير "فقه" فيما سلف ص: 51، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: " ويوافقون أشده مكروهًا "، وهو خطأ من الناسخ، والصواب ما أثبت.(14/399)
17033- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (فرح المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله) ، إلى قوله: (يفقهون) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ الناس أن ينبعثوا معه، وذلك في الصيف، فقال رجال: يا رسول الله، الحرُّ شديدٌ، ولا نستطيع الخروجَ، فلا تنفر في الحرّ! فقال الله: (قل نار جهنم أشد حرًّا لو كانوا يفقهون) ، فأمره الله بالخروج.
17034- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتاده في قوله: (بمقعدهم خلاف رسول الله) ، قال: هي غزوة تبوك. (1)
17035- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي وغيره قالوا: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرٍّ شديدٍ إلى تبوك، فقال رجل من بني سَلِمة: لا تنفروا في الحرّ! فأنزل الله: (قل نار جهنم) ، الآية.
17036- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: [ثم] ذكر قول بعضهم لبعض، حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجهاد، وأجمع السير إلى تبوك، على شدّة الحرّ وجدب البلاد. يقول الله جل ثناؤه: (وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرًّا) . (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "من عزوة تبوك"، والصواب ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 17036 - سيرة ابن هشام 4: 196، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17012. والزيادة بين القوسين منه.(14/400)
فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
القول في تأويل قوله: {فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فرح هؤلاء المخلفون بمقعدهم خلاف رسول الله، فليضحكوا فرحين قليلا في هذه الدنيا الفانية بمقعدهم خلاف رسول الله ولَهْوهم عن طاعة ربهم، فإنهم سيبكون طويلا في جهنم مكانَ ضحكهم القليل في الدنيا = (جزاء) ، يقول: ثوابًا منا لهم على معصيتهم، بتركهم النفر إذ استنفروا إلى عدوّهم، وقعودهم في منازلهم خلافَ رسول الله (1) = (بما كانوا يكسبون) ، يقول: بما كانوا يجترحون من الذنوب. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17037- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن أبي رزين: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال يقول الله تبارك وتعالى: الدنيا قليل، فليضحكوا فيها ما شاءوا، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع. فذلك الكثير.
17038- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن منصور، عن أبي رزين، عن الربيع بن خثيم: (فليضحكوا قليلا) ، قال: في الدنيا = (وليبكوا كثيرًا) ، قال: في الآخرة.
17039- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن ويحيى قالا حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين في قوله: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال: في الآخرة.
17040- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير "الجزاء" فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) .
(2) انظر تفسير " الكسب " فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) .(14/401)
شعبة، عن منصور، عن أبي رزين أنه قال في هذه الآية: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال: ليضحكوا في الدنيا قليلا وليبكوا في النار كثيرًا. وقال في هذه الآية: (وإذا لا تمتعون إلا قليلا) ، [سورة الأحزاب: 16] ، قال: إلى آجالهم = أحد هذين الحديثين رفعه إلى ربيع بن خثيم. (1)
17041- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (فليضحكوا قليلا) ، قال: ليضحكوا قليلا في الدنيا = (وليبكوا كثيرًا) ، في الآخرة، في نار جهنم = (جزاء بما كانوا يكسبون) .
17042- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فليضحكوا قليلا) ،: أي في الدنيا = (وليبكوا كثيرًا) ،: أي في النار. ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: والذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرًا. ذكر لنا أنه نودي عند ذلك، أو قيل له: لا تُقَنِّط عبادي.
17043- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين، عن الربيع بن خثيم، (فليضحكوا قليلا) ، قال: في الدنيا = (وليبكوا كثيرًا) ، قال: في الآخرة.
17044-...... قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين: (فليضحكوا قليلا) ، قال: في الدنيا، فإذا صاروا إلى الآخرة بكوا بكاءً لا ينقطع، فذلك الكثير.
17045- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني
__________
(1) الأثر: 17040 - سيأتي هذا الجزء نفسه بإسناده في تفسيره آية " سورة الأحزاب ". وكان في المطبوعة هنا: " قال: أجلهم "، وفي المخطوطة: " قال: آجالهم "، أسقط " إلى "، أثبتها من نص الخبر في تفسير سورة الأحزاب.
وكان في المطبوعة في هذا الأثر، والذي قبله، وما سيأتي: " الربيع بن خيثم "، والصواب: " خيثم "، كما سلف مرارًا، فغيرته، ولم أنبه عليه.(14/402)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (فليضحكوا قليلا وليبكوا كثيرًا) ، قال: هم المنافقون والكفار، الذين اتخذوا دينهم هُزُوًا ولعبًا. يقول الله تبارك وتعالى: (فليضحكوا قليلا) ، في الدنيا = (وليبكوا كثيرًا) ، في النار.
17046- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (فليضحكوا) ، في الدنيا، (قليلا) = (وليبكوا) ، يوم القيامة، (كثيرًا) . وقال: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) ، حتى بلغ: (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) ، [سورة المطففين: 36] .
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: فإن ردّك الله، يا محمد، إلى طائفة من هؤلاء المنافقين من غزوتك هذه (1) = (فاستأذنوك للخروج) ، معك في أخرى غيرها = (فقل) لهم = (لن تخرجوا معي أبدًا ولن تقاتلوا معي عدوًّا إنكم رضيتم بالقعود أوّل مرة) ، وذلك عند خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى تبوك (2) = (فاقعدوا مع الخالفين) ، يقول: فاقعدوا مع الذين قعدوا من المنافقين خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنكم منهم، فاقتدوا بهديهم،
__________
(1) انظر تفسير "طائفة" فيما سلف ص: 336، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "القعود" فيما سلف ص: 397، تعليق: 1، والمراجع هناك.(14/403)
واعملوا مثل الذي عملوا من معصية الله، فإن الله قد سخط عليكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17047- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: قال رجل: يا رسول الله، الحر شديد، ولا نستطيع الخروج، فلا تنفر في الحرّ! = وذلك في غزوة تبوك = فقال الله: (قل نار جهنم أشد حرًّا لو كانوا يفقهون) ، فأمره الله بالخروج. فتخلف عنه رجال، فأدركتهم نفوسهم فقالوا: والله ما صنعنا شيئًا! فانطلق منهم ثلاثة، فلحقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أتوه تابوا، ثم رجعوا إلى المدينة، فأنزل الله: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) ، إلى قوله: (ولا تقم على قبرة) ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هلك الذين تخلَّفوا، فأنزل الله عُذْرَهم لما تابوا، فقال: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ) ، إلى قوله: (إن الله هو التواب الرحيم) ، [سورة التوبة: 117، 118] .
17048- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (فإن رجعك الله إلى طائفة منهم) ، إلى قوله: (فاقعدوا مع الخالفين) ، أي: مع النساء. ذكر لنا أنهم كانوا اثنى عشر رجلا من المنافقين، قيل فيهم ما قيل. (1)
17049- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (فاقعدوا مع الخالفين) ، و"الخالفون"، الرجال.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من التأويل في قوله: (الخالفين) ، ما قال ابن عباس.
__________
(1) في المطبوعة: " فقيل فيهم. . . "، وكان في المخطوطة: " قتل منهم ما قتل "، صوابه ما في المطبوعة.(14/404)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
* * *
فأما ما قال قتادة من أن ذلك النساء، فقولٌ لا معنى له. لأن العرب لا تجمع النساء إذا لم يكن معهن رجال، بالياء والنون، ولا بالواو والنون. ولو كان معنيًّا بذلك النساء لقيل: "فاقعدوا مع الخوالف"، أو "مع الخالفات". ولكن معناه ما قلنا، من أنه أريد به: فاقعدوا مع مرضى الرِّجال وأهل زَمانتهم، والضعفاء منهم، والنساء. وإذا اجتمع الرجال والنساء في الخبر، فإن العرب تغلب الذكور على الإناث، ولذلك قيل: (فاقعدوا مع الخالفين) ، والمعنى ما ذكرنا.
* * *
ولو وُجِّه معنى ذلك إلى: فاقعدوا مع أهل الفساد، من قولهم: "خَلَف الرجال عن أهله يخْلُف خُلُوفًا، إذا فسد، ومن قولهم: "هو خَلْف سَوْءٍ" = كان مذهبًا. وأصله إذا أريد به هذا المعنى، من قولهم: "خَلَف اللبن يَخْلُفُ خُلُوفا"، إذا خبث من طول وضعه في السِّقاء حتى يفسد، ومن قولهم: "خَلَف فم الصائم"، إذا تغيرت ريحه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تصلِّ، يا محمد، على أحد مات من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن الخروج معك أبدًا = (ولا تقم على قبره) ، يقول: ولا تتولَّ دفنه وتقبيره. (2)
__________
(1) انظر تفسير " خلف " فيما سلف: 13: 209، 210.
(2) في المطبوعة: " وتقبره "، غير ما في المخطوطة. و " التقبير " بمعنى: الدفن، من ألفاظ قدماء الفقهاء. وقد سلف استخدام أبي جعفر هذه اللفظة، وتعليقي عليها فيما سلف 9: 387، تعليق: 1.(14/405)
من قول القائل: "قام فلان بأمر فلان"، إذا كفاه أمرَه.
* * *
= (إنهم كفروا بالله) ، يقول: إنهم جحدوا توحيد الله ورسالة رسوله = وماتوا وهم خارجون من الإسلام، مفارقون أمرَ الله ونهيه. (1)
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت حين صلى النبي صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبيّ.
* ذكر من قال ذلك:
17050- حدثنا محمد بن المثنى، وسفيان بن وكيع، وسوار بن عبد الله قالوا: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله قال، أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: جاء ابن عبد الله بن أبيّ ابن سلول إلى رسول الله حين مات أبوه فقال: أعطني قميصَك حتى أكفّنه فيه، وصلّ عليه، واستغفر له. = فأعطاه قميصه = وإذا فرغتم فآذنوني. (2) فلما أراد أن يصلي عليه، [جذبه] عمر، (3) وقال: أليس قد نهاك الله أن تُصَليّ على المنافقين؟ فقال: بل خيّرني وقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم) ، قال: فصلي عليه. قال: فأنزل الله تبارك وتعالى: (ولا تُصَلِّ على أحَدٍ منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) ، قال: فترك الصلاة عليهم. (4)
__________
(1) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف ص: 385، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: " قال: وإذا فرغتم "، وليس في المخطوطة: " قال " بل فيها: " وإذا وإذا فرغتم "، بالتكرار.
(3) "جذبه" التي بين القوسين، ساقطة من المخطوطة، زادها الناشر الأول، وأصاب. .
(4) الأثر: 17050 - خبر " عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر "، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 110 \ 8: 251، 255) ، رواه من طريق يحيى بن سعيد، عن عبيد الله بن عمر، ثم من طريق أبي أسامة، عن عبيد الله، ثم من طريق أنس بن عياض، عن عبيد الله.
ورواه مسلم في صحيحه 17: 121، من طريق أبي أسامة، عن عبيد الله بن عمر.
وسيأتي من رواية أبي جعفر، من طريق أسامة، في الذي يليه، رقم: 17051.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 4: 217 - 219، فراجعه هناك.(14/406)
17051- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عبيد الله، عن ابن عمر قال: لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فسأله أن يعطيه قميصه يكفّن فيه أباه، فأعطاه. ثم سأله أن يصلي عليه، فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فأخذ بثوب النبيّ صلى الله عليه وسلم، فقال: ابنَ سلول! أتصلي عليه، وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما خيَّرني ربّي، فقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، وسأزيد على سبعين. فقال: إنه منافق! فصلى عليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) . (1)
17052- حدثنا سوار بن عبد الله العنبري قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن مجاهد قال، حدثني عامر، عن جابر بن عبد الله: أن رأسَ المنافقين مات بالمدينة، فأوصى أن يصلي عليه النبيُّ صلى الله عليه وسلم، وأن يكفَّن في قميصه، فكفنه في قميصه، وصلى عليه وقام على قبره، فأنزل الله تبارك وتعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) . (2)
17053- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سلمة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يصلي على عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول، فأخذ جبريل عليه السلام بثوبه فقال: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) . (3)
__________
(1) الأثر: 17051 - انظر التخريج السالف.
(2) الأثر: 17052 - حديث جابر بن عبد الله من هذه الطريق، ذكره ابن كثير في تفسيره 4: 219، عن مسند البزار، من طريق عمرو بن علي، عن يحيى، عن مجالد، عن الشعبي، عن جابر، وقال: "وإسناده لا بأس به، وما قبله شاهد له". وسيأتي حديث جابر من طريق أخرى رقم: 17054
(3) الأثر: 17053 - " يزيد الرقاشي "، هو " يزيد بن أبان الرقاشي "، ضعيف بل متروك، مضى برقم: 6654، 6728، 7577، وغيرها.(14/407)
17054- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن جابر قال: جاء النبيُّ صلى الله عليه وسلم عبدَ الله بن أبيّ وقد أدخل حُفْرته، فأخرجه فوضعه على ركبتيه، وألبسه قميصه، وتَفَل عليه من ريقه، والله أعلم. (1)
17055- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، عن عبد الله بن عباس قال: سمعتُ عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: لما توفي عبد الله بن أبيٍّ ابن سلول، دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه. فلما وقف عليه يريد الصلاة، تحوَّلتُ حتى قمت في صدره فقلت: يا رسول الله، أتصلي على عدوّ الله عبد الله بن أبي، القائل يوم كذا كذا وكذا!! أعدِّد أيّامه، (2) ورسول الله عليه السلام يتبسم، حتى إذا أكثرت عليه قال: أخِّر عنّي يا عمر، إني خُيِّرت فاخترت، وقد قيل لي: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) ، فلو أنّي أعلم أنّي إن زدت على السبعين غفر له، لزدت! قال: ثم صلى عليه، ومشى معه، فقام على قبره حتى فرغ منه. قال: فعجبتُ لي وجُرْأتي (3) على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله ورسوله أعلم. فوالله ما كان إلا يسيرا حتى نزلت هاتان الآيتان: (ولا تصلِّ على أحدا منهم مات أبدًا) ، فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَه على منافق، ولا قام
__________
(1) الأثر: 17054 - حديث جابر، مضى من طريق الشعبي آنفا رقم: 10752.
وأما هذه الطريق، فمنها رواه البخاري في صحيحه (الفتح 3: 111) ، ومسلم في صحيحه 175: 121، وروا أيضا من طريق ابن جريج، عن عمرو بن دينار.
وقوله: " والله أعلم "، يعني: والله أعلم بقضائه، إذ فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل، مع قضاء الله في المنافقين بما قضى به فيهم.
(2) هكذا في السيرة: " أعدد أيامه " وظنها بعضهم خطأ، وهو صواب. يعني يعدد ما كان منه في أيام من أيامه، يوم قال كذا، ويوم قال كذا.
(3) في المطبوعة: "أتعجب لي"، وفي المخطوطة: "تعجبت"، وأثبت نص ابن هشام في سيرته. وفي السيرة: "ولجرأتي".(14/408)
على قبره، حتى قبضه الله. (1)
17056- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة قال: لما مات عبد الله بن أبي، أتى ابنه عبد الله بن عبد الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فسأله قميصه، فأعطاه، فكفَّن فيه أباه. (2)
17057- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن عباس، عن عمر بن الخطاب قال: لما مات عبد الله بن أبيّ = فذكر مثل حديث ابن حميد، عن سلمة. (3)
17058- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبره) ، الآية، قال: بعث عبد الله بن أبيّ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ليأتيه، فنهاه عن ذلك عمر. فأتاه نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم، فلما دخل عليه، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم: أهلكك حبُّ اليهود! قال فقال: يا نبي الله، إني لم أبعث إليك لتؤنّبني، ولكن بعثت إليك لتستغفر لي! وسأله قميصه أن يكفن فيه، فأعطاه إياه، فاستغفر له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فمات فكفن في قميص رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) الأثر: 17055 - سيرة ابن هشام 4: 196، 197، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17036.
وحديث الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 254) ، من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب الزهري. وسيأتي من هذه الطريق برقم: 17057.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 4: 218.
وقوله: " أخر عني يا عمر "، أي: أخر عني رأيك، فاختصر إيجاز وبلاغة - هكذا قالوا: وقد ذكرت آنفا ج 10: 339، تعليق: 6، أنهم قصروا من شرحه، وأن معناه، اصرف عني رأيك وأبعده، وأنه مما يزداد على بيان كتب اللغة.
(2) الأثر: 17056 - لم أجد هذا الخبر في سيرة ابن هشام.
(3) الأثر: 17057 - سلف تخريجه في رقم: 17055.(14/409)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
وسلم، ونفث في جلده، ودلاه في قبره، فأنزل الله تبارك وتعالى: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا) ، الآية. قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كُلّم في ذلك فقال: وما يغني عنه قميصي من الله = أو: ربي = وصلى عليه = وإني لأرجو أن يسلم به ألفٌ من قومه. (1)
17059- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة قال: أرسل عبد الله بن أبي بن سلول وهو مريض إلى النبي صلى الله عليه وسلم; فلما دخل عليه، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: أهلكك حبُّ يهود! قال: يا رسول الله، إنما أرسلت إليك لتستغفر لي، ولم أرسل إليك لتؤنبني! ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه أن يكفّن فيه، فأعطاه إياه، وصلى عليه، وقام على قبره، فأنزل الله تعالى ذكره: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدًا ولا تقم على قبرة) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تعجبك، يا محمد، أموالُ هؤلاء المنافقين وأولادهم، فتصلي على أحدهم إذا مات وتقوم
__________
(1) قوله: " وصلى عليه "، هكذا في المخطوطة، وجعلها في المطبوعة: " وصلاتي عليه "، كأنه ظنه معطوفًا على قوله: " ما يغنى عنه قميصي "، ولكن جائز أن يكون ما أثبته من المخطوطة، هو الصواب، وهو خبر من قتادة أو غيره، فصل به بين كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولذلك وضعته بين خطين.(14/410)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86)
على قبره، من أجل كثرة ماله وولده، فإني إنما أعطيته ما أعطيته من ذلك لأعذبه بها في الدنيا بالغموم والهموم، بما ألزمه فيها من المؤن والنفقات والزكوات، وبما ينوبه فيها من الرزايا والمصيبات، = (وتزهق أنفسهم) ، يقول: وليموت فتخرج نفسه من جسده، (1) فيفارق ما أعطيته من المال والولد، فيكون ذلك حسرة عليه عند موته، ووبالا عليه حينئذٍ، ووبالا عليه في الآخرة، بموته جاحدًا توحيدَ الله، ونبوةَ نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
17060- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن السدي: (وتزهق أنفسهم) ، في الحياة الدنيا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا أُنزلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وإذا أنزل عليك، يا محمد، سورة من القرآن، بأن يقال لهؤلاء المنافقين: (آمنوا بالله) ، يقول: صدِّقوا بالله = (وجاهدوا مع رسوله) ، يقول: اغزوا المشركين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) = (استأذنك أولوا الطول منهم) ، يقول: استأذنك ذوو الغنى والمال منهم في التخلف عنك، والقعود في أهله (3) = (وقالوا ذرنا) ، يقول: وقالوا لك: دعنا، (4) نكن ممن يقعد في منزله مع ضعفاء الناس ومرضاهم، ومن لا يقدر على
__________
(1) انظر تفسير " زهق " فيما سلف ص: 297.
(2) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 399، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الطول " فيما سلف 8: 182 - 185.
(4) انظر تفسير " ذر " فيما سلف 13: 291، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/411)
الخروج معك في السفر. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17061- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (استأذنك أولوا الطول) ، قال: يعني أهل الغنى.
17062- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (أولوا الطول منهم) ، يعني: الأغنياء.
17063- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وإذا أنزلت سورة أن آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استأذنك أولوا الطول منهم) ، كان منهم عبد الله بن أبيّ، والجدُّ بن قيس. فنعى الله ذلك عليهم. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " القعود " فيما سلف ص: 404، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 17063 - سيرة ابن هشام 4: 197، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17055، غير أن ابن هشام قال: " وكان ابن أبي من أولئك، فنعى الله ذلك عليه، وذكره منه ".
ولم يذكر هنا " الجد بن قيس ".(14/412)
رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
القول في تأويل قوله: {رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: رضي هؤلاء المنافقون = الذين إذا قيل لهم: آمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله، استأذنك أهل الغنى منهم في التخلف عن الغزو والخروج معك لقتال أعداء الله من المشركين = أن يكونوا في منازلهم،(14/412)
كالنساء اللواتي ليس عليهن فرض الجهاد، فهن قعود في منازلهنّ وبيوتهنّ (1) = (وطبع على قلوبهم) ، يقول: وختم الله على قلوب هؤلاء المنافقين = (فهم لا يفقهون) ، عن الله مواعظه، فيتعظون بها. (2)
* * *
وقد بينا معنى "الطبع"، وكيف الختم على القلوب، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى "الخوالف" قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17064- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قال: "الخوالف" هنّ النساء.
17065- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، يعني: النساء.
17066- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حبوية أبو يزيد، عن يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قال: النساء.
17067-...... قال: حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك: (مع الخوالف) ، قال: مع النساء.
17068- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) انظر تفسير " الخوالف " فيما سلف ص: 405، تعليق 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " فقه " فيما سلف ص: 399، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الطبع " فيما سلف 13: 10، تعليق: 1، والمراجع هناك.(14/413)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88)
قوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، أي: مع النساء.
17069- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة والحسن: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قالا النساء.
17070- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17072- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، قال: مع النساء.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: لم يجاهد هؤلاء المنافقون الذين اقتصصت قصصهم المشركين، لكن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والذين صدقوا الله ورسوله معه، هم الذين جاهدوا المشركين بأموالهم وأنفسهم، فأنفقوا في جهادهم أموالهم واتعبوا في قتالهم أنفسهم وبذلوها (1) = (وأولئك) ، يقول: وللرسول وللذين آمنوا معه الذين جاهدوا بأموالهم وأنفسهم = (الخيرات) ، وهي خيرات الآخرة، وذلك: نساؤها، وجناتها، ونعيمها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الجهاد " فيما سلف ص: 411، تعليق: 2، والمراجع هناك.(14/414)
أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
= واحدتها "خَيْرَة"، كما قال الشاعر: (1)
وَلَقَدْ طَعَنْتُ مَجَامِعَ الرَّبَلاتِ ... رَبَلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ المَلِكاتِ (2)
و"الخيرة"، من كل شيء، الفاضلة. (3)
* * *
= (وأولئك هم المفلحون) ، يقول: وأولئك هم المخلدون في الجنات، الباقون فيها، الفائزون بها. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: أعد الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وللذين آمنوا معه (5) = (جنات) ، وهي البساتين، (6) تجري من تحت أشجارها الأنهار = (خالدين فيها) ، يقول: لابثين فيها، لا يموتون فيها، ولا يظعنون عنها (7) = (ذلك الفوز العظيم) ، يقول: ذلك النجاء العظيم، والحظّ الجزيل. (8)
* * *
__________
(1) لرجل من بني عدي، عدي تيم تميم، وهو جاهلي.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 267، واللسان (خير) ، و " الربلات " جمع " ربلة " (بفتح الراء وسكون الباء، أو فتحها) ، وهي لحم باطن الفخذ. عنى أمرًا قبيحًا. وقوله " خيرة "، مؤنث " خير "، صفة، لا بمعنى التفضيل، يقال: " رجل خير، وامرأة خيرة "، فإذا أردت التفضيل قلت: " فلانة خير الناس ".
(3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 267.
(4) انظر تفسير " الفلاح " فيما سلف 13: 574، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " أعد " فيما سلف ص: 31، 267.
(6) انظر تفسير " الجنة " فيما سلف من فهارس اللغة (جنن) .
(7) انظر تفسير " الخلود " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(8) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف ص: 357، تعليق: 3، والمراجع هناك.(14/415)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
القول في تأويل قوله: {وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: (وجاء) ، رسولَ الله صلى الله عليه وسلم = (المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم) ، في التخلف = (وقعد) ، عن المجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والجهاد معه (1) = (الذين كذبوا الله ورسوله) ، وقالوا الكذب، واعتذرُوا بالباطل منهم. يقول تعالى ذكره: سيُصيب الذين جحدوا توحيد الله ونبوة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم منهم، عذابٌ أليم. (2)
* * *
فإن قال قائل: (وجاء المعذّرون) ، وقد علمت أن "المعذِّر"، في كلام العرب، إنما هو: الذي يُعَذِّر في الأمر فلا يبالغ فيه ولا يُحكمه؟ وليست هذه صفة هؤلاء، وإنما صفتهم أنهم كانوا قد اجتهدوا في طلب ما ينهضون به مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عدوّهم، وحرصوا على ذلك، فلم يجدوا إليه السبيل، فهم بأن يوصفوا بأنهم: "قد أعذروا"، أولى وأحق منهم بأن يوصفوا بأنهم "عذَّروا". وإذا وصفوا بذلك، (3) فالصَّواب في ذلك من القراءة، ما قرأه ابن عباس، وذلك ما:-
17073- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك قال: كان ابن عباس يقرأ: (وَجَاءَ الْمُعْذِرُونَ) ، مخففةً، ويقول: هم أهل العذر.
= مع موافقة مجاهد إياه وغيره عليه؟
__________
(1) انظر تفسير " القعود " فيما سلف ص: 412، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " أليم " فيما سلف من فهارس اللغة (ألم) .
(3) في المطبوعة: " بأنهم عذروا، إذا وصفوا بذلك "، كأنه متعلق بالسالف.
والصواب أنه ابتداء كلام، والواو في " وإذا " ثابتة في المخطوطة.(14/416)
قيل: إن معنى ذلك على غير ما ذهبتَ إليه، وإن معناه: وجاء المعتذِرون من الأعراب = ولكن "التاء" لما جاورت "الذال" أدغمت فيها، فصُيِّرتا ذالا مشدَّدة، لتقارب مخرج إحداهما من الأخرى، كما قيل: "يذَّكَّرون" في "يتذكرون"، و"يذكّر" في "يتذكر" وخرجت العين من "المعذّرين" إلى الفتح، لأن حركة التاء من "المعتذرين"، وهي الفتحة، نقلت إليها، فحركت بما كانت به محركة. والعرب قد توجِّه في معنى "الاعتذار"، إلى "الإعذار"، فيقول: "قد اعتذر فلان في كذا"، يعني: أعذر، (1) ومن ذلك قول لبيد:
إِلَى الحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلامِ عَلَيْكُمَا ... ومَنْ يَبْكِ حَوْلا كَامِلا فَقَدِ اعتَذَرْ (2)
فقال: فقد اعتذر، بمعنى: فقد أعْذَر.
* * *
على أن أهل التأويل قد اختلفوا في صفة هؤلاء القوم الذين وصفهم الله بأنهم جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم "معذِّرين".
فقال بعضهم: كانوا كاذبين في اعتذارهم، فلم يعذرهم الله.
* ذكر من قال ذلك:
17074- حدثني أبو عبيدة عبد الوارث بن عبد الصمد قال، حدثني أبي، عن الحسين قال: كان قتادة يقرأ: (وجاء المعذرون من الأعراب) ، قال: اعتذروا بالكذب.
17075- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا يحيى بن زكريا، عن ابن جريج، عن مجاهد: (وجاء المعذرون من الأعراب) ، قال: نفر من بني غفار، جاءوا فاعتذروا، فلم يعذرهم الله.
* * *
= فقد أخبر من ذكرنا من هؤلاء: أن هؤلاء القوم إنما كانوا أهل اعتذار
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 447، 448.
(2) سلف البيت وتخريجه 1: 119، تعليق: 1.(14/417)
بالباطل لا بالحق، فغير جائز أن يوصفوا بالإعذار، إلا أن يوصفوا بأنهم أعْذَرُوا في الاعتذار بالباطل. فأمّا بالحق = على ما قاله من حكينا قوله من هؤلاء = فغير جائز أن يوصَفوا به.
* * *
وقد كان بعضهم يقول: إنما جاءوا معذّرين غير جادِّين، يعرضون ما لا يريدون فعله. فمن وجَّهه إلى هذا التأويل فلا كلفة في ذلك، غير أني لا أعلم أحدًا من أهل العلم بتأويل القرآن وجَّه تأويله إلى ذلك، فأستحبُّ القول به. (1)
وبعدُ، فإن الذي عليه من القراءة قرأة الأمصار، التشديد في "الذال"، أعني من قوله: (المُعَذّرُونَ) ، ففي ذلك دليلٌ على صحة تأويل من تأوله بمعنى الاعتذار، لأن القوم الذين وُصفوا بذلك لم يكلفوا أمرًا عَذَّرُوا فيه، وانما كانوا فرقتين: إما مجتهد طائع، وإما منافق فاسقٌ، لأمر الله مخالف. فليس في الفريقين موصوفٌ بالتعذير في الشخوص مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو معذّر مبالغٌ، أو معتَذِر.
فإذا كان ذلك كذلك، وكانت الحجة من القرأة مجمعة على تشديد "الذال" من " المعذرين "، عُلم أن معناه ما وصفناه من التأويل.
* * *
وقد ذكر عن مجاهد في ذلك موافقة ابن عباس.
17076- حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن حميد قال: قرأ مجاهد: (وَجاءَ المُعذَرُونَ) ، مخففةً، وقال: هم أهل العذر.
17077- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان المعذرون، [فيما بلغني، نفرًا من بني غِفارٍ، منهم: خفاف بن أيماء بن
__________
(1) في المطبوعة: " فاستحبوا " جمعًا، وإنما جاء الخطأ من سوء كتابة المخطوطة، لأنه أراد أن يكتب بعد آخر الباء واوًا، ثم عدل عن ذلك، فأخذ الناشر بما عدل عنه الناسخ! ! .(14/418)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)
رَحَضة، ثم كانت القصة لأهل العذر، حتى انتهى إلى قوله: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية] . (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضَى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ليس على أهل الزمانة وأهل العجز عن السفر والغزو، (2) ولا على المرضى، ولا على من لا يجد نفقة يتبلَّغ بها إلى مغزاه = "حرج"، وهو الإثم، (3) يقول: ليس عليهم إثم، إذا نصحوا لله ولرسوله في مغيبهم عن الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم = (ما على المحسنين من سبيل) ، يقول: ليس على من أحسن فنصح لله ولرسوله في تخلّفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجهاد معه، لعذر يعذر به، طريقٌ يتطرَّق عليه فيعاقب من قبله (4) = (والله غفور رحيم) ، يقول: والله ساتر على ذنوب المحسنين، يتغمدها بعفوه لهم عنها = (رحيم) ، بهم، أن يعاقبهم عليها. (5)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت في "عائذ بن عمرو المزني".
* * *
__________
(1) الأثر: 17077 - سيرة ابن هشام 4: 197، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17063. وكان هذا الخبر في المخطوطة والمطبوعة مبتورًا، أتممته من سيرة ابن هشام، ووضعت تمامه بين القوسين.
(2) انظر تفسير " الضعفاء " فيما سلف 5: 551 \ 8: 19.
(3) انظر تفسير " الحرج " فيما سلف 12: 295، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " المحسن " و " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) ، (سبل) .
(5) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) .(14/419)
وقال بعضهم في "عبد الله بن مغفل".
* * *
* ذكر من قال: نزلت في "عائذ بن عمرو".
17078- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله) ، نزلت في عائذ بن عمرو.
* * *
* ذكر من قال: نزلت في "ابن مغفل".
17079- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى) ، إلى قوله: (حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه، فجاءته عصابة من أصحابه، فيهم "عبد الله بن مغفل المزني"، فقالوا: يا رسول الله، احملنا. فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله ما أجد ما أحملكم عليه! فتولوا ولهم بكاءٌ، وعزيزٌ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد، (1) ولا يجدون نفقةً ولا محملا. فلما رأى الله حرصَهم على محبته ومحبة رسوله، أنزل عذرهم في كتابه فقال: (ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج) ، إلى قوله: (فهم لا يعلمون) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " وعز عليهم "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو محض صواب.(14/420)
وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92)
القول في تأويل قوله: {وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا سبيل أيضًا على النفر الذين إذا ما جاءوك، لتحملهم، يسألونك الحُمْلان، ليبلغوا إلى مغزاهم لجهاد أعداءِ الله معك، يا محمد، قلت لهم: لا أجد حَمُولةً أحملكم عليها = (تولوا) ، يقول: أدبروا عنك، (1) = (وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا) ، وهم يبكون من حزن على أنهم لا يجدون ما ينفقون، (2) ويتحمَّلون به للجهادِ في سبيل الله.
* * *
وذكر بعضهم: أن هذه الآية نزلت في نفر من مزينة.
* ذكر من قال ذلك:
17080- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه) ، قال: هم من مزينة.
17081- حدثني المثنى قال: أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، قال: هم بنو مُقَرِّنٍ، من مزينة.
17082- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً، عن مجاهد في قوله: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، إلى قوله: (حزنًا أن لا يجدوا ما ينفقون) ، قال: هم بنو مقرِّن. من مزينة.
__________
(1) انظر تفسير " التولي " فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) .
(2) انظر تفسير " تفيض من الدمع " فيما سلف 10: 507(14/421)
17083- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، قال: هم بنو مقرِّن من مزينة.
17084-...... قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، عن عروة، عن ابن مغفل المزني، وكان أحد النفر الذين أنزلت فيهم: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية.
17085- حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله: (تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا) ، قال: منهم ابن مقرِّن = وقال سفيان: قال الناس: منهم عرباض بن سارية.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في عِرْباض بن سارية.
* ذكر من قال ذلك:
17086- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو عاصم، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي وحجر بن حجر الكلاعي قالا دخلنا على عرباض بن سارية، وهو الذي أنزل فيه: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية. (1)
17087- حدثني المثنى قال، حدثنا سليمان بن عبد الرحمن قال، حدثنا الوليد قال، حدثنا ثور، عن خالد، عن عبد الرحمن بن عمرو، وحجر بن حجر بنحوه.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في نفر سبعة، من قبائل شتى.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 17086 - " عبد الرحمن بن عمرو بن عبسة السلمي "، ثقة، مترجم في التهذيب. و " حجر بن حجر الكلاعي "، ثقة، مترجم في التهذيب.(14/422)
إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
17088- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب وغيره قال: جاء ناسٌ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحملونه، فقال: (لا أجد ما أحملكم عليه) ! فأنزل الله: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، الآية. قال: هم سبعة نفر: من بني عمرو بن عوف: سالم بن عمير = ومن بني واقف: هرمي بن عمرو (1) = ومن بني مازن بن النجار: عبد الرحمن بن كعب، يكنى أبا ليلى = ومن بني المعلى: سلمان بن صخر = ومن بني حارثة: عبد الرحمن بن يزيد، أبو عبلة، وهو الذي تصدق بعرضِه فقبله الله منه = ومن بني سَلِمة: عمرو بن غنمه، وعبد الله بن عمرو المزني.
17089- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قوله: (ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم) ، إلى قوله: (حزنًا) ، وهم البكاؤون، كانوا سبعة. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ما السبيل بالعقوبة على أهل العذر، يا محمد، ولكنها على الذين يستأذنونك في التخلف خِلافَك، وترك الجهاد معك، وهم أهل غنى وقوّةٍ وطاقةٍ للجهاد والغزو، نفاقًا وشكًّا في وعد الله ووعيده (3) = (رضوا بأن يكونوا مع الخوالف) ، يقول: رضوا بأن يجلسوا بعدك مع النساء = وهن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " حرمي بن عمرو "، والصواب " هرمي " بالهاء، انظر ترجمته في الإصابة.
(2) الأثر: 17089 - سيرة ابن هشام 4: 197، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17077، وليس فيه في هذا الموضع قوله: " وهم سبعة ". وأما عدتهم عند ابن إسحاق فقد ذكرها ابن هشام في سيرته 4: 161، وقال: " وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم "، ثم عددهم.
(3) انظر تفسير " السبيل " فيما سلف من فهارس اللغة (سبل) .(14/423)
"الخوالف"، خلف الرجال في البيوت، ويتركوا الغزو معك، (1) = (وطبع الله على قلوبهم) ، يقول: وختم الله على قلوبهم بما كسبوا من الذنوب (2) = (فهم لا يعلمون) ، سوء عاقبتهم، بتخلفهم عنك، وتركهم الجهاد معك، وما عليهم من قبيح الثناء في الدنيا، وعظيم البلاء في الآخرة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير " الخوالف " فيما سلف ص: 413، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الطبع " فيما سلف ص: 413، تعليق: 3، والمراجع هناك.(14/424)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94)
القول في تأويل قوله: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يعتذر إليكم، أيها المؤمنون بالله، هؤلاء المتخلفون خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، التاركون جهاد المشركين معكم من المنافقين، بالأباطيل والكذب، إذا رجعتم إليهم من سفركم وجهادكم = "قل"، لهم، يا محمد، = (لا تعتذروا لن نؤمن لكم) ، يقول: لن نصدِّقكم على ما تقولون = (قد نبأنا الله من أخباركم) ، يقول: قد أخبرنا الله من أخباركم، وأعلمنا من أمركم ما قد علمنا به كذبَكم (1) = (وسيرى الله عملكم ورسوله) ، يقول: وسيرى الله ورسوله فيما بعدُ عملكم، أتتوبون من نفاقكم، أم تقيمون عليه؟ = (ثم تردّون إلى عالم الغيب والشهادة) ، يقول: ثم ترجعون بعد مماتكم = (إلى عالم الغيب والشهادة) ، يعني: الذي يعلم السرَّ والعلانية، الذي لا يخفى عليه بواطن أموركم
__________
(1) انظر تفسير " نبأ " فيما سلف ص: 344، تعليق: 3، والمراجع هناك.(14/424)
سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95)
وظواهرها (1) = (فينبئكم بما كنتم تعملون) ، فيخبركم بأعمالكم كلها سيِّئها وحسنها، (2) فيجازيكم بها: الحسنَ منها بالحسن، والسيئَ منها بالسيئ.
* * *
القول في تأويل قوله: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: سيحلف، أيها المؤمنون بالله، لكم هؤلاء المنافقون الذين فرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله = (إذا انقلبتم إليهم) ، يعني: إذا انصرفتم إليهم من غزوكم (3) = (لتعرضوا عنهم) ، فلا تؤنبوهم = (فأعرضوا عنهم) ، يقول جل ثناؤه للمؤمنين: فدعوا تأنيبهم، وخلوهم وما اختاروا لأنفسهم من الكفر والنفاق (4) (إنهم رجس ومأواهم جهنم) ، يقول: إنهم نجس (5) = (ومأواهم جهنم) ، يقول: ومصيرهم إلى جهنم، وهي مسكنهم الذي يأوُونه في الآخرة (6) = (جزاء بما كانوا يكسبون) ، (7) يقول: ثوابًا بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الدنيا من معاصي الله. (8)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عالم الغيب والشهادة " فيما سلف من فهارس اللغة (غيب) ، (شهد) .
(2) في المخطوطة: " سيئها " وأسقط " وحسنها "، والصواب ما في المطبوعة.
(3) انظر تفسير " الانقلاب " فيما سلف 13: 35، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " الإعراض " فيما سلف ص: 369، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير " الرجس " فيما سلف 12: 194، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(6) انظر تفسير " المأوى " فيما سلف ص: 360، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(7) في المطبوعة والمخطوطة " جزاء بما كانوا يعملون "، سهو من الناسخ فيما أرجح.
(8) انظر تفسير " الجزاء " فيما سلف من فهارس اللغة (جزى) .
= وتفسير "الكسب" فيما سلف من فهارس اللغة (كسب) .(14/425)
وذكر أن هذه الآية نزلت في رجلين من المنافقين، قالا ما:-
17090- حدثنا به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا) ، إلى: (بما كانوا يكسبون) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قيل له: ألا تغزو بني الأصفر، (1) لعلك أن تصيب بنت عظيم الرُّوم، فإنهنّ حِسان! (2) فقال رجلان: قد علمت، يا رسول الله، أن النساء فتنة، فلا تفتنَّا بهنَّ! فأذن لنا! فأذن لهما. فلما انطلقا، قال أحدهما: إن هو إلا شَحْمةٌ لأوّل آكلٍ! (3) فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينزل عليه في ذلك شيء، فلما كان ببعض الطريق، نزل عليه وهو على بعض المياه: (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ) [سورة التوبة: 42] ، ونزل عليه: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) [سورة التوبة: 43] ، ونزل عليه: (لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [سورة التوبة: 44] ، ونزل عليه: (إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) . فسمع ذلك رجل ممن غزا مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاهم وهم خلفهم، فقال: تعلمون أنْ قَد نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدَكم قرآن؟ قالوا: ما الذي سمعت؟ قال: ما أدري، غير أني سمعت أنه يقول: "إنهم رجس"! فقال رجل يدعى "مخشيًّا"، (4) والله لوددت أني أجلد مئة جلدة، وأني لست معكم!
__________
(1) "بنو الأصفر"، هم الروم.
(2) في المطبوعة والمخطوطة " فإنهم حسان " والصواب ما أثبت.
(3) " الشحمة "، عنى بها قطعة من " شحم سنام البعير "، وشحمة السنام من أطايب البعير، يسرع إليها الآكل، قال زفر بن الحارث الكلابي: وكُنَّا حَسِبْنا كُلَّ بَيْضَاءَ شَحْمَةً ... لَيالِيَ قارَعْنا جُذَامَ وحمِيرَا
فَلَمَّا قَرَعْنا النَّبْعَ بالنَّبْعِ، بَعضَهُ ... بِبَعضٍ، أَبَتْ عِيدانُهُ أَنْ تكَسَّرا
وفي المثل: "ما كل بيضاء شحمة، ولا كل سوداء تمرة".
(4) في المخطوطة: " مخشي "، والصواب ما في المطبوعة وهو " مخشي بن حمير الأشجعي "، انظر ترجمته في الإصابة.(14/426)
فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما جاء بك؟ فقال: وجْهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم تسفَعه الريح، وأنا في الكِنّ!! (1) فأنزل الله عليه: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) [سورة التوبة: 49] ، (وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) [سورة التوبة: 81] ، ونزل عليه في الرجل الذي قال: "لوددت أني أجْلد مئة جلدة" قولُ الله: (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ) [سورة التوبة: 64] ، فقال رجل مع رسول الله: لئن كان هؤلاء كما يقولون، ما فينا خير! فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: أنت صاحب الكلمة التي سمعتُ؟ " فقال: لا والذي أنزل عليك الكتاب! فأنزل الله فيه: (وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ) [سورة التوبة: 74] ، وأنزل فيه: (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، [سورة التوبة: 47] .
17091- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، أخبرني عبد الرحمن بن عبد الله بن كعب بن مالك: أن عبد الله بن كعب قال: سمعت كعبَ بن مالك يقول: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك، جلس للناس. فلما فعل ذلك جاء المخلفون فطفقوا يعتذرون إليه، ويحلفون له، وكانوا بضعة وثمانين رجلا فقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيَتهم، وبايعهم، واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، وصَدَقته حديثي. فقال كعب: والله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطُّ، بعد أن هداني للإسلام، أعظمَ في نفسي من صدْق رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا أكون كذبتُه فأهلك كما هلك الذين كذبوا، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي، (2) شرَّ
__________
(1) "سفعته النار، والشمس، والسموم، تسفعه سفعًا "، لفحته لفحًا يسيرًا فغيرت لون بشرته وسودته. و "الكن" (بكسر الكاف) : ما يرد الحر والبرد من الأبنية والمساكن، وكل ما ستر من الشمس والسموم فهو كن.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " حين أنزل الوحي ما قال لأحد "، بإسقاط " شر "، وهو لا يستقيم، وأثبته من نص روايته في صحيح مسلم.(14/427)
يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
ما قال لأحد: (سيحلفون بالله لكم إذا انقلبتم إليهم لتعرضوا عنهم فأعرضوا عنهم إنهم رجس ومأواهم جهنم جزاء بما كانوا يكسبون) ، إلى قوله: (فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) . (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: يحلف لكم، أيها المؤمنون بالله، هؤلاء المنافقون، اعتذارًا بالباطل والكذب = (لترضوا عنهم فإن ترضوا عنهم فإنّ الله لا يرضى عن القوم الفاسقين) ، يقول: فإن أنتم، أيها المؤمنون، رضيتم عنهم وقبلتم معذرتهم، إذ كنتم لا تعلمون صِدْقهم من كذبهم، فإن رضاكم عنهم غيرُ نافعهم عند الله، لأن الله يعلم من سرائر أمرهم ما لا تعلمون، ومن خفيّ اعتقادهم ما تجهلون، وأنهم على الكفر بالله......... (2) يعني أنهم الخارجون من الإيمان إلى الكفر بالله، ومن الطاعة إلى المعصية. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 17091 - هذا مختصر من الخبر الطويل في توبة كعب بن مالك، رواه مسلم في صحيحه 17: 87 - 100، من هذه الطريق، وقد مضى جزء آخر منه برقم: 16147.
(2) لا أشك أن موضع هذه النقط خرم في كلام أبي جعفر، من ناسخ كتابه، وكأن صواب الكلام: " وأنهم على الكفر بالله مقيمون، وأنهم هم الفاسقون، يعني: أنهم الخارجون. . . "، أو كلامًا شبيهًا بهذا.
(3) انظر تفسير " الفسق " فيما سلف ص: 406، تعليق: 1، والمراجع هناك.(14/428)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97)
القول في تأويل قوله: {الأعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: الأعراب أشدُّ جحودًا لتوحيد الله، وأشدّ نفاقًا، من أهل الحضر في القرى والأمصار. وإنما وصفهم جل ثناؤه بذلك، لجفائهم، وقسوة قلوبهم، وقلة مشاهدتهم لأهل الخير، فهم لذلك أقسى قلوبًا، وأقلُّ علمًا بحقوق الله.
* * *
وقوله: (وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) ، يقول: وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، (1) وذلك فيما قال قتادة: السُّنن.
17092- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) ، قال: هم أقل علمًا بالسُّنن.
17093- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: جلس أعرابي إلى زيد بن صَوْحان وهو يحدث أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوَنْد، فقال: والله إنّ حديثك ليعجبني، وإن يدك لَتُرِيبُني! فقال زيد: وما يُريبك من يدي؟ إنها الشمال! فقال الأعرابي: والله ما أدري، اليمينَ يقطعون أم الشمالَ؟ فقال زيد بن صوحان: صدق الله: (الأعرابُ أشدُّ كفرًا ونفاقا وأجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزلَ الله على رسوله) . (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " حدود الله " فيما سلف 8: 68، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 17093 - " عبد الرحمن بن مغراء الدوسي "، ثقة، متكلم فيه. مضى برقم: 11881. وكان في المطبوعة: " عبد الرحمن بن مقرن "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فبدل من عند نفسه.
و"زيد بن صوحان العبدي "، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم، ثقة قليل الحديث، مضى برقم: 13486.
وهذا الخبر رواه ابن سعد في الطبقات 6: 84، 85 من طريق يعلي بن عبيد، عن الأعمش، عن إبراهيم.(14/429)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98)
وقوله: (والله عليم حكيم) ، يقول: (والله عليم) ، بمن يعلم حدودَ ما أنزل على رسوله، والمنافق من خلقه، والكافرِ منهم، لا يخفى عليه منهم أحد = (حكيم) ، في تدبيره إياهم، وفي حلمه عن عقابهم، مع علمه بسرائرهم وخِداعهم أولياءَه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن الأعراب من يَعُدُّ نفقته التي ينفقها في جهاد مشرك، أو في معونة مسلم، أو في بعض ما ندب الله إليه عباده = (مغرما) ، يعني: غرمًا لزمه، لا يرجو له ثوابًا، ولا يدفع به عن نفسه عقابًا = (ويتربص بكم الدوائر) ، يقول: وينتظرون بكم الدوائر، (2) أن تدور بها الأيام والليالي إلى مكروهٍ ومجيء محبوب، (3) وغلبة عدوٍّ لكم. (4) يقول الله تعالى ذكره: (عليهم دائرة السوء) ، يقول: جعل الله دائرة السوء عليهم، ونزول المكروه بهم لا عليكم أيها المؤمنون، ولا بكم = (والله سميع) ، لدعاء الداعين = (عليم) بتدبيرهم، وما هو بهم نازلٌ من عقاب الله، وما هم إليه صائرون من أليم عقابه. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عليم " و " حكيم "، فيما سلف من فهارس اللغة (علم) ، (حكم) .
(2) انظر تفسير " التربص " فيما سلف ص: 291، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة " ونفى محبوب "، وأثبت ما في المخطوطة، وهي سيئة الكتابة.
(4) انظر تفسير " الدوائر " فيما سلف 10: 404.
(5) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) .(14/430)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17094- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله: (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرمًا ويتربص بكم الدوائر) ، قال: هؤلاء المنافقون من الأعراب الذين إنما ينفقون رياءً اتِّقاءَ أن يُغْزَوْا أو يُحارَبوا أو يقاتلوا، ويرون نفقتهم مغرمًا. ألا تراه يقول: (ويتربص بكم الدوائر عليهم دائرة السوء) ؟
* * *
واختلفت القرأة في قراءه ذلك.
فقرأ عامة قرأة أهل المدينة والكوفة: (عَلَيهِم دَائِرَةُ السَّوْءِ) بفتح السين، بمعنى النعت لـ "الدائرة"، وإن كانت "الدائرة" مضافة إليه، كقولهم: "هو رجل السَّوْء"، "وامرؤ الصدق"، من كأنه إذا فُتح مصدرٌ من قولهم: "سؤته أسوُءه سَوْءًا ومَساءَةً ومَسَائِيَةً. (1)
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض البصريين: (عَلَيهِم دَائِرَةُ السُّوْءِ) ، بضم السين، كأنه جعله اسمًا، كما يقال: عليه دائرة البلاء والعذاب. ومن قال: "عليهم دائرة السُّوء" فضم، لم يقل: "هذا رجل السُّوء" بالضم، و"الرجل السُّوء"، (2) وقال الشاعر: (3)
وكُنْتُ كَذِئْبِ السَّوْءِ لَمَّا رَأَى دَمًا ... بِصَاحِبِه يَوْمًا أحَالَ عَلَى الدَّمِ (4)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 449، 450.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 450.
(3) هو الفرزدق.
(4) ديوانه: 749، وطبقات فحول الشعراء: 306، والحيوان 5: 319، 6: 298، واللسان (حول) ، وغيرها كثير، من أبيات لها خبر طويل. وقوله: " أحال على الدم "، أي: أقبل عليه. والذئبان ربما أقبلا على الرجل إقبالا واحدًا، وهما سواء على عداوته والجزم على أكله، فإذا أدمى أحدهما وثب على صاحبه فمزقه وأكله، وترك الإنسان (من كلام الجاحظ) . وقد كرر الفرزدق هذا المعنى في قوله: فَتًى لَيْسَ لابْنِ العَمِّ كالذِّئْبِ، إن رَأَى ... بِصَاحِبِهِ يَوْمًا دَمًا فَهْوَ آكِلُهُ
.(14/431)
وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا بفتح السين، بمعنى: عليهم الدائرة التي تَسُوءهم سوءًا. كما يقال: "هو رجل صِدْق"، على وجه النعت.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمِنَ الأعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن الأعراب من يصدِّق الله ويقرّ بوحدانيته، وبالبعث بعد الموت، والثواب والعقاب، وينوي بما ينفق من نفقة في جهاد المشركين، (1) وفي سفره مع رسول الله صلى الله عليه وسلم (قربات عند الله) ، و"القربات" جمع "قربة"، وهو ما قرَّبه من رضى الله ومحبته = (وصلوات الرسول) ، يعني بذلك: ويبتغي بنفقة ما ينفق، مع طلب قربته من الله، دعاءَ الرسول واستغفارَه له.
وقد دللنا، فيما مضى من كتابنا، على أن من معاني "الصلاة"، الدعاء، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17095- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي،
__________
(1) في المطبوعة: "ينوي بما ينفق"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(2) انظر تفسير " الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة (صلا) .(14/432)
عن ابن عباس قوله (وصلوات الرسول) ، يعني: استغفار النبيّ عليه الصلاة والسلام.
17096- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول) ، قال: دعاء الرسول: قال: هذه ثَنِيَّةُ الله من الأعراب. (1)
17097- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) ، قال: هم بنو مقرِّن، من مزينة، وهم الذين قال الله فيهم: (وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا) ، [سورة التوبة: 92] . قال: هم بنو مقرّن، من مزينة = قال: حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله: (الأعراب أشد كفرًا ونفاقًا) ، ثم استثنى فقال: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) ، الآية.
17098- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا جعفر، عن البختريّ بن المختار العبدي قال، سمعت عبد الرحمن بن معْقل قال: كنا عشرة ولد مقرّن، فنزلت فينا: (ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر) ، إلى آخر الآية. (2)
* * *
__________
(1) " الثنية "، ما استثنى من شيء، وفي حديث كعب الأحبار: " الشهداء ثنية الله في الأرض "، يعني هم من الذين استثناهم الله من الصعقة الأولى، تأول ذلك في قوله تعالى: (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) ، فجعل منهم الشهداء، لأنهم أحياء عند ربهم يرزقون.
(2) الأثر: 17098 - " البختري بن المختار العبدي "، ثقة. مترجم في الكبير 1 \ 2 \ 136 وابن أبي حاتم 1 \ 1 \ 427.
و" عبد الرحمن بن معقل المزني "، تابعي ثقة، وعده بعضهم في الصحابة لهذا الحديث.
فقال الحافظ بن حجر: " إنما عنى بقوله: كنا = أباه وأعمامه، وأما هو فيصغر عن ذلك. ومن أعمامه عبد الرحمن بن مقرن، ذكره ابن سعد في الصحابة ". وهو مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 122، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 284.
وكان في المطبوعة: " عبد الله بن مغفل "، غير ما في المخطوطة، وبدل، وصحف، وأساء إساءة لا يعذر فيها.(14/433)
قال أبو جعفر: قال الله: (ألا إنها قُرْبة لهم) ، يقول تعالى ذكره: ألا إنّ صلوات الرسول قربة لهم من الله.
وقد يحتمل أن يكون معناه: ألا إنّ نفقته التي ينفقها كذلك، قربةٌ لهم عند الله = (سيدخلهم الله في رحمته) ، يقول: سيدخلهم الله فيمن رحمه فأدخله برحمته الجنة = (إن الله غفورٌ) ، لما اجترموا = (رحيم) ، بهم مع توبتهم وإصلاحهم أن يعذبهم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " غفور " و " رحيم " فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) .(14/434)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
القول في تأويل قوله: {وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين سبقوا الناس أولا إلى الإيمان بالله ورسوله = (من المهاجرين) ، الذين هاجروا قومهم وعشيرتهم، وفارقوا منازلهم وأوطانهم (1) = (والأنصار) ، الذين نصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أعدائه من أهل الكفر بالله ورسوله (2) = (والذين اتبعوهم بإحسان) ، يقول: والذين سَلَكوا سبيلهم في الإيمان بالله ورسوله، والهجرة من دار الحرب إلى دار الإسلام، طلبَ رضا الله (3) = (رضي الله عنهم ورضوا عنه) .
__________
(1) انظر تفسير " الهجرة " فيما سلف ص: 173، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " الأنصار " فيما سلف 10: 481، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير " الإحسان " فيما سلف من فهارس اللغة (حسن) .(14/434)
واختلف أهل التأويل في المعنيّ بقوله: (والسابقون الأوّلون) .
فقال بعضهم: هم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان، أو أدْركوا.
* ذكر من قال ذلك:
17099- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن إسماعيل، عن عامر: (والسابقون الأوّلون) ، قال: من أدرك بيعة الرضوان.
17100-...... قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عامر قال: (المهاجرون الأوّلون) ، من أدرك البيعة تحت الشجرة.
17101- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: (المهاجرون الأولون) ، الذين شهدوا بيعة الرضوان.
17102- حدثني الحارث قال: حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان عن مطرف، عن الشعبي قال: "المهاجرون الأولون"، من كان قبل البيعة إلى البيعة، فهم المهاجرون الأوّلون، ومن كان بعد البيعة، فليس من المهاجرين الأولين.
17103- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل ومطرف، عن الشعبي قال: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) ، هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
17104- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن داود، عن عامر قال: فَصْل ما بين الهجرتين بيعة الرضوان، وهي بيعة الحديبية.
17105- حدثني المثني قال، أخبرنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد ومطرف، عن الشعبي قال: هم الذين بايعوا بيعة الرضوان.
17106- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبثر(14/435)
أبو زبيد، عن مطرف، عن الشعبي قال: المهاجرون الأولون، من أدرك بيعة الرضوان. (1)
* * *
وقال آخرون: بل هم الذين صلوا القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
17107- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن قيس، عن عثمان الثقفي، عن مولى لأبي موسى، عن أبي موسى قال: المهاجرون الأولون، من صلى القبلتين مع النبيّ صلى الله عليه وسلم.
17108- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن عثمان بن المغيرة، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير، عن مولى لأبي موسى قال: سألت أبا موسى الأشعري عن قوله: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) ، قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعًا.
17109- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي هلال، عن قتادة قال: قلت لسعيد بن المسيب: لم سُمُّوا "المهاجرين الأولين"؟ قال: من صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم القبلتين جميعًا، فهو من المهاجرين الأولين.
17110- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: المهاجرون الأولون، الذين صلوا القبلتين.
17111- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قوله: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) ، قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعًا.
17112- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عباس بن الوليد قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 17106 - " عبثر، أبو زبيد "، هو " عبثر بن القاسم الزبيدي، أبو زبيد "، مضى برقم: 12402، وغيرها.(14/436)
يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، مثله.
17113- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم، عن بعض أصحابه، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب = وعن أشعث، عن ابن سيرين = في قوله: (والسابقون الأولون) ، قال: هم الذين صلوا القبلتين.
17114- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا ابن عون، عن محمد، قال: المهاجرون الأولون: الذين صلوا القبلتين.
17115- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) ، قال: هم الذين صلوا القبلتين جميعًا.
* * *
وأما الذين اتبعوا المهاجرون الأولين والأنصار بإحسان، فهم الذين أسلموا لله إسلامَهم، وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير. كما: -
17116- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب قال: مرّ عمر برجل وهو يقرأ هذه الآية: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان) ، قال: من أقرأك هذه الآية؟ (1) قال: أقرأنيها أبيّ بن كعب. قال: لا تفارقْني حتى أذهب بك إليه! فأتاه فقال: أنت أقرأت هذا هذه الآية؟ قال: نعم! قال: وسمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال: [نعم!] . (2) لقد كنتُ أرانا رُفِعنا رَفْعَةً لا يبلُغها أحدٌ بعدنا! فقال أبيّ: تصديق ذلك في أول الآية التي في أول الجمعة، (3)
__________
(1) استفهام عمر، كما سيظهر في رقم: 17118، عن قراءة الآية بخفض " الأنصار " بالواو في " والذين "، وقراءته هو، رفع " الأنصار " وبغير واو في قوله " الذين اتبعوهم ".
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة، ونقلتها من تفسير ابن كثير 4: 229.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: " قال: وتصديق ذلك في أول الآية ". وهو غير مستقيم صوابه من تفسير ابن كثير 4: 229، وانظر الأثر التالي.(14/437)
وأوسط الحشر، وآخر الأنفال. أما أول الجمعة: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) ،، [سورة الجمعة: 3] ، وأوسط الحشر: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ) ، [سورة الحشر: 10] ، وأما آخر الأنفال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) ، [سورة الأنفال: 75] .
17117- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: مرّ عمر بن الخطاب برجل يقرأ: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار) ، حتى بلغ: (ورضوا عنه) ، قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ قال: أبي بن كعب! فقال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه! فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا؟ قال: نعم! قال: أنت سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم! قال: لقد كنت أظن أنّا رُفِعنا رَفْعة لا يبلغها أحدٌ بعدنا! فقال أبيّ: بلى، تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) ، إلى: (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) ، وفي سورة الحشر: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإيمَانِ) ، وفي الأنفال: (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ) ، إلى آخر الآية.
* * *
وروي عن عمر في ذلك ما:
17118- حدثني به أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا حجاج، عن هارون، عن حبيب بن الشهيد، وعن ابن عامر الأنصاري: أن عمر بن الخطاب قرأ: (وَالسَّابِقُونَ الأوَّلُونَ مِنَ المُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارُ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ) ، فرفع "الأنصار" ولم يلحق الواو في "الذين"، فقال له زيد بن ثابت "والذين اتبعوهم بإحسان"، فقال عمر: "الذين اتبعوهم بإحسان"، فقال زيد:(14/438)
أمير المؤمنين أعلم! فقال عمر: ائتوني بأبيّ بن كعب. فأتاه، فسأله عن ذلك، فقال أبي: (والذين اتبعوهم بإحسان) ، فقال عمر: إذًا نتابع أبَيًّا.
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة على خفض "الأنصار"، عطفًا بهم على "المهاجرين".
* * *
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ: (الأنْصَارُ) ، بالرفع، عطفًا بهم على "السابقين".
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا أستجيز غيرها، الخفضُ في (الأنْصَارِ) ، لإجماع الحجة من القرأة عليه، وأن السابق كان من الفريقين جميعًا، من المهاجرين والأنصار، وإنما قصد الخبر عن السابق من الفريقين، دون الخبر عن الجميع = وإلحاق "الواو" في "الذين اتبعوهم بإحسان"، (1) لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين جميعًا، على أن "التابعين بإحسان"، غير "المهاجرين والأنصار"، وأما "السابقون"، فإنهم مرفوعون بالعائد من ذكرهم في قوله: (رضي الله عنهم ورضوا عنه) .
* * *
ومعنى الكلام: رضي الله عن جميعهم لما أطاعوه، وأجابوا نبيّه إلى ما دعاهم إليه من أمره ونهيه = ورضي عنه السابقون الأوّلون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان، لما أجزل لهم من الثواب على طاعتهم إياه، وإيمانهم به وبنبيه عليه السلام = (وأعد لهم جناتٍ تجري تحتها الأنهار) ، يدخلونها = (خالدين فيها) ، لابثين فيها (2) = (أبدًا) ، لا يموتون فيها ولا يخرجون منها (3) = (ذلك الفوز العظيم) . (4)
* * *
__________
(1) قوله: " وإلحاق الواو " معطوف على قوله: " والقراءة التي لا أستجيز غيرها، الخفض. . . ".
(2) انظر تفسير " الخلد " فيما سلف من فهارس اللغة (خلد) .
(3) انظر تفسير " أبدًا " فيما سلف ص: 175، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير " الفوز " فيما سلف ص: 415، تعليق: 8، والمراجع هناك.(14/439)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
القول في تأويل قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الأعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن القوم الذين حول مدينتكم من الأعراب منافقون، ومن أهل مدينتكم أيضًا أمثالهم أقوامٌ منافقون.
* * *
وقوله: (مردوا على النفاق) ، يقول: مرَنُوا عليه ودَرِبوا به.
* * *
ومنه: "شيطانٌ مارد، ومَرِيد"، وهو الخبيث العاتي. ومنه قيل: "تمرَّد فلان على ربه"، أي: عتَا، ومرنَ على معصيته واعتادها. (1)
* * *
وقال ابن زيد في ذلك ما: -
17119- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) ، قال: أقاموا عليه، لم يتوبوا كما تابَ الآخرون.
17120- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) ، أي لجُّوا فيه، وأبوْا غيرَه. (2)
* * *
= (لا تعلمهم) ، يقول لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: لا تعلم، يا محمد، أنت هؤلاء المنافقين الذين وصفتُ لك صفتهم ممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة،
__________
(1) انظر تفسير " مريد " فيما سلف 9: 211، 212، وفي المطبوعة: " أي: عتا ومرد على معصيته. . . "، والصواب ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 17120 - سيرة ابن هشام 4: 198، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17089.(14/440)
ولكنا نحن نعلمهم، كما: -
17121- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وممن حولكم من الأعراب منافقون) ، إلى قوله: (نحن نعلمهم) ، قال: فما بال أقوام يتكلَّفون علم الناس؟ فلانٌ في الجنة وفلان في النار! فإذا سألت أحدهم عن نفسه قال: لا أدري! لعمري أنتَ بنفسك أعلم منك بأعمال الناس، ولقد تكلفت شيئا ما تكلفته الأنبياء قبلك! قال نبي الله نوح عليه السلام: (وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ،، [سورة الشعراء: 112] ، وقال نبي الله شعيب عليه السلام: (بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ) [سورة هود: 86] ، وقال الله لنبيه عليه السلام: (لا تعلمهم نحن نعلمهم) .
* * *
وقوله: (سنعذبهم مرتين) ، يقول: سنعذب هؤلاء المنافقين مرتين، إحداهما في الدنيا، والأخرى في القبر.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في التي في الدنيا، ما هي؟
فقال بعضهم: هي فضيحتهم، فضحهم الله بكشف أمورهم، وتبيين سرائرهم للناس على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
17122- حدثنا الحسين بن عمرو العنقزي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس في قول الله: (وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق) ، إلى قوله: (عذاب عظيم) ، قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم خطيبًا يوم الجمعة، فقال: اخرج يا فلان، فإنك منافق. اخرج، يا فلان، فإنك منافق. فأخرج من المسجد ناسًا منهم، فضحهم. فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد، فاختبأ منهم حياءً(14/441)
أنه لم يشهد الجمعة، وظنّ أن الناس قد انصرفوا، واختبأوا هم من عمر، ظنّوا أنه قد علم بأمرهم. فجاء عمر فدخل المسجد، فإذا الناس لم يصلُّوا، فقال له رجل من المسلمين: أبشر، يا عمر، فقد فضح الله المنافقين اليوم! فهذا العذاب الأول، حين أخرجهم من المسجد. والعذاب الثاني، عذاب القبر. (1)
17123- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: (سنعذبهم مرتين) ، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فيذكر المنافقين، فيعذبهم بلسانه، قال: وعذاب القبر.
* * *
[وقال آخرون: ما يصيبهم من السبي والقتل والجوع والخوف في الدنيا.] (2)
* * *
ذكر من قال ذلك:
17124- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين) ، قال: القتل والسِّبَاء.
17125- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين) ، بالجوع، وعذاب القبر. قال: (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، يوم القيامة.
17126- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا جعفر بن عون، والقاسم، ويحيى بن آدم، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (سنعذبهم مرتين) ، قال: بالجوع والقتل = وقال يحيى: الخوف والقتل. (3)
17127- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: بالجوع والقتل.
__________
(1) الأثر: 17122 - رواه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 33، وقال: " رواه الطبراني في الأوسط، وفيه الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، وهو ضعيف ".
(2) هذه الترجمة التي بين القوسين، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة، استظهرتها من سياق الأخبار التالية.
(3) في المطبوعة: " بالجوع. . . "، بالباء في أوله، وأثبت ما في المخطوطة.(14/442)
17128- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك: (سنعذبهم مرتين) ، قال: بالجوع، وعذاب القبر.
17129- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (سنعذبهم مرتين) ، قال: الجوع والقتل. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: سنعذبهم عذابًا في الدنيا، وعذابًا في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
17130- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (سنعذبهم مرتين) ، عذاب الدنيا، وعذاب القبر، (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أسرَّ إلى حذيفة باثني عشر رجلا من المنافقين، فقال: "ستة منهم تكفيكَهم الدُّبيلة، (2) سِراج من نار جهنم، يأخذ في كتف أحدهم حتى تُفضي إلى صدره، وستة يموتون موتًا. ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رحمه الله، كان إذا مات رجل يرى أنه منهم، نظر إلى حذيفة، فإن صلى عليه، وإلا تركه. وذكر لنا أن عمر قال لحذيفة: أنشُدُك الله، أمنهم أنا؟ قال: لا والله، ولا أومِن منها أحدًا بعدك!
17131- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن الحسن: (سنعذبهم مرتين) ، قال: عذاب الدنيا وعذاب القبر.
17132- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن العلاء قالا حدثنا بدل بن المحبر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة: (سنعذبهم مرتين) ، قال: عذابًا في الدنيا، وعذابًا في القبر.
__________
(1) في المطبوعة: " بالجوع "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) " الدبيلة " في اللغة، خراج ودمل كبير، تظهر في الجوف، فتقتل صاحبها غالبا، وهي تصغير " دبلة " (بضم الدال وسكون الباء) ، بمثل معناها.(14/443)
17133- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: عذاب الدنيا، وعذاب القبر، = ثم يردّون إلى عذاب النار.
* * *
وقال آخرون: كان عذابهم إحدى المرتين، مصائبَهم في أموالهم وأولادهم، والمرة الأخرى في جهنم.
* ذكر من قال ذلك:
17134- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: (سنعذبهم مرتين) ، قال: أما عذابٌ في الدنيا، فالأموال والأولاد، وقرأ قول الله: (فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) ، [سورة التوبة: 55] ، بالمصائب فيهم، هي لهم عذاب، وهي للمؤمنين أجر. قال: وعذاب في الآخرة، في النار = (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، قال: النار.
* * *
وقال آخرون: بل إحدى المرتين، الحدود، والأخرى: عذابُ القبر.
ذكر ذلك عن ابن عباس من وجه غير مرتضًى. (1)
* * *
وقال آخرون: بل إحدى المرتين، أخذ الزكاة من أموالهم، والأخرى عذابُ القبر. ذكر ذلك عن سليمان بن أرقم، عن الحسن.
* * *
وقال آخرون: بل إحدى المرتين، عذابُهم بما يدخل عليهم من الغَيْظِ في أمر الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
17135- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (سنعذبهم مرتين) ، قال: العذاب الذي وعدَهم مرتين، فيما بلغني، غَمُّهم بما هم
__________
(1) في المطبوعة: " غير مرضي ". وأثبت ما في المخطوطة.(14/444)
فيه من أمر الإسلام، (1) وما يدخل عليهم من غيظ ذلك على غير حِسْبة، ثم عذابهم في القبر إذا صاروا إليه، ثم العذاب العظيم الذي يردُّون إليه، عذابُ الآخرة، (2) والخُلْد فيه. (3)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي أن يقال: إن الله أخبر أنه يعذِّب هؤلاء الذين مرَدوا على النفاق مرتين، ولم يضع لنا دليلا يوصِّل به إلى علم صفة ذينك العذابين (4) = وجائز أن يكون بعض ما ذكرنا عن القائلين ما أنبئنا عنهم. وليس عندنا علم بأيِّ ذلك من أيٍّ. (5) غير أن في قوله جل ثناؤه: (ثم يردّون إلى عذاب عظيم) ، دلالة على أن العذاب في المرَّتين كلتيهما قبل دخولهم النار. والأغلب من إحدى المرتين أنها في القبر.
* * *
وقوله: (ثم يردون إلى عذاب عظيم) ، يقول: ثم يردُّ هؤلاء المنافقون، بعد تعذيب الله إياهم مرتين، إلى عذاب عظيم، وذلك عذاب جهنم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " فيما بلغني عنهم ما هم فيه أمر الإسلام "، والصواب من سيرة ابن هشام.
(2) في المطبوعة: " ويخلدون فيه "، وفي المخطوطة: " ويخلد فيه "، وصواب قراءتها من سيرة ابن هشام.
(3) الأثر: 17135 - سيرة ابن هشام 4: 198، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17120.
(4) في المطبوعة: " نتوصل به "، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: " بأي ذلك من بأي، على أن في قوله. . . "، فحرف وبدل وأفسد الكلام إفسادًا.
وانظر القول في " أي ذلك كان من أي " فيما سلف ص: 365، تعليق: 1، والمراجع هناك، فقد مضت أخواتها كثيرًا، وحرفها الناسخ.(14/445)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
القول في تأويل قوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن أهل المدينة منافقون مردوا على النفاق، ومنهم "آخرون اعترفوا بذنوبهم"، يقول: أقرُّوا بذنوبهم = (خلطوا عملا صالحًا) ، يعني جل ثناؤه بالعمل الصالح الذي خلطوه بالعمل السيئ: اعترافهم بذنوبهم، وتوبتهم منها، والآخر السيئ: هو تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين خرج غازيًا، وتركهم الجهادَ مع المسلمين.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، وإنما الكلام: خلطوا عملا صالحًا بآخر سيئ؟
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك.
فكان بعض نحويي البصرة يقول: قيل ذلك كذلك، وجائز في العربية أن يكون "بآخر"، (1) كما تقول "استوى الماء والخشبة"، أي: بالخشبة، "وخلطت الماء واللبن".
وأنكر [آخر] أن يكون نظير قولهم (2) "استوى الماء والخشبة". واعتلَّ في ذلك بأن الفعل في "الخلط" عامل في الأول والثاني، وجائز تقديم كل واحد منهما على صاحبه، وأن تقديم "الخشبة" على "الماء" غير جائز في قولهم: "استوى الماء والخشبة"، وكان ذلك عندهم دليلا على مخالفة ذلك "الخلطَ". (3)
__________
(1) لا شك أن الناسخ أسقط شيئًا من كلام أبي جعفر، وهو ظاهر لمن تأمل. وانظر التعليق التالي.
(2) الذي بين القوسين في المطبوعة وحدها، ولكنه كان فيها " آخرون ". أما المخطوطة ففيها: " وأنكر أن يكون نظير قولهم. . . "، وهذا أيضا دال على إسقاط الناسخ بعض الكلام. وانظر التعليق التالي.
(3) في المطبوعة: " دليلا عندهم "، وأثبت ما في المخطوطة، ولكن الناشر الأول غيره، لما وضع " آخرون " من عند نفسه. انظر التعليق السالف.
هذا، وقد تركت الكلام على حاله، لأني لا شك أن الناسخ تخطأ بعض كلام أبي جعفر.(14/446)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي: أنه بمعنى قولهم: "خلطت الماء واللبن"، بمعنى: خلطته باللبن.
* * *
="عسى الله أن يتوب عليهم"، يقول: لعل الله أن يتوب عليهم= "وعسى" من الله واجب، (1) وإنما معناه: سيتوب الله عليهم، ولكنه في كلام العرب على ما وصفت= "إن الله غفور رحيم"، يقول: إن الله ذو صفح وعفو لمن تاب عن ذنوبه، وساترٌ له عليها = "رحيم"، به أن يعذبه بها. (2)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنيّ بهذه الآية، والسبب الذي من أجله أنزلت فيه.
فقال بعضهم: نزلت في عشرة أنفس كانوا تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، منهم أبو لبابة، فربط سبعةٌ منهم أنفسهم إلى السّواري عند مَقْدم النبي صلى الله عليه وسلم، توبةً منهم من ذنبهم.
* ذكر من قال ذلك:
17136- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، قال: كانوا عشرة رَهْطٍ تخلّفوا عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما حضرَ رُجوع النبي صلى الله عليه وسلم، أوثق سبعةٌ منهم أنفسهم بسواري المسجد، فكان ممرّ النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع في المسجد عليهم. (3)
__________
(1) انظر تفسير "عسى" فيما سلف: ص 167 تعليق 5، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير "غفور" و "رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة (غفر) ، (رحم) .
(3) في المطبوعة: "وكان" وأثبت ما في المخطوطة بالفاء.(14/447)
فلما رآهم قال: "من هؤلاء الموثِقُون أنفسهم بالسواري؟ قالوا: هذا أبو لبابة وأصحابٌ له تخلفوا عنك، يا رسول الله، [وحلفوا لا يطلقهم أحد] ، حتى تطلقهم، وتعذرهم. (1) فقال النبي عليه السلام: وأنا أقسم بالله لا أطلقهم ولا أعذرهم، حتى يكون الله هو الذي يطلقهم، رغبوا عني وتخلفوا عن الغزو مع المسلمين! فلما بلغهم ذلك قالوا: ونحن لا نطلق أنفسنا حتى يكون الله الذي يطلقنا! (2) فأنزل الله تبارك وتعالى: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم) = و"عسى" من الله واجب. فلما نزلت أرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم فأطلقهم وعَذَرَهُم.
* * *
وقال آخرون: بل كانوا ستة، أحدهم أبو لبابة.
* ذكر من قال ذلك:
17137- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله) ، إلى قوله: (إن الله غفور رحيم) ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزا غزوة تبوك، فتخلف أبو لبابة وخمسة معه عن النبي صلى الله عليه وسلم. ثم إن أبا لبابة ورجلين معه تفكّروا وندموا، وأيقنوا بالهلكة، وقالوا: "نكون في الكِنِّ والطمأنينة مع النساء، ورسول الله والمؤمنون معه في الجهاد! والله لنوثقنّ أنفسنا بالسّواري، فلا نطلقها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يطلقنا ويعذرُنا"، فانطلق أبو لبابة وأوثق نفسه ورجلان معه بسواري المسجد، وبقي ثلاثةُ نفرٍ لم يوثقوا أنفسهم. فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " تخلفوا عنك يا رسول الله حتى تطلقهم وتعذرهم "، سقط بعض الكلام وتمامه في الدر المنثور: " وحلفوا أنهم لا يطلقهم أحد حتى تطلقهم وتعذرهم "، وآثرت ما وضعته بين القوسين.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " ونحن بالله "، وآثرت ما كتبت.(14/448)
من غزوته، وكان طريقه في المسجد، فمرَّ عليهم فقال: من هؤلاء الموثقو أنفسهِم بالسواري؟ فقالوا: هذا أبو لبابة وأصحاب له، تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم وترضى عنهم، وقد اعترفوا بذنوبهم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والله لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يكون الله هو يعذرهم، وقد تخلفوا عني ورغبوا بأنفسهم عن غزو المسلمين وجهادهم! فأنزل الله برحمته: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) = و"عسى" من الله واجب = فلما نزلت الآية أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعذرَهم، وتجاوز عنهم.
* * *
وقال آخرون: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري كانوا ثمانية.
* ذكر من قال ذلك:
17138- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم إن الله غفور رحيم) ، قال: هم الثمانية الذين ربطوا أنفسهم بالسواري، منهم كرْدَم، ومرداس، وأبو لبابة.
17139- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد قال: الذين ربطوا أنفسهم بالسواري: هلال، وأبو لبابة، وكردم، ومرداس، وأبو قيس. (1)
* * *
وقال آخرون: كانوا سبعة.
* ذكر من قال ذلك:
17140- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) هؤلاء خمسة، لم يذكر تمام الثمانية، كما تدل عليه ترجمة الكلام.(14/449)
قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا عسى الله أن يتوب عليهم) ، ذكر لنا أنهم كانوا سبعة رَهْطٍ تخلفوا عن غزوة تبوك، فأما أربعة فخلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا: جدُّ بن قيس، وأبو لبابة، وحرام، وأوس، وكلهم من الأنصار، وهم الذين قيل فيهم: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ) ، الآية.
17141- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، قال: هم نفر ممن تخلف عن تبوك، منهم أبو لبابة، ومنهم جد بن قيس، تِيبَ عليهم = قال قتادة: وليسوا بثلاثة.
17142- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال: هم سبعة، منهم أبو لبابة، كانوا تخلفوا عن غزوة تبوك، وليسوا بالثلاثة.
17143- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، نزلت في أبي لبابة وأصحابه، تخلفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فلما قَفَل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، وكان قريبًا من المدينة، ندموا على تخلفهم عن رسول الله وقالوا: "نكون في الظلال والأطعمة والنساء، ونبي الله في الجهاد واللأواء! والله لنوثقن أنفسنا بالسواري، ثم لا نطلقها حتى يكون نبي الله صلى الله عليه وسلم يطلقنا ويعذرنا! " وأوثقوا أنفسهم، وبقي ثلاثة، لم يوثقوا أنفسهم بالسواري. (1) فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته، فمرّ في المسجد، وكان طريقه، فأبصرهم، فسأل عنهم، فقيل له: أبو لبابة وأصحابه، تخلفوا عنك، يا نبي الله، فصنعوا بأنفسهم
__________
(1) " بالسواري " زيادة من المخطوطة، ليست في المطبوعة.(14/450)
ما ترى، وعاهدوا الله أن لا يطلقوا أنفسهم حتى تكون أنت الذي تطلقهم! فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لا أطلقهم حتى أومر بإطلاقهم، ولا أعذرهم حتى يعذرهم الله، قد رغبوا بأنفسهم عن غزوة المسلمين! فأنزل الله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، إلى: (عسى الله أن يتوب عليهم) = و"عسى" من الله واجب = فأطلقهم نبيُّ الله وعذرهم.
* * *
وقال آخرون: بل عني بهذه الآية أبو لبابة خاصة، وذنبه الذي اعترف به فتيب عليه فيه، (1) ما كان من أمره في بني قريظة.
* ذكر من قال ذلك:
17144- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال: نزلت في أبي لبابة، قال لبني قريظة ما قال.
17145- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال: أبو لبابة، إذ قال لقريظة ما قال، أشار إلى حلقه: إن محمدًا ذابحكم إن نزلتم على حُكْم الله.
17146- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، فذكر نحوه = إلا أنه قال: إن نزلتم على حكمه.
17147- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد: ربط أبو لبابة نفسه إلى سارية، فقال: لا أحلُّ نفسي حتى يحلني الله ورسوله! قال: فحلَّه النبي صلى الله عليه وسلم: وفيه أنزلت هذه الآية: (وآخرون اعترفوا
__________
(1) في المطبوعة: " فتيب عليه منه "، وأثبت ما في المخطوطة، وهي صواب محض.(14/451)
بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا) ، الآية.
17148- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن ليث، عن مجاهد: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، قال: نزلت في أبي لبابة.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في أبي لبابة، بسبب تخلفه عن تبوك.
* ذكر من قال ذلك:
17149- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، قال: قال الزهري: كان أبو لبابة ممن تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فربط نفسه بسارية، فقال: والله لا أحلّ نفسي منها، ولا أذوق طعامًا ولا شرابًا، حتى أموت أو يتوب الله عليّ! فمكث سبعة أيام لا يذوق طعامًا ولا شرابًا، حتى خرّ مغشيا عليه، قال: ثم تاب الله عليه، ثم قيل له: قد تيب عليك يا أبا لبابة! فقال: والله لا أحلّ نفسي حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يحلني! قال: فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فحله بيده. ثم قال أبو لبابة: يا رسول الله، إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب، وأن أنخلع من مالي كله صدقة إلى الله وإلى رسوله! قال: يجزيك يا أبا لبابة الثلث.
* * *
وقال بعضهم: عني بهذه الآية الأعراب.
* ذكر من قال ذلك:
17150- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) ، قال: فقال إنهم من الأعراب.
17151- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حجاج بن أبي زينب قال: سمعت أبا عثمان يقول: ما في القرآن آية أرجى عندي لهذه(14/452)
الأمة من قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، إلى: (إن إ لله غفور رحيم) . (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قولُ من قال: نزلت هذه الآية في المعترفين بخطأ فعلهم في تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتركهم الجهادَ معه، والخروجَ لغزو الروم، حين شخص إلى تبوك = وأن الذين نزل ذلك فيهم جماعة، أحدهم أبو لبابة.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في ذلك، لأن الله جل ثناؤه قال: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، فأخبر عن اعتراف جماعة بذنوبهم، ولم يكن المعترفُ بذنبه، الموثقُ نفسه بالسارية في حصار قريظة، غير أبي لبابة وحده. فإذ كان ذلك [كذلك] ، (2) وكان الله تبارك وتعالى قد وصف في قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم) ، بالاعتراف بذنوبهم جماعةً، عُلِم أن الجماعة الذين وصفهم بذلك ليست الواحد، (3) فقد تبين بذلك أن هذه الصفة إذا لم تكن إلا لجماعة، وكان لا جماعةَ فعلت ذلك، فيما نقله أهل السير والأخبار وأجمع عليه أهل التأويل، إلا جماعة من المتخلفين عن غزوة تبوك، صحَّ ما قلنا في ذلك. وقلنا: "كان منهم أبو لبابة"، لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك.
* * *
__________
(1) الأثر: 17151 - " حجاج بن أبي زينب السلمي "، " أبو يوسف الواسطي "، " الصيقل "، ضعيف، ليس بقوي ولا حافظ. مترجم في التهذيب، والكبير 1 \ 2 \ 373، وابن أبي حاتم 1 \ 2 \ 161، وميزان الاعتدال 1: 215. وكان في المطبوعة: " بن أبي ذئب "، وهو خطأ، والمخطوطة برسم المطبوعة غير منقوطة.
و" أبو عثمان "، هو النهدي، " عبد الرحمن بن مل "، ثقة، أسلم على عهد رسول الله ولم يلقه. مضى مرارًا، منها رقم: 13097 - 13100.
وهذا الخبر خرجه السيوطي في الدر المنثور 3: 273، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وابن أبي الدنيا في التوبة، وابن المنذر، وأبي الشيخ، والبيهقي في شعب الإيمان.
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(3) في المطبوعة: " أن الجماعة الذين وصفهم بذلك السبب غير الواحد "، أساء قراءة المخطوطة، فحرف وزاد من عنده، ما أفسد الكلام وأهلكه.(14/453)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103)
القول في تأويل قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم فتابوا منها = (صدقة تطهرهم) ، من دنس ذنوبهم (1) = (وتزكيهم بها) ، يقول: وتنمِّيهم وترفعهم عن خسيس منازل أهل النفاق بها، إلى منازل أهل الإخلاص (2) = (وصل عليهم) ، يقول: وادع لهم بالمغفرة لذنوبهم، واستغفر لهم منها = (إن صلاتك سكن لهم) ، يقول: إن دعاءك واستغفارك طمأنينة لهم، بأن الله قد عفا عنهم وقبل توبتهم (3) = (والله سميع عليم) ، يقول: والله سميع لدعائك إذا دعوت لهم، ولغير ذلك من كلام خلقه = (عليم) ، بما تطلب بهم بدعائك ربّك لهم، وبغير ذلك من أمور عباده. (4)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17152- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: جاءوا بأموالهم = يعني أبا لبابة وأصحابه = حين أطلقوا، فقالوا: يا رسول الله هذه أموالنا فتصدّق بها عنا، واستغفر لنا! قال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا! فأنزل الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم
__________
(1) انظر تفسير " التطهير " فيما سلف 12: 549، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير " التزكية " فيما سلف من فهارس اللغة (زكا) .
(3) انظر تفسير " الصلاة " فيما سلف من فهارس اللغة (صلا) .
= وتفسير " سكن " فيما سلف 11: 557.
(4) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة (سمع) ، (علم) .(14/454)
وتزكيهم بها) ، يعني بالزكاة: طاعة الله والإخلاص = (وصل عليهم) ، يقول: استغفر لهم.
17153- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لما أطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وصاحبيه، انطلق أبو لبابة وصاحباه بأموالهم، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: خذ من أموالنا فتصدَّق بها عنا، وصلِّ علينا = يقولون: استغفر لنا = وطهرنا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا آخذ منها شيئًا حتى أومر. فأنزل الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ، يقول: استغفر لهم من ذنوبهم التي كانوا أصابوا. فلما نزلت هذه الآية أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم جزءًا من أموالهم، فتصدَّق بها عنهم.
17154- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب، عن زيد بن أسلم قال: لما أطلق النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة والذين ربطوا أنفسهم بالسَّواري، قالوا: يا رسول الله، خذ من أموالنا صدقة تطهرنا بها! فأنزل الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) ، الآية.
17155- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن يعقوب، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: قال الذين ربطوا أنفسهم بالسواري حين عفا عنهم: يا نبيّ الله؛ طهِّر أموالنا! فأنزل الله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ، وكان الثلاثة إذا اشتكى أحدهم اشتكى الآخران مثله، وكان عَمي منهم اثنان، فلم يزل الآخر يدعو حتى عَمِي.
17156- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الأربعة: جدُّ بن قيس، وأبو لبابة، وحرام، وأوس، هم الذين قيل فيهم: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ، أي وقارٌ لهم، وكانوا وعدوا من أنفسهم أن ينفقوا ويجاهدوا ويتصدَّقوا.(14/455)
17157- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك، قال: لما أطلق نبيّ الله صلى الله عليه وسلم أبا لبابة وأصحابه، أتوا نبيّ الله بأموالهم فقالوا: يا نبي الله، خذ من أموالنا فتصدَّق به عنا، وطهَّرنا، وصلِّ علينا! يقولون: استغفر لنا = فقال نبي الله: لا آخذ من أموالكم شيئًا حتى أومر فيها = فأنزل الله عز وجل: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم) ، من ذنوبهم التي أصابوا = (وصل عليهم) ، يقول: استغفر لهم. ففعل نبي الله عليه السلام ما أمره الله به.
17158- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله: (خذ من أموالهم صدقة) ، أبو لبابة وأصحابه = (وصل عليهم) ، يقول: استغفر لهم، لذنوبهم التي كانوا أصابوا.
17159- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم) ، قال: هؤلاء ناسٌ من المنافقين ممن كان تخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، اعترفوا بالنفاق، وقالوا: يا رسول الله، قد ارتبنا ونافقنا وشككنا، ولكن توبةٌ جديدة، وصدقةٌ نخرجها من أموالنا! فقال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) ، بعد ما قال: (وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) ، [سورة التوبة: 84] .
* * *
واختلف أهل العربية في وجه رفع "تزكيهم".
فقال بعض نحويي البصرة: رفع "تزكيهم بها"، في الابتداء، وإن شئت جعلته من صفة "الصدقة"، ثم جئت بها توكيدًا، وكذلك "تطهرهم".(14/456)
وقال بعض نحويي الكوفة: إن كان قوله: (تطهرهم) ، للنبي عليه السلام فالاختيار أن تجزم، لأنه لم يعد على "الصدقة" عائد، (1) (وتزكيهم) ، مستأنَفٌ. وإن كانت الصدقة تطهرهم وأنت تزكيهم بها، جاز أن تجزم الفعلين وترفعهما.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب في ذلك من القول، أن قوله: (تطهرهم) ، من صلة "الصدقة"، لأن القرأة مجمعة على رفعها، وذلك دليل على أنه من صلة "الصدقة". وأما قوله: (وتزكيهم بها) ، فخبر مستأنَفٌ، بمعنى: وأنت تزكيهم بها، فلذلك رفع.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (إن صلاتك سكن لهم) .
فقال بعضهم: رحمة لهم.
* ذكر من قال ذلك:
17160- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، (إن صلاتك سكن لهم) ، يقول: رحمة لهم.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: إن صلاتك وقارٌ لهم.
* ذكر من قال ذلك:
17161- حدثنا بشر قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إن صلاتك سكن لهم) ، أي: وقارٌ لهم.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة المدينة: (إِنَّ صَلوَاتِكَ سَكَنٌ لَهُمْ) بمعنى دعواتك.
* * *
__________
(1) في المطبوعة " بأنه لم يعد "، وأثبت ما في المخطوطة.(14/457)
أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
وقرأ قرأة العراق وبعض المكيين: (إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ، بمعنى: إن دعاءك.
* * *
قال أبو جعفر: وكأنَّ الذين قرأوا ذلك على التوحيد، رأوا أن قراءته بالتوحيد أصحُّ، لأن في التوحيد من معنى الجمع وكثرة العدد ما ليس في قوله: (إن صلواتك سكن لهم) ، إذ كانت "الصلوات"، هي جمع لما بين الثلاث إلى العشر من العدد، دون ما هو أكثر من ذلك. والذي قالوا من ذلك، عندنا كما قالوا، وبالتوحيد عندنا القراءةُ لا العلة، لأن ذلك في العدد أكثر من "الصلوات"، (1) ولكن المقصود منه الخبر عن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصلواته أنه سكن لهؤلاء القوم، (2) لا الخبر عن العدد. وإذا كان ذلك كذلك، كان التوحيد في "الصلاة" أولى.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) }
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره، أخبر به المؤمنين به: أن قبول توبة من تاب من المنافقين، وأخذ الصدقة من أموالهم إذا أعطوها، ليسا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم = وأن نبيَّ الله حين أبى أن يطلق من ربط نفسه بالسواري من المتخلفين عن الغزو معه، وحين ترك قبول صدقتهم بعد أن أطلق الله عنهم حين أذن له في ذلك، إنما فعل ذلك من أجل أن ذلك لم يكن إليه صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك إلى الله تعالى ذكره دون محمد، وأن محمدًا إنما يفعل ما يفعل من تركٍ وإطلاقٍ
__________
(1) في المطبوعة: " وبالتوحيد عندنا القراءة لا لعلة أن ذلك في العدد. . . "، غير ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(2) في المطبوعة: " وصلاته "، وأثبت ما في المخطوطة.(14/458)
وأخذِ صدقةٍ وغير ذلك من أفعاله بأمر الله. فقال جل ثناؤه: ألم يعلم هؤلاء المتخلفون عن الجهاد مع المؤمنين، الموثقو أنفسهم بالسواري، القائلون: "لا نُطلق أنفسنا حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يطلقنا"، السَّائلو رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أخذَ صدقة أموالهم، أنَّ ذلك ليس إلى محمد، وأن ذلك إلى الله، وأن الله هو الذي يقبل توبة من تاب من عباده أو يردُّها، ويأخذ صدقة من تصدَّق منهم أو يردُّها عليه دون محمد، فيوجِّهوا توبتهم وصدقتهم إلى الله، ويقصدوا بذلك قصدَ وجهه دون محمد وغيره، ويخلصوا التوبة له، ويريدوه بصدقتهم، ويعلموا أن الله هو التواب الرحيم؟ = يقول: المراجع لعبيده إلى العفو عنه إذا رجعوا إلى طاعته، الرحيم بهم إذا هم أنابوا إلى رضاه من عقابه. (1)
* * *
وكان ابن زيد يقول في ذلك ما: -
17162- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال الآخرون = يعني الذين لم يتوبوا من المتخلفين: هؤلاء، يعني الذين تابوا، كانوا بالأمس معنا لا يكلَّمون ولا يجالَسون، فما لهم؟ فقال الله: (إن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات وأن الله هو التواب الرحيم) . (2)
17163- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني رجل كان يأتي حمادًا ولم يجلس إليه = قال شعبة: قال العوام بن حوشب: هو قتادة، أو ابن قتادة، رجل من محارب = قال: سمعت عبد الله بن السائب = وكان جاره = قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: ما من عبدٍ تصدق بصدقة إلا وقعت في يد الله، فيكون هو الذي يضعُها في يد السائل. وتلا هذه الآية: (هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) . (3)
__________
(1) انظر تفسير " التوبة "، " التواب "، " الرحيم "، فيما سلف من فهارس اللغة (توب) ، (رحم) .
(2) انظر تفسير " التوبة "، " التواب "، " الرحيم "، فيما سلف من فهارس اللغة (توب) ، (رحم) .
(3) الأثر: 17163 - " قتادة "، أو " ابن قتادة "، رجل من محارب. لم أجده هكذا.
ولم أجد أحدًا تكلم في أمره أو ذكره. وصريح هذا الإسناد يدل على أن " قتادة " أو " ابن قتادة " المحاربي، هذا، هو الذي أخبر شعبة، وهو الذي كان يأتي حمادًا، ولم يجلس إليه، وأنه هو الذي سمع من عبد الله بن السائب، وكان جاره، وأن " عبد الله بن السائب " هو الذي سمع من عبد الله ابن مسعود. وهذا إشكال:
فإن " عبد الله بن السائب "، هو " عبد الله بن السائب الكندي "، روى عن أبيه، وزادان الكندي. وعبد الله بن معقل بن مقرن، وعبد الله بن قتادة المحاربي (كما سيأتي في الآثار التالية) . وروى عنه الأعمش، وأبو إسحاق الشيباني، والعوام بن حوشب، وسفيان الثوري. وهو ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 75، ولم يذكروا له رواية عن ابن مسعود كما ترى، بل ذكروا روايته عن " عبد الله بن قتادة المحاربي "، كما سيأتي في الآثار التالية.
فأنا أخشى أن يكون في إسناد هذا الخبر شيء، بدلالة الآثار التي تليه، وهي مستقيمة على ما ذكر في كتب الرجال، وأخشى أن يكون شعبة سمعه عن رجل كان يأتي حمادًا ولم يجلس إليه، عن عبد الله بن السائب، عن قتادة، أو ابن قتادة، رجل من محارب = ثم سمعه من العوام بن حوشب، عن عبد الله بن السائب، عن قتادة، أو قتادة، رجل من محارب = وأن يكون الناسخ قد أفسد الإسناد. وانظر الكلام على " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي " أو " عبد الله بن قتادة " في التعليق على الآثار التالية.(14/459)
17164- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن أبي قتادة المحاربي، عن عبد الله بن مسعود قال: ما تصدَّق رجلٌ بصدقة إلا وقعت في يد الله قبل أن تقع في يد السائل، وهو يضعها في يد السائل. ثم قرأ: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده، ويأخذ الصدقات) . (1)
17165- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن ابن مسعود، بنحوه. (2)
17166- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن عبد الله بن السائب، عن عبد الله بن أبي قتادة قال، قال عبد الله: إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل. ثم قرأ هذه الآية: (هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) (3)
__________
(1) الآثار: 17164 - 17166 - " عبد الله بن السائب الكندي "، مضى في التعليق السالف.
وأما " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي "، فهو هكذا في جميعها، إلا في رقم: 17165، فإنه في المخطوطة: " عبد الله بن قتادة "، ولكن ناشر المطبوعة زاد " أبي " من عند نفسه.
وأما كتب التراجم، فلم تذكر سوى " عبد الله بن قتادة المحاربي "، ترجم له ابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 141 وقال: " روي عن عبد الله بن مسعود، روى عنه عبد الله بن السائب، سمعت أبي يقول ذلك ". وترجم له أيضا الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة: 233، وقال: " عن ابن مسعود، وعنه عبد الله بن السائب، وثقه ابن حبان "، ثم قال: " كلام البخاري يدل على أنه لم يرو شيئًا مسندا فإنه قال: روي عن ابن مسعود قوله في الصدقة، قاله الثوري، عن عبد الله بن السائب، عنه ".
وأما " عبد الله بن أبي قتادة "، فلم أجد ذكره هكذا إلا في تفسير أبي جعفر.
وهذا الخبر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 275، ونسبه إلى عبد الرزاق، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم، والطبراني.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 111، وقال: " رواه الطبراني في الكبير، وفيه: عبد الله بن قتادة المحاربي، لم يضعفه أحد، وبقية رجاله ثقات ".
(2) الآثار: 17164 - 17166 - " عبد الله بن السائب الكندي "، مضى في التعليق السالف.
وأما " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي "، فهو هكذا في جميعها، إلا في رقم: 17165، فإنه في المخطوطة: " عبد الله بن قتادة "، ولكن ناشر المطبوعة زاد " أبي " من عند نفسه.
وأما كتب التراجم، فلم تذكر سوى " عبد الله بن قتادة المحاربي "، ترجم له ابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 141 وقال: " روي عن عبد الله بن مسعود، روى عنه عبد الله بن السائب، سمعت أبي يقول ذلك ". وترجم له أيضا الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة: 233، وقال: " عن ابن مسعود، وعنه عبد الله بن السائب، وثقه ابن حبان "، ثم قال: " كلام البخاري يدل على أنه لم يرو شيئًا مسندا فإنه قال: روي عن ابن مسعود قوله في الصدقة، قاله الثوري، عن عبد الله بن السائب، عنه ".
وأما " عبد الله بن أبي قتادة "، فلم أجد ذكره هكذا إلا في تفسير أبي جعفر.
وهذا الخبر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 275، ونسبه إلى عبد الرزاق، والحكم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم، والطبراني.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 111، وقال: " رواه الطبراني في الكبير، وفيه: عبد الله بن قتادة المحاربي، لم يضعفه أحد، وبقية رجاله ثقات ".
(3) الآثار: 17164 - 17166 - " عبد الله بن السائب الكندي "، مضى في التعليق السالف.
وأما " عبد الله بن أبي قتادة المحاربي "، فهو هكذا في جميعها، إلا في رقم: 17165، فإنه في المخطوطة: " عبد الله بن قتادة "، ولكن ناشر المطبوعة زاد " أبي " من عند نفسه.
وأما كتب التراجم، فلم تذكر سوى " عبد الله بن قتادة المحاربي "، ترجم له ابن أبي حاتم 2 \ 2 \ 141 وقال: " روي عن عبد الله بن مسعود، روى عنه عبد الله بن السائب، سمعت أبي يقول ذلك ". وترجم له أيضا الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة: 233، وقال: " عن ابن مسعود، وعنه عبد الله بن السائب، وثقه ابن حبان "، ثم قال: " كلام البخاري يدل على أنه لم يرو شيئًا مسندا فإنه قال: روي عن ابن مسعود قوله في الصدقة، قاله الثوري، عن عبد الله بن السائب، عنه ".
وأما " عبد الله بن أبي قتادة "، فلم أجد ذكره هكذا إلا في تفسير أبي جعفر.
وهذا الخبر ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 275، ونسبه إلى عبد الرزاق، والحكم الترمذي في نوادر الأصول، وابن أبي حاتم، والطبراني.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 111، وقال: " رواه الطبراني في الكبير، وفيه: عبد الله بن قتادة المحاربي، لم يضعفه أحد، وبقية رجاله ثقات ".(14/460)
17168- حدثنا أبو كريب [قال، حدثنا وكيع] قال، حدثنا عباد بن منصور، عن القاسم: أنه سمع أبا هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه، فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدكم مُهْرَه، حتى إن اللقمة لتصيرُ مثل أُحُدٍ. وتصديق ذلك في كتاب الله: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) ، (1) و (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ) ، (2) [سورة البقرة: 276]
17169- حدثنا سليمان بن عمر بن الأقطع الرَّقى قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عباد بن منصور، عن القاسم، عن أبي هريرة، ولا أراه إلا قد رفعه قال: إن الله يقبل الصدقة = ثم ذكر نحوه. (3)
__________
(1) هكذا جاءت الآية في المخطوطة " وهو الذي يقبل التوبة "، كما رواه أحمد في المسند أيضا رقم: 10090، بهذا الإسناد، بمثل هذا الخطأ، فإن التلاوة: " ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة. . . "، وقد استظهر أخي السيد أحمد أنه خطأ قديم، كما قال في التعليق على الخبر رقم: 6253 فيما سلف. وأما في المطبوعة، فقد صححها الناشر " أن الله هو يقبل التوبة. . . ".وأثبت ما في المخطوطة ليعلم هذا الخطأ.
(2) الأثر: 17168 - سلف هذا الخبر بهذا الإسناد برقم: 6253، وخرجه أخي السيد أحمد هناك.
(3) الأثر: 17169 - " سليمان بن عمر بن خالد الأقطع الرقي "، مضى برقم: 6254، وكان في المطبوعة " الربى "، لم يحسن قراءة المخطوطة، وصواب قراءتها " الرقى ".
مضى برقم: 6254، وخرجه أخي السيد أحمد فيما سلف.(14/461)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
17170- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة قال: إن الله يقبل الصدقة إذا كانت من طيِّب، ويأخذها بيمينه، وإن الرّجل يتصدق بمثل اللقمة، فيربِّيها الله له كما يربِّي أحدكم فصيله أو مُهْره، فتربو في كف الله = أو قال: في يد الله = حتى تكون مثل الجبل. (1)
17171- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) ، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "والذي نفس محمد بيده، لا يتصدق رجلٌ بصدقة فتقع في يد السائل، حتى تقع في يد الله!
17172- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (وأن الله هو التواب الرحيم) ، يعني: إن استقاموا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وقل) ، يا محمد، لهؤلاء الذين اعترفوا لك بذنوبهم من المتخلفين عن الجهاد معك = (اعملوا) ، لله بما يرضيه، من طاعته، وأداء فرائضه = (فسيرى الله عملكم ورسوله) ،
__________
(1) الأثر: 17170 - مضى برقم: 6256، من طريق محمد بن عبد الملك، عن عبد الرزاق، عن معمر، بنحوه. وخرجه أخي السيد أحمد هناك، وأشار إلى رواية الطبري في هذا الموضع، وصحح إسناده هذا.(14/462)
يقول: فسيرى الله إن عملتم عملكم، ويراه رسوله والمؤمنون، في الدنيا = (وستردون) ، يوم القيامة، إلى من يعلم سرائركم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء من باطن أموركم وظواهرها (1) = (فينبئكم بما كنتم تعملون) ، يقول: فيخبركم بما كنتم تعملون، (2) وما منه خالصًا، وما منه رياءً، وما منه طاعةً، وما منه لله معصية، فيجازيكم على ذلك كله جزاءكم، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
* * *
17173- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد: (وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون) ، قال: هذا وعيدٌ. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير " عالم الغيب والشهادة " فيما سلف من فهارس اللغة (غيب) ، (شهد) .
(2) انظر تفسير " النبأ " فيما سلف من فهارس اللغة (نبأ) .
(3) عند هذا الموضع انتهى الجزء الحادي عشر من مخطوطتنا، وفي نهايته ما نصه:
" نجز المجلد الحادي عشر من كتاب البيان، بحمد الله وعونه وحُسْن توفيقه يتلوه في الجزء الثاني عشر، إن شاء الله تعالى: القول في تأويل قوله: (وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
وكان الفراغ من نسخه في شهر شعبان المبارك سنة خمس عشرة وسبعمائة. غفر الله لمؤلفه، ولصاحبه، ولكاتبه، ولجميع المسلمين.
آمين، آمين، آمين، آمين "
ثم يتلوه الجزء الثاني عشر، وأوله:
" بسم الله الرحمن الرحيم رَبِّ يَسِّرْ ".(14/463)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
القول في تأويل قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ومن هؤلاء المتخلفين عنكم حين شخصتم لعدوّكم، أيها المؤمنون، آخرون.
* * *
ورفع قوله: "آخرون"، عطفًا على قوله: (وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحًا وآخر سيئًا) .
* * *
= (وآخرون مرجون) ، يعني: مُرْجئون لأمر الله وَقضائه.
* * *
يقال منه: "أرجأته أرجئه إرجاء وهو مرجَأ"، بالهمز وترك الهمز، وهما لغتان معناهما واحد. وقد قرأت القرأة بهما جميعا. (1)
* * *
وقيل: عُني بهؤلاء الآخرين، نفرٌ ممن كان تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فندموا على ما فعلوا، ولم يعتذروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند مقدمه، ولم يوثقوا أنفسهم بالسواري، فأرجأ الله أمرهم إلى أن صحَّت توبتهم، فتاب عليهم وعفا عنهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17174- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: وكان ثلاثة منهم = يعني: من المتخلفين عن
__________
(1) انظر تفسير " الإرجاء " فيما سلف 13: 20، 21.(14/464)
غزوه تبوك = لم يوثقوا أنفسهم بالسواري، أرجئوا سَبْتَةً، (1) لا يدرون أيعذبون أو يتاب عليهم، فأنزل الله: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ) ، إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) ، [سورة التوبة: 117، 118] .
17175- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية = يعني قوله: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها) = أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من أموالهم = يعني من أموال أبي لبابة وصاحبيه = فتصدَّق بها عنهم، وبقي الثلاثة الذين خالفوا أبا لبابة، ولم يوثقوا، ولم يذكروا بشيء، ولم ينزل عذرهم، وضاقت عليهم الأرض بما رحُبت. وهم الذين قال الله: (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم والله عليم حكيم) . فجعل الناس يقولون: هلكوا! إذ لم ينزل لهم عذر، وجعل آخرون يقولون: عسى الله أن يغفرَ لهم! فصاروا مرجئين لأمر الله، حتى نزلت: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ) ، الذين خرجوا معه إلى الشام = (مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) ، ثم قال: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) ، يعني المرجئين لأمر الله، نزلت عليهم التوبة، فعُمُّوا بها، فقال: (حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ) ، إلى قوله: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) .
17176- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عكرمة: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال: هم الثلاثة الذين خُلِّفُوا.
17177- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) قوله: " سبتة "، أي برهة من الدهر.(14/465)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال: هلال بن أمية، ومرارة بن ربعيّ، وكعب بن مالك، من الأوس والخزرج.
17178- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، هلال بن أمية، ومرارة بن ربعيّ، وكعب بن مالك، من الأوس والخزرج. (1)
17179-...... قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17180- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17181-...... قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله.
17182- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، هم الثلاثة الذين خلفوا عن التوبة = يريد: غير أبي لبابة وأصحابه = ولم ينزل الله عذرهم، فضاقت عليهم الأرض بما رحبت. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين: فرقة تقول: "هلكوا"، حين لم ينزل الله فيهم ما أنزل في أبي لبابة وأصحابه.
__________
(1) الأثر: 17177 - " مرارة بن ربعي "، هكذا جاء في المخطوطة في هذا الخبر، وفي الذي يليه. وصححه في المطبوعة: " مرارة بن الربيع " ثم جاء في رقم: 17183 في المخطوطة: " مرارة بن ربيعة "، وكلاهما غير المشهور المعروف في كتب تراجم الصحابة، والكتب الصحاح، فهو فيها جميعا " مرارة بن الربيع الأنصاري "، من بني عمرو بن عوف.
وأما " مرارة بن ربعي بن عدي بن يزيد بن جشم "، فلم يذكره غير ابن الكلبي، وقال: " كان أحد البكائين ".
فأثبت ما في مخطوطة الطبري، لاتفاق الاسم بذلك في مواضع، وأخشى أن يكون في اسمه خلاف لم يقع إلي خبره. وانظر ما سيأتي برقم: 17436.
ثم انظر رقم: 17433، وما بعده، وفيها " ابن ربيعة " و " ابن الربيع ".(14/466)
وتقول فرقة أخرى: "عسى الله أن يعفو عنهم! "، وكانوا مرجئين لأمر الله. ثم أنزل الله رحمته ومغفرته فقال: (لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ) الآية، وأنزل: (وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا) ، الآية.
17183- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال: كنا نُحدَّث أنهم الثلاثة الذين خُلّفوا: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن ربيعة، رهط من الأنصار. (1)
17184- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن قتادة: (وآخرون مرجون لأمر الله) ، قال: هم الثلاثة الذين خُلّفوا.
17185- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (وآخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم) ، وهم الثلاثة الذين خلفوا، وأرجأ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم، حتى أتتهم توبتهم من الله. (2)
* * *
وأما قوله: (إما يعذبهم) ، فإنه يعني: إما أن يحجزهم الله عن التوبة بخذلانه، فيعذبهم بذنوبهم التي ماتوا عليها في الآخرة = (وإما يتوب عليهم) ، يقول: وإما يوفقهم للتوبة فيتوبوا من ذنوبهم، فيغفر لهم = (والله عليم حكيم) ، يقول: والله ذو علم بأمرهم وما هم صائرون إليه من التوبة والمقام على الذنب = (حكيم) ، في تدبيرهم وتدبير من سواهم من خلقه، لا يدخل حكمه خَلَلٌ. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 17183 - " مرارة بن ربيعة "، المعروف " مرارة بن الربيع "، ولكن هكذا جاء في المخطوطة، وصححه الناشر في المطبوعة. وانظر رقم: 17177.
(2) الأثر: 17185 - سيرة ابن هشام 4: 198، 199، وهو تابع الأثر السالف رقم: 17135.
(3) انظر تفسير " عليم " و " حكيم " فيما سلف من فهارس اللغة (علم) و (حكم) .(14/467)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107)
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: والذين ابتنوا مسجدًا ضرارًا، وهم، فيما ذكر، اثنا عشر نفسًا من الأنصار.
* ذكر من قال ذلك:
17186- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهريّ، ويزيد بن رومان، وعبد الله بن أبي بكر، وعاصم بن عمر بن قتادة وغيرهم قالوا: أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم = يعني: من تبوك = حتى نزل بذي أوان = بلد بينه وبين المدينة ساعة من نهار. وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد بنينا مسجدًا لذي العلّة والحاجة والليلة المطِيرة والليلة الشاتية، وإنا نحب أن تأتينا فتصلي لنا فيه! فقال: إني على جناح سفر وحال شُغْلٍ = أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم = ولو قَدْ قَدمنا أتيناكم إن شاء الله، فصلَّينا لكم فيه. فلما نزل بذي أوان، أتاه خبرُ المسجد، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك بن الدُّخْشُم، أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي = أو أخاه: عاصم بن عدي = أخا بني العجلان فقال: انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه وحرّقاه! فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن الدخشم، فقال مالك لمعن: أنْظِرني حتى أخرج إليك بنارٍ من أهلي! فدخل [إلى] أهله، فأخذ سَعفًا من النخل، فأشعل فيه نارًا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلا المسجد وفيه أهله، فحرّقاه وهدماه، وتفرقوا عنه. ونزل فيهم من القرآن ما نزل: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، إلى آخر القصة. وكان الذين بنوه(14/468)
اثني عشر رجلا خِذَام بن خالد، من بني عبيد بن زيد، (1) أحد بني عمرو بن عوف، ومن داره أخرج مسجد الشقاق = وثعلبة بن حاطب، من بني عبيد، وهو إلى بني أمية بن زيد = ومعتب بن قشير، من بني ضبيعة بن زيد = وأبو حبيبة بن الأزعر، من بني ضبيعة بن زيد = وعباد بن حنيف، أخو سهل بن حنيف، من بني عمرو بن عوف = وجارية بن عامر، وابناه: مجمع بن جارية، وزيد بن جارية، ونبتل بن الحارث، وهم من بني ضبيعة = وبَحْزَج، (2) وهو إلى بني ضبيعة = وبجاد بن عثمان، وهو من بني ضبيعة = ووديعة بن ثابت، وهو إلى بني أمية، رهط أبي لبابة بن عبد المنذر. (3)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: والذين ابتنوا مسجدًا ضرارًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرًا بالله لمحادّتهم بذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ويفرِّقوا به المؤمنين، ليصلي فيه بعضهم دون مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبعضهم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيختلفوا بسبب ذلك ويفترقوا = (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، يقول: وإعدادًا له، لأبي عامر الكافر الذي خالف الله ورسوله، وكفر بهما، وقاتل رسول الله = (من قبل) ، يعني من قبل بنائهم ذلك المسجد. وذلك أن أبا عامر هو الذي كان حزَّب الأحزاب = يعني: حزّب الأحزاب لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم = فلما خذله الله، لحق بالروم يطلب النَّصْر من ملكهم على نبي الله، وكتب إلى أهل مسجد الضِّرار (4) يأمرهم ببناء المسجد الذي كانوا بنوه، فيما ذكر عنه، ليصلي فيه، فيما يزعم، إذا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " خذام بن خالد بن عبيد "، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.
(2) في المطبوعة: " وبخدج "، والصواب ما في المخطوطة وسيرة ابن هشام.
(3) الأثر: 17186 - سيرة ابن هشام 4: 173، 174.
(4) انظر تفسير " الضرار " فيما سلف 5: 7، 8، 46، 53 / 6: 85 - 91.(14/469)
رجع إليهم. ففعلوا ذلك. وهذا معنى قول الله جل ثناؤه: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) .
= (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى) ، يقول جل ثناؤه: وليحلفن بانوه: "إن أردنا إلا الحسنى"، ببنائناه، إلا الرفق بالمسلمين، والمنفعة والتوسعة على أهل الضعف والعلة ومن عجز عن المصير إلى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة فيه، (1) وتلك هي الفعلة الحسنة = (والله يشهد إنهم لكاذبون) ، في حلفهم ذلك، وقيلهم: "ما بنيناه إلا ونحن نريد الحسنى! "، ولكنهم بنوه يريدون ببنائه السُّوآى، ضرارًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكفرًا بالله، وتفريقًا بين المؤمنين، وإرصادًا لأبي عامر الفاسق.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
17187- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن ابن عباس قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا) ، وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا، فقال لهم أبو عامر: ابنوا مسجدكم، واستعدُّوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم، فآتي بجند من الروم، فأخرج محمدًا وأصحابه! فلما فرغوا من مسجدهم، أتوا النبي عليه الصلاة والسلام فقالوا: قد فرغنا من بناء مسجدنا، فنحبُّ أن تصلي فيه، وتدعو لنا بالبركة! فأنزل الله فيه: (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ) ، إلى قوله: (وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) .
17188- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا
__________
(1) في المطبوعة: " ومن عجز عن المسير "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.(14/470)
ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين) ، قال: لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد قُباء، خرج رجالٌ من الأنصار، منهم: بحزج، (1) جدُّ عبد الله بن حنيف، (2) ووديعة بن حزام، ومجمع بن جارية الأنصاري، فبَنوا مسجد النفاق، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبحزج (3) ويلك! ما أردت إلى ما أرى! فقال: يا رسول الله، والله ما أردت إلا الحسنى! وهو كاذب، فصدَّقه رسول الله وأراد أن يعذِره، فأنزل الله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ، يعني رجلا منهم يقال له "أبو عامر" كان محاربًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قد انطلق إلى هرقل، فكانوا يرصدون [إذا قدم] أبو عامر أن يصلي فيه، (4) وكان قد خرج من المدينة محاربًا لله ولرسوله = (وليحلفن إن أردنا إلا الحسنى والله يشهد إنهم لكاذبون) .
17189- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ،
__________
(1) في المطبوعة: " بخدج "، وأثبت ما في سيرة ابن هشام 4: 174، كما سلف في رقم: 17186. ورأيت بعد في المحبر: 47: " بخدج " ولم أتمكن من تصحيحه. ثم انظر جمهرة الأنساب لابن حزم: 316 في نسب " سهل بن حنيف "، و " عثمان بن حنيف "، و " عباد بن حنيف ". وانظر التعليق التالي.
(2) ما أدري قوله: " جد عبد الله بن حنيف "، ولست أدري أهو من كلام ابن عباس أو من كلام غيره، وإن كنت أرجح أنه من كلام غيره، لأني لم أجد في الصحابة ولا التابعين " عبد الله بن حنيف "، وجده " بحزج ". والمذكور في المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار: " عباد بن حنيف "، أخو " سهل بن حنيف ". فأخشى أن يكون سقط من الخبر شيء، فاختلط الكلام. وفي نسب " سهل بن حنيف " " عمرو، وهو بحزج، بن حنش بن عوف بن عمرو " (انظر ابن سعد 3 / 2 / 39، ثم: 5: 59) ، وجمهرة الأنساب لابن حزم: 316، ولكن هذا قديم جدا في الجاهلية، وهو بلا شك غير " بحزج "، الذي كان من أمره ما كان في مسجد الضرار.
فهذا الذي هنا يحتاج إلى فضل تحقيق، لم أتمكن من بلوغه.
(3) في المطبوعة: " لبخدج "، وانظر التعليقات السالفة.
(4) في المطبوعة، ساق الكلام سياقا واحدا هكذا: " وكانوا يرصدون أبو عامر أن يصلي فيه "، وفي المخطوطة: "وكانوا يرصدون أبو عامر أن يصلي فيه"، وبين الكلامين بياض، وفي الهامش حرف (ط) دلالة على الخطأ، وأثبت ما بين القوسين من الدر المنثور 1: 276، وروى الخبر من طريق ابن مردويه، وابن أبي حاتم. وهذا الذي أثبته يطابق في معناه ما سيأتي في الآثار التالية.(14/471)
قال: أبو عامر الراهب، انطلق إلى قيصر، فقالوا: "إذا جاء يصلي فيه"، كانوا يرون أنه سيظهر على محمد صلى الله عليه وسلم.
17190- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، قال المنافقون = (لمن حارب الله ورسوله) ، لأبي عامر الراهب.
17191- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
17192-...... قال، حدثنا أبو إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين) ، قال: نزلت في المنافقين = وقوله: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، قال: هو أبو عامر الراهب.
17193- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
17194- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سويد بن عمرو، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، قال: هم بنو غنم بن عوف.
17195- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن ثور، عن معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، قال: هم حيّ يقال لهم: "بنو غنم".
17196- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعيد بن جبير في قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، قال: هم حي يقال لهم: "بنو غنم" = قال أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ،(14/472)
أبو عامر الراهب انطلق إلى الشأم، فقال الذين بنوا مسجد الضرار: إنما بنيناه ليصلي فيه أبو عامر.
17197- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا) ، الآية، عمد ناسٌ من أهل النفاق، فابتنوا مسجدًا بقباء، ليضاهوا به مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعثوا إلى رسول الله ليصلِّي فيه. ذكر لنا أنه دعا بقميصه ليأتيهم، حتى أطلعه الله على ذلك = وأما قوله: (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ، فإنه كان رجلا يقال له: "أبو عامر"، فرّ من المسلمين فلحق بالمشركين، فقتلوه بإسلامه. (1) قال: إذا جاء صلى فيه، فأنزل الله: (لا تقم فيه أبدًا لمسجد أسس على التقوى) ، الآية.
17198- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا) ، هم ناس من المنافقين، بنوا مسجدًا بقباء يُضارُّون به نبيّ الله والمسلمين = (وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله) ، كانوا يقولون: إذا رجع أبو عامر من عند قيصر من الروم صلى فيه! وكانوا يقولون: إذا قدم ظهر على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم.
17199- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله: (والذين اتخذوا مسجدًا ضرارًا وكفرًا وتفريقًا بين المؤمنين وإرصادًا لمن حارب الله ورسوله من قبل) ، قال: مسجد قباء، كانوا يصلون فيه كلهم. وكان رجل من رؤساء المنافقين يقال له: "أبو عامر"، أبو: "حنظلة غسيل الملائكة"،
__________
(1) قوله: " فقتلوه بإسلامه "، كلام صحيح، وإن ظن بعضهم أنه لا يستقيم، وذلك أن أبا عامر الراهب، لما خرج إلى الروم مات هناك سنة تسع أو عشر. (الإصابة في ترجمة ولده: حنظلة غسيل الملائكة بن أبي عامر) . فكأنه يقال أيضا أن الروم قتلته بإسلامه، كما جاء في هذا الخبر. وأما قوله بعد: " قال: إذا جاء صلى فيه "، فهو من كلام قتادة. وانظر الأخبار التالية، فإنه يقال إنه تنصر.(14/473)