="ولا يجدون عنها محيصًا"، يقول: لا يجدون عن جهنم -إذا صيّرهم الله إليها يوم القيامة- مَعْدِلا يعدِلون إليه.
* * *
يقال منه:"حاص فلان عن هذا الأمر يَحِيص حَيْصًا وحُيُوصًا"، إذا عدل عنه.
ومنه خبر ابن عمر أنه قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرِيّة كنت فيهم، فلقينا المشركين فحِصْنا حَيْصة، (1) = وقال بعضهم:"فجاضوا جيضَة". و"الحَيص" و"الجَيْض"، متقاربا المعنى. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بعثنا رسول الله"، والصواب من المخطوطة. ولم أستطع أن أقف على بقية خبر ابن عمر، وإن كنت أظنه مشهورًا.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: أساء نقط"جاض وحاص"، فرددتها إلى صوابها.(9/226)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلا (122) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"والذين آمنوا وعملوا الصالحات"، والذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا له بالوحدانية، ولرسوله صلى الله عليه وسلم بالنبوة="وعملوا الصالحات"، يقول: وأدَّوا فرائض الله التي فرضها عليهم (1) ="سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار"، يقول: سوف ندخلهم يوم القيامة إذا صاروا إلى الله، جزاءً بما عملوا في الدنيا من الصالحات="جنات"، يعني:
__________
(1) انظر تفسير"عملوا الصالحات" فيما سلف: 8: 488.(9/226)
بساتين (1) ="تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا"، يقول: باقين في هذه الجنات التي وصفها (2) ="أبدًا"، دائمًا.
= وقوله:"وعد الله حقًّا"، يعني: عِدَةٌ من الله لهم ذلك في الدنيا="حقًّا"، يعني: يقينًا صادقًا، (3) لا كعدة الشيطان الكاذبة التي هي غرور مَنْ وُعِدها من أوليائه، ولكنها عدة ممن لا يكذب ولا يكون منه الكذب، (4) ولا يخلف وعده.
وإنما وصف جل ثناؤه وعده بالصدق والحق في هذه، لما سبق من خبره جل ثناؤه عن قول الشيطان الذي قصه في قوله:"وقال لأتّخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا * ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، ثم قال جل ثناؤه:"يعِدُهم ويمنيهم وما يَعِدهم الشيطان إلا غرورًا"، ولكن الله يعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنه سيدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، وعدًا منه حقًّا، لا كوعد الشيطان الذي وَصَف صفته.
فوصف جل ثناؤه الوعدَين والوَاعِدَيْن، وأخبر بحكم أهل كل وعد منهما، تنبيهًا منه جل ثناؤه خلقَه على ما فيه مصلحتهم وخلاصهم من الهلكة والمعطبة، (5) لينزجروا عن معصيته ويعملوا بطاعته، فيفوزوا بما أعدّ لهم في جنانه من ثوابه.
ثم قال لهم جل ثناؤه:"ومن أصدق من الله قيلا"، يقول: ومن أصدق، أيها الناس، من الله قيلا أي: لا أحد أصدق منه قيلا! فكيف تتركون العمل بما وعدكم على العمل به ربكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا، وتكفرون به وتخالفون أمره، وأنتم تعلمون أنه لا أحد أصدق منه قيلا وتعملون
__________
(1) انظر تفسير"جنات" في مادة (جنن) فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"الحق" فيما سلف 7: 97.
(4) في المطبوعة: "ولكن عدة ... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "والعطب"، وهي صواب، وفي المخطوطة: "والعطبة"، فآثرت كتابتها كما رجحت قراءتها، والمعطب والمعطبة، جمعها معاطب.(9/227)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123)
بما يأمركم به الشيطان رجاءً لإدراك ما يعدُكم من عداته الكاذبة وأمانيه الباطلة، وقد علمتم أن عداته غرورٌ لا صحة لها ولا حقيقة، وتتخذونه وليًّا من دون الله، وتتركون أن تطيعوا الله فيما يأمركم به وينهاكم عنه، فتكونوا له أولياء؟
* * *
ومعنى"القيل" و"القول" واحدٌ.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذين عُنوا بقوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب".
فقال بعضهم: عُني بقوله:"ليس بأمانيكم"، أهل الإسلام.
*ذكر من قال ذلك:
10490- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: تفاخر النصارى وأهلُ الإسلام، فقال هؤلاء: نحن أفضل منكم! وقال هؤلاء: نحن أفضل منكم! قال: فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أمانِّي أهل الكتاب".
10491- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: لما نزلت:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، قال: أهل الكتاب: نحن وأنتم سواء! فنزلت هذه الآية:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن".
10492- حدثني أبو السائب وابن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن(9/228)
الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال: احتجَّ المسلمون وأهل الكتاب، فقال المسلمون: نحن أهدى منكم! وقال أهل الكتاب: نحن أهدى منكم! فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، قال: ففَلَج عليهم المسلمون بهذه الآية: (1) "ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، إلى آخر الآيتين.
10493- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا، فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونحن أولى بالله منكم! وقال المسلمون: نحن أولى بالله منكم، نبيُّنا خاتم النبيين، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله! فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يُجْزَ بِه"، إلى قوله:"ومن أحسنُ دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتَّبع ملَّة إبراهيم حنيفًا"، فأفلج الله حُجَّة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان.
10494- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: التقى ناس من اليهود والنصارى، فقالت اليهود للمسلمين: نحن خير منكم، ديننا قبل دينكم، وكتابنا قبل كتابكم، ونبينا قبل نبيكم، ونحن على دين إبراهيم، ولن يدخل الجنة إلا من كان هودًا! وقالت النصارى مثل ذلك، فقال المسلمون: كتابنا بعد كتابكم، ونبينا بعد نبيكم، وقد أمرتم أن تتبعونا وتتركوا أمركم، فنحن خير منكم، نحن على دين إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ولن يدخل الجنة إلا من كان على ديننا! فردّ الله عليهم قولهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجزَ به"، ثم فضل الله
__________
(1) "الفلج": الفوز والظفر والعلو على الخصم.(9/229)
المؤمنين عليهم فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفًا".
10495- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، تخاصم أهل الأديان، فقال أهل التوراة: كتابنا أول كتاب وخيرُها، ونبينا خيرُ الأنبياء! وقال أهل الإنجيل نحوًا من ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا دين الإسلام، وكتابنا نَسَخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرنا أن نعمل بكتابنا ونؤمن بكتابكم! فقضى الله بينهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، ثم خَّير بين أهل الأديان ففضل أهل الفضل فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن" إلى قوله:"واتخذ الله إبراهيم خليلا".
10496- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، إلى:"ولا نصيرًا"، تحاكم أهل الأديان، (1) فقال أهل التوراة: كتابنا خير الكتب، (2) أنزل قبل كتابكم، ونبينا خير الأنبياء! وقال أهل الإنجيل مثل ذلك، وقال أهل الإسلام: لا دين إلا الإسلام، كتابنا نسخ كل كتاب، ونبينا خاتم النبيين، وأمرتم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم، ونعمل بكتابنا! فقضى الله بينهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، وخيَّر بين أهل الأديان فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفًا واتخذ الله إبراهيم خليلا."
10497- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يَعلى بن عبيد
__________
(1) "التحاكم" و"المحاكمة": التخاصم والمخاصمة.
(2) في المطبوعة: "خير من الكتب"، والصواب ما أثبت.(9/230)
وأبو زهير، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح قال: جلس أناس من أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الإيمان، فقال هؤلاء: نحن أفضل! وقال هؤلاء: نحن أفضل! فأنزل الله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به". ثم خصّ الله أهل الإيمان فقال:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن".
10498- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: جلس أهل التوراة وأهل الإنجيل وأهل الزبور فتفاخروا (1) فقال هؤلاء: نحن أفضل! وقال هؤلاء: نحن أفضل! وقال هؤلاء: نحن أفضل! (2) فأنزل الله:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرًا".
10499- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال: افتخر أهل الأديان، فقالت اليهود: كتابنا خير الكتب وأكرمها على الله، ونبينا أكرم الأنبياء على الله، موسى كلَّمه الله قَبَلا (3) وخَلا به نجيًّا، وديننا خير الأديان! وقالت النصارى: عيسى ابن مريم خاتم الرسل، وآتاه الله التوراة والإنجيل، ولو أدركه موسى لاتّبعه، وديننا خير الأديان! وقالت المجوس وكفار العرب: ديننا أقدم الأديان وخيرها! وقال المسلمون: محمد نبينا خاتم النبيين
__________
(1) زاد في المطبوعة: "وأهل الإيمان"، وليست في المخطوطة وحذفتها، لأن السياق لا يحتاج إليها كما سترى في التعليق التالي.
(2) في المطبوعة، حذف"وقال هؤلاء: نحن أفضل" الثالثة، وهي ثابتة في المخطوطة، والفرق التي تفاخرت ثلاث فرق، كما رأيت قبل.
(3) "قبلا" (بفتحتين) و"قبلا" (بكسر وفتح) و"قبيلا"، أي: عيانا ومقابلة لا من وراء حجاب. وقد مضت هذه الكلمة في الآثار: 711، 4039، وفسرت هناك. وكان في المطبوعة: "قيلا" بالياء المثناة التحتية، وهي في المخطوطة غير منقوطة.(9/231)
وسيد الأنبياء، والفُرقان آخر ما أنزل من الكتب من عند الله، وهو أمين على كل كتاب، والإسلام خير الأديان! فخيَّر الله بينهم فقال:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب".
وقال آخرون: بل عنى الله بقوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، أهلَ الشرك به من عَبَدة الأوثان.
*ذكر من قال ذلك:
10500- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، قال: قريش، قالت:"لن نُبْعث ولن نعذَّب".
10501- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليس بأمانيكم"، قال: قالت قريش:"لن نبعث ولن نعذب"، فأنزل الله:"من يعمل سوءًا يجزَ به".
10502- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: قالت العرب:"لن نبعث ولن نعذَّب"، وقالت اليهود والنصارى: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [سورة البقرة: 111] ، أو قالوا: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) ، [سورة البقرة: 80] = شك أبو بشر. (1)
10503- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، قريشٌ
__________
(1) الأثر: 10502 -"أبو بشر" هو"ابن علية"، وهو: "إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي"، سيد المحدثين، الثقة المشهور. سلف مرارًا.(9/232)
وكعبُ بن الأشرف (1) ="من يعمل سوءًا يجز به".
10504- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" إلى آخر الآية، قال: جاء حُيَيّ بن أخطب إلى المشركين فقالوا له: يا حُيَيّ، إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال: نحن وأنتم خير منه! (2) فذلك قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ) إلى قوله: (وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا) [سورة النساء: 51، 52] . ثم قال للمشركين:"ليس بأمانيِّكم ولا أمانيّ أهل الكتاب"، فقرأ حتى بلغ:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه="فأولئك يدخلون الجنة ولا يُظلمون نقيرًا"، قال: ووعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك، وقرأ: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة العنكبوت: 7] . (3)
10505- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: قالت قريش:"لن نُبعث ولن نعذَّب"! (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "قال قريش وكعب بن الأشرف"، فحذفت"قال"، كما في المخطوطة. وفي المخطوطة: "كعب بن الأشرف نحوه"، ولم أجد لهذه الزيادة معنى، ولا وجهًا في التحريف أو التصحيف أهتدي إليه.
(2) في المطبوعة: "أنتم خير منه"، وفي المخطوطة: "نحن خير منه"، وأثبت الصواب من الأثر السالف رقم: 9794.
(3) الأثر: 10504 - مضى مختصرًا برقم: 9794.
(4) الأثر: 10505 - كان في المطبوعة: "حدثنا أبو كريب"، مكان"حدثنا ابن حميد"، والذي في المخطوطة هو الصواب.(9/233)
وقال آخرون: عُني به أهل الكتاب خاصَّة.
*ذكر من قال ذلك:
10506- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال، سمعت الضحاك يقول:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب" الآية، قال: نزلت في أهل الكتاب حين خالفوا النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، ما قال مجاهد: من أنه عُني بقوله:"ليس بأمانيكم"، مشركي قريش.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن المسلمين لم يجر لأمانيهم ذكر فيما مضى من الآي قبل قوله:"ليس بأمانيكم"، وإنما جرى ذكر أمانيِّ نصيب الشيطان المفروضِ، وذلك في قوله:"ولأمنينَّهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، وقوله:"يعدهم ويمنيهم"، فإلحاق معنى قوله جل ثناؤه:"ليس بأمانيكم" بما قد جرى ذكره قبل، أحقُّ وأولى من ادِّعاء تأويلٍ فيه، لا دلالة عليه من ظاهر التنزيل، ولا أثر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا إجماع من أهل التأويل.
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية إذًا: ليس الأمر بأمانيكم، يا معشر أولياء الشيطان وحزبه، التي يمنيكموها وليُّكم عدوّ الله، من إنقاذكم ممن أرادكم بسوءٍ، ونصرتكم عليه وإظفاركم به= ولا أماني أهل الكتاب الذين قالوا اغترارًا بالله وبحلمه عنهم: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَةً) و (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) ، فإن الله مجازي كل عامل منكم جزاءَ عمله، مَن يعمل منكم سوءًا، ومن غيركم، يجز به، ولا يجدْ له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا، ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة.
__________
(1) الأثر: 10506 - في المطبوعة: "حدثنا أبي، عن أبي أسيد"، ولا أدري من أين جاء بهذا!! وفي المخطوطة: "حدثنا أبي سفيان"، والصواب"عن سفيان"، وهو الثوري. وهذا إسناد مضى مثله.(9/234)
ومما يدلّ أيضًا على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأنه عُني بقوله:"ليس بأمانيكم" مشركو العرب، كما قال مجاهد: إن الله وصف وعدَ الشيطان ما وعدَ أولياءهُ وأخبَر بحال وعده، ثم أتبع ذلك بصفة وعدِه الصادق بقوله:"والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا وعد الله حقًّا"، وقد ذكر جل ثناؤه مع وصفه وعد الشيطان أولياءه، تمنيتَه إياهم الأمانيّ بقوله: (1) "يعدهم ويمنيهم"، كما ذكر وعده إياهم. فالذي هو أشبهُ: أن يتبع تمنيتَه إياهم من الصفة، بمثل الذي أتبع عِدَته إياهم به من الصفة.
وإذ كان ذلك كذلك، صحَّ أن قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به" الآية، إنما هو خبر من الله عن أماني أولياء الشيطان، وما إليه صائرة أمانيهم= مع سيئ أعمالهم من سوء الجزاء، وما إليه صائرةٌ أعمال أولياء الله من حسن الجزاء. وإنما ضمَّ جل ثناؤه أهلَ الكتاب إلى المشركين في قوله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، لأن أماني الفريقين من تمنية الشيطان إياهم التي وعدهم أن يمنِّيهموها بقوله:"ولأضلنهم ولأمنينّهم ولآمرنهم".
القول في تأويل قوله: {مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: عنى بـ "السوء" كل معصية لله. وقالوا: معنى الآية: من يرتكب صغيرةً أو كبيرة من مؤمن أو كافر من معاصي الله، يجازه الله بها.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "وتمنيته" بالواو، والصواب حذفها كما في المخطوطة. وذلك أن معنى الكلام ذكر تمنيتهم مع وصف وعد الشيطان.(9/235)
10507- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن الربيع بن زياد سأل أبي بن كعب عن هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"، فقال: ما كنت أراك إلا أفقه مما أرى! النكبةَ والعودَ والخدْش. (1)
10508- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن هشام الدستوائي قال، حدثنا قتادة، عن الربيع بن زياد قال: قلت لأبي بن كعب: قول الله تبارك وتعالى:"من يعمل سوءًا يجز به"، والله إن كان كل ما عملنا جُزينا به هلكنا! قال: والله إن كنتُ لأراك أفقهَ مما أرى! لا يصيب رجلا خدشٌ ولا عثرةٌ إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، حتى اللَّدغة والنَّفْحة. (2)
10509- حدثنا القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا حماد بن زيد، عن حجاج الصواف، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب قال: دخلت على عائشة كي أسألها عن هذه الآية:"ليس
__________
(1) الأثر: 10507 -"الربيع بن زياد بن أنس الحارثي"، روى عن أبي بن كعب، وكعب الأحبار. روى عنه أبو مجلز، ومطرف بن عبد الله بن الشخير، وحفصة بنت سيرين. ولم يذكر ابن أبي حاتم ولا الحافظ ابن حجر رواية قتادة عنه. وذكرها البخاري فقال: "ربيع بن زياد، سمع أبي بن كعب (من يعمل سوءًا يجز به) . قال معاذ بن فضالة، عن هشام، عن قتادة أن الربيع= وقالت حفصة عن الربيع بن زياد: سمع كعبًا".
ولم يذكر البخاري فيه جرحًا. وكان الربيع عامل معاوية على خراسان. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 / 245، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 460.
وكان في المطبوعة والمخطوطة، والدر المنثور: "زياد بن الربيع"، وهو خطأ، سيأتي على الصواب في الأثر التالي، وتبين ذلك بما رواه البخاري في الكبير أيضًا. فصححته من أجل ذلك.
وهذا الأثر أشار إليه البخاري كما رأيت، ونسبه السيوطي في الدر المنثور 2: 227، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن أبي الدنيا، والبيهقي.
و"النكبة" هي ما يصيب الرجل إذا ناله حجر اصطدم به. وفي الحديث: "إنه نكبت إصبعه"، أي نالتها الحجارة وأصابتها.
(2) الأثر: 10508 -"الربيع بن زياد"، انظر التعليق على الأثر السالف. وهذا الخبر هو الذي أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير، كما ذكرت في التعليق السالف.
و"النفحة" بالحاء المهملة، كأنه من"نفحت الدابة برجلها" إذا رمحت بها، وفي حديث شريح: "إنه أبطل النفح"، أراد نفح الدابة برجلها، وهو الرفس.(9/236)
بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قالت: ذاك ما يصيبكم في الدنيا. (1)
10510- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني خالد: أنه سمع مجاهدًا يقول في قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: يجز به في الدنيا. قال قلت: وما تبلُغ المصيبات؟ قال: ما تكره.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: من يعمل سوءًا من أهل الكفر، يجز به.
*ذكر من قال ذلك:
10511- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: الكافر، ثم قرأ: (وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ) [سورة سبأ: 17] ، قال: من الكفار.
__________
(1) الأثر: 10509 -"القاسم بن بشر بن معروف" شيخ للطبري، وستأتي روايته عنه برقم: 10531 وروى عنه مرارًا في التاريخ 1: 12، 23، 28، 29، 32، 106 / 2: 19، وفي هذا الموضع من التاريخ قال: "حدثني القاسم بن بشر بن معروف، عن سليمان بن حرب".
ولم أجد له ترجمة في غير تاريخ بغداد 12: 427"القاسم بن بشر بن أحمد بن معروف، أبو محمد البغدادي"، سمع يحيى بن سليم الطائفي، وسفيان بن عيينة، وأبا داود الطيالسي. روى عنه عبد الله بن أبي سعد الوراق، ومحمد بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري. ثم لم يذكر رواية أبي جعفر الطبري عنه. وأخشى أن يكون هو شيخ الطبري، وأرجو أن يأتي بعد ما يدل على وجه الصواب.
وكان في المطبوعة والمخطوطة، هنا"القاسم بن بشر بن معرور"، دل على صوابه إسناد أبي جعفر في مخطوطة التفسير فيما سيأتي رقم: 10531، وفي التاريخ.
و"سليمان بن حرب بن بجيل الأزدي" سكن مكة، وكان قاضيها. روى عن شعبة، ومحمد بن طلحة بن مصرف، والحمادين، وجرير بن حازم. روى عنه البخاري وأبو داود، وروى له الباقون بواسطة أبي بكر بن أبي شيبة، وعلي بن نصر الجهضمي، وعمرو بن علي الفلاس، وغيرهم. مترجم في التهذيب.
و"أبو المهلب" هو"معاوية بن عمرو" أو "عمرو بن معاوية"، مختلف في اسمه، وهو عم أبي قلابة الجرمي، روى عن عمر وعثمان وأبي بن كعب، وغيرهم من الصحابة. مترجم في التهذيب.
وأخرجه الحاكم في المستدرك 2: 308 من طريق سليمان بن حرب، ووضع الذهبي علامة (خ، م) ، أنه على شرط مسلم والبخاري.(9/237)
10512- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل، عن حميد، عن الحسن، مثله.
10513- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو همام الأهوازي، عن يونس بن عبيد، عن الحسن: أنه كان يقول:"من يعمل سوءًا يجز به"، و (وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ) ، [سورة سبأ: 17] ، يعني بذلك الكفار، لا يعني بذلك أهلَ الصلاة.
10514- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن في قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: والله ما جازى الله عبدًا بالخير والشر إلا عذَّبه. (1) قال: (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى) ، [سورة النجم: 31] . قال: أما والله لقد كانت لهم ذنوب، ولكنه غفرها لهم ولم يجازهم بها، إن الله لا يجازي عبده المؤمن بذنب، إذًا توبقه ذنوبه.
10515- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: وعد الله المؤمنين أن يكفر عنهم سيئاتهم، ولم يعد أولئك= يعني: المشركين.
10516- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الحسن:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: إنما ذلك لمن أراد الله هَوَانه، فأما من أراد كرامته، فإنه من أهل الجنة: (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) ، [سورة الأحقاف: 16]
10517- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"من يعمل سوءًا يجز به"، يعني بذلك: اليهود والنصارى
__________
(1) هكذا في المطبوعة، وفي المخطوطة: "إلا عدبه" غير منقوطة. وأنا في شك منها. ولكن ربما وجه معناها إلى أن الله تعالى لو جازى العبد المؤمن بالخير، وجازاه بالشر، لكان جزاء الشر مفضيًا إلى طول عذابه، فما من امرئ إلا وله ذنوب، والذنوب توبق أصحابها، وعسى أن لا يقوم لها ما قدم العبد من الخير.(9/238)
والمجوس وكفار العرب="ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا".
* * *
وقال آخرون: معنى"السوء" في هذا الموضع: الشرك. قالوا: وتأويل قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، من يشرك بالله يجزَ بشركه="ولا يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا".
*ذكر من قال ذلك:
10518- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"من يعمل سوءًا يجز به"، يقول: من يشرك يجز به= وهو"السوء"="ولا يجد له من دون الله وليًّا ولا نصيرًا"، إلا أن يتوب قبل موته، فيتوب الله عليه.
10519- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال: الشرك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها بتأويل الآية، التأويلُ الذي ذكرناه عن أبي بن كعب وعائشة: وهو أن كل من عمل سوءًا صغيرًا أو كبيرًا من مؤمن أو كافر، جوزي به.
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية: لعموم الآية كلَّ عامل سوء، من غير أن يُخَصَّ أو يستثني منهم أحد. فهي على عمومها، إذ لم يكن في الآية دلالة على خصوصها، ولا قامت حجة بذلك من خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
* * *
فإن قال قائل: وأين ذلك من قول الله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) . [سورة النساء: 31] ؟ وكيف يجوز أن يجازِي على ما قد وعد تكفيره؟(9/239)
قيل: إنه لم يعد بقوله:"نكفر عنكم سيئاتكم"، تركَ المجازاة عليها، وإنما وعدَ التكفير بترك الفضيحة منه لأهلها في معادهم، كما فضح أهلَ الشرك والنفاق. فأما إذا جازاهم في الدنيا عليها بالمصائب ليكفرها عنهم بها، ليوافوه ولا ذنب لهم يستحقون المجازاة عليه، فإنما وفَى لهم بما وعدهم بقوله:"نكفر عنكم سيئاتكم"، وأنجز لهم ما ضمن لهم بقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) ، [سورة النساء: 122] .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك: تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر الأخبار الواردة بذلك:
10520- حدثنا أبو كريب وسفيان بن وكيع ونصر بن علي وعبد الله بن أبي زياد القطواني قالوا، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن محيصن، عن محمد بن قيس بن مخرمة، عن أبي هريرة قال: لما نزلت هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"، شقَّت على المسلمين، وبلغت منهم ما شاء الله أن تبلغ، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قاربوا وسدِّدوا، ففي كل ما يصابُ به المسلم كفارةٌ، حتى النكبةُ ينْكبها، أو الشَّوكة يُشاكها. (1)
10521- حدثني عبد الله بن أبي زياد وأحمد بن منصور الرمادي قالا حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثي قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 10520 -"نصر بن علي" هو الجهضمي، مضى برقم: 2861، 2376 و"عبد الله بن أبي زياد القطواني" مضى برقم: 5796.
و"ابن محيصن" هو: عمر بن عبد الرحمن بن محيصن السهمي القرشي، من أهل مكة. وانظر بقية ترجمته ومراجعها في شرح مسند أحمد.
و"محمد بن قيس بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف"، تابعي ثقة. وانظر شرح المسند. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "محمد بن قيس عن مخرمة" وهو خطأ محض.
وهذا الأثر رواه بهذا الإسناد أحمد في مسنده: 7380، واستوفى أخي السيد أحمد التعليق عليه، وأزيد أن البيهقي خرجه في السنن 3: 373.
"النكبة": هي إصابة الحجر الإصبع، إذا عثر الرجل عثرة، أو ما كانت.(9/240)
محمد بن زيد بن قنفذ، عن عائشة، عن أبي بكر قال: لما نزلت:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال أبو بكر: يا رسول الله، كل ما نَعْمل نؤاخذ به؟ فقال: يا أبا بكر، أليس يُصيبك كذا وكذا؟ فهو كفارته. (1)
10522- حدثني إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، عن زياد الجصاص، عن علي بن زيد، عن مجاهد قال، حدثني عبد الله بن عمر: أنه سمع أبا بكر يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"من يعمل سوءًا يجز به" في الدنيا. (2)
10523- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن إسماعيل، عن أبي بكر بن أبي زهير، عن أبي بكر الصديق أنه قال: يا نبي الله، كيف الصلاح بعد
__________
(1) الأثر: 10521 -"عبد الله بن أبي زياد القطواني" سلف في رقم: 10520.
و"أحمد بن منصور الرمادي"، مضت ترجمته رقم: 10260.
و"زيد بن حباب العكلي" مضى برقم: 2185، 5350، 8165، وكان في المطبوعة: "يزيد بن حيان"، وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة.
و"عبد الملك بن الحسن بن أبي حكيم الحارثي"، ويقال: "الجاري"، "أبو مروان الأحول". قال أحمد: "لا بأس به"، وقال ابن معين: "ثقة". مترجم في التهذيب. و"محمد بن زيد بن قنفذ" هو: "محمد بن زيد بن المهاجر بن قنفذ التيمي الجدعاني القرشي" رأى ابن عمر رؤية، وابن عمر مات سنة 73، وعائشة أم المؤمنين ماتت سنة 58، فهو لم يرها بلا شك، فحديثه عنها منقطع. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 84، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 255.
وهذا الأثر ذكره ابن كثير في التفسير 2: 587، والسيوطي في الدر المنثور 2: 266، ولم ينسباه لغير ابن جرير.
(2) الأثر: 10522 -"إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري"، مضى برقم: 3355، 3959.
و"عبد الوهاب بن عطاء الخفاف" مضى برقم: 5429، 5432.
و"زياد بن أبي زياد الجصاص"، ضعيف جدًا، ليس بشيء.
و"علي بن زيد" هو ابن جدعان. ثقة، سيئ الحفظ. مضى برقم: 40، 4897، 6495.
وهذا الأثر رواه أحمد في المسند: 23، وقال أخي السيد أحمد: "إسناده ضعيف". وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 587، مطولا عن أبي بكر بن مردويه، عن محمد بن هشام بن جهيمة، عن يحيى بن أبي طالب، عن عبد الوهاب بن عطاء، ثم قال: "ورواه أبو بكر البزار في مسنده عن الفضل بن سهل، عن عبد الوهاب بن عطاء، به مختصرًا".
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 266، وزاد نسبته للخطيب في المتفق والمفترق.(9/241)
هذه الآية؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أيّة آية؟ قال يقول الله:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، فما عملناه جزينا به؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: غفر الله لك يا أبا بكر! ألست تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست تُصيبك اللأواء؟ قال: فهو ما تجزون به! (1)
10524- حدثنا يونس قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد= قال: أظنه عن أبي بكر الثقفي، عن أبي بكر قال: لما نزلت هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"، قال أبو بكر: كيف الصلاح؟ = ثم ذكر نحوه، إلا أنه زاد فيه: ألست تُنْكب؟ (2)
10525- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير: أن أبا بكر قال للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف الصلاح؟ فذكر مثله. (3)
10526- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو مالك الجنبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال، قال أبو بكر: يا رسول الله، فذكر نحوه= إلا أنه قال: فكل سوء عملناه جُزينا به؟ وقال أيضًا: ألست تمرض؟ ألست تَنْصب؟ (4) ألست تحزن؟ أليس تصيبك اللأواء؟ قال: بلى، قال: هو ما تجزون به!
10527- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن
__________
(1) الأثر: 10523 - هذا الأثر وما يليه إلى رقم: 10528، ستة أسانيد لخبر واحد، وسيأتي الكلام عليها في آخرها.
"اللأواء": الشدة وضيق المعيشة والمشقة.
(2) الأثر: 10524 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
و"نكب الرجل ينكب" بالبناء للمجهول، أصابه حجر فثلم إصبعه أو ظفره.
(3) في المطبوعة: "فذكر نحوه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) "نصب الرجل ينصب نصبًا" (المصدر بفتحات) : أعيى وتعب(9/242)
أبي بكر بن أبي زهير الثقفي قال: لما نزلت هذه الآية:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به"، قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، وإنا لنجزى بكل شيء نعمله؟ قال: يا أبا بكر، ألست تنصب؟ ألست تحزن؟ ألست تصيبك اللأواء؟ فهذا مما تجزون به.
10528- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا ابن أبي خالد قال، (1) حدثني أبو بكر بن أبي زهير الثقفي، عن أبي بكر، (2) فذكر مثله. (3)
10529- حدثنا أبو السائب وسفيان بن وكيع قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم قال: قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية:"من يعمل سوءًا يجز به"؟ قال: يا أبا بكر، إنّ المصيبة في الدنيا جزاء. (4)
__________
(1) في المخطوطة: "قال حدثنا أبي عن خالد"، وهو خطأ صوابه ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة: "فذكر مثل ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الآثار: 10523 -10528 - خبر واحد، "أبو بكر بن أبي زهير الثقفي"، من صغار التابعين، وهو مستور، لم يذكر بجرح ولا تعديل. ولذلك قال أخي السيد أحمد في المسند رقم: 68، "إسناده ضعيف لانقطاعه"، ثم قال: "وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي، وهو عجب منهما، فإن انقطاع إسناده بين".
رواه أحمد في المسند: 68 -71، والبيهقي في السنن 3: 373، والحاكم في المستدرك 3: 74، 75، وخرجه ابن كثير في تفسيره: 2: 587، والسيوطي في الدر المنثور 2: 266، وزاد نسبته إلى هناد، وعبد بن حميد، والحكيم الترمذي، وأبي يعلى، وابن المنذر، وابن حبان، وابن السني في عمل اليوم والليلة، والبيهقي في شعب الإيمان.
(4) الأثر: 10529 -"أبو معاوية" هو"محمد بن خازم التميمي" أبو معاوية الضرير، مضى برقم: 2783.
و"الأعمش" هو"سليمان بن مهران" مضى: 2918، 3295، 8207، 8208. و"مسلم" هو: "مسلم بن صبيح الهمداني" مضى برقم: 5424، 7216، 8206. وهذا الأثر خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 588 عن ابن مردويه: "حدثنا محمد بن أحمد بن إسحاق العسكري، قال حدثنا محمد بن عامر السعدي، قال حدثنا يحيى بن يحيى، حدثنا فضيل بن عياض، عن سليمان بن مهران، عن مسلم بن صبيح، عن مسروق، قال قال أبو بكر"، وساق الحديث بأطول مما هنا، وبغير هذا اللفظ.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 226، 227 بلفظ ابن مردويه، عن مسروق عن أبي بكر، ونسبه لابن جرير، وأبي نعيم في الحلية، وهناد، وسعيد بن منصور.
بيد أن خبر الطبري ليس فيه ذكر"مسروق"، وهو"مسروق بن الأجدع الوداعي الهمداني"، مضى برقم: 242، 7216، فأخشى أن يكون سقط من النساخ ذكر"مسروق" في هذا الإسناد.(9/243)
10530- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا أبو عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت، قلت: إني لأعلم أيُّ آية في كتاب الله أشدُّ؟ فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ آية؟ فقلت:"من يعمل سوءًا يجز به"! قال:"إن المؤمن ليجازى بأسوإِ عمله في الدنيا"، ثم ذكر أشياء منهن المرض والنَّصبُ، فكان آخره أنه ذكر النكبة، (1) فقال:"كلُّ ذي يجزى به بعمله، يا عائشة، (2) إنه ليس أحدٌ يحاسب يوم القيامة إلا يعذَّب". فقلت: أليسَ يقول الله: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) ، [سورة الانشقاق: 8] ؟ فقال: ذاك عند العرض، إنه من نُوقش الحسابَ عُذِّب (3) = وقال بيده على إصبعه، (4) كأنه يَنْكُته. (5)
__________
(1) في المطبوعة: "أن ذكر النكبة"، وأثبت ما في المخطوطة. و"النكبة" كما أسلفت: إصابة الحجر إصبع المرء أو ظفره.
(2) في المطبوعة: "يجزى بعمله"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) "ناقشه الحساب مناقشة": استقصى في محاسبته حتى لا يترك منه شيء، من قولهم: "نقش الشوكة": إذا استقصى استخراجها من جسمه.
(4) "قال بيده": أشار بها وأومأ. و"القول" لفظ مستعمل في معاني عدة.
وفي المطبوعة: "كأنه ينكت" بغير هاء في آخره، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لما يأتي في التفسير 30: 84 (بولاق) حيث روي هذا الأثر مختصرًا.
(5) الأثر: 10530 -"روح بن عبادة القيسي"، ثقة، مضت ترجمته برقم: 3015، 3355، 3912.
"أبو عامر الخزاز"، هو: "صالح بن رستم المزني"، مضى برقم: 5458، 6371، 6383، 6384، 6387، 6614. و"الخزاز" بمعجمات، وكان في المطبوعة: "الخراز"، وفي المخطوطة غير منقوطة.
و"ابن أبي مليكة" هو: "عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة" سمع عائشة وغيرها من الصحابة. مضى برقم: 6605، 6610.
وهذا الأثر رجاله جميعًا ثقات. وسيأتي برقم: 10532، من طريق هشيم عن أبي عامر الخزاز، بغير هذا اللفظ مختصرًا.
ورواه البخاري بغير هذا اللفظ من طريق سعيد بن أبي مريم، عن نافع بن عمر، عن ابن أبي مليكة عن عائشة (الفتح 1: 176) .
ثم رواه (الفتح 8: 535) بغير هذا اللفظ من ثلاث طرق: من طريق يحيى القطان، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة.
ثم من طريق حماد بن زيد، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة.
ثم من طريق يحيى، عن أبي يونس حاتم بن أبي صغيرة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة.
ثم عاد فرواه (الفتح 11: 347، 348) من سبع طرق، واستوفى الحافظ ابن حجر الكلام فيه في هذه المواضع الثلاثة من صحيح البخاري.
ورواه مسلم في صحيحه (17: 208) من أربع طرق: من طريق ابن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة.
ومن طريق حماد بن زيد، عن أيوب، بهذا الإسناد نحوه.
ومن طريق يحيى بن سعيد القطان، عن أبي يونس القشيري، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة.
ومن طريق يحيى القطان، عن عثمان بن الأسود عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، بمثل حديث أبي يونس.
ثم رواه أبو داود في السنن 3: 250 رقم: 3093، بغير هذا اللفظ من طريق عثمان بن عمر، عن أبي عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة.
ثم رواه الترمذي مختصرًا في (باب ما جاء في العرض) وفي (تفسير سورة الانشقاق) من طريق عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وسيأتي في تفسير أبي جعفر، بعدة طرق في تفسير سورة الانشقاق: 30: 74 (بولاق) وسنتكلم في أسانيدها هناك.
وخرجه مختصرًا ابن كثير في تفسيره 2: 589، والسيوطي في الدر المنثور 2: 227، وقصرا في نسبته، وزاد السيوطي نسبته لابن أبي حاتم، والبيهقي.
وقوله: "ينكته" من قولهم: "نكت الأرض بقضيب أو بإصبع": أي ضرب بطرفه في الأرض حتى يؤثر فيها. وهو إشارة مناقشة الحساب، وهو كما أسلفنا استقصاء الحساب، كأن المحاسب ينقش عن شوكة استخفت تحت الجلد فهو يستخرجها من باطن اللحم. يقول صلى الله عليه وسلم: هكذا يفعل بالمرء إذا نوقش واستقصيت ذنوبه.(9/244)
10531- حدثني القاسم بن بشر بن معروف قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أمية قالت: سألت عائشة عن هذه الآية: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) ، [سورة البقرة: 284] ، و"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءًا يجز به". قالت: ما سألني عنها أحد منذ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها (1)
__________
(1) في مسند أحمد 6: 218"عنهما"، وهي أجود، ولكن ثبت في المخطوطة: "عنها" بالإفراد ولا بأس بذلك في العربية.(9/245)
فقال: يا عائشة، ذاك مَثَابَةُ الله للعبد بما يصيبه من الحمَّى والكِبر، (1) والبِضَاعة يضعها في كمه فيفقدها، فيفزع لها فيجدها في كمه، (2) حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرج التِّبْر الأحمر من الكِير. (3)
10532- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو عامر الخزاز قال، حدثنا ابن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قلت يا رسول الله، إني لأعلم أشدَّ آية في القرآن! فقال: ما هي يا عائشة؟ قلت: هي هذه الآية يا رسول الله:"من يعمل سوءًا يجز به"، فقال: هو ما يصيب العبدَ المؤمن، حتى النكبة يُنْكبها. (4)
10533- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن الربيع بن صبيح، عن عطاء قال: لما نزلت:"ليس بأمانيكم ولا أمانيّ أهل الكتاب
__________
(1) في المطبوعة: "مثابة الله العبد" بغير لام في"العبد" وأثبت ما في المخطوطة. وفي المخطوطة: "مثابة" منقوطة ظاهرة. وقد مضت في الأثر: 6495"متابعة الله العبد"، ومثلها في المسند 6: 218، وفي الطيالسي: 221"معاتبة".
فإن صح ما في المخطوطة، وكأنه صواب جيد. فإن"المثابة" من"ثاب إليه يثوب"، أي: رجع، يقول: فذاك رجوع الله العبد بالمغفرة. وذلك معنى"الثواب"، وهو الجزاء أيضًا. أي: فهذا جزاء الله عبده.
وقد سلف في رقم: 6495، تفسير"المتابعة" و"المعاتبة" فراجعه.
(2) هكذا هنا"فيجدها في كمه" وفي الأثر: 6495، "في ضبنه"، وفي الطيالسي: 221"في جيبه"، وهي قريب من قريب.
وفي سائر الأثر اختلاف في بعض اللفظ.
(3) الأثر: 10531-"القاسم بن بشر بن معروف"، مضى برقم: 10509، وكان هنا في المطبوعة: "بن معرور" بالراء في آخره، كما كان هناك في المخطوطة والمطبوعة، ولكن جاء هنا في المخطوطة على الصواب"بن معروف" بالفاء.
و"سليمان بن حرب" مضى أيضًا برقم: 10509.
وهذا الأثر رواه الطبري آنفًا برقم 6495، من طريق الربيع، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، بمثله، مع خلاف يسير في لفظه، وقد خرجه أخي السيد أحمد هناك مستوفى، وشرحت هناك ألفاظه وغريبه.
(4) الأثر: 10532 - سلف تخريج هذا الأثر برقم: 10530. وكان هنا أيضًا في المطبوعة: "الخراز"، بالراء، وصوابه ما أثبت.(9/246)
من يعمل سوءًا يجز به"، قال أبو بكر: يا رسول الله، ما أشد هذه الآية؟ قال: يا أبا بكر، إنك تمرض، وإنك تحزن، وإنك يُصيبك أذًى، فذاك بذاك. (1)
10534- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عطاء بن أبي رباح قال: لما نزلت قال أبو بكر: جاءت قاصمة الظهر! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي المصيبات في الدنيا. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (123) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا يجد الذي يعمل سوءًا من معاصي الله وخلاف ما أمره به="من دون الله"، يعني: من بعد الله، وسواه (3) ="وليًّا" يلي أمره، (4) ويحمي عنه ما ينزل به من عقوبة الله (5) ="ولا نصيرًا"، يعني: ولا ناصرًا ينصره مما يحلّ به من عقوبة الله وأليم نَكاله. (6)
* * *
__________
(1) الأثر: 10533 - هذا أثر مرسل، عطاء بن أبي رباح، لم يسمع أبا بكر."الربيع بن صبيح السعدي"، مضت ترجمته برقم: 6403، 6404، 7482، 7603، وهو ضعيف. وترجم له البخاري في الكبير 2 / 1 / 254.
وكان في المطبوعة والمخطوطة"بن صبح"، وهو خطأ محض.
(2) الأثر: 10534 - هذا أثر مرسل. ولم أجده في مكان.
(3) انظر تفسير"من دون" فيما سلف ص: 211، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) في المخطوطة: "وليا، ولي يلي أمره"، بزيادة"ولي".
(5) انظر تفسير: "ولي" فيما سلف ص: 205، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(6) انظر تفسير"نصير" فيما سلف ص: 18، تعليق: 2، والمراجع هناك.(9/247)
وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124)
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين قال لهم:"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب"، يقول الله لهم: إنما يدخل الجنة وينعم فيها في الآخرة، من يعمل من الصالحات من ذكوركم وإناثكم، وذكور عبادي وإناثهم، وهو مؤمن بي وبرسولي محمدٍ، مصدق بوحدانيتي وبنبوّة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبما جاء به من عندي= لا أنتم أيها المشركون بي، المكذبون رسولي، فلا تطمعوا أن تحلّوا، وأنتم كفار، محلَّ المؤمنين بي، وتدخلوا مداخلهم في القيامة، وأنتم مكذِّبون برسولي، كما:-
10535- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن"، قال: أبى أن يقبل الإيمان إلا بالعمل الصالح، وأبَى أن يقبل الإسلام إلا بالإحسان.
* * *
وأما قوله:"ولا يظلمون نقيرًا"، فإنه يعني: ولا يظلم الله هؤلاء الذين يعملون الصالحات من ثوابِ عملهم، مقدارَ النُّقرة التي تكون في ظهر النَّواة في القلة، فكيف بما هو أعظم من ذلك وأكثر؟ وإنما يخبر بذلك جل ثناؤه عبادَه أنه لا يبخَسهم من جزاء أعمالهم قليلا ولا كثيرًا، ولكن يُوفِّيهم ذلك كما وعدهم. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"النقير" فيما سلف: 8: 472-475.(9/248)
وبالذي قلنا في معنى"النقير"، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10536- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد:"ولا يظلمون نقيرًا"، قال: النقير، الذي يكون في ظهر النواة.
10537- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن عطية قال: النقير، الذي في وسط النواة. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: ما وجه دخول:"مِن" في قوله:"ومن يعمل من الصالحات"، ولم يقل:"ومن يعمل الصالحات"؟
قيل: لدخولها وجهان:
أحدهما: أن يكون الله قد علم أن عبادَه المؤمنين لن يُطيقوا أن يعملوا جميع الأعمال الصالحات، فأوجب وَعده لمن عمل ما أطاق منها، ولم يحرمه من فضله بسبب ما عجزتْ عن عمله منها قوّته. (2)
والآخر منهما: أن يكون تعالى ذكره أوجب وعدَه لمن اجتنب الكبائر وأدَّى الفرائض، وإن قصر في بعض الواجب له عليه، تفضلا منه على عباده المؤمنين، إذ كان الفضل به أولى، والصفح عن أهل الإيمان به أحرَى.
* * *
وقد تقوّل قوم من أهل العربية، (3) أنها أدخلت في هذا الموضع بمعنى الحذف،
__________
(1) من أول قوله: "وبالذي قلنا في معنى النقير" إلى آخر هذا الأثر، ساقط من المخطوطة. وهذان الأثران: 10536، 10537، لم يذكرا هناك (8: 472-475) في الآثار التي جاء فيها تفسير"النقير". وهذا أحد ضروب اختصار أبي جعفر تفسيره.
(2) في المخطوطة: "منها قوله"، وفوق"قوله""كذا"، دليلا على أنها كانت كذلك في الأصل الذي نقل الناسخ عنه. وصواب قراءتها ما أثبت. وفي المطبوعة: "قواه" بالجمع، وهي أيضًا حسنة.
(3) ليس في المخطوطة: "قوم"، وإثباتها لا بأس به، وهذا الذي سيسوقه رأي بعض أهل البصرة، كما أشار إليه مرارًا فيما سلف.(9/249)
وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125)
ويتأوّله: ومن يعمل الصالحاتِ من ذكر أو أنثى وهو مؤمن. (1)
وذلك عندي غير جائز، لأن دخولها لمعنًى، فغير جائز أن يكون معناها الحذف.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا}
قال أبو جعفر: وهذا قضاء من الله جل ثناؤه للإسلام وأهله بالفضل على سائر الملل غيره وأهلِها، يقول الله:"ومن أحسن دينًا" أيها الناس، وأصوبُ طريقًا، وأهدى سبيلا="ممن أسلم وجهه لله"، يقول: ممن استسلم وجهه لله فانقاد له بالطاعة، مصدقًا نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما جاء به من عند ربه (2) ="وهو محسن"، يعني: وهو عاملٌ بما أمره به ربه، محرِّم حرامه ومحلِّل حلاله (3) ="واتَّبع ملة إبراهيم حنيفًا"، يعني بذلك: واتبع الدين الذي كان عليه إبراهيم خليل الرحمن، وأمر به بنيه من بعده وأوصاهم به (4) ="حنيفًا"، يعني: مستقيمًا على منهاجه وسبيله.
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في معنى"الحنيف"، والدليل على الصحيح من القول في ذلك بما أغنى عن إعادته. (5)
* * *
__________
(1) انظر زيادة"من" في الجحد والإثبات فيما سلف 2: 126، 127، 442، 470 / 5: 586 / 6: 551 / 7: 489.
(2) انظر تفسير"أسلم وجهه" فيما سلف 2: 510 -512 / 6: 280.
(3) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"ملة" فيما سلف 2: 563 / 3: 104.
(5) انظر تفسير"حنيف" فيما سلف 3: 104-108 / 6: 494.(9/250)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
وممن قال ذلك أيضًا الضحاك.
10538- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: فضّل الله الإسلام على كل دين فقال:"ومن أحسن دينًا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن" إلى قوله:"واتخذ الله إبراهيم خليلا"، وليس يقبل فيه عملٌ غير الإسلام، وهي الحنيفيّة.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا (125) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتخذ الله إبراهيم وليًّا.
* * *
فإن قال قائل: وما معنى"الخُلَّة" التي أعطِيها إبراهيم؟
قيل: ذلك من إبراهيم عليه السلام: العداوةُ في الله والبغض فيه، والولاية في الله والحب فيه، على ما يعرف من معاني"الخلة". وأما من الله لإبراهيم، فنُصرته على من حاوله بسوءٍ، كالذي فعل به إذْ أراده نمرود بما أرادَه به من الإحراق بالنار فأنقذَه منها، أو على حجته عليه إذ حاجّه= وكما فعل بملك مصر إذ أراده عن أهله (1) = وتمكينه مما أحب= وتصييره إمامًا لمن بعدَه من عباده، وقدوةً لمن خلفه في طاعته وعبادته. فذلك معنى مُخَالَّته إياه.
وقد قيل: سماه الله"خليلا"، من أجل أنه أصابَ أهلَ ناحيته جدْبٌ، فارتحل إلى خليلٍ له من أهل الموصل= وقال بعضهم: من أهل مصر= في امتيار طعام لأهله من قِبله، فلم يصب عنده حاجته. فلما قرَب من أهله مرَّ بمفازة ذات رمل، فقال: لو ملأت غرائري من هذا الرمل، (2) لئلا أغُمَّ أهلي برجوعي إليهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ملك مصر" بغير باء، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) "الغرائر" جمع"غرارة" (بكسر الغين) : وهي الجوالق الذي يوضع في التبن والقمح وغيرهما.(9/251)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
بغير مِيرَة، وليظنوا أنّي قد أتيتهم بما يحبون! ففعل ذلك، فتحوَّل ما في غرائره من الرمل دقيقًا، فلما صار إلى منزله نام. وقام أهله، ففتحوا الغرائر، فوجدوا دقيقًا، فعجنوا منه وخبزوا. فاستيقظ، فسألهم عن الدقيق الذي منه خبزوا، فقالوا: من الدقيق الذي جئت به من عند خليلك! فعلم، فقال: نعم! هو من خليلي الله! قالوا: فسماه الله بذلك"خليلا". (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"واتخذ الله إبراهيم خليلا"، لطاعته ربَّه، وإخلاصه العبادة له، والمسارعةِ إلى رضاه ومحبته، لا من حاجةٍ به إليه وإلى خُلَّته. وكيف يحتاج إليه وإلى خلَّته، وله ما في السموات وما في الأرض من قليل وكثير مِلْكًا، والمالك الذي إليه حاجة مُلْكه، دون حاجته إليه؟ يقول: (2) فكذلك حاجة إبراهيم إليه، لا حاجته إليه فيتخذه من أجل حاجته إليه خليلا ولكنه اتخذه خليلا لمسارعته إلى رضاه ومحبته. يقول: فكذلك فسارعوا إلى رضايَ ومحبتي لأتخذكم لي أولياء="وكان الله بكل شيء محيطًا"، ولم يزل الله محصيًا لكل ما هو فاعله عبادُه من خير وشرّ، عالمًا بذلك، لا يخفى عليه شيء منه، ولا يعزب عنه منه مثقال ذرَّة. (3)
* * *
__________
(1) هذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر تفسيره في مواضع، كما قيل في ترجمته. فلولا الاختصار، لساق أخبار إبراهيم عليه وعلى نبينا صلى الله عليهما السلام. وقد سلفت أخبار إبراهيم في مواضع متفرقة من التفسير.
(2) قوله: "يقول" ليست في المطبوعة، وهي ثابتة في المخطوطة.
(3) انظر تفسير"كان" بمعنى: لم يزل، فيما سلف في فهارس اللغة (كون) = وتفسير"الإحاطة" و"محيط" فيما سلف ص: 193، تعليق: 1. والمراجع هناك.(9/252)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
القول في تأويل قوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ويستفتونك في النساء"، ويسألك، يا محمد، أصحابك أن تفتيهم في أمر النساء، والواجب لهن وعليهن= فاكتفى بذكر"النساء" من ذكر"شأنهن"، لدلالة ما ظهر من الكلام على المراد منه.
="قل الله يفتيكم فيهن"، قل لهم: يا محمد، الله يفتيكم فيهن، يعني: في النساء="وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن".
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب".
فقال بعضهم: يعني بقوله:"وما يتلى عليكم"، قل الله يفتيكم فيهن، وفيما يتلى عليكم. قالوا: والذي يتلى عليهم، هو آيات الفرائض التي في أول هذه السورة.
*ذكر من قال ذلك:
10539- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب"، قال: كان أهل الجاهلية لا يورِّثون المولود حتى يكبر، ولا يورِّثون المرأة. فلما كان الإسلام، قال:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب" في أول(9/253)
السورة في الفرائض= اللاتي لا تؤتونهن ما كتب الله لهن. (1)
10540- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قالت: هذا في اليتيمة تكون عند الرجل، لعلها أن تكون شريكتَه في ماله، وهو أولى بها من غيره، فيرغب عنها أن ينكحها ويعضُلها لمالها، ولا يُنكحها غيره كراهيةَ أن يشركه أحد في مالها. (2)
10541- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: كانوا لا يورِّثون في الجاهلية النساءَ والفتى حتى يحتلم، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء"، في أول"سورة النساء" من الفرائض. (3)
10542- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن شعبة قال: كانوا في الجاهلية لا يورِّثون اليتيمة، ولا ينكحونها ويَعْضلونها، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن" إلى آخر الآية.
10543- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني الحجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع سعيد بن جبير يقول في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في
__________
(1) الأثر: 10539 -"عمرو بن أبي قيس الرازي" الأزرق، مضى برقم 6887، وفي الأسانيد: 8611، 9346.
و"عطاء"، هو"عطاء بن السائب"، مضى مرارًا.
وسيأتي هذا الأثر من طريق أخرى رقم: 10541.
(2) الأثر: 10540 - حديث هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، روي من وجوه. رواه البخاري (الفتح 8: 179، 199) ، ومضى مثله في التفسير رقم: 8457.
(3) الأثر: 10541 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 308، مرفوعًا إلى ابن عباس بغير هذا اللفظ، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه".
وكان في المطبوعة: "النساء والصبي"، وأثبت ما في المخطوطة. وسيأتي في الأثر التالي: "الرجل الصغير"، وهو الفتى.(9/254)
يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كُتِب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، الآية، قال: كان لا يرث إلا الرجل الذي قد بلغ، لا يرث الرجل الصغير ولا المرأة. فلما نزلت آية المواريث في"سورة النساء"، شَقَّ ذلك على الناس وقالوا: يرث الصغير الذي لا يعمل في المال ولا يقوم فيه، والمرأة التي هي كذلك، فيرثان كما يرث الرجل الذي يعمل في المال! فرجوا أن يأتي في ذلك حَدَثٌ من السماء، فانتظروا فلما رأوا أنه لا يأتي حَدَث قالوا: لئن تمَّ هذا، إنه لواجبٌ ما منه بدٌّ! ثم قالوا: سَلُوا. فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب" في أول السورة="في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن". قال سعيد بن جبير: وكان الوليّ إذا كانت المرأة ذات جمال ومال رغب فيها ونكحها واستأثر بها، وإذا لم تكن ذات جمال ومال أنكحها ولم يَنْكِحها. (1)
10544- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كُتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال: كانوا إذا كانت الجارية يتيمةً دميمةً لم يعطوها ميراثَها، وحبسوها عن التزويج حتى تموت، فيرثوها. فأنزل الله هذا.
10545- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن"، قال: كان الرجل منهم تكون له اليتيمة بها الدَّمامة والأمر الذي يرغب عنها فيه، ولها مال. قال: فلا يتزوَّجها ولا يزوِّجها، حتى تموت فيرثها. قال: فنهاهم الله عن ذلك.
10546- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل،
__________
(1) الأثر: 10543 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 231، وزاد نسبته لابن المنذر.(9/255)
عن السدي، عن أبي مالك:"وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال: كانت المرأة إذا كانت عند وليّ يرغب عنها، حبسها إن لم يتزوجها، ولم يدع أحدًا يتزوَّجها.
10547- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: كان أهل الجاهلية لا يورِّثون النساء ولا الصبيان شيئًا، كانوا يقولون: لا يغزُون ولا يغنَمون خيرًا! ففرض الله لهن الميراث حقًّا واجبًا ليتنافس= أو: لِيَنْفس= الرجل في مال يتيمته إن لم تكن حسنة. (1)
10548- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
10549- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب"، يعني: الفرائض التي افترض في أمر النساء="اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال: كانت اليتيمة تكون في حِجْر الرجل فيرغبُ أن ينكحها أو يجامعها، (2) ولا يعطيها مالها، رجاءَ أن تموت فيرثها. وإن ماتَ لها حَمِيمٌ لم تعط من الميراث شيئًا. (3) وكان ذلك في الجاهلية، فبيَّن الله لهم ذلك.
__________
(1) في المطبوعة: "إن تكن حسنة"، أسقط"لم" ففسد الكلام، وهي ثابتة في المخطوطة. قوله: "ليتنافس في مال يتيمته"، كأنه استعمل"يتنافس" لازمًا على وجه المفرد. وهو صواب في العربية. والمنافسة والتنافس: الرغبة في الشيء للانفراد به، على وجه المغالبة.
وأما "لينفس الرجل في مال يتيمته" فهو من قولهم: "نفس بالشيء" إذا ضن به واستأثر، و"نفس فيه": رغب في الاستئثار به. ويقال: "هذا أمر منفوس فيه"، أي: مرغوب فيه.
(2) قوله: "يرغب أن ينكحها"، هو على حذف"عن" أي: يرغب عن أن ينكحها."رغب عن الشيء"، تركه متعمدًا، وزهد فيه، وكرهه ولم يرده. وحذف حرف الجر، هنا جائز، لدلالة الكلام عليه.
(3) "الحميم": القريب الداني القرابة.(9/256)
10550- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن" حتى بلغ"وترغبون أن تنكحوهن"، فكان الرجل تكون في حجره اليتيمة بها دَمَامة، ولها مال، فكان يرغب عنها أن يتزوّجها، ويحبسها لمالِها، فأنزل الله فيه ما تسمعون.
10551- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن"، قال: كانت اليتيمة تكون في حجر الرجل فيها دمامة، فيرغب عنها أن ينكحها، ولا يُنكحها رغبةً في مالها.
10552- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، إلى قوله:"بالقسط"، قال: كان جابر بن عبد الله الأنصاري ثم السُّلَمي له ابنة عَمّ عمياء، وكانت دميمة، وكانت قد ورثت عن أبيها مالا فكان جابرٌ يرغب عن نكاحها، ولا يُنكحها رهبة أن يذهب الزوج بمالها، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك= وكان ناس في حجورهم جوارٍ أيضًا مثل ذلك= فجعل جابر يسأل النبي صلى الله عليه وسلم: أترثُ الجارية إذا كانت قبيحة عمياء؟ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: نعم!! فأنزل الله فيهن هذا. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب، في آخر"سورة النساء"، وذلك قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) إلى آخر السورة [سورة النساء: 176] .
__________
(1) الأثر: 10552 - انظر خبر جابر بن عبد الله وابنة عمه، على غير هذا الوجه، فيما سلف، الأثر رقم: 4939.(9/257)
*ذكر من قال ذلك:
10553- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سلام بن سليم، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: كان أهل الجاهلية لا يورِّثون الولدان حتى يحتلموا، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء"، إلى قوله"فإن الله كان به عليمًا". قال: ونزلت هذه الآية: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ) ، [سورة النساء: 176] ، الآية كلها. (1)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في الكتاب= يعني: في أول هذه السورة، وذلك قوله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) [سورة النساء: 3]
*ذكر من قال ذلك:
10554- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب قال، أخبرني عروة بن الزبير: أنه سأل عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ، قالت: يا ابن أختي، هي اليتيمة تكون في حجر الرجل وَلِيِّها، (2) تشاركه في ماله، فيعجبه مالها وجمالها، فيريد وليُّها أن يتزوجها بغير أن يُقسط في صداقها، فيعطيها مثل ما يعطيها غيره. فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا لهنَّ، ويبلغوا بهن أعلى سُنَّتهن من الصداق. وأمروا
__________
(1) الأثر 10553 -"الحارث" هو"الحارث بن محمد بن أبي أسامة"، مضى برقم: 10295، وما بعده.
و"عبد العزيز"، هو"عبد العزيز بن أبان الأموي" مضى أيضًا رقم: 10295، وما بعده. وكان في المخطوطة: "كان أهل الجاهلية الولدان" وفي هامشها (ط) ، دلالة على الخطأ، وقد أحسن ناشر المطبوعة الأولى فيما زاد.
(2) في المطبوعة: "في حجر وليها"، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كانت (الرجل) غير موجودة في هذا الأثر حيث رواه أبو جعفر برقم: 8457.(9/258)
أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء سواهن. قال عروة: قالت عائشة: ثم إن الناس استفتَوْا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن". قالت: والذي ذكر الله أنه يُتلى في الكتاب: الآية الأولى التي قال فيها: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) . (1)
10555- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة مثله. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذه الأقوال الثلاثة التي ذكرناها،"ما" التي في قوله:"وما يتلى عليكم"، في موضع خفض بمعنى العطف على"الهاء والنون" التي في قوله:"يفتيكم فيهن". فكأنهم وجَّهوا تأويل الآية: قل الله يفتيكم، أيها الناس، في النساء، وفيما يتلى عليكم في الكتاب. (3)
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم من أصحابه، سألوه عن أشياء من أمر النساء، وتركوا المسألة عن أشياء أخر كانوا يفعلونها، فأفتاهم الله فيما سألوا عنه، وفيما تركوا المسألة عنه.
ذكر من قال ذلك:
10556- حدثنا محمد بن المثنى وسفيان بن وكيع= قال سفيان، حدثنا عبد الأعلى= وقال ابن المثنى، حدثني عبد الأعلى= قال، حدثنا داود، عن
__________
(1) الأثر: 10554 - رواه أبو جعفر مختصرًا فيما سلف برقم: 8457، وخرجه أخي السيد أحمد هناك.
(2) الأثر: 10555 - مضى برقم: 8459، إحالة على الأثر السالف.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 290.(9/259)
محمد بن أبي موسى في هذه الآية:"ويستفتونك في النساء"، قال: استفتوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم في النساء، وسكتوا عن شيء كانوا يفعلونه، فأنزل الله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب"، ويفتيكم فيما لم تسألوا عنه. قال: كانوا لا يتزوجون اليتيمة إذا كان بها دمامة، ولا يدفعون إليها مالها فتنفق، فنزلت:"قل الله يفتيكم في النساء وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، قال:"والمستضعفين من الولدان"، قال: كانوا يورِّثون الأكابر ولا يورثون الأصاغر. ثم أفتاهم فيما سكتوا عنه فقال:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خيرٌ"= ولفظ الحديث لابن المثنى. (1)
قال أبو جعفر: فعلى هذا القول:"الذي يتلى علينا في الكتاب"، الذي قال الله جل ثناؤه:"قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم":"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، الآية. والذي سأل القوم فأجيبوا عنه في يتامى النساء: اللاتي كانوا لا يؤتونهن ما كتب الله لهن من الميراث عمَّن ورثته عنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرنا عمن ذكرناها عنه بالصواب، وأشبهها بظاهر التنزيل، قول من قال: معنى قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، وما يتلى عليكم من آيات الفرائضِ في أول هذه السورة وآخرها.
__________
(1) الأثر: 10556 -"محمد بن أبي موسى" ترجم البخاري في الكبير 1 / 1 / 236، لرجل بهذا الاسم، ظاهر أنه قد روى عنه داود بن أبي هند. وقال: "قال لنا الحميدي، حدثنا سفيان، عن أبي سعد، عن محمد بن أبي موسى، عن ابن عباس. وقال في التهذيب"محمد بن أبي موسى، عن ابن عباس قوله ... وعنه أبو سعيد البقال"قلت [القائل ابن حجر] : في طبقته: محمد بن أبي موسى، روى عن زياد الأنصاري، عن أبي بن كعب. وعنه داود بن أبي هند". كأنهما عنده رجلان.(9/260)
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الصَّداق ليس مما كُتب للنساء إلا بالنكاح، فما لم تنكح فلا صداق لها قِبَل أحد. وإذا لم يكن ذلك لها قِبَل أحدٍ، لم يكن مما كتب لها. وإذا لم يكن مما كتب لها، لم يكن لقول قائل: (1) عنى بقوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، الإقساطَ في صدقات يتامى النساء (2) = وَجْهٌ. لأن الله قال في سياق الآية، مبيِّنًا عن الفتيا التي وعدنا أن يفتيناها:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، فأخبر أن بعض الذي يفتينا فيه من أمر النساء، أمرُ اليتيمة المَحُولِ بينها وبين ما كتب الله لها. (3) والصداق قبل عقد النكاح، ليس مما كتب الله لها على أحد. فكان معلومًا بذلك أن التي عنيت بهذه الآية، هي التي قد حيل بينها وبين الذي كتب لها مما يتلى علينا في كتاب الله. فإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن ذلك هو الميراث الذي يوجبه الله لهن في كتابه.
* * *
فأما الذي ذكر عن محمد بن أبي موسى، (4) فإنه مع خروجه من قول أهل التأويل، بعيدٌ مما يدل عليه ظاهر التنزيل. وذلك أنه زعم أن الذي عنى الله بقوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، هو:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا". وإذا وجِّه الكلام إلى المعنى الذي تأوّله، صار الكلام مبتدأ من قوله:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، ترجمةً بذلك عن قوله:"فيهن"، (5) ويصير معنى الكلام: قل الله يفتيكم فيهن، في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن= ولا دلالة
__________
(1) سقط من المخطوطة، بين كلامين، كان فيها: "فما لم تنكح فلا صداق لها قبل أحد، وإذا لم يكن ذلك لها لم يكن لقول قائل ... "، فتركت ما في المطبوعة على حاله.
(2) سياق الجملة: " لم يكن لقول قائل ... وجه".
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "المحولة بينها"، والصواب ما أثبت، يعني: التي قد حيل بينهما وبين ما كتب الله لها.
(4) يعني الأثر السالف رقم: 10556.
(5) "الترجمة"، البدل والبيان والتفسير.(9/261)
في الآية على ما قاله، ولا أثر عمن يُعلم بقوله صحةُ ذلك، وإذ كان ذلك كذلك، كان وصل معاني الكلام بعضه ببعض أولى، ما وُجِد إليه سبيل. فإذ كان الأمر على ما وصفنا، فقوله:"في يتامى النساء"، بأن يكون صلةً لقوله:"وما يتلى عليكم"، أولى من أن يكون ترجمة عن قوله:"قل الله يفتيكم فيهن"، لقربه من قوله:"وما يتلى عليكم في الكتاب"، وانقطاعه عن قوله:"يفتيكم فيهن".
* * *
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ويستفتونك في النساء، قل الله يفتيكم فيهن وفيما يتلى عليكم في كتاب الله الذي أنزله على نبيه في أمر يتامى النساء اللاتي لا تعطونهن ما كتب لهن= يعني: ما فرض الله لهن من الميراث عمن ورثنه، (1) كما:-
10557- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: لا تورِّثونهن.
10558- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله:"لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: من الميراث. قال: كانوا لا يورِّثون النساء="وترغبون أن تنكحوهن".
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"وترغبون أن تنكحوهن".
فقال بعضهم: معنى ذلك: وترغبون عن نكاحهن. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك، وسنذكر قول آخرين لم نذكرهم.
10559- حدثنا حميد بن مسعدة السَّامي قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبيد الله بن عون، عن الحسن:"وترغبون أن تنكحوهن"، قال: ترغبون عنهن. (2)
__________
(1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 8: 548، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 10559 -"حميد بن مسعدة السامي"، نسبه إلى"سامة بن لؤي" بالسين، مضى برقم: 196، 5842. وكان في المطبوعة بالشين"الشامي" وهو خطأ. وهذه النسبة ليست في المخطوطة.
و"عبد الله بن عون بن أرطبان" مضى برقم: 4003، 7776، وكان في المطبوعة: "عبيد الله"، والصواب من المخطوطة.(9/262)
10560- حدثنا يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن، مثله.
10561- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن عروة قال: قالت عائشة في قول الله:"وترغبون أن تنكحوهن"، رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره حين تكون قليلة المال والجمال، فنُهوا أن ينكحوا من رَغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط، من أجل رغبتهم عنهنّ. (1)
10562- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله= يعني ابن صالح= قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس، عن ابن شهاب قال، قال عروة، قالت عائشة، فذكر مثله. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وترغبون في نكاحهن. وقد مضى ذكر جماعة ممن قال ذلك قبل، ونحن ذاكرو قول من لم نذكر منهم.
10563- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون، عن محمد، عن عبيدة:"وترغبون أن تنكحوهن"، قال: وترغبون فيهن.
__________
(1) الأثر: 10561 - هذا تتمة الأثر السالف: 8457، ثم نظيره رقم: 10554، وقد رواه البخاري بعقبه بإسناده (الفتح 8: 179، 180) .
(2) الأثر: 10562 - هو الأثر السالف: 8459، ثم نظيره رقم: 10555.(9/263)
10564- حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة:"وترغبون أن تنكحوهن"، قال: ترغبون فيهن.
10565- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، فكان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبَه، فإذا فعل بها ذلك لم يقدر أحد أن يتزوّجها أبدًا. فإن كانت جميلة وهَوِيها، تزوّجها وأكل مالها. وإن كانت دميمة منعها الرجل أبدًا حتى تموت، فإذا ماتت ورثها. فحرَّم الله ذلك ونهى عنه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك،"وترغبون عن أن تنكحوهن". لأن حبسهم أموالهن عنهن مع عضّلهم إياهن، إنما كان ليرثوا أموالهن، دون زوج إن تزوجن. ولو كان الذين حبسوا عنهن أموالهن، إنما حبسوها عنهن رغبة في نكاحهن، لم يكن للحبس عنهن وجهٌ معروف، لأنهم كانوا أولياءهن، ولم يكن يمنعهم من نكاحهن مانع، فيكون به حاجة إلى حبس مالها عنها، ليتّخذ حبسها عنها سببًا إلى إنكاحها نفسها منه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن= وفيما يتلى عليكم في الكتاب= وفي المستضعفين من الولدان= وفي أن تقوموا لليتامى بالقسط.
وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله من الصحابة والتابعين فيما مضى، والذين
__________
(1) الأثر: 10565 - انظر خبر ابن عباس فيما سلف، بمثل هذا الإسناد رقم: 8882.(9/264)
أفتاهم في أمر المستضعفين من الولدان أن يؤتوهم حقوقهم من الميراث، (1) لأنهم كانوا لا يورِّثون الصغار من أولاد الميت، وأمرهم أن يقسطوا فيهم، فيعدلوا ويعطوهم فرائضهم على ما قسم الله لهم في كتابه، كما:-
10566- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"والمستضعفين من الولدان"، كانوا لا يورّثون جارية ولا غلامًا صغيرًا، فأمرهم الله أن يقوموا لليتامى بالقسط. و"القسط": أن يعطى كل ذي حق منهم حقه، ذكرًا كان أو أنثى، الصغير منهم بمنزلة الكبير.
10567- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن"، قال: لا تورّثوهن مالا="وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، قال: فدخل النساء والصغير والكبير في المواريث، ونسخت المواريث ذلك الأول.
10568- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، أمروا لليتامى بالقسط، بالعدل.
10569- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
10570- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك:"والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، قال: كانوا لا يورثون إلا الأكبر فالأكبر.
10571- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والمستضعفين من الولدان"، فكانوا في الجاهلية
__________
(1) في المطبوعة: "والذي أفتاهم في أمر المستضعفين"، والصواب من المخطوطة.(9/265)
لا يورّثون الصغار ولا البنات، فذلك قوله:"لا تؤتونهن ما كتب لهن"، فنهى الله عن ذلك، وبيَّن لكل ذي سهم سهمه، فقال: (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) [سورة النساء: 11، 176] ، صغيرًا كان أو كبيرًا.
10572- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط"، وذلك أنهم كانوا لا يورثون الصغير والضعيف شيئًا، فأمر الله أن يعطَى نصيبه من الميراث.
10573- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب كان إذا جاءه وليُّ اليتيمة، فإن كانت حسنة غنية قال له عمر: زوِّجها غيرك، والتمس لها من هو خير منك. وإذا كانت بها دمامة ولا مال لها، قال: تزوجها فأنت أحق بها!
10574- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يونس بن عبيد، عن الحسين بن الفرج قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: يا أمير المؤمنين، ما أمري وما أمرُ يتيمتي؟ قال: في أيّ بالكما؟ (1) قال: ثم قال علي: أمتزوّجها أنت غنيةً جميلةً؟ قال: نعم، والإله! قال: فتزوّجها دميمة لا مال لها! ثم قال علي: خِرْ لها (2) فإن كان غيرك خيرًا لها فألحقها بالخير. (3)
__________
(1) "البال": الشأن والأمر والحال، ومنه الحديث: "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أبتر"، و"أمر ذو بال" أي: ذو شأن، شريف يحتفل له ويهتم به.
(2) في المطبوعة: "ثم قال علي: تزوجها إن كنت خيرًا لها"، لم يفهم ما في المخطوطة فغيره وبدله، وبئس ما فعل! وقوله: "خر لها" من قولهم: "خار له"، أي اختار له خير الأمرين، ومنه قولهم: "خار الله لك"، أي: أعطاك ما هو خير لك.
(3) الأثر: 10574 -"يونس بن عبيد بن دينار العبدي"، مضى برقم: 2616، 4931، 8047.
أما "الحسين بن الفرج" فلم أجد في طبقته من الرواة من يقال له: "الحسين بن الفرج"، وكان في المطبوعة مكانه"الحسن"، يعني الحسن البصري. وأظنه تصرفًا من ناسخ أو ناشر. ونعم، يروي يونس بن عبيد عن الحسن البصري، ولكن أرجح ذلك عندي أن في اسمه تصحيفًا، وأخشى أن يكون هو:
"الحصين بن أبي الحر"، وهو"الحصين بن مالك بن الخشخاش العنبري"، روى عنه يونس بن عبيد. مترجم في التهذيب. ونرجو أن يأتي في التفسير ما يدل على الصواب من ذلك.(9/266)
قال أبو جعفر: فقيامهم لليتامى بالقسط، كانَ العدلَ فيما أمرَ الله فيهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومهما يكن منكم، (1) أيها المؤمنون، من عدل في أموال اليتامى، التي أمركم الله أن تقوموا فيهم بالقسط، والانتهاء إلى أمر الله في ذلك وفي غيره وإلى طاعته=" فإن الله كان به عليمًا"، لم يزل عالمًا بما هو كائن منكم، وهو محصٍ ذلك كله عليكم، حافظ له، حتى يجازيكم به جزاءكم يوم القيامة. (2)
* * *
__________
(1) انظر"ما" بمعنى"مهما" فيما سلف 6: 551.
(2) انظر تفسير"كان" و"عليم" فيما سلف في فهارس اللغة.(9/267)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128)
القول في تأويل قوله: {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن خافت امرأة من بعلها، يقول: علمت من زوجها (1) ="نشوزًا"، يعني: استعلاءً بنفسه عنها إلى غيرها،
__________
(1) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف 4: 550 / ثم تفسيره بمعنى: العلم فيما سلف 8: 298، 299.
وانظر تفسير"بعل" فيما سلف 4: 526.(9/267)
أثَرةً عليها، وارتفاعًا بها عنها، إِما لبغْضة، وإما لكراهة منه بعض أسبابها (1) إِما دَمامتها، وإما سنها وكبرها، أو غير ذلك من أمورها (2) ="أو إعراضًا"، يعني: انصرافًا عنها بوجهه أو ببعض منافعه التي كانت لها منه (3) ="فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"، يقول: فلا حرج عليهما، يعني: على المرأة الخائفة نشوز بعلها أو إعراضه عنها (4) ="أن يصلحا بينهما صلحًا"، وهو أن تترك له يومها، أو تضعَ عنه بعض الواجب لها من حقّ عليه، تستعطِفه بذلك وتستديم المُقام في حباله، والتمسك بالعقد الذي بينها وبينه من النكاح= يقول:"والصلح خير"، يعني: والصلح بترك بعض الحقّ استدامةً للحُرْمة، وتماسكًا بعقد النكاح، خيرٌ من طلب الفرقة والطلاق.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10575- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلا أتى عليًّا رضي الله عنه يستفتيه في امرأة خافتْ من بعلها نشوزًا أو إعراضًا، فقال: قد تكون المرأة عند الرجل فتنبُو عيناه عنها من دمامتها أو كبرها أو سوء خلقها أو فقرها، فتكره فراقه. فإن وضعت له من
__________
(1) في المطبوعة: "بعض أشياء بها"، وهو كلام سخيف، لم يحسن فهم ما في المخطوطة. و"الأسباب" جمع"سبب"، وأصله الحبل، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى شيء. ثم استعمله أهل القرنين الثاني والثالث وما بعدهما بمعنى: كل ما يتصل بشيء أو يتعلق به. وقد مضى في مواضع من كلام أبي جعفر أخشى أن أكون أشرت إليها في التعليق، ثم غابت عني الآن.
(2) انظر تفسير"النشوز" فيما سلف 3: 475، 476 / 8: 299.
(3) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف 2: 298، 299 / 6: 291 / 8: 88، 566.
(4) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف ص: 163، تعليق: 1، والمراجع هناك.(9/268)
مهرها شيئًا حَلَّ له، وإن جعلت له من أيامها شيئًا فلا حرج.
10576- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال: سئل علي رضي الله عنه:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"، قال: المرأة الكبيرة، أو الدميمة، أو لا يحبها زوجها، فيصطلحان.
10577- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة، عن علي رضي الله عنه، بنحوه.
10578- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلا سأل عليًّا رضي الله عنه عن قوله:"فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"، قال: تكون المرأة عند الرجل دميمة، فتنبو عينُه عنها من دمامتها أو كبرها، فإن جعلت له من أيامها أو مالها شيئًا فلا جناح عليه. (1)
10579- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن أشعث، عن ابن سيرين قال: جاء رجل إلى عمر فسأله عن آية، فكره ذلك وضربه بالدِّرّة، فسأله آخر عن هذه الآية:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، فقال: عن مثل هذا فَسلوا! ثم قال: هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها، (2) فيتزوج المرأة الشابَّة يلتمس ولدَها، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائزٌ.
10580- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عمران بن عيينة قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"وإن امرأة
__________
(1) في المطبوعة: "فليس عليه جناح"، وهما سواء، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "هذه الامرأة" وهو الأصل في إدخال التعريف على"امرأة"، ولكنه قل في كلامهم، وحكاه أبو علي الفارسي، وهذا شاهده. ولم أثبته، وتركت ما في المطبوعة، لئلا أغرب على القارئ!!
و"خلا من سنها"، أي: كبرت ومضى معظم عمرها. من قولهم: "خلا قرن وزمان" أي: مضى.(9/269)
خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هي المرأة تكون عند الرجل حتى تكبر، فيريد أن يتزوج عليها، فيتصالحان بينهما صلحًا، (1) على أن لها يومًا، ولهذه يومان أو ثلاثة. (2)
10581- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس، بنحوه= إلا أنه قال: حتى تلد أو تكبر= وقال أيضًا: فلا جناح عليهما أن يَصَّالحا على ليلة والأخرى ليلتين.
10582- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد بن جبير قال: هي المرأة تكون عند الرجل قد طالت صحبتها وكبرت، فيريد أن يستبدل بها، فتكره أن تفارقه، ويتزوج عليها فيصالحها على أن يجعل لها أيامًا، (3) وللأخرى الأيام والشهر.
10583- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد، عن ابن عباس:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هي المرأة تكون عند الرجل فيريد أن يفارقها، فتكره أن يفارقها، ويريد أن يتزوج فيقول:"إنّي لا أستطيع أن أقسم لك بمثل ما أقسم لها"، فتصالحه على أن يكون لها في الأيام يوم، فيتراضيان على ذلك، فيكونان على ما اصطلحا عليه.
10584- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما
__________
(1) في المطبوعة: "فيتصالحا"، والصواب من المخطوطة.
(2) الأثر: 10580 -"عمران بن عيينة بن أبي عمران الهلالي" أخو"سفيان بن عيينة" قال ابن معين وأبو زرعة: "صالح الحديث"، وذكره ابن حبان في الثقات، وهو صدوق. وقال أبو حاتم: "لا يحتج بحديثه لأنه يأتي بالمناكير". مترجم في التهذيب. وقد مضى في رقم: 4189، بمثل هذا الإسناد.
(3) في المطبوعة: "فيتزوج عليها فيصالحا على أن يجعل ... "، وأثبت ما في المخطوطة.(9/270)
أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خيرٌ"، قالت: هذا في المرأة تكون عند الرجل، فلعله أن يكون يستكبر منها، ولا يكون لها ولد ويكون لها صحبة، (1) فتقول: لا تطلقني، وأنت في حِلً من شأني. (2)
10585- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة، عن عروة، عن عائشة في قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قالت: هذا الرجل يكون له امرأتان: إحداهما قد عجزت، أو هي دميمة وهو لا يستكثر منها، فتقول: لا تطلِّقني، وأنت في حلِّ من شأني.
10586- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن
__________
(1) في المطبوعة: "فلعله لا يكون تستكثر منها، ولا يكون لها ولد ولها صحبة"، غير ما في المخطوطة. وأثبت ما في المخطوطة، لأنه صواب في معناه، قوله: "يستكبر منها" أي: يرى أنها بلغت من السن والكبر مبلغًا، يحمله على طلب الشواب. وقوله: "ولا يكون لها ولد يكون لها صحبة"، أي: ولد يدعوه إلى صحبتها وترك مفارقتها. والذي دعا الناشر أن يصححه هو أن حديث عائشة في روايات أخرى، تقول: "الرجل عنده المرأة ليس بمستكثر منها، يريد أن يفارقها"، وهو لفظ البخاري، وكما سيأتي في الأثر التالي: 10585. ولكن ذلك ليس داعية إلى مثل هذا التغيير، فإن المعنى الذي ذكرته، قد جاء عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في الأثر: 10585، 10588، وهو: "في المرأة إذا دخلت في السن". فلا معنى لتغيير رواية إلا بعد التحقق من خطأ معناها، أو صواب روايتها في مكان آخر. وانظر تخريج هذا الأثر في التعاليق التالية.
(2) الأثر: 10584 - خبر هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، رواه أبو جعفر من ثلاث طرق متتابعة، ومن طريق مفردة رقم: 10588.
ورواه البخاري بغير هذا اللفظ (الفتح 9: 266) من طريق ابن سلام، عن أبي معاوية، عن هشام. ثم رواه بلفظ آخر (الفتح 8: 199) .
ورواه البخاري بغير هذا اللفظ (الفتح 8: 199) من طريق محمد بن مقاتل، عن عبد الله بن المبارك، عن هشام عن عائشة وهو إسناد أبي جعفر رقم: 10586. ثم رواه بلفظ آخر (الفتح 9: 266) من طريق ابن سلام، عن أبي معاوية، عن هشام.
ورواه مسلم (18: 157) من طريق أبي كريب، عن أبي أسامة، عن هشام، ولفظه أقرب إلى اللفظ الذي أقره ناشر المطبوعة الأولى، وذلك: "نزلت في المرأة تكون عند الرجل، فلعله أن لا يستكثر منها، وتكون لها صحبة وولد، فتكره أن يفارقها" الحديث. وأخرجه البيهقي في السنن 7: 296 بلفظ آخر.(9/271)
المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة بنحوه= غير أنه قال: فتقول: أجعلك من شأني في حل! فنزلت هذه الآية في ذلك. (1)
10587- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، فتلك المرأة تكون عند الرجل، لا يرى منها كبير ما يحبُّ، (2) وله امرأة غيرها أحبّ إليه منها، فيؤثرها عليها. فأمره الله إذا كان ذلك، أن يقول لها:"يا هذه، إن شئت أن تقيمي على ما ترين من الأثرة، فأواسيك وأنفق عليك فأقيمي، (3) وإن كرهت خلَّيت سبيلك! "، فإن هي رضيت أن تقيم بعد أن يخيِّرها فلا جناح عليه، وهو قوله:"والصلح خيرٌ"، وهو التخيير.
10588- حدثنا الربيع بن سليمان وبحر بن نصر قالا حدثنا ابن وهب قال، حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: أنزل الله هذه الآية في المرأة إذا دخلت في السنّ، (4) فتجعل يومها لامرأة أخرى. قالت ففي ذلك أنزلت:"فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا". (5)
10589- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سألته عن قول الله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هي المرأة تكون مع زوجها، فيريد أن يتزوج
__________
(1) الأثران - 10585، 10586 - هما مكرر الأثر السالف من طريقين.
(2) في المطبوعة: "كثير ما يحب"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، فرجحت قراءتها كما أثبت.
(3) "المواساة" من"الأسوة"، أصلها الهمزة، فقلبت واوا تخفيفًا. وهي المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق.
(4) قولها: "دخلت في السن"، أي: كبرت وارتفعت سنها.
(5) الأثر: 10588 -"بحر بن نصر بن سابق الخولاني" المصري، ثقة صدوق. روى عن ابن وهب، والشافعي، وأسد بن موسى. روى عنه أبو جعفر الطحاوي. مترجم في التهذيب. هذا، والإسناد في المخطوطة، ليس فيه"بحر بن نصر"، بل هو مفرد بذكر الربيع. ولم أجد الخبر من هذا الوجه في مكان آخر.(9/272)
عليها، فتصالحه من يومها على صلح. قال: فهما على ما اصطلحا عليه. فإن انتقضت به، (1) فعليه أن يعدِل عليها، أو يفارقها.
10590- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يقول ذلك.
10591- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن مجاهد: أنه كان يقول ذلك.
10592- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا" إلى آخر الآية، قال: يصالحها على ما رضيت دون حقها، فله ذلك ما رضيت. فإذا أنكرت، أو قالت:"غِرْت"، فلها أن يعدل عليها، أو يرضيها، أو يطلِّقها.
10593- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن محمد قال: سألت عبيدة عن قول الله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هو الرجل تكون له امرأة قدْ خلا من سنها، (2) فتصالحه عن حقها على شيء، فهو له ما رضيت. فإذا كرهت، فلها أن يعدل عليها، أو يرضيها من حقها، أو يطلقها.
10594- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا"، فذكر نحو ذلك= إلا أنه قال: فإن سخطت، فله أن يرضيها، أو يوفيها حقَّها كله، أو يطلقها.
__________
(1) في المطبوعة: "انتقصت به" بالصاد، وأنا في شك لازم منها، وهي في المخطوطة غير منقوطة، فرجحت قراءتها كما أثبت، من قولهم: "نقض الأمر بعد إبرامه، وانتقض وتناقض"، واستعمال"به" مع"انتقضت" عربي جيد، كأنه يحمل معنى"خاص به"، أي نقضه.
(2) "خلا من سنها"، كبرت ومضى أطيب عمرها.(9/273)
10595- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة قال، قال إبراهيم: إذا شاءت كانت على حقها، وإن شاءت أبت فردّت الصلح، فذاك بيدها. فإن شاء طلقها، وإن شاء أمسكها على حقها. (1)
10596- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما"، قال قال علي: تكون المرأة عند الرجل الزّمان الكثير، فتخاف أن يطلِّقها، فتصالحه على صلح ما شاء وشاءت= يبيت عندها في كذا وكذا ليلة، وعند أخرى، ما تراضيا عليه= وأن تكون نفقتها دون ما كانت. وما صالحته عليه من شيء فهو جائز.
10597- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن عبد الملك، عن أبيه، عن الحكم:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: هي المرأة تكون عند الرجل، فيريد أن يخلِّي سبيلها. فإذا خافت ذلك منه، فلا جناح عليهما أن يصطلحا بينهما صلحًا، تدع من أيامها إذا تزوج. (2)
10598- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، إلى قوله:"والصلح خير"، وهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة، فينكح عليها المرأة الشابة، فيكره أن يفارق أم ولده، فيصالحها على عطيَّةٍ من ماله ونفسه فيطيب له ذلك الصلح.
10599- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
__________
(1) الأثر: 10595 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(2) الأثر: 10597 -"يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية الخزاعي" أبو زكرياء: ثقة. مترجم في التهذيب.
وأبوه: "عبد الملك بن حميد بن أبي غنية" وهو"ابن أبي غنية"، مضى برقم: 8535.(9/274)
قتادة قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، فقرأ حتى بلغ"فإن الله كان بما تعملون خبيرًا"، وهذا في الرجل تكون عنده المرأة قد خَلا من سنها، وهان عليه بعض أمرها، فيقول:"إن كنت راضيةً من نفسي ومالي بدون ما كنت ترضَيْنَ به قبل اليوم! "، (1) فإن اصطلحا من ذلك على أمر، فقد أحلَّ الله لهما ذلك، وإن أبت، فإنه لا يصلح له أن يحبسها على الخَسْف. (2)
10600- حدثت عن الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار: أنّ رافع بن خديج كان تحته امرأة قد خلا من سنها، فتزوج عليها شابة، فآثر الشابة عليها. فأبت امرأته الأولى أن تقيم على ذلك، فطلقها تطليقة. حتى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك وصبرتِ على الأثرة، وإن شئت تركتك حتى يخلو أجلك! قالت: بل راجعني وأصبر على الأثرة! فراجعها، ثم آثر عليها، فلم تصبر على الأثرة، فطلَّقها أخرى وآثر عليها الشابة. قال: فذلك الصلح الذي بلغنا أن الله أنزل فيه:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا".
= قال الحسن قال، عبد الرزاق قال، معمر، وأخبرني أيوب، عن ابن سيرين عن عبيدة، بمثل حديث الزهري= وزاد فيه: فإن أضرَّ بها الثالثة، فإنّ عليه أن يوفِّيها حقها، أو يطلّقها. (3)
__________
(1) جواب الشرط محذوف، لدلالة الكلام عليه، أي: إن كنت راضية بذلك، فذلك، وإلا فارقتك.
(2) "على الخسف": أي على النقيصة، وتحميلها ما تكره.
(3) الأثر: 10600 - هذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك 2: 308 بهذا اللفظ من طريق إسحاق بن إبراهيم، عن عبد الرزاق، مرفوعًا إلى رافع بن خديج. وقال الحاكم: "حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
ورواه البيهقي في السنن 7: 296 من طريق أخرى مطولا، من طريق أبي اليمان، عن شعيب بن أبي جمرة، عن الزهري.
ورواه مالك في الموطأ: 548"عن ابن شهاب، عن رافع بن خديج: أنه تزوج بنت محمد بن مسلمة الأنصاري" الحديث، وهو قريب من لفظ معمر، عن الزهري.
وروى الشافعي خبر رافع بن خديج، مختصرًا من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري (الأم 5: 171) .(9/275)
10601- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: قول الرجل لامرأته:"أنت كبيرة، وأنا أريد أن أستبدل امرأة شابَّة وضيئة، فقَرِّي على ولدك، فلا أقسم لك من نفسي شيئًا". فذلك الصلح بينهما، وهو أبو السَّنابل بن بَعْكك. (1)
10602- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح:"من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، ثم ذكر نحوه= قال شبل: فقلت له: فإن كانت لك امرأة فتقسم لها ولم تقسم لهذه؟ قال: إذا صالحتْ على ذلك، (2) فليس عليه شيء.
10603- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر قال: سألت عامرًا عن الرجل تكون عنده المرأة يريد أن يطلقها، فتقول:"لا تطلقني، واقسم لي يومًا، وللتي تَزَّوَّج يومين"، قال: لا بأس به، هو صلح.
10604- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا والصلح خير"، قال: المرأة ترى
__________
(1) الأثر: 10601 -"أبو السنابل بن بعكك بن الحارث بن عميلة بن السباق بن عبد الدار القرشي"، هو صحابي من مسلمة الفتح، أخرج له الترمذي، والنسائي وابن ماجه.
و"بعكك" (بفتح فسكون ففتح) على وزن"جعفر".
(2) في المطبوعة: "إذا صالحته"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/276)
من زوجها بعض الحطّ، (1) وتكون قد كبرت، أو لا تلد، فيريد زوجها أن ينكح غيرها، فيأتيها فيقول:"إني أريد أن أنكح امرأة شابة أشبَّ منك، (2) لعلها أن تَلِدَ لي وأوثرها في الأيام والنفقة"، فإن رضيت بذلك، وإلا طلقها، فيصطلحان على ما أحبَّا.
10605- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قال: نشوزًا عنها، غَرِضَ بها. (3) الرجل تكون له المرأتان="أو إعراضًا"، بتركها="فلا جناح عليهما أن يصلحا بينهما صلحًا"، إما أن يرضيها فتحلله، وإما أن ترضِيَه فتعطِفُه على نفسها.
10606- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، يعني: البغض.
10607- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، فهو الرجل تكون تحته المرأة الكبيرة، فيتزوج عليها المرأة الشابة، فيميل إليها، وتكون أعجب إليه من الكبيرة، فيصالح الكبيرة على أن يعطيها من ماله ويقسم لها من نفسه نصيبًا معلومًا.
10608- حدثنا عمرو بن علي وزيد بن أخزم قالا حدثنا أبو داود قال،
__________
(1) في المطبوعة: "بعض الجفاء"، غير ما في المخطوطة. و"الحط" الوضع والإنزال. ويريد: بعض البخس من حقها، والفتور في مودتها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أنسب منك"، وهو تصحيف، صواب قراءته ما أثبت.
(3) "غرض بها" (بالغين المفتوحة وكسر الراء) : ضجر بها وملها. وفي المخطوطة والمطبوعة بالعين المهملة، وهو خطأ صوابه ما أثبت. ثم قوله بعد ذلك: "الرجل تكون له المرأتان"، يعني: أن ذلك في الرجل تكون له المرأتان. وهو كلام مبتدأ لا يتعلق بالفعل الذي قبله.(9/277)
حدثنا سليمان بن معاذ، عن سماك بن حرب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خشيت سَوْدة أن يطلِّقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: لا تطلِّقني على نسائك، ولا تَقسم لي. ففعل، فنزلت:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا". (1)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"أن يصلحا بينهما صلحًا" (2)
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض أهل البصرة بفتح"الياء" وتشديد"الصاد"، بمعنى: أن يتصالحا بينهما صلحًا، ثم أدغمت"التاء" في"الصاد"، فَصُيِّرتا"صادًا" مشددة. (3)
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة: (أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) ، بضم"الياء" وتخفيف"الصاد"، بمعنى: أصلح الزوج والمرأة بينهما.
* * *
__________
(1) الأثر: 10608 -"زيد بن أخزم الطائي النبهاني" الحافظ، روى عن أبي داود الطيالسي، ويحيى القطان، وابن مهدي، وأبي عامر العقدي. روى عنه الجماعة، سوى مسلم. قال النسائي: "ثقة". ذبحه الزنج في الفتنة سنة 257. مترجم في التهذيب.
و"أخزم" بالخاء المعجمة، والزاي. وكانا في المطبوعة: "أخرم"، وهو خطأ. وهذا الأثر ساقط من المخطوطة.
والأثر في مسند أبي داود: 349 رقم: 2683، وفي الترمذي في كتاب التفسير، والبيهقي في السنن 3: 297، واتفقت روايتهم جميعًا:
" ... فقالَتْ: لا تُطَلِّقني وأمسكني، واجعل يومي لعائشة. ففعل، فنزلت هذه الآية: وَإن امرأةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أو إعراضًا، الآية، فما اصطلحا عليه من شَيءٍ فهو جائز".
فلا أدري من أين جاء هذا الاختلاف في لفظ الخبر؟ وأرجو أن لا يكون تصرفًا من ناسخ سابق.
وقال الترمذي بعقب روايته: "هذا حديث حسن صحيح غريب".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يصالحا بينهما" بالألف، وصواب كتابتها ما أثبت، على رسم المصحف، حتى يحتمل الرسم القراءتين جميعًا.
(3) هكذا رسم هذه القراءة: (أَنْ يَصَّالَحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا) .(9/278)
قال أبو جعفر: وأعجب القراءتين في ذلك إليَّ قراءة من قرأ: (أن يصالحا بينهما صلحا) ، (1) بفتح"الياء" وتشديد"الصاد"، بمعنى: يتصالحا. لأن"التصالح" في هذا الموضع أشهر وأوضح معنى، وأفصح وأكثرُ على ألسن العرب من"الإصلاح". و"الإصلاح" في خلاف"الإفساد" أشهر منه في معنى"التصالح".
فإن ظن ظان أن في قوله:"صلحًا"، دلالة على أن قراءة من قرأ ذلك (يُصْلِحَا) بضم"الياء" أولى بالصواب، فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أن"الصلح" اسم وليس بفعل، فيستدلّ به على أولى القراءتين بالصواب في قوله:"يصلحا بينهما صلحًا".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: وأحضرت أنفس النساء الشح على أنصبائهن من أنفس أزواجهن وأموالهم. (2)
*ذكر من قال ذلك:
10609- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: نصيبها منه.
10610- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد= وحدثنا ابن وكيع قال،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة معًا: "إلا أن يصالحا"، زاد الناسخ"إلا" سهوًا، وتابعه الناشر.
(2) في المطبوعة: "وأموالهن"، والصواب من المخطوطة.(9/279)
حدثنا ابن يمان= قالا جميعًا، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: في الأيَّام.
10611- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: في الأيام والنفقة.
10612- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي وابن يمان، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: في النفقة.
10613- حدثنا ابن وكيع.. قال، حدثنا روح، عن ابن جريج، عن عطاء قال: في النفقة. (1)
10614- وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: في الأيام. (2)
10615- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: نفس المرأة على نصيبها من زوجها، من نفسه وماله.
10616- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، بمثله.
10617- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، مثله.
10618- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن رجل، عن سعيد بن جبير: في النفقة.
__________
(1) الأثر: 10613 - أخشى أن يكون صواب إسناده"حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا روح" سقط منه"حدثنا أبي قال".
(2) الأثر: 10614 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.(9/280)
10619- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن سعيد بن جبير قال: في الأيام والنفقة.
10620- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن مهدي، عن سفيان، عن الشيباني، عن سعيد بن جبير قال: في الأيام والنفقة.
10621- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: المرأة تشحُّ على مال زوجها ونفسه.
10622- حدثنا المثنى قال، أخبرنا حبّان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: جاءت المرأة حين نزلت هذه الآية:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، قالت:"إني أريد أن تقسم لي من نفسك"! وقد كانت رضيت أن يدَعها فلا يطلِّقها ولا يأتيها، فأنزل الله:"وأحضرت الأنفس الشحَّ".
10623- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: تطّلع نفسها إلى زوجها وإلى نفقته. قال: وزعم أنها نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سودة بنت زمعة: كانت قد كبرت، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يطلِّقها، فاصطلحا على أن يمسكها، ويجعل يومها لعائشة، فشحَّت بمكانها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وأحضرت نفسُ كل واحدٍ من الرجل والمرأة، الشحَّ بحقه قِبَل صاحبه.
*ذكر من قال ذلك:
10624- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد(9/281)
يقول في قوله:"وأحضرت الأنفس الشح"، قال: لا تطيب نفسُه أن يعطيها شيئًا، فتحلله= ولا تطيب نفسُها أن تعطيه شيئًا من مالها، فتعطفه عليها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: أحضرت أنفس النساء الشحَّ بأنصبائهن من أزواجهن في الأيام والنفقة.
* * *
و"الشح": الإفراط في الحرص على الشيء، وهو في هذا الموضع: إفراط حرصِ المرأة على نصيبها من أيامها من زوجها ونفقتها.
* * *
فتأويل الكلام: وأحضرت أنفس النساء أهواءَهن، من فرط الحرص على حقوقهن من أزواجهن، والشح بذلك على ضَرائرهن.
* * *
وبنحو ما قلنا في معنى"الشح" ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول:
10625- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وأحضرت الأنفس الشح"، والشح، هواه في الشيء يحرِص عليه.
* * *
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، من قول من قال:"عُني بذلك: وأحضرت أنفس الرجال والنساء الشح"، على ما قاله ابن زيد= لأن مصالحة الرجل امرأته بإعطائه إياها من ماله جُعْلا على أن تصفح له عن القسم لها، غير جائزة. وذلك أنه غير معتاض عوضًا من جُعْله الذي بذله لها. والجُعل لا يصح إلا على عِوض: إما عين، وإما منفعة. والرجل متى جعل للمرأة جُعْلا على أن تصفح له عن يومها وليلتها، فلم يملك عليها عينًا ولا منفعة. وإذْ كان ذلك كذلك، كان ذلك من معاني أكل المال بالباطل. وإذْ كان ذلك كذلك، فمعلوم أنه لا وجه لقول من قال:"عنى بذلك الرجل والمرأة".(9/282)
فإن ظن ظانّ أن ذلك إذْ كان حقًّا للمرأة، ولها المطالبة به، فللرجل افتداؤه منها بجُعل، فإن شفعة المستشفع في حصة من دارٍ اشتراها رجل من شريك له فيها حق، له المطالبة بها، فقد يجب أن يكون للمطلوب افتداءُ ذلك منه بجُعل. وفي إجماع الجميع على أن الصلح في ذلك على عِوض غيرُ جائز، إذ كان غير مُعتاض منه المطلوب في الشفعة عينًا ولا نفعًا= ما يدل على بُطول صلح الرجل امرأته على عوض، على أن تصفح عن مطالبتها إياه بالقسمة لها.
وإذا فسد ذلك، صَح أن تأويل الآية ما قلنا. وقد أبان الخبر الذي ذكرناه عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار (1) أنّ قوله:"وإن امرأة خافت من بعلها نشوزًا أو إعراضًا"، الآية: نزلت في أمر رافع بن خديج وزوجته، إذ تزوج عليها شابة، فآثر الشابَّة عليها، فأبت الكبيرة أن تَقِرَّ على الأثرة، فطلقها تطليقة وتركها. فلما قارب انقضاء عِدَّتها خيَّرها بين الفراق والرجعة والصبر على الأثرة، فاختارت الرجعة والصبر على الأثرة. فراجعها وآثر عليها، فلم تصبر، فطلقها. ففي ذلك دليل واضحٌ على أن قوله:"وأحضرت الأنفس الشح"، إنما عُني به: وأحضرت أنفس النساء الشحَّ بحقوقهن من أزواجهن، على ما وصفنا.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله"وإن تحسنوا وتتقوا"، فإنه يعني: وإن تحسنوا، أيها الرجال، في أفعالكم إلى نسائكم، (2) إذا كرهتم منهن دَمامة أو خُلُقًا أو بعضَ ما تكرهون منهن بالصبر عليهن، وإيفائهن حقوقهن وعشرتهن بالمعروف"وتتقوا"، يقول: وتتقوا الله فيهن بترك الجَوْر منكم عليهن فيما يجب لمن كرهتموه منهن عليكم، من القسمة له، والنفقة، والعشرة بالمعروف (3) ="فإن الله كان
__________
(1) هو الأثر رقم: 10600.
(2) انظر تفسير"الإحسان" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"التقوى" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/283)
وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129)
بما تعملون خبيرًا"، يقول: فإن الله كان بما تعلمون في أمور نسائكم، أيها الرجال، من الإحسان إليهن والعشرة بالمعروف، والجور عليهن فيما يلزمكم لهنّ ويجب="خبيرًا"، يعني: عالمًا خابرًا، لا يخفي عليه منه شيء، بل هو به عالم، وله محصٍ عليكم، حتى يوفِّيكم جزاءَ ذلك: المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء"، لن تطيقوا، أيها الرجال، أن تسوُّوا بين نسائكم وأزواجكم في حُبِّهن بقلوبكم حتى تعدِلوا بينهنّ في ذلك، فلا يكون في قلوبكم لبعضهن من المحبة إلا مثلُ ما لصواحبها، لأن ذلك مما لا تملكونه، وليس إليكم="ولو حرصتم"، يقول: ولو حرصتم في تسويتكم بينهن في ذلك، كما:-
10626 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: واجبٌ، أن لا تستطيعوا العدل بينهن.
* * *
="فلا تميلوا كلَّ الميل"، يقول: فلا تميلوا بأهوائكم إلى من لم تملكوا محبته منهن كلَّ الميل، حتى يحملكم ذلك على أن تجوروا على صواحبها في ترك أداء الواجب لهن عليكم من حق: في القسم لهن، والنفقة عليهن، والعشرة بالمعروف (2) =
__________
(1) انظر تفسير"خبير" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"الميل" فيما سلف 8: 212.(9/284)
"فتذروها كالمعلقة" يقول: فتذروا التي هي سوى التي ملتم بأهوائكم إليها="كالمعلقة"، يعني: كالتي لا هي ذات زوج، ولا هي أيِّمٌ.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ما قلنا في قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم".
10627 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: بنفسه في الحب والجماع.
10628- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: بنفسه.
10629- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: سألته عن قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، فقال: في الجماع
10630- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: في الحب والجماع.
10631 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل، عن عمرو، عن الحسن: في الحب.
10632 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: في الحب والجماع.
10633- حدثنا الحسن بن يحيى قال، قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله:"ولن تستطيعوا أن(9/285)
تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: في المودة، كأنه يعني الحبّ.
10634- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، يقول: لا تستطيع أن تعدل بالشهوة فيما بينهن ولو حرصت.
10635 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة= قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب كان يقول: اللهم أمَّا قلبي فلا أملك! وأما سِوَى ذلك، فأرجو أن أعدل!
10636 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، يعني: في الحب والجماع.
10637- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب= قالا جميعًا، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه فيعدل، ثم يقول: اللهم هذا قَسْمِي فيما أملك، فلا تَلُمني فيما تَملك ولا أملك. (1)
__________
(1) الأثر: 10637 - هذا الأثر رواه أبو داود في سننه 2: 326 رقم: 2134 من طريق حماد، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد (الخطمي) ، عن عائشة، وانظر التعليق على الأثر رقم: 10657.
ورواه من هذه الطريق أيضا مرفوعا، النسائي في السنن 7: 63، 64.
وبه أيضًا، ابن ماجه من سننه 1: 634، رقم: 1971.
وبه أيضًا، الترمذي في سننه (باب ما جاء في التسوية بين الضرائر) .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 298.
وسيرويه أبو جعفر بإسنادين آخرين، أحدهما من طريق حماد بن زيد مرسلا، وهو رقم: 10656، مع اختلاف يسير في اللفظ.
والآخر، من طريق عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة، مرفوعًا، كما في السنن الأربعة، وهو رقم: 10657.
وأشار إليه الحافظ في الفتح (9: 274) وقال: "وقد روى الأربعة، وصححه ابن حبان والحاكم". وقال الترمذي بعقبه: "حديث عائشة، هكذا رواه غير واحد: عن حماد بن سلمة، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم= ورواه حماد بن زيد وغير واحد، عن أيوب، عن أبي قلابة، مرسلا: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم= وهذا أصح من حديث حماد بن سلمة". وزاد الطبري هنا طريقين في روايته مرسلا: ابن علية، عن أيوب= وعبد الوهاب، عن أيوب.
ثم قال الترمذي ومعنى قوله: "لا تلمني فيما تملك ولا أملك"= إنما يعني به الحب والمودة، كذا فسره بعض أهل العلم".
وقال أبو داود في سننه: "يعني القلب".(9/286)
10638 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن عبد العزيز بن رفيع، عن ابن أبي مليكة قال: نزلت هذه الآية في عائشة:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء".
10639 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك، قال: في الشهوة والجماع.
10640 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال: في الجماع.
10641 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء قال، قال سفيان في قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: في الحب والجماع.
10642- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم"، قال: ما يكون من بدنه وقلبه، فذلك شيء لا يستطيع يَمْلكه. (1)
* * *
ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله:"فلا تميلوا كلَّ الميل".
10643 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا
__________
(1) حذفت"أن"، وسياقه"لا تستطيع أن تملكه". وحذف"أن" قبل المضارع، جائز صحيح، كثير في كلام العرب، وكثير في كلام القدماء من العلماء والكتاب.(9/287)
ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: بنفسه.
10644- حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة، مثله.
10645 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة:"فلا تميلوا كل الميل"، قال هشام: أظنه قال: في الحب والجماع.
10646- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة في قوله:"كل الميل"، قال: بنفسه.
10647 - حدثنا بحر بن نصر الخولاني قال، حدثنا بشر بن بكر قال، أخبرنا الأوزاعي، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن قول الله:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: بنفسه. (1)
10648 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: في الغشيان والقَسْم. (2)
10649 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فلا تميلوا كل الميل"، لا تعمَّدوا الإساءة.
10650 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10651- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج
__________
(1) الأثر: 10647 -"بحر بن نصر الخولاني"، مضى قريبًا برقم: 10588. وهذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(2) الأثر: 10648 -"سهل بن يوسف الأنماطي"، ثقة، من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب، وقد مضى في الأسانيد: 2966، 3260، 4876، 8765.(9/288)
قال: بلغني عن مجاهد:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: يتعمد أن يسيء ويظلم. (1)
10652 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10653- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: هذا في العمل في مبيته عندها، وفيما تصيب من خيره.
10654 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تميلوا كل الميل"، يقول: يميل عليها، فلا ينفق عليها، ولا يقسم لها يومًا.
10655 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"فلا تميلوا كل الميل"، قال: يتعمد الإساءة، يقول:"لا تميلوا كل الميل"، قال: بلغني أنه الجماع.
10656 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن أبي قلابة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل، ويقول: اللهم هذه قِسْمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك! (2)
10657- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن عبد الله بن يزيد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثله. (3)
__________
(1) الأثر: 10651 -"محمد بن بكر بن عثمان البرساني"، ثقة. مضى برقم: 5438.
(2) الأثر: 10656 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 10637.
(3) الأثر: 10657 -"عبد الله بن يزيد" هو: رضيع عائشة. روى عن عائشة. وعنه أبو قلابة الجرمي. ذكره ابن حبان في الثقات. وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله بن زيد"، وهو خطأ كما سترى.
هذا وقد جاء في سنن أبي داود وحدها"عبد الله بن يزيد الخطمي"، والآخرون لم يقولوا: "الخطمي"، اقتصروا على اسمه وحده. وهذا هو الصواب، فإن"عبد الله بن يزيد بن زيد الخطمي"، لم يذكر في تراجمه أنه روى عن عائشة، ولا أن أبا قلابة الجرمي قد روى عنه.
والذي يروي عن عائشة: عبد الله بن يزيد، رضيع عائشة. وقد نص الحافظ ابن حجر في ترجمته في التهذيب (6: 80) أنه له عند الأربعة: "اللهم هذا قسمي فيما أملك"، فثبت على اليقين، أن الذي في النسخ المطبوعة من سنن أبي داود، خطأ محض، وأن الصواب حذف"الخطمي" من إسنادها. والله الموفق للصواب. كتبه محمود محمد شاكر.(9/289)
10658 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن همام بن يحيى، عن قتادة، عن النضر بن أنس، عن بشير بن نَهيك، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كانت له امرأتان يَميل مع إحداهما على الأخرى، جاء يوم القيامة أحدُ شِقَّيه ساقط. (1)
* * *
ذكر من قال ما قلنا في تأويل قوله:"فتذروها كالمعلقة".
10659 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فتذروها كالمعلقة"، قال: تذروها لا هي أيّم، ولا هي ذات زوج. (2)
10660- حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن جعفر
__________
(1) الأثر: 10658 - هذا الأثر، رواه أبو داود الطيالسي عن همام، في مسنده: 322 رقم: 2454، باختلاف يسير في لفظه.
ورواه أبو داود في السنن 2: 326، رقم: 2133، من طريق أبي الوليد الطيالسي، عن همام، ولفظه: "وشقه مائل".
ورواه النسائي 7: 63، من طريق عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن همام، ولفظه: "أحد شقيه مائل".
ورواه ابن ماجه في سننه 1: 633 رقم: 1969، من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن وكيع، بلفظ الطبري.
ورواه الترمذي في السنن، في باب (ما جاء في التسوية بين الضرائر) ، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن همام.
ورواه البيهقي 7: 297 من طرق.
قال الترمذي: "وإنما أسند هذا الحديث همام بن يحيى، عن قتادة. ورواه هشام الدستوائي عن قتادة، قال: "كان يقال". ولا نعرف هذا الحديث مرفوعًا إلا من حديث همام".
(2) في المطبوعة: "ولا ذات روج"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/290)
، عن سعيد بن جبير:"فتذروها كالمعلقة"، قال: لا أيِّمًا ولا ذات بعل.
10661 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن مبارك، عن الحسن:"فتذروها كالمعلقة"، قال: لا مطلقة ولا ذات بعل.
10662- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن، مثله.
10663 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فتذروها كالمعلقة"، أي كالمحبوسة، أو كالمسجونة.
10664- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فتذروها كالمعلقة"، قال: كالمسجونة. (1)
10665 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله:"فتذروها كالمعلقة"، يقول: لا مطلقة ولا ذات بعل.
10666- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس في قوله:"فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة"، لا مطلقة ولا ذات بعل. (2)
10667- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بكر، عن ابن جريج قال: بلغني عن مجاهد:"فتذروها كالمعلقة"، قال: لا أيما ولا ذات بعل.
__________
(1) في المخطوطة، "كالمسجونة، كالمحبوسة"، ووضع فوق الأولى حرف (ط) وفوق الأخرى (كذا) ، ولا أدري ما الذي أراد باستشكاله هذا. أما المطبوعة، فقد حذفت"كالمحبوسة" واقتصرت على واحدة، وكأنه ظن أنه أراد حذف التي عليها (ط) ، وإبقاء الأخرى، ولعله أصاب، فتركت ما في المطبوعة على حاله.
وأراد بقوله: "المسجونة" و"المحبوسة"، أن زوجها سجنها، أو حبسها فلم يرسلها، ولم يسرحها بالطلاق.
(2) الأثر: 10666 - عبد الرحمن بن سعد: هو: "عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد بن عثمان الرازي". روى عن أبيه، وأبي خيثمة، وعمرو بن أبي قيس الرازي، وأبي جعفر الرازي. ثقة. مترجم في التهذيب.(9/291)
10668 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح:"فتذروها كالمعلقة"، ليست بأيم ولا ذات زوج.
10669- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي وأبو خالد وأبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك، قال: لا تدعها كأنها ليس لها زوج.
10670- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فتذروها كالمعلقة"، قال: لا أيِّمًا ولا ذات بعل.
10671 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فتذروها كالمعلقة"، قال:"المعلقة"، التي ليست بمُخَلاة ونفسها فتبتغي لها، وليست متهيئة كهيئة المرأة من زوجها، لا هي عند زوجها، ولا مفارقة، فتبتغي لنفسها. فتلك"المعلقة".
* * *
قال أبو جعفر: وإنما أمر الله جل ثناؤه بقوله:"فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة"، الرجالَ بالعدل بين أزواجهن فيما استطاعوا فيه العدل بينهن من القسمة بينهن، والنفقة، وترك الجور في ذلك بإرسال إحداهن على الأخرى فيما فرض عليهم العدلَ بينهن فيه، إذ كان قد صفح لهم عمَا لا يطيقون العدلَ فيه بينهنّ مما في القلوب من المحبة والهوى.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وإن تصلحوا" أعمالكم، أيها الناس، فتعدلوا في قسمكم بين أزواجكم، وما فرض الله لهن عليكم من النفقة والعشرة بالمعروف، فلا تجوروا في ذلك="وتتقوا"، يقول: وتتقوا الله في الميل الذي نهاكم(9/292)
وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
عنه، بأن تميلوا لإحداهن على الأخرى، فتظلموها حقها مما أوجبَه الله لها عليكم="فإن الله كان غفورًا"، يقول: فإن الله يستر عليكم ما سلف منكم من ميلكم وجوركم عليهن قبل ذلك، بتركه عقوبتكم عليه، ويغطِّي ذلك عليكم بعفوه عنكم ما مضى منكم في ذلك قبل="رحيمًا"، يقول: وكان رحيمًا بكم، إذ تاب عليكم، فقبل توبَتكم من الذي سلف منكم من جوركم في ذلك عليهن، وفي ترخيصه لكم الصلح بينكم وبينهن، بصفحهن عن حقوقهن لكم من القَسْم على أن لا يطلَّقن. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أبت المرأة التي قد نشز عليها زوجها= إذ أعرض عنها بالميل منه إلى ضرّتها لجمالها أو شبابها، أو غير ذلك مما تميل النفوس له إليها (2) = الصلحَ بصفحها لزوجها عن يومها وليلتها، (3) وطلبت حقَّها منه من القسم والنفقة، وما أوجب الله لها عليه= وأبى الزوج الأخذَ عليها بالإحسان الذي ندبه الله إليه بقوله:"وإن تُحسنوا وتتقوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا"، وإلحاقَها في القسم لها والنفقة والعشرة بالتي هو إليها مائل، (4) فتفرقا
__________
(1) انظر تفسير"التقوى" و"غفور"، و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "أو أعرض عنها ... مما تميل النفوس به إليها"، غير"إذ"، و"له"، وهما نص المخطوطة، وهو الصواب. ويعني: مما تميل النفوس من أجله إلى هذه المرأة التي وصف.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "الصلح لصفحها" والصواب ما أثبت، وقوله: "الصلح" منصوب، مفعول به لقوله: "فإن أبت المرأة ... الصلح"، هكذا السياق.
(4) قوله: "وإلحاقها" معطوف في السياق على قوله: "وأبى الزوج الأخذ عليها بالإحسان ... وإلحاقها ... ".(9/293)
بطلاق الزوج إياها="يُغْنِ الله كلا من سعته"، يقول: يغن الله الزوجَ والمرأة المطلقة من سعة فضله. أما هذه، فبزوج هو أصلح لها من المطلِّق الأول، أو برزق أوسع وعصمة. وأما هذا، فبرزق واسع وزوجة هي أصلح له من المطلقة، (1) أو عفة="وكان الله واسعًا"، يعني: وكان الله واسعًا لهما، في رزقه إياهما وغيرهما من خلقه (2) ="حكيمًا"، فيما قضى بينه وبينها من الفرقة والطلاق، وسائر المعاني التي عرفناها من الحكم بينهما في هذه الآيات وغيرها، وفي غير ذلك من أحكامه وتدبيره وقضاياه في خلقه. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10672- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته"، قال: الطلاق. (4)
10673 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"السعة" فيما سلف ص: 121.
وقوله: "أو عفة" يعني: فبرزق واسع ... أو بعفة.
(2) انظر تفسير"واسع" فيما سلف 2: 537 / 5: 516، 575 / 6: 517.
(3) انظر تفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) في المطبوعة: "قال: الطلاق، يغني الله كلا من سعته"، وليس ذلك كله في المخطوطة بل سقط منها بقية الخبر. فاقتصرت على ما جاء في الدر المنثور 2: 234، عن مجاهد وهو: "قال: الطلاق"، كما أثبته.(9/294)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131)
القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولله جميع مُلْك ما حوته السموات السبع والأرَضون السبع من الأشياء كلها. وإنما ذكر جل ثناؤه ذلك بعقب قوله:"وإن يتفرَّقا يغن الله كلا من سعته"، تنبيهًا منه خلقَه على موضع الرغبة عند فراق أحدهم زوجته، ليفزعوا إليه عند الجزع من الحاجة والفاقة والوَحْشة بفراق سَكنه وزوجته= وتذكيرًا منه له أنه الذي له الأشياء كلها، وأن من كان له ملك جميع الأشياء، فغير متعذّر عليه أن يغنيَه وكلَّ ذي فاقة وحاجة، ويؤنس كلَّ ذي وحشة.
* * *
ثم رجع جل ثناؤه إلى عذل من سعى في أمر بني أبيرق وتوبيخهم، ووعيدِ من فعل ما فعل المرتدّ منهم، فقال (1) "ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم"، يقول: ولقد أمرنا أهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل="وإياكم"، يقول: وأمرناكم وقلنا لكم ولهم:"اتقوا الله"، يقول: احذروا الله أن تعصوه وتخالفوا أمره ونهيه (2) ="وإن تكفروا"، يقول: وإن تجحدوا وصيته إياكم، أيها المؤمنون، فتخالفوها="فإنّ لله ما في السموات وما في الأرض"، يقول: فإنكم لا تضرُّون بخلافكم وصيته غير أنفسكم، ولا تَعْدُون في كفركم ذلك أن تكونوا أمثالَ اليهود والنصارى، في نزول عقوبته بكم، وحلول غضبه عليكم، كما حلَّ بهم إذ بدَّلوا عهده ونقضوا ميثاقه، فغيَّر بهم ما كانوا فيه من خَفض
__________
(1) انظر تفسير الآيات السالفة، من الآية: 105 - 116.
(2) انظر تفسير"وصى" فيما سلف 3: 93-96: 405 / 8: 30، 68 وانظر مقالته في"أن" مع"وصى" فيما سلف 3: 94، 95.(9/295)
العيش وأمن السِّرب، (1) وجعل منهم القردة والخنازير. وذلك أن له ملك جميع ما حوته السموات والأرض، لا يمتنع عليه شيء أراده بجميعه وبشيء منه، من إعزاز من أراد إعزازه، وإذلال من أراد إذلاله، وغير ذلك من الأمور كلها، لأن الخلق خلقه، بهم إليه الفاقة والحاجة، وبه قواهم وبقاؤهم، وهلاكهم وفناؤهم= وهو"الغني" الذي لا حاجة تحلّ به إلى شيء، ولا فاقة تنزل به تضطرُّه إليكم، أيها الناس، ولا إلى غيركم (2) ="والحميدُ" الذي استوجب عليكم أيها الخلق الحمدَ بصنائعه الحميدة إليكم، وآلائه الجميلة لديكم. (3) فاستديموا ذلك، أيها الناس، باتقائه، والمسارعة إلى طاعته فيما يأمركم به وينهاكم عنه، كما:
10674 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف، عن أبي روق، عن علي رضي الله عنه:"وكان الله غنيًّا حميدًا"، قال: غنيًّا عن خلقه="حميدًا"، قال: مستحمدًا إليهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وأمن الشرب" بالشين المعجمة، وهو خطأ صرف، وهو في المخطوطة على الصواب. و"السرب" (بكسر السين وسكون الراء) : النفس والمال والأهل والولد. يقال: "أصبح فلان آمنًا في سربه" أي في نفسه وأهله وماله وولده. وتفتح السين، فيقال: "أصبح آمنًا في سربه"، أي: في مذهبه ووجهه حيث سار وتوجه.
و"خفض العيش": لينه وخصبه.
(2) انظر تفسير"الغني" فيما سلف 5: 521، 570.
(3) انظر تفسير"حميد" فيما سلف 5: 570.(9/296)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132)
القول في تأويل قوله: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (132) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولله ملك جميع ما حوته السموات والأرض، وهو القيِّم بجمعيه، والحافظ لذلك كله، لا يعزب عنه علم شيء منه، ولا يؤوده حفظه وتدبيره، كما:-
10675 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام، عن عمرو، عن سعيد، عن قتادة:"وكفى بالله وكيلا"، قال: حفيظًا. (1)
* * *
فإن قال قائل: وما وجه تكرار قوله:"ولله ما في السموات وما في الأرض" في آيتين، إحداهما في إثر الأخرى؟
قيل: كرّر ذلك، لاختلاف معنى الخبرين عما في السموات والأرض في الآيتين. وذلك أن الخبر عنه في إحدى الآيتين: ذكرُ حاجته إلى بارئه، وغنى بارئه عنه - وفي الأخرى: حفظ بارئه إياه، وعلمه به وتدبيره. (2)
فإن قال: أفلا قيل:"وكان الله غنيًّا حميدًا"، وكفى بالله وكيلا؟
قيل: إن الذي في الآية التي قال فيها:"وكان الله غنيًّا حميدًا"، مما صلح أن يختم ما ختم به من وصف الله بالغنى وأنه محمود، ولم يذكر فيها ما يصلح أن يختم بوصفه معه بالحفظ والتدبير. فلذلك كرّر قوله:"ولله ما في السموات وما في الأرض".
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف 7: 405 / 8: 566 / 9: 193.
(2) في المطبوعة: "حفظ بارئه إياه به، وعلمه به وتدبيره"، والصواب كله من المخطوطة.(9/297)
إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133)
القول في تأويل قوله: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن يشأ الله، أيها الناس، ="يذهبكم"، أي: يذهبكم بإهلاككم وإفنائكم="ويأت بآخرين"، يقول: ويأت بناس آخرين غيركم لمؤازرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ونصرته="وكان الله على ذلك قديرًا"، يقول: وكان الله على إهلاككم وإفنائكم واستبدال آخرين غيركم بكم="قديرًا"، يعني: ذا قدرة على ذلك. (1)
* * *
وإنما وبخ جل ثناؤه بهذه الآيات، الخائنين الذين خانوا الدِّرع التي وصفنا شأنها، الذين ذكرهم الله في قوله: (وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) [سورة النساء: 105] = وحذر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أن يكونوا مثلهم، وأن يفعلوا فعل المرتدِّ منهم في ارتداده ولحاقه بالمشركين = وعرَّفهم أن من فعل فعله منهم، فلن يضر إلا نفسه، ولن يوبق برِدَّته غير نفسه، لأنه المحتاج -مع جميع ما في السموات وما في الأرض- إلى الله، والله الغني عنهم. ثم توعَّدهم في قوله:"إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين"، بالهلاك والاستئصال، إن هم فعلوا فعل ابن أبيرق طُعْمة المرتدِّ (2) = وباستبدال آخرين غيرهم بهم، لنصرة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وصحبته ومؤازرته على دينه، كما قال في الآية الأخرى: (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) ، [سورة محمد: 38] .
__________
(1) انظر تفسير"القدير" فيما سلف 1: 361 / 2: 484، 504.
(2) "طعمة" هو اسم"ابن أبيرق" كما سلف في الأثر رقم: 10416.(9/298)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها لما نزلت، ضرب بيده على ظهر سَلْمان فقال:"هم قوم هذا"، يعني عجم الفرس= كذلك:-
10676- حُدِّثت عن عبد العزيز بن محمد، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
وقال قتادة في ذلك بما:-
10677 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله"إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرًا"، قادرٌ واللهِ ربُّنا على ذلك: أن يهلك من يشاء من خلقه، ويأتي بآخرين من بعدهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"من كان يريد"، ممن أظهرَ الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم من أهل النفاق، (2) الذين يستبطنون الكفر
__________
(1) الأثر: 10676 -"عبد العزيز بن محمد بن عبيد بن أبي عبيد الدراوردي". متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
و"سهيل بن أبي صالح". متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
و"أبوه: "ذكوان السمان"، "أبو صالح"، ثقة ثبت في حديثه عن أبي هريرة. مترجم في التهذيب، مضى برقم: 304، 3226، 5387.
وهذا الأثر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 6: 67، ونسبه لابن جرير، وسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
وسيأتي بأسانيد أخرى في تفسير"سورة محمد"، في آخرها 26: 42 (بولاق) سنتكلم عنها هناك.
(2) في المطبوعة: "لمحمد صلى الله عليه وسلم"، والصواب من المخطوطة.(9/299)
وهم مع ذلك يظهرون الإيمان="ثواب الدنيا"، يعني: عَرَض الدنيا، (1) بإظهارهِ مَا أظهر من الإيمان بلسانه. (2) ="فعند الله ثواب الدنيا"، يعني: جزاؤه في الدنيا منها وثوابه فيها، وهو ما يصيبُ من المغنم إذا شَهِد مع النبي مشهدًا، (3) وأمنُه على نفسه وذريته وماله، وما أشبه ذلك. وأما ثوابه في الآخرة، فنارُ جهنم.
* * *
فمعنى الآية: من كان من العاملين في الدنيا من المنافقين يريد بعمله ثوابَ الدنيا وجزاءَها من عمله، فإن الله مجازيه به جزاءَه في الدنيا من الدنيا، (4) وجزاءه في الآخرة من الآخرة من العقاب والنكال. وذلك أن الله قادر على ذلك كله، وهو مالك جميعه، كما قال في الآية الأخرى: (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة هود: 15-16] .
* * *
وإنما عنى بذلك جل ثناؤه: الذين تَتَيَّعُوا في أمر بني أبيرق، (5) والذين وصفهم في قوله: (وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ) [سورة النساء: 107، 108] ، ومن كان من نظرائهم في أفعالهم ونفاقهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ثواب" فيما سلف 2: 458 / 7: 262، 304، 490.
(2) في المطبوعة: "بإظهار" بغير هاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "وثوابه فيها هو ... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) قوله: "مجازيه به"، كان في المخطوطة: "مجازيه بها"، وفي المطبوعة، حذف"بها"، والصواب ما أثبت.
(5) في المطبوعة: "الذين سعوا في أمر بني أبيرق"، وفي المخطوطة، كما كتبتها غير منقوطة. يقال: "تتيع فلان في الأمر وتتايع": إذا أسرع إليه وتهافت فيه من غير فكر ولا روية. ولا يكون ذلك إلا في الشر، لا يقال في الخير. والذي في المطبوعة صواب في المعنى والسياق والخبر، ولكني تبعت رسم المخطوطة، فهو موافق أيضًا لسياق قصتهم.(9/300)
وقوله:"وكان الله سميعًا بصيرًا"، يعني: وكان الله سميعًا لما يقول هؤلاء المنافقون الذين يريدون ثواب الدنيا بأعمالهم، وإظهارهم للمؤمنين ما يظهرون لهم إذا لَقُوا المؤمنين، وقولهم لهم:"آمنًا" (1) ="بصيرًا"، يعني: وكان ذا بصر بهم وبما هم عليه منطوون للمؤمنين، (2) فيما يكتمونه ولا يبدونه لهم من الغش والغِلّ الذي في صدورهم لهم. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"سميع" فيما سلف 6: 363، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"بصير" فيما سلف 6: 283، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة، حذف"لهم" من آخر هذه الجملة.(9/301)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا}
وهذا تقدُّم من الله تعالى ذكره إلى عباده المؤمنين به وبرسوله (1) أن يفعلوا فعل الذين سَعَوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر بني أبيرقٍ أن يقوم بالعذر لهم في أصحابه، وذَبَّهم عنهم، وتحسينَهم أمرهم بأنهم أهل فاقة وفقر. يقول الله لهم:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين بالقسط"، يقول: ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيام بالقسط (2) =يعني: بالعدل="شهداء لله".
* * *
= و"الشهداء" جمع"شهيد". (3)
* * *
__________
(1) يقال: "تقدم إليه في كذا" أي أمره بأمر أو نهي، وأراد هنا معنى النهي.
(2) انظر تفسير"القسط" فيما سلف 6: 77، 270 / 7: 541.
(3) انظر تفسير"شهيد" و"شهداء" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/301)
ونصبت"الشهداء" على القطع مما في قوله:"قوامين" من ذكر"الذين آمنوا"، (1) ومعناه: قوموا بالقسط لله عند شهادتكم= أو: حين شهادتكم.
="ولو على أنفسكم"، يقول: ولو كانت شهادتكم على أنفسكم، أو على والدين لكم أو أقربيكم، (2) فقوموا فيها بالقسط والعدل، وأقيموها على صحّتها بأن تقولوا فيها الحق، ولا تميلوا فيها لغنيٍّ لغناه على فقير، ولا لفقير لفقره على غنيّ، فتجوروا. فإن الله الذي سوَّى بين حكم الغنيّ والفقير فيما ألزمكم، أيها الناس، من إقامة الشهادة لكل واحد منهما بالعدل="أولى بهما"، وأحق منكم، (3) لأنه مالكهما وأولى بهما دونكم، فهو أعلم بما فيه مصلحة كلّ واحد منهما في ذلك وفي غيره من الأمور كلها منكم، فلذلك أمركم بالتسوية بينهما في الشهادة لهما وعليهما="فلا تتبعوا الهوى أن تَعْدِلوا"، يقول: فلا تتبعوا أهواءَ أنفسكم في الميل في شهادتكم إذا قمتم بها -لغني على فقير، أو لفقير على غني- إلا أحد الفريقين، فتقولوا غير الحق، ولكن قوموا فيه بالقسط، وأدُّوا الشهادة على ما أمركم الله بأدائها، بالعدل لمن شهدتم له وعليه.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يقوم بالشهادة على نفسه الشاهدُ بالقسط؟ وهل يشهد الشاهد على نفسه؟ (4)
قيل: نعم، وذلك أن يكون عليه حق لغيره فيقرّ له به، فذلك قيام منه له بالشهادة على نفسه.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الآية عندي تأديبٌ من الله جل ثناؤه عبادَه المؤمنين أن يفعلوا ما فعله الذين عذَروا بني أبيرق= في سرقتهم ما سرقوا، وخيانتهم ما خانوا
__________
(1) "القطع"، باب من الحال، انظر ما سلف في فهارس المصطلحات.
(2) في المطبوعة: "أو على والديكم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر تفسير"أولى" فيما سلف 6: 497.
(4) في المطبوعة: "وهل يشهد الشاهد"، وفي المخطوطة: "وبما يشهد".
وأرجح أن ما في المطبوعة هو الصواب، لقوله في جوابه"نعم"، وكدت أقرؤها: "وبم يشهد الشاهد"، لولا أن جواب أبي جعفر دل على غير ذلك.(9/302)
ممن ذكرنا قبل (1) = عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم لهم عنده بالصلاح. فقال لهم: إذا قمتم بالشهادة لإنسان أو عليه، فقولوا فيها بالعدل، (2) ولو كانت شهادتكم على أنفسكم وآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم، ولا يحملنكم غِنَى من شهدتم له أو فقره أو قرابته ورَحِمُه منكم، (3) على الشهادة له بالزور، ولا على ترك الشهادة عليه بالحق وكتمانها.
* * *
وقد قيل إنها نزلت تأديبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
10678- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله"، قال: نزلت في النبيّ صلى الله عليه وسلم، واختصم إليه رجلان: غنيٌّ وفقير، وكان ضِلَعه مع الفقير، يرى أن الفقير لا يظلم الغنيَّ، فأبى الله إلا أن يقوم بالقسط في الغني والفقير فقال:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"، الآية.
* * *
وقال آخرون: في ذلك نحو قولنا: إنها نزلت في الشهادة، أمرًا من الله المؤمنين أن يسوُّوا -في قيامهم بشهاداتهم- لمن قاموا بها، (4) بين الغني والفقير.
__________
(1) في المطبوعة: "وخيانتهم ما خانوا من ذكر ما قيل عند رسول الله ... "، وهو كلام فاسد، غير ما في المخطوطة، وهو كما أثبت، إلا أنه كتب"من ذكرنا قبل" ووضع فتحة على الميم من"من"، وهو خطأ في نسخ الناسخ ونقله، إنما هذه الفتحة ميم أخرى في"ممن" أساء قراءتها، فأساء نقلها. وقد مضى مثل هذا في مثل هذا الحرف، مرارًا فيما سلف ونبهت إليه.
(2) في المطبوعة: "فقوموا فيها بالعدل"، والذي في المخطوطة صواب محض.
(3) في المطبوعة"فلا يحملنكم"، والجيد ما أثبت من المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "لمن قاموا له بها" زاد"له"، وهي مفسدة للكلام، غمض عليه السياق. وإنما سياق الكلام: أمرًا من الله المؤمنين ... لمن قاموا بها" أي: لمن قام من المؤمنين بالشهادة، وذكرها معترضة في كلام آخر، وهو قوله: "في قيامهم بشهاداتهم".(9/303)
*ذكر من قال ذلك:
10679- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين"، قال: أمر الله المؤمنين أن يقولوا الحقَّ ولو على أنفسهم أو آبائهم أو أبنائهم، ولا يحابوا غنيًّا لغناه، ولا يرحموا مسكينًا لمسكنته، وذلك قوله:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"، فتذروا الحق، فتجوروا.
10680- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يونس، عن ابن شهاب في شهادة الوالد لولده وذي القرابة قال: كان ذلك فيما مضى من السُّنة في سلف المسلمين، وكانوا يتأولون في ذلك قول الله:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما" الآية، فلم يكن يُتَّهَمُ سلفُ المسلمين الصالحُ في شهادة الوالد لولده، ولا الولد لوالده، ولا الأخ لأخيه، ولا الرجل لامرأته، ثم دَخِلَ الناسُ بعد ذلك، (1) فظهرت منهم أمور حملت الولاةَ على اتهامهم، فتركت شهادةُ من يتهم، إذا كانت من أقربائهم. وصار ذلك من الولد والوالد، والأخ والزوج والمرأة، لم يتهم إلا هؤلاء في آخر الزمان. (2)
10681- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" إلى آخر الآية، قال: لا يحملك فقرُ هذا على أن ترحَمه فلا تقيم عليه الشهادة. قال: يقول هذا للشاهد.
__________
(1) "دخل" على وزن"فرح"، يقالك: "دخل أمره دخلا (بفتحتين) ": أي فسد، و"الدخل" (بفتحتين) : الغش والفساد. و"فلان مدخول الإسلام"، إذا كان فيه غش وفساد، وهو النفاق.
(2) فليت شعري ما كان يقول ابن شهاب لو أدرك زماننا الذي نحن فيه!! نسأل السلامة، ونستهديه في القيام بما أمرنا به في كتابه.(9/304)
10682- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" الآية، هذا في الشهادة. فأقم الشهادة، يا ابن آدم، ولو على نفسك، أو الوالدين، أو على ذوي قرابتك، أو شَرَفِ قومك. (1) فإنما الشهادة لله وليست للناس، وإن الله رضي العدل لنفسه، والإقساط والعدل ميزانُ الله في الأرض، به يردُّ الله من الشديد على الضعيف، ومن الكاذب على الصادق، ومن المبطل على المحق. وبالعدل يصدِّق الصادقَ، ويكذِّب الكاذبَ، ويردُّ المعتدي ويُرَنِّخُه، (2) تعالى ربنا وتبارك. وبالعدل يصلح الناس، يا ابن آدم="إن يكن غنيًّا أو فقيرًا فالله أولى بهما"، يقول: أولى بغنيكم وفقيركم. قال: وذكر لنا أن نبيَّ الله موسى عليه السلام قال:"يا ربِّ، أي شيء وضعت في الأرض أقلّ؟ "، قال:"العدلُ أقلُّ ما وضعت في الأرض". فلا يمنعك غِنى غنيّ ولا فقر فقير أن تشهد عليه بما تعلم، فإن ذلك عليك من الحق، وقال جل ثناؤه:"فالله أولى بهما".
* * *
وقد قيل:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا"، الآية، أريد: فالله أولى بغنى الغني وفقر الفقير. لأن ذلك منه لا من غيره، فلذلك قال:"بهما"، ولم يقل"به".
* * *
وقال آخرون: إنما قيل:"بهما"، لأنه قال:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا"، فلم يقصد فقيرًا بعينه ولا غنيًّا بعينه، وهو مجهول. وإذا كان مجهولا جاز الردُّ منه بالتوحيد والتثنية والجمع. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أو أشراف قومك"، كأنه ظن"شرفًا" خطأ، وهو محض صواب، يجمع"شريف" على"أشراف" و"شرفاء" و"شرف" (بفتح الشين والراء) . كما قالوا: "رجل كريم" و"قوم كرم". ولو قيل: وهو وصف بالمصدر مثل"عدل" لكان صوابًا.
(2) في المطبوعة: "ويوبخه" والتوبيخ لا معنى له هنا. وفي المخطوطة غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت. يقال: "رنخ الرجل": ذلَّله. ولو قرئت"يريخه" بالياء لكان صوابًا، يقال: "ضربوا فلانًا حتى ريخوه"، أي أوهنوه وأذلوه. هذا وقتادة السدوسي، كان يكثر في كلامه غريب اللغة.
(3) في المطبوعة: "الرد عليه بالتوحيد ... "، والذي أثبت من المخطوطة هو محض الصواب.(9/305)
وذكر قائلو هذا القول، أنه في قراءة أبيّ: (فالله أولى بهم) .
* * *
وقال آخرون:"أو" بمعنى"الواو" في هذا الموضع. (1)
* * *
وقال آخرون: جاز تثنية قوله:"بهما"، لأنهما قد ذكرا، كما قيل.
(وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) [سورة النساء: 12] .
* * *
وقيل: جاز، لأنه أضمر فيه"مَن"، كأنه قيل: إن يكن مَن خاصم غنيًّا أو فقيرًا= بمعنى: غنيين أو فقيرين="فالله أولى بهما".
* * *
وتأويل قوله:"فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا"، أي: عن الحق، فتجوزوا بترك إقامة الشهادة بالحق. ولو وُجِّه إلى أن معناه: فلا تتَّبعوا أهواء أنفسكم هربًا من أن تعدلوا عن الحق في إقامة الشهادة بالقسط، لكان وجهًا. (2)
* * *
وقد قيل: معنى ذلك: فلا تتبعوا الهوى لتعدلوا= كما يقال:"لا تتبع هواك لترضيَ ربك"، بمعنى: أنهاك عنه، كما ترضي ربّك بتركه. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: عنى:"وإن تلووا"، أيها الحكام، في الحكم لأحد الخصمين
__________
(1) انظر "أو" بمعنى"الواو" فيما سلف 1: 336، 337 / 2: 237.
(2) في المطبوعة: "كان وجها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 291.(9/306)
على الآخر="أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرًا".
ووجهوا معنى الآية إلى أنها نزلت في الحكام، على نحو القول الذي ذكرنا عن السدِّي من قوله: إن الآية نزلت في رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا قبل. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10683- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن قابوس بن أبي ظبيان، عن أبيه، عن ابن عباس في قول الله:"وإن تلووا أو تعرضوا"، قال: هما الرجلان يجلسان بين يدي القاضي، فيكون لَيُّ القاضي وإعراضُه لأحدهما على الآخر. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن تلووا، أيها الشهداء، في شهاداتكم فتحرِّفوها ولا تقيموها= أو تعرضوا عنها فتتركوها.
*ذكر من قال ذلك:
10684- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن تلووا أو تعرضوا"، يقول: إن تلووا بألسنتكم بالشهادة، أو تعرضوا عنها.
10685- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله" إلى قوله:"وإن تلووا أو تعرضوا"، يقول: تلوي
__________
(1) هو الأثر السالف رقم: 10678.
(2) الأثر: 10683 -"قابوس بن أبي ظبيان الجنبي"، روى عن أبيه"حصين بن جندب" وآخرين. قال ابن معين: "ثقة، ضعيف الحديث". وقال ابن حبان: "ينفرد عن أبيه بما لا أصل له، فربما رفع المرسل، وأسند الموقوف. وأبوه ثقة". وانظر ما سلف رقم: 9745.
وأبوه: "أبو ظبيان"، هو: "حصين بن جندب". روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود. ثقة، انظر ما سلف رقم: 9745.(9/307)
لسانك بغير الحق، وهي اللَّجلجة، فلا تقيم الشهادة على وجهها. و"الإعراض"، الترك.
10686- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن تلووا"، أي تبدّلوا الشهادة="أو تعرضوا"، قال: تكتموها.
10687- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن تلووا"، قال: بتبديل الشهادة، و"الإعراض" كتمانها.
10688- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن تلووا أو تعرضوا"، قال: إن تحرفوا أو تتركوا.
10689- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن تلووا أو تعرضوا"، قال: تلجلجوا، أو تكتموا. وهذا في الشهادة.
10690- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن تلووا أو تعرضوا"، أما"تلووا"، فتلوي للشهادة فتحرفها حتى لا تقيمها= وأما"تعرضوا" فتعرض عنها فتكتمها، وتقول: ليس عندي شهادة!
10691- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن تلووا"، فتكتموا الشهادة، يلوى ببعض منها (1) = أو يُعرض عنها فيكتمها، فيأبى أن يَشهد عليه، يقول: أكتم عنه لأنه مسكين أرحَمُه! فيقول: لا أقيم الشهادة عليه. ويقول: هذا غنيٌّ أبقّيه وأرجو ما قِبَله، فلا أشهد عليه! فذلك قوله:"إن يكن غنيًّا أو فقيرًا".
__________
(1) في المطبوعة: "تلوى تنقص منها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب جيد. من قولهم: "لوى عنه الخبر"، إذا طواه، أو أخبره به على غير وجهه.
وكان سياق الكلام في المطبوعة بالتاء على معنى الخطاب، "تلوى""تعرض" الخ، فأثبت ما هو في المخطوطة منقوطًا كذلك.(9/308)
10692- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن تلووا"، تحرّفوا="أو تعرضوا"، تتركوا. (1)
10693- حدثنا محمد بن عمارة قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"وإن تلووا"، قال: إن تلجلجوا في الشهادة فتفسدوها="أو تعرضوا"، قال: تتركوها. (2)
10694- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وإن تلووا أو تعرضوا"، قال: إن تلووا في الشهادة، أن لا تقيمها على وجهها (3) ="أو تعرضوا"، قال: تكتموا الشهادة.
10695- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثنا شيبان، عن قتادة: أنه كان يقول:"وإن تلووا أو تعرضوا"، يعني: تلجلجوا="أو تعرضوا"، قال: تدعها فلا تشهد.
10696- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن تلووا أو تعرضوا"، أما"تلووا"، فهو أن يلوي الرجل لسانَه بغير الحق. يعني: في الشهادة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك، تأويلُ من تأوله، أنه لَيُّ الشاهد شهادته لمن يشهد له وعليه، وذلك تحريفه إياها بلسانه، (4) وتركه إقامتها، ليبطل بذلك شهادته لمن شهد له، وعمن شهد عليه. (5)
__________
(1) في المخطوطة: "تحرفوا أو تحرفوا" مكررة، لا أظنه تحريفًا.
(2) في المطبوعة: "فتتركوها"، والجيد ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "أن لا تقيموها" بالجمع، والذي في المخطوطة حسن جيد.
(4) في المطبوعة: "لسانه" بغير باء، والصواب من المخطوطة.
(5) انظر تفسير"اللي" فيما سلف 6: 535-537 / 8: 435.(9/309)
وأما إعراضه عنها، فإنه تركه أداءَها والقيام بها، فلا يشهد بها. (1)
وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب، لأن الله جل ثناؤه قال:"كونوا قوامين بالقسط شهداء الله"، فأمرهم بالقيام بالعدل شهداء. وأظهر معاني"الشهداء"، ما ذكرنا من وصفهم بالشهادة.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وإن تلووا".
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار سوى الكوفة: (وَإِنْ تَلْوُوا) بواوين، من:"لواني الرجل حقي، والقوم يلوونني دَيْني"= وذلك إذا مطلوه="ليًّا".
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: (وإن تلوا) بواو واحدة.
* * *
ولقراءة من قرأ ذلك كذلك وجهان:
أحدهما: أن يكون قارئها أراد همز"الواو" لانضمامها، ثم أسقط الهمز، فصار إعراب الهمز في اللام إذْ أسقطه، وبقيت واو واحدة. كأنه أراد:"تَلْؤُوا" ثم حذف الهمز. وإذا عني هذا الوجه، كان معناه معنى من قرأ:"وإن تلووا"، بواوين، غير أنه خالف المعروف من كلام العرب. وذلك أن"الواو" الثانية من قوله:"تلووا" واو جمع، وهي علم لمعنى، فلا يصح همزها، ثم حذفها بعد همزها، فيبطل علَم المعنى الذي له أدخلت"الواو" المحذوفة. (2)
والوجه الآخر: أن يكون قارئها كذلك، أراد: أن"تلوا" من"الولاية"، فيكون معناه: وأن تلوا أمور الناس وتتركوا. وهذا معنى= إذا وجّه القارئ قراءته على ما وصفنا، إليه= خارج عن معاني أهل التأويل، وما وجّه إليه أصحاب رسول الله صلى
__________
(1) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف ص: 268، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) هذا موضع وهم غريب من مثل أبي جعفر، فإن الهمز في"تلؤوا" على واو الفعل، وهي عين الفعل"لوى"، والحذف بعد طرح الهمزة، واقع بواو الفعل لا بواو الجماعة، وهي أصل، لم تدخل لمعنى. فكيف أخطأ أبو جعفر فظنها واو الجماعة!! وانظر معاني القرآن للفراء 1: 291.(9/310)
الله عليه وسلم والتابعون، تأويلَ الآية.
* * *
قال أبو جعفر: فإذْ كان فساد ذلك واضحًا من كلا وجهيه، فالصواب من القراءة الذي لا يصلح غيره أن يقرأ به عندنا: (وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا) ، بمعنى:"اللي" الذي هو مطل.
* * *
فيكون تأويل الكلام: وإن تدفعوا القيام بالشهادة على وجهها لمن لزمكم القيامُ له بها، فتغيروها وتبدلوا، أو تعرضوا عنها فتتركوا القيام له بها، كما يلوي الرجل دينَ الرجل فيدافعه بأدائه إليه على ما أوجب عليه له مطلا منه له، (1) كما قال الأعشى:
يَلْوِينَني دَيْنِي النَّهارَ، وأَقْتَضِي ... دَيْنِي إذَا وَقَذَ النُّعَاسُ الرُّقَّدَا (2)
* * *
وأما تأويل قوله:"فإن الله كان بما تعملون خبيرًا"، فإنه أراد:"فإن الله كان بما تعملون"، من إقامتكم الشهادة وتحريفكم إياها، وإعراضكم عنها
__________
(1) انظر مراجع تفسير"اللي" فيما سلف ص: 309، تعليق: 5 وفي المطبوعة"على ما أوجب عليه"، والصواب من المخطوطة.
(2) ديوانه: 151، واللسان (لوى) و (وقذ) ، من أبيات، جياد أولها فيما قبله: وَأَرَى الغَوَانِي حِينَ شِبْتُ هَجَرْنَنِي ... أَنْ لا أَكُونَ لَهُنّ مِثْلِيَ أَمْرَدَا
إنَّ الغَوَانِي لا يُوَاصِلْنَ امْرَءًا ... فَقَدَ الشَّبَابَ، وَقَدْ يَصِلْنَ الأَمْرَدَا
بَلْ لَيْتَ شِعْرِي! هَلْ أَعُودَنْ نَاشِئًا ... مِثْلِي زُمَيْنَ أَحُلُّ بُرْقَةَ أَنْقَدَا
إذْ لِمَّتِي سَوْدَاءُ أَتْبَعُ ظِلَّهَا ... دَدَنًا قُعُودَ غَوَايَةٍ أَجْرِي دَدَا
يَلْوِينَنِي دَيْنِي............... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذا، ورواية الديوان: "وأجتزى ديني"، يقال: "اجتزى دينه" أي: تقاضاه، ومثله"تجازى دينه". و"وقذه": ضربه حتى استرخى وأشرف على الموت. و"وقذه النعاس" مجاز منه، أي صاروا كأنهم سكارى قد استرخوا وهمدوا من النعاس.(9/311)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
بكتمانكموها="خبيرًا"، يعني ذا خبرة وعلم به، يحفظ ذلك منكم عليكم، حتى يجازيكم به جزاءكم في الآخرة، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. يقول: فاتقوا ربكم في ذلك. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نزلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنزلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (136) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يا أيها الذين آمنوا"، بمن قبل محمد من الأنبياء والرسل، وصدَّقوا بما جاؤوهم به من عند الله="آمِنوا بالله ورسوله"، يقول: صدّقوا بالله وبمحمد رسوله، أنه لله رسولٌ، مرسل إليكم وإلى سائر الأمم قبلكم="والكتاب الذي نزل على رسوله"، يقول: وصدّقوا بما جاءكم به محمد من الكتاب الذي نزله الله عليه، وذلك القرآن="والكتاب الذي أنزل من قبل"، يقول: وآمنوا بالكتاب الذي أنزل الله من قبل الكتاب الذي نزله على محمد صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة والإنجيل.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه دعاء هؤلاء إلى الإيمان بالله ورسوله وكتبه، وقد سماهم"مؤمنين"؟
قيل: إنه جل ثناؤه لم يسمِّهم"مؤمنين"، وإنما وصفهم بأنهم"آمنوا"، وذلك وصف لهم بخصوصٍ من التصديق. وذلك أنهم كانوا صنفين: أهل توراة مصدّقين
__________
(1) انظر تفسير"الخبير" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/312)
بها وبمن جاء بها، وهم مكذبون بالإنجيل والقرآن وعيسى ومحمد صلوات الله عليهما= وصنف أهل إنجيل، وهم مصدّقون به وبالتوراة وسائر الكتب، مكذِّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان، فقال جل ثناؤه لهم:"يا أيها الذين آمنوا"، يعني: بما هم به مؤمنون من الكتب والرسل= "آمنوا بالله ورسوله" محمد صلى الله عليه وسلم= "والكتاب الذي نزل على رسوله"، فإنكم قد علمتم أن محمدًا رسول الله، تجدون صفته في كتبكم= وبالكتاب الذي أنزل من قبلُ الذي تزعمون أنكم به مؤمنون، فإنكم لن تكونوا به مؤمنين وأنتم بمحمد مكذبون، لأن كتابكم يأمركم بالتصديق به وبما جاءكم به، فآمنوا بكتابكم في اتّباعكم محمدًا، وإلا فأنتم به كافرون. فهذا وجه أمرهم بالإيمان بما أمرهم بالإيمان به، بعد أن وصفهم بما وصفهم بقوله:"يا أيها الذين آمنوا". (1)
* * *
وأما قوله:"ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، فإن معناه: ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوّته فقد ضلَّ ضلالا بعيدًا.
وإنما قال تعالى ذكره:"ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، ومعناه: ومن يكفر بمحمد وبما جاء به من عند الله (2) = لأن جحود شيء من
__________
(1) كان ينبغي أن يذكر أبو جعفر هنا، اختلاف المختلفين في قراءة"أَنْزَلَ" و"أُنْزِلَ"= و"نَزَّلّ" و"نُزِّلَ"، وظاهر أنه نسي أن يذكرها هنا، فأخرها إلى موضع الآتي في ص: 323، تعليق: 1.
(2) كان في المطبوعة: "ومن يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فيجحد نبوته، فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، لأن جحود شيء من ذلك ... "، أسقط من نص المخطوطة ما أثبت، لأنه قد وقع في المخطوطة خطأ اضطرب معه الكلام، فلم يحسن الناشر تصحيحه، فحذف حتى يصل بعض الكلام ببعض، فأساء غاية الإساءة.
والخطأ الذي كان في المخطوطة هو أنه ساق الجملة كما كتبتها، إلا أن كتب: "وإنما قال تعالى ذكره: ومن يكفر بالله فهو يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله" وبين أن"فهو يكفر" سبق قلم من الناسخ، والصواب إسقاطها فيستقيم الكلام كما أثبته.
وسياق الجملة: "وإنما قال تعالى ذكره كذا وكذا ... ومعناه ... كذا وكذا، لأن جحود شيء من ذلك بمعنى جحود جميعه".(9/313)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)
ذلك بمعنى جحود جميعه، ولأنه لا يصح إيمان أحدٍ من الخلق إلا بالإيمان بما أمره الله بالإيمان به، (1) والكفر بشيء منه كفر بجميعه، فلذلك قال:"ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر"، بعقب خطابه أهل الكتاب وأمره إياهم بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، تهديدًا منه لهم، وهم مقرّون بوحدانية الله والملائكة والكتب والرسل واليوم الآخر، سِوى محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من الفرقان.
* * *
وأما قوله:"فقد ضل ضلالا بعيدًا"، فإنه يعني: فقد ذهب عن قصد السبيل، وجار عن محجَّة الطريق، إلى المهالك= ذهابًا وجورًا بعيدًا. لأن كفر من كفر بذلك، خروجٌ منه عن دين الله الذي شرعه لعباده. والخروج عن دين الله، الهلاك الذي فيه البوار، والضلال عن الهدى هو الضلال. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلا (137) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: إن الذين آمنوا بموسى ثم كفروا به، ثم آمنوا= يعني: النصارى= بعيسى ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد="لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا".
__________
(1) لما أدخل الناشر الأول ذلك الحذف على الكلام، اضطر في هذا الموضع أن يجعل العبارة: "وذلك لأنه لا يصح إيمان أحد من الخلق ... " فزاد"ذلك" في الكلام.
(2) انظر تفسير"الضلال البعيد" فيما سلف ص: 206، 207 ومعنى"الضلال" 1: 195 / 2: 495، 496، وغيرهما في فهارس اللغة.(9/314)
*ذكر من قال ذلك:
10697- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"، وهم اليهود والنصارى. آمنت اليهود بالتوراة ثم كفرت، وآمنت النصارى بالإنجيل ثم كفرت. وكفرهم به: تركهم إياه= ثم ازدادوا كفرًا بالفرقان وبمحمد صلى الله عليه وسلم. فقال الله:"لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا"، يقول: لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريق هدًى، وقد كفروا بكتاب الله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
10698- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا"، قال: هؤلاء اليهود، آمنوا بالتوراة ثم كفروا. ثم ذكر النصارى، ثم قال:"ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"، يقول: آمنوا بالإنجيل ثم كفروا به، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك أهل النفاق، أنهم آمنوا ثم ارتدوا، ثم آمنوا ثم ارتدوا، ثم ازدادوا كفرًا بموتهم على الكفر. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10699- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"، قال: كنا نحسبهم المنافقين، ويدخل في ذلك من كان مثلهم="ثم ازدادوا كفرًا"، قال: تَمُّوا على كفرهم حتى ماتوا. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "على كفرهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "نموا على كفرهم" بالنون، والصواب ما أثبت. و "تم على الشيء": أقام عليه ولزمه.(9/315)
10700- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ثم ازدادوا كفرًا"، قال: ماتوا. (1)
10701- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، قال: حتى ماتوا. (2)
10702- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا" الآية، قال: هؤلاء المنافقون، آمنوا مرتين، وكفروا مرتين، ثم ازدادوا كفرًا بعد ذلك. (3)
* * *
وقال آخرون: بل هم أهل الكتابين، التوراة والإنجيل، أتوا ذنوبا في كفرهم فتابوا، فلم تقبل منهم التوبة فيها، مع إقامتهم على كفرهم.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
10703- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"، قال: هم اليهود والنصارى، أذنبوا في شركهم ثم تابوا، فلم تقبل توبتهم. ولو تابوا من الشرك لقُبِل منهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، قول من قال عنى بذلك أهل الكتاب الذين أقروا بحكم التوراة، ثم كذبوا بخلافهم إياه، ثم أقرّ من أقرَّ منهم بعيسى والإنجيل، ثم كذب به بخلافه إياه، ثم كذب بمحمد صلى الله عليه وسلم والفرقان فازداد بتكذيبه به كفرا على كفره.
وإنما قلنا: ذلك أولى بالصواب في تأويل هذه الآية، لأن الآية قبلها في قصص
__________
(1) يعني بقوله: "ماتوا"، أي: ماتوا عليه، وهذا من الاختصار في الحديث.
(2) في المخطوطة: "حين ماتوا"، أي: حين ماتوا عليه، وهي صواب أيضًا.
(3) انظر تفسير"ثم ازدادوا كفرًا" فيما سلف 6: 579-582.(9/316)
أهل الكتابين= أعني قوله:"يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله"= ولا دلالة تدلُّ على أن قوله:"إن الذين آمنوا ثم كفروا"، منقطع معناه من معنى ما قبله، فإلحاقه بما قبله أولى، حتى تأتي دلالة دالَّة على انقطاعه منه.
* * *
وأما قوله:"لم يكن الله ليغفر لهم"، فإنه يعني: لم يكن الله ليسترَ عليهم كفرهم وذنوبهم، بعفوه عن العقوبة لهم عليه، ولكنه يفضحهم على رؤوس الأشهاد="ولا ليهديهم سبيلا" يقول: ولم يكن ليسدِّدهم لإصابة طريق الحق فيوفقهم لها، ولكنه يخذلهم عنها، عقوبة لهم على عظيم جُرمهم، وجرأتهم على ربهم.
* * *
وقد ذهب قوم إلى أن المرتد يُستتاب ثلاثًا، انتزاعًا منهم بهذه الآية، (1) وخالفهم على ذلك آخرون.
ذكر من قال: يستتاب ثلاثًا.
10704- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن علي عليه السلام قال: إن كنتُ لمستتيبَ المرتدّ ثلاثًا. ثم قرأ هذه الآية:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا".
10705- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر، عن علي رضي الله عنه: يستتاب المرتد ثلاثًا. ثم قرأ:"إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرًا"،.
10706- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عبد الكريم، عن رجل، عن ابن عمر قال: يستتاب المرتد ثلاثًا.
* * *
وقال آخرون: يستتابُ كلما ارتدّ.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) يقال: "انتزع معنى آية من كتاب الله"، إذا استنبطه واستخرجه.(9/317)
بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138)
10707- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عمرو بن قيس، عمن سمع إبراهيم قال: يستتاب المرتدّ كلما ارتدّ.
* * *
قال أبو جعفر: وفي قيام الحجة بأن المرتد يستتاب المرَّة الأولى، الدليل الواضح على أن حكم كلِّ مرة ارتدّ فيها عن الإسلام حكمُ المرة الأولى، في أن توبته مقبولة، وأن إسلامه حَقَن له دمه. لأن العلة التي حقنت دمه في المرة الأولى إسلامُه، فغير جائز أن توجد العلة التي من أجلها كان دمه مَحْقُونًا في الحالة الأولى، ثم يكون دمه مباحًا مع وجودها، إلا أن يفرِّق بين حكم المرة الأولى وسائر المرات غيرها، ما يجب التسليم له من أصل محكمٍ، فيخرج من حكم القياس حينئذ.
* * *
القول في تأويل قوله: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله (1) جل ثناؤه:"بشر المنافقين"، أخبر المنافقين.
* * *
وقد بينَّا معنى"التبشير" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
="بأن لهم عذابًا أليمًا"، يعني: بأن لهم يوم القيامة من الله على نفاقهم="عذابًا أليمًا"، وهو المُوجع، وذلك عذاب جهنم (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك"، والصواب ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 1: 383 / 2: 393 / 3: 221 / 6: 287، 369، 370، 411.
(3) انظر تفسير"أليم" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/318)
الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139)
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) }
قال أبو جعفر: أما قوله جل ثناؤه:"الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، فمن صفة المنافقين. يقول الله لنبيه: يا محمد، بشر المنافقين الذين يتخذون أهل الكفر بي والإلحاد في ديني"أولياء"= يعني: أنصارًا وأخِلاء (1) ="من دون المؤمنين"، يعني: من غير المؤمنين (2) ="أيبتغون عندهم العزة"، يقول: أيطلبون عندهم المنعة والقوة، (3) باتخاذهم إياهم أولياء من دون أهل الإيمان بي؟ ="فإن العزة لله جميعًا"، يقول: فإن الذين اتخذوهم من الكافرين أولياء ابتغاءَ العزة عندهم، هم الأذلاء الأقِلاء، فهلا اتخذوا الأولياء من المؤمنين، فيلتمسوا العزَّة والمنعة والنصرة من عند الله الذي له العزة والمنعة، الذي يُعِزّ من يشاء ويذل من يشاء، فيعزُّهم ويمنعهم؟
* * *
وأصل"العزة"، الشدة. ومنه قيل للأرض الصلبة الشديدة،"عَزَاز". وقيل:"قد استُعِزَّ على المريض"، (4) إذا اشتدَّ مرضه وكاد يُشفى. ويقال:"تعزز اللحمُ"، إذا اشتد. ومنه قيل:"عزّ عليّ أن يكون كذا وكذا"، بمعنى: اشتد عليَّ. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الولي" فيما سلف ص: 247، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"من دون" فيما سلف ص: 247، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 202، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) "استعز" بالبناء للمجهول، وفي الحديث: "أنه استعز برسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي مات فيه"، أي: اشتد به المرض وغلبه وأشرف على الموت.
وقوله: "وكاد يشفى"، أي: يشرف على الهلاك، أشفى يشفى إشفاء.
(5) انظر تفسير"العزة" و"عزيز" فيما سلف 3: 88 / 4: 244 / 6: 168، 271، 476. هذا، ولم يفسر أبو جعفر معنى"العزة" تفسيرًا مطولا إلا في هذا الموضع، وهذا دليل آخر على طريقته في اختصار تفسيره هذا.(9/319)
وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
القول في تأويل قوله: {وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"بشر المنافقين"= الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين، ="وقد نزل عليكم في الكتاب"، يقول: أخبر من اتخذ من هؤلاء المنافقين الكفار أنصارًا وأولياءَ بعد ما نزل عليهم من القرآن،"أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره"، يعني: بعد ما علموا نَهْي الله عن مجالسة الكفار الذين يكفرون بحجج الله وآيِ كتابه ويستهزئون بها="حتى يخوضوا في حديث غيره"، يعني بقوله:"يخوضوا"، يتحدثوا حديثًا غيره="بأن لهم عذابًا أليمًا". (1)
وقوله:"إنكم إذًا مثلهم"، يعني: وقد نزل عليكم أنكم إن جالستم من يكفر بآيات الله ويستهزئ بها وأنتم تسمعون، فأنتم مثله= يعني: فأنتم إن لم تقوموا عنهم في تلك الحال، مثلُهم في فعلهم، لأنكم قد عصيتم الله بجلوسكم معهم وأنتم تسمعون آياتِ الله يكفر بها ويستهزأ بها، كما عصوه باستهزائهم بآيات الله. فقد أتيتم من معصية الله نحو الذي أتَوْه منها، فأنتم إذًا مثلهم في ركوبكم معصية الله، وإتيانكم ما نهاكم الله عنه.
* * *
__________
(1) أراد أبو جعفر بهذه الفقرة أن يبين أن قوله في الآية الأولى: "بأن لهم عذابًا أليمًا"، مقدم ومعناه التأخير، فلذلك قال في أول الكلام"بشر المنافقين" ثم استطرد في ذكر الآيتين بعدها، ثم ختمها بختام الأولى.(9/320)
وفي هذه الآية، الدلالة الواضحة على النهي عن مجالسة أهل الباطل من كل نوع، من المبتدعة والفسَقة، عند خوضهم في باطلهم.
* * *
وبنحو ذلك كان جماعة من الأئمة الماضين يقولون، (1) تأوُّلا منهم هذه الآية أنه مرادٌ بها النهي عن مشاهدة كل باطل عند خوض أهله فيه.
*ذكر من قال ذلك:
10708- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي، عن أبي وائل، قال: إن الرجل ليتكلم بالكلمة في المجلس من الكَذب ليُضحك بها جلساءَه، فيسخط الله عليهم. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم النخعي، فقال: صدق أبو وائل، أو ليس ذلك في كتاب الله:"أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلهم"؟
10709- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن العلاء بن المنهال، عن هشام بن عروة قال: أخذ عمر بن عبد العزيز قومًا على شرابٍ فضربهم، وفيهم صائم، فقالوا: إنّ هذا صائم! فتلا"فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذًا مثلُهم".
10710- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها"، وقوله: (وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) ، [سورة الأنعام: 153] ، وقوله: (أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [سورة الشورى: 13] ، ونحو هذا من القرآن. قال: أمر الله المؤمنين بالجماعة، ونهاهم عن الاختلاف
__________
(1) في المطبوعة: "كان جماعة من الأمة الماضية"، والصواب من المخطوطة.(9/321)
والفرقة، وأخبرهم: إنما هلك من كان قبلكم بالمِراء والخصومات في دين الله.
* * *
وقوله:"إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعًا"، يقول: إن الله جامع الفريقين من أهل الكفر والنفاق في القيامة في النار، فموفِّق بينهم في عقابه في جهنم وأليم عذابه، كما اتفقوا في الدنيا فاجتمعوا على عداوة المؤمنين، وتوَازرُوا على التخذيل عن دين الله= وعن الذي ارتضاهُ وأمر به= وأهلِه. (1)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وقد نزل عليكم في الكتاب".
فقرأ ذلك عامة القرأة بضم"النون" وتثقيل"الزاي" وتشديدها، على وجْه ما لم يُسَمَّ فاعله.
* * *
وقرأ بعض الكوفيين بفتح"النون" وتشديد"الزاي"، على معنى: وقد نزل الله عليكم.
* * *
وقرأ بعض المكيين: (وَقَدْ نزلَ عَلَيْكُمْ) بفتح"النون"، وتخفيف"الزاي"، بمعنى: وقد جاءكم من الله أن إذا سمعتم.
* * *
قال أبو جعفر: وليس في هذه القراءات الثلاث وجه يبعد معناه مما يحتمله الكلام. غير أن الذي أختارُ القراءة به، قراءة من قرأ: (وَقَدْ نُزِّلَ) بضم"النون" وتشديد"الزاي"، على وجه ما لم يسم فاعله. لأن معنى الكلام فيه التقديم على ما وصفت قبل، (2) على معنى:"الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"="وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها" إلى قوله:"حديث غيره"="أيبتغون عندهم العزة". فقوله:"فإن العزة لله جميعًا"، يعني التأخير،
__________
(1) قوله: "وأهله" مجرور معطوف على قوله"عن دين الله" والسياق: "عن دين الله ... وعن أهله".
(2) انظر ما سلف ص: 320 وتعليق: 1.(9/322)
فلذلك كان ضم"النون" من قوله:"نزل" أصوب عندنا في هذا الموضع.
* * *
وكذلك اختلفوا في قراءة قوله (1) "والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل".
فقرأه بفتح (نزلَ) و (أَنزلَ) أكثر القرأة، بمعنى: والكتاب الذي نزل الله على رسوله، والكتاب الذي أنزل من قبل.
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة البصرة بضمه في الحرفين كليهما، (2) بمعنى ما لم يسم فاعله.
* * *
وهما متقاربتا المعنى. غير أن الفتح في ذلك أعجبُ إليَّ من الضم، لأن ذكر الله قد جرى قبل ذلك في قوله:"آمنوا بالله ورسوله".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وكذا اختلفوا"، وأثبت ما في المخطوطة. وذكر هذه القراءة، كان ينبغي أن يكون في موضعه عند آخر تفسير الآية، كما جرى عليه منهجه في كل ما سلف. وانظر ص: 313 تعليق: 1.
(2) في المطبوعة: "كلاهما"، والصواب في المخطوطة.(9/323)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا (141) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الذين يتربصون بكم"، الذين ينتظرون، أيها المؤمنون، (1) بكم="فإن كان لكم فتح من الله"، يعني: فإن فتح الله
__________
(1) انظر تفسير"التربص" فيما سلف 4: 456، 515 / 5: 79.(9/323)
عليكم فتحًا من عدوكم، فأفاء عليكم فَيْئًا من المغانم="قالوا" لكم="ألم نكن معكمْ"، نجاهد عدوّكم ونغزوهم معكم، فأعطونا نصيبًا من الغنيمة، فإنا قد شهدنا القتال معكم="وإن كان للكافرين نصيب"، يعني: وإن كان لأعدائكم من الكافرين حظّ منكم، بإصابتهم منكم (1) ="قالوا"، (2) يعني: قال هؤلاء المنافقون للكافرين="ألم نستحوذ عليكم"، ألم نغلب عليكم حتى قهرتم المؤمنين="ونمنعكم" منهم، بتخذيلنا إياهم، حتى امتنعوا منكم فانصرفوا="فالله يحكم بينكم يوم القيامة"، يعني: فالله يحكم بين المؤمنين والمنافقين يوم القيامة، فيفصل بينكم بالقضاء الفاصل، (3) بإدخال أهل الإيمان جنّته، وأهل النفاق مع أوليائهم من الكفار ناره="ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، يعني: حجة يوم القيامة. (4)
وذلك وعدٌ من الله المؤمنين أنه لن يدخل المنافقين مدخلَهم من الجنة، ولا المؤمنين مدخَل المنافقين، فيكون بذلك للكافرين على المؤمنين حجة بأن يقولوا لهم، إن أدخلوا مدخلهم: ها أنتم كنتم في الدنيا أعداءَنا، وكان المنافقون أولياءنا، وقد اجتمعتم في النار، فجمع بينكم وبين أوليائنا! فأين الذين كنتم تزعمون أنكم تقاتلوننا من أجله في الدنيا؟ فذلك هو"السبيل" الذي وعد الله المؤمنين أن لا يجعلها عليهم للكافرين.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10711- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"فإن كان لكم فتح من الله". قال: المنافقون يتربَّصون بالمسلمين="فإن كان لكم فتح"، قال: إن أصاب المسلمون من عدوهم غنيمة
__________
(1) انظر تفسير"نصيب" فيما سلف ص 212، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة وحدها: "وقالوا ألم نكن معكم"، وهو سهو من الناشر الأول.
(3) انظر تفسير"الحكم" فيما سلف ص: 175.
(4) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/324)
قال المنافقون:"ألم نكن معكم"، قد كنا معكم فأعطونا غنيمة مثل ما تأخذون="وإن كان للكافرين نصيب"، يصيبونه من المسلمين، قال المنافقون للكافرين:"ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين"، قد كنا نثبِّطهم عنكم.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ألم نستحوذ عليكم".
فقال بعضهم: معناه: ألم نغلب عليكم.
*ذكر من قال ذلك:
10712- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"ألم نستحوذ عليكم"، قال: نغلب عليكم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ألم نبيِّن لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه.
*ذكر من قال ذلك:
10713- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ألم نستحوذ عليكم"، ألم نبين لكم أنّا معكم على ما أنتم عليه.
* * *
قال أبو جعفر: وهذان القولان متقاربا المعنى. وذلك أن من تأوله بمعنى:"ألم نبين لكم"، إنما أراد -أن شاء الله-: ألم نغلب عليكم بما كان منا من البيان لكم أنا معكم.
* * *
وأصل"الاستحواذ" في كلام العرب، فيما بلغنا، الغلبة، ومنه قول الله جل ثناؤه: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) ، [سورة المجادلة: 19] ، بمعنى: غلب عليهم. يقال منه:"حاذ عليه واستحاذ، يحيذ ويستحيذ، وأحاذ (1)
__________
(1) قوله: "أحاذ يحيذ"، لم أجده في معاجم اللغة، وهو صحيح في العربية، وقالوا مكانه: "أحوذ ثوبه" إذا ضمه، وجاءوا ببيت لبيد الآتي شاهدا عليه. وانظر ما سيأتي بعد بيت لبيد.(9/325)
يحيذ". ومن لغة من قال:"حاذ"، قول العجاج في صفة ثور وكلب:
يَحُوذُهُنَّ وَلَهُ حُوذِيّ (1)
وقد أنشد بعضهم:
يَحُوزُهُنَّ وَلَهُ حُوزِيُّ (2)
وهما متقاربا المعنى. ومن لغة من قال"أحاذ"، قول لبيد في صفة عَيْرٍ وأتُنٍ: (3)
إذَا اجْتَمَعَتْ وَأَحْوَذَ جَانِبَيْهَا ... وَأَوْرَدَها عَلَى عُوجٍ طِوَالِ (4)
يعني بقوله:"وأحوذ جانبيها"، غلبها وقهرَها حتى حاذ كلا جانبيها، فلم يشذّ منها شيء.
وكان القياس في قوله: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ) أن يأتي:"استحاذ عليهم"، لأن"الواو" إذا كانت عين الفعل وكانت متحركة بالفتح وما قبلها ساكن، جعلت العرب حركتها في"فاء" الفعل قبلها، وحوَّلوها"ألفًا"، متبعة حركة ما قبلها، كقولهم:"استحال هذا الشيء عما كان عليه"، من"حال يحول"= و"استنار
__________
(1) ديوانه: 71، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 141، واللسان (حوذ) (حوز) ، ورواية الديوان: يَحُوذُها وَهْوَ لَهَا حُوذِيُّ ... خَوْفَ الخِلاطِ فَهْوَ أَجْنَبِيُّ
كَمَا يَحُوذُ الفِئَةَ الكَمِيُّ
وفسروا"يحوذها": يسوقها سوقًا شديدًا، ومثله"يحوزها" في الرواية الآتية.
(2) انظر اللسان (حوذ) و (حوز) .
(3) "العير" حمار الوحش، و"الأتن" جمع"أتان"، وهي أنثاه.
(4) ديوانه: القصيدة: 17، البيت: 39، واللسان (حوذ) ، وقوله: "إذا اجتمعت" يعني إناث حمار الوحش حين دعاها إلى الماء، فضمها من جانبيها، يأتيها من هذا الجانب مرة، ومن هذا مرة حتى غلبها ولم شتاتها، و"العوج الطوال" قوائمه، وبعد البيت: رَفَعْنَ سُرَادِقًا في يَوْمِ رِيحٍ ... يُصَفَّقُ بين مَيْلٍ واعْتِدالِ
يعني غبارها، ارتفع كأنه سرادق تصفقه الريح وتميله مرة هكذا ومرة هكذا، فهو يميل ويعتدل.(9/326)
فلان بنور الله"، من"النور"= و"استعاذ بالله" من"عاذ يعوذ". وربما تركوا ذلك على أصله كما قال لبيد:"وأحوذ"، ولم يقل"وأحاذ"، وبهذه اللغة جاء القرآن في قوله: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ) .
* * *
وأما قوله:"فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، فلا خلاف بينهم في أن معناه: ولن يجعل الله للكافرين يومئذ على المؤمنين سبيلا.
ذكر الخبر عمن قال ذلك:
10714- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن ذَرّ، عن يُسَيْع الحضرمي قال: كنت عند علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال رجل: يا أمير المؤمنين، أرأيت قول الله:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، وهم يقاتلوننا فيظهرون ويقتلون؟ قال له عليّ: ادْنُه، ادْنُهْ! ثم قال:"فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، يوم القيامة.
10715- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن ذَرّ، عن يسيع الكندي في قوله:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، قال: جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال: كيف هذه الآية:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"؟ فقال علي: ادْنُهْ،"فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله"، يوم القيامة،"للكافرين على المؤمنين سبيلا".
10716- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن ذر، عن يُسيع الحضرمي، عن علي بنحوه.
10717- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا غندر، عن شعبة قال: سمعت(9/327)
سليمان يحدّث، عن ذر، عن رجل، عن عليّ رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، قال: في الآخرة. (1)
10718- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، يوم القيامة.
* * *
10719- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، قال: ذاك يوم القيامة.
وأما"السبيل"، في هذا الموضع، فالحجة، (2) كما:-
10720- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا"، قال: حجةً.
* * *
__________
(1) الآثار: 10714 - 10717-"ذر" (بفتح الذال) هو: "ذر بن عبد الله المرهبي" ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 2918.
و"يسيع بن معدان الحضرمي، والكندي"، تابعي ثقة. مضى برقم: 2918. وكان في المطبوعة هنا: "نسيع" بالنون، وهو خطأ صرف.
(2) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف قريبًا ص: 324، تعليق: 4، والمراجع هناك.(9/328)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلا قَلِيلا (142) }
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على معنى"خداع المنافق ربه"، ووجه"خداع الله إياهم"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، مع اختلاف المختلفين في ذلك. (1)
* * *
فتأويل ذلك: إنّ المنافقين يخادعون الله، بإحرازهم بنفاقهم دماءهم وأموالهم، والله خادعهم بما حكَم فيهم من منع دِمائهم بما أظهروا بألسنتهم من الإيمان، مع علمه بباطن ضمائرهم واعتقادهم الكفرَ، استدراجًا منه لهم في الدنيا، حتى يلقوه في الآخرة، فيوردهم بما استبطنوا من الكفر نارَ جهنم، كما:-
10721- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: يعطيهم يوم القيامة نورًا يمشون به مع المسلمين كما كانوا معهم في الدنيا، ثم يسلبهم ذلك النور فيطفئه، فيقومون في ظلمتهم، ويُضرب بينهم بالسُّور.
10722- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: نزلت في عبد الله بن أبيّ، وأبي عامر بن النعمان، (2) وفي المنافقين="يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: مثل قوله في"البقرة": (يُخَادِعُونَ اللَّهَ
__________
(1) انظر ما سلف 1: 272 - 277، ثم: 301 -306، تضمينًا.
(2) "أبو عامر بن النعمان"، هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة، وأظنه قد أسقط الناسخ من اسمه ما أنا مثبته، فإن المذكور مع عبد الله بن أبي بن سلول في المنافقين هو: "أبو عامر عبد عمرو بن صيفي بن النعمان، أحد بني ضبيعة بن زيد، وهو الذي يقال له"أبو عامر الراهب"، وهو أبو"حنظلة الغسيل" يوم أحد. وكان أبو عامر قد ترهب في الجاهلية ولبس المسوح، وكان في قومه من الأوس شريفًا مطاعًا. فلما جاء الله بالإسلام، أبى إلا الكفر والفراق لقومه الأوس، فخرج مفارقًا للإسلام ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله: "لا تقولوا: الراهب، ولكن قولوا: الفاسق". انظر سيرة ابن هشام 2: 234، 235.
هذا، ولم أجد أحدًا غيره في المنافقين أو غيرهم يقال له: "أبو عامر بن النعمان"، فثبت عندي أن ما قلته هو الصواب.(9/329)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ) [سورة البقرة: 9] . (1) قال: وأما قوله:"وهو خادعهم"، فيقول: في النور الذي يعطَى المنافقون مع المؤمنين، فيعطون النور، فإذا بلغوا السور سُلب، وما ذكر الله من قوله (2) (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) [سورة الحديد: 13] . قال قوله:"وهو خادعهم".
10723- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحسن: أنه كان إذا قرأ:"إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم"، قال: يُلقَى على كل مؤمن ومنافق نورٌ يمشونَ به، حتى إذا انتهوا إلى الصراط طَفِئ نورُ المنافقين، ومضى المؤمنون بنورهم، فينادونهم: (انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ) إلى قوله: (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ) [سورة الحديد: 13، 14] . قال الحسن: (3) فذلك خديعة الله إياهم. (4)
* * *
وأما قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس"، فإنه يعني: أن المنافقين لا يعملون شيئًا من الأعمال التي فرضها الله على المؤمنين على وجه التقرُّب بها إلى الله، لأنهم غير موقنين بمعادٍ ولا ثواب ولا عقاب، وإنما يعملون ما عملوا
__________
(1) في المطبوعة: "وما يخادعون إلا أنفسهم"، وهي إحدى قراءتين، وأثبت قراءتنا في مصحفنا، وهي أيضًا القراءة التي أوجب لها الصحة أبو جعفر فيما سلف 1: 277.
(2) في المخطوطة: "وما ذكر منه انظرونا نقتبس من نوركم"، وهو ناقص، والذي في المطبوعة مقارب للصواب.
(3) في المطبوعة: "فتلك خديعة الله"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(4) الأثر: 10723 -"سفيان بن حسين بن الحسن الواسطي"، مضى برقم: 3471، 3879، 6462.(9/330)
من الأعمال الظاهرة إبقاءً على أنفسهم، (1) وحذارًا من المؤمنين عليها أن يُقتلوا أو يُسلبوا أموالهم. فهم إذا قاموا إلى الصلاة التي هي من الفرائض الظاهرة، قاموا كسالى إليها، رياءً للمؤمنين ليحسبوهم منهم وليسوا منهم، لأنهم غير معتقدي فرضها ووجوبها عليهم، فهم في قيامهم إليها كسالى، (2) كما:-
10724- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى"، قال: والله لولا الناسُ ما صَلَّى المنافق، ولا يصلِّي إلا رياء وسُمْعة.
10725- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس"، قال: هم المنافقون، لولا الرياء ما صلُّوا.
* * *
وأما قوله:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، فلعل قائلا أن يقول: وهل من ذكر الله شيء قليل؟.
قيل له: إن معنى ذلك= بخلاف ما ذهبت=: ولا يذكرون الله إلا ذكر رياء، (3) ليدفعوا به عن أنفسهم القتل والسباء وسلبَ الأموال، لا ذكر موقن مصدّق بتوحيد الله، مخلص له الربوبية. فلذلك سماه الله"قليلا"، لأنه غير مقصود به الله، ولا مبتغًي به التقرّب إلى الله، ولا مرادٌ به ثواب الله وما عنده. فهو، وإن كثر، من وجه نَصَب عامله وذاكره، (4) في معنى السراب الذي له ظاهرٌ بغير حقيقة ماء.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بقاء على أنفسهم"، والصواب ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"الرياء" فيما سلف 5: 521، 522 / 8: 356.
(3) في المطبوعة: "إن معنى ذلك بخلاف ما إليه ذهبت، وإنما معناه: ولا يذكرون الله إلا ذكرًا رياء"، وأثبت ما في المخطوطة، فإنه صواب، وقوله: "بخلاف ما ذهبت" اعتراض في الكلام، وضعته بين خطين.
(4) "النصب" (بفتحتين) : التعب.(9/331)
مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10726- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي الأشهب قال: قرأ الحسن:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، قال: إنما قلَّ لأنه كان لغير الله.
10727- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا يذكرون الله إلا قليلا"، قال: إنما قلّ ذكر المنافق، لأن الله لم يقبله. وكل ما رَدَّ الله قليل، وكل ما قبلَ الله كثير.
* * *
القول في تأويل قوله: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (143) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"مذبذبين"، مردّدين.
* * *
وأصل"التذبذب"، التحرك والاضطراب، كما قال النابغة:
أَلم تَرَ أَنَّ الله أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ (1)
* * *
وإنما عنى الله بذلك: أن المنافقين متحيِّرون في دينهم، لا يرجعون إلى اعتقاد شيء على صحة، فهم لا مع المؤمنين على بصيرة، ولا مع المشركين على جهالة، ولكنهم حيارَى بين ذلك، فمثلهم المثلُ الذي ضرب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:-
__________
(1) مضى البيت وتخريجه وشرحه، في 1: 105.(9/332)
10728- حدثنا به محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: مَثَلُ المنافق كمثل الشَّاة العائرة بين الغنمين، تَعِير إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة، لا تدري أيَّهُما تَتْبع!
10729- وحدثنا به محمد بن المثنى مرة أخرى، عن عبد الوهاب، فَوقفه على ابن عمر، ولم يرفعه قال، حدثنا عبد الوهاب مرتين كذلك. (1)
10730- حدثني عمران بن بكار قال، حدثنا أبو روح قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. (2)
* * *
__________
(1) الأثران: 10728، 10729 - إسناده صحيح.
"عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي" ثقة. مضى مرارًا كثيرة.
"عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم" ثقة، مضى مرارًا.
وهذا الأثر رواه مسلم 17: 128، من طريق محمد بن المثنى، عن عبد الوهاب الثقفي، بلفظه، إلا أنه لم يذكر فيه: "لا تدري أيهما تتبع".
ورواه أيضًا من طريق محمد بن عبد الله بن نمير، عن أبيه، عن عبيد الله.
ومن طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن أبي أسامة، عن عبد الله.
ورواه أحمد في المسند: 5079، من طريق إسحاق بن يوسف، عن عبيد الله، مع اختلاف يسير في لفظه.
ورواه أيضًا في المسند: 5790، من طريق محمد بن عبيد، عن عبيد الله، بمثل لفظ أبي جعفر.
ورواه بمعناه في المسند، الآثار رقم: 472، 5359، 5546، 5610.
واستوفى تخريجه أخي السيد أحمد في شرح المسند، وزاد في تخريجه الحافظ ابن كثير في تفسيره 2: 611، فراجعه هناك.
وكان في المطبوعة: "لا تدري أيتهما تتبع"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لرواية أحمد في المسند.
"الشاة العائرة": هي المترددة بين قطيعين لا تدري أيهما تتبع. من قولهم: "عار الفرس والكلب وغيرهما يعير عيارًا"، ذهب كأنه منفلت من صاحبه، فهو يتردد هنا وهنا.
وقوله: "تعير إلى هذه مرة"، أي: تذهب في ترددها إلى هذه مرة، وإلى هذه مرة.
(2) الأثر: 10730 - مكرر الأثرين السالفين."عمران بن بكار الكلاعي" شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 2071، وروى عنه الطبري في مواضع كثيرة سالفة.
و"أبو روح" هو: "الربيع بن روح الحمصي"، أبو روح الحضرمي ثقة. مضى برقم: 8164.
و"ابن عياش": هو: "إسماعيل بن عياش الحمصي"، مضى برقم 5445، 8164. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن عباس"، وهو خطأ.
وطريق ابن عياش، عن عبيد الله، مرفوعًا، أشار إليها الحافظ ابن كثير في تفسيره 2: 611.(9/333)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10731- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"، يقول: ليسوا بمشركين فيظهروا الشرك، وليسوا بمؤمنين.
10732- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"، يقول: ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مصرِّحين بالشرك. قال: وذُكر لنا أن نبيّ الله عليه السلام كان يضرب مَثَلا للمؤمن والمنافق والكافر، كمثل رَهْط ثلاثة دَفعوا إلى نهر، فوقع المؤمن فقَطع، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر: أن هلم إليَّ، فإنيّ أخشى عليك! وناداه المؤمن: أن هلم إليّ، فإن عندي وعندي! يحصي له ما عنده. فما زال المنافق يتردَّد بينهما حتى أتى عليه آذيٌّ فغرَّقه. (1) وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة، حتى أتى عليه الموت وهو كذلك. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: مثل المنافق كمثل ثاغِيَة بين غنمين، (2) رأت غَنمًا على نَشَزٍ
__________
(1) في المطبوعة: "حتى أتى عليه الماء فغرقه"، وفي المخطوطة: "حتى أتى عليه أذى يغرقه"، وصواب ذلك كله ما أثبت.
"الآذى": الموج الشديد. وقال ابن شميل: "آذى الماء"، الأطباق التي تراها ترفعها من متنه الريح، دون الموج.
(2) "الثاغية": الشاة."ثغت الشاة تثغو ثغاء": صاحت.(9/334)
فأتتها فلم تعرف، (1) ثم رأت غنمًا على نَشَزٍ فأتتها وشامَّتها فلم تعرف. (2)
10733- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"مذبذبين"، قال: المنافقون.
10734- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"، يقول: لا إلى أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إلى هؤلاء اليهود.
10735- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قوله:"مذبذبين بين ذلك"، قال: لم يخلصوا الإيمان فيكونوا مع المؤمنين، وليسوا مع أهل الشرك.
10736- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"مذبذبين بين ذلك"، بين الإسلام والكفر="لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء".
* * *
وأما قوله:"ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا"، فإنه يعني: من يخذُله الله عن طريق الرشاد، وذلك هو الإسلام الذي دعا الله إليه عباده. يقول: من يخذله الله عنه فلم يوفقه له="فلن تجد له"، يا محمد="سبيلا"، يعني: طريقًا يسلُكه إلى الحق غيره. وأيّ سبيل يكون له إلى الحق غير الإسلام؟ وقد أخبر الله جل ثناؤه: أنه من يبتغ غيره دينًا فلن يُقبل منه، ومن أضله الله عنه فقد غَوَى فلا هادي له غيره. (3)
* * *
__________
(1) "النشز": المتن المرتفع من الأرض أو الوادي، كأنه رابية.
(2) "شامتها": دنت إليها وشمتها لتعرف أهي أخواتها أم غيرها. ومنه قيل"شاممت فلانًا" إذا قاربته، ابتغاء أن تعرف ما عنده بالاختبار والكشف. وهو"مفاعلة" من"الشم".
(3) انظر تفسير: "الضلال"، و"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/335)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) }
قال أبو جعفر: وهذا نهي من الله عبادَه المؤمنين أن يتخلَّقوا بأخلاق المنافقين، الذين يتخذون الكافرين أولياءَ من دون المؤمنين، فيكونوا مثلهم في ركوب ما نهاهم عنه من موالاة أعدائه.
يقول لهم جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا توالوا الكفَّار فتؤازروهم من دون أهل ملَّتكم ودينكم من المؤمنين، فتكونوا كمن أوجبت له النار من المنافقين. ثم قال جل ثناؤه: متوعدًا من اتخذ منهم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، إن هو لم يرتدع عن موالاته، وينزجر عن مُخَالَّته (1) = أن يلحقه بأهل ولايتهم من المنافقين الذين أمر نبيه صلى الله عليه وسلم بتبشيرهم بأن لهم عذابًا أليمًا=:"أتريدون"، أيها المتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ممن قد آمن بي وبرسولي="أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا"، يقول: حجة، (2) باتخاذكم الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فتستوجبوا منه ما استوجبه أهلُ النفاق الذين وصف لكم صفتهم، وأخبركم بمحلّهم عنده="مبينًا"، (3) يعني: يبين عن صحتها وحقيقتها. (4) يقول: لا تعرَّضوا لغضب الله، بإيجابكم الحجة على أنفسكم في تقدمكم على ما نهاكم ربكم من موالاة أعدائه وأهلِ الكفر به.
* * *
__________
(1) السياق: "ثم قال جل ثناؤه متوعدًا ... أن يلحقه ... "
(2) انظر تفسير"سلطان" فيما سلف 7: 279.
(3) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ص224، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) في المطبوعة: "عن صحتها وحقيتها"، والصواب من المخطوطة. وكأن الناشر كان يستنكر أن تكون"الحقيقة" بمعنى أنها حق!! ولكنها صواب بلا شك، ومن أجل هذا كان الناشر يضع مكان"حقيقتها""حقيتها" في كثير من المواضع، أشرت إليها فيما سلف من التعليقات. وانظر ما سيأتي ص: 360، تعليق: 4.(9/336)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145)
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10737- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا"، قال: إن لله السلطان على خلقه، ولكنه يقول: عذرًا مبينًا.
10738- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن رجل، عن عكرمة قال: ما كان في القرآن من"سلطان"، فهو حجّة.
10739- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"سلطانًا مبينًا"، قال: حُجَّة.
10740- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"، إن المنافقين في الطَّبَق الأسفل من أطباق جهنم.
* * *
__________
(1) هذه الآثار في بيان معنى"السلطان"، هنا، دالة على أن أبا جعفر كان يختصر تفسيره، فإن تفسير"سلطان" بمعنى"حجة" قد سلف 7: 279، فلم يأت كعادته بالأخبار الدالة على تفسيره كذلك هناك.(9/337)
وكل طبَق من أطباق جهنم:"درك". وفيه لغتان،"دَرَك"، بفتح"الراء" و"دَرْك" بتسكينها. فمن فتح"الراء"، جمعه في القلة"أدْرَاك"، وإن شاء جمعه في الكثرة"الدروك". ومن سكن"الراء" قال:"ثلاثة أدرُك"، وللكثير"الدروك".
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأته عامة قرأة المدينة والبصرة (فِي الدَّرَكِ) بفتح"الراء".
* * *
وقرأته عامة قرأة الكوفة بتسكين"الراء".
قال أبو جعفر: وهما قراءتان معروفتان، فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب، لاتفاق معنى ذلك، واستفاضة القراءة بكل واحدة منهما في قرأة الإسلام. غير أني رأيت أهل العلم بالعربيّة يذكرون أن فتح"الراء" منه في العرب، أشهر من تسكينها. وحكوا سماعًا منهم:"أعطني دَرَكًا أصل به حبلي"، (1) وذلك إذا سأل ما يصل به حَبْله الذي قد عجز عن بلوغ الركيَّة. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10741- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن خيثمة، عن عبد الله:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"، قال: في توابيت من حديد مُبْهَمة عليهم. (3)
10742- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير، عن شعبة،
__________
(1) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 142. وعجيب من أبي جعفر أن يستدل بهذا، ويجعله أشهر في كلام العرب. فإن"الدرك" هنا بمعنى: الحبل، لأنه يدرك به قعر البئر، وهو عن معنى"الدرك"، وهو الطبق، بمعزل!!
(2) "الركية": البئر.
(3) "مبهمة": مصمتة مغلقة، لا يهتدي لمكان فتحها، أو إلى مخرج منها.(9/338)
عن سلمة، عن خيثمة، عن عبد الله قال: إن المنافقين في توابيتَ من حديد مقفلةٍ عليهم في النار.
10743- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عاصم، عن ذكوان، عن أبي هريرة:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"، قال: في توابيت تُرْتَجُ عليهم. (1)
10744- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"، يعني: في أسفل النار.
10745- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لي عبد الله بن كثير قوله:"في الدرك الأسفل من النار"، قال: سمعنا أن جهنم أدْراك، منازل. (2)
10746- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن خيثمة، عن عبد الله:"إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار"، قال، توابيت من نار تُطْبَقُ عليهم.
* * *
وأما قوله:"ولن تجد لهم نصيرًا"، فإنه يعني: ولن تجد لهؤلاء المنافقين، يا محمد، من الله= إذا جعلهم في الدرك الأسفل من النار= ناصرًا ينصرهم منه، فينقذهم من عذابه، ويدفع عنهم أليمَ عقابه. (3)
* * *
__________
(1) "أرتج الباب يرتجه": أغلقه إغلاقًا وثيقًا.
(2) قوله: "منازل" تفسير"أدراك" جمع"درك".
(3) انظر تفسير"نصير" فيما سلف ص: 247، تعليق: 6، والمراجع هناك.(9/339)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146)
القول في تأويل قوله: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) }
قال أبو جعفر: وهذا استثناء من الله جل ثناؤه، استثنى التائبين من نفاقهم إذا أصلحوا، وأخلصوا الدين لله وحده، وتبرءوا من الآلهة والأنداد، وصدَّقوا رسوله، أن يكونوا مع المصرِّين على نِفاقهم حتى تُوافيهم مناياهم - في الآخرة، (1) وأن يدخلوا مدَاخلهم من جهنم. بل وعدهم جل ثناؤه أن يُحلَّهم مع المؤمنين محلَّ الكرامة، ويسكنهم معهم مساكنهم في الجنة. (2) ووعدهم من الجزاء على توبتهم الجزيلَ من العطاء فقال:"وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا".
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية:"إلا الذين تابوا"، أي: راجعوا الحق، (3) وآبوا إلا الإقرار بوحدانية الله وتصديق رسوله وما جاء به من عند ربه من نفاقهم (4) ="وأصلحوا"، يعني: وأصلحوا أعمالهم، فعملوا بما أمرهم الله به، وأدَّوا فرائضه، وانتهوا عما نهاهم عنه، وانزجروا عن معاصيه (5) ="واعتصموا بالله"، يقول: وتمسَّكوا بعهد الله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "حتى يوفيهم مناياهم"، وهو كلام بلا معنى."وافته منيته": أتته وأدركته وبلغته، وسياق هذه الجملة: "أن يكونوا مع المصرين ... في الآخرة".
(2) في المطبوعة: "يسكنهم" بغير واو، وهو سهو من ناسخ أو طابع.
(3) انظر تفسير"التوبة" فيما سلف 1: 547 / 2: 72، 73، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.
(4) في المطبوعة: "وأبو إلا الإقرار"، وهو لا شيء، وإنما الصواب ما أثبت من المخطوطة."آبوا": رجعوا.
(5) انظر تفسير"الإصلاح" فيما سلف 8: 88، وما سلف من فهارس اللغة.(9/340)
وقد دللنا فيما مضى قبل على أن"الاعتصام" التمسك والتعلق. (1) فالاعتصام بالله: التمسك بعهده وميثاقه الذي عهد في كتابه إلى خلقه، من طاعته وترك معصيته.
* * *
="وأخلصوا دينهم لله"، يقول: وأخلصوا طاعتَهم وأعمالهم التي يعملونها لله، فأرادوه بها، ولم يعملوها رئاءَ الناس، ولا على شك منهم في دينهم، وامتراءٍ منهم في أن الله محصٍ عليهم ما عملوا، فمجازي المحسن بإحسانه، (2) والمسيء بإساءته= ولكنهم عملوها على يقين منهم في ثواب المحسن على إحسانه، وجزاء المسيء على إساءته، أو يتفضَّل عليه ربه فيعفو= متقرِّبين بها إلى الله، مريدين بها وجه الله. فذلك معنى:"إخلاصهم لله دينهم".
= ثم قال جل ثناؤه:"فأولئك مع المؤمنين"، يقول: فهؤلاء الذين وصف صفتَهم من المنافقين بعد توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم دينهم= أي: مع المؤمنين في الجنة، (3) لا مع المنافقين الذين ماتوا على نفاقهم، الذين أوعدهم الدَرَك الأسفل من النار.
= ثم قال:"وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا"، يقول: وسوف يُعطي الله هؤلاء الذين هذه صفتهم، (4) على توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم دينهم له، وعلى إيمانهم، (5) ثوابًا عظيمًا (6) = وذلك: درجات في الجنة، كما أعطى الذين ماتوا على النِّفاق منازل في النار، وهي السفلى منها. لأن الله جل ثناؤه وعد عباده المؤمنين أن يؤتيهم على إيمانهم ذلك، كما أوعد المنافقين على نفاقهم
__________
(1) انظر تفسير"الاعتصام" فيما سلف 8: 62، 63، 70.
(2) في المطبوعة: "فيجازي" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "وإخلاصهم له مع المؤمنين.."، وأثبت الصواب من المخطوطة، ولا معنى لتبديله.
(4) انظر تفسير"آتى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "على إيمانهم" بغير واو، والصواب إثباتها.
(6) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 202، تعليق: 2، والمراجع هناك.(9/341)
مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
ما ذكر في كتابه.
* * *
وهذا القول هو معنى قول حذيفة بن اليمان، الذي:-
10747- حدثنا به ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم قال، قال حذيفة: ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين! فقال عبد الله: وما علمك بذلك؟ فغضب حذيفة، ثم قام فتنحَّى. فلما تفرّقوا، مرَّ به علقمة فدعاه فقال: أمَا إنّ صاحبك يعلم الذي قلت! ثم قرأ:"إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤتي الله المؤمنين أجرًا عظيمًا".
* * *
القول في تأويل قوله: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم"، ما يصنع الله، أيها المنافقون، بعذابكم، إن أنتم تُبتم إلى الله ورجعتم إلى الحق الواجب لله عليكم، فشكرتموه على ما أنعم عليكم من نعمه في أنفسكم وأهاليكم وأولادِكم، بالإنابة إلى توحيده، والاعتصام به، وإخلاصكم أعمالَكم لوجهه، وترك رياء الناس بها، وآمنتم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم فصدَّقتموه، وأقررتم بما جاءكم به من عنده فعملتم به؟
يقول: لا حاجة بالله أن يجعلكم في الدَّرك الأسفل من النار، إن أنتم أنبتم إلى طاعته، وراجعتم العمل بما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه. لأنه لا يجتلب بعذابكم إلى نفسه نفعًا، ولا يدفع عنها ضُرًّا، وإنما عقوبته من عاقب من خلقه، جزاءٌ منه له على جرَاءته عليه، وعلى خلافه أمره ونهيه، وكفرانِه شكر نعمه عليه. فإن(9/342)
أنتم شكرتم له على نعمه، وأطعتموه في أمره ونهيه، فلا حاجة به إلى تعذيبكم، بل يشكر لكم ما يكون منكم من طاعةٍ له وشكر، بمجازاتكم على ذلك بما تقصر عنه أمانيكم، ولم تبلغه آمالكم (1) ="وكان الله شاكرا" لكم ولعباده على طاعتهم إياه، بإجزاله لهم الثوابَ عليها، وإعظامه لهم العِوَض منها="عليمًا" بما تعملون، أيها المنافقون، وغيركم من خير وشر، وصالِح وطالح، محصٍ ذلك كله عليكم، محيط بجميعه، حتى يجازيكم جزاءَكم يوم القيامة، المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته. وقد:-
10748- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليمًا"، قال: إن الله جل ثناؤه لا يعذِّب شاكرًا ولا مؤمنًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فلم تبلغه" بالفاء، والصواب ما في المخطوطة.(9/343)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148)
القول في تأويل قوله: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار بضم"الظاء".
* * *
وقرأه بعضهم: (إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، بفتح"الظاء".
* * *
ثم اختلف الذين قرءوا ذلك بضم"الظاء" في تأويله.
فقال بعضهم: معنى ذلك: لا يحب الله تعالى ذكره أن يجْهر أحدُنا بالدعاء على أحد، وذلك عندهم هو"الجهر بالسوء إلا من ظلم"، يقول: إلا من ظلم فيدعو على ظالمه، فإن الله جل ثناؤه لا يكره له ذلك، لأنه قد رخص له في ذلك.(9/343)
*ذكر من قال ذلك:
10749- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول"، يقول: لا يحب الله أن يدعوَ أحدٌ على أحد، إلا أن يكون مظلومًا، فإنه قد أرخَص له أن يدعو على من ظلمه، وذلك قوله:"إلا من ظلم"، وإن صبر فهو خير له.
10750- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، فإنه يحب الجهر بالسوء من القول.
10751- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعًا عليمًا"، عذر الله المظلوم كما تسمعون: أن يدْعو.
10752- حدثني الحارث قال، حدثنا أبو عبيد قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: هو الرجل يظلم الرجل فلا يدْعُ عليه، ولكن ليقل:"اللهم أعنِّي عليه، اللهم استخرج لي حقي، اللهم حُلْ بينه وبين ما يريد"، (1) ونحوه من الدعاء.
* * *
= فـ"مَنْ"، على قول ابن عباس هذا، في موضع رفع. لأنه وجَّهه إلى أن الجهر بالسوء في معنى الدعاء، واستثنى المظلوم منه. فكان معنى الكلام على قوله: لا يحب الله أن يُجْهر بالسوء من القول، إلا المظلوم، فلا حرج عليه في الجهر به.
وهذا مذهب يراه أهل العربية خطأ في العربية. وذلك أن"مَن" لا يجوز
__________
(1) في المخطوطة: "اللهم حل بيني وبين ما يريد"، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.(9/344)
أن يكون رفعًا عندهم بـ "الجهر"، لأنها في صلة"أنْ" ولم ينله الجحد، فلا يجوز العطف عليه. (1) من خطأٍ عندهم أن يقال: (2) "لا يعجبني أن يقوم إلا زيد".
وقد يحتمل أن تكون"من" نصبًا، على تأويل قول ابن عباس، ويكون قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول"، كلامًا تامًّا، ثم قيل:"إلا من ظلم فلا حرج عليه"، فيكون من استثناء من الفعل، وإن لم يكن قبل الاستثناء شيء ظاهر يستثنى منه، كما قال جل ثناؤه: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) ، [سورة الغاشية: 22-23] ، وكقولهم:"إني لأكره الخصومة والمِراء، اللهم إلا رجلا يريد الله بذلك"، ولم يذكر قبله شيء من الأسماء. (3)
* * *
و"مَن"، على قول الحسن هذا، نصبٌ، على أنه مستثنى من معنى الكلام، لا من الاسم، كما ذكرنا قبل في تأويل قول ابن عباس، إذا وُجِّه"مَن"، إلى النصب، وكقول القائل:"كان من الأمر كذا وكذا، اللهم إلا أن فلانًا جزاه الله خيرًا فَعَل كذا وكذا".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يحب الله الجهرَ بالسوء من القول، إلا من ظُلم فيخبر بما نِيلَ منه.
*ذكر من قال ذلك:
10753- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فيخرج من عنده فيقول: أساءَ ضيافتي ولم يُحسن!
10754- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة: "لأنها في صلة"أن"، و"أن" لم ينله الجحد"، بزيادة"أن"، وما في المخطوطة صواب محض.
(2) في المطبوعة: "من الخطأ عندهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 293، 294.(9/345)
ابن جريج، عن مجاهد:"إلا من ظلم"، قال: إلا من أثَر ما قيل له. (1)
10755- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال: هو الضيف المحوَّل رحلُه، فإنه يجهر لصاحبه بالسوء من القول.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك، الرجلَ ينزل بالرجل فلا يقريه، فينالُ من الذي لم يقرِه.
*ذكر من قال ذلك:
10756- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا من ظلم"، قال: إلا من ظلم فانتصر، يجهر بالسوء.
10757- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، مثله.
10758- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد= وعن حميد الأعرج، عن مجاهد:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال: هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن إليه، فقد رخص الله له أن يقول فيه. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "آثر" بمد الهمزة، وهو خطأ."أثر الحديث يأثره": حكاه ورواه وتحدث به. ومنه: "قول مأثور"، أي: يخبر الناس به بعضهم بعضًا، وينقله خلف عن سلف.
(2) الأثر: 10758 -"إبراهيم بن أبي بكر المكي الأخنسي"، سمع طاوسا ومجاهدًا. وروى عنه ابن أبي نجيح وابن جريج مترجم في التهذيب.
وكان في المخطوطة: "إبراهيم عن أبي بكير"، وفي الإسناد الذي يليه: 10759: "إبراهيم ابن أبي بكير". وهذا اختلاف مشكل.
ففي الإسناد الأول كما في المخطوطة، لم أعرف من يكون"إبراهيم".
أما "أبو بكير"، ففيهم"أبو بكير مرزوق التيمي الكوفي"، يروي عن مجاهد، مضى برقم: 4305، وليس هذا فيما أرجح.
وأما "إبراهيم بن أبي بكير" في الإسناد الثاني، فمنهم: "إبراهيم بن أبي بكير" ذكره البخاري في الكبير 1 / 1 / 277 في ترجمة"إبراهيم أبو بكير"، وكأنه خطأ من ناسخ حذف"بن"= و"إبراهيم بن أبي بكير بن إبراهيم" مترجم في ابن أبي حاتم 1 / 1 / 90، وكلاهما لم يذكر لأحد منها رواية عن مجاهد.
فمن أجل هذا صح عندي أنه الذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله؛ لرواية"إبراهيم بن أبي بكر" عن مجاهد، ورواية ابن نجيح عنه.(9/346)
10759- وحدثني أحمد بن حماد الدولابي قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن إبراهيم بن أبي بكر، عن مجاهد،"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، قال: هو في الضيافة، يأتي الرجل القوم، فينزل عليهم، فلا يضيفونه. رخَّص الله له أن يقول فيهم. (1)
10760- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا المثنى بن الصباح، عن مجاهد في قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول" الآية، قال: ضاف رجل رجلا فلم يؤدِّ إليه حق ضيافته، فلما خرج أخبر الناس، فقال:"ضفتُ فلانًا فلم يؤدّ حق ضيافتي"! فذلك جهرٌ بالسوء إلا من ظلم، حين لم يؤدِّ إليه ضيافته.
10761- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: إلا من ظلم فانتصر، يجهر بسوء. قال مجاهد: نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاةٍ من الأرض فلم يضفه، فنزلت:"إلا من ظلم"، ذكر أنه لم يضفه، لا يزيد على ذلك.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من ظلم فانتصر من ظالمه، فإن الله قد أذن له في ذلك.
__________
(1) الأثر: 10759 - كان في المخطوطة: "إبراهيم بن أبي بكير". وانظر التعليق على الأثر السالف.(9/347)
*ذكر من قال ذلك:
10762- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، يقول: إن الله لا يحب الجهر بالسوء من أحدٍ من الخلق، ولكن من ظلم فانتصر بمثل ما ظُلم، فليس عليه جناح.
= فـ"مَن"، على هذه الأقوال التي ذكرناها، سوى قول ابن عباس، في موضع نصب على انقطاعه من الأول. والعرب من شأنها أن تنصب ما بعد"إلا" في الاستثناء المنقطع.
* * *
فكان معنى الكلام على هذه الأقوال، سوى قول ابن عباس: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول، ولكن من ظلم فلا حرج عليه أن يخبر بما نٍيل منه، أو ينتصر ممن ظلمه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون بفتح"الظاء": (إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، وتأولوه: لا يحب الله الجهرَ بالسوء من القول، إلا من ظلم فلا بأس أن يُجْهر له بالسوء من القول.
*ذكر من قال ذلك:
10763- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان أبي يقرأ: (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، قال ابن زيد: يقول: إلا من أقام على ذلك النفاق، فيُجهر له بالسوء حتى ينزع. قال: وهذه مثل: (وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ) ، أن تسميه بالفسق= (بَعْدَ الإيمَانِ) ، بعد إذ كان مؤمنًا= (وَمَنْ لَمْ يَتُبْ) ، من ذلك العمل الذي قيل له= (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، [سورة الحجرات: 11] ، قال: هو شرٌّ ممن قال ذلك. (1)
__________
(1) في المطبوعة: "هو أشر ممن قال ذلك له"، والذي في المخطوطة صواب محض.(9/348)
10764- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظَلم"، فقرأ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ) حتى بلغ (وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا) . ثم قال بعد ما قال: هم في الدرك الأسفل من النار= (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) ، (لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظَلَمَ) ، قال: لا يحب الله أن يقول لهذا:"ألست نافقت؟ ألست المنافق الذي ظلمتَ وفعلت وفعلت؟ "، من بعد ما تاب="إلا من ظلم"، إلا من أقام على النفاق. قال: وكأن أبي يقول ذلك له، ويقرأها: (إِلا مَنْ ظَلَمَ) .
* * *
= فـ"مَنْ" على هذا التأويل نَصْبٌ لتعلقه بـ "الجهر".
* * *
وتأويل الكلام، على قول قائل هذا القول: لا يحب الله أن يجهر أحد لأحد من المنافقين بالسوء من القول، إلا من ظلم منهم فأقام على نفاقه، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: (إِلا مَنْ ظُلِمَ) بضم"الظاء"، لإجماع الحجة من القرأة وأهل التأويل على صحتها، وشذوذ قراءة من قرأ ذلك بالفتح.
* * *
فإذ كان ذلك أولى القراءتين بالصواب، فالصواب في تأويل ذلك: لا يحب الله، أيها الناس، أن يجهر أحدٌ لأحد بالسوء من القول="إلا من ظلم"، بمعنى: إلا من ظلم، فلا حرج عليه أن يخبر بما أسيء عليه. (1)
وإذا كان ذلك معناه، دخل فيه إخبار من لم يُقْرَ، أو أسيء قراه، أو نيل بظلم
__________
(1) في المطبوعة: "أسيء إليه"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب لأنه أراد أن يضمن"يسيء"، معنى"يبغي عليه"، فألحق بها حرف الثانية، كأنه قال: بما أسيء إليه بغيًا عليه.(9/349)
إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
في نفسه أو ماله= غيرَه من سائر الناس. (1) وكذلك دعاؤه على من ناله بظلم: أن ينصره الله عليه، لأن في دعائه عليه إعلامًا منه لمن سمع دعاءه عليه بالسوء له.
* * *
وإذْ كان ذلك كذلك، فـ"مَن" في موضع نصب، لأنه منقطع عما قبله، وأنه لا أسماء قبله يستثنى منها، فهو نظير قوله: (لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ) [سورة الغاشية: 22-23] .
* * *
وأما قوله:"وكان الله سميعًا عليمًا"، فإنه يعني:"وكان الله سميعًا"، لما تجهرون به من سوء القول لمن تجهرون له به، وغير ذلك من أصواتكم وكلامكم="عليمًا"، بما تخفون من سوء قولكم وكلامكم لمن تخفون له به فلا تجهرون له به، محص كل ذلك عليكم، حتى يجازيكم على ذلك كله جزاءَكم، المسيء بإساءته، والمحسن بإحسانه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه (3) "إن تبدوا" أيها الناس="خيرًا"، يقول: إن تقولوا جميلا من القول لمن أحسن إليكم، فتظهروا ذلك شكرًا منكم له على ما كان منه من حسن إليكم (4) =،"أو تخفوه"، يقول: أو تتركوا إظهار ذلك
__________
(1) في المطبوعة: "عنوة من سائر الناس"، وهو لا معنى له. والصواب ما في المخطوطة. وقوله: "غيره" منصوب مفعول به للمصدر"إخبار"، وسياق الكلام: دخل فيه إخبار من لم يقر ... غيره من سائر الناس"، أي يخبر غيره من سائر الناس بما أصابه ونيل منه.
(2) انظر تفسير"سميع" و"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(4) انظر تفسير"الإبداء" فيما سلف 5: 582.(9/350)
فلا تبدوه (1) ="أو تعفوا عن سوء"، يقول: أو تصفحوا لمن أساءَ إليكم عن إساءته، فلا تجهروا له بالسوء من القول الذي قد أذنت لكم أن تجهروا له به="فإن الله كان عفوًّا"، يقول: لم يزل ذا عفوٍ عن خلقه، يصفح عمن عصَاه وخالف أمره (2) ="قديرًا"، يقول: ذا قدرة على الانتقام منهم. (3)
وإنما يعني بذلك: أن الله لم يزل ذا عفو عن عباده، مع قدرته على عقابهم على معصيتهم إيّاه.
يقول: فاعفوا، أنتم أيضًا، أيها الناس، عمن أتى إليكم ظلمًا، ولا تجهروا له بالسوء من القول، وإن قدرتم على الإساءة إليه، كما يعفو عنكم ربكم مع قدرته على عقابكم، وأنتم تعصونه وتخالفون أمره.
* * *
وفي قوله جل ثناؤه:"إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوًا قديرًا"، الدلالةُ الواضحةُ على أن تأويل قوله:"لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم"، بخلاف التأويل الذي تأوله زيد بن أسلم، (4) في زعمه أن معناه: لا يحب الله الجهر بالسوء من القول لأهل النفاق، إلا من أقام على نفاقه، فإنه لا بأس بالجهر له بالسوء من القول. وذلك أنه جل ثناؤه قال عَقِيب ذلك:"إن تبدوا خيرًا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء"، ومعقولٌ أن الله جل ثناؤه لم يأمر المؤمنين بالعفو عن المنافقين على نفاقهم، ولا نهاهم أن يسمُّوا من كان منهم معلنَ النفاق"منافقًا". بل العفو عن ذلك، مما لا وجه له معقول. لأن"العفو" المفهوم،
__________
(1) انظر تفسير"الإخفاء" فيما سلف 5: 582.
(2) انظر تفسير"عفا" و"عفو" فيما سلف 2: 503 / 3: 371 / 7: 215، 327 / 8: 426 / 9: 102. وفي المطبوعة والمخطوطة: "يصفح لهم عمن عصاه"، والصواب حذف"لهم"، إذ لا مكان لها.
(3) انظر تفسير"قدير" فيما سلف ص: 298، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر الأثران رقم: 10763، 10764.(9/351)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151)
إنما هو صفح المرء عما له قبل غيره من حق. وتسمية المنافق باسمه ليس بحق لأحد قِبَله، فيؤمر بعفوه عنه، وإنما هو اسم له. وغير مفهوم الأمرُ بالعفو عن تسمية الشيء بما هو اسمه.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إن الذين يكفرون بالله ورسله"، من اليهود والنصارى="ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله"، بأن يكذبوا رسل الله الذين أرسلهم إلى خلقه بوحيه، ويزعموا أنهم افتروا على ربهم. (1) وذلك هو معنى إرادتهم التفريقَ بين الله ورسله، بنِحْلتهم إياهم الكذب والفريةَ على الله، وادِّعائهم عليهم الأباطيل="ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض"، يعني (2) أنهم يقولون:"نصدِّق بهذا ونكذِّب بهذا"، كما فعلت اليهود من تكذيبهم عيسى ومحمدًا صلى الله عليهما وسلم، وتصديقهم بموسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم. وكما فعلت النصارى من تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم، وتصديقهم بعيسى وسائر الأنبياء قبله بزعمهم="ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا"، يقول: ويريد المفرِّقون بين الله ورسله، الزاعمون أنهم يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، أن يتخذوا بين أضعاف
__________
(1) في المطبوعة: "ويزعمون أنهم ... " والصواب من المخطوطة.
(2) "ونكفر ببعض" تمام الآية، لم يكن في المخطوطة ولا المطبوعة، ولكن سياقه يقتضي إثباتها.(9/352)
قولهم:"نؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض"="سبيلا"، يعني: طريقًا إلى الضلالة التي أحدثوها، والبدعة التي ابتدعوها، يدعون أهل الجهل من الناس إليه. (1)
فقال جل ثناؤه لعباده، منبهًا لهم على ضلالتهم وكفرهم:"أولئك هم الكافرون حقًّا"، يقول: أيها الناس، هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم، هم أهل الكفر بي، المستحقون عذابي والخلود في ناري حقًّا. فاستيقنوا ذلك، ولا يشككنَّكم في أمرهم انتحالهم الكذب، ودعواهم أنهم يقرُّون بما زعموا أنهم به مقرُّون من الكتب والرسل، فإنهم في دعواهم ما ادعوا من ذلك كَذَبَةٌ. وذلك أن المؤمن بالكتب والرسل، هو المصدّق بجميع ما في الكتاب الذي يزعم أنه به مصدق، وبما جاء به الرسول الذي يزعم أنه به مؤمن. فأما من صدّق ببعض ذلك وكذَّب ببعض، فهو لنبوة من كذب ببعض ما جاء به جاحد، ومن جحد نبوة نبي فهو به مكذب. وهؤلاء الذين جحدوا نبوة بعض الأنبياء، وزعموا أنهم مصدقون ببعض، مكذبون من زعموا أنهم به مؤمنون، لتكذيبهم ببعض ما جاءهم به من عند ربهم، فهم بالله وبرسله= الذين يزعمون أنهم بهم مصدقون، والذين يزعمون أنهم بهم مكذبون= كافرون، (2) فهم الجاحدون وحدانية الله ونبوّة أنبيائه حق الجحود، المكذبون بذلك حق التكذيب. فاحذروا أن تغتروا بهم وببدعتهم، فإنا قد أعتدنا لهم عذابًا مهينًا.
* * *
وأما قوله:"وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا"، فإنه يعني:"وأعتدنا" لمن جحد بالله ورسوله جحودَ هؤلاء الذين وصفت لكم، أيها الناس، أمرَهم من أهل الكتاب، ولغيرهم من سائر أجناس الكفار (3) ="عذابًا"، في الآخرة="مهينًا"،
__________
(1) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) سياق هذه الجملة: "فهم بالله وبرسله ... كافرون"، وما بينها فصل في صفة هؤلاء الرسل.
(3) انظر تفسير"أعتد" فيما سلف 8: 103، 355.(9/353)
يعني: يهين من عُذِّب به بخلوده فيه. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10765- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرِّقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا * أولئك هم الكافرون حقًّا وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا"، أولئك أعداء الله اليهود والنصارى. آمنت اليهود بالتوراة وموسى، وكفروا بالإنجيل وعيسى. وآمنت النصارى بالإنجيل وعيسى، وكفروا بالقرآن وبمحمد صلى الله عليه وسلم. فاتخذوا اليهودية والنصرانية، وهما بدعتان ليستا من الله، وتركوا الإسلام وهو دين الله الذي بعث به رُسله.
10766- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله"، يقولون: محمد ليس برسولٍ لله! وتقول اليهود: عيسى ليس برسولٍ لله! (2) فقد فرَّقوا بين الله وبين رسله="ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض"، فهؤلاء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض.
10767- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله:"إن الذين يكفرون بالله ورسله" إلى قوله:"بين ذلك سبيلا"، قال: اليهود والنصارى. آمنت اليهود بعُزَير وكفرت بعيسى، وآمنت النصارى بعيسى وكفرت بعزَير. وكانوا يؤمنون بالنبيّ ويكفرون بالآخر="ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا"، قال: دينًا يدينون به الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"مهين" فيما سلف: ص163، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة: "برسول الله"، والسياق يقتضي ما أثبت.(9/354)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والذين صدقوا بوحدانية الله، وأقرّوا بنبوة رسله أجمعين، وصدّقوهم فيما جاءوهم به من عند الله من شرائع دينه="ولم يفرقوا بين أحد منهم"، يقول: ولم يكذّبوا بعضهم ويصدقوا بعضهم، ولكنهم أقرُّوا أن كل ما جاءوا به من عند ربهم حق="أولئك"، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم من المؤمنين بالله ورسله="سوف يؤتيهم"، يقول: سوف يعطيهم (1) ="أجورهم"، يعني: جزاءهم وثوابهم على تصديقهم الرسل في توحيد الله وشرائع دينه، وما جاءت به من عند الله (2) ="وكان الله غفورًا"، يقول: ويغفر لمن فعل ذلك من خلقه ما سلف له من آثامه، فيستر عليه بعفوه له عنه، وتركه العقوبة عليه، فإنه لم يزل لذنوب المنيبين إليه من خلقه غفورًا="رحيمًا"، يعني ولم يزل بهم رحيمًا، بتفضله عليهم بالهداية إلى سبيل الحق، وتوفيقه إياهم لما فيه خلاص رِقابهم من النار. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإيتاء" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 341، تعليق: 6، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/355)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153)
القول في تأويل قوله: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنزلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يسألك" يا محمد="أهل الكتاب"، يعني بذلك: أهل التوراة من اليهود="أن تنزل عليهم كتابًا من السماء".
* * *
واختلف أهل التأويل في"الكتاب" الذي سألَ اليهودُ محمدًا صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم من السماء.
فقال بعضهم: سألوه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء مكتوبًا، كما جاء موسى بني إسرائيل بالتوراة مكتوبةً من عند الله.
*ذكر من قال ذلك:
10768- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، قالت اليهود: إن كنت صادقًا أنك رسول الله، فآتنا كتابًا مكتوبًا من السماء، كما جاء به موسى.
10769- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن موسى جاء بالألواحِ من عند الله، فأتنا بالألواح من عند الله حتى نصدّقك! فأنزل الله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، إلى قوله:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا".
* * *(9/356)
وقال آخرون: بل سألوه أن ينزل عليهم كتابًا، خاصَّة لهم.
*ذكر من قال ذلك:
10770- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، أي كتابًا، خاصةً="فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة".
وقال آخرون: بل سألوه أن ينزل على رجال منهم بأعيانهم كتبًا بالأمر بتصديقه واتّباعه.
*ذكر من قال ذلك:
10771- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، وذلك أن اليهود والنصارى أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:"لن نتابعك على ما تدعونا إليه، حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان (1) أنك رسول الله، وإلى فلان بكتاب أنك رسول الله"! قال الله جل ثناؤه:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة".
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن أهل التوراة سألوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء، آيةً معجزةً جميعَ الخلق عن أن يأتوا بمثلها، شاهدةً لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق، آمرة لهم باتباعه.
وجائز أن يكون الذي سألوه من ذلك كتابًا مكتوبًا ينزل عليهم من السماء إلى جماعتهم= وجائز أن يكون ذلك كتبًا إلى أشخاص بأعينهم. بل الذي هو أولى
__________
(1) في المخطوطة: "من عبد الله، من الله إلى فلان"، والذي في المطبوعة هو الصواب، إلا أن يكون الناسخ كتب"من عند الله" ثم، غيرها"من الله"، ثم لم يضرب على أولاهما.(9/357)
بظاهر التلاوة، أن تكون مسألتهم إياه ذلك كانت مسألة لتنزيل الكتاب الواحد إلى جماعتهم، (1) لذكر الله تعالى في خبره عنهم"الكتاب" بلفظ الواحد بقوله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"، (2) ولم يقل"كتبًا".
* * *
وأما قوله:"فقد سألوا موسى أكبر من ذلك"، فإنه توبيخ من الله جل ثناؤه سائلي الكتابَ الذي سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزله عليهم من السماء، في مسألتهم إياه ذلك= وتقريعٌ منه لهم. يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا يعظُمَنَّ عليك مسألتهم ذلك، فإنهم من جهلهم بالله وجراءَتهم عليه واغترارهم بحلمه، لو أنزلت عليهم الكتاب الذي سألوك أن تنزله عليهم، لخالفوا أمر الله كما خالفوه بعد إحياء الله أوائلهم من صعقتهم، فعبدوا العجل واتخذوه إلهًا يعبدونه من دون خالقهم وبارئهم الذي أرَاهم من قدرته وعظيم سلطانه ما أراهم، لأنهم لن يعدُوا أن يكونوا كأوائلهم وأسلافهم.
* * *
ثم قصّ الله من قصتهم وقصة موسى ما قصَّ، يقول الله:"فقد سألوا موسى أكبرَ من ذلك"، يعني: فقد سأل أسلافُ هؤلاء اليهود وأوائلهم موسى عليه السلام، أعظم مما سألوك من تنزيل كتاب عليهم من السماء، فقالوا له:"أرنا الله جهرة"، أي: عِيانًا نعاينه وننظر إليه.
* * *
وقد أتينا على معنى"الجهرة"، بما في ذلك من الرواية والشواهد على صحة ما قلنا في معناه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس أنه كان يقول في ذلك، بما:-
__________
(1) في المطبوعة: "لينزل الكتاب"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يقول: يسألك ... "، والصواب من المخطوطة.
(3) انظر تفسير"جهرة" فيما سلف 2: 80-82.(9/358)
10772- حدثني به الحارث قال، حدثنا أبو عبيد قال، حدثنا حجاج، عن هارون بن موسى، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن عبد الرحمن بن معاوية، عن ابن عباس في هذه الآية قال: إنهم إذا رأوه فقد رأوه، إنما قالوا جهرةً:"أرنا الله". قال: هو مقدّم ومؤخر.
* * *
وكان ابن عباس يتأول ذلك: أن سؤالهم موسى كان جهرة. (1)
* * *
وأما قوله:"فأخذتهم الصاعقة"، فإنه يقول:"فصُعقوا"="بظلمهم" أنفسهم. وظلمهم أنفسهم، كان مسألَتهم موسى أن يريهم ربهم جهرة، لأن ذلك مما لم يكن لهم مسألته.
* * *
وقد بينا معنى:"الصاعقة"، فيما مضى باختلاف المختلفين في تأويلها، والدليل على أولى ما قيل فيها بالصواب. (2)
* * *
وأما قوله:"ثم اتخذوا العجل"، فإنه يعني: ثم اتخذ= هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوه من رؤية ربهم جهرةً، بعد ما أحياهم الله فبعثهم من صعقتهم= العجلَ الذي كان السامريُّ نبذ فيه ما نبذ من القبْضة التي قبضها من أثر فرس جبريل عليه السلام= إلهًا يعبدونه من دون الله. (3)
* * *
وقد أتينا على ذكر السبب الذي من أجله اتخذوا العجل، وكيف كان أمرهم وأمره، فيما مضى بما فيه الكفاية. (4)
* * *
__________
(1) هذا القول الذي نسب إلى ابن عباس، لم يمض مثله في تفسير آية سورة البقرة 2: 80-82، وهذا أحد الأدلة على اختصار هذا التفسير.
(2) انظر تفسير"الصاعقة" فيما سلف 2: 82-84.
(3) سياق هذه الفقرة: ثم اتخذ هؤلاء ... العجل ... إلها ... ".
(4) انظر ما سلف 2: 63-68.(9/359)
وقوله:"من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني: من بعد ما جاءت هؤلاء الذين سألوا موسى ما سألوا، البينات من الله، والدلالاتُ الواضحات بأنهم لن يروا الله عيانًا جهارًا.
وإنما عنى بـ "البينات": أنها آيات تبين عن أنهم لن يروا الله في أيام حياتهم في الدنيا جهرة. (1) وكانت تلك الآيات البينات لهم على أن ذلك كذلك: إصعاقُ الله إياهم عند مسألتهم موسى أن يريهم ربه جهرة، ثم إحياءه إياهم بعد مماتهم، مع سائر الآيات التي أراهم الله دلالةً على ذلك.
* * *
= يقول الله، مقبِّحًا إليهم فعلهم ذلك، وموضحًا لعباده جهلهم ونقصَ عقولهم وأحلامهم: ثم أقرُّوا للعجل بأنه لهم إله، وهم يرونه عيانًا، وينظرون إليه جِهَارًا، بعد ما أراهم ربهم من الآيات البينات ما أراهم: أنهم لا يرون ربهم جهرة وعِيانًا في حياتهم الدنيا، فعكفوا على عبادته مصدِّقين بألوهته!!
* * *
وقوله:"فعفونا عن ذلك"، يقول: فعفونا لعبدة العجل عن عبادتهم إياه، (2) وللمصدقين منهم بأنه إلههم بعد الذي أراهم الله أنهم لا يرون ربهم في حياتهم من الآيات ما أراهم= عن تصديقهم بذلك، (3) بالتوبة التي تابوها إلى ربّهم بقتلهم أنفسهم، وصبرهم في ذلك على أمر ربهم="وآتينا موسى سلطانًا مبينًا"، يقول: وآتينا موسى حجة تبين عن صدقه، وحقيقة نبوّته، (4) وتلك الحجة هي: الآيات البينات التي آتاه الله إياها. (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"البينات" فيما سلف 7: 450، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"العفو" فيما سلف ص: 351، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) السياق: "فعفونا لعبدة العجل ... عن تصديقهم بذلك".
(4) في المطبوعة: "وحقية نبوته"، غير ما في المخطوطة عن وجهه، ظنًا منه أنه خطأ، وقد أشرنا إلى مثل ذلك من فعله فيما سلف ص: 336، تعليق: 4، وما سيأتي بعد قليل ص: 363، تعليق 2.
(5) انظر تفسير"الإيتاء" فيما سلف من فهارس اللغة.
وتفسير"السلطان" فيما سلف 7: 279 / 9: 336، 337.
وتفسير"مبين" فيما سلف ص: 336 تعليق: 3، والمراجع هناك.(9/360)
وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
القول في تأويل قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ورفعنا فوقهم الطور"، يعني: الجبل، (1) وذلك لما امتنعوا من العمل بما في التوراة وقبول ما جاءهم به موسى فيها="بميثاقهم"، يعني: بما أعطوا الله الميثاق والعهد: لنعملن بما في التوراة (2) ="وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدًا"، يعني"باب حِطّة"، حين أمروا أن يدخلوا منه سجودًا، فدخلوا يزحفون على أستاههم (3) ="وقلنا هم لا تعدوا في السبت"، يعني بقوله:"لا تعدوا في السبت"، لا تتجاوزوا في يوم السبت ما أبيح لكم إلى ما لم يبح لكم، (4) كما:
10773- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدًا"، قال: كنا نحدّث أنه باب من أبواب بيت المقدس. (5)
* * *
="وقلنا لهم لا تعدوا في السبت"، أمر القوم أن لا يأكلوا الحِيتان يوم السبت ولا يعرضوا لها، وأحل لهم ما وراء ذلك. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الطور" فيما سلف 2: 157-159.
(2) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف: 41، 44، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"ادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة" فيما سلف 2: 103-109.
(4) انظر تفسير"السبت"، و"اعتداؤهم في السبت" فيما سلف 2: 166-174.
(5) هذا الأثر لم يذكر في تفسير"الباب" فيما سلف 2: 103-109، وهو أحد الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره، ومنهجه في الاختصار.
(6) انظر تفسير"السبت"، و"اعتداؤهم في السبت" فيما سلف 2: 166-174.(9/361)
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أمصار الإسلام: (لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) ، بتخفيف"العين" من قول القائل:"عدوت في الأمر"، إذا تجاوزت الحق فيه،"أعدُ وعَدْوًا وعُدُوًّا وعدوانًا وعَدَاءً". (1)
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة أهل المدينة: (وَقُلْنَا لَهُمْ لا تَعْدُّوا) بتسكين"العين" وتشديد"الدال"، والجمع بين ساكنين، بمعنى: تعتدوا، ثم تدغم"التاء" في"الدال" فتصير"دالا" مشددة مضمومة، كما قرأ من قرأ (أَمْ مَنْ لا يَهْدِّي) [سورة يونس: 35] ، بتسكين"الهاء".
* * *
وقوله:"وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا"، يعني: عهدًا مؤكدًا شديدًا، بأنهم يعملون بما أمرهم الله به، وينتهون عما نهاهم الله عنه، مما ذكر في هذه الآية، ومما في التوراة. (2)
* * *
وقد بينا فيما مضى، السببَ الذي من أجله كانوا أمروا بدخول الباب سجدًا، وما كان من أمرهم في ذلك وخبرهم وقصتهم= وقصة السبت، وما كان اعتداؤهم فيه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"عدا" فيما سلف 2: 142، 167، 307 / 3: 573، 582 / 7: 117، والمراجع هناك.
وقد أسقط في المطبوعة هنا"وعدوا" (بضم العين والدال مشددة الواو) ، وهي ثابتة في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف ص361، التعليق رقم: 2.
وتفسير"غليظ" فيما سلف 8: 127.
(3) انظر التعليقين السالفين ص: 361، تعليق: 3، 4.(9/362)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155)
القول في تأويل قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (155) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: فبنقض هؤلاء الذين وصفتُ صفتهم من أهل الكتاب="ميثاقهم"، يعني: عهودهم التي عاهدوا الله أن يعملوا بما في التوراة (1) ="وكفرهم بآيات الله"، يقول: وجحودهم="بآيات الله"، يعني: بأعلام الله وأدلته التي احتج بها عليهم في صدق أنبيائه ورسله (2) وحقيقة ما جاءوهم به من عنده (3) ="وقتلهم الأنبياء بغير حق"، يقول: وبقتلهم الأنبياء بعد قيام الحجة عليهم بنبوّتهم="بغير حق"، يعني: بغير استحقاق منهم ذلك لكبيرة أتوها، ولا خطيئة استوجبوا القتل عليها (4) ="وقولهم قلوبنا غلف"، يعني: وبقولهم"قلوبنا غلف"، يعني: يقولون: عليها غِشاوة وأغطِية عما تدعونا إليه، فلا نفقَه ما تقول ولا نعقله.
* * *
وقد بينا معنى:"الغلف"، وذكرنا ما في ذلك من الرواية فيما مضى قبل. (5)
* * *
="بل طبع الله عليها بكفرهم"، يقول جل ثناؤه: كذبوا في قولهم:"قلوبنا غلف"، ما هي بغلف، ولا عليها أغطية، ولكن الله جل ثناؤه جعل عليها طابعًا بكفرهم بالله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الميثاق" آنفًا ص: 362، تعليق: 2.
(2) انظر تفسير"الآيات" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (أيي) .
(3) في المطبوعة: "وحقية ما جاؤوهم به"، بدل ما في المخطوطة. وانظر التعليق السالف ص: 360، تعليق: 2.
(4) انظر تفسير"قتل الأنبياء بغير حق" فيما سلف 7: 116، 117، 446.
(5) انظر تفسير"غلف" فيما سلف 2: 324-328.(9/363)
وقد بينا صفة"الطبع على القلب"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
="فلا يؤمنون إلا قليلا"، يقول: فلا يؤمن -هؤلاء الذين وصف الله صفتهم، لطبعه على قلوبهم، فيصدقوا بالله ورسله وما جاءتهم به من عند الله- إلا إيمانًا قليلا يعني: تصديقًا قليلا وإنما صار"قليلا"، (2) لأنهم لم يصدقوا على ما أمرهم الله به، ولكن صدَّقوا ببعض الأنبياء وببعض الكتب، وكذبوا ببعض. فكان تصديقهم بما صدَّقوا به قليلا لأنهم وإن صدقوا به من وجه، فهم به مكذبون من وجه آخر، وذلك من وجه تكذيبهم من كذَّبوا به من الأنبياء وما جاءوا به من كتب الله، ورسلُ الله يصدِّق بعضهم بعضًا. وبذلك أمر كل نبي أمته. وكذلك كتب الله يصدق بعضها بعضًا، ويحقق بعض بعضًا. فالمكذب ببعضها مكذب بجميعها، من جهة جحوده ما صدقه الكتاب الذي يقرّ بصحته. فلذلك صار إيمانهم بما آمنوا من ذلك قليلا. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10774- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"فبما نقضهم ميثاقهم"، يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعنَّاهم="وقولهم قلوبنا غلف"، أي لا نفقه=،"بل طبع الله عليها بكفرهم"، ولعنهم حين فعلوا ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الطبع" فيما سلف 1: 258. ولم يمض ذكر"الطبع" بهذا اللفظ في آية قبل هذه الآية، ولكنه نسي، إنما الذي مضى ما هو في معناه وهو"ختم الله على قلوبهم"، و"الختم" هو"الطبع".
(2) انظر تفسير"قليل" فيما سلف 2: 329-331 / 8: 439، 577.
(3) تفسير"قليل" فيما سلف من الآيات التي أشرنا إليها، فهو أجود مما هنا.(9/364)
واختلف في معنى قوله:"فبما نقضهم"، الآية، هل هو مواصلٌ لما قبله من الكلام، أو هو منفصل منه. (1)
فقال بعضهم: هو منفصل مما قبله، ومعناه: فبنقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وقولهم قلوبنا غلف، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم. (2)
*ذكر من قال ذلك:
10775- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فلا يؤمنون إلا قليلا"، لما ترك القوم أمرَ الله، وقتلوا رسله، وكفروا بآياته، ونقضوا الميثاق الذي أخذ عليهم، طبع الله عليها بكفرهم ولعنهم.
* * *
وقال آخرون: بل هو مواصل لما قبله. قالوا: ومعنى الكلام: فأخذتهم الصاعقة بظلمهم= فبنقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وبقتلهم الأنبياء بغير حق، وبكذا وكذا أخذتهم الصاعقة. قالوا: فتبع الكلام بعضه بعضًا، ومعناه: مردود إلى أوله. وتفسير"ظلمهم"، الذي أخذتهم الصاعقة من أجله، بما فسر به تعالى ذكره، من نقضهم الميثاق، وقتلهم الأنبياء، وسائر ما بيَّن من أمرهم الذي ظلموا فيه أنفسهم.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن قوله:"فبما نقضهم ميثاقهم" وما بعده، منفصل معناه من معنى ما قبله، وأن معنى الكلام: فبما نقضهم ميثاقهم، وكفرهم بآيات الله، وبكذا وبكذا، لعناهم وغضبنا عليهم= فترك ذكر"لعناهم "،
__________
(1) وانظر زيادة"ما" في قوله"فبما نقضهم ميثاقهم" فيما سلف 7: 340. وترك أبي جعفر بيان ذلك هنا، أحد الأدلة على منهاجه في اختصار هذا التفسير.
(2) في المطبوعة: "بل طبع الله عليها" كنص الآية، وهو لا يستقيم، والصواب ما في المخطوطة.(9/365)
وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156)
لدلالة قوله:"بل طبع الله عليها بكفرهم"، على معنى ذلك. إذ كان من طبع على قلبه، فقد لُعِن وسُخِط عليه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن الذين أخذتهم الصاعقة، إنما كانوا على عهد موسى= والذين قتلوا الأنبياء، والذين رموا مريم بالبهتان العظيم، وقالوا:"قتلنا المسيح"، كانوا بعد موسى بدهر طويل. ولم يدرك الذين رموا مريم بالبهتان العظيم زمان موسى، ولا من صُعق من قومه.
وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أنّ الذين أخذتهم الصاعقة، لم تأخذهم عقوبةً لرميهم مريم بالبهتان العظيم، ولا لقولهم:"إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم". وإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن القوم الذين قالوا هذه المقالة، غير الذين عوقبوا بالصاعقة. وإذ كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا انفصال معنى قوله:"فبما نقضهم ميثاقهم"، من معنى قوله:"فأخذتهم الصاعقة بظلمهم".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبكفر هؤلاء الذين وصف صفتهم="وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، يعني: بفريتهم عليها، ورميهم إياها بالزنا، وهو"البهتان العظيم"، لأنهم رموها بذلك، وهي مما رموها به بغير ثَبَتٍ ولا برهان بريئة، فبهتوها بالباطل من القول. (1)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير"البهتان" فيما سلف 5: 432 / 8: 124 / 9، 197.(9/366)
وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157)
10776- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، يعني: أنهم رموها بالزنا.
10777- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، حين قذفوها بالزنا.
10778- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن عُبَيد، عن جويبر في قوله:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، قال: قالوا:"زنت".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله. ثم كذبهم الله في قيلهم، فقال:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، يعني: وما قتلوا عيسى وما صلبوه ولكن شبه لهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في صفة التشبيه الذي شبه لليهود في أمر عيسى.
فقال بعضهم: لما أحاطت اليهود به وبأصحابه، أحاطوا بهم وهم لا يثبتون معرفة عيسى بعينه، وذلك أنهم جميعًا حُوِّلوا في صورة عيسى، فأشكل على الذين كانوا يريدون قتل عيسى، عيسى من غيره منهم، وخرج إليهم بعض من كان في البيت مع عيسى، فقتلوه وهم يحسبونه عيسى.
*ذكر من قال ذلك:(9/367)
10779- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن هارون بن عنترة، عن وهب بن منبه قال: أُتِي عيسى ومعه سبعة عشر من الحواريين في بيت، وأحاطوا بهم. فلما دخلوا عليهم صوَّرهم الله كلهم على صورة عيسى، فقالوا لهم: سحرتمونا! لتبرزنّ لنا عيسى أو لنقتلنكم جميعًا! فقال عيسى لأصحابه: من يشتري نفسه منكم اليوم بالجنة؟ فقال رجل منهم: أنا! فخرج إليهم، فقال: أنا عيسى= وقد صوّره الله على صورة عيسى، فأخذوه فقتلوه وصلبوه. فمن ثَمَّ شُبِّه لهم، وظنوا أنهم قد قتلوا عيسى، وظنت النصارى مثل ذلك أنه عيسى، ورفع الله عيسى من يومه ذلك.
* * *
وقد روي عن وهب بن منبه غير هذا القول، وهو ما:-
10780- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهبًا يقول: إن عيسى ابن مريم عليه السلام لما أعلمه الله أنه خارج من الدنيا، جزع من الموت وشقَّ عليه، فدعا الحواريِّين فصنع لهم طعامًا، (1) فقال: احضروني الليلة، فإن لي إليكم حاجة. فلما اجتمعوا إليه من الليل، عشَّاهم وقام يخدمهم. فلما فرغوا من الطعام أخذ يغسل أيديهم ويوضِّئهم بيده، ويمسح أيديهم بثيابه، فتعاظموا ذلك وتكارهوه، فقال: ألا مَن ردَّ علي شيئًا الليلة مما أصنع، فليس مني ولا أنا منه! فأقرُّوه، حتى إذا فرغ من ذلك قال: أمَّا ما صنعت بكم الليلة، مما خدمتكم على الطعام وغسلت أيديكم بيدي، فليكن لكم بي أسوة، فإنكم ترون أنّي خيركم، فلا يتعظَّم بعضكم على بعض، وليبذل بعضكم لبعض نفسه، كما بذلت نفسي لكم. وأما حاجتي التي استعنتكم عليها، فتدعون لي الله وتجتهدون في الدعاء: أن يؤخِّر أجلي. فلما نَصَبوا أنفسهم للدعاء وأرادوا أن يجتهدوا، أخذهم النوم حتى
__________
(1) في المطبوعة: "وصنع" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة، وتاريخ الطبري.(9/368)
لم يستطيعوا دعاءً. فجعل يوقظهم ويقول: سبحان الله! ما تصبرون لي ليلة واحدة تعينوني فيها! (1) قالوا: والله ما ندري ما لنا! لقد كنا نسمر فنكثر السَّمَر، وما نطيق الليلة سمرًا، وما نريد دعاء إلا حيل بيننا وبينه! فقال: يُذْهَب بالراعي وتتفرق الغنم! وجعل يأتي بكلام نحو هذا ينعَى به نفسه. ثم قال: الحقَّ، ليكفرنَّ بي أحدكم قبل أن يصيح الديك ثلاث مرات، وليبيعنِّي أحدكم بدراهم يسيرة، وليأكلن ثمني! فخرجوا فتفرقوا، (2) وكانت اليهود تطلبه، فأخذوا شمعون أحد الحواريين، فقالوا: هذا من أصحابه! فجحد وقال: ما أنا بصاحبه! فتركوه، ثم أخذه آخرون فجحد كذلك. ثم سمع صوت ديك فبكى وأحزنه، فلما أصبح أتى أحدُ الحواريين إلى اليهود فقال: ما تجعلون لي إن دللتكم على المسيح؟ فجعلوا له ثلاثين درهمًا، فأخذها ودلَّهم عليه. وكان شبِّه عليهم قبل ذلك، فأخذوه فاستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، فجعلوا يقودونه ويقولون له: أنت كنت تحيي الموتى، وتنتهر الشيطان، وتبرئ المجنون، أفلا تنجّي نفسك من هذا الحبل؟! ويبصقون عليه، ويلقون عليه الشوك، حتى أتوا به الخشبة التي أرادوا أن يصلبوه عليها، فرفعه الله إليه، وصلبوا ما شبِّه لهم، فمكث سبعًا.
= ثم إنّ أمَّه والمرأة التي كان يداويها عيسى فأبرأها الله من الجنون، جاءتا تبكيان حيث المصلوب، (3) فجاءهما عيسى فقال: علام تبكيان؟ قالتا: عليك! فقال: إني قد رفعني الله إليه، ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شيء شبِّه لهم،
__________
(1) في المطبوعة: "أما تصبرون"، وأثبت ما في التاريخ والمخطوطة.
(2) في المطبوعة: "وتفرقوا" بالواو، وأثبت ما في التاريخ والمخطوطة.
(3) في المطبوعة"حيث كان المصلوب"، وفي التاريخ: "عند المصلوب"، وفي المخطوطة "حيث" غير منقوطة، وعليها حرف (ط) ، كأن الناسخ عدها خطأ، لقلة إضافة"حيث" إلى الاسم المفرد، لأنها تضاف إلى الجملة الفعلية والجملة الإسمية، ولكن لإضافتها إلى المفرد شواهد كثيرة، منها قول الشاعر: وَنَحْنُ سَقَيْنَا المَوْتَ بِالسَّيْفِ مَعْقِلا ... وقَدْ كانَ مِنْهُمْ حَيْثُ ليُّ العَمَائِمِ(9/369)
فأْمُرَا الحواريين أن يلقوني إلى مكان كذا وكذا. فلقوه إلى ذلك المكان أحد عشر. وفقَد الذي كان باعه ودلَّ عليه اليهود، (1) فسأل عنه أصحابه، فقالوا: إنه ندم على ما صنع، فاختنق وقتل نفسه. فقال: لو تابَ لتابَ الله عليه! ثم سألهم عن غلام يتبعهم يقال له: يُحَنَّى (2) فقال: هو معكم، فانطلقوا، فإنه سيصبح كلّ إنسان منكم يحدِّث بلغة قوم، فلينذِرْهم وَلْيدعهم. (3)
* * *
وقال آخرون: بل سأل عيسى من كان معه في البيت أن يلقى على بعضهم شَبهه، فانتدب لذلك رجل، فألقي عليه شبهه، فقتل ذلك الرجل، ورفع عيسى ابن مريم عليه السلام.
*ذكر من قال ذلك:
10781- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه" إلى قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا"، أولئك أعداء الله اليهود ائتمروا بقتل عيسى ابن مريم رسول الله، (4) وزعموا أنهم قتلوه وصلبوه. وذكر لنا أن نبي الله عيسى ابن مريم قال لأصحابه: أيكم يُقْذف عليه شبهي، فإنه مقتول؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا نبي الله! فقتل ذلك الرجل، ومنع الله نبيه ورفعه إليه.
10782- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، قال: ألقي شبهه على رجل من الحواريين فقتل. وكان عيسى ابن مريم عرض ذلك عليهم، فقال: أيكم ألقي شبهي عليه، وله الجنة؟ فقال رجل: عليَّ.
__________
(1) "فقده" و"افتقده": لم يجده، فسأل عنه.
(2) في التاريخ: "يقال له يحيى".
(3) الأثر: 10780 - رواه أبو جعفر في التاريخ 2: 22، 23.
(4) في المطبوعة: "اشتهروا بقتل عيسى"، ولا معنى لها هنا، وهي في المخطوطة غير بينة الحروف، وصواب قراءتها ما أثبت.(9/370)
10783- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن بني إسرائيل حَصروا عيسى وتسعةَ عشر رجلا من الحواريين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصُعِد بعيسى إلى السماء. فلما خرج الحواريون أبصروهم تسعة عشر، فأخبروهم أن عيسى عليه السلام قد صُعِد به إلى السماء، فجعلوا يعدّون القوم فيجدونهم ينقصون رجلا من العدَة، ويرون صورة عيسى فيهم، فشكّوا فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يرون أنه عيسى وصلبوه. فذلك قول الله تبارك وتعالى:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم"، إلى قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا".
10784- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن القاسم بن أبي بزة: أن عيسى ابن مريم قال: أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل مكاني؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا رسول الله! فألقي عليه شبهه فقتلوه. فذلك قوله:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم".
10785- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله، رجلا منهم يقال له داود. فلما أجمعوا لذلك منه، لم يَفْظَعْ عبدٌ من عباد الله بالموت= فيما ذكر لي= فظَعَه، (1) ولم يجزع منه جزعه، ولم يدع الله في صرفه عنه دعاءَه، حتى إنه ليقول، فيما يزعمون:"اللهم إن كنت صارفًا هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني! "، وحتى إن جلده من كَرْب ذلك ليتفصَّد دمًا. فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه، وهم ثلاثة عشر بعيسى. فلما أيقن أنهم داخلون عليه، قال لأصحابه من الحواريين (2) = وكانوا اثني عشر رجلا
__________
(1) "فظع بالأمر يفظع فظعًا (مثل فرح، يفرح، فرحا) : كرهه واستبشعه ورآه فظيعًا.
(2) قول المسيح لأصحابه من الحواريين، سيأتي في الفقرة التي تلي الفقرة الآتية، وذلك قوله: "يا معشر الحواريين، أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة". وما بين الكلامين، فصل فيه ذكر عدة الحواريين.(9/371)
فطرس، (1) ويعقوب بن زبدي، ويحنس أخو يعقوب، وأندراييس، (2) وفيلبس، وأبرثلما، ومتى، وتوماس، ويعقوب بن حلفيا، (3) وتداوسيس، وقنانيا، (4) ويودس زكريا يوطا. (5)
= قال ابن حميد، قال سلمة، قال ابن إسحاق: وكان فيهم، فيما ذكر لي، رجل اسمه سرجس، فكانوا ثلاثة عشر رجلا سوى عيسى، جحدتْه النصارى، وذلك أنه هو الذي شبِّه لليهود مكان عيسى. قال: فلا أدري ما هو؟ من هؤلاء الاثني عشر، أم كان ثالث عشر، فجحدوه حين أقرُّوا لليهود بصلب عيسى، وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر عنه. فإن كانوا ثلاثة عشر فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى أربعة عشر، وإن كانوا اثني عشر، فإنهم دخلوا المدخل حين دخلوا وهم بعيسى ثلاثة عشر.
= حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني رجل كان نصرانيًّا فأسلم: أن عيسى حين جاءَه من الله:"إني رافعك إليَّ" قال: يا معشر الحواريين، أيُّكم يحبّ أن يكون رفيقي في الجنة، على أن يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه مكاني؟ (6) فقال سرجس: أنا، يا روح الله! قال: فاجلس في مجلسي.
__________
(1) في المطبوعة: "بطرس"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "أندراوس"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "حلقيا"، وفي المخطوطة بالفاء.
(4) في المطبوعة: "فتاتيا"، والمخطوطة أشبه بأن تكون كما نقطتها.
(5) سأذكر هذه الأسماء، كما هي في كتب القوم، من الإصحاح العاشر من إنجيل متى، على تتابعها هنا، وهي كما يلي: (بطرس) ، و (يعقوب بن زبدي) ، و (يوحنَّا) أخو يعقوب، و (أندارَاوس) - أخو بطرس -، و (فيلبس) ، و (برثولماوس) ، و (متى) ، و (توما) ، و (يعقوب بن حلفي) و (لباوس) ، الملقب (تدَّاوس) ، و (سمعان القانوي) ، و (يهوذا الأسخريوطي) .
(6) في المطبوعة: "حتى يشبه للقوم"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/372)
فجلس فيه، ورُفع عيسى صلوات الله عليه. فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه، فكان هو الذي صلبوه وشُبِّه لهم به. وكانت عِدّتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة، قد رأوهم وأحصوا عدّتهم. (1) فلما دخلوا عليه ليأخذوه، وجدوا عيسى فيما يُرَوْن وأصحابه، وفقدوا رجلا من العدة، فهو الذي اختلفوا فيه، وكانوا لا يعرفون عيسى، حتى جعلوا ليودس زكريا يوطا ثلاثين درهمًا على أن يدلَّهم عليه ويعرِّفهم إياه، فقال لهم: إذا دخلتم عليه، فإني سأقبله، وهو الذي أقبِّل، فخذوه. فلما دخلوا عليه وقد رُفع عيسى، رأى سرجس في صورة عيسى، فلم يشكِّك أنه هو عيسى، (2) فأكبَّ عليه فقبَّله، فأخذوه فصلبوه. ثم إن يودس زكريا يوطا ندم على ما صنع، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه. وهو ملعون في النصارى، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه. وبعض النصارى يزعم أن يودس زكريا يوطا هو الذي شبه لهم، فصلبوه وهو يقول:"إني لست بصاحبكم! أنا الذي دللتكم عليه"! والله أعلم أيُّ ذلك كان.
10786- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: بلغنا أن عيسى ابن مريم قال لأصحابه: أيُّكم ينتدب فيُلقَى عليه شبهي فيقتل؟ فقال رجل من أصحابه: أنا، يا نبي الله. فألقي عليه شبهه فقتل، ورفع الله نبيّه إليه.
10787- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"شبه لهم"، قال: صلبوا رجلا غير عيسى، يحسبونه إيّاه.
10788- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولكن شبه لهم"، فذكر نحوه. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "فأحصوا" بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فلم يشك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فذكر مثله".(9/373)
10789- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: صلبوا رجلا شبَّهوه بعيسى، يحسبونه إياه، ورفع الله إليه عيسى حيًّا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب، أحدُ القولين اللذين ذكرناهما عن وهب بن منبه: (1) من أن شَبَه عيسى ألقي على جميع من كان في البيت مع عيسى حين أحيط به وبهم، من غير مسألة عيسى إياهم ذلك. ولكن ليخزي الله بذلك اليهود، وينقذ به نبيه عليه السلام من مكروهِ ما أرادوا به من القتل، ويبتلي به من أراد ابتلاءه من عباده في قِيله في عيسى، وصدق الخبر عن أمره. = أو: القول الذي رواه عبد الصمد عنه. (2)
وإنما قلنا ذلك أولى القولين بالصواب، لأن الذين شهدوا عيسى من الحواريين، لو كانوا في حال ما رُفع عيسى وأُلقي شبهه على من ألقي عليه شَبَهه، كانوا قد عاينوا وهو يرفع من بينهم، (3) وأثبتوا الذي ألقي عليه شبهه، وعاينوه متحوِّلا في صورته بعد الذي كان به من صورة نفسه بمحضَرٍ منهم، لم يخفَ ذلك من أمر عيسى وأمر من ألقي عليه شبهه عليهم، مع معاينتهم ذلك كله، ولم يلتبس ولم يشكل عليهم، وإن أشكل على غيرهم من أعدائهم من اليهود أن المقتول والمصلوب كان غير عيسى، وأن عيسى رفع من بينهم حيًّا.
وكيف يجوز أن يكون كان أشكل ذلك عليهم، وقد سمعوا من عيسى مقالته:"من يلقى عليه شبهي، ويكون رفيقي في الجنة"، إن كان قال لهم ذلك، وسمعوا
__________
(1) هو الأثر رقم: 10779.
(2) هو الأثر رقم: 10780، وكان في المخطوطة"الذي رواه عبد العزيز عنه"، وليس في الرواة عن ابن منبه فيما سلف"عبد العزيز" بل"عبد الصمد بن معقل"، وكأنه سهو من الناسخ، وعجلة أخذته.
(3) في المطبوعة: "عاينوا عيسى وهو يرفع" بالزيادة، وأثبت ما في المخطوطة، فهو مستقيم.(9/374)
جواب مُجيبه منهم:"أنا"، وعاينوا تحوُّل المجيب في صورة عيسى بعقب جوابه؟ ولكن ذلك كان= إن شاء الله= على نحو ما وصف وهب بن منبه: إما أن يكون القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت الذي رفع منه من حواريه، حوَّلهم الله جميعًا في صورة عيسى حين أراد الله رفعه، فلم يثبتوا عيسى معرفةً بعينه من غيره لتشابه صور جميعهم، فقتلت اليهود منهم من قتلت وهم يُرَونه بصورة عيسى، ويحسبونه إياه، لأنهم كانوا به عارفين قبل ذلك. وظنّ الذين كانوا في البيت مع عيسى مثل الذي ظنت اليهود، لأنهم لم يميِّزوا شخصَ عيسى من شخص غيره، لتشابه شخصه وشخص غيره ممن كان معه في البيت. فاتفقوا جميعهم= يعني: اليهود والنصارى (1) = من أجل ذلك على أن المقتول كان عيسى، ولم يكن به، ولكنه شُبِّه لهم، كما قال الله جل ثناؤه:"وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم".
= أو يكون الأمر في ذلك كان على نحو ما روى عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه: أن القوم الذين كانوا مع عيسى في البيت، تفرقوا عنه قبل أن يدخل عليه اليهود، وبقي عيسى، وألقي شبهه على بعض أصحابه الذين كانوا معه في البيت بعد ما تفرق القوم غيرَ عيسى، وغيرَ الذي ألقي عليه شَبهه. ورفع عيسى، فقتل الذي تحوّل في صورة عيسى من أصحابه، وظن أصحابُه واليهود أن الذي قتل وصلب هو عيسى، لما رأوا من شبهه به، وخفاء أمر عيسى عليهم. لأن رفعه وتحوّل المقتول في صورته، كان بعد تفرق أصحابه عنه، وقد كانوا سمعوا عيسى من الليل ينعَى نفسه، ويحزن لما قد ظنَّ أنه نازل به من الموت، فحكوا ما كان عندهم حقًّا، والأمر عند الله في الحقيقة بخلاف ما حكوا. فلم يستحق الذين حكوا ذلك من حواريّيه أن يكونوا كذبة، إذ حكوا ما كان حقًّا عندهم في الظاهر، (2)
__________
(1) في المطبوعة: "أعني"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "أو حكوا"، وفي المخطوطة: "إذا حكوا"، والصواب ما أثبت.(9/375)
وإن كان الأمر كان عند الله في الحقيقة بخلاف الذي حكوا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإنّ الذين اختلفوا فيه"، اليهودَ الذين أحاطوا بعيسى وأصحابه حين أرادوا قتله. وذلك أنهم كانوا قد عرفوا عدة من في البيت قبل دخولهم، فيما ذكر. فلما دخلوا عليهم، فقدوا واحدًا منهم، فالتبس أمرُ عيسى عليهم بفقدهم واحدًا من العدَّة التي كانوا قد أحصوها، وقتلوا من قتلوا على شك منهم في أمر عيسى.
وهذا التأويل على قول من قال: لم يفارق الحواريون عيسى حتى رفع ودخل عليهم اليهود.
* * *
وأما تأويله على قول من قال: تفرَّقوا عنه من الليل، فإنه:"وإن الذين اختلفوا"، في عيسى، هل هو الذي بقي في البيت منهم بعد خروج من خرج منهم من العدَّة التي كانت فيه، أم لا؟ ="لفي شك منه"، يعني: من قتله، لأنهم كانوا أحصوا من العدّة حين دخلوا البيت أكثر ممن خرج منه ومن وجد فيه، فشكوا في الذي قتلوه: هل هو عيسى أم لا؟ من أجل فقدهم من فقدوا من العدد الذي كانوا أحصوه، ولكنهم قالوا:"قتلنا عيسى"، لمشابهة المقتول عيسى في الصورة. يقول الله جل ثناؤه:"ما لهم به من علم"، يعني: أنهم قتلوا من قتلوه على شك منهم فيه واختلافٍ، هل هو عيسى أم هو غيره؟ من غير أن يكون لهم
__________
(1) في المخطوطة: "وإن كان الأمر عند الله"، حذف"كان" الثانية، وقد أثبتها ناسخ المخطوطة في هامش النسخة.(9/376)
بمن قتلوه علم، من هو؟ هو عيسى أم هو غيره؟ ="إلا اتباع الظن"، يعني جل ثناؤه: ما كان لهم بمن قتلوه من علم، ولكنهم اتبعوا ظنهم فقتلوه، ظنًّا منهم أنه عيسى، وأنه الذي يريدون قتله، ولم يكن به="وما قتلوه يقينًا"، يقول: وما قتلوا -هذا الذي اتبعوه في المقتول الذي قتلوه وهم يحسبونه عيسى- يقينًا أنه عيسى ولا أنه غيره، ولكنهم كانوا منه على ظنّ وشبهةٍ.
* * *
وهذا كقول الرجل للرجل:"ما قتلت هذا الأمر علمًا، وما قتلته يقينًا"، إذا تكلَّم فيه بالظن على غير يقين علم. فـ"الهاء" في قوله:"وما قتلوه"، عائدة على"الظن". (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك.
10790- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وما قتلوه يقينًا"، قال: يعني لم يقتلوا ظنَّهم يقينًا.
10791- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن عبيد، عن جويبر في قوله:"وما قتلوه يقينًا"، قال: ما قتلوا ظنهم يقينًا.
* * *
وقال السدي في ذلك ما:-
10792- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما قتلوه يقينًا"، وما قتلوا أمره يقينًا أن الرجل هو عيسى،"بل رفعه الله إليه".
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 294.(9/377)
بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158)
القول في تأويل قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) }
قال أبو جعفر: أما قوله جل ثناؤه:"بل رفعه الله إليه"، فإنه يعني: بل رفع الله المسيح إليه. يقول: لم يقتلوه ولم يصلبوه، ولكن الله رفعه إليه فطهَّره من الذين كفروا.
* * *
وقد بيّنا كيف كان رفع الله إياه إليه فيما مضى، وذكرنا اختلاف المختلفين في ذلك، والصحيحَ من القول فيه بالأدلة الشاهدة على صحته، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وأما قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا"، فإنه يعني: ولم يزل الله منتقمًا من أعدائه، (2) كانتقامه من الذين أخذتهم الصاعقة بظلمهم، وكلعنه الذين قصّ قصتهم بقوله:"فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله"="حكيمًا"، يقول: ذا حكمة في تدبيره وتصريفه خلقَه في قضائه. (3) يقول: فاحذروا أيها السائلون محمدًا أن ينزل عليكم كتابًا من السماء، من حلول عقوبتي بكم، كما حل بأوائلكم الذين فعلوا فعلكم، في تكذيبهم رسلي وافترائهم على أوليائي، وقد:-
10793- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرُّؤَاسيّ، عن الأعمش، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"وكان الله عزيزًا حكيمًا"، قال: معنى ذلك: أنه كذلك. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 6: 455 - 460.
(2) انظر تفسير"عزيز" و"عزة" فيما سلف ص: 319، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) الأثر: 10793 -"محمد بن إسحاق بن أبي سارة الرؤاسي"، لم أعرف له ترجمة، ولا وجدت له ذكرًا فيما بين يدي من الكتب، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو تصحيف. وقول ابن عباس في تفسير الآية"معنى ذلك أنه كذلك"، يريد أن الله كان ولم يزل عزيزًا حكيمًا.
وعند هذا الموضع انتهى الجزء السابع من مخطوطتنا وفي آخرها ما نصه:
"نَجَز الجزء السابع من كتاب البيان، بحمد الله وعونه وحُسن توفيقه، وصلى الله عَلَى سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الحمد لله ربّ العالمين
يتلوه في أول الثامن إن شاء الله تعالى، القول في تأويل قوله:
(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ)
وكان الفراغ منه في شهر ربيع الأول سنة خمس عشرة وسبعمائة.
غفر الله لمؤلفه ولصاحبه، ولكاتبه، ولمن طالعَ فيه ودعا لهم
بالمغفرة ورضى الله تعالى والجنة، ولجميع المسلمين.
آمين، ياربّ العالمين".(9/378)
وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161)
(1) القول في تأويل قوله: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك:
فقال بعضهم: معنى ذلك:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به"، يعني: بعيسى="قبل موته"، يعني: قبل موت عيسى= يوجِّه ذلك إلى أنّ جميعهم يصدِّقون به إذا نزل لقتل الدجّال، فتصير الملل كلها واحدة، وهي ملة الإسلام الحنيفيّة، دين إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) هذا بدء الجزء الثامن من المخطوطة، وأوله:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
"رَبِّ يَسِّر برَحْمَتِك يا كَرِيم".(9/379)
*ذكر من قال ذلك:
10794- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى ابن مريم.
10795- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى.
10796- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله:"إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: ذلك عند نزول عيسى ابن مريم، لا يبقى أحدٌ من أهل الكتاب إلا ليؤمننّ به. (1)
10797- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال، قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن قال:"قبل موته"، قال: قبل أن يموت عيسى ابن مريم.
10798- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى. والله إنه الآن لحيٌّ عند الله، ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون.
10799- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، يقول: قبل موت عيسى.
10800- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى. (2)
__________
(1) الأثر: 10796 - في المخطوطة، هذا الأثر مبتور، مع جريانه في سياق الكتابة.
(2) الأثر: 10800 - هذا الأثر مكرر الذي يليه مختصرًا، وليس في المخطوطة، فأخشى أن يكون من سهو الناسخ، كتب، ثم وقف، ثم أعاد الكتابة.(9/380)
10801- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قبل موت عيسى، إذا نزل آمنت به الأديان كلها.
10802- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن الحسن قال: قبل موت عيسى.
10803- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عوف، عن الحسن:"إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال عيسى، ولم يمت بعدُ.
10804- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عمران بن عيينة، عن حصين، عن أبي مالك قال: لا يبقى أحدٌ منهم عند نزول عيسى إلا آمن به.
10805- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن أبي مالك قال: قبل موت عيسى.
10806- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: إذا نزل عيسى ابن مريم فقتل الدجال، لم يبق يهوديٌّ في الأرض إلا آمن به. قال: فذلك حين لا ينفعهم الإيمان. (1)
10807- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، يعني: أنه سيدرك أناسٌ من أهل الكتاب حين يبعث عيسى، فيؤمنون به،"ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا".
10808- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور بن زاذان، عن الحسن أنه قال في هذه الآية:"وإن من أهل
__________
(1) في المطبوعة: "وذلك حين.."، وأثبت ما في المخطوطة.(9/381)
الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"= قال أبو جعفر: أظنه إنما قال: إذا خرج عيسى آمنت به اليهود.
* * *
وقال آخرون: يعني بذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى، قبل موت الكتابي. يوجِّه ذلك إلى أنه إذا عاين علم الحق من الباطل، (1) لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسُه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه.
[ذكر من قال ذلك] : (2)
10809- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى.
10810- حدثنا ابن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا تخرج نفسه حتى يؤمن بعيسى، وإن غرق، أو تردَّى من حائط، أو أيّ ميتة كانت.
10811- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا ليؤمنن به قبل موته"، كل صاحب كتاب ليؤمنن به، بعيسى، قبل موته، موتِ صاحب الكتاب. (3)
10812- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليؤمنن به"، كل صاحب كتاب، يؤمن بعيسى =
__________
(1) في المطبوعة: "ذكر من كان يوجه ذلك ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر التعليق التالي.
(2) زدت هذه الزيادة بين القوسين، على نهج أبي جعفر في سائر تفسيره.
(3) في المخطوطة: "قبل موته صاحب صاحب كتاب"، اجتهد الناشر الأول، ولو كتب"قبل موت كل صاحب كتاب"، لكان صوابًا أيضًا.(9/382)
"قبل موته"، قبل موت صاحب الكتاب= قال ابن عباس: لو ضُربت عنقه، لم تخرج نفسُه حتى يؤمن بعيسى.
10813- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لا يموت اليهودي حتى يشهد أنّ عيسى عبد الله ورسوله، ولو عُجِّل عليه بالسِّلاح.
10814- حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: هي في قراءة أبيّ: (قبل موتهم) ، ليس يهودي يموت أبدًا حتى يؤمن بعيسى. قيل لابن عباس: أرأيت إن خرّ من فوق بيت؟ قال: يتكلم به في الهُوِيِّ. (1) فقيل: أرأيت إن ضربَ عنق أحد منهم؟ (2) قال: يُلجلج بها لسانُهُ. (3)
10815- حدثني المثنى قال، حدثني أبو نعيم الفضل بن دكين قال، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ابن مريم. قال: وإن ضُرب بالسيف، يتكلم به. قال: وإن هوى، يتكلم به وهو يَهْوِي. (4)
10816- وحدثني ابن المثنى قال، حدثني محمد بن جعفر قال، حدثنا
__________
(1) "الهوي" (بضم الهاء، وكسر الواو، والياء المشددة) ، مصدر"هوى يهوي"، إذا سقط من فوق إلى أسفل.
(2) في المطبوعة: "إن ضربت عنقه"، و"العنق" يذكر ويؤنث، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) "لجلج" أي تردد بها وأدارها على لسانه. وفي المطبوعة: "يتلجلج" بزيادة التاء، وهي بمعناها.
(4) في المطبوعة، غير ما في المخطوطة وزاد فيها، وجعل ذلك سؤالا وجوابًا، وكتب: "قيل: وإن ضرب بالسيف؟ قال: يتكلم به. قيل: وإن هوى؟ قال: يتكلم به وهو يهوي"، وأجود ذلك ما في المخطوطة.(9/383)
شعبة، عن أبي هارون الغنوي، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لو أن يهوديًّا وقع من فوق هذا البيت، لم يمت حتى يؤمن به= يعني: بعيسى. (1)
10817- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن مولى لقريش قال: سمعت عكرمة يقول: لو وقع يهوديٌّ من فوق القَصر، لم يبلغ إلى الأرض حتى يؤمن بعيسى.
10818- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم الرماني، عن مجاهد:"ليؤمنن به قبل موته"، قال: وإن وقع من فوق البيت، لا يموت حتى يؤمن به. (2)
10819- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته". قال: لا يموت رجل من أهل الكتاب حتى يؤمن به، وإن غرق، أو تردَّى، أو مات بشيء.
10820- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا تخرج نفسه حتى يؤمن به.
__________
(1) الأثر: 10816 -"أبو هارون الغنوي"، هو: "إبراهيم بن العلاء". روى عن عكرمة، وأبي مجلز، وحطان بن العلاء. وروى عنه شعبة، وحماد بن سلمة، ويزيد بن إبراهيم، ويزيد بن زريع، وابن المبارك، مترجم في الكبير 1 / 1 / 307، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 120، ولم يذكرا فيه جرحًا. وأشار إليه الحافظ ابن حجر في باب الكنى من تهذيب التهذيب، وقال: "تقدم"، ولم أجده في الأعلام، فكأن في التهذيب نقصًا.
(2) الأثر: 10818 -"أبو هاشم الرماني الواسطي"، قيل اسمه: "يحيى بن دينار" وقيل: "ابن الأسود"، وقيل: "ابن أبي الأسود"، وقيل: "ابن نافع". رأى أنسًا، وروي عن أبي وائل، وأبي مجلز، وأبي العالية، وعكرمة، وغيرهم. كان فقيهًا صدوقًا، ثقة. مترجم في التهذيب.(9/384)
10821- حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت أحدهم حتى يؤمن به= يعني: بعيسى= وإن خَرَّ من فوق بيت، يؤمن به وهو يهوِي.
10822- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال: ليس أحدٌ من اليهود يخرج من الدنيا حتى يؤمن بعيسى.
10823- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن فرات القزاز، عن الحسن في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت أحد منهم حتى يؤمن بعيسى صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت= [يعني: اليهود والنصارى] . (1)
10824- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن فرات، عن الحسن في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت أحدٌ منهم حتى يؤمن بعيسى قبل أن يموت. (2)
10825- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا الحكم بن عطية، عن محمد بن سيرين:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: موتِ الرجل من أهل الكتاب. (3)
10826- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: قال ابن عباس: ليس من يهودي [يموت] حتى يؤمن بعيسى ابن مريم. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "حتى يؤمن بعيسى، يعني اليهود والنصارى"، وأثبت ما في المخطوطة، ولكن ليس فيها: "يعني اليهود والنصارى"، فتركتها على حالها من المطبوعة، ووضعتها بين قوسين.
(2) الأثر: 10824 - هذا الأثر غير موجود في المخطوطة.
(3) الأثر: 10825 -"الحكم بن عطية العيشي". متكلم فيه، روى عن عاصم الأحول، والحسن، وابن سيرين، وروى عنه ابن المبارك، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو نعيم، وغيرهم. مترجم في التهذيب.
(4) في المطبوعة: "ليس من يهودي ولا نصراني يموت حتى يؤمن"، وفي المخطوطة: " ليس من يهودي ولا نصراني حتى يؤمن"، وضرب الناسخ على"ولا نصراني"، وليس في المخطوطة"يموت"، فتركتها على حالها من المطبوعة، ووضعتها بين قوسين.(9/385)
فقال له رجل من أصحابه: كيف، والرجل يغرق، أو يحترق، أو يسقط عليه الجدار، أو يأكله السَّبُع؟ فقال: لا تخرج روحه من جسده حتى يقذف فيه الإيمان بعيسى.
10827- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، قال: لا يموت أحد من اليهود حتى يشهد أن عيسى رسول الله= صلى الله عليه وسلم.
10828- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى، عن جويبر في قوله:"ليؤمنن به قبل موته"، قال: في قراءة أبيّ: (قبل موتهم) . (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم، قبل موت الكتابي.
*ذكر من قال ذلك:
10829- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حميد قال، قال عكرمة: لا يموت النصراني واليهوديُّ حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم= يعني في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة والصواب، قول من قال: تأويل ذلك:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى".
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جل ثناؤه حكم لكل مؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم بحكم أهل الإيمان، في الموارثة والصلاة عليه،
__________
(1) الأثر: 10828 - انظر الأثر السالف رقم: 10814.(9/386)
وإلحاق صغار أولاده بحكمه في الملة. فلو كان كل كتابيّ يؤمن بعيسى قبل موته، لوجب أن لا يرث الكتابيّ إذا مات على مِلّته إلا أولاده الصغار، أو البالغون منهم من أهل الإسلام، إن كان له ولد صغير أو بالغ مسلم. وإن لم يكن له ولد صغير ولا بالغٌ مسلم، كان ميراثه مصروفًا حيث يصرف مال المسلم يموت ولا وارث له، وأن يكون حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه وغَسْله وتقبيره. (1) لأن من مات مؤمنًا بعيسى، فقد مات مؤمنًا بمحمد وبجميع الرسل. وذلك أن عيسى صلوات الله عليه، جاء بتصديق محمد وجميع المرسلين صلوات الله عليهم، فالمصدّق بعيسى والمؤمن به، مصدق بمحمد وبجميع أنبياء الله ورسله. كما أن المؤمن بمحمد، مؤمن بعيسى وبجميع أنبياء الله ورسله. فغير جائز أن يكون مؤمنًا بعيسى من كان بمحمد مكذِّبًا.
* * *
فإن ظن ظانٌّ أنّ معنى إيمان اليهودي بعيسى الذي ذكره الله في قوله:"وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، إنما هو إقراره بأنه لله نبيٌّ مبعوث، دون تصديقه بجميع ما أتى به من عند الله= فقد ظن خطأ.
وذلك أنه غير جائز أن يكون منسوبًا إلى الإقرار بنبوّة نبي، من كان له مكذبًا في بعض ما جاء به من وحْي الله وتنزيله. بل غير جائز أن يكون منسوبًا إلا الإقرار بنبوة أحد من أنبياء الله، لأن الأنبياء جاءت الأمم بتصديق جميع أنبياء الله ورسله. فالمكذب بعض أنبياء الله فيما أتى به أمّته من عند الله، مكذِّب جميع أنبياء الله فيما دعوا إليه من دين الله عبادَ الله. وإذْ كان ذلك كذلك= وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين على أن كلَّ كتابي مات قبل إقراره بمحمد صلوات الله
__________
(1) قوله: "وتقبيره" أي دفنه حيث يدفن، وكأنه من ألفاظ الفقهاء على عهد أبي جعفر، والذي في اللغة"قبره يقبره" دفنه، و"أقبره" جعل له قبرًا. أما "قبر يقبر تقبيرًا" بهذا المعنى، فلم أجدها في معاجم اللغة.(9/387)
عليه وما جاء به من عند الله، (1) محكوم له بحكم الملّة التي كان عليها أيام حياته، (2) غيرُ منقولٍ شيء من أحكامه في نفسه وماله وولده صغارهم وكبارهم بموته، عما كان عليه في حياته= دلَّ الدليل على أن معنى قول الله: (3) "وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته"، إنما معناه: إلا ليؤمنن بعيسى قبل موت عيسى، وأن ذلك في خاصٍ من أهل الكتاب، ومعنيٌّ به أهل زمان منهم دون أهل كل الأزمنة التي كانت بعد عيسى، وأن ذلك كائن عند نزوله، كالذي:-
10830- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثني يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة: أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال: الأنبياء إخوة لعَلاتٍ، أمهاتهم شتى ودينهم واحدٌ. وإنيّ أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبيٌّ. وإنه نازلٌ، فإذا رأيتموه فاعرفوه، فإنه رجل مربُوع الخَلق، إلى الحمرة والبياض، سَبْط الشعر، كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بَلل، بين ممصَّرتين، فيدُقّ الصليب، ويقتل الخنزير، ويضع الجزية، ويفيض المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه الملل كلَّها غير الإسلام، ويهلك الله في زمانه مسيحَ الضلالة الكذابَ الدجال، وتقع الأمَنَة في الأرض في زمانه، حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الغِلمان= أو: الصبيان= بالحيات، لا يضرُّ بعضهم بعضًا. ثم يلبث في الأرض ما شاء الله= وربما قال: أربعين سنة= ثم يتوفَّى،
__________
(1) في المطبوعة: "وإذ كان ذلك كذلك كان في إجماع الجميع من أهل الإسلام على أن كل كتابي.." غير ما في المخطوطة، ليصلح الخطأ الذي وقع فيها. كما سترى في التعليق: 3.
(2) في المطبوعة: "بحكم المسألة التي كان عليها ... "، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "أدل الدليل على معنى قول الله"، والصواب يقتضي ما أثبت. وسياق العبارة: "وإذ كان ذلك كذلك، وكان الجميع من أهل الإسلام مجمعين ... دل الدليل على أن معنى قول الله ... إنما معناه ... ". فهذا هو السياق الذي يدل على صواب ما صححته في المطبوعة والمخطوطة.(9/388)
ويصلي عليه المسلمون ويدفنونه. (1)
* * *
وأما الذي قال: عنى بقوله:"ليؤمنن به قبل موته"، ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبلَ موت الكتابي - فمما لا وجه له مفهوم، لأنه= مع فساده من الوجه الذي دَللنا على فساد قول من قال:"عنى به: ليؤمنن بعيسى قبل موت الكتابي"= يزيده فسادًا أنه لم يجر لمحمد عليه السلام في الآيات التي قبلَ ذلك ذكر، فيجوز صرف"الهاء" التي في قوله:"ليؤمنن به"، إلى أنها من ذكره. وإنما قوله:"ليؤمنن به"، في سياق ذكر عيسى وأمه واليهود. فغير جائز صرف الكلام عما هو في سياقه إلى غيره، إلا بحجة يجب التسليم لها من دلالة ظاهر التنزيل، أو خبر عن الرسول تقوم به حُجَّة. فأما الدَّعاوى، فلا تتعذر على أحد.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية= إذْ كان الأمر على ما وصفنا (2) =: وما من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن بعيسى، قبل موت عيسى= وحذف"مَن" بعد"إلا"، لدلالة الكلام عليه، فاستغنى بدلالته عن إظهاره، كسائر ما قد تقدم من أمثاله التي قد أتينا على البيان عنها.
* * *
__________
(1) الأثر: 10830 - هذا الحديث، مضى برقم: 7145، من طريق ابن حميد، عن سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، بمثله، إلا بعض اختلاف يسير جدًا في لفظه. وهو حديث صحيح، خرجه أخي السيد أحمد في موضعه هناك، وأشار إلى طريق الطبري هذه في هذا الموضع، فراجعه هناك.
(2) في المطبوعة: "ما وصفت"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/389)
القول في تأويل قوله: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويوم القيامة يكون عيسى على أهل الكتاب"شهيدًا"، يعني: شاهدًا عليهم بتكذيب من كذَّبه منهم، وتصديق من صدقه منهم، فيما أتاهم به من عند الله، وبإبلاغه رسالة ربه، (1) كالذي:-
10831- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا"، أنه قد أبلغهم ما أُرسل به إليهم. (2)
10832- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويوم القيامة يكون عليهم شهيدًا"، يقول: يكون عليهم شهيدًا يوم القيامة على أنه قد بلغ رسالة ربه، وأقرّ بالعبوديّة على نفسه.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فحرَّمنا على اليهود الذين نقضوا ميثاقهم الذي واثقوا ربهم، وكفروا بآيات الله، وقتلوا أنبياءهم، وقالوا البهتان على مريم، وفعلوا ما وصفهم الله في كتابه= طيباتٍ من المآكل وغيرها، كانت لهم
__________
(1) انظر تفسير"شهيد" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "أرسله به"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/390)
حلالا عقوبة لهم بظلمهم، الذي أخبر الله عنهم في كتابه، (1) كما:-
10833- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم" الآية، عوقب القوم بظلم ظلموه وبَغْيٍ بَغَوْه، حرمت عليهم أشياء ببغيهم وبظلمهم.
* * *
وقوله:"وبصدّهم عن سبيل الله كثيرًا"، يعني: وبصدّهم عبادَ الله عن دينه وسبله التي شرعَها لعباده، صدًّا كثيرًا. (2) وكان صدُّهم عن سبيل الله: بقولهم على الله الباطل، وادعائهم أن ذلك عن الله، وتبديلهم كتاب الله، وتحريف معانيه عن وجوهه. وكان من عظيم ذلك: جحودهم نبوة نبيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم بيانَ ما قد علِموا من أمره لمن جَهِل أمره من الناس. (3)
* * *
وبنحو ذلك كان مجاهد يقول:
10834- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثني أبو عاصم قال، حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وبصدّهم عن سبيل الله كثيرًا"، قال: أنفسَهم وغيرَهم عن الحق.
10835- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقوله:"وأخذهم الربا"، وهو أخذهم ما أفضلوا على رءوس أموالهم، لفضل تأخير في الأجل بعد مَحِلِّها، وقد بينت معنى"الربا" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"هاد" فيما سلف 2: 143، 507، 508.
وتفسير"الطيبات" فيما سلف 3: 301 / 5: 555 / 6: 361 / 7: 424 / 8: 409.
(2) في المطبوعة: "التي شرحها لعبادة" وهو خطأ ظاهر.
(3) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 4: 300 / 7: 53 / 8: 482، 513 وتفسير"السبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"الربا" فيما سلف 6: 7، 8، 13، 15، 22.(9/391)
="وقد نهوا عنه" يعني: عن أخذ الربا.
* * *
وقوله:"وأكلهم أموالَ الناس بالباطل"، يعني ما كانوا يأخذون من الرُّشَى على الحكم، كما وصفهم الله به في قوله: (وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة المائدة: 62] . وكان من أكلهم أموال الناس بالباطل، ما كانوا يأخذون من أثمان الكتب التي كانوا يكتبونها بأيديهم، ثم يقولون:"هذا من عند الله"، وما أشبه ذلك من المآكل الخسيسة الخبيثة. فعاقبهم الله على جميع ذلك، بتحريمه ما حرَّم عليهم من الطيبات التي كانت لهم حلالا قبل ذلك.
وإنما وصفهم الله بأنهم أكلوا ما أكلوا من أموال الناس كذلك بالباطل، (1) لأنهم أكلوه بغير استحقاق، (2) وأخذوا أموالهم منهم بغير استيجاب.
* * *
وقوله:"وأعتدنا للكافرين منهم عذابًا أليمًا"، (3) يعني: وجعلنا للكافرين بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم من هؤلاء اليهود، (4) العذاب الأليم= وهو الموجع (5) = من عذاب جهنم عنده، (6) يصلونها في الآخرة، إذا وردوا على ربهم، فيعاقبهم بها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"أكل الأموال بالباطل" فيما سلف 3: 548 / 7: 528، 578 / 8: 216.
(2) في المطبوعة: "بأنهم أكلوه ... "، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فقوله: ... "، والصواب من المخطوطة.
(4) انظر تفسير"أعتد" فيما سلف 8: 103، 355 / 9: 353.
(5) انظر تفسير"الأليم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(6) في المطبوعة: "من عذاب جهنم عدة يصلونها ... " والصواب من المخطوطة.(9/392)
لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
القول في تأويل قوله: {لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162) }
قال أبو جعفر: هذا من الله جل ثناؤه استثناء، استثنَى من أهل الكتاب من اليهود الذين وصَف صفتهم في هذه الآيات التي مضت، من قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تُنزل عليهم كتابًا من السماء".
ثم قال جل ثناؤه لعباده، مبينًا لهم حكم من قد هداه لدينه منهم ووفقه لرشده: ما كلُّ أهل الكتاب صفتهم الصفة التي وصفت لكم،"لكن الراسخون في العلم منهم"، وهم الذين قد رَسخوا في العلم بأحكام الله التي جاءت بها أنبياؤه، وأتقنوا ذلك، وعرفوا حقيقته.
* * *
وقد بينا معنى"الرسوخ في العلم"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
="والمؤمنون" يعني: والمؤمنون بالله ورسله، هم يؤمنون بالقرآن الذي أنزل الله إليك، يا محمد، وبالكتب التي أنزلها على من قبلك من الأنبياء والرسل، ولا يسألونك كما سألك هؤلاء الجهلة منهم: (2) أن تنزل عليهم كتابًا من السماء، لأنهم قد علموا بما قرأوا من كتب الله وأتتهم به أنبياؤهم، أنك لله رسول، واجبٌ عليهم اتباعك، لا يَسعهم غير ذلك، فلا حاجة بهم إلى أن يسألوك آية معجزة ولا دلالة غير الذي قد علموا من أمرك بالعلم الراسخ في قلوبهم من إخبار أنبيائهم إياهم
__________
(1) انظر تفسير"الراسخون في العلم" فيما سلف 6: 201 - 208.
(2) في المطبوعة: "كما سأل هؤلاء"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/393)
بذلك، وبما أعطيتك من الأدلّة على نبوتك، فهم لذلك من علمهم ورسوخهم فيه، يؤمنون بك وبما أنزل إليك من الكتاب، وبما أنزل من قبلك من سائر الكتب، كما:-
10836- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، استثنى الله أُثْبِيَّةً من أهل الكتاب، (1) وكان منهم من يؤمن بالله وما أنزل عليهم، وما أنزل على نبي الله، يؤمنون به ويصدّقون، ويعلمون أنه الحق من ربهم.
* * *
ثم اختلف في"المقيمين الصلاة"، أهم الراسخون في العلم، أم هم غيرهم؟.
فقال بعضهم: هم هم.
* * *
ثم اختلف قائلو ذلك في سبب مخالفة إعرابهم إعراب"الراسخون في العلم" وهما من صفة نوع من الناس.
فقال بعضهم: ذلك غلط من الكاتب، (2) وإنما هو: لكن الراسخون في العلم منهم والمقيمون الصلاة.
*ذكر من قال ذلك:
10837- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن الزبير قال: قلت لأبان بن عثمان بن عفان: ما شأنها كتبت:
__________
(1) في المطبوعة: "ثنية"، ولا معنى لها، وفي المخطوطة كما كتبتها، ولكن أخطأ في نقطها، ووضع الألف قبلها مضطربة، كأنه شك في قراءة الكلمة.
و"الأثبية" (بضم الألف وسكون الثاء، وكسر الباء، بعدها ياء مفتوحة مشددة) و"الثبة" (بضم الثاء، وفتح الباء) : الجماعة من الناس، وجمع الأولى"أثابي" (بتشديد الياء) ، وجمع الثانية"ثبات" (بضم الثاء) و"ثبون" (بضم الثاء وكسرها) .
(2) انظر رد أبي جعفر هذه المقالة فيما سيأتي ص: 397، 398، وهو من أحكم الردود التي احتكم فيها إلى حسن التمييز.(9/394)
"لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة"؟ قال: إن الكاتب لما كتب:"لكن الراسخون في العلم منهم"، حتى إذا بلغ قال: ما أكتب؟ قيل له: اكتب:"والمقيمين الصلاة"، فكتب ما قيلَ له.
10838- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أنه سأل عائشة عن قوله:"والمقيمين الصلاة"، وعن قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ) [سورة المائدة: 69] ، وعن قوله: (إِنَّ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ) [سورة طه: 63] ، فقالت: يا ابن أختي، هذا عمل الكاتب، (1) أخطئوا في الكتاب.
* * *
وذكر أن ذلك في قراءة ابن مسعود: (والمقيمون الصلاة) .
* * *
وقال آخرون، وهو قول بعض نحويي الكوفة والبصرة:"والمقيمون الصلاة"، من صفة"الراسخين في العلم"، ولكن الكلام لما تطاول، واعترض بين"الراسخين في العلم"،"والمقيمين الصلاة" ما اعترض من الكلام فطال، نصب"المقيمين" على وجه المدح. قالوا: والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد ونعته، إذا تطاولت بمدح أو ذم، خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه أحيانًا، ثم رجعوا بآخره إلى إعراب أوله. وربما أجروا إعراب آخره على إعراب أوسطه. وربما أجروا ذلك على نوع واحد من الإعراب. واستشهدوا لقولهم ذلك بالآيات التي ذكرتها في قوله: (2) (وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي البَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ) (3) [سورة البقرة: 177] .
__________
(1) في المطبوعة: "عمل الكتاب"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(2) في المطبوعة: "بالآيات التي ذكرناها"، وهو خطأ محض، والصواب من المخطوطة، ومن مراجعة المرجع الذي أشار إليه.
(3) انظر ما سلف 3: 352-354. ثم انظر معاني القرآن الفراء 1: 105-108.(9/395)
وقال آخرون: بل"المقيمون الصلاة" من صفة غير"الراسخين في العلم" في هذا الموضع، وإن كان"الراسخون في العلم" من"المقيمين الصلاة".
* * *
وقال قائلو هذه المقالة جميعًا: موضع"المقيمين" في الإعراب، خفض.
فقال بعضهم: موضعه خفض على العطف على"ما" التي في قوله:"يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة.
* * *
ثم اختلف متأوّلو ذلك هذا التأويل في معنى الكلام. (1)
فقال بعضهم: معنى ذلك:"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، وبإقام الصلاة. قالوا: ثم ارتفع قوله:"والمؤتون الزكاة"، عطفًا على ما في"يؤمنون" من ذكر"المؤمنين"، كأنه قيل: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك، هم والمؤتون الزكاة.
* * *
وقال آخرون: بل"المقيمون الصلاة"، الملائكة. قالوا: وإقامتهم الصلاة، تسبيحهم ربَّهم، واستغفارهم لمن في الأرض. قالوا: ومعنى الكلام:"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، وبالملائكة.
* * *
وقال آخرون منهم: بل معنى ذلك:"والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، ويؤمنون بالمقيمين الصلاة، هم والمؤتون الزكاة، كما قال جل ثناؤه: (يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ) [سورة التوبة: 61] .
* * *
وأنكر قائلو هذه المقالة أن يكون:"المقيمين" منصوبًا على المدح. وقالوا: إنما تنصب العربُ على المدح من نعت من ذكرته بعد تمام خبره. قالوا: وخبر
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "متأولو ذلك في هذا التأويل"، و"في" زائدة من الناسخ بلا شك عندي.(9/396)
"الراسخين في العلم" قوله:"أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا". قال: فغير جائز نصب"المقيمين" على المدح، وهو في وسط الكلام، ولمّا يتمَّ خبر الابتداء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لكن الراسخون في العلم منهم، ومن المقيمين الصلاة. وقالوا: موضع"المقيمين"، خفض.
* * *
وقال آخرون: معناه: والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك، وإلى المقيمين الصلاة.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الوجه والذي قبله، منكرٌ عند العرب، ولا تكاد العرب تعطف بظاهر على مكنيٍّ في حال الخفض، (1) وإن كان ذلك قد جاء في بعض أشعارها. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب، أن يكون"المقيمين" في موضع خفض، نسَقًا على"ما"، التي في قوله:"بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"= وأن يوجه معنى"المقيمين الصلاة"، إلى الملائكة.
فيكون تأويل الكلام:"والمؤمنون منهم يؤمنون بما أنزل إليك"، يا محمد، من الكتاب="وبما أنزل من قبلك"، من كتبي، وبالملائكة الذين يقيمون الصلاة. ثم يرجع إلى صفة"الراسخين في العلم"، فيقول: لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون بالكتب والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر.
* * *
وإنما اخترنا هذا على غيره، لأنه قد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب (وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) ، وكذلك هو في مصحفه، فيما ذكروا. فلو كان ذلك خطأ من الكاتب، لكان الواجب أن يكون في كل المصاحف= غير مصحفنا الذي
__________
(1) في المطبوعة: "لظاهر" باللام، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 7: 519، 520.(9/397)
كتبه لنا الكاتب الذي أخطأ في كتابه= بخلاف ما هو في مصحفنا. وفي اتفاق مصحفنا ومصحف أبيّ في ذلك، ما يدل على أنّ الذي في مصحفنا من ذلك صواب غير خطأ. مع أن ذلك لو كان خطأ من جهة الخطِّ، لم يكن الذين أخذ عنهم القرآن من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلِّمون من علَّموا ذلك من المسلمين على وجه اللحن، ولأصلحوه بألسنتهم، ولقَّنوه الأمة تعليمًا على وجه الصواب. (1)
وفي نقل المسلمين جميعًا ذلك قراءةً، على ما هو به في الخط مرسومًا، أدلُّ الدليل على صحة ذلك وصوابه، وأن لا صنع في ذلك للكاتب. (2)
* * *
وأما من وجَّه ذلك إلى النصب على وجه المدح لـ"الراسخين في العلم"، = وإن كان ذلك قد يحتمل على بُعدٍ من كلام العرب، لما قد ذكرت قبل من العلة، (3) وهو أن العرب لا تعدِل عن إعراب الاسم المنعوت بنعت في نَعْته إلا بعد تمام خبره. وكلام الله جل ثناؤه أفصح الكلام، فغير جائز توجيهه إلا إلى الذي هو [أولى] به من الفصاحة. (4)
* * *
وأما توجيه من وجّه ذلك إلى العطف به على"الهاء" و"الميم" في قوله:"لكن الراسخون في العلم منهم"= أو: إلى العطف به على"الكاف" من قوله:"بما أنزل إليك"= أو: إلى"الكاف" من قوله:"وما أنزل من قبلك"، فإنه أبعد من الفصاحة من نصبه على المدح، لما قد ذكرت قبل من قُبْح ردِّ الظاهر على المكنيّ في الخفض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ولقنوه للأمة" باللام، وهو تغيير سيء قبيح.
(2) هذه الحجة التي ساقها إمامنا أبو جعفر رضي الله عنه، هي حجة فقيه بمعاني الكلام، ووجوه الرأي. وهي حجة رجل عالم محيط بأساليب العلم، عارف بما توجبه شواهد النقل، وأدلة العقل. وقد تناول ذلك جمهور من أئمتنا، ولكن لا تزال حجة أبي جعفر أقوم حجة في رد هذه الرواية التي نسبت إلى عائشة أم المؤمنين.
(3) في المطبوعة: "لما قد ذكرنا ... "؛ وأثبت ما في المخطوطة.
(4) الزيادة بين القوسين، يستوجبها السياق.(9/398)
وأما توجيه من وجه"المقيمين" إلى"الإقامة"، فإنه دعوى لا برهان عليها من دلالة ظاهر التنزيل، ولا خبر تثبت حجته. وغير جائز نقل ظاهر التنزيل إلى باطن بغير برهان.
* * *
وأما قوله:"والمؤتون الزكاة"، فإنه معطوف به على قوله:"والمؤمنون يؤمنون"، وهو من صفتهم.
* * *
وتأويله: والذين يعطون زكاة أموالهم مَن جعلها الله له وصرفها إليه="والمؤمنون بالله واليوم الآخر"، يعني: والمصدّقون بوحدانية الله وألوهته، (1) والبعث بعد الممات، والثواب والعقاب="أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا"، يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم="سنؤتيهم"، يقول: سنعطيهم="أجرًا عظيمًا"، يعني: جزاءً على ما كان منهم من طاعة الله واتباع أمره، وثوابًا عظيمًا، وذلك الجنة. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وألوهيته"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"الإيتاء" و"الأجر" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/399)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163)
القول في تأويل قوله: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا (163) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح"، إنا أرسلنا إليك، يا محمد، بالنبوة كما أرسلنا إلى نوح، وإلى سائر الأنبياء الذين سَمَّيتهم لك من بعده، والذين لم أسمِّهم لك، (1) كما:-
__________
(1) انظر تفسير"أوحى" فيما سلف 6: 405، 406.(9/399)
10839- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن منذرٍ الثوري، عن الربيع بن خُثَيم في قوله:"إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده"، قال: أوحى إليه كما أوحى إلى جميع النبيين من قبله. (1)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأن بعض اليهود لما فضحهم الله بالآيات التي أنزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم= وذلك من قوله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء"= فتلا ذلك عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا:"ما أنزل الله على بشر من شيء بعد موسى"! فأنزل الله هذه الآيات، تكذْيبًا لهم، وأخبر نبيَّه والمؤمنين به أنه قد أنزل عليه بعد موسى وعلى من سماهم في هذه الآية، وعلى آخرين لم يسمِّهم، كما:-
10840- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير= وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة= عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير= أو عكرمة، عن ابن عباس قال، قال سُكَين وعدي بن زيد: يا محمد، ما نعلم الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى! فأنزل الله في ذلك من قولهما:"إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده" إلى آخر الآيات. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 10839 -"منذر الثوري" هو"منذر بن يعلى الثوري" أبو يعلى. روى عن محمد بن علي بن أبي طالب، والربيع بن خثيم، وسعيد بن جبير، وغيرهم. روى عنه ابنه الربيع بن المنذر، والأعمش، وفطر بن خليفة وغيرهم. ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 10840 - سيرة ابن هشام 2: 211، وهو تابع الآثار التي آخرها قديمًا: 9792 وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عدي بن ثابت"، وهو خطأ بلا شك، ففي سيرة ابن هشام وغيرها"عدي بن زيد"، ولم أجد في أسماء الأعداء من يهود"عدي بن ثابت".
و"سكين بن أبي سكين"، و"عدي بن زيد" من بني قينقاع، ذكرهم ابن هشام في السيرة في الأعداء من يهود 2: 161.(9/400)
وقال آخرون: بل قالوا= لما أنزل الله الآيات التي قبل هذه في ذكرهم=:"ما أنزل الله على بشر من شيء، ولا على موسى، ولا على عيسى"! فأنزل الله جل ثناؤه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ، [سورة الأنعام: 91] ، ولا على موسى ولا على عيسى.
*ذكر من قال ذلك:
10841- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا أبو معشر، عن محمد بن كعب القرظي قال: أنزل الله:"يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابًا من السماء" إلى قوله:"وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا"، فلما تلاها عليهم= يعني: على اليهود= وأخبرهم بأعمالهم الخبيثة، جحدوا كل ما أنزل الله، وقالوا:"ما أنزل الله على بشر من شيء، ولا على موسى ولا على عيسى!! وما أنزل الله على نبي من شيء"! قال: فحلَّ حُبْوَته وقال: (1) ولا على أحد!! فأنزل الله جل ثناؤه: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الأنعام: 91]
* * *
وأما قوله:"وآتينا داود زبورًا"، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قرأة أمصار الإسلام، غير نفر من قرأة الكوفة: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) ، بفتح"الزاي" على التوحيد، بمعنى: وآتينا داود الكتاب المسمى"زبورًا".
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زُبُورًا) ، بضم"الزاي" جمع"زَبْرٍ".
كأنهم وجهوا تأويله: وآتينا داود كتبًا وصحفًا مَزْبورة.
* * *
__________
(1) "الحبوة" (بضم الحاء وفتحها، وسكون الباء) : الثوب الذي يحتبى به. و"الاحتباء": أن يضم الإنسان رجليه إلى بطنه بثوب يجمعهما به مع ظهره، ويشده عليها. وقد يكون"الاحتباء" باليدين عوض الثوب.(9/401)
وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164)
= من قولهم:"زَبَرت الكتاب أزْبُره زَبْرًا" و"ذَبُرته أذْبُره ذَبْرًا"، إذا كتبته. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب عندنا، قراءة من قرأ: (وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا) ، بفتح"الزاي"، على أنه اسم الكتاب الذي أوتيه داود، كما سمى الكتاب الذي أوتيه موسى"التوراة"، والذي أوتيه عيسى"الإنجيل"، والذي أوتيه محمد"الفرقان"، لأن ذلك هو الاسم المعروف به ما أوتي داود. وإنما تقول العرب:"زَبُور داود"، بذلك تعرف كتابَه سائرُ الأمم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَرُسُلا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنا أوحينا إليك، كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل قد قصصناهم عليك، ورسل لم نقصصهم عليك.
* * *
فلعل قائلا يقول: فإذ كان ذلك معناه، فما بال قوله:"ورسلا" منصوبًا غير مخفوض؟ قيل: نصب ذلك إذ لم تعد عليه"إلى" التي خفضت الأسماء قبله، وكانت الأسماء قبلها، وإن كانت مخفوضة، فإنها في معنى النصب. لأن معنى الكلام: إنا أرسلناك رسولا كما أرسلنا نوحًا والنبيين من بعده، فعُطفت"الرسل" على معنى الأسماء قبلها في الإعراب، لانقطاعها عنها دون ألفاظها، إذ لم يعد عليها ما خفضها، كما قال الشاعر. (2)
__________
(1) انظر تفسير"الزبور" فيما سلف 7: 450، 451، وبين هنا ما أجمله هناك، وهذا من ضروب اختصاره التفسير.
(2) لم أعرف قائله.(9/402)
لَوْ جِئْتَ بِالْخُبْزِ لَهُ مُنَشَّرَا ... وَالْبَيْضَ مَطْبُوخًا مَعًا والسُّكَّرَا ... لَمْ يُرْضِهِ ذلِكَ حَتَّى يَسْكَرَا (1)
* * *
وقد يحتمل أن يكون نصب"الرسل"، لتعلق"الواو" بالفعل، بمعنى: وقصصنا رسلا عليك من قبل، كما قال جل ثناؤه: (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [سورة الإنسان: 31] . (2)
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبيّ (ورسل قد قصصناهم عليك من قبل ورسل لم نقصصهم عليك) ، فرفعُ ذلك، إذ قرئ كذلك، بعائد الذكر في قوله:"قصصناهم عليك". (3)
* * *
وأما قوله:"وكلم الله موسى تكليمًا"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وخاطب الله بكلامه موسى خطابًا، وقد:-
10842- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا نوح بن أبي مريم، وسئل: كيف كلم الله موسى تكليمًا؟ فقال: مشافهة. (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "لو جيت لنا بالخير مبشرًا"، وهو فاسد جدًا، والصواب ما في المطبوعة. وقوله: "منشرًا" أي مبسوطًا بسطًا، كما يبسط الثوب، كأنه يعني الرقاق بعضه على بعض.
(2) قد بين أبو جعفر ذلك في تفسير"سورة الإنسان" 29: 140 (بولاق) فقال: و"نصب (الظالمين) لأن الواو ظرف ل"أعد". والمعنى: وأعد للظالمين عذابًا أليمًا".
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 295.
(4) الأثر: 10842 -"نوح بن أبي مريم"، أبو عصمة القرشي، قاضي مرو. كان أبوه مجوسيًا ويقال له: "نوح الجامع"، وسمي"الجامع"، لأنه أخذ الفقه عن أبي حنيفة وابن أبي ليلى، والحديث عن حجاج بن أرطاة وطبقته، والتفسير عن الكلبي ومقاتل، والمغازي عن ابن إسحاق، وكان مع ذلك عالمًا بأمور الدنيا. وكان شديدًا على الجهمية والرد عليهم، تعلم منه نعيم بن حماد الرد على الجهمية. ولكنه كان مع ذلك كله ذاهب الحديث، ليس بثقة، لا يجوز الاحتجاج به. وقال ابن حبان: "نوح الجامع: جمع كل شيء إلا الصدق"!! مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 111، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 484.
وفي المخطوطة إشكال، وذلك أن فيها: "نوح بن أبي هند"، واضحة الكتابة جدًا، ولكني لم أجد"نوح بن أبي هند"، ولم أستطع أن أجد له تصحيفًا أو تحريفًا. فأبقيت ما في المطبوعة على حاله، وأثبت هذا الذي في المخطوطة، عسى أن أوفق بعد إلى الصواب في هذا الإسناد.(9/403)
وقد:-
10843- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن مبارك، عن معمر ويونس، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قال، أخبرني جزى بن جابر الخثعمي قال: سمعت كعبًا يقول: إن الله جل ثناؤه لما كلم موسى، كلمه بالألسنة كلها قبل كلامه= يعني: كلام موسى= فجعل يقول: يا رب، لا أفهم! حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة، فقال: يا رب هكذا كلامك؟ قال: لا ولو سمعت كلامي= أي: على وجهه= لم تك شيئًا!
= قال ابن وكيع: قال أبو أسامة (!!) : وزادني أبو بكر الصغاني في هذا الحديث أن موسى قال: يا رب، هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشدُّ ما تسمع الناسُ من الصواعق. (1)
__________
(1) الأثر: 10843 -"أبو أسامة"، هو: "حماد بن زيد بن أسامة" مضى برقم: 5265، والاختلاف في اسمه. و"أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام"، مضت ترجمته رقم: 2351، 7820.
و"جزى بن جابر الخثعمي"، ترجم له البخاري في الكبير 1 / 2 / 254، 255، باسم"جرز بن جابر الخثعمي" وقال: "قاله أبو اليمان، عن شعيب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن". ثم قال: "وقال عبد الرزاق، عن معمر: جريز بن جابر الخثعمي" [قلت: الصواب"جزى"، كما في مخطوطة الطبري، وكما نص عليه ابن أبي حاتم كما سيأتي] . ثم قال البخاري: "وقال يونس وابن أخي الزهري والزبيدي: جزء". ثم قال أيضًا: "وقال إسماعيل، عن أخيه سليمان عن ابن أبي عتيق: جرو بن جابر" [قلت: وهو الإسناد الآتي رقم: 10846] .
أما ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1 / 1 / 546، 547، فقد ترجم له باسم: "جزء بن جابر الخثعمي"، وقال: "في رواية شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري"، فدل هذا على أن ترجمة البخاري له، جائز أن تكون باسم"جزء بن جابر"، بل أرجح أن ذلك هو الصواب إن شاء الله.
ثم قال ابن أبي حاتم: "وفي رواية معمر: جزى بن جابر، وهو وهم تابعه عليه الزبيدي"، فوافق البخاري في رواية معمر، وخالفه في متابعة الزبيدي، فإن البخاري قال عنه في روايته"جزء". ثم قال أيضًا: "ويقال: حزن بن جابر" سمعت أبي يقول ذلك"، وأخشى أن يكون في نسخة ابن أبي حاتم تحريف، وأن يكون صوابها كما في البخاري: "جرو" بالراء، أو "جزو" بالزاي. وكل هذا مشكل لا يهتدي فيه إلى اليقين، إنما هو النقل. ثم انظر الآثار من رقم: 10845 - 10847.
وكان في المطبوعة: "جزء من جابر"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب الذي يدل عليه كلام البخاري وابن أبي حاتم، لأن هذه هي رواية معمر.
ثم يأتي إشكال آخر، ففي المخطوطة: "قال ابن كعب، قال أبو أسامة، وزادني أبو بكر الصغاني ... ".
أما "ابن كعب"، فخطأ ظاهر لا شك فيه، إنما هو كما في المطبوعة: "ابن وكيع"، وسها الناسخ، لذكر"كعب الأحبار" في الخبر، فضللته الكافات في"وكيع" و"كعب" حتى نسي فكتب"ابن كعب".
وأما الإشكال، فإن"أبا بكر الصغاني"، هو"محمد بن إسحاق بن جعفر" الحافظ الرحلة، وهو شيخ الطبري، مضت روايته عنه في مواضع، انظر رقم: 4074، وفيها ترجمته، ورقم: 4330 وروى عنه في المنتخب من ذيل المذيل (الملحق بتاريخه) ص: 104، كما أشرت إليه. ولا شك في أن"أبا أسامة حماد بن زيد"، لم يرو عنه قط. فواضح أن القائل: "وزادني أبو بكر الصغاني" هو أبو جعفر محمد بن جرير نفسه.
وإذن، فما قوله: "قال ابن وكيع، قال أبو أسامة"؟ لا أدري على التحقيق، فإما أن يكون سقط من الناسخ شيء. وإما أن يكون المملي (أبو جعفر، أو غيره) ، أراد أن ينتقل إلى الإسناد التالي رقم: 10844، فأملى صدر الإسناد، ثم عاد لما فاته من تتمة كلام أبي جعفر في الخبر 10843، وهو قوله: "وزادني أبو بكر الصغاني"، ولم ينتبه الكاتب عنه لما وقع فيه المملي من التردد. هذا غاية ما أجد من تفسير ذلك. هذا، والمخطوطة لا يعتمد عليها في هذا الموضع كل الاعتماد، لأن فيها خرمًا أو حذفًا كما سترى في الأسانيد: 10845 - 10847، ولله وحده العلم. وكتبه: محمود محمد شاكر.
وقد كان في المطبوعة: "أشد ما تسمع"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/404)
10844- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر قال، سمعت محمد بن كعب القرظي يقول: سئل موسى: ما شبهت كلام ربك مما خلق؟ فقال موسى: الرعد الساكب. (1)
10845- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا عبد الله بن وهب
__________
(1) الأثر: 10844 -"عمر بن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"، مضى برقم: 7819. وقد كان في المخطوطة: " ... عبد الله بن عمرو"، وهو خطأ بين.
وقوله: "الرعد الساكب"، هكذا قرأتها، وفي المخطوطة والمطبوعة: "الرعد الساكن" بالنون في آخره، ولست أجد لها معنى يعقل. أما "الساكب"، فإنه الوصف المعقول في صفة شدة صوت الرعد، وذلك تتابعه وانسياحه. وفي الحديث: "فإذا سكب المؤذن بالأولى من صلاة الفجر، قام فركع ركعتين خفيفتين"، وذلك صفة المؤذن إذا أذن، فأطال في أذانه وردده ورجعه، وأصله من"سكب الماء"، ثم استعير"السكب" للإفاضة في الكلام أو غيره من الأصوات، كما يقال: "أفرغ في أذني حديثًا"، أي: ألقى وصب.(9/405)
قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، أخبرني أبو بكر بن عبد الرحمن: أنه أخبره عن جزء بن جابر الخثعمي قال: لما كلّم الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه، فطفق يقول: والله يا رب، ما أفقه هذا!! حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة بمثل صوته، فقال موسى: يا ربِّ هذا كلامك؟ قال: لا. قال: هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشد ما يسمع الناس من الصواعق. (1)
10846- حدثني أبو يونس المكي قال، حدثنا ابن أبي أويس قال، أخبرني أخي، عن سليمان، عن محمد بن أبي عتيق، عن ابن شهاب، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام: أنه أخبره جزء بن جابر الخثعمي: أنه سمع [كعب] الأحبار يقول: لما كلم الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه، فطفق موسى يقول: أي رب، والله ما أفقه هذا!! حتى كلمه آخر الألسنة بلسانه بمثل صوته، فقال موسى: أي رب، أهكذا كلامك؟ فقال: لو كلمتك بكلامي لم تكن شيئًا! قال: أي رب، هل في خلقك شيء يشبه كلامك؟ فقال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشدّ ما يسمع من الصواعق. (2)
__________
(1) الأثر: 10845 -"جزء بن جابر الخثعمي"، هذا هو الصواب، لأنه رواية يونس عن ابن شهاب الزهري، التي أشار إليها البخاري، كما أثبته في التعليق على الأثر رقم: 10843.
(2) الأثر: 10846 -"أبو يونس المكي" شيخ الطبري، لم أعرفه، ولم أجده، ولم تمر بي قبل ذلك له رواية عنه.
و"ابن أبي أويس" هو: "إسماعيل عبد الله بن أويس بن مالك الأصبحي" مضت ترجمته برقم: 45.
و"أخوه" هو: "أبو بكر: عبد الرحمن بن عبد الله بن أويس"، مضى أيضًا برقم: 45.
و"سليمان"، هو: "سليمان بن بلال التيمي القرشي". مضى برقم: 4333، 4923.
و"ابن أبي عتيق" أو "محمد بن أبي عتيق"، هو: "محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق"، مضت ترجمته برقم: 4923، 10317.
وهذا هو الإسناد الذي أشار إليه البخاري، كما ذكرت في التعليق على الأثر رقم: 10843، وأن روايته فيه"جرو بن جابر"، وذكره ابن أبي حاتم أيضًا، فانظر ما قلت فيه هناك.
وكان في المطبوعة هنا: "أنه سمع الأحبار تقول"، ولكن تدل الروايات السالفة والآتية، وما أشار إليه البخاري وابن أبي حاتم، أن صواب ذلك"كعب الأحبار"، فزدت"كعب" بين القوسين، وهو الصواب المحض إن شاء الله.(9/406)
رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
10847- حدثنا ابن عبد الرحيم قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا زهير، عن يحيى، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، عن جزء بن جابر: أنه سمع كعبًا يقول: لما كلم الله موسى بالألسنة قبل لسانه، طفق موسى يقول: أي رب، إني لا أفقه هذا!! حتى كلمه الله آخر الألسنة بمثل لسانه، فقال موسى: أي رب، هذا كلامك؟ قال الله: لو كلمتك بكلامي لم تكن شيئًا! قال، يا رب، فهل من خلقك شيء يشبه كلامك؟ قال: لا وأقرب خلقي شبهًا بكلامي، أشدُّ ما يسمع من الصواعق. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {رُسُلا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده، ومن ذكر من الرسل (2) ="رسلا"، فنصب"الرسل" على القطع من أسماء الأنبياء الذين ذكر أسماءهم (3) ="مبشرين"، يقول: أرسلتهم رسلا إلى خلقي وعبادي، مبشرين بثوابي من أطاعني واتبع أمري وصدَّق رسلي، ومنذرين
__________
(1) الأثر: 10847 - هذا إسناد لم يشر إليه البخاري، ولا ابن أبي حاتم. هذا، والأخبار الثلاثة الأخيرة من رقم: 10845 - 10847، ليست في المخطوطة. فكأن الناسخ قد اختصر في كتابه.
ومهما يكن من أمر هذا الخبر، فإن صفة ربنا تعالى وتقدست أسماؤه، مما لا يؤخذ عن كعب الأحبار وأشباهه، بل الأمر فيها لله وحده، هو كما يثني على نفسه، وكما بلغ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا كعب الأحبار ومن لف لفه.
(2) في المخطوطة: "ومن ذكر الرسل"، بإسقاط"من"، والصواب ما في المطبوعة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فنصب به الرسل"، بزيادة"به"، والصواب حذفها. انظر معنى"القطع" فيما سلف من فهارس المصطلحات.(9/407)
عقابي من عصاني وخالف أمري وكذب رسلي="لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"، يقول: أرسلت رسلي إلى عبادي مبشرين ومنذرين، لئلا يحتجّ من كفر بي وعبد الأنداد من دوني، أو ضل عن سبيلي بأن يقول إن أردتُ عقابه: (لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى) [سورة طه: 134] . فقطع حجة كلّ مبطل ألحدَ في توحيده وخالف أمره، بجميع معاني الحجج القاطعة عذرَه، إعذارًا منه بذلك إليهم، لتكون لله الحجة البالغة عليهم وعلى جميع خلقه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10849- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل"، فيقولوا: ما أرسلت إلينا رسلا.
* * *
="وكان الله عزيزًا حكيمًا"، يقول: ولم يزل الله ذا عِزة في انتقامه ممن انتقم [منه] من خلقه، (1) على كفره به، ومعصيته إياه، بعد تثبيته حجَّتَه عليه برسله وأدلَّتَه="حكيمًا"، في تدبيره فيهم ما دبّره. (2)
* * *
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.
(2) انظر تفسير"عزيز" فيما سلف: ص408، تعليق: 2، والمراجع هناك= وتفسير"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/408)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)
القول في تأويل قوله: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزلَ إِلَيْكَ أَنزلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن يكفر بالذي أوحينا إليك، يا محمد، اليهود الذين سألوك أن تنزل عليهم كتابًا من السماء، وقالوا لك:"ما أنزل الله على بشر من شيء" فكذبوك، فقد كذبوا. ما الأمر كما قالوا: لكن الله يشهد بتنزيله إليك ما أنزل من كتابه ووحيه، أنزل ذلك إليك بعلم منه بأنك خِيرَته من خلقه، وصفِيُّه من عباده، ويشهد لك بذلك ملائكته، فلا يحزنك تكذيبُ من كذَّبك، وخلافُ من خالفك="وكفى بالله شهيدًا"، يقول: وحسبك بالله شاهدًا على صدقك دون ما سواه من خلقه، فإنه إذا شهد لك بالصدق ربك، لم يَضِرْك تكذيب من كذَّبك.
وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في قوم من اليهود، دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى اتباعه، وأخبرهم أنهم يعلمون حقيقة نبوّته، فجحدوا نبوَّته وأنكروا معرفته.
ذكر الخبر بذلك:
10850- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير= أو عكرمة= عن ابن عباس قال: دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من يهود، فقال لهم: إني والله أعلم إنكم لتعلمون أنيّ رسول الله! فقالوا: ما نعلم ذلك! فأنزل الله:"لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدًا".
10851- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة وسعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم عِصابة من اليهود، ثم ذكر نحوه. (1)
__________
(1) الأثران: 10850، 10851 - سيرة ابن هشام 2: 211 مع اختلاف في لفظه، وهو تابع الأثر السالف رقم: 10840.(9/409)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167)
10852- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدًا"، شهودٌ والله غير مُتَّهمة.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالا بَعِيدًا (167) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين جحدوا، يا محمد، نبوتك بعد علمهم بها، من أهل الكتاب الذين اقتصصت عليك قصتهم، وأنكروا أن يكون الله جل ثناؤه أوحى إليك كتابه="وصدوا عن سبيل الله"، يعني: عن الدين الذي بعثَك الله به إلى خلقه، وهو الإسلام. وكان صدهم عنه، قِيلُهم للناس الذين يسألونهم عن محمد من أهل الشرك:"ما نجد صفة محمد في كتابنا! "، وادعاءهم أنهم عُهِد إليهم أن النبوّة لا تكون إلا في ولد هارون ومن ذرية داود، وما أشبه ذلك من الأمور التي كانوا يثبِّطون الناس بها عن اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم والتصديق به وبما جاء به من عند الله.
* * *
وقوله:"قد ضلُّوا ضلالا بعيدًا"، يعني: قد جاروا عن قصد الطريق جورًا شديدًا، وزالوا عن المحجّة. (1)
وإنما يعني جل ثناؤه بجورهم عن المحجة وضلالهم عنها، إخطاءَهم دين الله الذي ارتضاه لعباده، وابتعث به رسله. يقول: من جحد رسالة محمد صلى الله
__________
(1) انظر تفسير"الصد" فيما سلف ص: 391، تعليق: 3، والمراجع هناك. وانظر تفسير"سبيل الله" في فهارس اللغة.(9/410)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169)
عليه وسلم، وصدَّ عما بُعث به من الملة من قَبِل منه، فقد ضلّ فذهب عن الدين الذي هو دين الله الذي ابتعث به أنبياءه، ضلالا بعيدًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين جحدوا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، فكفروا بالله بجحود ذلك، وظلموا بمُقامهم على الكفر على علم منهم، بظلمهم عبادَ الله، وحسدًا للعرب، وبغيًا على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم="لم يكن الله ليغفر لهم"، يعني: لم يكن الله ليعفو عن ذنوبهم بتركه عقوبتهم عليها، ولكنه يفضحهم بها بعقوبته إياهم عليها (2) ="ولا ليهديهم طريقًا"، يقول: ولم يكن الله تعالى ذكره ليهدي هؤلاء الذين كفروا وظلموا، الذين وصفنا صفتهم، فيوفقهم لطريق من الطرق التي ينالون بها ثوابَ الله، ويصلون بلزومهم إياه إلى الجنة، ولكنه يخذلهم عن ذلك، حتى يسلكوا طريق جهنم. وإنما كنى بذكر"الطريق" عن الدين. وإنما معنى الكلام: لم يكن الله ليوفقهم للإسلام، ولكنه يخذلهم عنه إلى"طريق جهنم"، وهو الكفر، يعني: حتى يكفروا بالله ورسله، فيدخلوا جهنم="خالدين فيها أبدًا"، يقول: مقيمين فيها أبدًا="وكان ذلك على الله يسيرًا"، يقول: وكان تخليدُ هؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم في جهنم،
__________
(1) انظر تفسير"ضل ضلالا بعيدًا" فيما سلف ص: 314، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "إياهم عليهم"، والصواب من المخطوطة.(9/411)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
على الله يسيرًا، لأنه لا يقدر من أراد ذلك به على الامتناع منه، ولا له أحد يمنعه منه، ولا يستصعب عليه ما أراد فعله به من ذلك، وكان ذلك على الله يسيرًا، لأن الخلق خلقُه، والأمرَ أمرُه.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"يا أيها الناس"، مشركي العرب، وسائرَ أصناف الكفر="قد جاءكم الرسول"، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم، قد جاءكم="بالحق من ربكم"، يقول: بالإسلام الذي ارتضاه الله لعباده دينًا، يقول:="من ربكم"، يعني: من عند ربكم (1) ="فآمنوا خيرًا لكم"، يقول: فصدِّقوه وصدّقوا بما جاءكم به من عند ربكم من الدين، فإن الإيمان بذلك خير لكم من الكفر به="وإن تكفروا"، يقول: وإن تجحدوا رسالتَه وتكذّبوا به وبما جاءكم به من عند ربكم، فإن جحودكم ذلك وتكذيبكم به، لن يضرَّ غيركم، وإنما مكروهُ ذلك عائدٌ عليكم، دون الذي أمركم بالذي بعث به إليكم رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، (2) وذلك أن لله ما في السموات والأرض، ملكًا وخلقًا، لا ينقص كفركم بما كفرتم به من أمره، وعصيانكم إياه فيما عصيتموه فيه، من ملكه وسلطانه شيئًا (3) ="وكان الله عليمًا حكيمًا"، يقول:"وكان الله عليمًا"، بما
__________
(1) انظر تفسير"من ربكم" بمثله، فيما سلف 6: 440.
(2) في المطبوعة: "دون الله الذي أمركم ... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) السياق: لا ينقص كفركم ... من ملكه وسلطانه شيئًا".(9/412)
أنتم صائرون إليه من طاعته فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، ومعصيته في ذلك، على علم منه بذلك منكم، أمركم ونهاكم (1) ="حكيمًا" يعني: حكيمًا في أمره إياكم بما أمركم به، وفي نهيه إياكم عما نهاكم عنه، وفي غير ذلك من تدبيره فيكم وفي غيركم من خلقه. (2)
* * *
واختلف أهل العربية في المعنى الذي من أجله نصب قوله:"خيرًا لكم".
فقال بعض نحويي الكوفة: نصب"خيرًا" على الخروج مما قبله من الكلام، (3) لأن ما قبله من الكلام قد تمَّ، وذلك قوله:"فآمنوا". وقال: قد سمعت العرب تفعل ذلك في كل خبر كان تامًّا، ثم اتصل به كلام بعد تمامه، على نحو اتصال"خير" بما قبله. فتقول:"لتقومن خيرًا لك" و"لو فعلت ذلك خيرًا لك"، و"اتق الله خيرًا لك". قال: وأما إذا كان الكلام ناقصًا، فلا يكون إلا بالرفع، كقولك:"إن تتق الله خير لك"، و (وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ) [سورة النساء: 25] .
* * *
وقال آخر منهم: جاء النصب في"خير"، لأن أصل الكلام: فآمنوا هو خيرٌ لكم، فلما سقط"هو"، الذي [هو كناية] ومصدرٌ، (4) اتّصل الكلام بما قبله، والذي قبله معرفة، و"خير" نكرة، فانتصب لاتصاله بالمعرفة لأن الإضمار من الفعل"قم فالقيام خير لك"، (5) و"لا تقم فترك القيام خير لك". فلما سقط اتصل
__________
(1) في المطبوعة: "وعلى علم ... " بزيادة الواو، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر"الخروج" فيما سلف من فهارس المصطلحات.
(4) في المطبوعة: "الذي هو مصدر"، وفي المخطوطة"الذي مصدر"، ورجحت أن الصواب ما أثبت، لأن تأويل الكلام، على مذهبه هذا: فالإيمان خير لكم، فالضمير"هو" كناية عن"الإيمان"، وهو مصدر.
(5) أخشى أن يكون سقط قبل قوله: "لأن الإضمار من الفعل: "قم فالقيام خير لك ... " إلى آخر الكلام، ما يصلح أن يكون هذا تابعًا له، كأنه ضرب مثلين هما: "قم خير لك" و"لا تقم خير لك". ومع ذلك فقد تركت الكلام على حاله، ووضعت بينه نقطًا للدلالة على ذلك....(9/413)
بالأول. وقال: ألا ترى أنك ترى الكناية عن الأمر تصلح قبل الخبر، فتقول للرجل:"اتق الله هو خير لك"، أي: الاتقاء خير لك. وقال: ليس نصبه على إضمار"يكن"، لأن ذلك يأتي بقياس يُبْطل هذا. ألا ترى أنك تقول:"اتق الله تكن محسنًا"، ولا يجوز أن تقول:"اتق الله محسنًا"، وأنت تضمر"كان"، ولا يصلح أن تقول:"انصرنا أخانا"، وأنت تريد:"تكن أخانا"؟ (1) وزعم قائل هذا القول أنه لا يجيز ذلك إلا في"أفعل" خاصة، (2) فتقول:"افعل هذا خيرًا لك"، و"لا تفعل هذا خيرًا لك"، و"أفضل لك".، ولا تقول:"صلاحًا لك". وزعم أنه إنما قيل مع"أفعل"، لأن"أفعل" يدل على أن هذا أصلح من ذلك.
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: نصب"خيرًا"، لأنه حين قال لهم:"آمنوا"، أمرهم بما هو خيرٌ لهم، فكأنه قال: اعملوا خيرًا لكم، وكذلك: (انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) [سورة النساء: 171] . قال: وهذا إنما يكون في الأمر والنهي خاصة، ولا يكون في الخبر= لا تقول:"أن أنتهي خيرًا لي"؟ (3) ولكن يرفع على كلامين، لأن الأمر والنهي يضمر فيهما= فكأنك أخرجته من شيء إلى شيء، لأنك حين قلت له:"انته"، (4) كأنك قلت له:"اخرج من ذا، وادخل في آخر"، (5) واستشهد بقول الشاعر عمر بن أبي ربيعة:
__________
(1) من أول قوله: "ألا ترى أنك ترى الكناية ... " إلى هذا الموضع، هو نص كلام الفراء في معاني القرآن 1: 295، 296. فظاهر إذن أن هذه مقالة الفراء، ما قبل هذا، وما بعده. إلا أني لم أجده في هذا الموضع من معاني القرآن، فلعل أبا جعفر جمعه من كتابه في مواضع أخر، عسى أن أهتدي إليها فأشير إليها بعد.
(2) في المخطوطة: "أفعال خاصة"، وهو خطأ ظاهر.
(3) في المطبوعة: "أنا أنتهي" والصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "اتقه" بالقاف، والصواب"انته"، لأن المثال قبله: "أن أنتهي خيرًا لي".
(5) في المخطوطة"وأخرج في آخر"، خطأ ظاهر.
وهذا القول الذي ذكره هو قول سيبويه في الكتاب 1: 143، وبسط القول فيه، واختصره أبو جعفر.(9/414)
فَوَاعِدِيهِ سَرْحَتَيْ مَالِكٍ ... أوِ الرُّبَى بَيْنَهُمَا أَسْهَلا (1)
كما تقول:"واعديه خيرًا لك". قال: وقد سمعت نصبَ هذا في الخبر، تقول العرب:"آتي البيت خيرًا لي، وأتركه خيرًا لي"، وهو على ما فسرت لك في الأمر والنهي. (2)
وقال آخر منهم: نصب"خيرًا"، بفعل مضمر، واكتفى من ذلك المضمر بقوله: (3) "لا تفعل هذا" أو"افعل الخير"، وأجازه في غير"أفعل"، فقال:"لا تفعل ذاك صلاحًا لك".
* * *
وقال آخر منهم: نصب"خيرًا" على ضمير جواب"يكن خيرًا لكم". (4) وقال: كذلك كل أمر ونهي. (5)
* * *
__________
(1) ديوانه: 131، سيبويه 1: 143، الخزانة 1: 280 وغيرها كثير، وبعد البيت: وَلْيِأْتِ إِنْ جَاءَ عَلَى بَغْلَةٍ ... إِنِّي أَخَافُ الْمُهْرَ أَنْ يَصْهَلا!
وقوله: "أسهلا"، أي: ائت أسهل الأمرين عليك. هذا تفسيره على مقالة سيبويه.
(2) هذا تمام كلام سيبويه، ولكن أعياني أن أجد مكانه في الكتاب.
(3) في المطبوعة: "كقوله: لا تفعل هذا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) قوله: "ضمير" هو، الإضمار، مصدر - لا بمعنى مضمر في اصطلاح سائر النحاة. وانظر ما سلف 1: 427، تعليق: 1 / 2: 107، تعليق: 1 / 8: 273، تعليق: 1.
(5) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 143.(9/415)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلا الْحَقَّ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أهل الكتاب"، يا أهل الإنجيل من النصارى="لا تغلوا في دينكم"، يقول: لا تجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه، ولا تقولوا في عيسى غير الحق، فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله، قول منكم(9/415)
على الله غير الحق. لأن الله لم يتخذ ولدًا فيكون عيسى أو غيره من خلقه له ابنًا="ولا تقولوا على الله إلا الحق".
* * *
وأصل"الغلو"، في كل شيء مجاوزة حده الذي هو حدّه. يقال منه في الدين:"قد غلا فهو يغلو غلوًّا"، و"غَلا بالجارية عظمها ولحمها"، إذا أسرعت الشباب فجاوزت لِدَاتها="يغلو بها غُلُوًّا، وغَلاءً"، ومن ذلك قول الحارث بن خالد المخزومي:
خُمْصَانَةٌ قَلِقٌ مُوَشَّحُها ... رُؤْدُ الشَّبَابِ غَلا بِهَا عَظْمُ (1)
* * *
وقد:-
10853- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
__________
(1) الأغاني 9: 226، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 143، اللسان (غلا) . وفي الأغاني"علا" بالعين المهملة، وهو خطأ يصحح.
وقد مضى بيت من هذه القصيدة في 1: 116، تعليق: 3، وذكرت خبرها هناك، وهو من أبيات يذكر فيها صاحبته وما مضى من أيامه وأيامها: إِذْ وُدُّهَا صَافٍ، وَرُؤْيَتُهَا ... أُمْنِيّةٌ، وَكَلامُهَا غُنْمُ
لَفَّاءُ مَمْلُوءُ مُخَلْخَلُهَا ... عَجْزاءُ لَيْسَ لِعَظْمِهَا حَجْمُ
خُمْصَانَةٌ................ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَكَأَنَّ غَالِيَةً تُبَاشِرُها ... تَحْتَ الثِّيَابِ، إِذَا صَغَا النَّجْمُ
وهو شعر جيد، وصفة حسنة للمرأة."لفاء"، ملتفة الفخذين، مكتنز لحمها، وهو حسن في النساء، قبيح في الرجال."مملوء مخلخلها"، موضع خلخالها، خفيت عظامها تحت اللحم، وهو صفة حسنة، لم تظهر عظامها كأنها دقت بالمسامير."عجزاء": حسنة العجيزة."خمصانة" (بفتح الخاء وضمها) : ضامرة البطن."قلق موشحها"، قد استوى خلقها، فالوشاح يجول عليها من ضمورها، لم يمتلئ لحمًا يجعلها لحمة واحدة!! "رؤد الشباب": شابة حسنة تهتز من النعمة وإشراق اللون. و"الغالية": ضرب من الطيب."صغا النجم": مال للمغيب، وذلك في مطلع الفجر، حين تتغير أفواه البشر وأبدانهم، وتظهر لها رائحة لا تستحب. وقل في الناس من يكون بهذه الصفة!!(9/416)
عن أبيه، عن الربيع قال: صاروا فريقين: فريق غلَوا في الدين، فكان غلوهم فيه الشك فيه والرغبة عنه، وفريق منهم قصَّروا عنه، ففسقوا عن أمر ربهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ}
قال أبو جعفر: يعني ثناؤه بقوله:"إنما المسيح عيسى ابن مريم"، ما المسيح، أيها الغالون في دينهم من أهل الكتاب، بابن الله، كما تزعمون، ولكنه عيسى ابن مريم، دون غيرها من الخلق، لا نسب له غير ذلك. ثم نعته الله جل ثناؤه بنعته ووصفه بصفته فقال: هو رسول الله أرسله الله بالحق إلى من أرسله إليه من خلقه.
* * *
وأصل"المسيح"،"الممسوح"، صرف من"مفعول" إلى"فعيل". وسماه الله بذلك لتطهيره إياه من الذنوب. وقيل: مُسِح من الذنوب والأدناس التي تكون في الآدميين، كما يمسح الشيء من الأذى الذي يكون فيه، فيطهر منه. ولذلك قال مجاهد ومن قال مثل قوله:"المسيح"، الصدّيق. (1)
* * *
وقد زعم بعض الناس أنّ أصل هذه الكلمة عبرانية أو سريانية"مشيحا"، فعربت فقيل:"المسيح"، كما عرب سائر أسماء الأنبياء التي في القرآن مثل:
__________
(1) انظر ما سلف 6: 414، فهناك تجد قول مجاهد هذا. وقد علقت هناك، وأشرت إلى اختصار أبي جعفر، ورجحت ما في الكلام نقص. وهذا الموضع من كلامه يدل على أن أبا جعفر نفسه هو الذي اختصر الكلام اختصارًا هناك، من النسيان فيما أرجح، أو لأنه ألف تفسيره على فترات تباعدت عليه. ولولا ذلك لأشار هنا -كعادته- إلى الموضع السالف الذي فسر فيه معنى"المسيح".(9/417)
"إسماعيل" و"إسحاق" و"موسى" و"عيسى".
* * *
قال أبو جعفر: وليس ما مثَل به من ذلك لـ"المسيح" بنظير. وذلك أن"إسماعيل" و"إسحاق" وما أشبه ذلك، أسماء لا صفات، و"المسيح" صفة. وغير جائز أن تخاطب العرب، وغيرها من أجناس الخلق، في صفة شيء إلا بمثل ما تفهم عمَّن خاطبها. ولو كان"المسيح" من غير كلام العرب، ولم تكن العرب تعقل معناه، ما خوطبت به. وقد أتينا من البيان عن نظائر ذلك فيما مضى بما فيه الكفاية عن إعادته. (1)
* * *
وأما"المسيح الدجال"، فإنه أيضًا بمعنى: الممسوح العين، صرف من"مفعول" إلى"فعيل". فمعنى:"المسيح" في عيسى صلى الله عليه وسلم: الممسوح البدن من الأدناس والآثام= ومعنى:"المسيح" في الدجال: الممسوح العين اليمنى أو اليسرى، كالذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. (2)
* * *
وأما قوله:"وكلمته ألقاها إلى مريم"، فإنه يعني: بـ "الكلمة"، الرسالة التي
__________
(1) انظر ما سلف 1: 13-24.
(2) هو ما جاء في الأحاديث الصحاح عن جماعة من الصحابة في صفة المسيح الدجال، أعاذنا الله من فتنته. من ذلك حديث حذيفة (مسلم 18: 60) قال:
(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدَجَّالُ أعورُ العَيْنِ اليُسْرَى، جُفَال الشَّعَرَ، معهُ جنَّةٌ ونارٌ، فَنَارُهُ جَنَّةٌ، وجَنَّتُه نارٌ) .
وحديث ابن عمر:
(أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ذكر الدجّال بين ظَهْرَانَي الناس فقال: إِنَّ الله ليسَ بأَعْور، أَلا وإنَّ المسيحَ الدَّجَّالَ أعْوَرُ العين اليُمْنَى، كأَن عينه عِنَبَةٌ طَافيةٌ) .
وأحاديث الدجال كثيرة، مختلفة الألفاظ، مختصرة ومطولة. فاللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال.(9/418)
أمرَ الله ملائكته أن تأتي مريم بها، بشارةً من الله لها، التي ذكر الله جل ثناؤه في قوله: (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ) [سورة آل عمران: 45] ، يعني: برسالة منه، وبشارة من عنده.
* * *
وقد قال قتادة في ذلك ما:-
10854- حدثنا به الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وكلمته ألقاها إلى مريم"، قال: هو قوله:"كن"، فكان.
* * *
وقد بينا اختلاف المختلفين من أهل الإسلام في ذلك فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله:"ألقاها إلى مريم"، يعني: أعلمها بها وأخبرها، كما يقال:"ألقيت إليك كلمة حسنة"، بمعنى: أخبرتك بها وكلّمتك بها. (2)
* * *
وأما قوله:"وروح منه"، فإن أهل العلم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى قوله:"وروح منه"، ونفخة منه، لأنه حدث عن نفخة جبريل عليه السلام في دِرْع مريم بأمر الله إياه بذلك، (3) فنسب إلى أنه"روح من الله"، لأنه بأمره كان. قال: وإنما سمي النفخ"روحًا"، لأنها ريح تخرج من الرُّوح، واستشهدوا على ذلك من قولهم بقول ذي الرمة في صفة نار نعتها:
__________
(1) انظر تفسير"الكلمة" فيما سلف 6: 411، 412.
(2) هذا معنى يقيد في كتب اللغة، فإنك قلما تصيبه فيها، وهو بيان واضح جدًا.
(3) "درع المرأة": قميصها الذي يحميها أعين الفساق، كما تحمي الدرع لابسها. وبعيد أن يسمى شيء من لباس المرأة اليوم"درعًا"، فإنها لا تدرع من شيء، والرجل لا يتورع عن شيء!! والله المستعان.(9/419)
فَلَمَّا بَدَتْ كَفَّنْتُها، وَهْيَ طِفْلَةٌ ... بِطَلْسَاءَ لَمْ تَكْمُلْ ذِرَاعًا وَلا شِبْرَا (1)
__________
(1) ديوانه: 176، واللسان (روح) ، والمزهر 1: 556، وغيرها. هذا، وليس في المخطوطة غير الأبيات الثلاثة الأولى، وزادت المطبوعة، بيتًا رابعًا، لكن قبله في شعر ذي الرمة بيت، فزدته من ديوانه، ووضعته بين قوسين، لأنه من تمام معنى الأبيات.
وقبل هذه الأبيات، أبيات في صفة استخراج سقط النار من الزند بالقدح، فلما اقتدحها كفنها كما ذكر في سائر الشعر. فقوله: "فلما بدت"، أي بدا سقط النار من الزند الأعلى عند القدح، "كفنها" ضمنها خرقة وسخة، لم تبلغ ذراعًا ولا شبرًا، وهي التي سماها"طلساء"، لسوادها من وسخها. وكانت"طفلة" لأنها سقطت من أمها لوقتها فتلقاها في الخرقة التي جعلها لها كفنًا. وإنما جعلها"كفنًا": لها، لأن السقط يسقط من الزند يزهر ويضيء حيًا، فإذا وقع في قلب القطنة، لم تر له ضوءًا، فكأنه السقط قد مات. ولكنه عاد يتابع السقط حتى يحييه مرة أخرى فقال لصاحبه: "ارفعها إليك"، أي خذها بيدك، وارفعها إلى فمك، ثم"أحيها بروحك"، أي انفخ لها نفخًا يسيرًا، "واقتته لها قيتة قدرًا"، يأمره بالرفق والنفح القليل شيئًا فشيئًا، كأنه جعل النفخ قوتًا لهذا الوليد، يقدر له تقديرًا، شيئًا بعد شيء حتى يكتمل.
ثم لما فرغ من ذلك، ونمت النار بعض النمو، قال له: "ظاهر لها من يابس الشخت"، أي اجعل دقيق الحطب اليابس بعضه على بعض، وأطعم هذا الوليد= و"الشخت": الدقيق من كل شيء، = وذلك لتكون النار فيه أسرع. ثم يقول له: استقبل بها ريح الصبا ليكون ذلك لها نماء، "واجعل يديك لها سترًا"، أي: ليسترها من النواحي الأخرى حتى تضربها الصبا، فلا تموت مرة أخرى.
ثم عاد فوصف نموها يقول: "ولما تنمت" وارتفعت، "تأكل الرم"، تأكل ما يبس من أعواد الشجر، لم تدع بعد ذلك يابسًا ولا أخضر مما ظلوا يجمعونه لها، وذلك حين استوت وبلغت أشدها. فلما رأوا النار تجري بعد ذلك في"الجزل" - وهو ما غلظ من الحطب ويبس - كأن ضوءها سنا البرق، رفعوا أيديهم شكرًا للذي خلقهم وخلق النار.
وهذا شعر جيد مستقيم على النهج.
ومما يقيد هنا، ما رواه السيوطي في المزهر، عن أبي عبيد في الغريب المصنف أن الأصمعي قال: أخبرني عيسى بن عمر، قال: أنشدني ذو الرمة: وَظَاهِرْ لَهَا من يَابِس الشَّخْتِ
ثم أنشد بعد هذا: مِنْ بَائِسِ الشَّخْتِ
قال أبو عبيد: فقلت له: إنك أنشدتني"من يابس الشخت"؟ فقال: اليبس من البؤس. قال السيوطي: وذلك إسناد متصل صحيح، فإن أبا عبيد سمعه من الأصمعي.
وكان في المطبوعة: "جرت للجزل" و"لخالقها"، وأثبت رواية الديوان.(9/420)
وَقُلْتُ لَهُ ارْفَعْهَا إِلَيْكَ، وَأَحْيِهَا ... بِرُوحِكَ، وَاقْتَتْهُ لَهَا قِيتَةً قَدْرَا ... وَظَاهِرْ لَهَا مِنْ يَابِس الشَّخْتِ، وَاسْتَعِنْ ... عَلَيْهَا الصَّبَا، وَاجْعَلْ يَدَيْكَ لَهَا سِتْرَا ... [وَلَمَّا تَنَمَّتْ تَأْكُلُ الرِّمَّ لَمْ تَدَعْ ... ذَوَابِلَ مِمَّا يَجْمَعُونَ ولا خُضْرَا] ... فَلَمَّا جَرَتْ في الْجَزْلِ جَرْيًا كَأَنَّهُ ... سَنَا البَرْقِ، أَحْدَثْنَا لِخَالِقِهَا شُكْرَا
وقالوا: يعني بقوله:"أحيها بروحك"، أي: أحيها بنفخك.
* * *
وقال بعضهم يعني بقوله:"وروح منه" إنه كان إنسانًا بإحياء الله له بقوله:"كن". قالوا: وإنما معنى قوله:"وروح منه"، وحياة منه، بمعنى إحياءِ الله إياه بتكوينه.
* * *
وقال آخرون: (1) معنى قوله:"وروح منه"، ورحمة منه، كما قال جل ثناؤه في موضع آخر: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) [سورة المجادلة: 22] . قالوا: ومعناه في هذا الموضع: ورحمة منه. (2) قالوا: فجعل الله عيسى رحمة منه على من اتبعه وآمن به وصدّقه، لأنه هداهم إلى سبيل الرشاد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وروح من الله خلقها فصورها، ثم أرسلها إلى مريم فدخلت في فيها، فصيَّرها الله تعالى روحَ عيسى عليه السلام.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
10855- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن سعد قال، أخبرني أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب في قوله: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) ، [سورة الأعراف: 172] ، قال: أخذهم فجعلهم أرواحًا، ثم صوَّرهم، ثم
__________
(1) في المطبوعة: "وقال بعضهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "قال" بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة.(9/421)
استنطقهم، فكان روح عيسى من تلك الأرواح التي أخِذ عليها العهد والميثاق، فأرسل ذلك الروح إلى مريم، فدخل في فيها، فحملت الذي خاطبها، وهو روح عيسى عليه السلام. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى"الروح" ههنا، جبريل عليه السلام. قالوا: ومعنى الكلام: وكلمته ألقاها إلى مريم، وألقاها أيضًا إليها روح من الله. قالوا: فـ"الروح" معطوف به على ما في قوله:"ألقاها" من ذكر الله، بمعنى: أنّ إلقاء الكلمة إلى مريم كان من الله، ثم من جبريل عليه السلام.
* * *
قال أبو جعفر: ولكل هذه الأقوال وجه ومذهب غير بعيدٍ من الصواب.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فآمنوا بالله ورسله"، فصدِّقوا، يا أهل الكتاب، بوحدانية الله وربوبيته، وأنه لا ولد له، وصدِّقوا رسله فيما جاءوكم به من عند الله، وفيما أخبرتكم به أن الله واحد لا شريك له، ولا صاحبة له، لا ولد له ="ولا تقولوا ثلاثة"، يعني: ولا تقولوا: الأربابُ ثلاثة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فحملت، والذي خاطبها هو روح عيسى ... " حذف، الواو من آخر الجملة، وأثبتها في أولها، فرددته إلى أصله في المخطوطة، وهو الصواب. ويعني قوله تعالى في سورة مريم 24: (فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا) .
وهذا الأثر لم يرد في تفسير آية الأعراف في موضعه هناك، وهو أحد الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره، وأحد وجوه منهجه في الاختصار.(9/422)
ورفعت"الثلاثة"، بمحذوف دلّ عليه الظاهر، وهو"هم". ومعنى الكلام: ولا تقولوا هم ثلاثة. وإنما جاز ذلك، لأن"القول" حكاية، والعرب تفعل ذلك في الحكاية، ومنه قول الله: (سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ) ، [سورة الكهف: 22] . وكذلك كل ما ورد من مرفوع بعد"القول" لا رافع معه، ففيه إضمار اسم رافع لذلك الاسم.
* * *
ثم قال لهم جل ثناؤه: متوعدًا لهم في قولهم العظيم الذي قالوه في الله:"انتهوا"، أيها القائلون: الله ثالث ثلاثة، عما تقولون من الزور والشرك بالله، فإن الانتهاء عن ذلك خير لكم من قِيله، لما لكم عند الله من العقاب العاجل لكم على قِيلكم ذلك، إن أقمتم عليه، ولم تُنيبوا إلى الحق الذي أمرتكم بالإنابة إليه= والآجلِ في معادكم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (171) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"إنما الله إله واحد"، ما الله، أيها القائلون: الله ثالث ثلاثة، كما تقولون، لأن من كان له ولد، فليس بإله. وكذلك من كان له صاحبة، فغير جائز أن يكون إلهًا معبودًا. ولكن الله الذي له الألوهة والعبادة، إله واحد معبود، لا ولد له، ولا والد، ولا صاحبة، ولا شريك.
ثم نزه جل ثناؤه نفسه وعظَّمها ورفعها عما قال فيه أعداؤه الكَفرة به فقال:"سبحانه أن يكون له ولد"، يقول: علا الله وجل وعز وتعظمَّ وتنزه عن أن يكون له ولد أو صاحبة. (2)
__________
(1) قوله: "والآجل في معادكم" معطوف على قوله: "من العقاب العاجل لكم ... "
(2) انظر تفسير"سبحان" فيما سلف 1: 474-476، 495 / 2: 537.(9/423)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)
ثم أخبر جل ثناؤه عباده: أن عيسى وأمَّه ومن في السموات ومن في الأرض، عبيدُه وإماؤه وخلقه، (1) وأنه رازقهم وخالقهم، وأنهم أهل حاجة وفاقة إليه= احتجاجًا منه بذلك على من ادّعى أن المسيح ابنه، وأنه لو كان ابنه كما قالوا، لم يكن ذا حاجة إليه، ولا كان له عبدًا مملوكًا، فقال:"له ما في السموات وما في الأرض"، يعني: لله ما في السموات وما في الأرض من الأشياء كلها ملكًا وخلقًا، وهو يرزقهم ويَقُوتهم ويدبِّرهم، فكيف يكون المسيح ابنًا لله، وهو في الأرض أو في السموات، غيرُ خارج من أن يكون في بعض هذه الأماكن؟
وقوله:"وكفى بالله وكيلا"، يقول: وحسب ما في السموات وما في الأرض بالله قَيِّمًا ومدبِّرًا ورازقًا، من الحاجة معه إلى غيره. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}
يعني جل ثناؤه بقوله:"لن يستنكف المسيح"، لن يأنف ولن يستكبر المسيح="أن يكون عبدًا لله"، يعني: من أن يكون عبدًا لله، كما:-
10856- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون"، لن يحتشم المسيح أن يكون عبدًا الله ولا الملائكة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وملكه وخلقه"، وفي المخطوطة: "وإماله وخلقه" فرجحت قراءتها كما أثبتها.
(2) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف: ص: 297، تعليق: 2، والمراجع هناك.(9/424)
وأما قوله:"ولا الملائكة المقربون"، فإنه يعني: ولن يستنكف أيضًا من الإقرار لله بالعبودة والإذعان له بذلك، رسلُه"المقربون"، الذين قرَّبهم الله ورفع منازلهم على غيرهم من خلقه.
* * *
وروي عن الضحاك أنه كان يقول في ذلك، ما:-
10857- حدثني به جعفر بن محمد البزوري قال، حدثنا يعلى بن عبيد، عن الأجلح قال: قلت للضحاك: ما"المقربون"؟ قال: أقربهم إلى السماء الثانية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: ومن يتعظّم عن عبادة ربه، ويأنفْ من التذلل والخضوع له بالطاعة من الخلق كلهم، ويستكبر عن ذلك="فسيحشرهم إليه جميعًا"، يقول: فسيبعثهم يوم القيامة جميعًا، فيجمعهم لموعدهم عنده. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 10857 -"جعفر بن محمد البزوري" لم أجده بهذه النسبة، والذي وجدته في تهذيب التهذيب، ممن يروى عن يعلى بن عبيد"جعفر بن محمد الواسطي الوراق"، نزيل بغداد مات سنة 265، وهو خليق أن يروي عنه أبو جعفر. ثم راجع تاريخ بغداد، ففي"جعفر بن محمد" كثرة، ولكن لم أجد بينهم"البزوري". وعسى أن تكشف الأسانيد الآتية عن الذي يعنيه أبو جعفر.
و"الأجلح"، هو"الأجلح بن عبد الله بن حجية الكندي"، "أبو حجية"، قيل اسمه"يحيى" و"الأجلح" لقب. سمع عبد الله بن الهذيل، وابن بريدة والشعبي، وعكرمة. روى عنه الثوري، وابن المبارك. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 2 / 68.
(2) انظر تفسير"الحشر" فيما سلف 4: 228 / 6: 229.(9/425)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (173) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأما المؤمنون المقرّون بوحدانية الله، الخاضعون له بالطاعة، المتذلِّلون له بالعبودية، والعاملون الصالحات من الأعمال، وذلك: أن يَرِدُوا على ربهم قد آمنوا به وبرسله، وعملوا بما أتاهم به رسله من عند ربهم، من فعل ما أمرهم به، واجتناب ما أمرهم باجتنابه="فيوفِّيهم أجورهم"، يقول: فيؤتيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة وافيًا تامًّا (1) ="ويزيدهم من فضله"، يعني جل ثناؤه: ويزيدهم على ما وعدهم من الجزاء على أعمالهم الصالحة والثواب عليها، من الفضل والزيادة ما لم يعرّفهم مبلغه، (2) ولم يحدّ لهم منتهاه. وذلك أن الله وعد من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة الواحدة عشرَ أمثالها من الثواب والجزاء. فذلك هو أجر كلِّ عامل على عمله الصالح من أهل الإيمان المحدود مبلغه، والزيادة على ذلك تفضُّل من الله عليهم، وإن كان كل ذلك من فضله على عباده. غيرَ أن الذي وعد عبادَه المؤمنين أن يُوفيهم فلا ينقصهم من الثواب على أعمالهم الصالحة، هو ما حَدُّ مبلغه من العَشْر، والزيادة على ذلك غير محدود مبلغها، فيزيد من شاء من خلقه على ذلك قدر ما يشاء، لا حدّ لقَدْره يوقف عليه.
* * *
وقد قال بعضهم: الزيادة إلى سبعمائة ضعف.
وقال آخرون: إلى ألفين.
__________
(1) انظر تفسير"يوفيهم أجورهم" فيما سلف 6: 465 / 7: 364.
(2) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/426)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174)
وقد ذكرت اختلاف المختلفين في ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله:"وأما الذين استنكفوا واستكبروا"، فإنه يعني: وأما الذين تعظَّموا عن الإقرار لله بالعبودة، والإذعان له بالطاعة، واستكبروا عن التذلّل لألوهته وعبادته، وتسليم الربوبيّة والوحدانية له="فيعذبهم عذابًا أليمًا"، يعني: عذابًا موجعًا="ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا"، يقول: ولا يجد المستنكفون من عبادته والمستكبرون عنها، إذا عذبهم الله الأليم من عذابه، سوى الله لأنفسهم وليًّا ينجيهم من عذابه وينقذهم منه="ولا نصيرًا"، يعني: ولا ناصرًا ينصرهم فيستنقذهم من ربهم، ويدفع عنهم بقوّته ما أحلَّ بهم من نقمته، كالذي كانوا يفعلون بهم إذا أرادهم غيرهم من أهل الدنيا في الدنيا بسوء، من نصرتهم والمدافعة عنهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنزلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم"، يا أيها الناس من جميع أصناف الملل، يهودِها ونصاراها ومشركيها، الذين قص الله جل ثناؤه قَصَصهم في هذه السورة="قد جاءكم برهان من ربكم"، يقول: قد جاءتكم حجة من الله تبرهن لكم بُطُولَ ما أنتم عليه مقيمون من أديانكم ومللكم، (3) وهو محمد صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله عليكم حجة قطع بها
__________
(1) انظر ما سلف 5: 512-516.
(2) انظر تفسير"ولي" و"نصير" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"البرهان" فيما سلف 2: 509.(9/427)
عذركم، وأبلغ إليكم في المعذرة بإرساله إليكم، مع تعريفه إياكم صحة نبوته، وتحقيق رسالته="وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا"، يقول: وأنزلنا إليكم معه"نورًا مبينًا"، يعني: يبين لكم المحجَّة الواضحة، والسبل الهادية إلى ما فيه لكم النجاة من عذاب الله وأليم عقابه، إن سلكتموها واستنرتم بضوئه. (1)
وذلك"النور المبين"، هو القرآن الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10858- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"برهان من ربكم"، قال: حجة.
10859- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10860- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم"، أي: بينة من ربكم="وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا"، وهو هذا القرآن.
10861- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قد جاءكم برهان من ربكم"، يقول: حجة.
10862- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"برهان"، قال: بينة="وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا"، قال: القرآن.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ص: 360، تعليق: 5، والمراجع هناك.(9/428)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين صدَّقوا الله وأقرّوا بوحدانيته، وما بعث به محمدًا صلى الله عليه وسلم من أهل الملل="واعتصموا به"، يقول: وتمسكوا بالنور المبين الذي أنزله إلى نبيه، (1) كما:-
10863- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"واعتصموا به"، قال: بالقرآن.
* * *
="فسيدخلهم في رحمة منه وفضل"، يقول: فسوف تنالهم رحمته التي تنجيهم من عقابه، وتوجب لهم ثوابه ورحمته وجنته، (2) ويلحَقهم من فضله ما لَحِق أهل الإيمان به والتصديق برسله (3) ="ويهديهم إليه صراطًا مستقيمًا"، يقول: ويوفقهم لإصابة فضله الذي تفضل به على أوليائه، ويسدِّدهم لسلوك منهج من أنعم عليه من أهل طاعته، ولاقتفاء آثارهم واتباع دينهم. وذلك هو"الصراط المستقيم"، وهو دين الله الذي ارتضاه لعباده، وهو الإسلام. (4)
* * *
ونصب"الصراط المستقيم" على القطع من"الهاء" التي في قوله:"إليه". (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الاعتصام" فيما سلف 7: 62، 70 / 9: 341.
(2) قوله: "وجنته" ليست في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "ما ألحق أهل الإيمان"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170- 177 / 3: 140، 141 / 6: 441 / 8: 529.
(5) "القطع" الحال، أو باب منه، انظر ما سلف من فهارس المصطلحات.(9/429)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
القول في تأويل قوله: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ}
يعني تعالى ذكره بقوله:"يستفتونك"، يسألونك، يا محمد، أن تفتيهم في الكلالة. (1)
* * *
وقد بينا معنى:"الكلالة" فيما مضى بالشواهد الدالة على صحته، وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيه، فأغنى ذلك عن إعادته، وبيّنا أن"الكلالة" عندنا: ما عدا الولد والوالد. (2)
* * *
="إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك"، يعني بقوله:"إن امرؤ هلك"، إن إنسان من الناس مات، (3) كما:-
10864- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن امرؤ هلك"، يقول: مات.
* * *
="ليس له ولد" ذكر ولا أنثى="وله أخت"، يعني: وللميت أخت لأبيه وأمه، أو لأبيه="فلها نصف ما ترك"، يقول: فلأخته التي تركها بعده بالصفة التي وَصَفنا، نصف تركته ميراثًا عنه، دون سائر عصبته. وما بقي فلعصبته.
* * *
وذكر أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هَّمهم شأن الكلالة، فأنزل الله تبارك وتعالى فيها هذه الآية.
__________
(1) انظر تفسير"يستفتي" فيما سلف ص: 253.
(2) انظر ما سلف في"الكلالة" 8: 53-61.
(3) انظر تفسير"المرء" فيما سلف 2: 446.(9/430)
*ذكر من قال ذلك:
10865- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة"، فسألوا عنها نبيَّ الله، فأنزل الله في ذلك القرآن:"إن امرؤ هلك ليس له ولد"، فقرأ حتى بلغ:"والله بكل شيء عليم". قال: وذكر لنا أنّ أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال في خطبته: ألا إنّ الآية التي أنزل الله في أول"سورة النساء" في شأن الفرائض، أنزلها الله في الولد والوالد. والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم. والآية التي ختم بها"سورة النساء"، أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم. والآية التي ختم بها"سورة الأنفال"، أنزلها في أولي الأرحام، بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرَّت الرحِم من العَصَبة. (1)
10866- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن الشيباني، عن عمرو بن مرة، عن سعيد بن المسيب قال: سأل عمر بن الخطاب النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن الكلالة، فقال: أليس قد بيَّن الله ذلك؟ قال: فنزلت:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (2)
10867- حدثنا مؤمل بن هشام أبو هشام قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام الدستوائي قال، حدثنا أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: اشتكيت وعندي تسع أخوات لي= أو: سبْع، أنا أشكّ (3) = فدخل عليّ النبيّ صلى الله عليه وسلم فنفخ في وجهي، فأفقت وقلت: يا رسول الله، ألا أوصي لأخواتي بالثلثين؟ (4) قال: أحسن! قلت: الشطر؟ قال: أحسن! ثم خرج وتركني، ثم رجع إليّ فقال:
__________
(1) الأثر: 10865- هذا الأثر رواه البيهقي في السنن 6: 31، وذكره ابن كثير في التفسير 2: 42، والدر المنثور 2: 251.
(2) الأثر: 10866- ذكره ابن كثير في تفسيره 2: 42، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(3) في المطبوعة: "أبو جعفر الذي يشك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "بالثلث"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق لرواية البيهقي، أما رواية أبي داود في سننه، فهي التي أثبتت في المطبوعة.(9/431)
يا جابر، إنِّي لا أُرَاك ميتًا من وجعك هذا، (1) وإن الله قد أنزل في الذي لأخواتك فجعل لهن الثلثين. قال: فكان جابر يقول: أنزلت هذه الآية فيّ:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (2)
10868- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن هشام= يعني الدستوائي= عن أبي الزبير، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. (3)
10869- حدثني المثنى قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: مرضت، فأتاني النبي صلى الله عليه وسلم يعودُني هو وأبو بكر وهما ماشيان، فوجدوني قد أغمي عليّ، (4) فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صبَّ عليّ من وَضوئه، فأفقت فقلت: يا رسول الله، كيف أقضي في مالي= أو: كيف أصنع في مالي؟ وكان له تسع أخوات، ولم يكن له والد ولا ولد.
__________
(1) "لا أراك" بالبناء للمجهول (بضم الهمزة) : أي لا أظنك.
(2) الأثر: 10867-"مؤمل بن هشام اليشكري"، هو"أبو هشام". روى عن إسمعيل بن علية، وكان صهره. روى عنه البخاري وأبو داود والنسائي وغيرهم. مترجم في التهذيب.
و"إسمعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي" هو"ابن علية" سلف مرارًا كثيرة و"أبو الزبير" المكي، هو: "محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي"، مضى برقم: 2029، 3581، 8205.
وهذا الأثر رواه أبو داود في السنن 3: 164 من طريق كثير بن هشام، عن هشام الدستوائي بلفظه.
ورواه البيهقي في السنن 6: 231 من طرق، مطولا مختصرًا.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 240، مختصرًا وفيه"الثلثين" كما في مخطوطة الطبري.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 250، وزاد نسبته لابن سعد والنسائي.
(3) الأثر: 10868- هو مكرر الأثر السالف، من طريق ابن أبي عدي، عن هشام.
وهذا الخبر رواه الواحدي في أسباب النزول: 139، وساق لفظه، مع اختلاف يسير عن لفظ الأثر السالف.
(4) قوله: "فوجدوني" هكذا ثبت في المطبوعة والمخطوطة، وهي في ألفاظ أخر"فوجدني". والذي في المخطوطة والمطبوعة صواب، لأنه يعني أبا بكر ورسول الله، ومن كان معهما، أو من كان في البيت. ولو حمله على الجمع وهو مثنى، لكان له وجه في العربية.(9/432)
قال: فلم يجبني شيئًا حتى نزلت آية الميراث:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة" إلى آخر السورة= قال ابن المنكدر: قال جابر: إنما أنزلت هذه الآية فيّ. (1)
* * *
وكان بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن هذه الآية هي آخر آية نزلت من القرآن.
*ذكر من قال ذلك:
10870- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب قال: سمعته يقول: إن آخر آية نزلت من القرآن:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (2)
__________
(1) الأثر: 10869- خبر"محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله"، روي من طرق كثيرة، مضى من طريق شعبة، عن محمد بن المنكدر، مختصرًا برقم: 8730، ثم من طريق ابن جريج، عن محمد بن المنكدر رقم: 8731، بغير هذا اللفظ، مختصرًا، وانظر تخريجهما هناك. أما هذا، فرواه البخاري (الفتح 12: 2) بمثله، مع خلاف يسير في لفظه، وقد بين الحافظ ابن حجر في شرحه، ما فيه من الاختلاف.
ورواه مسلم من طرق كثيرة، منها طريق سفيان، في صحيحه 11: 54-56.
ورواه أبو داود في سننه 3: 164 من طريق أحمد بن حنبل، عن سفيان.
ورواه الترمذي في السنن (في كتاب التفسير) ، وقال: "هذا حديث حسن صحيح، رواه غير واحد، عن محمد بن المنكدر". ثم ساقه من طريق"الفضل بن صباح البغدادي، عن سفيان بن عيينة، عن محمد بن المنكدر"، ثم قال: "وفي حديث الفضل بن صباح كلام أكثر من هذا". وحديث الفضل بن صباح، رواه الترمذي قبل ذلك في (كتاب الفرائض) مطولا، وقال: "هذا حديث صحيح".
ورواه البيهقي في السنن 6: 223، 224، ثم قال البيهقي: "وجابر بن عبد الله الذي نزلت فيه آية الكلالة، لم يكن له ولد ولا والد، لأن أباه قتل يوم أحد. وهذه الآية نزلت بعده".
وذكره ابن كثير في تفسيره 2: 41، والسيوطي في الدر 2: 249، وزاد نسبته لابن سعد. وابن ماجه، وابن المنذر.
(2) الأثر: 10870- يأتي برقم: 10871، 10873، من طريق أبي إسحق، عن البراء.(9/433)
10871- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي خالد، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: آخر آية نزلت من القرآن:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (1)
10872- حدثنا محمد بن خلف قال، حدثنا عبد الصمد بن النعمان قال، حدثنا مالك بن مغول، عن أبي السفر، عن البراء قال: آخر آية نزلت من القرآن:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (2)
10873- حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: آخر سورة نزلت كاملة"براءة"، وآخر آية، نزلت خاتمة"سورة النساء":"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة". (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 10871- رواه مسلم في صحيحه 11: 58 عن علي بن خشرم، عن وكيع، بمثله. ثم ساقه من طرق أخرى، عن أبي إسحق عن البراء.
والبيهقي في السنن 6: 224.
(2) الأثر: 10872-"محمد بن خلف بن عمار العسقلاني"، شيخ الطبري، مضى برقم: 126، 6534.
و"عبد الصمد بن النعمان البزاز". ترجم له ابن أبي حاتم 3/1/51، 52 وقال، "سئل أبي عنه فقال: صالح الحديث صدوق".
و"مالك بن مغول"، ثقة، مضى برقم: 5431.
و"أبو السفر" هو: "سعيد بن يحمد الثوري" أو "سعيد بن أحمد"، مضى برقم: 3010. والخبر رواه مسلم 11: 59 من طريق عمرو الناقد، عن أبي أحمد الزبيري، عن مالك بن مغول.
ورواه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق عبد بن حميد، عن أبي نعيم، عن مالك بن مغول، وقال: "هذا حديث حسن".
(3) الأثر: 10873- مكرر الأثرين السالفين: 10870، 10871.
"هرون بن إسحق الهمداني" شيخ الطبري، مضى برقم: 3001.
و"مصعب بن المقدام الخثعمي"، مضى برقم: 1291، 3001.
وهذا الأثر من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، رواه البخاري في صحيحه (الفتح 12: 22) . وفي المخطوطة هنا"خاتم سورة البقرة"، والصواب ما في المطبوعة.(9/434)
واختلف في المكان الذي نزلت فيه الآية.
فقال جابر بن عبد الله: نزلت في المدينة. وقد ذكرت الرواية بذلك عنه فيما مضى، بعضها في أول السورة عند فاتحة آية المواريث، وبعضها في مبتدإ الأخبار عن السبب الذي نزلت فيه هذه الآية. (1)
* * *
وقال آخرون: بل أنزلت في مسيرٍ كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
*ذكر من قال ذلك:
10874- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: نزلت:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة"، والنبيّ في مسير له، وإلى جنبه حذيفة بن اليمان، فبلَّغها النبي صلى الله عليه وسلم حُذيفة، وبلّغها حذيفة عمر بن الخطاب وهو يسير خلفه. فلما استُخلف عمر سأل عنها حذيفة، ورجا أن يكون عنده تفسيرها، فقال له حذيفة: والله إنك لعاجز إن ظننت أن إمارتك تحملني أن أحدِّثك فيها بما لم أحدِّثك يومئذ! فقال عمر: لم أرِد هذا، رحمك الله!
10875- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين بنحوه= إلا أنه قال في حديثه: فقال له حذيفة: والله إنك لأحمق إن ظننتَ.
10876- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين قال: كانوا في مسير، ورأسُ راحلة حذيفة عند رِدْف راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) ورأس راحلة عمر عند رِدْف
__________
(1) يعني ما سلف رقم: 8730، 8731، ثم ما سلف قريبًا من: 10867- 10869.
(2) "ردف الراحلة": كفل الدابة.(9/435)
راحلة حذيفة. قال: ونزلت:"يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة"، فلقَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حذيفة، فلقّاها حذيفة عمر. فلما كان بعد ذلك، سأل عمرُ عنها حذيفةَ فقال: والله إنك لأحمق إن كنت ظننت أنه لقّانيها رسول الله فلقَّيْتُكها كما لقَّانيها، (1) والله لا أزيدك عليها شيئًا أبدًا! قال: وكان عمر يقول: اللهم مَن كنتَ بيّنتها له، (2) فإنها لم تُبَيَّن لي. (3)
* * *
واختلف عن عمر في الكلالة، فروي عنه أنه قال فيها عند وفاته:"هو من لا ولد له ولا والد". وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في أول هذه السورة في آية الميراث. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فلقنتكها" من"التلقين"، وهو صواب في المعنى، ولكن السياق يقتضي ما أثبته من المخطوطة، وهي فيها منقوطة. و"لقاه الآية": علمه الآية، ولقنه إياها.
(2) في المطبوعة وابن كثير"إن كنت"، وأثبت ما في المخطوطة والدر المنثور، وهي صواب محض، وانظرها كذلك في الأثر الآتي رقم: 10892.
(3) الآثار: 10874- 10876، ذكر الأثر الأخير منها ابن كثير في تفسيره 3: 44، ثم قال: "كذا رواه ابن جرير، ورواه أيضًا عن الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين، كذلك بنحوه. وهو منقطع بين ابن سيرين وحذيفة. وقد قال الحافظ أبو بكر أحمد بن عمرو البزار في مسنده: حدثنا يوسف بن حماد المعنى، ومحمد بن مرزوق، قالا، حدثنا عبد الأعلى بن عبد الأعلى، حدثنا هشام بن حسان، عن محمد بن سيرين، عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن أبيه قال: نزلت آية الكلالة.." وساق الخبر، ثم قال: "قال البزار: وهذا الحديث لا نعلم أحدًا رواه إلا حذيفة، ولا نعلم له طريقًا عن حذيفة إلا هذا الطريق، ولا رواه عن هشام إلا عبد الأعلى". قال ابن كثير: "وكذا رواه ابن مردويه".
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 13، وقال: "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح، غير أبي عبيدة بن حذيفة، ووثقه ابن حبان".
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 250 قال: "أخرج العدني والبزار في مسنديهما، وأبو الشيخ في الفرائض، بسند صحيح عن حذيفة" ثم ذكر الخبر.
وعاد فخرجه في 2: 251، ونسبه لابن جرير، وعبد الرزاق، وابن المنذر، عن ابن سيرين، منقطعًا.
(4) انظر رقم: 8745-8748، 8767(9/436)
وروي عنه أنه قال قبل وفاته: هو ما خلا الأب. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10877- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة اليعمري قال، قال عمر بن الخطاب: ما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم= أو: ما نازعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما نازعته في آية الكلالة، حتى ضرب صَدري وقال: يكفيك منها آية الصيف التي أنزلت في آخر"سورة النساء": (2) "يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة"، وسأقضي فيها بقضاء يعلمه من يقرأ ومن لا يقرأ، هو ما خلا الأب= كذا أحسب قال ابن عرفة= قال شبابة: الشك من شعبة. (3)
* * *
وروي عنه أنه قال:"إني لأستحيي أن أخالف فيه أبا بكر"، وكان أبو بكر يقول:"هو ما خلا الولد والوالد". وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه فيما مضى في أول السورة (4)
* * *
وروي عنه أنه قال عند وفاته:"قد كنت كتبت في الكلالة كتابًا،
__________
(1) انظر رقم: 8745-8748، 8767.
(2) قوله: "التي أنزلت في آخر سورة النساء" غير ثابت في المخطوطة، وهو ثابت في روايات الحديث التي ستأتي في التخريج.
(3) الأثر: 10877- خبر سالم بن أبي الجعد، عن معدان، عن عمر سيرويه أبو جعفر من أربع طرق أخرى فيما سيأتي من رقم: 10884- 10887.
وروى هذا الخبر من طريق شبابة بن سوار، عن شعبة، عن قتادة، مسلم في صحيحه 11: 57، إشارة.
ورواه البيهقي في السنن 6: 224 بلفظه، وقال: "رواه مسلم عن زهير بن حرب". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 251، ولم ينسبه لغير ابن جرير، فقصر في نسبته. وانظر تخريج الآثار التالية التي أشرت إليها.
(4) انظر ما سلف رقم: 8745-8749.(9/437)
وكنت أستخير الله فيه، وقد رأيت أن أترككم على ما كنتم عليه"، وأنه كان يتمنى في حياته أن يكون له بها علم.
*ذكر من قال ذلك:
10878- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد المعمري، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب كتب في الجدّ والكلالة كتابًا، فمكث يستخير الله فيه يقول:"اللهم إن علمت فيه خيرًا فأمضه"، حتى إذا طُعِن، دعا بكتاب فَمُحي، (1) فلم يدر أحدٌ ما كتب فيه، فقال:"إني كنت كتبت في الجدّ والكلالة كتابًا، وكنت أستخير الله فيه، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه". (2)
10879- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن عمر، بنحوه. (3)
10880- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان قال، حدثنا عمرو بن مرة، عن مرة الهمداني قال، قال عمر: ثلاث لأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم بيَّنهن لنا، أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، وأبواب الربا. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "بالكتاب فمحي"؛ بالتعريف، وهو كذلك في الدر المنثور، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لرواية ابن كثير في تفسيره.
(2) الأثر: 10878- ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 45 عن هذا الموضع من التفسير، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 250، ونسبه لعبد الرزاق، ولم ينسبه لابن جرير، وقد رواه الطبري بنحوه في الأثر التالي: 10879.
(3) الأثر: 10878- ذكره ابن كثير في تفسيره 3: 45 عن هذا الموضع من التفسير، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 250، ونسبه لعبد الرزاق، ولم ينسبه لابن جرير، وقد رواه الطبري بنحوه في الأثر التالي: 10879.
(4) الأثر: 10880- رواه أبو داود الطيالسي من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، مع اختلاف يسير في لفظه، مطولا.
ورواه البيهقي في السنن من طريق أبي داود الطيالسي 6: 225.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 304 من طريق سفيان، عن عمرو بن مرة، بلفظ الطبري، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 45، ولم ينسبه لغير الحاكم.
وخرجه السيوطي في الدر 2: 251، 252، وزاد نسبته لعبد الرزاق، والعدني، وابن ماجه، والساجي.
وقوله: "أبواب الربا"، أي: وجوه الربا وطرقه، وهذا اللفظ ليس فيما ذكرت من المراجع، فيها جميعًا"والربا". وانظر الأثر الآتي: 10883، والتعليق عليه.(9/438)
10881- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام قال، حدثنا الأعمش قال: سمعتهم يذكرون، ولا أرى إبراهيم إلا فيهم، عن عمر قال: لأن أكون أعلم الكلالة، أحبُّ إليّ من أن يكون لي مثل جزية قصور الروم. (1)
10882- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام قال، حدثنا الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: أخذ عمر كتِفًا وجمع أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم قال: لأقضين في الكلالة قضاءً تحدَّثُ به النساء في خدورهن! فخرجت حينئذ حيَّة من البيت، فتفرَّقوا، فقال: لو أراد الله أن يتم هذا الأمر لأتمَّه. (2)
10883- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو حيان قال، حدثني الشعبي، عن ابن عمر قال: سمعت عمر بن الخطاب يخطب على منبر المدينة، فقال: أيها الناس، ثلاثٌ ودِدت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفارِقنا حتى يعهد إلينا فيهن عهدًا يُنتهى إليه: الجدّ، والكلالة، وأبواب الربا. (3)
__________
(1) الأثر: 10881- خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 251، ولم ينسبه لغير ابن جرير، وفيه"قصور الشأم"، وهما سواء في المعنى، ولكن العجب أنه نقله عن هذا الموضع من التفسير، وكتب مكان"الروم""الشأم".
(2) الأثر: 10882- رواه البيهقي في السنن 6: 245، من طريق جرير عن الأعمش. مع اختلاف في لفظه.
وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 44، 45، ثم قال: "وهذا إسناد صحيح".
وخرجه السيوطي 2: 250، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
وفي المخطوطة: "النساء في خدورها"، وهما سواء.
(3) الأثر: 10883-"أبو حيان" هو: "يحيى بن سعيد التيمي"، مضى برقم: 5382، 5383، 6318، 8155.
وهذا الخبر رواه البخاري مطولا (الفتح 10: 39-43) من طريق يحيى بن سعيد القطان عن أبي حيان التيمي.
ورواه مسلم في صحيحه 18: 165 من أربع طرق، من طريق علي بن مسهر، عن أبي حيان، ومن طريق ابن إدريس عن أبي حيان، ومن طريق ابن علية عن أبي حيان، ومن طريق عيسى بن يونس عن أبي حيان.
ورواه البيهقي في السنن 6: 245/8: 289.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 249، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وابن المنذر. وفي جميع المراجع: "وأبواب من أبواب الربا"، وانظر شرح ذلك في التعليق على الأثر: 10880(9/439)
10884- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة: أن عمر بن الخطاب قال: ما سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء أكثر مما سألت عن الكلالة، حتى طَعَن بإصبعه في صدري وقال: تكفيك آية الصيف التي في آخر"سورة النساء". (1)
10885- حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا عبد الله بن بكر السهمي، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان، عن عمر قال: لن أدع شيئًا أهمَّ عندي من أمر الكلالة، فما أغلظ لي رسول الله صلى الله عليه وسلم في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن بإصبعه في صدري= أو قال: في جنبي= فقال: تكفيك الآية التي أنزلت في آخر"النساء". (2)
__________
(1) الأثر: 10884- خبر سالم بن أبي الجعد، عن معدان، مضى برقم: 10877 من طريق شعبة عن قتادة. وأشار إليه مسلم في صحيحه 11: 57 من طريق ابن علية عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة.
ورواه أحمد في المسند رقم: 341 من طريق محمد بن جعفر، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة مطولا.
ورواه أيضًا مطولا رقم: 89 من طريق عفان، عن همام بن يحيى، عن قتادة.
ورواه مختصرًا رقم: 179 من طريق إسمعيل، عن سعيد بن أبي عروبة.
وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 241 من هذه الأخيرة من مسند أحمد، ولم يذكر شيئًا عن الطرق الأخرى، بل قال: "هكذا رواه مختصرًا، وأخرجه مسلم مطولا أكثر من هذا"، مع أن أحمد أخرجه في مواضع مطولا كما ترى، وكما سيأتي في التعليق على رقم: 10887.
(2) الأثر: 10885-"إبراهيم بن سعيد الجوهري"، شيخ الطبري، ثقة، مضى برقم: 3355، 3959.
و"عبد الله بن بكر بن حبيب السهمي"، ثقة صدوق مأمون، من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب. ومضى في الإسناد رقم: 8284، وهذا طريق آخر للأثر السالف.
وفي المطبوعة: "لم أدع"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/440)
10886- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة: أن عمر بن الخطاب خطب الناس يوم الجمعة فقال: إنيّ والله ما أدع بعدي شيئًا هو أهمّ إليّ من أمر الكلالة، وقد سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما أغلظ لي في شيء ما أغلظ لي فيها، حتى طعن في نحري وقال:"تكفيك آية الصيف التي أنزلت في آخر سورة النساء"، وإن أعِش أقض فيها بقضية لا يختلف فيها أحدٌ قرأ القرآن. (1)
10887- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا هشام، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن معدان بن أبي طلحة، عن عمر بن الخطاب بنحوه. (2)
10888- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي يقول، أخبرنا أبو حمزة، عن جابر، عن الحسن بن مسروق، عن أبيه قال: سألت عمر وهو يخطب الناس عن ذي قرابة لي وَرِث كلالة، فقال: الكلالة، الكلالة، الكلالة!! وأخذ بلحيته، ثم قال: والله لأن أعلمَها أحبَّ إلي من أن يكون لي ما على الأرض من شيء، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف؟ فأعادها ثلاث مرات. (3)
__________
(1) الأثر: 10886- هذه طريق أخرى للأثرين السالفين، طريق سعيد بن أبي عروبة.
(2) الأثر: 10887- رواه من هذه الطريق مسلم في صحيحه 11: 56.
ورواه أحمد مطولا في المسند برقم: 186، وانظر التعليق على الآثار السالفة.
(3) الأثر: 10888-"محمد بن علي بن الحسن بن شقيق" ثقة، مضى برقم: 1591، 2575.
وأبوه "علي بن الحسن بن شقيق" ثقة، مضى أيضًا برقم: 1591، 1909.
و"أبو حمزة" هو السكري: "محمد بن ميمون" ثقة إمام، مضى برقم: 1591.
و"جابر" هو"جابر الجعفي": جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي، مضى برقم: 764، 858، 2340، ومواضع أخرى كثيرة. وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب.
أما "الحسن بن مسروق"، فلم أجد في الرواة من يسمى بهذا الاسم، وأما أبوه فكأنه يعني: "مسروق بن الأجدع الهمداني الوداعي". أحد المقرئين والمفتين.. روى عن أبي بكر وعمر وعثمان وكثير من الصحابة. وليس في الرواة عن مسروق من اسمه"الحسن"، ولا وجدت له ولدًا يقال"الحسن له ابن مسروق".
ففي هذا الإسناد ما فيه من البلاء.
وهذا الأثر ذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 251، عن الحسن بن مسروق، عن أبيه كما هنا، ونسبه للطبري وحده.(9/441)
10889- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن زكريا، عن أبي إسحاق، عن أبي سلمة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الكلالة، فقال: ألم تسمع الآية التي أنزلت في الصيف: (وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً) إلى آخر الآية؟ (1)
10890- حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا إسحاق بن عيسى قال، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أبي الخير: أن رجلا سأل عُقبة عن الكلالة، فقال: ألا تعجبون من هذا؟ يسألني عن الكلالة، وما أعضل بأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء ما أعضلت بهم الكلالة! (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 10889-"أبو أسامة" هو: "حماد بن أسامة بن زيد الكوفي"، مضى برقم: 29، 51، 223، 2995، 5265.
و"زكريا" هو: "زكريا بن أبي زائدة" مضى برقم: 112، 1219.
و"أبو إسحق" هو السبيعي.
و"أبو سلمة" هو: "أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري"، مضى برقم: 8، 67، 3015، 8394.
وهذا الأثر رواه البيهقي في السنن 6: 224، من طريق يحيى بن آدم، عن عمار بن رزيق، عن أبي إسحق، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وقال: "حديث أبي إسحق عن أبي سلمة منقطع، وليس بمعروف".
(2) الأثر: 10890-"إسحق بن عيسى بن نجيح" هو أبو يعقوب، ابن الطباع، مضى برقم: 2836.
و"ابن لهيعة" مضى مرارًا.
و"يزيد بن أبي حبيب المصري" ثقة مضى برقم: 4348، 5493.
و"أبو الخير" هو: "مرثد بن عبد الله اليزني" الفقيه المصري، روى عن عقبة بن عامر الجهني، وكان لا يفارقه، وعمرو بن العاص، وعبد الله بن عمرو، وغيرهم من الصحابة. تابعي ثقة، مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر رواه الدارمي في سننه 2: 366، من طريق عبد الله بن يزيد، عن سعيد بن أبي أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب. وفي النسخة المطبوعة من الدارمي خطأ قال فيها"عن يزيد بن عبد الله اليزني"، والصواب"مرثد بن عبد الله"، وهو أبو الخير، كما سلف.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 250، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.
"أعضل الأمر" و"أعضل به الأمر": ضاق وأشكل، وضاق به ذرعًا لإشكاله.(9/442)
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه قوله جل ثناؤه:"وإن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك"، ولقد علمت اتفاق جميع أهل القبلة= ما خلا ابن عباس وابن الزبير رحمة الله عليهما= على أن الميت لو ترك ابنةً وأختًا، أن لابنته النصف، وما بقي فلأختِه، إذا كانت أخته لأبيه وأمه، أو لأبيه؟ وأين ذلك من قوله:"إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك"، وقد ورَّثوها النصف مع الولد؟
قيل: إنّ الأمر في ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه. إنما جعل الله جل ثناؤه بقوله:"إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك"، إذا لم يكن للميت ولد ذكر ولا أنثى، وكان موروثًا كلالة، النصفَ من تركته فريضةً لها مسمَّاة. فأما إذا كان للميت ولد أنثى، فهي معها عصبة، يصير لها ما كان يصير للعصبة غيرها، لو لم تكن. وذلك غير محدود بحدٍّ، ولا مفروض لها فرضَ سهام أهل الميراث بميراثهم عن ميِّتهم. ولم يقل الله في كتابه:"فإن كان له ولد فلا شيء لأخته معه"، فيكون لما روي عن ابن عباس وابن الزبير في ذلك وجهٌ يوجَّه إليه. وإنما بيَّن جل ثناؤه، مبلغ حقِّها إذا وُرث الميت كلالةً، وترك بيان ما لها من حق إذا لم يورث كلالةً في كتابه، وبيَّنه بوحيه على لسان رسوله صلى الله عليه(9/443)
وسلم، فجعلها عصبة مع إناث ولد الميت. وذلك معنًى غير معنى وراثتها الميت، إذا كان موروثًا كلالةً.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأخو المرأة يرثها إن ماتت قبله، إذا وُرِثت كلالة، (1) ولم يكن لها ولد ولا والد.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فإن كانتا اثنتين"، فإن كانت المتروكة من الأخوات لأبيه وأمه أو لأبيه="اثنتين" فلهما ثلثا ما ترك أخوهما الميت، إذا لم يكن له ولد، وورث كلالة="وإن كانوا إخوة"، يعني: وإن كان المتروكون من إخوته="رجالا ونساء فللذكر" منهم بميراثهم عنه من تركته="مثل حظ الأنثيين"، يعني: مثل نصيب اثنتين من أخواته. (2) وذلك إذا ورث كلالةً، والإخوة والأخوات إخوته وأخواته لأبيه وأمه، أو: لأبيه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إذا ورث كلالة"، والصواب ما أثبت من المخطوطة.
(2) انظر تفسير"مثل حظ الأنثيين" فيما سلف: 8: 30-34.(9/444)
القول في تأويل قوله: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يبين الله لكم قسمة مواريثكم، وحكم الكلالة، وكيف فرائضهم="أن تضلوا"، بمعنى: لئلا تضلوا في أمر المواريث وقسمتها، أي: لئلا تجوروا عن الحق في ذلك وتخطئوا الحكم فيه، فتضلّوا عن قصد السبيل، (1) كما:-
10891- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يبين الله لكم أن تضلوا"، قال: في شأن المواريث.
10892- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن حميد المعمري= وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق= قالا جميعًا، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال: كان عمر إذا قرأ:"يبين الله لكم أن تضلوا" قال: اللهم مَنْ بَيَّنت له الكلالة، فلم تُبَيَّن لي. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وموضع"أن" في قوله:"يبين الله لكم أن تضلوا"، نصبٌ، في قول بعض أهل العربية، لاتصالها بالفعل.
* * *
وفي قول بعضهم: خفضٌ، بمعنى: يبين الله لكم بأن لا تضلوا، ولئلا تضلوا= وأسقطت"لا" من اللفظ وهي مطلوبة في المعنى، لدلالة الكلام عليها. والعرب تفعل ذلك، تقول:"جئتك أن تلومني"، بمعنى: جئتك أن لا تلومني، كما قال القطامي في صفة ناقة:
__________
(1) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) الأثر: 10892- انظر الأثر السالف رقم: 10876.(9/445)
رَأَيْنَا مَا يَرَى البُصَراءُ فِيهَا ... فَآلَيْنَا عَلَيْها أَنْ تُبَاعَا (1)
بمعنى: أن لا تباع.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"والله بكل شيء" من مصالح عباده في قسمة مواريثهم وغيرها، وجميع الأشياء="عليم"، يقول: هو بذلك كله ذو علم. (2)
* * *
(آخر تفسير سورة النساء) والحمد الله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله وسلم
* * *
__________
(1) ديوانه 43، وقد سلف من هذه القصيدة أبيات في 1: 116/7: 557، يصف ناقته لما بلغت مبلغها واستوت كما وصفها، فيقول: لما رأينا كرمها وحسنها حلفنا عليها أن لا تباع، لنفاستها علينا.
(2) انظر تفسير"عليم" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/446)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1)
تفسير سورة المائدة بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا"، يا أيها الذين أقرّوا بوحدانية الله، وأذعنوا له بالعبودية، وسلموا له الألوهة (1) وصدَّقوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم في نبوته وفيما جاءهم به من عند ربهم من شرائع دينه ="أوفوا بالعقود"، يعني: أوفوا بالعهود التي عاهدتموها ربَّكم، والعقود التي عاقدتموها إياه، وأوجبتم بها على أنفسكم حقوقًا، وألزمتم أنفسكم بها لله فروضًا، فأتمُّوها بالوفاء والكمال والتمام منكم لله بما ألزمكم بها، ولمن عاقدتموه منكم، بما أوجبتموه له بها على أنفسكم، ولا تنكُثُوها فتنقضوها بعد توكيدها. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في"العقود" التي أمر الله جل ثناؤه بالوفاء بها بهذه الآية، بعد إجماع جميعهم على أن معنى"العقود"، العهود.
فقال بعضهم: هي العقود التي كان أهل الجاهلية عاقد بعضهم بعضًا على النُّصرة والمؤازرة والمظاهرة على من حاول ظلمه أو بغاه سوءًا، وذلك هو معنى"الحلف" الذي كانوا يتعاقدونه بينهم.
ذكر من قال: معنى"العقود"، العهود.
10893- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
__________
(1) في المطبوعة: "الألوهية"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"أوفى" فيما سلف 1: 557/3: 348/6: 526.(9/447)
معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أوفوا بالعقود"، يعني: بالعهود.
10894- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعز:"أوفوا بالعقود"، قال: العهود.
10895- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10896- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد، مثله. (1)
10897- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرّف بن الشخِّير وعنده رجل يحدثهم، فقال:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: هي العهود. (2)
10898- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أوفوا بالعقود"، قال: العهود.
10899- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: هي العهود.
10900- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول:"أوفوا بالعقود"، بالعهود.
__________
(1) الأثر: 10896- في المخطوطة: "حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن أبي سفيان، عن رجل ... " وهو خطأ وسهو، وهو إسناد دائر في التفسير: سفيان بن وكيع، عن أبيه وكيع، عن سفيان الثوري.
(2) الأثر: 10897-"عبيد الله"، هو"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي""باذام"، مضت ترجمته برقم: 2092، 2219، 5796، 7758. وكان في المطبوعة هنا: "عبيد الله عن ابن أبي جعفر الرازي"، وهو خطأ سيأتي على الصواب في الأسانيد التالية رقم: 10935، 10957، 10963.(9/450)
10901- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله:"أوفوا بالعقود"، قال: بالعهود.
10902- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أوفوا بالعقود"، قال: هي العهود.
10903- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، سمعت الثوري يقول:"أوفوا بالعقود"، قال: بالعهود.
10904- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: و"العقود" جمع"عَقْدٍ"، وأصل"العقد"، عقد الشيء بغيره، وهو وصله به، كما يعقد الحبل بالحبلِ، إذا وصل به شدًّا. يقال منه:"عقد فلان بينه وبين فلان عقدًا، فهو يعقده"، ومنه قول الحطيئة:
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْدًا لِجَارِهِمُ ... شَدُّوا العِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا (1)
__________
(1) ديوانه: 6، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 145، اللسان (كرب) (عنج) ، من قصيدته التي قالها في الزبرقان بن بدر، وبغيض بن عامر من بني أنف الناقة، فمدح بغيضًا وقومه فقال: قَوْمٌ هُمُ الأَنْفُ، وَالأَذْنَابُ غَيْرهُمُ، ... وَمَنْ يُسَوِّي بِأَنْفِ النَّاقَةِ الذَّنَبَا!
قَوْمٌ يَبِيتُ قَرِيرَ العَيْنِ جَارُهُمُ ... إذَا لَوَى بقُوَى أَطْنَابِهِمْ طُنُبَا
قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا........ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
هذا مثل ضربه يقول: إذا عقدوا للجار عقدًا وذمامًا، أحكموا على أنفسهم العقد، حتى يكون أقر عينًا بنصرتهم له، وحمايتهم لعرضه وماله. وضرب المثل بالدلو، التي يستقي بها وينتفع. و"العناج": خيط يشد في أسفل الدلو، ثم يشد في عروتها، أو في أحد آذانها، فإذا انقطع حبل الدلو، أمسك العناج الدلو أن تقع في البئر. و"الكرب" الحبل الذي يشد على الدلو بعد"المنين" وهو الحبل الأول، فإذا انقطع المنين بقي الكرب. فهذا هو المثل، استوثقوا له بالعهد، كما استوثقوا لدلوه بالحبل بعد الحبل حتى تكون بمأمن من القطع.(9/451)
وذلك إذا وَاثقه على أمر وعاهده عليه عهدًا بالوفاء له بما عاقده عليه، من أمان وذِمَّة، أو نصرة، أو نكاح، أو بيع، أو شركة، أو غير ذلك من العقود.
* * *
ذكر من قال المعنى الذي ذكرنا عمن قاله في المراد من قوله:"أوفوا بالعقود".
10905- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، أي: بعقد الجاهلية. ذُكر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: أوفوا بعقد الجاهلية، ولا تحدثوا عقدًا في الإسلام. وذكر لنا أن فرات بن حيَّان العِجلي، سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الجاهلية، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم: لعلك تسأل عن حِلْف لخْمٍ وتَيْم الله؟ فقال: نعم، يا نبي الله! قال: لا يزيده الإسلام إلا شدة.
10906- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة:"أوفوا بالعقود"، قال: عقود الجاهلية: الحلف.
* * *
وقال آخرون: بل هي الحلف التي أخذ الله على عباده بالإيمان به وطاعته، فيما أحل لهم وحرم عليهم.
*ذكر من قال ذلك:
10907- حدثني المثنى قال، أخبرنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أوفوا بالعقود"، يعني: ما أحل وما حرّم، وما فرض، وما حدَّ في القرآن كله، فلا تغدِروا ولا تنكُثوا. ثم شدَّد ذلك فقال: (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) إلى قوله: (سُوءُ الدَّارِ) [سورة الرعد: 35] .
10908- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن(9/452)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أوفوا بالعقود"، ما عقد الله على العباد مما أحل لهم وحرَّم عليهم.
* * *
وقال آخرون: بل هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم، ويعقدها المرء على نفسه.
*ذكر من قال ذلك:
10909- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن موسى بن عبيدة، عن أخيه عبد الله بن عبيدة قال: العقود خمس: عُقدة الأيمان، وعُقدة النكاح، وعقدة العَهد، وعقدة البيع، وعقدة الحِلْف.
10910- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا وكيع، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي = أو عن أخيه عبد الله بن عبيدة، نحوه.
10911- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: عقد العهد، وعقد اليمين وعَقد الحِلْف، وعقد الشركة، وعقد النكاح. قال: هذه العقود، خمس.
10912- حدثني المثنى قال، حدثنا عتبة بن سعيد الحمصي قال، حدثنا عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال، حدثنا أبي في قول الله جل وعز:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، قال: العقود خمس: عقدة النكاح، وعقدة الشركة، وعقد اليمين، وعقدة العهد، وعقدة الحلف. (1)
* * *
وقال آخرون: بل هذه الآية أمرٌ من الله تعالى لأهل الكتاب بالوفاء بما أخذ به ميثاقهم، من العمل بما في التوراة والإنجيل في تصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله.
__________
(1) الأثر 10912-"عتبة بن سعيد الحمصي" مضى برقم: 8966.(9/453)
*ذكر من قال ذلك:
10913- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"أوفوا بالعقود"، قال: العهود التي أخذها الله على أهل الكتاب: أن يعملوا بما جاءهم.
10914- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال، قال محمد بن مسلم: قرأت كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كتب لعمرو بن حزم حين بعثه على نَجْران (1) فكان الكتاب عند أبي بكر بن حزم، فيه:"هذا بيان من الله ورسوله:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود"، فكتب الآيات منها حتى بلغ"إن الله سريع الحساب". (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، ما قاله ابن عباس، وأن معناه: أوفوا، يا أيها الذين آمنوا، بعقود الله التي أوجبَهَا عليكم، وعقدها فيما أحلَّ لكم وحرم عليكم، وألزمكم فرضه، وبيَّن لكم حدوده.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من غيره من الأقوال، لأن الله جل وعز أتبع ذلك البيانَ عما أحل لعباده وحرم عليهم، وما أوجب عليهم من فرائضه. فكان معلومًا بذلك أن قوله:"أوفوا بالعقود"، أمرٌ منه عبادَه بالعمل بما ألزمهم من فرائضه وعقوده عقيب ذلك، ونَهْيٌ منه لهم عن نقض ما عقده عليهم منه، مع أن قوله:"أوفوا بالعقود"، أمرٌ منه بالوفاء بكل عقد أذن فيه، فغير جائز أن يخصَّ منه شيء حتى تقوم حجة بخصوص شيء منه يجب التسليم لها. فإذْ كان الأمر في ذلك كما وصفنا، فلا معنى لقول من وجَّه ذلك إلى معنى الأمر بالوفاء ببعض العقود التي أمرَ الله بالوفاء بها دون بعض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بعثه إلى نجران"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 10914- روى كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبو جعفر في التاريخ 3: 157، وهو في سيرة ابن هشام 4: 241، وفتوح البلدان للبلاذري: 77، وغيرها.(9/454)
وأما قوله:"أوفوا" فإن للعرب فيه لغتين:
إحداهما:"أوفوا"، من قول القائل:"أوفيت لفلان بعهده، أوفي له به".
والأخرى من قولهم:"وفيت له بعهده أفي". (1)
و"الإيفاء بالعهد"، إتمامه على ما عقد عليه من شروطه الجائزة.
* * *
القول في تأويل قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنْعَامِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"بهيمة الأنعام" التي ذكر الله عز ذكره في هذه الآية أنه أحلها لنا.
فقال بعضهم: هي الأنعام كلها.
*ذكر من قال ذلك:
10915- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن عوف، عن الحسن قال: بهيمة الأنعام، هي الإبل والبقر والغنم.
10916- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال: الأنعام كلها.
10917- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا ابن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال: الأنعام كلها.
10918- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، قال: الأنعام كلها. (2)
10920- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول،
__________
(1) انظر تفسير"أوفى" فيما سلف 1: 557-559/3: 348/6: 526.
(2) سقط من الترقيم، رقم: 10919.(9/455)
أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"بهيمة الأنعام"، هي الأنعام.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بقوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، أجنة الأنعام التي توجد في بطون أمهاتها -إذا نحرت أو ذبحت- ميتةً.
*ذكر من قال ذلك:
10921- حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، أخبرنا أبو عبد الرحمن الفزاري، عن عطية العوفي، عن ابن عمر في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام". قال: ما في بطونها. قال قلت: إن خرج ميتًا أكله؟ قال: نعم.
10922- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا يحيى بن زكريا، عن إدريس الأودي، عن عطية، عن ابن عمر نحوه = وزاد فيه قال: نعم، هو بمنزلة رئتها وكبدها.
10923- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الجنين من بهيمة الأنعام، فكلوه.
10924- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر = وسفيان، عن قابوس = عن أبيه، عن ابن عباس: أن بقرة نحرت فوُجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنَب الجنين فقال: هذا من بهيمة الأنعام التي أحلّت لكم.
10925- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: هو من بهيمة الأنعام.
10926- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن قابوس، عن أبيه قال: ذبحنا بقرة، فإذا في بطنها جنين، فسألنا ابن عباس فقال: هذه بهيمة الأنعام.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: عنى(9/456)
بقوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، الأنعام كلها: أجنَّتها وسِخَالها وكبارها. (1) لأن العرب لا تمتنع من تسمية جميع ذلك"بهيمة وبهائم"، ولم يخصص الله منها شيئًا دون شيء. فذلك على عمومه وظاهره، حتى تأتى حجة بخصوصه يجب التسليم لها.
* * *
وأما"النعم" فإنها عند العرب، اسم للإبل والبقر والغنم خاصة، كما قال جل ثناؤه: (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ) ، [سورة النحل: 5] ، ثم قال: (وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً) [سورة النحل: 8] ، ففصل جنس النعم من غيرها من أجناس الحيوان. (2)
وأما"بهائمها"، فإنها أولادها. وإنما قلنا يلزم الكبار منها اسم"بهيمة"، كما يلزم الصغار، لأن معنى قول القائل:"بهيمة الأنعام"، نظير قوله:"ولد الأنعام". فلما كان لا يسقط معنى الولادة عنه بعد الكبر، فكذلك لا يسقط عنه اسم البهيمة بعد الكبر.
* * *
وقد قال قوم:"بهيمة الأنعام"، وحشيُّها، كالظباء وبقر الوحش والحُمُر. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الذي عناه الله بقوله:"إلا ما يتلى عليكم". فقال بعضهم: عنى الله بذلك: أحلت لكم أولاد الإبل والبقر والغنم، إلا ما بيَّن الله لكم فيما يتلى عليكم بقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) ، الآية [سورة المائدة: 3] .
*ذكر من قال ذلك:
10927- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) "السخال" جمع"سخلة" (بفتح فسكون) : وهي ولد الشاة من المعز والضأن، ذكرًا كان أو أنثى.
(2) انظر تفسير"الأنعام" فيما سلف 6: 254.
(3) هي مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 298.(9/457)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، إلا الميتة وما ذكر معها.
10928- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، أي: من الميتة التي نهى الله عنها، وقدَّم فيها.
10929- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إلا ما يتلى عليكم"، قال: إلا الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه.
10930- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا ما يتلى عليكم"، الميتة والدم ولحم الخنزير.
10931- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، الميتة ولحم الخنزير.
10932- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم"، هي الميتة والدم ولحم الخنزير وما أُهِلَّ لغير الله به.
* * *
وقال آخرون: بل الذي استثنى الله بقوله:"إلا ما يتلى عليكم"، الخنزير.
ذكر من قال ذلك.
10933- حدثني عبد الله بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"إلا ما يتلى عليكم"، قال: الخنزير.
10934- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا ما يتلى عليكم"، يعني: الخنزير.
* * *(9/458)
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من قال:"عنى بذلك: إلا ما يتلى عليكم من تحريم الله ما حرّم عليكم بقوله:"حرمت عليكم الميتة"، الآية. لأن الله عز وجل استثنى مما أباح لعباده من بهيمة الأنعام، ما حرَّم عليهم منها. والذي حرّم عليهم منها، ما بيّنه في قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ) [سورة المائدة: 3] . وإن كان حرَّمه الله علينا، فليس من بهيمة الأنعام فيستثنى منها. فاستثناء ما حرَّم علينا مما دخل في جملة ما قبل الاستثناء، أشبهُ من استثناء ما حرَّم مما لم يدخل في جملة ما قبل الاستثناء.
* * *
القول في تأويل قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك:"يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود" ="غير محلي الصيد وأنتم حرم" ="أحلت لكم بهيمة الأنعام" فذلك، على قولهم، من المؤخر الذي معناه التقديم. فـ"غير" منصوب = على قول قائلي هذه المقالة = على الحال مما في قوله:"أوفوا" من ذكر"الذين آمنوا".
وتأويل الكلام على مذهبهم: أوفوا، أيها المؤمنون، بعقود الله التي عقدها عليكم في كتابه، لا محلّين الصيد وأنتم حرم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الأنعام الوحشية من الظباء والبقر والحمر ="غير محلي الصيد"، غير مستحلِّي اصطيادها، وأنتم حرم إلا(9/459)
ما يتلى عليكم". فـ"غير"، على قول هؤلاء، منصوب على الحال من"الكاف والميم" اللتين في قوله:"لكم"، بتأويل: أحلت لكم، أيها الذين آمنوا، بهيمة الأنعام، لا مستحلِّي اصطيادها في حال إحرامكم. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها ="إلا ما يتلى عليكم"، إلا ما كان منها وحشيًّا، فإنه صيد، فلا يحل لكم وأنتم حرم. فكأن من قال ذلك، وجَّه الكلام إلى معنى: أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها ="إلا ما يتلى عليكم"، إلا ما يبين لكم من وحشيها، غيرَ مستحلي اصطيادها في حال إحرامكم. فتكون"غير" منصوبة، على قولهم، على الحال من"الكاف والميم" في قوله:"إلا ما يتلى عليكم".
*ذكر من قال ذلك:
10935- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشخير، وعنده رجل، فحدّثهم فقال:"أحلت لكم بهيمة الأنعام" صيدًا ="غير محلي الصيد وأنتم حرم"، فهو عليكم حرام. يعني: بقر الوحش والظباءَ وأشباهه. (2)
10936- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم"، قال: الأنعام كلها حِلٌّ، إلا ما كان منها وحشيًّا، فإنه صيد، فلا يحل إذا كان مُحْرِمًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب = على ما تظاهر به تأويل
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 298.
(2) انظر الإسناد السالف رقم: 10897، وكان هناك عن"ابن أبي جعفر الرازي"، وهذا هو الإسناد الصحيح، صححت ذلك عليه. وسيأتي برقم: 10957، 10963.(9/460)
أهل التأويل في قوله:"أحلت لكم بهيمة الأنعام"، من أنها الأنعام وأجنَّتها وسخالها، وعلى دلالة ظاهر التنزيل = قولُ من قال: معنى ذلك: أوفوا بالعقود، غيرَ محلي الصيد وأنتم حرم، فقد أحلت لكم بهيمة الأنعام في حال إحرامكم أو غيرها من أحوالكم، إلا ما يتلى عليكم تحريمه من الميتة منها والدم، وما أهل لغير الله به.
وذلك أن قوله:"إلا ما يتلى عليكم"، لو كان معناه:"إلا الصيد"، لقيل:"إلا ما يتلى عليكم من الصيد غير محليه". وفي ترك الله وَصْلَ قوله:"إلا ما يتلى عليكم" بما ذكرت، وإظهار ذكر الصيد في قوله:"غير محلي الصيد"، أوضحُ الدليل على أن قوله:"إلا ما يتلى عليكم"، خَبَرٌ متناهية قصته، وأن معنى قوله:"غير محلي الصيد"، منفصل منه.
وكذلك لو كان قوله: (أحلت لكم بهيمة الأنعام) ، مقصودًا به قصد الوحش، لم يكن أيضًا لإعادة ذكر الصيد في قوله:"غير محلي الصيد" وَجْهٌ، وقد مضى ذكره قبل، ولقيل:"أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلِّيه وأنتم حرم". وفي إظهاره ذكر الصيد في قوله:"غير محلي الصيد"، أبينُ الدلالة على صحة ما قلنا في معنى ذلك.
* * *
فإن قال قائل: فإن العرب ربما أظهرت ذكر الشيء باسمه وقد جرى ذكره باسمه؟ قيل: ذلك من فعلها ضرورة شعر، وليس ذلك بالفصيح المستعمل من كلامهم. وتوجيه كلام الله إلى الأفصح من لغات من نزل كلامه بلغته، أولى = ما وُجد إلى ذلك سبيل = من صرفه إلى غير ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بعقود الله التي عقد عليكم مما حرّم وأحلّ، لا محلين الصيد في حرمكم، ففيما أحلَّ لكم من بهيمة الأنعام المذكَّاة دون ميتتها، متَّسع لكم ومستغنًى عن الصيد في حال إحرامكم.
* * *(9/461)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله يقضي في خلقه ما يشاء (1) من تحليل ما أراد تحليله، وتحريم ما أراد تحريمه، وإيجاب ما شاء إيجابه عليهم، وغير ذلك من أحكامه وقضاياه = فأوفوا، أيها المؤمنون، له بما عقدَ عليكم من تحليل ما أحل لكم وتحريم ما حرّم عليكم، وغير ذلك من عقوده، فلا تنكثوها ولا تنقضوها. كما:-
10937- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الله يحكم ما يريد"، إن الله يحكم ما أراد في خلقه، وبيّن لعباده، وفرض فرائضه، وحدَّ حدوده، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قول الله:"لا تحلوا شعائر الله".
فقال بعضهم معناه: لا تحلوا حُرُمات الله، ولا تتعدَّوا حدوده = كأنهم وجهوا"الشعائر" إلى المعالم، وتأولوا"لا تحلوا شعائر الله"، معالم حدود الله، وأمرَه ونهيَه وفرائضَه.
[ذكر من قال ذلك] : (2)
10938- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا حبيب المعلم، عن عطاء: أنه سئل عن"شعائر الله" فقال: حُرُمات الله، اجتناب سَخَطِ الله، واتباع طاعته، فذلك"شعائر الله".
* * *
__________
(1) انظر تفسير"حكم" فيما سلف: ص 324: تعليق: 3.
(2) ما بين القوسين زيادة ليست في المخطوطة ولا المطبوعة، وأثبتها على نهج أبي جعفر في تفسيره.(9/462)
وقال آخرون: معنى ذلك: (1) لا تحلوا حَرَم الله = فكأنهم وجهوا معنى قوله:"شعائر الله"، أي: معالم حرم الله من البلاد.
*ذكر من قال ذلك:
10939- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، قال: أما"شعائر الله"، فحرَم الله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلّوا مناسك الحج فتضيعوها = وكأنهم وجَّهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حدَّها لكم في حجِّكم.
*ذكر من قال ذلك:
10940- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله:"لا تحلوا شعائر الله"، قال: مناسك الحج.
10941- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، قال: كان المشركون يحجّون البيت الحرام، ويهدُون الهدايا، ويعظِّمون حرمة المشاعر، ويتَّجرون في حجهم، فأراد المسلمون أن يُغَيِّروا عليهم، فقال الله عز وجل:"لا تحلوا شعائر الله".
10942- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"شعائر الله"، الصفا والمروة، والهَدْي، والبُدْن، كل هذا من"شعائر الله".
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "معنى قوله"، وهو لا يستقيم، وما أثبت أشبه بالصواب.(9/463)
10943- حدثني المثنى قال، حدثني أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تحلوا ما حرَّم الله عليكم في حال إحرامكم.
*ذكر من قال ذلك:
10944- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"لا تحلوا شعائر الله"، قال:"شعائر الله"، ما نهى الله عنه أن تصيبه وأنت محرِم.
* * *
= وكأن الذين قالوا هذه المقالة، وجَّهوا تأويل ذلك إلى: لا تحلوا معالم حدود الله التي حرّمها عليكم في إحرامكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بقوله:"لا تحلوا شعائر الله"، قول عطاء الذي ذكرناه (1) من توجيهه معنى ذلك إلى: لا تحلوا حرمات الله ولا تضيعوا فرائضه.
* * *
لأن"الشعائر" جمع"شعيرة"،"والشعيرة""فعيلة" من قول القائل:"قد شعر فلان بهذا الأمر"، إذا علم به. فـ"الشعائر"، المعالم، من ذلك. (2)
* * *
وإذا كان ذلك كذلك، كان معنى الكلام: لا تستحلوا، أيها الذين آمنوا، معالم الله = فيدخل في ذلك معالم الله كلها في مناسك الحج: من تحريم ما حرَّم الله إصابته فيها على المحرم، وتضييع ما نهى عن تضييعه فيها، وفيما حرَّم من استحلال حُرمات حَرَمه، وغير ذلك من حدوده وفرائضه، وحلاله وحرامه، لأن
__________
(1) هو الأثر السالف رقم: 10938.
(2) انظر تفسير"شعائر الله" فيما سلف 3: 226-228.(9/464)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
كل ذلك من معالمه وشعائره التي جعلها أماراتٍ بين الحق والباطل، يُعْلَم بها حلالُه وحرامه، وأمره ونهيه.
وإنما قلنا ذلك القول أولى بتأويل قوله تعالى:"لا تحلوا شعائر الله"، لأن الله نهى عن استحلال شعائره ومعالم حدوده وإحلالها نهيًا عامًّا، من غير اختصاص شيء من ذلك دون شيء، فلم يَجُز لأحد أن يوجِّه معنى ذلك إلى الخصوص إلا بحجة يجب التسليم لها، ولا حجة بذلك كذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا الشهر الحرام"، ولا تستحلوا الشهر الحرام بقتالكم فيه أعداءَكم من المشركين (1) وهو كقوله: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) [سورة البقرة: 217] .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن عباس وغيره.
*ذكر من قال ذلك:
10945- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا الشهر الحرام"، يعني: لا تستحلوا قتالا فيه.
10946- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بقتالكم به"، والصواب من المخطوطة.(9/465)
وأما"الشهر الحرام" الذي عناه الله بقوله:"ولا الشهر الحرام"، فرجب مُضَر، وهو شهر كانت مضر تحرِّم فيه القتال.
* * *
وقد قيل: هو في هذا الموضع"ذو القعدة".
*ذكر من قال ذلك:
10947- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: هو ذو القعدة.
* * *
وقد بينا الدلالة على صحة ما قلنا في ذلك فيما مضى، وذلك في تأويل قوله:"يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ}
قال أبو جعفر:"أما الهدي"، فهو ما أهداه المرء من بعيرٍ أو بقرة أو شاة أو غير ذلك، إلى بيت الله، تقرُّبا به إلى الله، وطلبَ ثوابه. (2)
* * *
يقول الله عز وجل: فلا تستحلوا ذلك، فتغصبوه أهله غَلَبةً (3) ولا تحولوا بينهم وبين ما أهدوا من ذلك أن يبلُغوا به المحِلَّ الذي جعله الله جل وعزّ مَحِلَّه من كعبته.
__________
(1) انظر ما سلف في"الشهر الحرام" 4: 229، 300، وما بعدها، وهو الموضع الذي ذكره، ثم قبله 3: 575-579. وتفسير"الشهر" فيما سلف 3: 440.
(2) انظر تفسير"الهدي" فيما سلف 4: 24، 25.
(3) في المطبوعة: "فتغصبوا أهله عليه"، وفي المخطوطة كما كتبتها، إلا أن كتب"عليه" بالياء، ووضع فتحة على العين، وفتحة على اللام، وظاهر أن"الياء" إنما هي"باء"، وأن الناسخ لما رآها مضبوطة في النسخة الأم نقل الشكل، ووضع الإعجام من عند نفسه. هذا وصواب الكلام يقتضي أيضًا ما أثبت.(9/466)
وقد روي عن ابن عباس أن"الهدي" إنما يكون هديًا ما لم يُقَلَّد.
10948- حدثني بذلك محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا الهدي"، قال: الهدي ما لم يقلَّد، وقد جعل على نفسه أن يهديه ويقلِّده.
* * *
وأما قوله:"ولا القلائد"، فإنه يعني: ولا تحلوا أيضًا القلائد.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في"القلائد" التي نهى الله عز وجل عن إحلالها.
فقال بعضهم: عنى بـ "القلائد"، قلائدَ الهدي. وقالوا: إنما أراد الله جل وعز بقوله:"ولا الهدي ولا القلائد"، ولا تحلوا الهدايا المقلَّدات منها وغير المقلَّدات. فقوله:"ولا الهدي"، ما لم يقلّد من الهدايا ="ولا القلائد"، المقلّد منها. قالوا: ودلّ بقوله:"ولا القلائد"، على معنى ما أراد من النهي عن استحلال الهدايا المقلّدة.
*ذكر من قال ذلك:
10949- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا القلائد"، القلائد، مقلَّدات الهدي. وإذا قلَّد الرجل هديه فقد أحرم. فإن فعل ذلك وعليه قميصه، فليخلَعْه.
* * *
وقال آخرون: يعني بذلك: القلائد التي كان المشركون يتقلدونها إذا أرادوا الحج مقبلين إلى مكة، من لِحَاء السَّمُر (1) = وإذا خرجوا منها إلى منازلهم منصرفين منها، من الشَّعَر.
__________
(1) "لحاء الشجرة" (بكسر اللام) : قشرها. و"السمر" (بفتح السين وضم الميم) : ضرب من الشجر، صغار الورق، قصار الشوك، وله برمة صفراء يأكلها الناس، وليس في العضاء شيء أجود خشبًا منه. ينقل إلى القرى، فتغمى به البيوت.(9/467)
*ذكر من قال ذلك:
10950- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام"، قال: كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلَّد من السَّمُر، فلم يعرض له أحد. فإذا رجع تقلَّد قِلادة شَعَر، فلم يعرض له أحد.
* * *
وقال آخرون: بل كان الرجل منهم يتقلّد = إذا أراد الخروج من الحرم، أو خرج = من لحاء شجر الحرم، فيأمن بذلك من سائر قبائل العرب أن يعرضوا له بسوء.
*ذكر من قال ذلك:
10951- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مالك بن مغول، عن عطاء:"ولا القلائد"، قال: كانوا يتقلدون من لحاء شجر الحرم، يأمنون بذلك إذا خرجوا من الحرم، فنزلت:"لا تحلوا شعائر الله"، الآية،"ولا الهدي ولا القلائد".
10952- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا القلائد"، قال:"القلائد"، اللحاء في رقاب الناس والبهائم، أمْنٌ لهم.
10953- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10954- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله:"ولا الهدي ولا القلائد"، قال: إن العرب كانوا يتقلدون من لحاء شجر مكة، فيقيم الرجل بمكانه، حتى إذا انقضت الأشهر الحرم، فأراد أن يرجع إلى أهله، قلَّد نفسه وناقته من لحاء الشجر، فيأمن حتى يأتي أهله.(9/468)
10955- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: "ولا القلائد"، قال:"القلائد"، كان الرجل يأخذ لحاء شجرة من شجر الحرم، فيتقلدها، ثم يذهب حيث شاء، فيأمن بذلك. فذلك"القلائد".
* * *
وقال آخرون: إنما نهى الله المؤمنين بقوله:"ولا القلائد"، أن ينزعوا شيئًا من شجر الحرم فيتقلّدوه، كما كان المشركون يفعلون في جاهليتهم.
*ذكر من قال ذلك:
10956- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله:"ولا الهدي ولا القلائد"، كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لحاء السَّمُر، فيتقلدونها، فيأمنون بها من الناس. فنهى الله أن ينزع شجرها فَيُتَقَلَّد.
10957- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مُطرِّف بن الشخير، وعنده رجل فحدّثهم في قوله:"ولا القلائد"، قال: كان المشركون يأخذون من شجر مكة، من لِحاء السمر، فيتقلدون، فيأمنون بها في الناس. فنهى الله عز ذكره أن يُنزع شجرها فيتقلَّد.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل قوله:"ولا القلائد" = إذ كانت معطوفة على أول الكلام، ولم يكن في الكلام ما يدلّ على انقطاعها عن أوله، ولا أنه عنى بها النهي عن التقلد أو اتخاذ القلائد من شيء = أن يكون معناه: ولا تُحِلّوا القلائد.
فإذا كان ذلك بتأويله أولى، فمعلوم أنه نَهْيٌ من الله جل ذكره عن استحلال حرمة المقلَّد، هديًا كان ذلك أو إنسانًا، دون حرمة القلادة. وإن الله عز ذكره، إنما دلّ بتحريمه حرمة القلادة، على ما ذكرنا من حرمة المقلَّد، فاجتزأ بذكره(9/469)
"القلائد" من ذكر"المقلد"، إذ كان مفهومًا عند المخاطبين بذلك معنى ما أريد به.
* * *
فمعنى الآية = إذ كان الأمر على ما وصفنا =: يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله، ولا الشهر الحرام، ولا الهدي، ولا المقلِّد نفسَه بقلائد الحرم. (1)
* * *
وقد ذكر بعض الشعراء في شعره ما ذكرنا عمن تأوَّل"القلائد" أنها قلائد لحاء شجر الحرم الذي كان أهل الجاهلية يتقلَّدونه، فقال وهو يعيب رجلين قتلا رجلين كانا تقلَّدا ذلك: (2)
أَلَمْ تَقْتُلا الْحِرْجَيْنِ إذْ أَعْوَراكُمَا ... يُمِرَّانِ بِالأيْدِي اللِّحَاءَ الْمُضَفَّرَا (3)
و"الحرجان"، المقتولان كذلك. ومعنى قوله:"أعوراكما"، أمكناكما من عورتهما. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ولا المقلد بقسميه"، وهو لا معنى له، والصواب ما في المخطوطة. يعني: الذي يقلد نفسه قلادة من شجر أو شعر، ليأمن، كما ذكر آنفًا، وانظر الفقرة التالية.
(2) القائل هو حذيفة بن أنس الهذلي.
(3) أشعار الهذليين 3: 19، والمعاني الكبير: 1120، واللسان (حرج) . و"الحرج" (بكسر الحاء وسكون الراء) : الودعة، قالوا: عنى بالحرجين: رجلين أبيضين كالودعة، فإما أن يكون البياض لونهما، وإما أن يكون كنى بذلك عن شرفهما. وقال شارح ديوانه: "ويكون أيضًا الحرجان، رجلين يقال لهما: الحرجان". و"أمر الحبل يمره": فتله. و"اللحاء"، قشر الشجر. و"المضفر" الذي جدل ضفائر.
هذا وقد ذكر أبو جعفر أن الشعر في رجلين قتلا رجلين، وروى"ألم تقتلا"، والذي في المراجع"ألم تقتلوا"، وهو الذي يدل عليه سياق الشعر، فإن أوله قبل البيت: ألا أبْلِغَا جُلَّ السَّوَارِي وَجابرًا ... وَأَبْلِغْ بَني ذِي السَّهْم عَنِّي وَيَعْمَرَا
وَقُولا لَهُمْ عَنِّي مَقَالَةَ شَاعِرٍ ... أَلَمّ بقَوْلٍ، لَمْ يُحَاوِلْ لِيَفْخَرَا
لَعَلَّكُمْ لَمَّا قَتَلْتُمْ ذَكَرْتُمُ ... وَلَنْ تَتْرُكُوا أَنْ تَقْتُلُوا، مَنْ تَعَمَّرَا
فالشعر كله بضمير الجمع. وسببه أن جندبًا، أخو البريق بن عياض اللحياني، قتل قيسًا وسالمًا ابني عامر بن عريب الكنانيين، وقتل سالم جندبًا، اختلفا ضربتين.
(4) رواية أبي جعفر كما شرحها"أعوراكما"، ورواية الديوان"أعورا لكم"، وهي في سياق لمشعر، ورواية اللسان: "أعرضا لكم"، ويروي"عورا لكم" بتشديد الواو. هذا على أن هذه الرواية: "أعور" متعديًا، والذي كتب في اللغة"أعور لك الشيء فهو معور".(9/470)
القول في تأويل قوله: {وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا} (1)
قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكره:"ولا آمين البيت الحرام"، ولا تحلُّوا قاصدي البيت الحرام العامدية. (2)
* * *
تقول منه:"أممت كذا"، إذا قصدته وعمدته، وبعضهم يقول:"يَمَمْته" (3) كما قال الشاعر: (4)
إنِّي كَذَاكَ إذَا مَا سَاءَنِي بَلَدٌ ... يَمَمْتُ صَدْرَ بَعِيرِي غَيْرَهُ بَلَدَا (5)
* * *
"والبيت الحرام"، بيت الله الذي بمكة، وقد بينت فيما مضى لم قيل له"الحرام". (6)
* * *
="يبتغون فضلا من ربهم"، يعني: يلتمسون أرباحًا في تجاراتهم من الله
__________
(1) كان في المطبوعة والمخطوطة: "ولا آمين البيت الحرام"، ولم يأت بقية ما شرح من الآية في هذا الموضع. فزدت ما شرحه هنا. هذا على أنه سيعود إلى شرحه مرة أخرى في ص: 479. وهذا غريب جدًا، لا أدري كيف وقع لأبي جعفر، فلعله نسي، أو أخذه ما يأخذه الناس من التعب عند هذا الموضع، ثم عاد إليه فلم يغير، ثم ابتدأ الكلام في تفسير بقية الآية، وترك ما مضى.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ولا تحلوا قاصدين البيت"، وهو خطأ، كما يدل عليه السياق. والصواب ما أثبته.
(3) انظر تفسير"أم يؤم" فيما سلف 5: 558/8: 407. وقوله: "يممته" ثلاثي، بفتح الياء والميم الأولى وسكون الثانية: مثل"ضربت".
(4) لم أعرف قائله.
(5) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 146.
(6) انظر ما سلف 3: 44-51.(9/471)
="ورضوانًا"، يقول: وأن يرضى الله عنهم بنسكهم.
* * *
وقد قيل: إن هذه الآية نزلت في رجل من بني ربيعة يقال له:"الحُطَمُ".
*ذكر من قال ذلك:
10958- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أقبل الحُطم بن هند البكري، ثم أحد بني قيس بن ثعلبة (1) حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم وحده، وخَلَّف خيله خارجة من المدينة. فدعاه، فقال: إلام تدعو؟ فأخبره = وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: يدخل اليوم عليكم رجل من ربيعة، يتكلم بلسان شيطان! = فلما أخبره النبي صلى الله عليه وسلم قال: انظر، ولعلّي أسلم (2) ولي من أشاوره. فخرج من عنده، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد دخل بوجه كافر، وخرج بعَقِب غادرٍ! فمرَّ بسَرْح من سَرْح المدينة فساقه، فانطلق به وهو يرتجز (3)
__________
(1) "الحطم" لقب، واسمه: "شريح بن ضبيعة بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، من بكر بن وائل" (جمهرة الأنساب: 301) ، وهذا"الحطم"، خرج في الردة، في السنة الحادية عشرة، فيمن تبعه من بكر بن وائل، ومن تأشب إليه من غير المرتدين ممن لم يزل كافرًا، فخرج بهم حتى نزل القطيف وهجر، واستغوى الخط، ومن فيها من الزط والسيابجة. وحاصر المسلمين حصارًا شديدًا. فتجمع المسلمون جميعًا إلى العلاء بن الحضرمي، وتجمع المشركون كلهم إلى الحطم. ثم بيتهم المسلمون وقتلوا الحطم ومن معه في خبر طويل (انظر تاريخ الطبري 3: 254-260) .
وقوله هنا: "الحطم بن هند"، أتى بذكر أمه من الشعر الآتي، واسم أبيه هو ما مر بك آنفًا، وهي: "هند بنت حسان بن عمرو بن مرثد" (رغبة الآمل 4: 75) .
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "انظروا لعلي أسلم"، وليس بشيء، والصواب ما أثبت، ويؤيده كلامه الآتي في الخبر التالي.
(3) اختلفوا في نسبة هذا الشعر اختلافًا كثيرًا، فنقل التبريزي في شرح الحماسة (1: 185) خبر رشيد بن رميض العنزي (بفتح العين، وسكون النون) من بني عنز بن وائل، بلا شك عندي في ذلك. قال التبريري: "قالها في غارة الحطم، وهو شريح بن شرحبيل بن عمرو بن مرثد، أغار على اليمن، فقتل وليعة بن معد يكرب، أخا قيس، وسبى بنت قيس بن معد يكرب، أخت الأشعث بن قيس، فبعث الأشعث يعرض عليه في فدائها، بكل قرن من قرونها (ضفائرها) مئة من الإبل. فلم يفعل الحطم، وماتت عنده عطشًا. (وانظر غير ذلك في الأغاني 14: 44) .
ونسبت أيضًا للأغلب العجلي، وللأخنس بن شهاب، ولجابر بن حني التغلبي. وانظر ذلك في تحقيق أستاذنا الراجكوتي، سمط اللآلئ: 729. ولعل"الحطم" أنشده مدحًا لنفسه فيما فعل من سوق السرح.(9/472)
قَدْ لَفَّهَا اللَّيْلُ بِسَوَّاقٍ حُطَمْ ... لَيْسَ بِرَاعِي إبِلٍ وَلا غَنَم ... وَلا بِجَزَّارٍ على ظَهْرِ الوَضَمْ ... بَاتُوا نِيَامًا وَابْنُ هِنْدٍ لَمْ يَنَمْ ... بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلامٌ كَالزَّلَمْ ... خَدَلَّجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ القَدَمْ (1)
ثم أقبل من عام قابلٍ حاجًّا قد قلَّد وأهدى، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، فنزلت هذه الآية، حتى بلغ:"ولا آمين البيت الحرام". قال له ناس من أصحابه: يا رسول الله، خلِّ بيننا وبينه، فإنه صاحبنا! قال: إنه قد قلَّد! قالوا: إنما هو شيء كنا نصنعه في الجاهلية! فأبى عليهم، فنزلت هذه الآية.
10959- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: قدم الحُطَم، أخو بني ضُبيعة بن ثعلبة البكري، المدينةَ في عِير له يحمل طعامًا، فباعه. ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) البيان والتبيين 2: 308، الأغاني 14: 44، حماسة أبي تمام 1: 184، حماسة ابن الشجري: 38، الكامل 1: 224 (ونسبه للحطم في ص: 227) ، الخيل لابن الأعرابي 86، واللسان (حطم) وغيرها، وقبل هذا الرجز: هذَا أوانُ الشَّدِّ، فَاشْتَدِّي زِيَمْ
و"زيم" اسم فرس. وقوله: "حطم" شديد الحطم، فقالوا: للسائق الذي لا يبقى شيئًا من السير والإسراع"حطم". و"الوضم" ما يوقي به اللحم عند تقطيعه من خشب أو غيره. و"الزلم" (بفتح الزاي واللام، أو بضم الزاي) ، واحد"الأزلام"، وهي قداح الميسر. يعني: هو كالقدح في صلابته ونحافته وملاسته. و"خدلج الساقين": ممتلئ الساقين، وهذا غير حسن في الرجال، وإنما صواب روايته ما رواه ابن الأعرابي: مُهَفْهَفُ الْكَشْحَيْنِ خَفَّاقُ القَدَمْ
أي ضامر الخصر. و"خفاق القدم"، لأقدامه خفق متتابع على الأرض من سرعته وهو يحدو بالإبل. ورواية أبي جعفر"ممسوح القدم": أي ليس لباطن قدمه أخمص، فأسفل قدمه مستو أملس لين، ليس فيهما تكسر ولا شقاق. وقد جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مسيح القدمين".(9/473)
فبايعه وأسلم. فلما ولى خارجًا، نظر إليه فقال لمن عنده: لقد دخل عليّ بوجهٍ فاجرٍ، وولّى بقفا غادرٍ! فلما قدم اليمامة ارتدَّ عن الإسلام، وخرج في عير له تحمل الطعام في ذي القعدة يريد مكة. فلما سمع به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، تهيَّأ للخروج إليه نفر من المهاجرين والأنصار ليقتطعوه في عِيره، فأنزل الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، الآية، فانتهى القوم.
= قال ابن جريج قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، قال: ينهى عن الحجاج أن تُقطع سبلهم. قال: وذلك أن الحطم قدِم على النبي صلى الله عليه وسلم ليرتاد وينظر، فقال: إني داعية قوم (1) فاعرض عليّ ما تقول. قال له: أدعوك إلى الله أن تعبده ولا تشرك به شيئًا، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم شهر رمضان، وتحج البيت. قال الحطم: في أمرك هذا غلظة، أرجع إلى قومي فأذكر لهم ما ذكرت، فإن قبلوه أقبلتُ معهم، وإن أدبروا كنت معهم. قال له: ارجع. فلما خرج قال: لقد دخل عليّ بوجه كافرٍ، وخرج من عندي بعَقِبَى غادر، وما الرجل بمسلم! فمرَّ على سَرْح لأهل المدينة فانطلق به، فطلبه أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ففاتهم، وقدم اليمامة، وحضر الحج، فجهّز خارجًا، وكان عظيم التجارة، فاستأذنوا أن يتلقَّوه ويأخذوا ما معه، فأنزل الله عز وجل:"لا تحلّوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام".
10960- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا آمين البيت الحرام" الآية، قال: هذا يوم الفتح، جاء ناسٌ يؤمُّون البيت من المشركين يُهِلُّون بعمرة، فقال المسلمون: يا رسول الله، إنما هؤلاء مشركون كمثل هؤلاء (2) فلن ندعهم إلا أن نغير عليهم. فنزل القرآن:"ولا آمين البيت الحرام".
10961- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
__________
(1) في المطبوعة: "داعية قومي"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء.
(2) في المطبوعة: "فمثل هؤلاء"، وصواب قراءتها من المخطوطة، كما أثبت.(9/474)
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا آمين البيت الحرام"، يقول: من توجَّه حاجًّا.
10962- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، يعني: الحاج. (1)
10963- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشخّير وعنده رجل، فحدثهم فقال:"ولا آمين البيت الحرام"، قال: الذين يريدون البيت.
* * *
ثم اختلف أهل العلم فيما نسخ من هذه الآية، بعد إجماعهم على أن منها منسوخًا.
فقال بعضهم: نسخ جميعها.
*ذكر من قال ذلك:
10964- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن عامر، قال: لم ينسخ من المائدة إلا هذه الآية:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد".
10965- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مجاهد:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله"، نسختها، (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، [سورة التوبة: 5] .
10966- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
__________
(1) الأثر: 10962-"عمرو بن عون بن أوس الواسطي"، مضت ترجمته برقم: 5435، ومضى في آثار أخرى كثيرة، رواية المثنى عنه، عن هشيم فيما سلف، مثل: 3159، 3879. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عمرو بن عوف"، وهو تحريف. وسيأتي على الصواب قريبًا برقم: 10969.(9/475)
الثوري، عن بيان، عن الشعبي قال، لم ينسخ من سورة المائدة غير هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله".
10967- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام" الآية، قال: منسوخ. قال: كان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت، فأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحُرم، ولا عند البيت، فنسخها قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) . (1)
10968- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن جويبر، عن الضحاك:"لا تحلوا شعائر الله" إلى قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، قال: نسختها"براءة": (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
10969- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن الضحاك، مثله.
10970- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد"، قال: هذا شيء نهي عنه، فترك كما هو. (2)
10971- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، قال: هذا كله منسوخ، نسخ هذا أمرُه بجهادهم كافة. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 10967- هو تمام الأثر السالف رقم: 10950 وسيأتي برقم: 10976، خبرًا واحدًا، ورواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 115.
(2) الأثر: 10970-"جرير"، هو"جرير بن عبد الحميد الضبي"، مضى مرارًا. وكان في المطبوعة: "جويبر"، وهو خطأ فاحش، والصواب من المخطوطة.
(3) يعني قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا المُشْرِكينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [سورة التوبة: 36](9/476)
وقال آخرون: الذي نسخ من هذه الآية قوله:"ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام".
*ذكر من قال ذلك:
10972- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة: نسخ من"المائدة":"آمين البيت الحرام"، نسختها"براءة" قال الله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، وقال: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ) [سورة التوبة: 17] ، وقال: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) [سورة التوبة: 27] ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر، فنادى فيه بالأذان. (1)
10973- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تحلوا شعائر الله" الآية، قال: فنسخ منها:"آمين البيت الحرام"، نسختها"براءة"، فقال: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، فذكر نحو حديث عبدة.
10974- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: نزل في شأن الحُطم:"ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، ثم نسخه الله فقال: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ) (2) [سورة البقرة: 191] .
10975- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن
__________
(1) في المخطوطة: "فنادى عليه بالأذان" وفوق"عليه""فيه". ويعني بالأذان، قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إلَى الناسِ يَوْمَ الحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللهَ بَرِيءٌ منَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ} ، [سورة التوبة: 2] .
(2) انظر خبر"الحطم" فيما سلف رقم: 10958، 10959.(9/477)
علي، عن ابن عباس قوله:"لا تحلوا شعائر الله" إلى قوله:"ولا آمين البيت"، [فكان المؤمنون والمشركون يحجون إلى البيت] جميعًا، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحدًا أن يحجّ البيت أو يعرضوا له، من مؤمن أو كافر، ثم أنزل الله بعد هذا: (إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا) ، وقال: (مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ) ، وقال: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) [سورة التوبة: 18] ، فنفى المشركين من المسجد الحرام. (1)
10976- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام"، الآية، قال: منسوخ، كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج، تقلَّد من السَّمُر فلم يعرض له أحد. وإذا رجع، تقلَّد قلادة شَعَرٍ فلم يعرض له أحد. وكان المشرك يومئذ لا يُصَدُّ عن البيت. وأمروا أن لا يقاتلوا في الأشهر الحُرُم، ولا عند البيت، فنسخها قوله:"فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم ". (2)
* * *
وقال آخرون: لم ينسخ من ذلك شيء، إلا القلائد التي كانت في الجاهلية يتقلَّدونها من لِحَاء الشجر.
*ذكر من قال ذلك:
10977- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا تحلوا شعائر الله ولا الشهر الحرام"، الآية، قال أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: هذا كله من عمل الجاهلية فِعله وإقامته، فحرَّم الله ذلك كله بالإسلام، إلا لحاء القلائد، فترك
__________
(1) الأثر: 10975- ما بين القوسين، زيادة من رواية أبي جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 115، حيث روى هذا الأثر بهذا الإسناد نفسه، والكلام بغيرها لا يستقيم.
(2) الأثر: 10976- هو ما جاء في الأثرين السالفين: 10950، 10967.(9/478)
ذلك (1) ="ولا آمين البيت الحرام"، فحرم الله على كل أحد إخافتهم.
10978- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة، قول من قال: نسخ الله من هذه الآية قوله:"ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام"، لإجماع الجميع على أن الله قد أحلّ قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة كلها. وكذلك أجمعوا على أن المشرك لو قَلَّد عنقه أو ذراعيه لحاء جميع أشجار الحرم، لم يكن ذلك له أمانًا من القتل، إذا لم يكن تقدَّم له عقد ذمة من المسلمين أو أمان = وقد بينا فيما مضى معنى"القلائد" في غير هذا الموضع. (2)
وأما قوله:"ولا آمين البيت الحرام"، فإنه محتمل ظاهره: ولا تحلوا حُرْمة آمِّين البيت الحرام من أهل الشرك والإسلام، لعموم جميع من أمَّ البيت. وإذا احتمل ذلك، فكان أهل الشرك داخلين في جملتهم، فلا شك أن قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) ، ناسخٌ له. لأنه غير جائز اجتماع الأمر بقتلهم وترك قتلهم في حال واحدة ووقت واحد. وفي إجماع الجميع على أن حكم الله في أهل الحرب من المشركين قتلُهم، أمُّوا البيت الحرام أو البيت المقدس، في أشهر الحرم وغيرها = ما يُعلم أن المنع من قتلهم إذا أموا البيت الحرام منسوخٌ. ومحتمل أيضًا: ولا آمين البيت الحرام من أهل الشرك.
وأكثر أهل التأويل على ذلك.
وإن كان عُني بذلك المشركون من أهل الحرب، فهو أيضًا لا شك منسوخ.
* * *
__________
(1) يعني فجعلها الله إحلالها حرامًا في الإسلام إلا لحاء القلائد، فإنه قد نسخ.
(2) انظر ما سلف ص: 467-470.(9/479)
وإذْ كان ذلك كذلك = وكان لا اختلاف في ذلك بينهم ظاهر، وكان ما كان مستفيضًا فيهم ظاهرًا حجةً = فالواجب، وإن احتمل ذلك معنى غير الذي قالوا، التسليمُ لما استفاض بصحته نقلهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَبْتَغُونَ فَضْلا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"يبتغون"، يطلبون ويلتمسون = و"الفضل" الأرباح في التجارة = و"الرضوان"، رضَى الله عنهم، فلا يحل بهم من العقوبة في الدنيا ما أحلَّ بغيرهم من الأمم في عاجل دنياهم، بحجّهم بيتَه. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10979- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، قال: هم المشركون، يلتمسون فضل الله ورضوانه فيما يصلح لهم دُنياهم.
10980- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة فقال: هكذا سمعته من قتادة في قوله:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، والفضل والرضوان اللذان يبتغون: أن يصلح معايشهم في الدنيا، وأن لا يعجَّل لهم العقوبة فيها.
__________
(1) سياق هذه الفقرة: "وإذ كان ذلك كذلك، وكان لا اختلاف ... فالواجب ... التسليم لما استفاض بصحته نقلهم".
(2) مضى تفسير هذه الآية ص: 471، 472، كما أسلفت في التعليق: 1، ص: 471 وانظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف 9: 319، تعليق: 3، والمراجع هناك.
وتفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة.
وتفسير"الرضوان" فيما سلف 6: 262.(9/480)
10981- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن ابن عباس:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، يعني: أنهم يترضَّون الله بحجهم.
10982- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: جلسنا إلى مطرِّف بن الشِّخِّير، وعنده رجل فحدثهم في قوله:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، قال: التجارة في الحج، والرضوان في الحج.
10983- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي أميمة قال، قال ابن عمر في الرجل يحج ويحمل معه متاعًا، قال: لا بأس به = وتلا هذه الآية:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا". (1)
10984- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يبتغون فضلا من ربهم ورضوانًا"، قال: يبتغون الأجر والتجارة.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا حللتم فاصطادوا الصيد الذي نهيتكم أن تُحِلُّوه وأنتم حرم. يقول: فلا حرج عليكم في اصطياده، واصطادوا إن شئتم حينئذ، لأن المعنى الذي من أجله كنت حرَّمته عليكم في حال إحرامكم قد زال.
* * *
__________
(1) الأثر: 10983-"أبو أميمة التيمي" وهو"أبو أمامة التيمي"، قال ابن معين: "ثقة، لا يعرف اسمه"، وقال البخاري في الكنى: "أبو أمامة، قال شعبة: أبو أميمة سمع ابن عمر. روى عنه العلاء، وشعبة. يقال اسمه: عمرو بن أسماء". مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري: 4، وابن أبي حاتم في باب"أبو أمامة"، و"أبو أميمة". ترجمتان 4/2/330، 331.(9/481)
وبما قلنا في ذلك قال جميع أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10985- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حصين، عن مجاهد أنه قال: هي رخصة = يعني قوله:"وإذا حللتم فاصطادوا".
10986- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن القاسم، عن مجاهد قال: خمس في كتاب الله رخصة، وليست بعَزْمة، فذكر:"وإذا حللتم فاصطادوا"، قال: من شاء فعل، ومن شاء لم يفعل.
10987- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد، عن حجاج، عن عطاء، مثله.
10988- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن مجاهد:"وإذا حللتم فاصطادوا"، قال: إذا حلّ، فإن شاء صاد، وإن شاء لم يصطد.
10989- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن رجل، عن مجاهد: أنه كان لا يرى الأكل من هَدْي المتعة واجبًا، وكان يتأول هذه الآية:"وإذا حللتم فاصطادوا" = (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ) [سورة الجمعة: 10] . (1)
* * *
__________
(1) يعني بقوله: "يتأول هذه الآية"، أي يفسرها كتفسير الآية الأخرى: فإذا قضيت الصلاة، فمن شاء خرج من المسجد، ومن شاء جلس، رخصة من الله.(9/482)
القول في تأويل قوله: {وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا يجرمنكم"، ولا يحملنكم، كما:-
10990- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، يقول: لا يحملنكم شنآن قوم.
10991- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، أي: لا يحملنكم.
* * *
وأما أهل المعرفة باللغة فإنهم اختلفوا في تأويلها.
فقال بعض البصريين: معنى قوله:"ولا يجرمنكم"، لا يُحِقَّنَّ لكم، لأن قوله: (لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ) [سورة النحل: 62] ، هو: حقٌّ أن لهم النار. (1)
* * *
وقال بعض الكوفيين: معناه: لا يحملنَّكم. وقال: يقال:"جرمني فلان على أن صنعت كذا وكذا"، أي: حملني عليه.
* * *
واحتج جميعهم ببيت الشاعر: (2)
وَلَقَدْ طَعَنْتَ أَبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزَارَةُ بَعْدَهَا أَنْ يَغْضَبُوا (3)
__________
(1) هذه مقالة الأخفش، كما ذكر ذلك صاحب لسان العرب، مادة (جرم) .
(2) هو أبو أسماء بن الضّريبة. ويقال: هو لعطية بن عفيف، ونسبه سيبوبه للفزاري مجهلا.
(3) سيبويه 1: 469، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 147، مشكل القرآن: 418، والفاخر: 200، الجواليقي: 163، البطليوسي: 313، الخزانة 4: 310، اللسان (جرم) . وسبب الشعر أن كرزًا العقيلي، قتل أبا عيينة حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري يوم حاجر، فلما قتل كرز، قال الشاعر يرثيه ويخاطبه: يَا كُرزُ، إنَّكَ قَدْ قُتِلْتَ بِفَارِسٍ ... بَطَلٍ إذَا هَابَ الكُمَاةُ وَجَبَّبُوا
"جبب الرجل تجبيبًا": إذا فر ومضى مسرعًا. وروى البكري في معجم ما استعجم أنه قال: يَا كُرْزُ إنَّكَ قد فَتَكْتَ بِفَارِسٍ ... بَطَلٍ إذَا هَابَ الكُمَاةُ مُجَرَّبِ
وكأنه شعر غير هذا الشعر.(9/483)
فتأول ذلك كل فريق منهم على المعنى الذي تأوله من القرآن. فقال الذين قالوا:"لا يجرمنكم"، لا يُحِقَّن لكم = معنى قول الشاعر:"جرمت فزارة"، أحقَّت الطعنةُ لفزارة الغضبَ.
وقال الذين قالوا: معناه: لا يحملنكم = معناه في البيت:"جرمت فزارة أن يغضبوا"، حملت فزارة على أن يغضبوا.
* * *
وقال آخر من الكوفيين: معنى قوله:"لا يجرمنكم"، لا يكسبنكم شنآن قوم.
وتأويل قائل هذا القول قولَ الشاعر في البيت:"جرمت فزارة"، كسبت فزارة أن يغضبوا. قال: وسمعت العرب تقول:"فلان جريمة أهله"، بمعنى: كاسبهم ="وخرج يجرمهم"، يكسبهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي حكيناها عمن حكيناها عنه، متقاربة المعنى. وذلك أن من حمل رجلا على بغض رجل، فقد أكسبه بغضه. ومن أكسبه بغضه، فقد أحقَّه له.
فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أحسن في الإبانة عن معنى الحرف، ما قاله ابن عباس وقتادة، وذلك توجيههما معنى قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، ولا يحملنكم شنآن قومٍ على العدوان.
* * *
__________
(1) قائل هذا هو الفراء في معاني القرآن 1: 299.(9/484)
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الأمصار: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) بفتح"الياء" من:"جَرَمْتُه أجْرِمُه".
* * *
وقرأ ذلك بعض قرأة الكوفيين (1) وهو يحيى بين وثّاب، والأعمش: ما:-
10992- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش أنه قرأ: (وَلا يُجْرِمَنَّكُمْ) مرتفعة"الياء"، من:"أجرمته أجرمه، وهو يُجْرِمني".
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القراءتين، قراءة من قرأ ذلك: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) بفتح"الياء"، لاستفاضة القراءة بذلك في قرأة الأمصار، وشذوذ ما خالفها، وأنها اللغة المعروفة السائرة في العرب، وإن كان مسموعًا من بعضها:"أجرم يُجْرم" على شذوذه. وقراءة القرآن بأفصح اللغات، أولى وأحق منها بغير ذلك. ومن لغة من قال"جَرَمْتُ"، قول الشاعر: (2)
يَا أَيُّهَا المُشْتَكِي عُكْلا وَمَا جَرَمَتْ ... إلى القَبَائِلِ مِنْ قَتْلٍ، وإبْآسُ (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 299.
(2) ينسب للفرزدق، وليس في ديوانه.
(3) مجالس ثعلب: 49، 50، والأضداد لابن الأنباري: 85، والبيت مرفوع القافية وبعد البيت: إنّا كَذَاكَ، إذَا كانَتْ هَمَرَّجَةٌ ... نَسْبِي ونَقْتُلُ حَتَّى يُسْلِمَ النَّاسُ
"همرجة": اختلاط وفتنة. وروى ثعلب هذين البيتين. ثم قال، ولم يبين لمن كان هذا الخبر: "قلت له (يعني: للفرزدق) : لم قلت: من قتل، وإبآس؟ قال: كيف أصنع وقد قلت: حتى يسلم الناس؟ قال قلت: فيم رفعته؟ قال: بما يسوءك وينوءك! ".
ثم قال أبو العباس ثعلب: "وإنما رفعه، لأن الفعل لم يظهر بعده، كما تقول: ضربت زيدًا وعمرو = لم يظهر الفعل فرفعت، وكما تقول: ضربت زيدًا وعمرو مضروب".(9/485)
القول في تأويل قوله: {شَنَآنُ قَوْمٍ}
اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم: (شَنَآنُ) بتحريك"الشين والنون" إلى الفتح، بمعنى: بغض قوم، توجيهًا منهم ذلك إلى المصدر الذي يأتي على"فَعَلان"، نظير"الطيران" و"النَّسَلان" و"العَسَلان" و"الرَّمَلان".
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (شَنْآنُ قَوْمٍ) بتسكين"النون" وفتح"الشين" بمعنى: الاسم، توجيهًا منهم معناه إلى: لا يحملنكم بَغِيض قوم (1) فيخرج"شَنْآن" على تقدير"فَعْلان"، لأن"فَعَل" منه على"فَعِلَ" (2) كما يقال:"سكران" من"سكر"، و"عطشان" من"عطش"، وما أشبه ذلك من الأسماء.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى القراءتين في ذلك بالصواب، قراءة من قرأ: (شَنَآنُ قَومٍ) بفتح"النون" محركة، لشائع تأويل أهل التأويل على أن معناه: بغض قوم = وتوجيههم ذلك إلى معنى المصدر دون معنى الاسم.
وإذْ كان ذلك موجَّهًا إلى معنى المصدر، فالفصيح من كلام العرب فيما جاء من المصادر على"الفَعلان" بفتح"الفاء"، تحريك ثانيه دون تسكينه، كما وصفت من قولهم:"الدَّرَجَان" و"الرَّمَلان"، من"درج" و"رمل"، فكذلك"الشنآن" من"شنئته أشنَؤُه شنآنًا"، ومن العرب من يقول:"شَنَانٌ" على تقدير"فعال"، ولا أعلم قارئًا قرأ ذلك كذلك، ومن ذلك قول الشاعر: (3)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بغض قوم"، والصواب ما أثبت، كما يدل عليه السياق.
(2) قوله: "فعل" الأولى، يعني الفعل الماضي، أما الثانية، فهي الميزان الصرفي، على وزن"سكر" بكسر العين.
(3) هو الأحوص بن محمد الأنصاري.(9/486)
وَمَا العَيْشُ إلا مَا تَلَذُّ وتَشْتَهِي ... وَإنْ لامَ فِيهِ ذُو الشَّنَانِ وَفَنَّدَا (1)
وهذا في لغة من ترك الهمز من"الشنآن"، فصار على تقدير"فعال" وهو في الأصل"فَعَلان".
* * *
ذكر من قال من أهل التأويل:"شنآن قوم"، بغض قوم.
10993- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، لا يحملنكم بغض قوم.
10994- وحدثني به المثنى مرة أخرى بإسناده، عن ابن عباس فقال: لا يحملنكم عداوة قوم أن تعتدوا.
10995- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، لا يجرمنكم بغض قوم.
10996- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم"، قال: بغضاؤهم، أن تعتدوا.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل المدينة وعامة قرأة الكوفيين: (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح"الألف "
__________
(1) طبقات فحول الشعراء: 539، الأغاني 13: 151-153، مصارع العشاق: 62، 75، والشعر والشعراء: 501، واللسان (شنأ) ، وقلما يخلو منه كتاب بعد.(9/487)
من"أن"، بمعنى: لا يجرمنكم بغض قوم بصدِّهم إياكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا.
* * *
وكان بعض قرأة الحجاز والبصرة يقرأ ذلك: (ولا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم) ، بكسر"الألف" من"إن"، بمعنى: ولا يجرمنكم شنآن قوم إن هم أحدثوا لكم صدًّا عن المسجد الحرام أن تعتدوا = فزعموا أنها في قراءة ابن مسعود: (إن يصدوكم) ، فقرأوا ذلك كذلك اعتبارًا بقراءته. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي، أنهما قراءتان معروفتان مشهورتان في قرأة الأمصار، صحيح معنى كل واحدة منهما.
وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم صُدَّ عن البيت هو وأصحابه يوم الحديبية، وأنزلت عليه"سورة المائدة" بعد ذلك، فمن قرأ (أَنْ صَدُّوكُمْ) بفتح"الألف" من"أن"، فمعناه: لا يحملنكم بغض قوم، أيها الناس، من أجل أن صدوكم يوم الحديبية عن المسجد الحرام، أن تعتدوا عليهم.
ومن قرأ: (إن صدوكم) بكسر"الألف"، فمعناه: لا يجرمنكم شنآن قوم إن صدوكم عن المسجد الحرام إذا أردتم دخوله. لأن الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من قريش يوم فتح مكة، قد حاولوا صَدَّهم عن المسجد الحرام. فتقدم الله إلى المؤمنين = في قول من قرأ ذلك بكسر"إن" = بالنهي عن الاعتداء عليهم، إن هم صدوهم عن المسجد الحرام، قبل أن يكون ذلك من الصادِّين.
غير أن الأمر، وإن كان كما وصفت، فإن قراءة ذلك بفتح"الألف"، أبينُ معنى. لأن هذه السورة لا تَدَافُعَ بين أهل العلم في أنها نزلت بعد يوم الحديبية.
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 300.(9/488)
وإذْ كان ذلك كذلك، فالصدُّ قد كان تقدم من المشركين، فنهى الله المؤمنين عن الاعتداء على الصادِّين من أجل صدِّهم إياهم عن المسجد الحرام. (1)
* * *
وأما قوله:"أن تعتدوا"، فإنه يعني: أن تجاوزوا الحدَّ الذي حدَّه الله لكم في أمرهم. (2)
* * *
فتأويل الآية إذًا: ولا يحملنكم بغض قوم، لأن صدوكم عن المسجد الحرام، أيها المؤمنون، أن تعتدوا حكم الله فيهم، فتجاوزوه إلى ما نهاكم عنه، ولكن الزموا طاعة الله فيما أحببتم وكرهتم.
* * *
وذكر أنها نزلت في النهي عن الطلب بذُحول الجاهلية. (3)
*ذكر من قال ذلك:
10997- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أن تعتدوا"، رجل مؤمن من حلفاء محمد، قتل حليفًا لأبي سفيان من هذيل يوم الفتح بعرفة، لأنه كان يقتل حلفاء محمد، فقال محمد صلى الله عليه وسلم: لعن الله من قتل بذَحْل الجاهلية.
10998- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وقال آخرون: هذا منسوخ
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر تفسير"الصد" فيما سلف ص: 410، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) "الذحول" جمع"ذحل" (بفتح فسكون) : وهو الثأر.(9/489)
10999- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم أن تعتدوا"، قال: بغضاؤهم، حتى تأتوا ما لا يحل لكم. وقرأ:"أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا وتعاونوا"، وقال: هذا كله قد نسخ، نسخه الجهاد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول مجاهد أنه غير منسوخ، لاحتماله: أن تعتدوا الحقَّ فيما أمرتكم به. وإذا احتمل ذلك، لم يجز أن يقال:"هو منسوخ"، إلا بحجة يجب التسليم لها.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وتعاونوا على البر والتقوى"، وليعن بعضكم، أيها المؤمنون، بعضًا ="على البر" =، وهو العمل بما أمر الله بالعمل به (1) ="والتقوى"، هو اتقاء ما أمر الله باتقائه واجتنابه من معاصيه. (2)
* * *
وقوله:"ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، يعني: ولا يعن بعضكم بعضًا ="على الإثم"، يعني: على ترك ما أمركم الله بفعله ="والعدوان"، يقول: ولا على أن تتجاوزوا ما حدَّ الله لكم في دينكم، وفرض لكم في أنفسكم وفي غيركم. (3)
__________
(1) انظر تفسير"البر" فيما سلف 2: 8/3: 336-338، 556/4: 425/6: 587.
(2) انظر تفسير"التقوى" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (وقى) .
(3) انظر تفسير"الإثم" و"العدوان" فيما سلف من فهارس اللغة (أثم) (عدا) .(9/490)
وإنما معنى الكلام: ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، ولكن ليعن بعضكم بعضًا بالأمر بالانتهاء إلى ما حدَّه الله لكم في القوم الذين صدُّوكم عن المسجد الحرام وفي غيرهم، والانتهاء عما نهاكم الله أن تَأتوا فيهم وفي غيرهم، وفي سائر ما نهاكم عنه، ولا يعن بعضكم بعضًا على خلاف ذلك.
* * *
وبما قلنا في"البر والتقوى" قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
11000- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وتعاونوا على البر والتقوى"،"البر" ما أمرت به، و"التقوى" ما نهيت عنه.
11001- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"وتعاونوا على البر والتقوى" قال:"البر" ما أمرت به، و"التقوى" ما نهيت عنه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2) }
قال أبو جعفر: وهذا وعيد من الله جل ثناؤه وتهدُّدٌ لمن اعتدى حدّه وتجاوز أمره (1) يقول عز ذكره:"واتقوا الله"، يعني: واحذروا الله، أيها المؤمنون، أن تلقوه في معادكم وقد اعتديتم حدَّه فيما حدَّ لكم، وخالفتم أمره فيما أمركم به، أو نهيه فيما نهاكم عنه، فتستوجبوا عقابه، وتستحقوا أليم عذابه. ثم وصف عقابه بالشدة فقال عز ذكره: إن الله شديدٌ عقابه لمن عاقبه من خلقه، لأنها نار
__________
(1) في المطبوعة: "وتهديد لمن اعتدى"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/491)
لا يطفأ حَرُّها، ولا يخمد جمرها، ولا يسكن لهبها، نعوذ بالله منها ومن عمل يقرِّبنا منها.
* * *(9/492)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
القول في تأويل قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: حرَّم الله عليكم، أيها المؤمنون، الميتة.
* * *
و"الميتة": كل ما له نفس سائلة من دواب البر وطيره، مما أباح الله أكلها، أهليَّها ووحشيَّها، فارقتها روحها بغير تذكية. (1)
وقد قال بعضهم:"الميتة"، هو كل ما فارقته الحياة من دوابِّ البر وطيره بغير تذكية، مما أحل الله أكله. (2)
وقد بيّنا العلة الموجبة صحة القول بما قلنا في ذلك، في كتابنا (كتاب لطيف القول في الأحكام) . (3)
* * *
وأما"الدم"، فإنه الدم المسفوح، دون ما كان منه غير مسفوح، لأن الله جل ثناؤه قال: (قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزيرٍ) [سورة الأنعام: 145] ، فأما ما كان قد صار في معنى اللحم، كالكبد والطحال، وما كان في اللحم غير
__________
(1) "التذكية": الذبح.
(2) انظر تفسير"الميتة" فيما سلف 3: 318، 319.
(3) مر اسم هذا الكتاب مرارًا، ومر في بعضها باسم"اللطيف في أحكام شرائع الإسلام"، 1: 109، وكان هنا في المخطوطة والمطبوعة: "كتاب اللطيف القول في الأحكام"، وهو غير مستقيم.(9/492)
منسفح، فإن ذلك غير حرام، لإجماع الجميع على ذلك.
* * *
وأما قوله:"ولحم الخنزير"، فإنه يعني: وحُرِّم عليكم لحم الخنزير، أهليُّه وبَرِّيّه.
فالميتة والدم مخرجهما في الظاهر مخرج عموم، والمراد منهما الخصوص. وأما لحم الخنزير، فإن ظاهره كباطنه، وباطنه كظاهره، حرام جميعه، لم يخصص منه شيء.
* * *
وأما قوله:"وما أهلَّ لغير الله به"، فإنه يعني: وما ذكر عليه غير اسم الله.
* * *
وأصله من"استهلال الصبي"، وذلك إذا صاح حين يسقط من بطن أمه. ومنه"إهلال المحرم بالحج"، إذا لبّى به (1) ومنه قول ابن أحمر:
يُهلُّ بالفَرْقَدِ رُكْبَانُهَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ المُعْتَمِرْ (2)
* * *
وإنما عنى بقوله:"وما أهل لغير الله به"، وما ذبح للآلهة وللأوثان، يسمى عليه غير اسم الله. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإهلال" فيما سلف 3: 319، 320.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 150، الجمهرة 2: 387، اللسان (عمر) (هلل) . يصف مفازة لا يهتدي فيها. و"المعتمر"، المعتم بعمامة. و"الفرقد"، أراد"الفرقدان"، وهما كوكبان من بنات نعش الصغرى، أو هما نجمان في السماء لا يغربان، ولكنهما يطوفان بالجدي.
وفي شرح البيت قولان. قال الأصمعي: "إذا انجلى لهم السحاب عن الفرقد، أهلوا، أي: رفعوا أصواتهم بالتكبير، كما يهل الراكب الذي يريد عمرة الحج، لأنهم كانوا يهتدون بالفرقد".
وقال غيره: "يريد أنهم في مفازة بعيدة من المياه، فإذا رأوا فرقدًا = وهو ولد البقرة الوحشية = أهلوا، أي: كبروا، لأنهم قد علموا أنهم قد قربوا من الماء".
قلت: والعرب تتخذ"الفرقدين" دليلا في الاهتداء بهما، لأنهما لا يطلبان في وقت من الليل إلا وجدا، قال الراعي: لا يَتَّخِذْنَ إذَا عَلَوْنَ مَفَازةً ... إلا بَيَاضَ الفَرْقَدَينِ دَليلا
(3) انظر ما سلف 3: 321.(9/493)
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى، فكرهنا إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالْمُنْخَنِقَةُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة"الانخناق" الذي عنى الله جل ثناؤه بقوله:"والمنخنقة".
فقال بعضهم بما:-
11002- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والمنخنقة"، قال: التي تدخل رأسها بين شُعْبتين من شجرة، فتختنق فتموت.
11002م- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك في المنخنقة، قال: التي تختنق فتموت.
11003- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة في قوله:"والمنخنقة"، التي تموت في خِنَاقها. (2)
* * *
وقال آخرون: هي التي توثق فيقتلها بالخناق وَثَاقها.
*ذكر من قال ذلك:
11004- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والمنخنقة"، قال: الشاة توثق، فيقتلها خِنَاقها، فهي حرام.
* * *
__________
(1) انظر الآثار السالفة من رقم: 2468- 2477.
(2) "الخناق" (بكسر الخاء) : الحبل الذي يخنق به، وأراد الحبل الذي ربطت فيه من عند عنقها.(9/494)
وقال آخرون: بل هي البهيمة من النَّعم، كان المشركون يخنقونها حتى تموت، فحرَّم الله أكلها.
*ذكر من قال ذلك:
11005- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والمنخنقة" التي تُخنق فتموت. (1)
11006- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمنخنقة"، كان أهل الجاهلية يخنقون الشاة، حتى إذا ماتت أكلوها. (2)
* * *
وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال:"هي التي تختنق، إما في وثاقها، وإما بإدخال رأسها في الموضع الذي لا تقدر على التخلص منه، فتختنق حتى تموت".
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب في تأويل ذلك من غيره، لأن"المنخنقة"، هي الموصوفة بالانخناق، دون خنق غيرها لها، ولو كان معنيًّا بذلك أنها مفعول بها، لقيل:"والمخنوقة"، حتى يكون معنى الكلام ما قالوا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالْمَوْقُوذَةُ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"والموقوذة"، والميتة وقيذًا.
* * *
يقال منه:"وقَذَهُ يَقِذُه وقْذًا"، إذا ضربه حتى أشرف على الهلاك، ومنه قول الفرزدق:
__________
(1) في المطبوعة: "تختنق فتموت"، وهو خطأ صرف مفسد لاستدلال الطبري، والصواب من المخطوطة.
(2) الأثر: 11006-"بشر بن معاذ"، مضى، ومضى إسناده هذا مئات من المرات، أقربه رقم: 10995، ولكن كان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "حدثنا أنس قال، حدثنا يزيد" وهو خطأ صرف.(9/495)
شَغَّارَةٍ تَقِذُ الفَصِيلَ بِرِجْلِهَا ... فَطَّارَةٍ لِقَوَادِمِ الأبْكَارِ (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
11007- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والموقوذة"، قال: الموقوذة، التي تضرب بالخشب حتى توقَذَ بها فتموت. (2)
11008- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والموقوذة"، كان أهل الجاهلية يضربونها بالعِصيّ، حتى إذا ماتت أكلوها.
11009- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا شعبة، عن قتادة في قوله:"والموقوذة"، قال: كانوا يضربونها حتى يقذوها، ثم يأكلونها.
__________
(1) ديوانه: 452، النقائض: 332، من هجائه جريرًا، قبله: كَمْ خَالَةٍ لَكَ، يا جَرِيرُ، وعَمّةٍ ... فَدْعَاءَ قَدْ حَلَبَتْ عَلَى عِشَارِي
كُنَّا نُحَاذِرُ أَنْ تُضِيعَ لِقَاحَنَا ... وَلَهًا، إذَا سَمِعَتْ دُعاءَ يَسَارِ
يقول: عماته وخالاته رعاة أجلاف، واستجاد لهن شر الصفات، فزعمها"فدعاء"، أي في الرسغ من أقدامها ميل وعوج، من المهنة في العمل منذ ولدت. وزعم أنهن كن عنده يحلبن"عشاره"، وهي النوق الحديثة العهد بالولادة، وأنفس الإبل عند أهلها إذا كانت عشارًا، وهي"اللقاح" أيضًا.
و"يسار" اسم راع من عبيدة. يقول: إذا سمعت صوت يسار ساورها الشبق إليه، فطاش عقلها ولهًا وصبابة، فكانوا يخافون أن تهمل اللقاح حتى تهلك وتضيع.
ثم وصفها بالغلظة، بأقبح وصف، فزعم أنها إذا قامت تحلب الناقة، ثم دنا الفصيل من أمه، شغرت برجلها = رفعتها، كما يرفع الكلب رجله وهو يبول إلى خلف = فضربته ضربة يشرف بها على الهلاك، كأن ساقها رمح أو هراوة.
وأما قوله: "فطارة لقوادم الأبكار"، فالأبكار جمع"بكر"، وهي الناقة التي ولدت بطنًا واحدًا، فأخلافها صغار قصار، لا يستمكن الحالب أن يحلبها ضبًا، وهو الحلب بالكف كلها، بل تحلب فطرًا، أي بالسبابة والوسطى، ويستعان بطرف الإبهام. و"القوادم" من النوق، لكل ناقة"قادمان"، وهما خلفا الضرع المقدمان.
(2) في المطبوعة: "حتى تقذها فتموت"، وفي المخطوطة: "حتى توقذها فتموت"، وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله: "بها" أي بالخشبة، وانظر الآثار التالية، فهي دالة على صواب هذه القراءة.(9/496)
11010- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"والموقوذة"، التي توقذ فتموت.
11011- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال:"الموقوذة"، التي تضرب حتى تموت.
11012- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والموقوذة"، قال: هي التي تضرب فتموت.
11013- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سلمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والموقوذة"، كانت الشاة أو غيرها من الأنعام تضرب بالخشب لآلهتهم، حتى يقتلوها فيأكلوها.
11014- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني عقبة بن علقمة، حدثني إبراهيم بن أبي عبلة. قال، حدثني نعيم بن سلامة، عن أبي عبد الله الصنابحي قال: ليست"الموقوذة" إلا في مالك، وليس في الصيد وقيذ. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 11014-"العباس بن الوليد بن مزيد الآملي"، شيخ الطبري، مضى برقم: 891.
و"عقبة بن علقمة بن حديج المعافري"، من أصحاب الأوزاعي، كان خيارًا ثقة. مترجم في التهذيب.
و"إبراهيم بن أبي عبلة بن شمر، بن يقظان الرملي". روى عنه مالك، والليث، وابن المبارك. ثقة. قال ضمرة بن ربيعة: "ما رأيت أفصح منه"، وكان يقول الشعر الحسن. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/1/310.
و"نعيم بن سلامة الأزدي"، ويقال: "نعيم بن سلامان". كان على خاتم سليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز. لم يذكروا فيه جرحًا. مترجم في الكبير 4/2/98، وابن أبي حاتم 4/1/462، وتعجيل المنفعة: 423.
و"أبو عبد الله الصنابحي"، هو: "عبد الرحمن بن عسيلة بن عسل بن عسال المرادي". رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فوجده قد مات قبله بخمس ليال أو ست. كان ثقة قليل الحديث. أخرج الطبراني من طريق ابن محيريز قال: "عدنا عبادة بن الصامت، فأقبل أبو عبد الله الصنابحي، فقال عبادة: من سره أن ينظر إلى رجل عرج به إلى السماء، فنظر إلى أهل الجنة وأهل النار، فرجع وهو يعمل على ما رأى، فلينظر إلى هذا".(9/497)
القول في تأويل قوله: {وَالْمُتَرَدِّيَةُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وحرمت عليكم الميتة تردِّيًا من جبل أو في بئر، أو غير ذلك.
* * *
و"تردِّيها"، رميُها بنفسها من مكان عالٍ مشرف إلى سُفْله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
11015- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والمتردية"، قال: التي تتردَّى من الجبل.
11016- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمتردية"، كانت تتردى في البئر فتموت، فيأكلونها.
11017- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمتردية"، قال: التي تردَّت في البئر.
11018- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"والمتردية"، قال: هي التي تَرَدَّى من الجبل، أو في البئر، فتموت.
11019- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر،(9/498)
عن الضحاك:"والمتردية"، التي تردَّى من الجبل فتموت.
11020- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والمتردية"، قال: التي تَخِرُّ في ركيٍّ، أو من رأس جبل، فتموت. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالنَّطِيحَةُ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"النطيحة"، الشاة التي تنطحها أخرى فتموت من النطاح بغير تذكية. فحرم الله جل ثناؤه ذلك على المؤمنين، إن لم يدركوا ذكاته قبل موته.
* * *
وأصل"النطيحة"،"المنطوحة"، صرفت من"مفعولة" إلى"فعيلة".
* * *
فإن قال قائل: وكيف أثبتت"الهاء" هاء التأنيث فيها، وأنت تعلم أن العرب لا تكاد تثبت"الهاء" في نظائرها إذا صرفوها صرف"النطيحة" من"مفعول" إلى"فعيل"، إنما تقول:"لحية دهين" و"عين كحيل" و"كف خضيب"، ولا يقولون: كف خضيبة، ولا عين كحيلة؟ (2)
قيل: قد اختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعض نحويي البصرة: أثبتت فيها"الهاء" = أعني في"النطيحة" = لأنها جعلت كالاسم مثل:"الطويلة" و"الطريقة".
فكأن قائل هذا القول، وجه"النطيحة" إلى معنى"الناطحة".
__________
(1) "الركي": البئر.
(2) انظر ما سلف 2: 328، 401/6: 414، ومواضع أخرى غابت عني.(9/499)
فتأويل الكلام على مذهبه: وحرمت عليكم الميتة نطاحًا، كأنه عنى: وحرمت عليكم الناطحة التي تموت من نِطاحها.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما تحذف العرب"الهاء" من"الفعيلة" المصروفة عن"المفعول"، إذا جعلتها صفة لاسم قد تقدَّمها، فتقول:"رأينا كفًّا خضيبًا، وعينًا كحيلا"، فأما إذا حذفت"الكف" و"العين" والاسم الذي يكون"فعيل" نعتًا لها، واجتزأوا بـ "فعيل" منها، أثبتوا فيه هاء التأنيث، ليعلم بثبوتها فيه أنها صفة للمؤنث دون المذكر، فتقول:"رأينا كحيلةً وخضيبة" و"أكيلة السبع". قالوا: ولذلك أدخلت"الهاء" في"النطيحة"، لأنها صفة المؤنث، ولو أسقطت منها لم يُدْرَ أهي صفة مؤنث أو مذكر.
* * *
وهذا القول هو أولى القولين في ذلك بالصواب، لشائع أقوال أهل التأويل (1) بأن معنى:"النطيحة"، المنطوحة.
*ذكر من قال ذلك:
11021- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن أبي عباس قوله:"والنطيحة"، قال: الشاة تنطح الشاة.
11022- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن قيس، عن أبي إسحاق، عن أبي ميسرة قال: كان يقرأ: (وَالمَنْطُوحَةُ) .
11023- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"والنطيحة"، الشاتان ينتطحان فيموتان.
11024- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والنطيحة"، هي التي تنطحها الغنم والبقر فتموت.
__________
(1) في المطبوعة: "بالصواب الشائع من أقوال أهل التأويل"، وهو عبث وتغيير فاسد، والصواب من المخطوطة. وانظر شبيهة هذه العبارة فيما سلف ص: 486 سطر: 11، "لشائع تأويل أهل التأويل"، وهذا التعبير، هو الثاني فيما مر عليّ من تفسير أبي جعفر فيما سلف.(9/500)
يقول: هذا حرام، لأن ناسًا من العرب كانوا يأكلونه. (1)
11025- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والنطيحة"، كان الكبشان ينتطحان، فيموت أحدهما، فيأكلونه.
11026- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والنطيحة"، الكبشان ينتطحان، فيقتل أحدهما الآخر، فيأكلونه.
11027- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك، يقول في قوله:"والنطيحة"، قال: الشاة تنطح الشاة فتموت.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما أكل السبع"، وحرّم عليكم ما أكل السبع غير المعَلَّم من الصوائد.
* * *
وكذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
11028- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وما أكل السبع"، يقول: ما أخذ السبع.
11029- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك:"وما أكل السبع"، يقول: ما أخذ السبع.
11030- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
__________
(1) الأثر: 11024- يأتي بتمامه برقم: 11047.(9/501)
"وما أكل السبع"، قال: كان أهل الجاهلية إذا قتل السبع شيئًا من هذا أو أكل منه، أكلوا ما بقي.
11031- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن قيس، عن عطاء بن السائب، عن أبي الربيع، عن ابن عباس أنه قرأ: (وأكيل السبع) .
* * *
القول في تأويل قوله: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إلا ما ذكَّيتم"، إلا ما طهرتموه بالذبح الذي جعله الله طهورًا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما استثنى الله بقوله:"إلا ما ذكيتم".
فقال بعضهم: استثنى من جميع ما سمى الله تحريمه من قوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع".
*ذكر من قال ذلك:
11032- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"إلا ما ذكيتم"، يقول: ما أدركتَ ذكاته من هذا كله، يتحرّك له ذنب، أو تطرِف له عين، فاذبح واذكر اسم الله عليه، فهو حلال.
11033- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن الحسن:"حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"، قال الحسن: أيَّ هذا(9/502)
أدركتَ ذكاته فذكِّه وكُلْ. فقلت: يا أبا سعيد، كيف أعرف؟ قال: إذا طرَفت بعينها، أو ضربت بذَنبها.
11034- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إلا ما ذكيتم"، قال: فكلُّ هذا الذي سماه الله عز وجل ههنا، ما خلا لحم الخنزير، إذا أدركتَ منه عينًا تطرف، أو ذنبًا يتحرك، أو قائمة تركض (1) فذكّيته، فقد أحلّ الله لك ذلك.
11035- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إلا ما ذكيتم"، من هذا كله. فإذا وجدتها تطرف عينها، أو تحرك أذنها من هذا كله، فهي لك حلال.
11036- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم وعباد قالا أخبرنا حجاج، عن حصين، عن الشعبي، عن الحارث، عن علي قال: إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة، وهي تحرك يدًا أو رجلا فكلها.
11037- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا معمر، عن إبراهيم قال: إذا أكل السبع من الصيد، أو الوقيذة أو النطيحة أو المتردية، فأدركت ذكاته، فكُل.
11038- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن سلام التميمي قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب قال: إذا ركضت برجلها، أو طرفت بعينها، وحركت ذنبها، فقد أجزأ. (2)
__________
(1) "الركض": حركة الرجل واضطرابها، أو الضرب بها. و"ارتكض الشيء": إذا اضطرب.
(2) الأثر: 11038-"مصعب بن سلام التميمي" مضت ترجمته برقم: 5382.
و"جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، هو"جعفر الصادق"، مضت ترجمته برقم: 2003.
و"أبوه": "محمد بن علي بن الحسين"، وهو"محمد الباقر" مضى برقم: 5123، 5463.(9/503)
11039- حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه قال: إذ ذبحت فَمَصَعَت بذنبها، أو تحركت، فقد حلَّت لك = أو قال: فَحَسْبه. (1)
11040- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن قال: إذا كانت الموقوذة تطرف ببصرها، أو تركض برجلها، أو تمصَع بذنبها، فاذبح وكُل.
11041- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن قتادة، بمثله.
11042- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، أنه سمع عبيد بن عمير يقول: إذا طرفت بعينها، أو مصعت بذنبها، أو تحركت، فقد حلَّت لك.
11043- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: كان أهل الجاهلية يأكلون هذا، فحرَّم الله في الإسلام إلا ما ذُكِّي منه، فما أُدرك فتحرّك منه رجل أو ذنب أو طَرف، فذكِّي، فهو حلال.
11044- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير"، وقوله:"والمنخنقة والموقوذة والمتردِّية والنطيحة"، الآية"وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"، قال: هذا كله محرّم، إلا ما ذكيّ من هذا.
* * *
فتأويل الآية على قول هؤلاء: حرمت الموقوذة والمتردِّية، إن ماتت من التردِّي والوقذ والنطح وفَرْس السبع، إلا أن تدركوا ذكاتها، فتدركوها قبل موتها، فتكون حينئذ حلالا أكلُها.
* * *
__________
(1) "مصعت بذنبها": حركته وضربت به. وكان في المطبوعة: "أو قال: فحسب"، والصواب من المخطوطة، أي: ذلك حسبه وكافيه ومجزئه، يعني من أراد أكلها.(9/504)
وقال آخرون: هو استثناء من التحريم، وليس باستثناء من المحرَّمات التي ذكرها الله تعالى في قوله:"حرمت عليكم الميتة"، لأن الميتة لا ذكاة لها، ولا للخنزير. قالوا: وإنما معنى الآية: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما سمينا مع ذلك، إلا ما ذكيتم مما أحلَّه الله لكم بالتذكية، فإنه لكم حلال. وممن قال ذلك جماعة من أهل المدينة.
ذكر بعض من قال ذلك:
11045- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك، وسئل عن الشاة التي يخرِق جوفها السبع حتى تخرجَ أمعاؤها، فقال مالك: لا أرى أن تذكَّى، ولا يؤكل أي شيء يذكَّى منها.
11046- حدثني يونس، عن أشهب قال: سئل مالك عن السبع يَعْدُو على الكبش فيدقُّ ظهره، أترى أن يذكَّى قبل أن يموت فيؤكل؟ قال: إن كان بلغ السَّحْر (1) فلا أرى أن يؤكل. وإن كان إنما أصاب أطرافه، فلا أرى بذلك بأسًا. قيل له: وثب عليه فدقَّ ظهره؟ قال: لا يعجبني أن يؤكل، هذا لا يعيش منه. قيل له: فالذئب يعدو على الشاة فيشق بطنها ولا يشق الأمعاء؟ قال: إذا شق بطنها، فلا أرى أن تؤكل.
* * *
وعلى هذا القول يجب أن يكون قوله:"إلا ما ذكيتم"، استثناء منقطعًا.
= فيكون تأويل الآية: حرمت عليكم الميتة والدم وسائر ما ذكرنا، ولكن ما ذكيتم من الحيوانات التي أحللتها لكم بالتذكية حلال.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب، القول الأول، وهو أن قوله:"إلا ما ذكيتم" استثناء من قوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع"، لأن كل ذلك مستحق الصفة التي
__________
(1) "السحر" (بفتح فسكون) : هو الرئة، أو ما التزق بالحلقوم والمريء من أعلى البطن.(9/505)
هو بها قبل حال موته (1) فيقال لما قرَّب المشركون لآلهتهم فسموه لهم:"هو ما أهل لغير الله به"، بمعنى سمى قربانًا لغير الله. وكذلك"المنخنقة"، إذا انخنقت وإن لم تمت، فهي منخنقة. وكذلك سائر ما حرمه الله جل وعز بعد قوله:"وما أهل لغير الله به"، إلا بالتذكية، فإنه يوصف بالصفة التي هو بها قبل موته، فحرمه الله على عباده إلا بالتذكية المحللة، دون الموت بالسبب الذي كان به موصوفًا. فإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: وحرم عليكم ما أهل لغير الله به والمنخنقة وكذا وكذا وكذا، إلا ما ذكيتم من ذلك.
فـ"ما" = إذ كان ذلك تأويله = في موضع نصب بالاستثناء مما قبلها. وقد يجوز فيه الرفع.
وإذ كان الأمر على ما وصفنا، فكل ما أدركت ذكاتُه من طائر أو بهيمة قبل خروج نفسه، ومفارقة روحه جسدَه، فحلال أكله، إذا كان مما أحلَّه الله لعباده.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإذ كان ذلك معناه عندك، فما وجه تكريره ما كرّر بقوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية"، وسائر ما عدَّد تحريمه في هذه الآية، وقد افتتح الآية بقوله:"حرمت عليكم الميتة"؟ وقد علمت أن قوله:"حرمت عليكم الميتة"، شامل كل ميتة، كان موته حتف أنفه من علة به من غير جناية أحد عليه، أو كان موته من ضرب ضاربٍ إياه، أو انخناق منه، أو انتطاح، أو فَرْس سبع؟ وهلا كان قوله = إن كان الأمر على ما وصفت في ذلك، من أنه معنيٌّ بالتحريم في كل ذلك: الميتة بالانخناق والنطاح والوقذ وأكل السبع أو غير ذلك، دون أن يكون معنيًّا به تحريمه إذا تردّى أو انخنق أو فرسه السبع، فبلغ ذلك منه ما يعلم أنه لا يعيش مما أصابه منه إلا باليسير من الحياة (2)
__________
(1) في المخطوطة: "موتها"، وهما سواء.
(2) سياق هذه العبارة المطولة: "وهلا كان قوله..: حرمت عليكم الميتة، مغنيًا من تكرير ما كرر.. وتعداده ما عدد"، وما بينهما فصل وضعته بين خطين.(9/506)
"حرمت عليكم الميتة"، مغنيًا من تكرير ما كرر بقوله:"وما أهل لغير الله به والمنخنقة"، وسائر ما ذكر مع ذلك، وتَعْدادِه ما عدَّد؟
قيل: وجه تكراره ذلك = وإن كان تحريم ذلك إذا مات من الأسباب التي هو بها موصوف، وقد تقدم بقوله:"حرمت عليكم الميتة" = أن الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا لا يعدُّون"الميتة" من الحيوان، إلا ما مات من علة عارضة به غير الانخناق والتردِّي والانتطاح وفرس السبع. فأعلمهم الله أن حكم ذلك، حكم ما مات من العلل العارضة = وأن العلة الموجبة تحريم الميتة، ليست موتها من علة مرض أو أذى كان بها قبل هلاكها، ولكن العلة في ذلك أنها لم يذبحها من أجل ذبيحته بالمعنى الذي أحلها به (1) كالذي:-
11047- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم"، يقول: هذا حرام، لأن ناسًا من العرب كانوا يأكلونه ولا يعدّونه ميتًا، إنما يعدون الميت الذي يموت من الوجع. فحرمه الله عليهم، إلا ما ذكروا اسم الله عليه، وأدركوا ذكاته وفيه الروح. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وما ذبح على النصب"، وحرم عليكم أيضًا الذي ذبح على النُّصُب.
فـ"ما" في قوله:"وما ذبح"، رفْعٌ، عطفًا على"ما" التي في قوله:"وما أكل السبع".
__________
(1) في المطبوعة: "من أحل ذبيحته"، والصواب ما في المخطوطة، وهي فيها منقوطة. ويعني: من أجل أن تكون ذبيحة له ياكلها.
(2) الأثر: 11047- هو تمام الأثر السالف رقم: 11024.(9/507)
و"النصب"، الأوثان من الحجارة، جماعة أنصاب كانت تجمع في الموضع من الأرض، فكان المشركون يقرِّبون لها، وليست بأصنام.
وكان ابن جريج يقول في صفته ما:-
11048- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"النصب" ليست بأصنام،"الصنم" يصوَّر وينقش، وهذه حجارة تنصب، ثلثمئة وستون حجرًا (1) منهم من يقول ثلثمئة منها لخزاعة (2) = فكانوا إذا ذبحوا نضحوا الدم على ما أقبل من البيت (3) وشرَّحوا اللحم وجعلوه على الحجارة. (4) فقال المسلمون: يا رسول الله، كان أهل الجاهلية يعظمون البيت بالدم، فنحن أحقُّ أن نعظمه! فكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكره ذلك، فأنزل الله: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا) [سورة الحج: 37] .
* * *
ومما يحقق قول ابن جريج في أن"الأنصاب" غير"الأصنام"، ما:-
11049- حدثنا به ابن وكيع قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما ذبح على النصب"، قال: حجارة كان يذبح عليها أهل الجاهلية.
11050- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"النصب"، قال: حجارة حول الكعبة، يذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجارة أعجب إليهم منها.
__________
(1) قوله: "ثلثمئة وستون حجرًا"، يعني عدة الأنصاب التي كانت حول الكعبة، انظر ابن سعد 2/1/98: "وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحول الكعبة ثلثمئة وستون صنما"، ولكن هذه أصنام لا أنصاب كما ترى.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "بخزاعة" بالباء، والصواب ما أثبت.
(3) "نضح الدم أو الماء": رشه به.
(4) "شرح اللحم"، وهو أن يقطع بضعة من اللحم ويرققها، حتى تشف من رقتها. و"الشريحة": القطعة المرققة منه كذلك.(9/508)
11051- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
11052- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما ذبح على النصب"، و"النصب": حجارة كان أهل الجاهلية يعبدونها، ويذبحون لها، فنهى الله عن ذلك.
11053- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما ذبح على النصب"، يعني: أنصابَ الجاهلية.
11054- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وما ذبح على النصب"، و"النصب"، أنصاب كانوا يذبحون ويُهِلُّون عليها.
11055- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قوله:"وما ذبح على النصب"، قال: كان حول الكعبة حجارة كان يَذبح عليها أهل الجاهلية، ويبدِّلونها إذا شاؤوا بحجر هو أحبّ إليهم منها.
11056- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"الأنصاب"، حجارة كانوا يهلّون لها، ويذبحون عليها.
11057- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما ذبح على النُّصب"، قال:"ما ذبح على النصب" و"ما أهل لغير الله به"، وهو واحد. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "هو واحد"، بغير واو، والذي في المخطوطة أجود.(9/509)
القول في تأويل قوله: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأزْلامِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، وأن تطلبوا علم ما قُسِم لكم أو لم يقسم، بالأزلام.
* * *
وهو"استفعلت" من"القَسْم" قَسْم الرزق والحاجات. وذلك أن أهل الجاهلية كان أحدهم إذا أراد سفرًا أو غزوًا أو نحو ذلك، أَجال القداح = وهي"الأزلام" وكانت قِداحًا مكتوبًا على بعضها:"نهاني ربّي"، وعلى بعضها:"أمرني ربّي" = فإن خرج القدح الذي هو مكتوب عليه:"أمرني ربي"، مضى لما أراد من سفر أو غزو أو تزويج وغير ذلك. وإن خرج الذي عليه مكتوب:"نهاني ربي"، كفّ عن المضي لذلك وأمسك، فقيل:"وأن تستقسموا بالأزلام"، لأنهم بفعلهم ذلك كانوا كأنهم يسألون أزلامهم أن يَقْسِمن لهم، ومنه قول الشاعر مفتخرًا بترك الاستقسام بها: (1)
وَلَمْ أَقْسِمْ فَتَرْبُثَنِي القُسُومُ (2)
* * *
وأما"الأزلام"، فإن واحدها"زَلَم"، ويقال:"زُلَم"، وهي القداح التي وصفنا أمرها. (3)
* * *
__________
(1) أعياني أن أعرف قائله، وهو شبيه بكلام أمية بن أبي الصلت، وليس في ديوانه.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 152، وقوله"لم أقسم"، من"قسمت أمري أقسمه قسما"، أي: قدرته ونظرت، وميلت فيه أن أفعله أو لا أفعله. وقالوا: "تركت فلانًا يقتسم، وتركته يستقسم": أي يفكر ويروي بين أمرين. وكذلك فعل من يستقسم بالأزلام، فاستعمل"أقسم" بمعنى"الاستقسام بالأزلام" في هذا البيت. و"القسوم" جمع"قسم" (بكسر القاف وسكون السين) : الحظ، وجمعه"أقسام"، ولكنه جمع على"قسوم"، كجمع"حلم" على"حلوم" و"أحلام".
(3) "زلم" (بفتحتين) و"زلم" (بضم الزاي وفتح اللام) .(9/510)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
11058- حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: القداح، كانوا إذا أرادوا أن يخرجوا في سفر جعلوا قداحًا للجلوس والخروج. فإن وقع الخروج خرجوا، وإن وقع الجلوس جلسوا.
11059- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: حصًى بيضٌ كانوا يضربون بها.
= قال أبو جعفر: قال لنا سفيان بن وكيع: هو الشطرنج. (1)
11060- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عباد بن راشد البزّار، عن الحسن في قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كانوا إذا أرادوا أمرًا أو سفرًا، يعمَدون إلى قداح ثلاثة، على واحد منها مكتوب:"أؤمرني"، وعلى الآخر:"انهني"، ويتركون الآخر محلَّلا بينهما ليس عليه شيء. ثم يجيلونها، فإن خرج الذي عليه"أؤمرني" مضوا لأمرهم. وإن خرج الذي عليه"انهني" كفُّوا، وإن خرج الذي ليس عليه شيء أعادوها. (2)
11061- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تستقسموا بالأزلام"، حجارة كانوا يكتبون عليها، يسمونها"القِداح".
__________
(1) هذا قول في غاية الغرابة!! كأنه كان يجهل ما الشطرنج = أو كأنه كان يرى أنهم يفعلون ذلك بقطع الشطرنج، دون أن يكون هذا الفعل هو اللعب بالشطرنج.
(2) الأثر: 11060-"عباد بن راشد التميمي البزار"، ابن أخت داود بن أبي هند. روى عن ثابت البناني، والحسن البصري، وداود بن أبي هند، وقتادة. روى عنه هشيم، وعبد الرزاق، وأبو عامر العقدي، وغيرهم. ذكره البخاري في الضعفاء، وروى له مقرونًا بغيره، متكلم فيه. مترجم في التهذيب.(9/511)
11062- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"بالأزلام"، قال: القداح، يضربون لكل سفر وغزوٍ وتجارة.
11063- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
11064- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن زهير، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كِعابُ فارس التي يقمُرون بها، وسهام العرب.
11065- حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا زهير، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: سهام العرب، وكعاب فارس والروم، كانوا يتقامرون بها.
11066- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كان الرجل إذا أراد أن يخرج مسافرًا، كتب في قدح:"هذا يأمرني بالمكث" و"هذا يأمرني بالخروج"، وجعل معهما منيحة. (1) شيء لم يكتب فيه شيئًا، ثم استقسم بها حين يريد أن يخرج. فإن خرج الذي يأمر بالمكث مكث، وإن خرج الذي يأمر بالخروج خرج، وإن خرج الآخر أجالها ثانية حتى يخرج أحد القِدْحين.
11067- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وأن تستقسموا بالأزلام"، وكان أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم خروجًا، أخذ
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "معها"، والصواب التثنية. وفي المطبوعة: "منيحًا"، وهو صواب في المعنى. ولكني أثبت ما في المخطوطة. وذلك أن"المنيح" -كما في المطبوعة- هو القدح المستعار من قداح الميسر، وهو الغفل الذي لا نصيب له، إلا أن يمنح صاحبه شيئًا، فيستعار ويتيمن به. وأما "المنيحة"، فهي الناقة أو الشاة المعارة أيضًا، فنظر إلى معنى المستعار فسمى هذا الشيء الذي لا أمر له في الاستقسام"منيحة"، كما سموا شبيهه في الميسر"منيحًا" وهو المستعار.(9/512)
قدحًا فقال:"هذا يأمر بالخروج"، فإن خرج فهو مصيب في سفره خيرًا، ويأخذ قِدحًا آخر فيقول:"هذا يأمر بالمكوث"، فليس يصيب في سفره خيرًا، و"المنيح" بينهما. فنهى الله عن ذلك وقدَّم فيه.
11068- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال: كانوا يستقسمون بها في الأمور.
11069- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"الأزلام"، قداح لهم. كان أحدهم إذا أراد شيئًا من تلك الأمور كتب في تلك القداح ما أراد، فيضرب بها، فأي قدح خرج = وإن كان أبغض تلك = ارتكبه وعمل به.
11070- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأن تستقسموا بالأزلام"، قال:"الأزلام"، قداح كانت في الجاهلية عند الكهنة، فإذا أراد الرجل أن يسافر، أو يتزوج، أو يحدث أمرًا، أتى الكاهن فأعطاه شيئًا، فضرب له بها. فإن خرج منها شيء يعجبه، أمره ففعل. وإن خرج منها شيء يكرهه، نهاه فانتهى، كما ضرب عبد المطلب على زمزم، وعلى عبد الله والإبل. (1)
11071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: سمعنا أنّ أهل الجاهلية كانوا يضربون بالقداح في الظَّعْن والإقامة أو الشيء يريدونه، فيخرج سهم الظعن فيظعنون، والإقامة فيقيمون.
* * *
وقال ابن إسحاق في"الأزلام"، ما:-
11072- حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال:
__________
(1) انظر خبر عبد المطلب وعبد الله في سيرة ابن هشام 1: 160-164.(9/513)
كانت هُبَل أعظم أصنام قريش بمكة، وكانت على بئر في جوف الكعبة، وكانت تلك البئْر هي التي يجمع فيها ما يُهدي للكعبة. وكانت عند هبل سبعة أقْدُح (1) كل قِدْح منها فيه كتاب. قدح فيه:"العقل" (2) إذا اختلفوا في العقل من يحمله منهم، ضربوا بالقداح السبعة، [فإن خرج العقل، فعلى من خرج حمله] (3) وقدح فيه:"نعم" للأمر إذا أرادوه، يضرب به، فإن خرج قدح"نعم" عملوا به. وقدح فيه:"لا"، فإذا أرادوا أمرًا ضربوا به في القداح، فإذا خرج ذلك القدح، لم يفعلوا ذلك الأمر. وقِدْح فيه:"منكم". وقدح فيه:"مُلْصَق". (4) وقدح فيه:"من غيركم". وقدح فيه:"المياه"، إذا أرادوا أن يحفروا للماء ضربوا بالقداح وفيها ذلك القدح، فحيثما خرج عملوا به. وكانوا إذا أرادوا أن يختنوا غلامًا (5) أو أن ينكحوا مَنكحًا، أو أن يدفنوا ميتًا، أو شكوا في نسب واحد منهم (6) ذهبوا به إلى هبل وبمئة درهم، وبجَزور، فأعطوها صاحب القداح الذي يضربها، ثم قرّبوا صاحبهم الذي يريدون به ما يريدون، ثم قالوا:"يا إلهنا، هذا فلان بن فلان، قد أردنا به كذا وكذا، فأخرج الحق فيه". ثم يقولون لصاحب القداح:"اضرب"، فيضرب، فإن -[خرج عليه"منكم" كان وسيطًا. وإن] خرج عليه:"من غيركم"، كان حليفًا (7) وإن خرج"ملصق" كان على منزلته منهم، لا نسب له ولا حلف، وإن خرج فيه شيء سوى هذا مما يعملون به"نعم"، عملوا به. وإن خرج"لا"، أخّروه عامهم ذلك حتى يأتوا به مرة أخرى. ينتهون في أمورهم إلى ذلك مما خرجت به القداح. (8)
11073- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وأن تستقسموا بالأزلام"، يعني: القداح، كانوا يستقسمون بها في الأمور.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكُمْ فِسْقٌ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلكم"، هذه الأمور التي ذكرها، وذلك: أكل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وسائر ما ذكر في هذه الآية مما حرم أكله، والاستقسام بالأزلام، ="فسق"، يعني: خروج عن أمر الله عز ذكره وطاعته، إلى ما نهى عنه وزجر، إلى معصيته. (9) كما:-
11074- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ذلكم فسق"، يعني: من أكل من ذلك كله فهو فسق.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أقداح"، وأثبت ما في المخطوطة، وجمع"قدح": أقداح، وقداح، وأقدح، كله صواب.
(2) "العقل" الدية.
(3) هذه الزيادة بين القوسين من ابن هشام، ولا بد من زيادتها لتمام الكلام.
(4) في المخطوطة: "يلصق"، وفوقها"كذا"، أي هو كذلك في التي نسخ عنها، والصواب ما في المطبوعة، وسيرة ابن هشام.
(5) في المطبوعة: "أن يجتبوا غلامًا"، وهو لا معنى له، والمخطوطة غير منقوطة، والصواب، في سيرة ابن هشام، كما أثبتها.
(6) في المطبوعة: "أو يشكوا" مضارعًا، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.
(7) ما بين القوسين زيادة من ابن هشام، وهي السياق بغير شك. و"الوسيط": هو الخالص النسب، الشريف في قومه.
(8) الأثر: 11072- سيرة ابن هشام 1: 160، 161.
(9) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف 1: 409، 410/2: 118، 399/4: 135-137/6: 91، 92/7: 107.
وفي المطبوعة: "وزجر، وإلى معصيته" بزيادة الواو، وكلتاهما صواب.(9/514)
القول في تأويل قوله: {الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، الآن انقطع طمع الأحزاب وأهل الكفر والجحود، أيها المؤمنون، ="من دينكم"، يقول: من دينكم أن تتركوه فترتدُّوا عنه راجعين إلى الشرك، كما:-
11075- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، يعني: أن ترجعوا إلى دينهم أبدًا.
11076- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، قال: أظنُّ، يئسوا أن ترجعوا عن دينكم. (1)
* * *
فإن قال قائل: وأيُّ يوم هذا اليوم الذي أخبرَ الله أن الذين كفروا يئسوا فيه من دين المؤمنين؟
قيل: ذكر أن ذلك كان يوم عرفة، عام حج النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، وذلك بعد دخول العرب في الإسلام.
*ذكر من قال ذلك:
11077- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال مجاهد:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"،"اليوم أكملت لكم دينكم"، هذا حين فعلت. قال ابن جريج: وقال آخرون (2) ذلك يوم
__________
(1) أنا في شك من قوله: "أظن" هنا، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(2) قوله: "وقال آخرون" هو من قول ابن جريج فيما أرجح، ولذلك جعلته في الخبر.(9/516)
عرفة، في يوم جمعة، لما نظر النبي صلى الله عليه وسلم فلم ير إلا موحِّدًا، ولم ير مشركًا، حمد الله، فنزل عليه جبريل عليه السلام:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، أن يعودوا كما كانوا.
11078- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"اليوم يئس الذين كفروا من دينكم"، قال: هذا يوم عرفة.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَلا تَخْشَوْهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك: فلا تخشوا، أيها المؤمنون، هؤلاء الذين قد يئسوا من دينكم أن ترجعوا عنه من الكفار، ولا تخافوهم أن يظهروا عليكم، فيقهروكم ويردُّوكم عن دينكم ="واخشون"، يقول: ولكن خافونِ، إن أنتم خالفتم أمري واجترأتم على معصيتي، وتعدَّيتم حدودي، أن أُحِلَّ بكم عقابي، وأنزل بكم عذابي. (1) كما:-
11079- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فلا تخشوهم واخشون"، فلا تخشوهم أن يظهروا عليكم.
* * *
القول في تأويل قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: يعني جل ثناؤه بقوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، اليوم
__________
(1) انظر تفسير"الخشية" فيما سلف 1: 559، 560/2: 239، 243/8: 548.(9/517)
أكملت لكم، أيها المؤمنون، فرائضي عليكم وحدودي، وأمري إياكم ونهيي، وحلالي وحرامي، وتنزيلي من ذلك ما أنزلت منه في كتابي، وتبياني ما بيَّنت لكم منه بوحيي على لسان رسولي، والأدلة التي نصبتُها لكم على جميع ما بكم الحاجة إليه من أمر دينكم، فأتممت لكم جميع ذلك، فلا زيادة فيه بعد هذا اليوم. قالوا: وكان ذلك في يوم عرفة، عام حجَّ النبي صلى الله عليه وسلم حجة الوَدَاع. وقالوا: لم ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية شيء من الفرائض، ولا تحليل شيء ولا تحريمه، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعش بعد نزول هذه الآية إلا إحدى وثمانين ليلة.
*ذكر من قال ذلك:
11080- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، وهو الإسلام. قال: أخبر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدًا، وقد أتمه الله عز ذكره فلا ينقصه أبدًا، وقد رضيه الله فلا يَسْخَطه أبدًا.
11081- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، هذا نزل يوم عرفة، فلم ينزل بعدها حلال ولا حرام. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات. فقالت أسماء بنت عُمَيس: حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الحجة، فبينما نحن نسير، إذ تجلّى له جبريل صلى الله عليه وسلم على الرَّاحلة، فلم تطق الراحلة من ثِقْل ما عليها من القرآن، فبركت، فأتيته فسجَّيت عليه برداء كان علي. (1)
11082- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) "سجاه بالثوب تسجية": غطاه به.(9/518)
ابن جريج قال: مكث النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما نزلت هذه الآية، إحدى وثمانين ليلة، قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم".
11083- حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن فضيل، عن هارون بن عنترة، عن أبيه قال: لما نزلت:"اليوم أكملت لكم دينكم"، وذلك يوم الحج الأكبر، بكى عمر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ما يبكيك؟ قال: أبكاني أنّا كنا في زيادة من ديننا، فأما إذ كمل، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص! فقال: صدقت. (1)
11084- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أحمد بن بشير، عن هارون بن أبي وكيع، عن أبيه، فذكر نحو ذلك. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"اليوم أكملت لكم دينكم"، حجكم، فأفردتم بالبلد الحرام تحُجُّونه، أنتم أيها المؤمنون، دون المشركين، لا يخالطكم في حَجِّكم مشرك.
*ذكر من قال ذلك:
11085- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي غَنِيَّة، عن أبيه، عن الحكم:"اليوم أكملت لكم دينكم"، قال: أكمل لهم دينهم: أن حجوا ولم يحجَّ معهم مشرك. (3)
__________
(1) إنما عنى بنقصان الدين، أهل الدين، فإنهم إذا تطاول عليهم الأمد، قست قلوبهم، وقل تمسك بعضهم بما أمر به. ومعاذ الله أن يعني عمر، نقصان الدين نفسه. ومثله قوله صلى الله عليه وسلم"بدأ الإسلام غريبًا، وسيعود غريبًا كما بدأ، فطوبى للغرباء".
(2) الأثر: 11084-"أحمد بن بشير الكوفي"، مضى برقم: 7819.
و"هرون بن أبي وكيع"، هو: "هرون بن عنترة بن عبد الرحمن" الماضي في الأثر قبله، ومضت ترجمته برقم: 405.
وأبوه: "عنترة بن عبد الرحمن" وكنيته"أبو وكيع"، مضى أيضًا برقم: 405.
(3) الأثر: 11085-"يحيى بن أبي غنية" هو: "يحيى بن عبد الملك بن حميد بن أبي غنية"، مضى برقم: 10597، وهو هذا الإسناد نفسه.
وأبوه"عبد الملك بن حميد بن أبي غنية"، مضى أيضا برقم: 8535، 10597.
و"الحكم" هو"الحكم بن عتيبة" مضى مرارًا.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "يحيى بن أبي عتيبة"، وهو تصحيف.(9/519)
11086- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"اليوم أكملت لكم دينكم"، قال: أخلص الله لهم دينهم، ونفى المشركين عن البيت.
11087- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا قيس، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:"اليوم أكملت لكم دينكم"، قال: تمام الحج، ونفي المشركين عن البيت.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أنه أكمل لهم = يوم أنزل هذه الآية على نبيه = دينَهم، بإفرادهم بالبلدَ الحرام (1) وإجلائه عنه المشركين، حتى حجَّه المسلمون دونهم لا يخالطهم المشركون.
فأما الفرائض والأحكام، فإنه قد اختلف فيها: هل كانت أكملت ذلك اليوم، أم لا؟ فروي عن ابن عباس والسدّي ما ذكرنا عنهما قبل. (2)
وروي عن البراء بن عازب أن آخر آية نزلت من القرآن: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) [سورة النساء: 176] . (3)
= ولا يدفع ذو علم أن الوحي لم ينقطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن
__________
(1) في المطبوعة: "بإفرادهم بالبلد الحرام" بالباء، وهو الذي تقوله كتب اللغة، وأما الذي في المخطوطة، وهو ما أثبته. فله وجه صحيح في العربية، فيما أرى، فتركته على حاله. وظني أني قرأته كذلك متعديًا في بعض كتب أبي جعفر أو غيره، فإن عثرت عليه أثبته إن شاء الله.
(2) يعني ما سلف رقم: 11080، 11081.
(3) انظر ما سلف رقم: 10870- 10873.(9/520)
قُبِض، بل كان الوحي قبل وفاته أكثر ما كان تتابعًا. فإذ كان ذلك كذلك = وكان قوله: (يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ) آخرَها نزولا وكان ذلك من الأحكام والفرائض = كان معلومًا أن معنى قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم"، على خلاف الوجه الذي تأوَّله من تأوَّله = أعني: كمال العبادات والأحكام والفرائض.
فإن قال قائل: فما جعل قولَ من قال:"قد نزل بعد ذلك فرض"، أولى من قول من قال:"لم ينزل"؟
قيل: لأن الذي قال:"لم ينزل"، مخبر أنه لا يعلم نزول فرض، والنفي لا يكون شهادة، والشهادة قول من قال:"نزل". وغير جائز دفع خبر الصادق فيما أمكن أن يكون فيه صادقًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأتممت نعمتي، أيها المؤمنون، بإظهاركم على عدوِّي وعدوكم من المشركين، ونفيِي إياهم عن بلادكم، وقطعي طمعهم من رجوعكم وعودكم إلى ما كنتم عليه من الشرك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
11088- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجُّون جميعًا، فلما نزلت"براءة"، فنفى المشركين عن البيت، وحجَّ المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام(9/521)
أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة:"وأتممت عليكم نعمتي".
11089- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي" الآية، ذكر لنا أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم عرفة، يوم جمعة، حين نفى الله المشركين عن المسجد الحرام، وأخلص للمسلمين حجَّهم.
11090- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا داود، عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية بعرفات، حيث هدم مَنار الجاهلية (1) واضمحلَّ الشرك، ولم يحج معهم في ذلك العام مشرك.
11091- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي"، قال، نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفات، وقد أطاف به الناس، وتهدَّمت مَنار الجاهلية ومناسكهم، واضمحلّ الشرك، ولم يَطُف حول البيت عُرْيان، فأنزل الله:"اليوم أكملت لكم دينكم".
11092- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، بنحوه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ورضيت لكم الاستسلام لأمري، والانقياد لطاعتي، على ما شرعت لكم من حدوده وفرائضه ومعالمه (2) ="دينًا"، يعني بذلك: طاعة منكم لي. (3)
* * *
__________
(1) "المنار": علم الطريق، وحدود الأرض. وأراد به شرائع أهل الجاهلية.
(2) انظر تفسير"الإسلام" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (سلم) .
(3) انظر تفسير"الدين" فيما سلف 1: 155، 221/3: 571، 572/6: 273-275، 564، 570.(9/522)
فإن قال قائل: أوَ ما كان الله راضيًا الإسلامَ لعباده إلا يوم أنزل هذه الآية؟
قيل: لم يزل الله راضيًا لخلقه الإسلام دينًا، ولكنه جل ثناؤه لم يزل يصرِّف نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأصحابه في درجات الإسلام ومراتبه درجة بعد درجة، ومرتبة بعد مرتبة، وحالا بعد حال، حتى أكمل لهم شرائعه ومعالمه، وبلغ بهم أقصى درجاته ومراتبه، ثم قال حين أنزل عليهم هذه الآية:"ورضيت لكم الإسلام" بالصفة التي هو بها اليوم (1) والحال التي أنتم عليها اليوم منه ="دينًا" فالزموه ولا تفارقوه.
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك، ما:-
11093- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنه يَمْثُل لأهل كل دين دينهم يوم القيامة، فأما الإيمان فيبشر أصحابه وأهله ويعدهم في الخير، حتى يجيء الإسلام فيقول:"رب، أنت السلام وأنا الإسلام"، فيقول:"إياك اليوم أقبل، وبك اليوم أجزي". (2)
* * *
= وأحسب أن قتادة وجّه معنى"الإيمان" بهذا الخبر إلى معنى التصديق والإقرار باللسان، لأن ذلك معنى"الإيمان" عند العرب (3) = ووجَّه معنى"الإسلام" إلى استسلام القلب وخضوعه لله بالتوحيد، وانقياد الجسد له بالطاعة
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ورضيت لكم الإسلام دينًا، بالصفة.."، والصواب حذف"دينًا" من هذا الموضع، لأنها ستأتي بعد، وهو سهو من عجلة الناسخ.
(2) الأثر: 11093- روى أبو داود الطيالسي في مسنده: 324 من حديث أبي هريرة: "حدثنا عباد بن راشد قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا أبو هريرة ونحن إذ ذاك في المدينة قال: يجيء الإسلام يوم القيامة، فيقول الله عز وجل: "أنت الإسلام وأنا السَّلام، اليومَ بك أُعْطِي وبك آخُذ".
(3) انظر تفسير"الإيمان" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (أمن) .(9/523)
فيما أمر ونهى، فلذلك قيل للإسلام:"إياك اليوم أقبل، وبك اليوم أجزي".
* * *
ذكر من قال: نزلت هذه الآية بعرفة في حجة الوداع على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11094- حدثنا محمد بن بشار وابن وكيع قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال، قالت اليهود لعمر: إنكم تقرأون آية لو أنزلت فينا لاتخذناها عيدًا! فقال عمر: إني لأعلم حين أنزلت، وأين أنزلت، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت: أنزلت يوم عرفة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة = قال سفيان: وأشك، كان يوم الجمعة أم لا ="اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا. " (1)
11095- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال، قال يهودي لعمر: لو علمنا معشر اليهود حين نزلت هذه الآية:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا"، لو نعلم ذلك اليوم، اتخذنا ذلك اليوم عيدًا! فقال عمر: قد علمت اليوم الذي نزلت فيه، والساعة، وأين رسول
__________
(1) الأثر: 11094- رواه أحمد في المسند رقم: 272 عن عبد الرحمن، عن سفيان بمثله. ورواه البخاري (الفتح 8: 203) عن محمد بن بشار، عن عبد الرحمن، كطريق أبي جعفر، ورواه مسلم 18: 152، عن محمد بن المثنى وزهير بن حرب، عن عبد الرحمن.
وفيها جميعًا"لأعلم حيث أنزلت"، و"وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت"، وقد أشار إلى ذلك الحافظ في الفتح.
وذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره 2: 67، وزاد نسبته للترمذي والنسائي. ثم قال: "وشك سفيان رحمه الله. إن كان في الرواية فهو تورع، حيث شك هل أخبره شيخه بذلك أم لا. وإن كان شكا في كون الوقوف في حجة الوداع كان يوم جمعة، فهذا مالا إخاله يصدر عن الثوري رحمه الله، فإن هذا أمر معلوم مقطوع به، لم يختلف فيه أحد من أصحاب المغازي والسير ولا الفقهاء. وقد وردت في ذلك أحاديث متواترة لا يشك في صحتها، والله أعلم".(9/524)
الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت: نزلت ليلة الجمعة، ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات = لفظ الحديث لأبي كريب، وحديث ابن وكيع نحوه. (1)
11096- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جعفر بن عون، عن أبي العميس، عن قيس بن مسلم، عن طارق، عن عمر، نحوه. (2)
11097- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حماد بن سلمة، عن عمار مولى بني هاشم قال: قرأ ابن عباس:"اليوم أكملت لكم دينكم"، وعنده رجل من أهل الكتاب فقال: لو علمنا أيَّ يوم نزلت هذه الآية، لاتخذناه عيدًا! فقال ابن عباس: فإنها نزلت يوم عرفة، يوم جمعة. (3)
11098- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا حماد بن
__________
(1) الأثر: 11095- رواه من هذه الطريق مسلم في صحيحه 18: 153، عن أبي بن أبي شيبة وأبي كريب، عن عبد الله بن إدريس.
وفيه: "نزلت ليلة جمع". قال النووي في شرحه: "هكذا هو في النسخ، الرواية: ليلة جمع = وفي نسخة ابن ماهان: ليلة جمعة. وكلاهما صحيح. فمن روى"ليلة جمع"، فهي ليلة المزدلفة، وهو المراد بقوله: "ونحن بعرفات" في يوم جمعة، لأن ليلة جمع، هي عشية يوم عرفات، ويكون المراد بقوله: "ليلة جمعة"، يوم جمعة. ومراد عمر رضي الله عنه: إنا قد اتخذنا ذلك اليوم عيدًا من وجهين، فإنه يوم عرفة، ويوم جمعة، وكل واحد منهما عيد لأهل الإسلام".
(2) الأثر: 11096- هذا الحديث، رواه البخاري (الفتح 1: 97) من طريق الحسن بن الصباح، عن جعفر بن عون، عن أبي العميس.
ورواه أحمد في المسند رقم: 188، من طريق جعفر بن عون، عن أبي عميس.
ورواه مسلم في صحيحه 18: 154، من طريق عبد بن حميد، عن جعفر بن عون، والنسائي في السنن 8: 114.
هذا، وقد بين الحافظ ابن حجر في الفتح (1: 97) أن هذا الرجل من اليهود: "هو كعب الأحبار، بين ذلك مسدد في مسنده، والطبري في تفسيره، والطبراني في الأوسط، كلهم من طريق رجاء بن أبي سلمة، عن عبادة بن نسي (بضم النون، وفتح المهملة) ، عن إسحق بن خرشة، عن قبيصة بن ذؤيب، عن كعب". وهذا هو الأثر الآتي رقم: 11100 (انظر التعليق عليه، وما فيه من الخطأ) وأشار في الموضع الآخر (الفتح 8: 203) إلى احتمال أن سؤال كعب وقع قبل إسلامه، لأن إسلامه كان في خلافة عمر على المشهور، وأطلق عليه ذلك باعتبار ما مضى.
(3) الأثر: 11097- خرجه أبو داود الطيالسي في مسنده: 353، رواه عن حماد، عن عمار بن أبي عمار، وسيأتي بطريق أخرى في الذي يليه.(9/525)
سلمة، عن عمار: أن ابن عباس قرأ:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا"، فقال يهودي: لو نزلت هذه الآية علينا، لاتخذنا يومها عيدًا! فقال ابن عباس: فإنها نزلت في يوم عيدين اثنين: يوم عيد، ويوم جمعة. (1)
11099- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، نحوه.
11100- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا رجاء بن أبي سلمة قال، أخبرنا عبادة بن نسيّ قال، حدثنا أميرنا إسحاق = قال أبو جعفر: إسحاق، هو ابن خَرَشة = عن قبيصة قال، قال كعب: لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية، لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم، فاتخذوه عيدًا يجتمعون فيه! فقال عمر: أيُّ آية يا كعب؟ فقال:"اليوم أكملت لكم دينكم". فقال عمر: قد علمت اليوم الذي أنزلت فيه، والمكان الذي أنزلت فيه: يوم جمعة، ويوم عرفة، وكلاهما بحمد الله لنا عيدٌ. (2)
__________
(1) الأثر: 11098- خرجه الترمذي في كتاب التفسير، من طريق عبد بن حميد، عن يزيد بن هرون، عن حماد، وفيه: "نزلت في يوم عيدين، في يوم الجمعة، ويوم عرفة". وقال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من حديث ابن عباس".
وأشار إليه السيوطي في الدر المنثور 2: 258، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، والطبراني، والبيهقي في الدلائل.
(2) الأثر: 11100-"رجاء بن أبي سلمة مهران"، "أبو المقدام" الفلسطيني. روى عن عمر بن عبد العزيز، وعمرو بن شعيب والزهري وغيرهم. وروى عنه ابن عون، وهو من شيوخه، والحمادان، وابن علية. ثقة، كان من أفاضل أهل زمانه. مترجم في التهذيب.
و"عبادة بن نسي الكندي"، الشامي الأردني، قاضي طبرية. روى عن أوس بن أوس الثقفي، وشداد بن أوس، وعبادة بن الصامت، وكعب بن عجرة، وغيرهم. روى عنه رجاء بن أبي سلمة، وغيره. قال ابن سعد في تابعي أهل الشام: "ثقة". وقال البخاري: "عبادة بن نسى الكندي" سيدهم. قال مسلمة بن عبد الملك: "إن في كندة لثلاثة نفر، إن الله لينزل بهم الغيث، وينصر بهم على الأعداء: عبادة بن نسي، ورجاء بن حيوة، وعدي بن عدي". مات سنة 118. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/96.
و"نسي" بضم النون، وفتح السين، والياء المشددة". وأما "إسحق"، فإن أبا جعفر زعم أنه ابن خرشة، ولم أجد في الرواة ولا في الأمراء"إسحق بن خرشة". وأما "ابن خرشة"، فهو: "عثمان بن إسحق بن خرشة (بفتح الخاء والراء) القرشي" روى عنه الزهري، ولم يذكر لعبادة بن نسي رواية عنه، ولا هو كان أميرًا. ونسبه كما رواه ابن سعد 5: 180 هو: "عثمان بن إسحق بن عبد الله بن أبي خرشة بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي"، ونسبه أيضًا المصعب في نسب قريش: 432، وقال: "روى عنه ابن شهاب، عن قبيصة بن ذؤيب حديث الجدة"، وهو الحديث الذي رواه أصحاب السنن الأربعة (سنن أبي داود 3: 167 رقم: 2894) ، من طريق مالك في الموطأ: 513 بروايته عن"ابن شهاب، عن عثمان بن إسحق بن خرشة، عن قبيصة بن ذؤيب".
فلست أشك أن أبا جعفر قد وهم، فأراد تعريف"إسحق" في إسناده هذا، فسبق إلى وهمه"ابن خرشة"، وهو"عثمان بن إسحق بن خرشة" لا"إسحق بن خرشة".
أما "إسحق" في هذا الخبر، فلست أشك أنه"إسحق بن قبيصة بن ذؤيب"، يرويه عن أبيه"قبيصة بن ذؤيب".
وذلك، أولا: لأن"إسحق بن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي"، يروي عن أبيه، وعن كعب الأحبار.
ثانيا: أن"عبادة بن نسي" الأردني، قاضي طبرية، مذكور في ترجمته، وأنه يروي عن إسحق بن قبيصة بن ذؤيب.
ثالثًا: أن"إسحق بن قبيصة بن ذؤيب" هو الذي كان أميرًا، كان عامل هشام على الأردن، كما قال أبو زرعة الدمشقي. وقال ابن سميع: "كان على ديوان الزمني في أيام الوليد". وعبادة بن نسي قاض من قضاة الأردن كما ذكرت.
فالذي لا شك فيه عندي، أن"إسحق" في هذا الإسناد: هو إسحق بن قبيصة بن ذؤيب، يروي عن أبيه، وأن أبا جعفر قد وهم في بيانه، وخلط.
وقد أشرت في التعليق على الأثر رقم: 11096، ما نقله الحافظ ابن حجر في فتح الباري (1: 97) ، نقلا عن هذا الموضع من الطبري، ولكنه نسبه أيضًا إلى مسدد في مسنده، وإلى الطبراني في الأوسط، وليسا عندي، ولكن إذا كان ذلك في واحد منهما، فإن الخطأ فيه، أقدم من أبي جعفر. وكتبه محمود محمد شاكر.
وفي المطبوعة هنا: "وكلاهما بحمد الله"، وفي المخطوطة: "وكليهما"، ولها وجه في العربية.(9/526)
11101- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عيسى بن جارية الأنصاري قال: كنا جلوسًا في الديوان، فقال لنا نصراني: يا أهل الإسلام، لقد نزلت عليكم آية لو نزلت علينا، لاتخذنا ذلك اليوم وتلك الساعة عيدًا ما بقي منا اثنان:"اليوم أكملت لكم دينكم"! فلم يجبه أحد منا، فلقيت محمد بن كعب القرظي، فسألته عن ذلك فقال: ألا رددتم عليه؟ فقال: قال عمر بن الخطاب: أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على الجبل يوم(9/527)
عرفة، فلا يزال ذلك اليوم عيدًا للمسلمين ما بقي منهم أحد. (1)
11102- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا"، عشيَّة عرفة، وهو في الموقف.
11103- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود قال: قلت لعامر: إن اليهود تقول: كيف لم تحفظ العرب هذا اليوم الذي أكمل الله لها دينها فيه؟ فقال عامر: أو ما حفظته؟ قلت له: فأيّ يوم؟ قال: يوم عرفة، أنزل الله في يوم عرفة.
11104- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: بلغنا أنها نزلت يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة.
11105- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن حبيب، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة: أن عمر بن الخطاب قال: نزلت"سورة المائدة" يوم عرفة، ووافق يوم الجمعة.
11106- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ليث، عن شهر بن حوشب قال: نزلت"سورة المائدة" على النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة على راحلته، فتنوَّخَتْ لأن يُدَقَّ ذراعها. (2)
__________
(1) الأثر: 11101-"حكام" هو"حكام بن سلم الكناني"، ثقة، روى عنه الطبري فأكثر فيما سلف، و"عنبسة" هو: عنبسة بن سعيد بن الضريس الأسدي، مضى مرارًا أيضًا، ترجم في رقم: 224، 3356، 5385.
و"عيسى بن جارية الأنصاري"، روى عن جرير البجلي، وجابر بن عبد الله، وابن المسيب، وغيرهم، وروى عنه يعقوب القمي، وعنبسة بن سعيد. تكلم فيه ابن معين قال: "عنده مناكير". وقال أبو داود: "منكر الحديث". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/273.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عيسى بن حارثة"، وهو خطأ.
(2) "أنخت البعير فاستناخ"، و"نوخته، فتنوخ": أي برك. قال ابن الأعرابي: "يقال تنوخ البعير، ولا يقال: ناخ، ولا أناخ".
وقوله: "لأن يدق ذراعها"، أي: مخافة أن يدق ذراعها.(9/528)
11107- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن شهر بن حوشب، عن أسماء بنت يزيد قالت: نزلت"سورة المائدة" جميعًا وأنا آخذة بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء. قالت: فكادت من ثقلها أن يُدَقَّ عضد الناقة. (1)
11108- حدثني أبو عامر إسماعيل بن عمرو السكوني قال، حدثنا هشام بن عمار قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا عمرو بن قيس السكوني: أنه سمع معاوية بن أبي سفيان على المنبر ينتزع بهذه الآية:"اليوم أكملت لكم دينكم"، حتى ختمها، فقال: نزلت في يوم عرفة، في يوم جمعة. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 11107-"أسماء بنت يزيد بن السكن" الأنصارية الأشهلية، "أم سلمة"، كانت فيمن جهز عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزفها، وكانت تخدم النبي، وبايعته، وشهدت اليرموك.
وهذا الحديث رواه أحمد في مسنده 6: 455 من طريق أبي النضر، عن شيبان، عن ليث. وفيه: "وكادت من ثقلها تدق.." ليس فيه"أن".
ثم رواه أيضًا ص: 458 من طريق إسحق بن يوسف، عن سفيان، عن ليث، وفيه: "إن كادت من ثقلها لتكسر الناقة".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 13، وقال: "رواه أحمد والطبراني، وفيه شهر بن حوشب، وهو ضعيف، وقد وثق"، وقد مضى مرارًا توثيق أخي السيد أحمد لشهر.
(2) الأثر: 11108-"إسمعيل بن عمرو السكوني"، أبو عامر، الحمصي المقرئ، إمام مسجد حمص. روى عن علي بن عياش، والربيع بن روح، ويحيى بن صالح الوحاظي، قال ابن أبي حاتم: "سمعت منه، وهو صدوق". مترجم في ابن أبي حاتم 1/1/190.
و"هشام بن عمار بن نصير السلمي"، أبو الوليد الدمشقي. روى عند البخاري وأبو داود والنسائي وابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب.
و"ابن عياش"، هو: إسمعيل بن عياش، مضى مرارًا.
و"عمرو بن قيس بن ثور بن مازن بن خيثمة الكندي السكوني"، أبو ثور الشامي الحمصي. روى عن جده"مازن بن خيثمة"، وله صحبة، وعن عبد الله بن عمرو، ومعاوية ووفد عليه مع أبيه. قال إسمعيل بن عياش: و"أدرك سبعين من الصحابة أو أكثر". ثقة، صالح الحديث. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر، خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مطولا، ثم قال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات".
وقوله: "انتزع بهذه الآية"، أي تمثل بها وقرأها.(9/529)
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية = أعني قوله:"اليوم أكملت لكم دينكم" = يوم الاثنين. وقالوا: أنزلت"سورة المائدة" بالمدينة.
*ذكر من قال ذلك:
11109- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن خالد بن أبي عمران، عن حنش، عن ابن عباس: ولد نبيكم صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، وخرج من مكة يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وأنزلت:"سورة المائدة" يوم الاثنين:"اليوم أكملت لكم دينكم"، ورفع الذكر يوم الاثنين. (1)
__________
(1) الأثر: 11109-"محمد بن حرب الخولاني" الأبرش. قال أحمد: "ليس به بأس"، وقال ابن معين: "ثقة". مترجم في التهذيب.
و"ابن لهيعة" هو"عبد الله بن لهيعة"، مضى برقم: 160، 2941، 5355، 5518، ومضى توثيق أخي السيد أحمد له.
و"خالد بن أبي عمران التجيبي"، قاضي إفريقية. ثقة، وثقه ابن سعد والعجلي، وغيرهما.
و"حنش" هو: "حنش بن عبد الله السبائي الصنعاني" مضى برقم: 1914، وهو تابعي ثقة.
وهذا الخبر استوهاه الطبري كما سيأتي في آخر كلامه، وذلك لما قالوا من ضعف ابن لهيعة، وترك بعضهم الاحتجاج به.
وروى هذا الخبر أحمد في مسنده برقم: 2506 من طريق موسى بن داود، عن ابن لهيعة، ونصه: "ولد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الاثنين، واستنئ يوم الاثنين، وتوفي يوم الاثنين، وخرج مهاجرًا من مكة إلى المدينة يوم الاثنين، وقدم المدينة يوم الاثنين، ورفع الحجر الأسود يوم الاثنين".
وقال أخي السيد أحمد في التعليق عليه: "إسناده صحيح. والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 2: 259، 260، عن هذا الموضع، وقال: "تفرد به أحمد"، وهو في مجمع الزوائد 1: 196، ونسبه لأحمد والطبراني في الكبير وقال الهيثمي: "وفيه ابن لهيعة، وهو ضعيف! وبقية رجاله ثقات من أهل الصحيح".
وليس في خبر أحمد"وأنزلت سورة المائدة.."، ولذلك لما ذكره ابن كثير في تفسيره، 2: 68، عن هذا الموضع من تفسير الطبري ونسبه للطبراني وابن مردويه، ثم قال: "أثر غريب، وإسناده ضعيف، وقد رواه الإمام أحمد.." ثم ساق حديث أحمد، ثم قال: "هذا لفظ أحمد، ولم يذكر نزول المائدة يوم الاثنين، فالله أعلم. ولعل ابن عباس أراد أنها نزلت"يوم عيدين اثنين، كما تقدم (يعني في الأثر رقم: 11098) ، فاشتبه على الراوي".
وهذا توجيه غير مرتضى، وربما كان الأرجح أنه غلط من أحد الرواة عن ابن لهيعة، فإن رواية أحمد، لا شك في قوتها وضبطها.
وقوله: "رفع الذكر يوم الاثنين"، يعني وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، وانقطاع الوحي من بعد قبضه ولحاقه بالرفيق الأعلى.(9/530)
11110- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة قال:"المائدة" مدنيّة.
* * *
وقال آخرون: نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره في حجة الوداع.
*ذكر من قال ذلك:
11112- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: نزلت"سورة المائدة" على رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسير في حجة الوداع، وهو راكب راحلته، فبركت به راحلته من ثقلها. (1)
* * *
وقال آخرون: ليس ذلك بيوم معلوم عند الناس، وإنما معناه: اليوم الذي أعلمه أنا دون خلقي، أكملت لكم دينكم.
*ذكر من قال ذلك:
11113- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"اليوم أكملت لكم دينكم"، يقول: ليس بيوم معلوم يعلمه الناس.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في وقت نزول الآية، القولُ الذي روي عن عمر بن الخطاب: أنها نزلت يوم عرفة يوم جمعة، لصحة سنده، وَوَهْيِ أسانيد غيره. (2)
* * *
__________
(1) سقط من الترقيم رقم: 11111.
(2) قوله: "ووهي أسانيد غيره". سلف في 8: 80 تعليق 1، أن الذي في المخطوطة هناك.
"وهاء"، ولذلك أثبتها، لأني وجدتها أيضًا في تهذيب الآثار للطبري"وهاء"، ثم هذه مرة أخرى، أجد في المخطوطة"وهي"، فاختلفت المخطوطة كما ترى في كتابتها في موضع آخر. راجع ما كتبته في التعليق هناك.(9/531)
القول في تأويل قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقول:"فمن اضطر"، فمن أصابه ضُرٌّ (1) ="في مخمصة"، يعني: في مجاعة.
* * *
= وهي"مفعلة"، مثل"المجبنة" و"المبخلة" و"المنجبة"، من"خَمَصِ البطنِ"، وهو اضطماره، وأظنه هو في هذا الموضع معنيٌّ به: اضطماره من الجوع وشدة السَّغَب. وقد يكون في غير هذا الموضع اضطمارا من غير الجوع والسَّغب، ولكن من خلقة، كما قال نابغة بني ذبيان في صفة امرأة بخَمَص البطن: (2)
وَالبَطنُ ذُو عُكَنٍ خَمِيصٌ لَيِّنٌ ... وَالنَّحْرُ تَنْفُجُهُ بثَدْيٍ مُقْعَدِ (3)
__________
(1) انظر تفسير"اضطر" فيما سلف 3: 56، 321.
(2) "خمص" (بفتح الخاء والميم) . وهذا تفصيل جيد في معنى"الخمص" و"المخمصة"، لا تصيب مثله في معاجم اللغة.
(3) ديوانه: 66 واللسان (قعد) وروايته: "لطيف طيه"، ولا شاهد فيه عندئذ. وهو من قصيدته التي استجاد فيها صفة المتجردة، صاحبة النعمان بن المنذر، والتي أفضت إلى ما كان بينهما من المهاجرة.
و"العكن": أطواء البطن لا من السمن فحسب، كما يقول أصحاب اللغة، فإن هذا البيت شاهد على خلافه. وإنما"العكن" هنا ما تثنى من أطواء البطن من رقة جلدها ونعومته، ورخاصة جسدها ولينه، فلذلك يتثنى. ولو كان ذلك من"السمن"، كما يقول أهل اللغة، لم يقل بعد"خميص لين"، ويصفه بالضمور والرقة (في رواية أبي جعفر) ، ولا"لطيف طيه"، وهو كناية عن الضمور والرقة أيضًا، وذلك من صفتها ضد السمن. فمن شرح"العكن" في هذا البيت وأشباهه بأنها من السمن، فقد أخطأ، وأحال معاني الشعر عن وجوهها.
وقوله: "والنحر تنفجه"، "النحر": أعلى الصدر، وهو موضع القلادة منها. وكل ما ارتفع فقد"نفج وانتفج وتنفج"، و"نفجه الرجل ينفجه نفجًا". ويقال: "نفج ثدي المرأة قميصها": إذا رفعه. وأسند إليها أنها تنفج نحرها بثدييها، وإن كان ذلك خلقة لا فعل لها فيه، لأنه نظر إلى ما يساور المرأة حين تختال لتفتن الناظرين، فتتخذ سمتًا وهيأة تنهب بحلم الحليم. فأصاب النابغة غاية الإصابة في الإشارة إلى سر المرأة في حركتها وشمائلها.
ولكن الذين تعرضوا لتفسير مثل هذا الشعر، أساءوا إليه من حيث أرادوا الإحسان، فقال الوزير أبو بكر في شرحه ديوان النابغة: "ويروى: والإتب تنفجه، -والإتب ثوب تلبسه- وهو أليق بالمعنى، لأن الثدي ينفخ الثوب، أي يرفعه ويعظمه". ثم قال أيضًا: "وروي: والنحر تنفجه" أي ترفعه عن الثوب"، وهذا مثل على الخلط في فهم الشعر، وإفساد لمعانيه. والذي استحسنه الوزير، معنى مغسول سخيف في مثل هذا الموضع من شعر النابغة، أضاع به تعب الشاعر في شعره.
و"ثدي مقعد": ناتئ على النحر، إذا كان ناهدًا لم ينثن بعد.(9/532)
فمعلوم أنه لم يرد صفتها بقوله:"خميص" بالهزال والضرّ من الجوع، ولكنه أراد وصفها بلطافة طيِّ ما على الأوراك والأفخاذ من جسدها، لأن ذلك مما يحمد من النساء. ولكن الذي في معنى الوصف بالاضطمار والهزال من الضر من ذلك، قول أعشى بني ثعلبة:
تَبِيتُونَ فِي المَشْتَى مِلاءً بُطُونُكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا (1)
يعني بذلك: يبتن مضطمرات البطون من الجوع والسغب والضرّ. فمن هذا المعنى قوله:"في مخمصة".
* * *
وكان بعض نحويي البصرة يقول:"المخمصة"، المصدر من"خَمَصَه الجوع".
* * *
__________
(1) ديوانه: 109، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 153، من إحدى قصائده التي قالها في خبر المنافرة بين علقمة بن علاثة، وعامر بن الطفيل (الأغاني 15: 50) ، وبعد البيت: يُراقِبْنَ مِنْ جُوعٍ خِلالَ مَخَافةٍ ... نُجُومَ الشِّتَاء العَاتِمَاتِ الغوامِصَا
"غرثى"، جياع، ويروى"جوعى". ووصف النجوم بقوله: "العاتمات" أراد أنها تظلم من الغبرة التي في السماء، وذلك في الجدب (وهو الشتاء) ، لأن نجوم الشتاء أشد إضاءة لنقاء السماء، فهن يلتمسن وقت خفائها. و"الغوامص" يعني: التي قل ضوءها من الغبرة. وقال شارح ديوانه: "يبتن جياعًا خائفات ينتظرن طلوع النجوم السحرية، ليخرجن يطلبن شيئًا، كيلا يعرفن". وقوله: "خلال مخافة" من أحسن الكلام في هذا البيت.(9/533)
وكان غيره من أهل العربية يرى أنها اسم للمصدر، وليست بمصدر، ولذلك تقع"المفعلة" اسمًا في المصادر للتأنيث والتذكير.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
11114- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن عباس:"فمن اضطر في مخمصة"، يعني: في مجاعة.
11115- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فمن اضطر في مخمصة"، أي: في مجاعة.
* * *
11116- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله. (1)
11117- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن اضطر في مخمصة"، قال: ذكر الميتة وما فيها، فأحلها في الاضطرار (2) ="في مخمصة"، يقول: في مجاعة.
11118- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: سمعت ابن زيد يقول في قوله:"فمن اضطر في مخمصة"، قال، المخمصة، الجوع.
* * *
__________
(1) الأثر: 11116- في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا معمر" وهو إسناد ناقص، سقط منه"قال أخبرنا عبد الرزاق"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 11104.
(2) في المطبوعة: "وأحلها" بالواو، وفي المخطوطة: "فأكلها"، وهو تحريف.(9/534)
القول في تأويل قوله: {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإثْمٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن اضطر في مخمصة إلى أكل ما حَرَّمتُ عليه منكم، أيها المؤمنون، من الميتة، والدم ولحم الخنزير وسائر ما حرمت عليه بهذه الآية ="غير متجانف لإثم"، يقول: لا متجانفًا لإثم. (1)
= فلذلك نصب"غير" لخروجها من الاسم الذي في قوله:"فمن اضطر" (2) وهي بمعنى:"لا"، فنصب بالمعنى الذي كان به منصوبًا"المتجانف"، لو جاء الكلام:"لا متجانفًا". (3)
* * *
وأما"المتجانف لإثم"، فإنه المتمايل له، المنحرف إليه. وهو في هذا الموضع مراد به المتعمِّد له، القاصد إليه، من"جَنَف القوم عليّ"، إذا مالوا. وكل أعوج فهو"أجنف"، عند العرب.
* * *
وقد بينا معنى"الجنف" بشواهده في قوله: (فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا) [سورة البقرة: 182] ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
وأما تجانف آكل الميتة في أكلها وفي غيرها مما حرم الله أكله على المؤمنين
__________
(1) في المطبوعة: "إلا متجانفًا" فأفسد المعنى إفسادًا، والصواب من المخطوطة، وفيها: "لا متجانف"، والصواب ما أثبت.
(2) "الخروج"، الحال، كما سلف في فهارس المصطلحات.
(3) في هذين الموضعين أيضًا في المطبوعة: "وهي بمعنى: إلا" ثم: "لو جاء الكلام: إلا متجانفًا"، وهو خطأ محض، والصواب ما أثبته من المخطوطة.
وانظر تفسير"غير" بمعنى"لا" فيما سلف 3: 322، في تفسير قوله تعالى من سورة البقرة: 173: "غير باغ ولا عاد"، بمعنى: لا باغيًا ولا عاديًا = منصوبًا على الحال.
(4) انظر تفسير"الجنف" فيما سلف 3: 405-408.
= وتفسير"الإثم" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (أثم) .(9/535)
بهذه الآية، للإثم في حال أكله (1) فهو: تعمده أكل ذلك لغير دفع الضرورة النازلة به (2) ولكن لمعصية الله، وخلاف أمره فيما أمره به من ترك أكل ذلك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
11119- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم"، يعني: إلى ما حُرِّم، مما سمَّى في صدر هذه الآية ="غير متجانف لإثم"، يقول: غير متعمد لإثم.
11120- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"غير متجانف لإثم"، غير متعمد لإثم. قال: إلى حِرْم الله، ما حَرّم (3) رخّص للمضطر إذا كان غير متعمد لإثم، أن يأكله من جهد. فمن بَغَى، أو عدا، أو خرج في معصيةٍ لله، فإنه محرم عليه أن يأكله.
11121- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"غير متجانف لإثم"، أي: غير متعرِّض لمعصية.
11122- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"غير متجانف لإثم"، غير متعمد لإثم، غير متعرِّض.
11123- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"غير متجانف لإثم"، يقول: غير متعرض لإثم، أي: يبتغي فيه شهوة، أو يعتدي في أكله.
__________
(1) السياق: "وأما تجانف آكل الميتة ... للإثم في حال أكله ... ".
(2) في المطبوعة: "فهو تعمده الأكل لغير دفع الضرورة"، غير ما في المخطوطة بلا معنى.
(3) "حرم الله" (بكسر الحاء، وسكون الراء) ، هو الحرام نقيض الحلال. وقوله بعد ذلك: "ما حرم"، تفسير لقوله: "حرم الله".(9/536)
11124- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد فى قوله:"غير متجانف لإثم"، لا يأكل ذلك ابتغاءَ الإثم، ولا جراءة عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) }
قال أبو جعفر: وفي هذا الكلام متروك، اكتفى بدلالة ما ذكر عليه منه. وذلك أن معنى الكلام: فمن اضطر في مخمصة إلى ما حرمت عليه مما ذكرت في هذه الآية، غير متجانف لإثم فأكله، فإن الله غفور رحيم = فترك ذكر"فأكله"، وذكر"له" (1) لدلالة سائر ما ذكر من الكلام عليهما.
* * *
وأما قوله:"فإن الله غفور رحيم"، فإن معناه: فإن الله لمن أكل ما حرمت عليه بهذه الآية أكله، في مخمصة، غير متجانف لإثم ="غفور رحيم"، يقول: يستر له عن أكله ما أكل من ذلك، بعفوه عن مؤاخذته إياه، وصفحه عنه وعن عقوبته عليه ="رحيم"، يقول: وهو به رفيق. ومن رحمته ورفقه به (2) أباح له أكل ما أباح له أكله من الميتة وسائر ما ذكر معها في هذه الآية، في حال خوفه على نفسه من كَلَب الجوع وضُرِّ الحاجة العارضة ببدنه.
* * *
فإن قال قائل: وما الأكل الذي وعد الله المضطر إلى الميتة وسائر المحرَّمات معها بهذه الآية، غفرانَهُ إذا أكل منها؟
قيل: ما:-
__________
(1) يعني بقوله: "وذكر: له"، معطوف على قوله: "وترك ذكر: فأكله"، والمعنى: وترك ذكر: "إلى ما حرمت عليه فأكله". وكان الأجود عندي أن يبين ذلك فيذكره كما ذكرته.
وأما قوله: "وذكر: له"، يعني في قوله: "فإن الله له غفور ... ".
(2) في المطبوعة: "من رحمته" بإسقاط الواو، وأثبتها من المخطوطة.(9/537)
11125- حدثني عبد الأعلى بن واصل الأسدي قال، حدثنا محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي واقد الليثي قال: قلنا: يا رسول الله، إنا بأرض تصيبنا فيها مخمصة، فما يصلح لنا من الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا، أو تحتفئوا بقلا فشأنَكم بها. (1)
__________
(1) الأثر: 11125- خبر الأوزاعي، عن حسان بن عطية، يرويه الطبري بعد برقم: 11132، عن الأوزاعي، عن حسان مرسلا. ثم يرويه برقم: 11133، عن الأوزاعي، عن حسان، عن رجل قد سمى له. وهي خبر واحد.
"عبد الأعلى بن واصل بن عبد الأعلى بن هلال الأسدي"، شيخ الطبري، روى له الترمذي، والنسائي، وأبو حاتم. قال أبو حاتم: "صدوق"، وقال النسائي: "ثقة". مترجم في التهذيب.
و"محمد بن القاسم الأسدي" رمي بالكذب والوضع. قال أبو داود: "غير ثقة ولا مأمون، أحاديثه موضوعة"، وتكلم فيه أحمد بن حنبل وضعفه، روى محمد بن القاسم، عن الأوزاعي. مترجم في التهذيب.
و"الأوزاعي" هو الإمام المشهور.
و"حسان بن عطية المحاربي"، كان من أفاضل أهل زمانه، وثقه أحمد، وابن معين، والعجلي، روى عن أبي أمامة، وعنبسة بن أبي سفيان، وسعيد بن المسيب. ونصوا على أنه أرسل عن أبي واقد الليثي، وكأنهم يعنون هذا الخبر بعينه.
و"أبو واقد الليثي" قيل اسمه: "الحارث بن مالك"، وقيل: "الحارث بن عوف"، وقيل: "عوف بن الحارث بن أسد"، من بني ليث بن بكر بن عبد مناة، من كنانة. صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن أبي بكر وعمر. وروى عنه ابناه عبد الملك وواقد، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، وعطاء بن يسار، وعروة بن الزبير، وغيرهم.
وإسناد أبي جعفر هذا، إسناد ضعيف، لضعف محمد بن القاسم، ولكنه روي من وجه صحيح، كما سترى في التخريج.
فرواه أحمد في مسنده 5: 218 (حلبي) عن محمد بن القاسم، عن الأوزاعي، وهو نفس إسناد الطبري، فهو ضعيف.
ثم رواه مرة أخرى في نفس الصفحة، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي. (قلت: في المسند: حدثنا الوليد، حدثنا مسلم، حدثنا الأوزاعي = وهو خطأ لا شك فيه، صوابه: الوليد بن مسلم، كما نقله عن هذا الموضع من المسند، ابن كثير في تفسيره 2: 69) .
وقال ابن كثير بعد نقله هذا الخبر الثاني من خبري أحمد: "تفرد به أحمد من هذا الوجه، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين".
ولكن الهيثمي خرجه في مجمع الزوائد 4: 165، وقال: "رواه أحمد بإسنادين، رجال أحدهما رجال الصحيح [يعني الحديث الثاني من حديثي أحمد] ، إلا أن المزي قال: لم يسمع حسان بن عطية من أبي واقد، والله أعلم".
ثم خرجه الهيثمي أيضًا في مجمع الزوائد 5: 165 وقال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات". ولم يذكر مقالة المزي، ولا انقطاع الخبر.
ورواه الحاكم في المستدرك 4: 125، من طريق أبي قلابة الرقاشي، عن أبي عاصم، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن أبي واقد، بمثله. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي فقال: "فيه انقطاع"، إشارة ما قاله المزي، فيما رواه صاحب مجمع الزوائد.
ورواه البيهقي في السنن 9: 356 من ثلاث طرق: محمد بن القاسم الأسدي، عن الأوزاعي، كرواية أحمد والطبري.
ومن طريق أبي عبيد، عن محمد بن كثير، عن الأوزاعي، عن حسان، عن أبي واقد.
ثم رواه من طريق الوليد بن مسلم (وهو طريق أحمد الثاني) ، ولكن فيه زيادة، وذلك أنه رواه عن إسحق بن إبراهيم الحنظلي، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن ابن مرثد = أو أبي مرثد = عن أبي واقد الليثي.
وإلى هذه الطريق أشار ابن كثير في تفسيره 3: 69، بعد أن روى حديث أحمد في المسند فقال: "ولكن رواه بعضهم عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن مسلم بن يزيد، عن أبي واقد، به، ومنهم من رواه عن الأوزاعي، عن حسان، عن مرثد = أو أبي مرثد = عن أبي واقد، به"، فخالف ما في سنن البيهقي، قال: "مرثد"، والذي فيها"ابن مرثد".
ولم أجد ذكرًا في كتب الرجال لمسلم بن يزيد، أو مرثد، أو ابن مرثد. فإسناد هذه الخبر، كما ترى، هو على صحته منقطع.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 259، ولم ينسب لغير أحمد والحاكم. * * *
وقوله: "إذا لم تصطبحوا"، أي: إذا لم تجدوا صبوحًا، و"الصبوح" (بفتح الصاد) : هو ما يحلب من اللبن بالغداة ويشرب عندئذ. و"اصطبح القوم": شربوا الصبوح. و"صبح الرجل ضيفه": سقاه الصبوح بالغداة.
وقوله: "أو تغتبقوا"، أي: إذا لم تجدوا غبوقًا، و"الغبوق" (بفتح الغين) : هو ما يحلب من اللبن بالعشي، ويشرب عندئذ."غبق الرجل ضيفه"، سقاه غبوقًا. و"اغتبق القوم": شربوا الغبوق بالعشي.
أما "تحتفئوا"، فسيأتي تفسيرها بعد الأثر رقم: 11133، ص: 542، تعليق: 2.(9/538)
11126- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن الخصيب بن زيد التميمي قال، حدثنا الحسن: أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إلى متى يحلُّ لي الحرام؟ قال فقال: إلى أن يروَى أهلك من اللبن، أو تجيء مِيرَتُهم". (1)
__________
(1) الأثر: 11126-"الخصيب بن زيد التميمي"، سمع عن الحسن، مرسل، روى عنه هشيم، هكذا قال البخاري في الكبير 2/1/201. وفي التهذيب: "وثقه أحمد"، وذكره ابن حبان في الثقات. وفي ابن أبي حاتم 1/2/396، كتب"خصيب بن بدر التميمي"، والصواب"خصيب بن زيد" كما قال البخاري.
و"الميرة" (بكسر الميم) : هو جلب الطعام. وفي المخطوطة: "وتجيء" بالواو، وأثبت ما في المطبوعة، وابن كثير 3: 69.(9/539)
11127- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا خصيب بن زيد التميمي قال، حدثنا الحسن: أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر مثله = إلا أنه قال: أو تُجْبَى ميرتهم. (1)
11128- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني عمر بن عبد الله بن عروة، عن جده عروة بن الزبير، عمن حدثه: أن رجلا من الأعراب أتى النبي صلى الله عليه وسلم يستفتيه في الذي حرّم الله عليه، والذي أحل له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: تحل لك الطيبات، وتحرُم عليك الخبائث، إلا أن تفتقر إلى طعام [لا يحل لك] ، (2) فتأكل منه حتى تستغني عنه. فقال الرجل: وما فقري الذي يُحِلّ لي؟ وما غناي الذي يغنيني عن ذلك؟ (3) فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا كنت ترجو نتاجًا، فتبلَّغ بلحوم ماشيتك إلى نِتاجك، أو كنت ترجو غنًى تطلبه، فتبلَّغ من ذلك شيئًا، (4) فأطعم أهلك ما بدا لك حتى تستغني عنه. فقال الأعرابي: ما غِناي الذي أدعه إذا وجدته؟
__________
(1) في المطبوعة: "أو تحيا ميرتهم"، من"الحياة"، وفي المخطوطة: "تجبى" غير منقوطة، فرأيت أن أقرأها كذلك، من"جبى الماء في الحوض يجيبه": جمعه، و"جبى الخراج" جمعه. ولو قرئت: "يجني" من"جنى يجني"، كما تجنى الثمرة، لكان مجازا. وللذي في المطبوعة: "يحيى"، وجه. ولكني رجحت ما أثبت. ولم أجد الخبر في مكان آخر بهذه الرواية.
(2) الزيادة بين القوسين، لا يتم الكلام إلا بها، من مجمع الزوائد.
(3) نص ما رواه في مجمع الزوائد: "ما فقري، وما الذي آكل من ذلك إذا بلغته؟ وما غناي الذي يغنيني عنه".
(4) "تبلغ بشيء من الطعام أو غيره": اكتفى به. وقوله: "شيئا"، أي: قليلا، غير مفرط فيه.
وانظر تفسير"شيء" بمعنى"قليل" فيما سلف 6: 448، تعليق 2/8: 403، تعليق: 1.(9/540)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أرويت أهلك غَبُوقًا من الليل. (1) فاجتنب ما حرَّم الله عليك من طعام. [وأمّا] مالُك (2) فإنه ميسور كله، ليس فيه حرام. " (3)
11129- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال: وجدت عند الحسن كتاب سمرة، فقرأته عليه، وكان فيه: ويُجْزي من الاضطرار غَبُوق أو صَبُوح. (4)
11130- حدثنا هناد وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ابن عون قال: قرأت في كتاب سَمُرة بن جندب: يكفي من الاضطرار = أو: من الضرورة = غبوقٌ أو صبوح. (5)
11131- حدثني علي بن سعيد الكندي وأبو كريب قالا حدثنا عبد الله بن إدريس، عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: إذا اضطر الرجل إلى الميتة، أكل منها قوتَه = يعني: مُسْكَتَه. (6)
__________
(1) في مجمع الزوائد: "غبوقًا من اللبن"، وما في الطبري أجود.
(2) الزيادة بين القوسين، لا يتم الكلام إلا بها، زدتها من مجمع الزوائد، ومن الدر المنثور. وأما قوله بعد: "ميسور كله"، أي: موسع عليك فيه.
(3) الأثر: 11128- خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد مطولا، من"حديث سمرة بن جندب، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أتاه رجل من الأعراب"، ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير، والبزار باختصار. وفي إسناد الطبراني مساتير، وإسناد البزار ضعيف".
وذكره ابن كثير من تفسيره 3: 70 عن هذا الموضع من التفسير، وفيه: "عروة بن الزبير، عن جدته"، والصواب ما في الطبري، والدر المنثور، وبما تبين من أن الخبر من حديث سمرة بن جندب. وخرجه في الدر المنثور 2: 260، ولم ينسبه لغير الطبري.
(4) الأثر: 11129-"سمرة"، هو"سمرة بن جندب بن هلال الفزاري"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكتابه هذا هو رسالته إلى بنيه، قال ابن سيرين: "في رسالة سمرة إلى بنيه، علم كثير". وانظر الأثر التالي.
(5) الأثر: 11130- هذا الأثر، رواه البيهقي في السنن عن أبي عبيد، عن معاذ، عن ابن عون: قال: "رأيت عند الحسن كتب سمرة لبنيه: أنه يجزئ من الاضطرار - أو الضارورة.." و"الضرورة" و"الضارورة"، واحد، وهما اسم لمصدر"الاضطرار".
(6) "المسكة" (بضم الميم وسكون السين) : هي ما يمسك الأبدان من الطعام والشراب. وكذلك"القوت": هو ما يقوم به بدن الإنسان من الطعام، وما يمسك الرمق من الرزق.(9/541)
11132- حدثنا هنّاد بن السري قال، حدثنا ابن مبارك، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية قال: قال رجل: يا رسول الله، إنا بأرض مَخْمصة، فما يحلّ لنا من الميتة؟ ومتى تحلّ لنا الميتة؟ قال: إذا لم تصطبحوا، أو تغتبقوا، ولم تحتفئوا بقلا فشأنَكم بها. (1)
11133- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن الأوزاعي، عن حسان بن عطية، عن رجل قد سمي لنا: أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا نكون بأرض مخمصة، فمتى تحل لنا الميتة؟ قال: إذا لم تغتبقوا، ولم تصطبحوا، ولم تحتفئوا بقلا فشأنكم بها. (2)
* * *
قال أبو جعفر: يروى هذا على أربعة أوجه:"تحتفئوا" بالهمزة ="وتحتفيوا" بتخفيف"الياء" و"الحاء" = و"تحتفّوا"، بتشديد الفاء = و"تحتفوا" بالحاء، والتخفيف، ويحتمل الهمز (3) .
* * *
__________
(1) الأثران: 11132، 11133- هما خبر أبي واقد الليثي الذي مضى برقم: 11125، وانظر التعليق عليه هناك.
(2) الأثران: 11132، 11133- هما خبر أبي واقد الليثي الذي مضى برقم: 11125، وانظر التعليق عليه هناك.
(3) ما ذكره أبو جعفر هو روايات هذا الحرف بالحاء، ولكنه روي أيضًا بالجيم مهموزًا: "تجتفئوا" من قولهم: "جفأ البقل يجفؤه جفأ، واجتفأ": إذا اقتلعه من أصله.
وروي بالجيم غير مهموز"تجتفوا"، بمعنى المهموز: "جفيت البقل واجتفيته".
وروي بالخاء المعجمة: "تختفوا" من"أخفى الشيء" إذا أظهره بعد خفائه، كأنه قد أزال خفاءه.
وأما ما رواه الطبري بالحاء، فتفسير"تحتفئوا" من"الحفأ" وهو البردي. يقال: "احتفا الحفأ": اقتلعه من منبته.
وأما "تحتفيوا" (بكسر الفاء وضم الياء) من قولهم: "احتفى الحفأ، البقل" إذا اقتلعه من وجه الأرض بالأظافير، وأصله الهمز.
وأما "تحتفوا" بتشديد الفاء، فمن قولهم: "احتف الطعام" إذا أكل جميع ما في القدر، ومن قولهم: "احتفت المرأة": أزالت شعر وجهها نتفًا بخيطين، فكأنهم ينتفون البقل من وجه الأرض لصغره.
وأما "تحتفوا" فمن"احتفى البقل": إذا اقتلعه، وهو غير مهموز.
هذا، وقد قال الأزهري: "قال أبو سعيد: صوابه: تحتفوا، بتخفيف الفاء من غير همز. وكل شيء استؤصل فقد احتفى، ومنه: إحفاء الشعر. قال: واحتفى البقل: إذا أخذه من وجه الأرض بأطراف أصابعه من قصره وقلته = قال: ومن قال: تحتفئوا، بالهمز، من الحفأ، البردي، فهو باطل، لأن البردي ليس من البقل. والبقول: ما نبت من العشب على وجه الأرض مما لا عرق له. قال: ولا بردي في بلاد العرب = ويروى: ما لم تجتفئوا، بالجيم. قال: والاجتفاء أيضًا بالجيم باطل، لأن الاجتفاء: كب الآنية إذا جفأتها = ويروى: ما لم تحتفوا، بتشديد الفاء، من: احتففت الشيء، إذا أخذته كله، كما تحف المرأة وجهها من الشعر".(9/542)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
القول في تأويل قوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك، يا محمد، أصحابك: ما الذي أحل لهم أكله من المطاعم والمآكل؟ فقل لهم: أحِل لكم منها ="الطيبات"، وهي الحلال الذي أذن لكم ربكم في أكله من الذبائح (1) وأحل لكم أيضًا مع ذلك، صيدُ ما علّمتم من"الجوارح"، وهن الكَواسب من سباع البهائم.
* * *
والطير سميت"جوارح"، لجرحها لأربابها، وكسبها إيّاهم أقواتَهم من الصيد. يقال منه:"جرح فلان لأهله خيرًا"، إذا أكسبهم خيرًا، و"فلان جارِحَة أهله"، يعني بذلك: كاسبهم، و"لا جارحة لفلانة"، إذا لم يكن لها كاسب (2) ومنه قول أعشى بني ثعلبة.
ذاتَ حَدٍّ مُنْضِجٍ مِيسَمُهَا ... تُذْكِرَ الجَارِحَ مَا كَانَ اجْتَرَحْ (3)
__________
(1) انظر تفسير"الطيبات" فيما سلف 3: 301/ 5: 555/6: 361 / 8: 409 / 9: 391.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 154.
(3) ديوانه: 164، وهي من قصيدة له طويلة، مجد فيها إياس بن قبيصة الطائي، ملك الحيرة. ثم ختم القصيدة بذكر الخمر، وذكر شبابه وما كان فيه من لهو ومروءة وبأس، فقال يصف لاذع قوله فيمن يعاديه (برواية الديوان) : وَلَقَدْ أَمْنَحُ مَنْ عَادَيْتُهُ ... كَلِمًا يَحْسِمْنَ مِنْ داءِ الكَشَحْ
وقطَعْتُ نَاظِرَيْهِ ظاهِرًا ... لا يكونُ مِثْلَ لَطْمٍ وكَمَحْ
ذَا حَبَارٍ مُنْضِجٍ مِيسَمُهُ ... يُذْكِرُ الجَارِمَ مَا كَانَ اجتَرَحْ
قوله: "كلما" جمع"كلمة"، يعني به: هجاءه وشعره. وفي الديوان: "كلما" مضبوطة بضم الكاف وتشديد اللام المفتوحة، ونقل عن الديوان"كل ما"، وهو خطأ فيما أرجح. و"حسم الداء يحسمه": قطعه بالدواء. و"حسم العرق": قطعه، ثم كواه لئلا يسيل دمه. و"الكشح" (بفتح الكاف والشين) : داء يصيب الإنسان في كشحه فيكوى."الكشح" (بفتح فسكون) : ما بين الخاصرة إلى الضلع الخلف، وهما كشحان في الإنسان. و"طوى فلان كشحه": أي أعرض وولاك كشحه، من البغض والعداوة. وأراد بقوله: "داء الكشح"، العداوة والبغضاء. يقول: أهجوه هجاء يشفيه من داء البغض!
وقوله: "وقطعت ناظريه" أي: كويته كية ظاهرة في وسط جبينه، بين عينيه إلى أنفه: وقوله: "ظاهرًا" صفة لمحذوف، أي كيا ظاهر الأثر. ليس أثره كأثر اللطم أو الكمح. و"الكمح" (بفتحتين) : هو أثر كمح الفرس باللجام، أي رده وجذبه باللجام ليقف، فيترك ذلك أثرًا حيث موقع اللجام. وهو حرف لم تذكره كتب اللغة، وشرحته من سياق معنى الشعر. يقول: أثر اللطم غير بين فهو يزول، وأثر كمح اللجام سهل يأتي متتابعًا فلا يؤذي، أما هذا الظاهر فهو مكواة من النار (كما يبينه البيت الثالث) . وأنا في شك من رواية هذا البيت.
وقوله: "ذا حبار"، أي ذا أثر، صفة ثانية لقوله: "ظاهرًا"، و"الحبار" (بفتح الحاء) الأثر في الجلد من ضرب أو كي أو غيرها. ومثله"الحبر" (بكسر فسكون) . وفي الديوان"ذا جبار" (بضم الجيم) ، وهو لا معنى له، صواب إنشاده ما أثبت. و"الميسم": الحديدة التي يكوى بها. يشبه هجاه بالمكواة الحامية تنضج الجلد، وتبقي فيه أثرًا لا يزول، ولا تزال تذكره بما اجترم.
وأما رواية أبي جعفر، فهي في المخطوطة: "ذات حد" (بالحاء المفتوحة) ، فإن صحت كذلك فهي صفة لقوله: "كلما يحسمن"، و"الحد": صلابة الشيء وشدته ونفاذه، كما يقال"حد الظهيرة"، أي: أشد حرها. وإن صحت روايته كما كان في المطبوعة: "ذات خد"، (بالخاء المعجمة) : من"الخد" و"الأخدود"، وهو الشق، و"خدت الضربة جلده" إذا شقته وتركت فيه خدًا. و"أخاديد السياط"، آثارها في الجلد. وكلتاهما جيدة المعنى.
* * *
تنبيه: ديوان الأعشى المطبوع في أوربة، ديوان كثير الخطأ والتحريف والتصحيف، فمن أجل ذلك اجتهدت في تصحيح هذا الشعر، وفي كثير غيره مما سلف من شعر الأعشى.(9/543)
يعني: اكتسب.
وترك من قوله:"وما علمتم"،"وصيد" ما علمتم من الجوارح، اكتفاء بدلالة ما ذكر من الكلام على ما تُرِك ذكره.
* * *(9/544)
وذلك أن القوم، فيما بلغنا، كانوا سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بقتل الكلاب، عما يحلّ لهم اتخاذه منها وصَيْده، فأنزل الله عز ذكره فيما سألوا عنه من ذلك هذه الآية. فاستثنى مما كان حرّم اتخاذه منها، وأمر بقُنْيَة كلاب الصيد (1) وكلاب الماشية، وكلاب الحرث، وأذن لهم باتخاذ ذلك.
ذكر الخبر بذلك:
11134- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حباب العكلي قال، حدثنا موسى بن عبيدة قال، أخبرنا أبان بن صالح، عن القعقاع بن حكيم، عن سلمى أم رافع، عن أبي رافع قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن عليه، فأذن له فقال: قد أذنَّا لك يا رسول الله! (2) قال: أجل، ولكنا لا ندخل بيتًا فيه كلب! قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة، فقتلت حتى انتهيت إلى امرأة عندها كلب ينبح عليها، فتركته رحمة لها، ثم جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فأمرني فرجعت إلى الكلب فقتلته. فجاؤوا فقالوا: يا رسول الله، ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"يسألونك ماذا أحِل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علَّمتم من الجوارح مكلبين". (3)
__________
(1) "القنية" (بضم القاف، أو بكسرها، وسكون النون) : اقتناء الأشياء واتخاذها لما ينتفع بها فيه.
(2) يعني بقوله: "رسول الله"، جبريل رسول الله بوحيه إلى النبي صلى الله عليهما.
(3) الأثر: 11134-"زيد بن الحباب العكلي"، مضى برقم: 2185، 5350، 8165، وهو ثقة، من شيوخ أحمد.
و"موسى بن عبيدة بن نشيط الربذي"، مضى برقم: 1875، 1876، 3291، 8361، وهو ضعيف جدًا. قال أحمد: "منكر الحديث، لا تحل الرواية عنه". وفي تفسير ابن كثير: "يونس بن عبيدة"، وهو خطأ يصحح.
و"أبان بن صالح بن عمير بن عبيد"، ثقة. مضى برقم: 4337، 4338، وكان في المطبوعة هنا: "حدثنا موسى بن عبيدة، قال أخبرنا صالح، وفي المخطوطة: "قال أنا صالح"، وهو خطأ في كلتيهما، والصواب ما أثبته، عن الحاكم، والبيهقي، وابن كثير.
و"القعقاع بن حكيم الكناني"، تابعي ثقة، مضى برقم: 304.
و"سلمى أم رافع"، مولاة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي زوجة أبي رافع، روت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن فاطمة الزهراء.
و"أبو رافع" مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وإسناد هذا الخبر ضعيف، لضعف موسى بن عبيدة الربذي. ورواه ابن أبي حاتم أيضًا من طريق حجاج بن حمزة، عن زيد بن حباب، عن موسى بن عبيدة، كما نقله ابن كثير في تفسيره 3: 72، 73. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 42، 43، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه موسى بن عبيدة الربذي، وهو ضعيف".
أما البيهقي في السنن 9: 235، والحاكم في المستدرك 2: 311، فقد روياه مختصرًا من طريق معلى بن منصور، عن ابن أبي زائدة، عن محمد بن إسحق، عن أبان بن صالح، وهو أصح من إسناد أبي جعفر وابن أبي حاتم. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وقد روي حديث أبي رافع، بغير هذا اللفظ، من طرق. انظر الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 42، 43، ومسند أحمد 6: 8-10، 391.
وقوله: "عندها كلب ينبح عليها"، أي: يرد عنها بنباحه ما تخاف من سبع، وينذرها بمجيء ضيف إن استروح رائحته. وجاء بيانه في الأثر الذي رواه أحمد في مسنده 6: 391: "قالت: إني امرأة مضيعة، وإن هذا الكلب يطرد عني السبع، ويؤذنني بالجائي".(9/545)
11135-حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم بعث أبا رافع في قتل الكلاب، فقتل حتى بلغ العَوالي (1) فدخل عاصم بن عدي، وسعد بن خيثمة، وعويم بن ساعدة، فقالوا: ماذا أحلَّ لنا يا رسول الله؟ فنزلت:"يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلِّبين".
11136- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير قال، حدثونا عن محمد بن كعب القرظي قال: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل الكلاب، قالوا: يا رسول الله، فماذا يحل لنا من هذه الأمة؟ فنزلت:"يسألونك ماذا أحل لهم"، الآية.
* * *
__________
(1) "العوالي": أماكن بأعلى أراضي المدينة، وأدناها من المدينة على أربعة أميال، وأبعدها من جهة نجد ثمانية أميال(9/546)
ثم اختلف أهل التأويل في"الجوارح" التي عنى الله بقوله:"وما علمتم من الجوارح".
فقال بعضهم: هو كل ما عُلِّم الصيدَ فتعلّمه، من بهيمة أو طائر.
*ذكر من قال ذلك:
11137- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن في قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، قال: كل ما عُلِّم فصادَ، من كلب أو صقر أو فهدٍ أو غيره.
11138- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن إسماعيل بن مسلم، عن الحسن:"مكلبين"، قال: كل ما علم فصاد من كلب أو فهد أو غيره.
11139- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في صيد الفهد قال: هو من الجوارح.
11140- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، قال: الطير والكلاب.
11141- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن الحجاج، عن عطاء، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد، مثله.
11142- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن حميد، عن مجاهد:"مكلِّبيين"، قال: من الكلاب والطير.
11143- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"من الجوارح مكلبين"، قال: من الطير والكلاب.
11144- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.(9/547)
11145- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعبة = ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة =، عن الهيثم، عن طلحة بن مصرف قال، قال خيثمة بن عبد الرحمن: هذا ما قد بيَّنت لك: أن الصقر والبازي من الجوارح. (1)
11146- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت الهيثم يحدث، عن طلحة الإيامي، عن خيثمة قال: بيّنت لك: (2) أن الصقر والباز والكلب من الجوارح. (3)
11147- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عبد الله بن عمر، عن نافع، عن علي بن حسين قال: الباز والصقر من الجوارح.
11148- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن شريك، عن جابر، عن أبي جعفر قال: الباز والصقر من"الجوارح المكلِّبين". (4) .
11149- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، يعني بـ "الجوارح"، الكلابَ الضواريَ والفهود والصقور وأشباهها.
11150- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، قال: من الكلاب، وغيرها من الصقور والبِيزان (5) وأشباهِ ذلك مما يعلّم.
__________
(1) الأثر: 11145، 11146-"الهيثم" هو: "الهيثم بن حبيب"، وهو"الهيثم بن أبي الهيثم" الصيرفي الكوفي. أثنى عليه أحمد وقال: "ما أحسن أحاديثه وأشد استقامتها". مترجم في التهذيب.
و"طلحة بن مصرف الإيامي"، مضى برقم: 5431.
و"خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي" تابعي ثقة، مضى برقم: 8267.
(2) في المطبوعة: "أنبئت أن الصقر"، وفي المخطوطة: "أتيت لك أن الصقر"، وكأن الصواب ما أثبت، استظهارًا من الأثر السالف.
(3) الأثر: 11145، 11146-"الهيثم" هو: "الهيثم بن حبيب"، وهو"الهيثم بن أبي الهيثم" الصيرفي الكوفي. أثنى عليه أحمد وقال: "ما أحسن أحاديثه وأشد استقامتها". مترجم في التهذيب.
و"طلحة بن مصرف الإيامي"، مضى برقم: 5431.
و"خيثمة بن عبد الرحمن بن أبي سبرة الجعفي" تابعي ثقة، مضى برقم: 8267.
(4) في المطبوعة: "من الجوارح المكلبين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(5) "البيزان" (بكسر الباء) جمع"باز"، بغير ياء في آخره، ويجمع أيضًا على"أبواز". وقولهم"باز" لغة في"بازي" وجمع"بازي""بزاة" و"بواز"(9/548)
11151- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، الجوارح: الكلاب والصقور المعلَّمة.
11152- حدثني سعيد بن الربيع الرازيّ قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، سمع عبيد بن عمير يقول في قوله:"من الجوارح مكلبين"، قال: الكلاب والطير.
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله جل ثناؤه بقوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، الكلابَ دون غيرها من السِّباع.
*ذكر من قال ذلك:
11153- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك:"وما علمتم من الجوار مكلبين"، قال: هي الكلاب.
11154- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، يقول: أحل لكم صيد الكلاب التي علَّمتوهن.
11155- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: أمَّا ما صاد من الطير = والبُزاةُ من الطير = فما أدركت فهو لك، وإلا فلا تطعمه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية قول من قال:"كل ما صاد من الطير والسباع فمن الجوارح، وأنّ صيد جميع ذلك حلال إذا صادَ بعد التعليم"،
__________
(1) في المطبوعة: "فلا تطمعه"، وهو خطأ في الطباعة(9/549)
لأن الله جل ثناؤه عم بقوله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين"، كلَّ جارحة، ولم يخصص منها شيئًا. فكل"جارحة"، كانت بالصفة التي وصف الله من كل طائر وسبع، فحلال أكل صيدها.
* * *
وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم بنحو ما قلنا في ذلك خبَرٌ، مع ما في الآية من الدلالة التي ذكرنا على صحة ما قلنا في ذلك، وهو ما:-
11156- حدثنا به هناد قال، حدثنا عيسى بن يونس، عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال: ما أمسك عليك فَكُل. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 11156-"هناد" هو"هناد بن السري بن مصعب الدارمي"، ثقة. مضى برقم: 2058، 2758، 2998، 3960.
و"عيسى بن يونس بن أبي إسحق السبيعي"، الفقيه ابن الفقيه ابن الفقيه، ثقة حافظ رضي، مات سنة 187. مترجم في التهذيب.
و"مجالد" هو: "مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني"، مضى برقم: 1614، 2987، 2988 وقد مضى أنه ثقة، ضعفه بعض الأئمة، وأن الراجح في شأنه، تصحيح حديث القدماء عنه، وأن أعدل ما قيل فيه، قول عبد الرحمن بن مهدي: "حديث مجالد عند الأحداث، يحيى بن سعيد وأبي أسامة، ليس بشيء. ولكن حديث شعبة وحماد بن زيد وهشيم، وهؤلاء القدماء"، وقول ابن أبي حاتم: "يعني أنه تغير حفظه في آخر عمره. مات سنة 144".
وخبر الشعبي عن عدي بن حاتم، رواه مسلم والبخاري عن طريق زكريا بن أبي زائدة، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، أن عديا سأل رسول الله عن صيد الكلب. فقال: أمسك عليك فكل، الحديث (انظر سنن البيهقي 9: 235، 236) .
ورواه الأئمة أيضًا من طريق عبد الله بن أبي السفر عن الشعبي، = ومن طريق عاصم الأحول، عن الشعبي = ومن طريق بيان عن الشعبي. ورووه أيضًا من طرق عن عدي بن حاتم، وليس فيها ذكر"الباز". (انظر السنن الكبرى للبيهقي 9: 235-238) ، وانظر ما سيأتي رقم: 11210.
ثم روى البيهقي بإسناده عن عبد الله بن نمير، عن مجالد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما علمت من كلب أو باز ثم أرسلته، وذكرت اسم الله، فكل مما أمسك عليك، الحديث. ثم قال البيهقي: ".. إلا أن ذكر البازي في هذه الرواية، لم يأت به الحفاظ الذين قدمنا ذكرهم عن الشعبي، وإنما أتى به مجالد، والله أعلم".
ورواية عيسى بن يونس، عن مجالد، تعد من رواية القدماء عن مجالد قبل أن يتغير حفظه. وعيسى بن يونس ثقة ثبت، فكأن أبا جعفر صحح هذا الحديث واحتج به، لأنه رواية ثقة، عن ثقة قبل تغيره.(9/550)
= فأباح صلى الله عليه وسلم صيد البازي وجعله من الجوارح. ففي ذلك دِلالة بيِّنة على فساد قول من قال:"عنى الله بقوله:"وما علمتم من الجوارح"، ما علمنا من الكلاب خاصة، دون غيرها من سائر الجوارح".
* * *
فإن ظن ظانّ أن في قوله:"مكلبين"، دلالةً على أن الجوارح التي ذكرت في قوله:"وما علمتم من الجوارح"، هي الكلاب خاصة، فقد ظن غير الصواب.
وذلك أن معنى الآية: قل أحِلَّ لكم، أيها الناس، في حال مصيركم أصحابَ كلاب = الطيباتُ، وصيدُ ما علمتوه الصيد من كواسب السباع والطير. فقوله:"مكلبين"، صفة للقانص، وإن صاد بغير الكلاب في بعض أحيانه. وهو نظير قول القائل يخاطب قومًا:"أحلّ لكم الطيباتُ وما علمتم من الجوارح مكلبين مؤمنين". فمعلوم أنه إنما عنى قائل ذلك، إخبارَ القوم أنّ الله جل ذكره أحل لهم، في حال كونهم أهلَ إيمان، الطيبات وصيد الجوارح التي أعلَمهم أنه لا يحل لهم منه إلا ما صادوه به (1) فكذلك قوله:"أحل لكم الطيبات وما علمتم من الجوارح مكلبين" لذلك نظيره، في أن التكليب للقانص = بالكلاب كان صيده أو بغيرها = لا أنه إعلام من الله عز ذكره أنه لا يحل من الصيد إلا ما صادته الكلاب.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ما صادوه بها"، وما في المخطوطة صواب أيضًا.(9/551)
القول في تأويل قوله: {تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"تعلمونهن"، تؤدِّبون الجوارح فتعلمونهن طلب الصيد لكم ="مما علمكم الله"، يعني بذلك: من التأديب الذي أدَّبكم الله، والعلم الذي علمكم. (1)
* * *
وقد قال بعض أهل التأويل: معنى قوله:"مما علمكم الله"، كما علمكم الله.
*ذكر من قال ذلك:
11157- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"تعلمونهن مما علمكم الله"، يقول: تعلمونهن من الطَّلب كما علمكم الله.
* * *
= ولسنا نعرف في كلام العرب"من" بمعنى"الكاف"، لأن"من" تدخل في كلامهم بمعنى التبعيض، و"الكاف" بمعنى التشبيه. وإنما يوضع الحرف مكان آخر غيره، إذا تقارب معنياهما. فأما إذا اختلفت معانيهما، فغير موجود في كلامهم وضع أحدهما عَقِيب الآخر. وكتاب الله وتنزيله أحرَى الكلام أن يجنَّب ما خرج عن المفهوم والغاية في الفصاحة من كلام من نزل بلسانه........... . (2)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 302.
(2) أرجح أنه قد سقط قبل هذا الخبر، كلام من كلام أبي جعفر، وذلك بدلالة قوله بعد: "قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك". والذي أستظهره من كلامه في آخر سياقه هذه الأقوال من اختلاف الأئمة (ص: 564) ، أن أبا جعفر ساق سؤالا كعادته، عن معنى"تعليم الجوارح"، ثم أجاب عنه بذكر اختلاف أهل التأويل. ولم أستجز أن أضع شيئًا مكان النقط التي وضعتها للدلالة على هذا السقط، لأني أخشى ان أخطئ في وصل الكلام بالخبر الذي رواه بعده برقم: 11158"انظر ص: 553، تعليق: 2، 3.(9/552)
11158- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسماعيل بن صُبيح قال، حدثنا أبو هانئ عمر بن بشير قال، حدثنا عامر: أن عدي بن حاتم الطائي قال: أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن صيد الكلاب، فلم يدر ما يقول له، حتى نزلت هذه الآية:"تعلمونهن مما علمكم الله". (1)
* * *
قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك. (2)
فقال بعضهم (3) : هو أن يَسْتَشْلِي لطلب الصيد إذا أرسله صاحبه (4)
__________
(1) الأثر: 11158-"إسمعيل بن صبيح اليشكري"، ثقة مضى برقم: 2996، 8640.
و"أبو هانئ""عمر بن بشير الهمداني"، قال أحمد: "صالح الحديث". وقال يحيى بن معين: "ضعيف". وذكره ابن حبان في الثقات، وقال أبو حاتم الرازي: "ليس بقوي، يكتب حديثه، وجابر الجعفي أحب إلي منه". وذكره ابن شاهين، والعقيلي في الضعفاء. مترجم في ابن أبي حاتم 3/1/100، ولسان الميزان 4: 287، ومضى أيضًا برقم: 4422.
وكان في المطبوعة: "حدثنا أبو هانئ عن أبي بشر"، وهو خطأ محض، وتغيير سيئ لما كان في المخطوطة: "حدثنا أبو هانئ عمر بن بشر"، والصواب ما أثبت.
و"عامر" هو الشعبي.
وهو حديث ضعيف لضعف"أبي هانئ". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 260، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد، والقصة فيه: "أن عدي بن حاتم الطائي، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(2) انظر التعليق السالف ص: 552، تعليق: 2، والتعليق التالي.
(3) في المخطوطة: "فقال بعضهم هو جوارحًا صيدها، فقال لنا: وما علمتم من الجوارح مكلبين أن يستشلى ... "، ووضع الناسخ بين"هو" و"جوارحًا" من فوق حرف"لا" وبعد"مكلبين" من فوق، حرف"إلى"، وهي طريقتهم قديمًا إذا أرادوا حذف ما بين"لا" و"إلى"، والظاهر أن قوله: "جوارحا صيدها، فقال لنا: من الجوارح مكلبين" هو بعض الجملة التي سقطت في موضع النقط التي وضعتها آنفًا، وأشرت إليها في التعليق السالف، وما قبله: ص 552، تعليق: 2.
(4) قوله: "يستشلي"، بالبناء للمعلوم، أراد به هنا: أن يغري بطلب الصيد. وقد ذكر أهل اللغة: "أشلى الكلب واستشلاه" إذا دعاه باسمه، وقد أنكر ثعلب أن"أشلى الكلب" بمعنى أغراه بالصيد، وأجازه غيره. ومن أجازه فقد أصاب، وقد قال الشافعي في الأم 2: 191:
"الكلب المعّلم: الذي إذَا أُشْلِيَ اسْتَشْلَى"
فاستعمل"استشلى" مطاوعًا لقوله: "أشلى الكلب" بمعنى: أغراه بالصيد. ثم عاد الشافعي فاستعمل"استشلى الكلب" بمعنى: "أشلى الكلب" غير مطاوع، فقال في الأم 2: 192: "وتعليمُ الطائر كلِّه واحد، البازي والصقر والشاهين وغيرها: وهو أن يجمع أن يُدْعَى فيجيب، ويُسْتَشْلَى فيطير".
ثم عاد فاستعمل"استشلى" بالمعنيين جميعًا، مطاوعًا وغير مطاوع، في جملة طويلة في الأم 2: 193 أثبت بعضها.:
" ... وإذا اسْتَشْلَى الرجُل كلبه على الصَّيْد -قريبًا كان منه أو بعيدًا- فانزجَرَ واسْتَشْلَى باستشلائه ... ".
فصح بذلك ما استعمله أبو جعفر، هذا بخلاف ما جاء في الشعر، مما يسقط اعتراض ثعلب على"أشلى" بمعنى: أغرى.(9/553)
ويمسك عليه إذا أخذه فلا يأكل منه، ويستجيب له إذا دعاه، ولا يفرُّ منه إذا أراده. فإذا تتابع ذلك منه مرارًا كان"معلَّمًا". وهذا قول جماعة من أهل الحجاز وبعض أهل العراق.
*ذكر من قال ذلك:
11159- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: كل شيء قتله صائدك قبل أن يعلَّم ويُمسك ويصيد، فهو ميتة. ولا يكون قتله إياه ذكاة، حتى يعلَّم ويُمسك ويصيد. فإن كان ذلك ثم قتل، فهو ذكاته.
11160- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن المعلم من الكلاب: أن يمسك صيدَه فلا يأكل منه حتى يأتيه صاحبه. فإن أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فلا يأكل من صيده.
11161- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن طاوس، عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه.(9/554)
11162- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال، حدثنا أبو المعلى، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: إذا أرسل الرجل الكلبَ فأكل من صيده فقد أفسده، وإن كان ذكر اسم الله حين أرسله = فزعم أنه إنما أمسك على نفسه (1) = والله يقول:"من الجوارح مكلّبين تعلمونهن مما علمكم الله"، فزعم أنه إذا أكل من صيده قبل أن يأتيه صاحبه أنه ليس بمعلَّم، وأنه ينبغي أن يُضرب ويعلَّم حتى يترك ذلك الخُلُق. (2)
11163- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر الرقي، عن حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إذا أخذ الكلب فقَتل فأكل، فهو سَبُع. (3)
11164- حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن ابن عباس قال: لا يأكل منه، فإنه لو كان معلَّمًا لم يأكل منه، ولم يتعلم ما علَّمتَه. إنما أمسك على نفسه، ولم يُمسك عليك.
11165- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا داود، عن الشعبي، عن ابن عباس، بنحوه.
11166- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عباس قال: إذا أكل الكلب فلا تأكل. (4)
__________
(1) قوله: "فزعم أنه إنما أمسك على نفسه"، هذا من قول سعيد بن جبير، حكاية لقول ابن عباس. و"زعم" في هذا الموضع بمعنى: قال. لا بمعنى"زعم" فيما يذم من القول والظن. وهو يأتي كثيرًا في كلامهم، فاحفظه.
(2) الأثر: 11162-"أبو المعلى" العطار، هو: "يحيى بن ميمون الضبي"، ثقة كثير الحديث مترجم في التهذيب، وقد مضى في الإسنادين رقم: 8346، 8347.
(3) الأثر: 11163-"معمر الرقي"، هو: "معمر بن سلمان النخعي، الرقي". وثقه أحمد. مترجم في التهذيب.
(4) في المطبوعة: "إذا أكلت الكلاب" بالجمع، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كان الناسخ كتب أولا: "أكلت" ثم عاد فمجمج الحروف حتى جعل اللام والتاء في"أكلت""أكل".(9/555)
11167- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الشعبي، عن ابن عباس، بمثله.
11168- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال: قلت لعامر الشعبي: الرجل يرسل كلبَه فيأكل منه، أنأكل منه؟ قال: لا لم يتعلَّم الذي علَّمته.
11169- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن ابن عمر قال: إذا أكل الكلب من صيده فاضربه، فإنه ليس بمعلَّم.
11170- حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: إذا أكل الكلب فهو ميتة، فلا تأكله.
11171- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير = وسَيَّار، عن الشعبي = ومغيرة، عن إبراهيم = أنهم قالوا في الكلب إذا أكل من صيده: فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه.
11172- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: إن وجدت الكلب قد أكل من الصيد، فما وجدتَه ميتًا فدعه، فإنه مما لم يمسك عليك صيدًا. إنما هو سبع أمسك على نفسه ولم يمسك عليك، وإن كان قد عُلِّم.
11173- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، بنحوه.
* * *
وقال آخرون نحو هذه المقالة، غير أنهم حَدُّوا لمعرفة الكلاب بأن كلبه قد قَبِل التعليم وصار من الجوارح الحلال صيدها (1) أن يفعل ذلك كلبه مرات
__________
(1) "الكلاب" (بتشديد اللام) : هو صاحب الكلاب. و"المكلب" (بتشديد اللام المكسورة) : هو الذي يعلم الكلاب أخذ الصيد. ولكنه وضع"الكلاب" هنا موضع"المكلب". وهو جيد صحيح.(9/556)
ثلاثًا. وهذا قول محكيٌّ عن أبي يوسف ومحمد بن الحسن.
* * *
وقال آخرون ممن قال هذه المقالة: لا حدَّ لعلم الكلاب بذلك من كلبه، أكثر من أن يفعل كلبه ما وصفنا أنه له تعليم. قالوا: فإذا فعل ذلك فقد صار معلَّمًا حلالا صيده. وهذا قول بعض المتأخرين.
وفرَّق بعض قائلي هذه المقالة بين تعليم البازي وسائر الطيور الجارحة وتعليم الكلب وضاري السبِّاع الجارحة، فقال: جائز أكل ما أكل منه البازي من الصيد. قالوا: وإنما تعليم البازي أن يطير إذا استُشْلِي، ويجيب إذا دُعِي، ولا ينفر من صاحبه إذا أراد أخذَه. قالوا: وليس من شروط تعليمه أن لا يأكل من الصيد.
*ذكر من قال ذلك:
11174- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم وحجاج، عن عطاء قال: لا بأس بصيد البازي وإن أكل منه.
11175- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أسباط قال، حدثنا أبو إسحاق الشيباني، عن حماد، عن إبراهيم، عن ابن عباس أنه قال في الطير: إذا أرسلتَه فقتل، فكُل. فإن الكلبَ إذا ضربته لم يَعُدْ. وإن تعليم الطير أن يرجع إلى صاحبه، وليس يضرب إذا أكل من الصيد ونتف من الريش. (1)
11176- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة، عن جابر، عن الشعبي قال: ليس البازي والصقر كالكلب، فإذا أرسلتهما فأمسكا فأكلا فدعوتهما فأتياك، فكل منه.
__________
(1) في المطبوعة: "فإذا أكل من الصيد ونتف من الريش فكل"، بزيادة"فكل"، عن المخطوطة، وكان فيها مثل ما في المطبوعة: "فإذا أكل ... "، ورجحت أن الصواب"إذا أكل ... ، " بحذف الفاء، ويستقيم الكلام على ما في الترجمة.(9/557)
11177- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو زُبَيْد، عن مطرف، عن حماد، قال إبراهيم: كُلْ صيد البازي وإن أكل منه.
11178- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم = وجابر، عن الشعبي، قالا كُلْ من صيد البازِ وإن أكل. (1)
11179- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم: إذا أكل البازي والصقر من الصيد، فكُل، فإنه لا يعلَّم. (2)
11180- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم قال: لا بأس بما أكل منه البازي.
11181- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد: أنه قال في البازي إذا أكل منه، قال: كُلْ. (3)
* * *
وقال آخرون منهم: سواء تعليم الطير والبهائم والسباع، لا يكون نوع من ذلك معلَّمًا إلا بما يكون به سائر الأنواع معلَّمًا. وقالوا: لا يحل أكل شيء من الصيد الذي صادته جارحة فأكلت منه (4) كائنة ما كانت تلك الجارحة، بهيمةً، أو طائرًا. (5) قالوا: لأن من شروط تعليمها الذي يحل به صيدها: أن تمسك ما صادت على صاحبها، فلا تأكل منه.
*ذكر من قال ذلك:
11182- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "صيد البازي" بالياء آخره، والذي في المخطوطة صواب. وانظر ما سلف ص: 548، تعليق: 4.
(2) يعني: فإنه لا يعلم أن لا يأكل من الصيد كما يعلم الكلب.
(3) في المطبوعة: "إذا أكل منه فكل"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض.
(4) في المخطوطة: "لا يجعل كل شيء من الصيد.."، والصواب ما في المطبوعة.
(5) في المخطوطة: "بهيمة أو طائر" بالرفع، والصواب، ما في المطبوعة.(9/558)
محمد بن سالم، عن عامر قال: قال علي: إذا أكل البازي من صيده فلا تأكل. (1)
11183- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن جعفر، عن شعبة، عن مجاهد بن سعيد، عن الشعبي قال: إذا أكل البازي منه فلا تأكل.
11184- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: إذا أكل البازي فلا تأكل.
11185- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عمر بن الوليد الشنيّ قال: سمعت عكرمة قال: إذا أكل البازي فلا تأكل. (2)
11186- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عطاء: الكلب والبازي كلُّه واحد، لا تأكل ما أكل منه من الصيد، إلا أن تدرك ذَكاته فتذكِّيه. قال: قلت لعطاء: البازي ينتف الريش؟ قال: فما أدركته ولم يأكل فكل. قال ذلك غير مرَّة.
* * *
وقال آخرون: تعليم كل جارحة من البهائم والطير واحد. قالوا: وتعليمه الذي يحلُّ به صيده: أن يُشْلَى على الصيد فيَسْتَشلي ويأخذ الصيد (3) ويدعوه صاحبه فيجيب، ولا يفرّ منه إذا أخذه. (4) قالوا: فإذا فعل الجارح ذلك كان"معلمًا" (5)
__________
(1) الأثر: 11182-"محمد بن سالم الهمداني"، أبو سهل الكوفي. ضعيف الحديث متروك. مترجم في التهذيب. ومضى في الإسناد رقم: 4824.
(2) الأثر: 11185-"عمر بن الوليد الشني"، أبو سلمة العبدي، من عبد القيس. روى عن عكرمة، وشهاب بن عباد العصري. روى عنه وكيع، وأبو نعيم. قال أبو حاتم: "ما أرى بحديثه بأسًا، وعامة حديثه عن عكرمة فقط، ما أقل ما يجاوز به إلى ابن عباس". وقال يحيى القطان: "ليس هو عندي ممن أعتمد عليه، ولكنه لا بأس به". مترجم في ابن أبي حاتم 3/1/139، ولسان الميزان 4: 337.
وكان في المطبوعة: "عمرو بن الوليد السهمي"، وليس صوابًا، غير ما في المخطوطة وهو الذي أثبت.
(3) انظر ما سلف ص: 553، تعليق: 4.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "أولا يفر منه"، والصواب بالواو كما أثبته.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "قال" بالإفراد، والذي قبله والذي بعده يقتضي أن تكون"قالوا".(9/559)
داخلا في المعنى الذي قال الله:"وما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم". قالوا: وليس من شرط تعليم ذلك أن لا يأكل من الصيد. قالوا: وكيف يجوز أن يكون ذلك من شرطه، وهو يؤدَّب بأكله؟
*ذكر من قال ذلك:
11187- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد = أو سعد =، عن سلمان قال: إذا أرسلت كلبك على صيد، وذكرتَ اسم الله، فأكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل ما بقي. (1)
11188- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا حميد قال، حدثني القاسم بن ربيعة، عمن حدثه، عن سلمان = وبكر بن عبد الله، عمن حدثه، عن سلمان =: أن الكلب يأخذ الصيد فيأكل منه، قال: كل، وإن أكل ثلثيه، إذا أرسلته وذكرت اسم الله، وكان معلمًا. (2)
11189- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال،
__________
(1) الأثر: 11187-"سعيد" الأول، هو"سعيد بن أبي عروبة".
و"سعيد" الثاني، هو"سعيد بن المسيب".
و"سلمان"، هو ابن الإسلام، "سلمان الخير الفارسي"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان في المخطوطة في هذا الأثر، والذي يليه"سليمان"، ثم استقامت المخطوطة على الصواب. وسيأتي بعد الأثر رقم 11211، في تعقيب أبي جعفر أن سعيد بن المسيب، غير معلوم له سماع من سلمان الفارسي.
أما قوله: "أو سعد"، فلم أعرف ما أراد به، ولم أعرف من يكون"سعد" الذي يروي عنه قتادة، والذي يروي عن سلمان. وسيأتي في الآثار التالية، رواية مثل ذلك عن"سعد بن أبي وقاص". فأخشى أن يكون في الإسناد تقديم وتأخير: "قتادة، عن سعيد، عن سلمان، أو سعد". وأنا في شك من ذلك أيضًا.
وهذا الأثر رواه البيهقي في السنن 9: 237.
(2) الأثر: 11188-"بكر بن عبد الله المزني"، مضى برقم: 4877، 4878، 8936، 9732.
وكان في هذا الموضع من المخطوطة أيضًا"سليمان"، وانظر التعليق على الأثر السالف.(9/560)
حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث، عن سعيد بن المسيب قال، قال سلمان: كل وإن أكل ثلثيه = يعني: الصيدَ إذا أكل منه الكلب.
11190- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان، نحوه.
11191- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد العزيز بن عبد الصمد، عن شعبة = ح وحدثنا هناد قال، حدثنا عبدة = جميعًا، عن سعيد، عن قتادة: عن سعيد بن المسيب قال، قال سلمان: إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسمَ الله، فأكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل. (1) .
11192- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد، عن سلمان، نحوه.
11193- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد، عن بكر بن عبد الله المزني والقاسم: أن سلمان قال: إذا أكل الكلب فكل، وإن أكل ثلثيه.
11194- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود بن أبي الفرات، عن محمد بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال سلمان: إذا أرسلت كلبك المعلَّم أو بازَك، فسميَّت فأكل نصفه أو ثلثيه، فكل بقيَّته. (2)
11195- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه، عن حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي: أنه سأل سعد بن أبي وقاص عن الصيد يأكل منه الكلب، فقال: كل، وإن لم يبق منه إلا حِذْية - يعني: بَضْعة. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "فأكل ثلثه فكل"، أسقط من الكلام ما ثبت في المخطوطة.
(2) الأثر: 11194-"داود بن أبي الفرات" هو"داود بن عمر بن الفرات الكندي". ثقة، يروي عن"محمد بن زيد بن علي الكندي". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/215.
و"محمد بن زيد بن علي الكندي" ويقال"العبدي"، قاضي مرو، ثقة صالح الحديث. مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/84.
(3) الأثر: 11195-"مخرمة بن بكير بن عبد الله بن الأشج"، مضى برقم: 3359.
وأبوه"بكير بن عبد الله بن الأشج"، أو "بكير بن الأشج"، مضى برقم: 2747، و"حميد بن مالك بن خثيم الدؤلي" أو: "حميد بن عبد الله بن مالك" وسيأتي كذلك في الأثرين: 11207، 11208، تابعي ثقة، روى عن أبي هريرة وسعد بن أبي وقاص. مترجم في التهذيب.
و"الحذية" و"الحذوة" (بكسر الحاء) : هو ما قطع من اللحم طولا، أو القطعة الصغيرة من اللحم. وأما "البضعة" فهي بفتح الباء وسكون الضاد. وكان في المخطوطة: "يعني بعضه"، والصواب ما في المطبوعة.(9/561)
11196- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت بكير بن الأشج يحدّث، عن سعد قال: كُل، وإن أكل ثلثيه. (1)
11197- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد قال: سمعت بكير بن الأشج، عن سعيد بن المسيب = قال شعبة: قلت: سمعته من سعيد؟ قال: لا = قال: كل وإن أكل ثلثيه = قال: ثم إن شعبة قال في حديثه: عن سعد. قال: كل، وإن أكل نصفه.
11198- حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر، عن أبي هريرة قال: إذا أرسلت كلبك فأكل منه، فإن أكل ثلثيه وبقي ثلثه، فكل.
11199- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة، بنحوه.
11200- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، عن أبي هريرة، نحوه.
11201- حدثنا ابن المثنى قال، حدثني سالم بن نوح العطار، عن عمر= يعني: ابن عامر = عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان قال: إذا
__________
(1) الأثر: 11169-"عبد ربه بن سعيد بن قيس بن عمرو الأنصاري"، روى عن جده قيس بن عمرو. ثقة. مترجم في التهذيب.(9/562)
أرسلت كلبك المعلَّم فأخذ فقتل، فكل، وإن أكل ثلثيه. (1)
11202- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت عبيد الله (2) = ح وحدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن عبيد الله بن عمر= عن نافع، عن عبد الله بن عمر قال: إذا أرسلت كلبك المعلَّم وذكرت اسم الله، فكل ما أمسك عليك، أكل أو لم يأكل.
11203- حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه.
11204- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي ذئب: أن نافعًا حدَّثهم: أن عبد الله بن عمر كان لا يرى بأكل الصيد بأسًا، إذا قتله الكلب أكل منه.
11205- حدثني يونس به مرة أخرى فقال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمرو، ابن أبي ذئب، وغير واحد: أن نافعًا حدَّثهم، عن عبد الله بن عمر، فذكر نحوه.
11206- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا محمد بن أبي ذئب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان لا يرى بأسًا بما أكل الكلبُ الضاري.
11207- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ذئب، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن حميد بن عبد الله، عن سعد قال: قلت لنا: كلاب ضوارٍ يأكلن ويبقين؟ قال: كل، وإن لم يبق إلا بَضْعة.
11208- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن ابن أبي
__________
(1) الأثر: 11201-"سالم بن نوح العطار" = و"عمر بن عامر السلمي"، مضيا برقم: 2852.
(2) في المطبوعة: "عبد الله"، والصواب من المخطوطة، وهي غير منقوطة.(9/563)
ذئب، عن يعقوب بن عبد الله بن الأشج، عن حميد قال: سألت سعدًا، فذكر نحوه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندنا في تأويل قوله:"تعلمونهن مما علمكم الله": أن"التعليم" الذي ذكره الله في هذه الآية للجوارح، إنما هو أن يعلِّم الرجل جارحَه الاستشلاء إذا أُشلي على الصيد (2) وطلبه إياه إذا أغرى، أو إمساكه عليه، إذا أخذه من غير أن يأكل منه شيئًا، وألا يفرّ منه إذا أراده، وأن يجيبه إذا دعاه. فذلك، هو تعليم جميع الجوارح، طيرها وبهائمها. فإن أكل من الصيد جارحةُ صائد (3) فجارحه حينئذ غير معلَّم. (4) فإن أدرك صيده صاحبُه حيًّا فذكّاه، حلَّ له أكله. وإن أدركه ميتًا، لم يحلَّ له أكله، لأنه مما أكله السَّبُع الذي حرمه الله تعالى بقوله: (وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ) ، ولم يدرك ذكاته.
وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما:-
11209- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن عاصم بن سليمان الأحول، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الصيد فقال: إذا أرسلتَ كلبك فاذكر اسم الله عليه، فإن أدركته وقد قتل وأكل منه فلا تأكل منه شيئًا، فإنما أمسكَ على نفسه. " (5)
__________
(1) الأثران: 11207، 11208-"حميد بن عبد الله"، هو"حميد بن مالك بن خثيم" الذي مضى في الأثر: 11195، وانظر التعليق عليه هناك.
و"يعقوب بن عبد الله بن الأشج" أخو"بكير بن عبد الله بن الأشج" الذي سلف برقم: 11195 وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
(2) انظر القول في"الإشلاء" و"الاستشلاء" فيما سلف ص: 553، تعليق: 4.
(3) في المطبوعة: "وإن أكل ... " بالواو، والجيد ما في المخطوطة، بالفاء.
(4) في المطبوعة: "فجارحه" بغير تاء التأنيث، والجيد ما في المخطوطة.
(5) الأثر: 11209- حديث صحيح. رواه البخاري (الفتح 9: 527) ، ومسلم 13: 78، 79، وأحمد في المسند 4: 257، 379، وأبو داود في سننه 3: 145 رقم: 2849، والبيهقي في السنن 9: 236، 238، 242، 244 من طرق، مطولا.(9/564)
11210- حدثنا أبو كريب وأبو هشام الرفاعي قالا حدثنا محمد بن فضيل، عن بيان بن بشر، عن عامر، عن عدي بن حاتم قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إنا قوم نتصيَّد بهذه الكلاب؟ فقال: إذا أرسلت كلابَك المعلَّمة وذكرت اسم الله عليها، فكل ما أمسكن عليك وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلبُ، فإن أكل فلا تأكل، فإني أخاف أن يكون إنما حَبَسه على نفسه. " (1)
* * *
فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدثك به:-
11211- عمران بن بكّار الكلاعي قال، حدثنا عبد العزيز بن موسى قال، حدثنا محمد بن دينار، عن أبي إياس، عن سعيد بن المسيب، عن سلمان الفارسي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إذا أرسل الرجل كلبه على الصيد فأدركه وقد أكل منه، فليأكل ما بقي. (2)
__________
(1) الأثر: 11210- حديث صحيح. رواه البخاري من طريق قتيبة بن سعيد، عن محمد بن فضيل (الفتح 9: 527، 528) ، ومسلم من طريق أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل 13: 75، وأحمد في مسنده 4: 258، والبيهقي في السنن 9: 236، 237، وأبو داود في سنن 3: 145، رقم: 2848 مطولا.
(2) الأثر: 11211-"عمران بن بكار الكلاعي"، شيخ الطبري. مضى برقم: 149، 2071.
و"عبد العزيز بن موسى بن روح اللاحوني"، أبو روح، البهراني الحمصي. قال أبو حاتم: "صدوق ثقة مأمون". مترجم في التهذيب.
و"محمد بن دينار الأزدي الطاحي"، وهو"ابن أبي الفرات"، و"أبو بكر بن أبي الفرات" قال النسائي: "ليس به بأس"، وقال في موضع آخر: "ضعيف"، وقال أبو داود: "تغير قبل أن يموت"، وقال الدارقطني: "ضعيف"، وقال مرة: "متروك". مترجم في التهذيب.
و"أبو إياس"، هو"معاوية بن قرة بن إياس المزني"، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر قد تكلم الطبري في إسناده فيما يلي، ونقل ابن كثير في تفسيره 3: 75، ما قاله الطبري، ثم عقب عليه بقوله: "وهذا الذي قاله ابن جرير صحيح، ولكن قد روي هذا المعنى مرفوعًا من وجوه أخر، فقال أبو داود: حدثنا محمد بن المنهال الضرير، حدثنا يزيد بن زريع، حدثنا حبيب المعلم، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده ... " وساق حديث أبي داود في سننه 3: 147، رقم: 2857، ثم قال ابن كثير: "هكذا رواه أبو داود، وقد أخرجه النسائي. وكذا رواه أبو داود من طريق يونس بن سيف، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ثعلبة ... " ثم ساق حديث أبي داود في سننه 3: 147، رقم: 2856، ثم قال: "وهذان إسنادان جيدان".(9/565)
قيل: هذا خبر في إسناده نظر، فإن"سعيدًا" غير معلوم له سماع من"سلمان"، والثقات من أهل الآثار يقفون هذا الكلام على سلمان، ويروونه عنه من قِبَله غير مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والحفَّاظ الثقات إذا تتابعوا على نقل شيء بصفة، فخالفهم واحد منفردٌ ليس له حفظهم، كانت الجماعة الأثبات أحقَّ بصحة ما نقلوا من الفرد الذي ليس له حفظهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وإذا كان الأمر في الكلب على ما ذكرتُ: من أنه إذا أكل من الصيد فغيرُ معلَّم، فكذلك حكم كل جارحة: في أن ما أكل منها من الصيد فغير معلَّم، لا يحل له أكل صيده إلا أن يدرك ذكاته.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، فكلوا، أيها الناس، مما أمسكت عليكم جوارحكم.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: ذلك على الظاهر والعموم كما عممه الله، حلال أكل كلِّ ما أمسكت علينا الكلاب والجوارح المعلَّمة من الصيد الحلال أكله، أكل منه الجارح والكلاب أو لم يأكل منه، أدركتْ ذكاته فذُكِّي أو لم تدرَك ذكاته حتى قتلته الجوارح بجرحها إياه أو بغير جَرْح.
__________
(1) انظر التعليق على الأثر السالف، رقم: 11211.(9/566)
وهذا قول الذين قالوا:"تعليم الجوارح الذي يحلّ به صيدها أن تعلَّم الاستشلاء على الصيد، وطلبه إذا أشْليت عليه، وأخذه، وترك الهرب من صاحبها، دون ترك الأكل من صيدها إذا صادته". وقد ذكرنا قول قائلي هذه المقالة والرواية عنهم بأسانيدها الواردة آنفًا. (1)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك على الخصوص دون العموم. قالوا: ومعناه: فكلوا مما أمسكن عليكم من الصيد جميعه دون بعضه. قالوا: فإن أكلت الجوارح منه بعضًا وأمسكت بعضًا، فالذي أمسكت منه غير جائز أكلُه وقد أكلت بعضه، لأنها إنما أمسكت ما أمسكت من ذلك الصيد بعد الذي أكلت منه، على أنفسها لا علينا، والله تعالى ذكره إنما أباح لنا كلَ ما أمسكته جوارحنا المعلمة علينا بقوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، دون ما أمسكته على أنفسها. وهذا قول من قال:" تعليم الجوارح الذي يحلُّ به صيدها: أن تَستشلى للصيد إذا أشليت، فتطلبه وتأخذه، فتمسكه على صاحبها فلا تأكل منه شيئًا، ولا تفر من صاحبها". وقد ذكرنا ممن قال ذلك فيما مضى منهم جماعة كثيرة (2) ونذكر منهم جماعة أخَر في هذا الموضع. (3)
11212- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، يقول: كلوا مما قتلن = قال علي: وكان ابن عباس يقول: إن قتل وأكل فلا تأكل، وإن أمسك فأدركته حيًّا فذكِّه.
11213- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
__________
(1) انظر ما سلف من الآثار من رقم: 11187، وما بعده.
(2) انظر ما سلف من الآثار، من رقم: 11182، وما بعده.
(3) في المطبوعة: "جماعة آخرين"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/567)
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: إن أكل المعلَّم من الكلاب من صيده قبل أن يأتيه صاحبه فيدرك ذكاته، فلا يأكل من صيده.
11214- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، إذا صادَ الكلب فأمسكه وقد قتله ولم يأكل منه، فهو حِلٌّ. فإن أكل منه، فيقال: إنما أمسك على نفسه. (1) فلا تأكل منه شيئًا، إنه ليس بمعلَّم.
11215- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يسألونك ماذا أحل لهم" إلى قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم واذكروا اسم الله عليه"، قال: إذا أرسلت كلبك المعلَّم أو طيرك أو سهمك، فذكرت اسم الله، فأخذ أو قتل، فكل.
11216- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: إذا أرسلت كلبك المعلّم فذكرت اسم الله حين ترسله، فأمسك أو قتل، فهو حلال. فإذا أكل منه فلا تأكله، فإنما أمسكه على نفسه.
11217- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبي، عن عديّ قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، قال: قلت يا رسول الله، إن أرضي أرضُ صيد؟ قال:"إذا أرسلت كلبك وسميت، فكل مما أمسك عليك كلبُك وإن قتل. فإن أكل فلا تأكل، فإنه إنما أمسك على نفسه. (2)
__________
(1) في المخطوطة: "إنما أمسك فلا تأكل......" أسقط"على نفسه"، والصواب إثباتها كما في المطبوعة.
(2) الأثر: 11217- حديث صحيح، أخرجه البخاري (الفتح 9: 527) ، نحوًا من لفظه. ورواه بهذا اللفظ مطولا، أحمد في مسنده 4: 257، وانظر التعليق على الأثر السالف رقم: 11209.(9/568)
وقد بينا أولى القولين في ذلك بالصواب قبلُ، فأغنى ذلك عن إعادته وتكراره. (1)
* * *
فإن قال قائل: وما وجه دخول"من"، في قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، وقد أحل الله لنا صيد جوارحنا الحلالِ، و"من" إنما تدخل في الكلام مبعِّضَة لما دخلت فيه؟
قيل: قد اختلف في معنى دخولها في هذا الموضع أهل العربية.
فقال بعض نحويي البصرة: دخلت"من" في هذا الموضع لغير معنًى، كما تدخله العرب في قولهم:"كان من مطر" و"كان من حديث". قال: ومن ذلك قوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) [سورة البقرة: 271] ، وقوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) [سورة النور: 43] ، قال: وهو فيما فسِّر: وينزل من السماء جبالا فيها برد. قال: وقال بعضهم: و"ينزل من السماء من جبال فيها من برد"، أي: من السماء من برد، بجعل"الجبال من برد" في السماء، وبجعل الإنزال منها. (2)
* * *
وكان غيره من أهل العربية ينكر ذلك ويقول: لم تدخل"من" إلا لمعنى مفهوم، لا يجوز الكلام ولا يصلح إلا به. وذلك أنها دالة على التبعيض. وكان يقول: معنى قولهم"قد كان من مطر" و"كان من حديث"؛ هل كان من مَطَرِ مَطَرَ عندكم؟ وهل من حديث حُدِّث عندكم؟ (3) ويقول: معنى: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) ، أي: ويكفر عنكم من سيِّئاتكم ما يشاء ويريد = وفي قوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ) ، فيجيز
__________
(1) انظر ما سلف ص: 564.
(2) انظر ما سلف 2: 126، 127 / 5: 586/6: 551/7: 489.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "حديث حديث عندكم"؛ والصواب ما أثبت. ويعني قائل ذلك أن قوله"قد كان من مطر" إلخ، إنما هو جواب لقول القائل: هل كان من مطر مطر عندكم؟(9/569)
حذف"من" من"من برد" (1) ولا يجيز حذفها من"الجبال"، ويتأول معنى ذلك: وينزل من السماء أمثالَ جبالٍ بردٍ، ثم أدخلت"من" في"البرد"، لأن"البرد" مفسَّر عنده من"الأمثال" (2) أعني:"أمثال الجبال"، وقد أقيمت"الجبال" مقام"الأمثال"، و"الجبال" وهي"جبال برد" فلا يجيز حذف"من" من"الجبال"، لأنها دالة على أن الذي في السماء الذي أنزل منه البرد، أمثالُ جبال بردٍ. وأجاز حذف"من" من"البرد"، لأن"البرد" مفسَّر عن"الأمثال"، كما تقول:"عندي رطلان زيتًا" و"عندي رطلان من زيت"، وليس عندك"الرطل"، وإنما عندك المقدار. فـ"من" تدخل في المفسِّر وتخرج منه. وكذلك عند قائل هذا القول: من السماء، من أمثال جبال، وليس بجبال. وقال: وإن كان:"أنزل من جبال في السماء من برد جبالا"، ثم حذف"الجبال" الثانية، و"الجبال" الأول في السماء، جاز. تقول:"أكلت من الطعام"، تريد: أكلت من الطعام طعامًا، ثم تحذف"الطعام" ولا تسقط"من".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن"من" لا تدخل في الكلام إلا لمعنى مفهوم، وقد يجوز حذفها في بعض الكلام وبالكلام إليها حاجة، لدلالة ما يظهر من الكلام عليها. فأما أن تكون في الكلام لغير معنى أفادته بدخولها، فذلك قد بيَّنا فيما مضى أنه غير جائز أن يكون فيما صحّ من الكلام. (3)
ومعنى دخولها في قوله:"فكلوا مما أمسكن عليكم"، للتبعيض، إذ كانت الجوارح تمسك على أصحابها ما أحل الله لهم لحومه، وحرَّم عليهم فَرْثه ودمَه، فقال جل ثناؤه:"فكلوا" = مما أمسكتْ عليكم جوارحكم (4) = الطيبات التي أحللت
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "حذف من من برد"، والصواب زيادة"من" الثالثة كما أثبتها.
(2) "المفسر": المميز. و"التفسير": التمييز. وانظر فهارس المصطلحات.
(3) انظر المواضع السالفة التي أشرنا إليها في التعليق: 2، ص 569.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "مما أمسكن عليكم جوارحكم"، والصواب الجيد ما أثبت، إنما خلط النساخ بين (النون) ، و"التاء".(9/570)
لكم من لحومها، دون ما حرمت عليكم من خبائثه من الفرث والدم وما أشبه ذلك، مما لم أطيبه لكم. فذلك معنى دخول"من" في ذلك.
وأما قوله: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) ، فقد بينا وجه دخولها فيه فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (1)
وأما دخولها في قوله: (وَيُنزلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ) ، فسنبينه إذا أتينا عليه إن شاء الله. (2) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (واذكروا اسم الله عليه) (3) على ما أمسكت عليكم جوارحكم من الصيد. كما:-
11218- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"واذكروا اسم الله عليه"، يقول: إذا أرسلت جوارحك فقل:"بسم الله"، وإن نسيت فلا حَرَج.
11219- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"واذكروا اسم الله عليه"، قال: إذا أرسلته فسَمِّ عليه حين ترسله على الصيد.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 5: 586، والمواضع الأخرى في التعليق السالف ص: 569، رقم: 2.
(2) انظر ج 18: 118، 119 (بولاق) من هذا التفسير، ولم يف أبو جعفر بما وعد، فلم يبينه بيانًا كافيًا حيث أشار إليه. وقد كان في المطبوعة هنا: "إن شاء الله تعالى". وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "واذكروا اسم الله على ما أمسكت ... " والصواب إثبات"عليه" من تمام الآية، وما بعده تفسير قوله: "عليه".(9/571)
القول في تأويل قوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: واتقوا الله، أيها الناس، فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، فاحذروه في ذلك أن تقدموا على خلافه، وأن تأكلوا من صيد الجوارح غير المعلَّمة، أو مما لم تمسك عليكم من صيدها وأمسكته على أنفسها، أو تطعَمُوا ما لم يسمَّ الله عليه من الصيد والذبائح مما صادَه أهل الأوثان وعبدة الأصنام ومن لم يوحِّد الله من خلقه، أو ذبحوه، فإن الله قد حرَّم ذلك عليكم فاجتنبوه.
ثم خوَّفهم إن هم فعلوا ما نهاهم عنه من ذلك ومن غيره. فقال: اعلموا أن الله سريعٌ حسابه لمن حاسبه على نِعَمه عليه منكم (1) وشكرِ الشاكر منكم ربَّه على ما أنعم به عليه بطاعته إياه فيما أمر ونهى، لأنه حافظ لجميع ذلك فيكم، فيحيط به، لا يخفى عليه منه شيء، فيجازي المطيعَ منكم بطاعته، والعاصيَ بمعصيته، وقد بيَّن لكم جزاء الفريقين. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"اليوم أحل لكم الطيبات"، اليوم أحل لكم، أيها المؤمنون، الحلالُ من الذبائح والمطاعم دون الخبائث منها.
وقوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حلٌّ لكم"، وذبائحُ أهل الكتاب من
__________
(1) في المطبوعة: "على نعمته ... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"سريع الحساب" فيما سلف 7: 501، تعليق: 3، والمراجع هناك.(9/572)
اليهود والنصارى = وهم الذين أوتوا التوراة والإنجيل وأنزل عليهم، فدانُوا بهما أو بأحدهما ="حل لكم" (1) يقول: حلالٌ لكم، أكله دون ذبائح سائر أهل الشرك الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب وعبدة الأوثان والأصنام. فإن من لم يكن منهم مِمَّن أقرَّ بتوحيد الله عزَّ ذكره ودان دين أهل الكتاب، فحرام عليكم ذبائحهم.
* * *
ثم اختلف فيمن عنى الله عز ذكره بقوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب"، من أهل الكتاب.
فقال بعضهم: عنى الله بذلك ذبيحة كل كتابي ممن أنزل عليه التوراة والإنجيل، أو ممن دخل في مِلَّتهم فدان دينهم، وحرَّم ما حرَّموا، وحلَّل ما حللوا، منهم ومن غيرهم من سائر أجناس الأمم.
*ذكر من قال ذلك:
11220- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا عكرمة قال، سئل ابن عباس عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقرأ هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ) إلى قوله: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) ، الآية [سورة المائدة: 51] . (2)
11221- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان: عن عاصم الأحول، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.
11222- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن عثمة قال، حدثنا سعيد بن بشر، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة: أنهما كانا لا يريان بأسًا بذبائح نصارى
__________
(1) انظر تفسير"حل" و"حلال" فيما سلف 3: 300، 487.
(2) الأثر: 11220- هذا الأثر مؤخر بعد الذي يليه في المخطوطة، فلا أدري أهو مؤخر، أم سقط قبل الأثر رقم 11221، أثر آخر، فاجتهد ناشر الكتاب أو ناسخ سابق، فقدم وأخر.(9/573)
بني تغلب، وبتزوُّج نسائهم، ويتلوان: (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) .
11223- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب: أنهما كانا لا يريان بأسًا بذبيحة نصارى بني تغلب.
11224- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن الشعبي: أنه كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب، وقرأ: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) ، [سورة مريم: 64] .
11225- حدثني ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني ابن شهاب عن ذبيحة نصارى العرب، قال. تؤكل من أجل أنهم في الدين أهلُ كتاب، ويذكرون اسمَ الله.
11226- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء: إنما يقرُّون بدين ذلك الكتاب. (1)
11227- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادًا وقتادة عن ذبائح نصارى بني تغلب، فقالوا: لا بأس بها. قال: وقرأ الحكم: (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ) ، [سورة البقرة: 78] .
11228- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كلوا من ذبائح بني تغلب، وتزوَّجوا من نسائهم، فإن الله قال في كتابه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) [سورة المائدة: 51] ، فلو لم يكونوا منهم إلا بالولاية، لكانوا منهم.
__________
(1) في المطبوعة: "إنما يقرأون ذلك الكتاب"، وفي المخطوطة: "إنما يقرون بين ذلك" ورأيت أن صواب قراءتها كما أثبت، أي: أنهم يدينون بدين ذلك الكتاب.(9/574)
11229- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة: أن الحسن كان لا يرى بأسًا بذبائح نصارى بني تغلب، وكان يقول: انتحلوا دينًا، فذاك دينهم.
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بالذين أوتوا الكتاب في هذه الآية، الذين أنزل عليهم التوراة والإنجيل من بني إسرائيل وأبنائهم، فأما من كان دخيلا فيهم من سائر الأمم ممن دان بدينهم وهم من غير بني إسرائيل، فلم يعن بهذه الآية، وليس هو ممن يحل أكل ذبائحه، لأنه ليس ممن أوتي الكتاب من قَبْل المسلمين. وهذا قول كان محمد بن إدريس الشافعي يقوله = حدثنا بذلك عنه الربيع = ويتأول في ذلك قول من كره ذبائح نصارى العرب من الصحابة والتابعين. (1)
* * *
ذكر من حرَّم ذبائح نصارى العرب.
11230- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة قال، قال علي رضوان الله عليه: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر. (2)
11231- حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة، عن علي قال: لا تأكلوا ذبائح نصارى بني تغلب، فإنهم لم يتمسكوا بشيء من النصرانية إلا بشرب الخمر.
11232- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا عبد الله بن بكر قال، حدثنا هشام، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت عليًّا عن ذبائح نصارى العرب، فقال: لا تؤكل ذبائحهم، فإنهم لم يتعلَّقوا من دينهم إلا بشرب الخمر.
11233- حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن عابس،
__________
(1) انظر الأم 2: 196.
(2) الأثر: 11230- رواه الشافعي في الأم 2: 196، والبيهقي في السنن 9: 284، وأشار إليه الحافظ ابن حجر في (الفتح 9: 549) ، وقال: "أخرجه الشافعي وعبد الرزاق بأسانيد صحيحة".(9/575)
عن عطاء بن السائب، عن أبي البختري قال: نهانا عليٌّ عن ذبائح نصارى العرب. (1)
11234- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي حمزة القصاب قال: سمعت محمد بن علي يحدث، عن علي: أنه كان يكره ذبائح نصارى بني تغلب.
11235- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال، لا تأكلوا ذبائح نصارى العرب، وذبائح نصارى أرْمينية.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأخبار عن عليّ رضوان الله عليه، إنما تدل على أنه كان ينهى عن ذبائح نصارى بني تغلب، من أجل أنهم ليسوا على النصرانية، لتركهم تحليل ما تحلِّل النصارى، وتحريم ما تُحَرّم، غير الخمر. ومن كان منتحلا (2) ملّة هو غير متمسك منها بشيء فهو إلى البراءة منها أقرب منه إلى اللحاق بها وبأهلها. (3) فلذلك نهى عليٌّ عن أكل ذبائح نصارى بني تغلب، لا من أجل أنهم ليسوا من بني إسرائيل.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان إجماعًا من الحجة أن لا بأس بذبيحة كل نصرانيّ ويهوديّ دان دين النصرانيّ أو اليهودي (4) فأحل ما أحلُّوا، وحرَّم ما حرموا،
__________
(1) الأثر: 11233-"علي بن سعيد بن مسروق الكندي"، مضى برقم: 1184، 2784.
و"علي بن عابس الأسدي"، ضعيف، يعتبر به. مترجم في التهذيب.
و"أبو البختري"، هو: "سعيد بن فيروز الطائي" مضى برقم: 175، 1497.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "من كان منتحلا ... " بغير واو في أوله الكلام، وهو فساد، والصواب إثباتها.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "فهو إلى البراءة منها أقرب إلى اللحاق ... "، بإسقاط"منه"، وهو اختلال شديد، والصواب إثباتها.
(4) في المطبوعة: "وكان إجماعًا من الحجة إحلال ذبيحة كل نصراني ويهودي انتحل دين النصارى أو اليهودي، فأحل ... "، لم يحسن قراءة المخطوطة، فوضع مكان ما حذف منها ما وضع. وكان في المخطوطة: "وكان إجماعًا من الحجة ألا بأس فذبيحة كل نصراني ويهودي دان دين النصراني أو اليهودي"، وظاهر أن صواب قراءة صدر هذه الجملة هو ما أثبته، وهو مطابق لما جاء في الآثار السالفة من 11222-11229.(9/576)
من بني إسرائيل كان أو من غيرهم = (1) فبيِّنٌ خطأ ما قال الشافعي في ذلك، وتأويله الذي تأوّله في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم"، أنه ذبائح الذين أوتوا الكتابَ التوراةَ والإنجيلَ من بني إسرائيل = (2) وصوابُ ما خالف تأويله ذلك، وقولِ من قال: إن كل يهودي ونصراني فحلال ذبيحتُه، من أيِّ أجناس بني آدم كان.
* * *
وأمَّا"الطعام" الذي قال الله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب"، فإنه الذبائح.
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
11236- حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حلّ لكم"، قال: الذبائح.
11237- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبائحهم.
11238- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
11239- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
11240- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا إسحاق بن سليمان الرازي، عن أبي سنان، عن ليث، عن مجاهد، مثله. (3)
__________
(1) السياق: وإذ كان ذلك كذلك، وكان إجماعًا من الحجة ... فبين خطأ ما قال الشافعي ...
(2) السياق: فبين خطأ ما قال الشافعي ... وصواب ما خالف تأويله ذلك.
(3) الأثر: 11240-"إسحق بن سليمان الرازي العبدي، سلف برقم: 6456.
و"أبو سنان" هو: "سعيد بن سنان الشيباني"، مضى برقم: 175.(9/577)
11241- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
11242- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبيحة أهل الكتاب.
11243- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبائحهم.
11244- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، بمثله.
11245- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
11246- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
11247- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم وقبيصة قالا حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
11248- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: ذبائحهم.
11249- حدثني المثنى قال، حدثنا المعلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن يونس، عن الحسن، مثله. (1)
__________
(1) الأثر: 11249-"المعلى بن أسد العمي" الحافظ الثقة، روى عنه البخاري، والباقون بالواسطة. مترجم في التهذيب، ومضى غير مترجم برقم: 7232.(9/578)
11250- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، أي: ذبائحهم.
11251- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، أما طعامهم، فهو الذبائح.
11252- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، قال: أحل الله لنا طعامهم ونساءَهم.
11253- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: أما قوله:"وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم"، فإنه أحلَّ لنا طعامهم ونساءهم.
11254- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته = يعني ابن زيد = (1) عما ذبح للكنائس وسُمِّي عليها، فقال: أحل الله لنا طعام أهل الكتاب، ولم يستثن منه شيئًا.
11255- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني معاوية، عن أبي الزاهرية حدير بن كريب، = عن أبي الأسود، عن عُمَير بن الأسود: أنه سأل أبا الدرداء عن كبش ذُبح لكنيسة يقال لها"جرجس"، أهدوه لها، أنأكل منه؟ فقال أبو الدرداء: اللهم عفوًا! إنما هم أهل كتاب، طعامهم حلٌّ لنا، وطعامنا حل لهم! وأمره بأكله. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "يعني ابن يزيد"، وهو خطأ، محض، وهو إسناد دائر في التفسير.
(2) الأثر: 11255-"معاوية"، هو"معاوية بن صالح بن حدير الحمصي الحضرمي"، مضى برقم: 186، 187، 2072، 8472.
و"أبو الزاهرية"، وهو"حدير بن كريب الحضرمي = أو الحميري". روى عن حذيفة، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وغيرهم من الصحابة. روى عنه معاوية بن صالح، وغيره. قال ابن سعد: "وكان ثقة إن شاء الله، كثير الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/91.
وفي هذا الإسناد إشكال. فإن ظاهره أن أبا الزاهرية حدير بن كريب، روى الأثر عن"أبي الأسود، عن عمير بن الأسود"، وهذا محال. فإن أبا الزاهرية يروي مباشرة عن أبي الدرداء. فأكبر ظني أن في أصول التفسير سقطًا أو خرمًا في هذا الموضع، وأن الإسناد انتهى عند قوله"حدير بن كريب" وسقط أثر حدير بن كريب عن أبي الدرداء، وبدأ إسناد آخر -لا ندري ما هو- ينتهي إلى أبي الأسود عن عمير بن الأسود، أنه سأل أبا الدرداء ... إلخ. وسيظهر صواب ذلك فيما يأتي.
و"أبو الأسود" في هذا الإسناد التالي، لم أعرف من يكون فيمن يكنى بأبي الأسود.
وأما "عمير بن الأسود العنسي"، فزعم ابن حجر، أنه هو"عمرو بن الأسود" وبذلك ترجم له في التهذيب (8: 4) وأنهما رجل واحد، وقال: روى عن عمر، وابن مسعود، ومعاذ بن جبل، وعبادة بن الصامت، وغيرهم من الصحابة. وقال ابن أبي حاتم 3/1/375: "عمير بن الأسود العنسي الشامي"، سمع عبادة، وأبا الدرداء، وأم حرام. روى عنه خالد بن معدان، سمعت أبي يقول ذلك". وترجم أيضًا"عمرو بن الأسود القيسي"، وقال: "روى عن عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعبادة بن الصامت. روى عنه مجاهد، وخالد بن معدان ... "، ففرق تفريقًا ظاهرًا بين"عمرو بن الأسود القيسي"، و"عمير بن الأسود العنسي".
وكذلك فعل ابن سعد في الطبقات 7/2/153، ففرق بينهما قال: "عمير بن الأسود: سأل أبا الدرداء عن طعام أهل الكتاب. وروى عن معاذ بن جبل، وكان قليل الحديث ثقة".
ثم عقد ترجمة أخرى: "وعمرو بن الأسود السكوني: روى عن عمر ومعاذ، وله أحاديث".
فلا أدري من أين جعلهما الحافظ ابن حجر، رجلا واحدًا!!
وقد ثبت بما رواه ابن سعد، أن هذا الأثر، إنما هو من حديث عمير بن الأسود، أنه سأل: أبا الدرداء، وأنه حديث آخر، غير حديث حدير بن كريب أبي الزاهرية.
هذا، ولم أجد هذا الأثر -أو هذين الأثرين- في مكان آخر، وقد أغفل ابن كثير روايته في تفسيره، وأغفله أيضًا السيوطي في الدر المنثور. وكتبه: محمود محمد شاكر.(9/579)
وأما قوله:"وطعامكم حل لهم"، فإنه يعني: ذبائحكم، أيها المؤمنون، حِلٌّ لأهل الكتاب.
* * *(9/580)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
القول في تأويل قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"والمحصنات من المؤمنات"، أحل لكم، أيها المؤمنون، المحصنات من المؤمنات = وهن الحرائر منهن (1) = أن تنكحوهن ="والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، يعني: والحرائر من الذين أعطوا الكتاب (2) وهم اليهود والنصارى الذين دانوا بما في التوراة والإنجيل من قبلكم، أيها المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم من العرب وسائر الناس، أن تنكحوهن أيضًا ="إذا آتيتموهن أجورهن"، يعني: إذا أعطيتم من نكحتم من محصناتِكم ومحصناتهم (3) ="أجورهن"، وهي مهورُهن. (4)
* * *
واختلف أهل التأويل في المحصنات اللاتي عناهن الله عز ذكره بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم".
فقال بعضهم: عنى بذلك الحرائر خَاصة، فاجرةً كانت أو عفيفةً. وأجاز قائلو هذه المقالة نكاح الحرة، مؤمنة كانت أو كتابية من اليهود والنصارى، من أيِّ أجناس الناس كانت (5) بعد أن تكون كتابية، فاجرة كانت أو عفيفةً.
__________
(1) انظر تفسير"المحصنات"، و"الإحصان" فيما سلف 8: 151-169/ ثم 8: 185-190.
(2) انظر تفسير"آتى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"آتى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"الأجور" فيما سلف من فهارس اللغة.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "من أي أجناس كانت"، وزدت"الناس"، لأن السياق يقتضيها اقتضاء لا شك فيه. ولو قلت مكانها: "من أي أجناس اليهود والنصارى كانت"، لكان صوابا أيضًا.(9/581)
وحرّموا إماء أهل الكتاب أن يُتَزَوَّجن بكل حال (1) لأن الله جل ثناؤه شرطَ من نكاح الإماء الإيمانَ بقوله: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) ، [سورة النساء: 25] .
*ذكر من قال ذلك:
11256- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب"، قال: من الحرائر.
11257- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: من الحرائر.
11258- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن رجلا طلَّق امرأته وخُطِبَت إليه أخته، وكانت قد أحدثت، فأتى عمر فذكر ذلك له منها، فقال عمر: ما رأيت منها؟ قال: ما رأيت منها إلا خيرًا! فقال: زوِّجها ولا تُخْبِر.
11259- حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا سليمان الشيباني قال، حدثنا عامر قال: زنت امرأة منَّا من همدان، قال: فجلدها مُصَدِّق رسول الله صلى الله عليه وسلم الحدَّ (2) ثم تابت. فأتوا عمر فقالوا:
__________
(1) في المطبوعة: "أن نتزوجهن"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) "المصدق" هو العامل على الصدقات، يجمعها من أهلها.(9/582)
نزوّجها، وبئسَ ما كان من أمرها! قال عمر: لئن بلغني أنكم ذكرتم شيئًا من ذلك، لأعاقبنكم عقوبةً شديدة.
11260- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب: أن رجلا أراد أن يزوِّج أخته، فقالت: إني أخشى أن أفضَح أبي، فقد بَغَيْتُ! فأتى عمر، فقال: أليس قد تابت؟ قال: بلى! قال: فزوّجها.
11261- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي: أن نُبَيْشة، امرأةً من همدان، بغتْ، فأرادت أن تذبح نفسها، قال: فأدركوها، فداووها فبرئت، فذكروا ذلك لعمر، فقال: انكحوها نكاحَ العفيفة المسلمة.
11262- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أن رجلا من أهل اليمن أصابت أختُه فاحشة، فأمرَّت الشَّفرة على أوداجها، فَأُدْرِكت، فدُووِي جُرْحها حتى برئت. ثم إن عمها انتقل بأهله حتى قدم المدينة، فقرأت القرآن ونَسَكت، حتى كانت من أنسك نسائهم. فخطبت إلى عمها، وكان يكره أن يدلِّسها، ويكره أن يفشي على ابنة أخيه، فأتى عمر فذكر ذلك له، فقال عمر: لو أفشيت عليها لعاقبتك! إذا أتاك رجل صالح ترضاه فزوّجها إيّاه.
11263- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر: أن جارية باليمن يقال لها:"نبيشة"، أصابت فاحشة، فذكر نحوه.
11264- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا إسماعيل، عن عامر قال: أتى رجل عمر فقال: إن ابنةً لي كانت وُئِدت في الجاهلية، فاستخرجتها قبل أن تموت، فأدركت الإسلام، فلما أسلمت أصابت حدًّا من(9/583)
حدود الله، فعمدتْ إلى الشفرة لتذبح بها نفسها، فأدركتها وقد قطعت بعض أوداجها، فداويتها حتى برئت، ثم إنها أقبلت بتوبة حسنة، فهي تخطب إلَيّ يا أمير المؤمنين، فأخبر من شأنها بالذي كان؟ فقال عمر: أتخبر بشأنها؟ تعمد إلى ما ستره الله فتبديه! والله لئن أخبرت بشأنها أحدًا من الناس لأجعلنك نَكالا لأهل الأمصار، بل أنكحها بنكاحِ العفيفة المسلمة. (1)
11265- حدثنا أحمد بن منيع قال، حدثنا مروان، عن إسماعيل، عن الشعبي قال: جاء رجل إلى عمر، فذكر نحوه.
11266- حدثنا مجاهد قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن أبي الزبير: أن رجلا خطب من رجل أخته، فأخبره أنها قد أحدثتْ. فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فضرب الرجل وقال: ما لك والخبر! أنكح واسكُت. (2)
11267- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن الحسن قال: قال عمر بن الخطاب: لقد هممت أن لا أدع أحدًا أصابَ فاحشة في الإسلام أن يتزوج مُحْصنة! فقال له أبيّ بن كعب: يا أمير المؤمنين، الشرك أعظم من ذلك، وقد يقبل منه إذا تاب!
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، العفائفَ من الفريقين، إماءً كنَّ أو حرائر. فأجاز قائلو هذه المقالة نكاحَ إماء أهل الكتاب الدائنات دينَهم بهذه الآية،
__________
(1) "الأوداج" جمع"ودج" (بفتحتين) : وهو عرق متصل من الرأس إلى النحر، والأوداج: عروق تكتنف الحلقوم.
(2) هذه الأخبار السالفة، أدب من آداب هذا الدين عظيم، وهدي من هدي أهل الإيمان، أمروا به، ومضوا عليه. حتى خلفت من بعدهم الخلوف، فجهلوا أمر دينهم، وغالوا غلوا فاحشًا في استبشاع زلة من زل من أهل الإيمان، فقتل الرجل منهم بنته وأخته ومن له عليها الولاية. وما فعلوا ذلك، إلا بعد أن فارقوا جادة الإيمان في سائر ما أمرهم الله به، فاستمسكوا بالغلو الفاحش، وظنوا ذلك من تمام ديانتهم ومروءتهم. وهذا دليل على أن كل تفريط في الدين، يقابله في الجانب الآخر غلو في التدين بغير دين! ورحم الله عمر بن الخطاب، ما كان أبصره بالناس وأرحمه بهم.(9/584)
وحرَّموا البغايا من المؤمنات وأهل الكتاب.
*ذكر من قال ذلك:
11268- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: العفائف.
11269- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
11270- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن مطرف، عن عامر:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني، وأن تغتَسِل من الجنابة.
11271- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن عامر:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجَها.
11272- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن مطرف، عن رجل، عن الشعبي في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصان اليهودية والنصرانية: أن لا تزني، وأن تغتسل من الجنابة.
11273- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن مطرف، عن الشعبي في قوله:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: إحصانها: أن تغتسل من الجنابة، وأن تحصن فرجها من الزنا.
11274- حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد، قال، أخبرنا مطرف، عن عامر، بنحوه.
11275- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب) ، قال: العفائف.(9/585)
11276- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، قال: أما"المحصنات"، فهنّ العفائف.
11277- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن امرأة اتخذت مملوكها (1) وقالت: تأوّلت كتابَ الله:"وما ملكت أيمانكم"، قال: فأتى بها عمر بن الخطاب، فقال له ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تأوّلت آية من كتاب الله على غير وجهها. قال فغَرَّب العبد وجزَّ رأسه. (2) وقال: أنتِ بعده حرام على كل مسلم.
11278- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إبراهيم أنه قال: في التي تزني قبل أن يُدْخل بها (3) قال: ليس لها صداق، ويفرَّق بينهما.
11279- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي، في البكر تفجُر (4) قال: تضرب مئة سوط، وتنفى سنة، وترُدّ على زوجها ما أخذت منه.
11280- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا أشعث، عن أبي الزبير، عن جابر، مثل ذلك.
11281- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا أشعث عن الحسن، مثل ذلك.
__________
(1) قوله: "اتخذت مملوكها"، أي أمكنته من نفسها، وتسرت به كأنه زوج لها.
(2) في المطبوعة: "فقرب العبد" بالقاف، وهو في المخطوطة كما أثبته غير منقوط، وصواب قراءته ما أثبت. و"التغريب": النفي. و"جز رأسه": أي قص شعره. ولم يرد القتل.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "تسرى قبل أن يدخل بها"، وكأن الصواب ما أثبت. انظر الأثر التالي.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "في البكر تهجر"، ولا معنى لذلك، والصواب ما أثبت.(9/586)
11282- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس: أن الحسن كان يقول: إذا رأى الرجل من امرأته فاحشةً فاستيقن، فإنه لا يمسكها.
11283- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي ميسرة قال: مملوكات أهل الكتاب بمنزلة حرائرهم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في حكم قوله عز ذكره:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، أعام أم خاصٌّ؟
فقال بعضهم: هو عامٌّ في العفائف منهن، لأن"المحصنات"، العفائف. وللمسلم أن يتزوج كل حرة وأمة كتابيةٍ، حربيةً كانت أو ذميَّةً.
واعتلُّوا في ذلك بظاهر قوله تعالى:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، وأن المعنيَّ بهن العفائف، كائنة من كانت منهن. وهذا قول من قال: عني بـ "المحصنات" في هذا الموضع: العفائف.
* * *
وقال آخرون: بل اللواتي عنى بقوله جل ثناؤه:"والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، الحرائرَ منهن، والآية عامة في جميعهن. فنكاح جميع الحرائر اليهود والنصارى جائز، حربيّات كنّ أو ذميات، من أيِّ أجناس اليهود والنصارى كنَّ. وهذا قول جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
*ذكر من قال ذلك:
11284- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب والحسن: أنهما كانا لا يريان بأسًا بنكاح نساء اليهود والنصارى، وقالا أحلَّه الله على علم.
* * *
وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك نكاحَ بني إسرائيل الكتابياتِ منهن(9/587)
خاصة، دون سائر أجناس الأمم الذين دانوا باليهودية والنصرانية. وذلك قول الشافعي ومن قال بقوله. (1)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك معنىٌّ به نساءُ أهل الكتاب الذين لهم من المسلمين ذمَّة وعهدٌ. فأما أهل الحرب، فإن نساءهم حرام على المسلمين.
*ذكر من قال ذلك:
11285- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن عقبة، قال، حدثنا الفزاري، عن سفيان بن حسين، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: من نساء أهل الكتاب من يحلُّ لنا، ومنهم من لا يحلُّ لنا، ثم قرأ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ) ، [سورة التوبة: 29] . فمن أعطى الجزية حلَّ لنا نساؤه، ومن لم يعط الجزية لم يحل لنا نساؤه = قال الحكم: فذكرت ذلك لإبراهيم، فأعجبه. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال:
__________
(1) انظر الأم 5: 6 قوله: "ولا يحل نكاح حرائر من دان من العرب دين اليهودية والنصرانية، لأن أصل دينهم كان الحنيفية، ثم ضلوا بعبادة الأوثان، وإنما انتقلوا إلى دين أهل الكتاب بعده، لا بأنهم كانوا الذين دانوا بالتوراة والإنجيل فضلوا عنهما وأحدثوا فيها، إنما ضلوا عن الحنيفية، ولم يكونوا كذلك، لا تحل ذبائحهم، وكذلك كل أعجمي كان أصل دين من مضى من آبائه عبادة الأوثان، ولم يكن من أهل الكتابين المشهورين التوراة والإنجيل، فدان دينهم، لم يحل نكاح نسائهم". وانظر سنن البيهقي 7: 173.
(2) الأثر: 11285-"محمد بن عقبة بن المغيرة الشيباني"، "أبو عبد الله الطحان". روى عن أبي إسحق الفزاري، وسوار بن مصعب، وغيرهما. روى عنه البخاري وأبو كريب وغيرهما. قال البخاري"معروف الحديث"، وقال أبو حاتم"ليس بالمشهور"، وذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن حجر: "وماله في البخاري سوى حديثين: أحدهما في الجمعة، متابعة. والآخر في الاعتصام، مقرونًا". مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/200.
و"الفزاري"، هو"أبو إسحق الفزاري": "إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة الفزاري"، الإمام الثقة. مضى برقم: 3833.
و"سفيان بن حسين الواسطي"، مضى برقم: 3471، 6462.(9/588)
عنى بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم"، حرائرَ المؤمنين وأهل الكتاب. لأن الله جل ثناؤه لم يأذن بنكاح الإماء الأحرارِ في الحال التي أباحهن لهم، إلا أن يكنَّ مؤمنات، فقال عز ذكره: (وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ) [سورة النساء: 25] ، فلم يبح منهن إلا المؤمنات. فلو كان مرادًا بقوله:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب"، العفائفَ، لدخل العفائف من إمائهم في الإباحة، وخرج منها غير العفائف من حرائرهم وحرائر أهل الإيمان. وقد أحل الله لنا حرائر المؤمنات، وإن كن قد أتين بفاحشة بقوله: (وَأَنْكِحُوا الأيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ) [سورة النور: 32] . وقد دللنا على فساد قول من قال:"لا يحلُّ نكاح من أتى الفاحشة من نساء المؤمنين وأهل الكتاب للمؤمنين"، في موضع غير هذا، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
= فنكاح حرائر المسلمين وأهل الكتاب حلال للمؤمنين، كن قد أتين بفاحشة أو لم يأتين بفاحشة، ذميةً كانت أو حربيّةً، بعد أن تكون بموضع لا يخافُ الناكح فيه على ولده أن يُجْبر على الكفر، بظاهر قول الله جل وعز:"والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم".
* * *
فأما قول الذي قال:"عنى بذلك نساء بني إسرائيل، الكتابيّات منهن خاصة" (2) فقول لا يوجب التشاغل بالبيان عنه، لشذوذه والخروج عما عليه علماء الأمة، من تحليل نساء جميع اليهود والنصارى. وقد دللنا على فساد قول قائل
__________
(1) انظر ما سلف 8: 189، 190.
(2) يعني قول الشافعي فيما سلف ص 587، 588: تعليق: 1.(9/589)
هذه المقالة من جهة القياس في غير هذا الموضع بما فيه الكفاية، فكرهنا إعادته. (1)
* * *
وأما قوله:"إذا آتيتموهن أجورهن"، فإن"الأجر": العوض الذي يبذله الزوج للمرأة للاستمتاع بها، وهو المهر. (2) كما:-
11286- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"آتيتموهن أجورهن"، يعني: مهورهن.
* * *
القول في تأويل قوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أحل لكم المحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم، وأنتم محصنون غير مسافحين ولا متخذي أخدان.
ويعني بقوله جل ثناؤه:"محصنين"، أعفَّاء ="غير مسافحين"، يعني: لا معالنين بالسفاح بكل فاجرة، وهو الفجور ="ولا متخذي أخدان"، يقول: ولا منفردين ببغيّة واحدة، قد خادنها وخادنته، واتخذها لنفسه صديقة يفجر بها.
* * *
وقد بينا معنى"الإحصان" ووجوهه = ومعنى"السفاح" و"الخدن" في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (3) وهو كما:-
__________
(1) انظر ما سلف 4: 362-369.
(2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"الإحصان" فيما سلف 8: 151-169/ ثم 8: 185-190 = وتفسير"السفاح" فيما سلف 8: 174، 175، 193-195 = وتفسير"الخدن" فيما سلف 8: 193-195.(9/590)
11287- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"محصنين غير مسافحين"، يعني: ينكحوهن بالمهر والبينة (1) غير مسافحين متعالنين بالزنا ="ولا متخذي أخدان"، يعني: يسرُّون بالزنا.
11288- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: أحل الله لنا محصنتين: محصنة مؤمنة، ومحصنة من أهل الكتاب ="ولا متخذي أخدان": ذات الخدان، ذات الخليل الواحد.
11289- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سليمان بن المغيرة، عن الحسن قال: سأله رجل: أيتزوّج الرجل المرأة من أهل الكتاب؟ قال: ما له ولأهل الكتاب، وقد أكثر الله المسلمات! فإن كان لا بد فاعلا فليعمد إليها حَصانًا غير مسافحة. قال الرجل: وما المسافحة؟ قال: هي التي إذا لَمَح الرجل، إليها بعينه اتّبعته. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ومن يكفر بالإيمان"، ومن يجحد ما أمر الله بالتصديق به، من توحيد الله ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به
__________
(1) "البينة"، سلف ذكرها في الأثرين رقم 9002، 9008 (انظر 8: 161، تعليق: 1 = ثم ص: 162 تعليق: 2) . وقد بدا لي هنا أنه عنى بقوله"البينة"، إعلان النكاح. فراجع ما كتبته هناك، فإني في شك من ذلك كله.
(2) الأثر: 11289-"سليمان بن المغيرة القيسي"، "أبو سعيد البصري"، روى عن أبيه، وثابت البناني، والحسن، وابن سيرين، وغيرهم. روى عنه الثوري وشعبة، وماتا قبله، ثم جماعة كثيرة من الثقات، من ثقات أهل البصرة. مترجم في التهذيب.(9/591)
من عند الله = وهو"الإيمان"، الذي قال الله جل ثناؤه:"ومن يكفر بالإيمان فقد حَبِطَ عمله" = يقول: فقد بَطل ثواب عمله الذي كان يعمله في الدنيا، يرجو أن يدرك به منزلة عند الله. (1) ="وهو في الآخرة من الخاسرين"، يقول: وهو في الآخرة من الهالكين، الذين غَبَنوا أنفسَهم حظوظها من ثواب الله بكفرهم بمحمد، وعملهم بغير طاعة الله. (2)
* * *
وقد ذكر أن قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، عنى به أهل الكتاب، وأنه أنزل على رسول الله صلى عليه وسلم من أجل قوم تحرَّجوا نكاح نساءِ أهل الكتاب لما قيل لهم:"أحِل لكم الطيبات وطعام الذين أوتوا الكتاب حِلٌّ لكم وطعامكم حل لهم والمحصنات من المؤمنات والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم".
*ذكر من قال ذلك:
11290- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن ناسًا من المسلمين قالوا: كيف نتزوّج نساءهم = يعني: نساء أهل الكتاب = وهم على غير ديننا؟ فأنزل الله عز ذكره:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين"، فأحل الله تزويجهن على علم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في تأويل"الإيمان" قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك.
11291- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال:"الله"، الإيمان. (3)
__________
(1) انظر تفسير"حبط" فيما سلف 4: 317/6: 287.
(2) انظر تفسير"الخاسر"، و"الخسران" فيما سلف 9: 224، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: "قال: بالإيمان، بالله"، غير ما في المخطوطة، وهو صواب.(9/592)
11292- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن واصل، عن عطاء:"ومن يكفر بالإيمان"، قال:"الإيمان"، التوحيد.
11293- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: بالله.
11294- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
11295- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال: من يكفر بالله.
11296- حدثنا محمد قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: من يكفر بالله.
11297- حدثنا محمد قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، قال: الكفر بالله.
11298- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة. قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
11299- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله"، قال: أخبر الله سبحانه أن"الإيمان" هو العروة الوثقى، وأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا يحرِّم الجنة إلا على من تركه.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما وجه تأويل مَنْ وجَّه قوله:"ومن يكفر بالإيمان"، إلى معنى: ومن يكفر بالله؟(9/593)
قيل: وجه تأويله ذلك كذلك، أن"الإيمان" هو التصديق بالله وبرسله وما ابتعثهم به من دينه، و"الكفر" جحود ذلك. قالوا: فمعنى"الكفر بالإيمان"، هو جحود الله وجحود توحيده. ففسروا معنى الكلمة بما أريد بها، وأعرضوا عن تفسير الكلمة على حقيقة ألفاظها وظاهرها في التلاوة.
فإن قال قائل: فما تأويلها على ظاهرها وحقيقة ألفاظها؟
قيل: تأويلها: ومن يأبَ الإيمان بالله، ويمتنع من توحيده والطاعة له فيما أمره به ونهاه عنه، فقد حبط عمله. وذلك أن"الكفر" هو الجحود في كلام العرب، و"الإيمان" التصديق والإقرار. ومن أبى التصديق بتوحيد الله والإقرار به، فهو من الكافرين (1) فذلك تأويل الكلام على وجهه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الكفر" و"الإيمان" في فهارس اللغة.(9/594)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة، وأنتم على غير طهر الصلاة، فاغسلوا وجوهكم بالماء، وأيديكم إلى المرافق.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في قوله:"إذا قمتم إلى الصلاة"، أمرادٌ به كلَّ حال قام إليها، أو بعضها؟ وأيّ أحوال القيام إليها؟
فقال بعضهم في ذلك بنحو ما قلنا فيه، من أنه معنيٌّ به بعضُ أحوال القيام إليها دون كل الأحوال، وأنّ الحال التي عُني بها، حالُ القيام إليها على غير طُهْر.
ذكر من قال ذلك:
11300 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا يحيى بن واضح قال: حدثنا عبيد الله قال: سئل عكرمة عن قول الله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق"، فكلَّ ساعة يتوضأ؟ فقال: قال ابن عباس: لا وضوء إلا من حَدَثٍ.
11301 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت مسعود بن علي الشيباني قال، سمعت عكرمة قال: كان(10/7)
سعد بن أبي وقاص يُصلِّي الصلوات بوضوءٍ واحد. (1)
11302 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن مسعود بن علي، عن عكرمة قال: كان سعد بن أبي وقاص يقول: صلّ بطهورك ما لم تحدث. (2)
11303 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال: أخبرنا سليم بن أخضر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة السلماني: ما يوجب الوضوء؟ قال: الحدَث.
11304 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن يزيد بن طريف= أو: طريف بن يزيد=: أنهم كانوا مع أبي موسى على شاطئ دجلة، فتوضأوا فصلوا الظهر، فلما نودي بالعصر، قام رجال يتوضأون من دجلة، فقال: إنه لا وضوء إلا على من أحدث.
11305 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن طريف بن زياد= أو: زياد بن طريف= عن واقع بن سحبان: أنه شهد أبا موسى صلى بأصحابه الظهر، ثم جلسوا حِلَقًا على شاطئ دجلة، فنودي بالعصر، فقام رجال يتوضأون، فقال أبو موسى: لا وضوء إلا على من أحدث.
__________
(1) الأثر: 11301 -"مسعود بن على الشيباني"، قال البخاري: "سمع عكرمة، مرسل. روى عنه يحيى القطان وقال: لم يكن به بأس". وقال ابن أبي حاتم: "روى عنه شعبة، ويحيى بن سعيد القطان". الكبير للبخاري 4/ 1 / 423، وابن أبي حاتم: 4 / 1 / 283. وسيأتي في الأثر التالي.
وفي الأثرين رقم: 11322، 11323. وفي الأثر التالي. والأثر: 11322، أنه قد روى عنه"سفيان بن حبيب". وانظر التعليق على الأثر التالي.
(2) الأثر: 11302 -"سفيان بن حبيب البصري"، كان عالما بحديث شعبة وابن أبي عروبة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/91، وابن أبي حاتم 2/1/228، ولم يذكر في ترجمته أنه روى عن"مسعود بن علي الشيباني". وخبر مسعود هذا من رواية شعبة، كما مر في الأثر السالف، فأخشى أن يكون إسناده"سفيان بن حبيب، عن شعبة، عن مسعود بن علي".
وانظر التعليق على الأثر السالف، وتعليق الأثر الآتي: 11322.(10/8)
11306 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت قتادة يحدث، عن واقع بن سحبان، عن طريف بن يزيد= أو: يزيد بن طريف= قال: كنت مع أبي موسى بشاطئ دجلة، فذكر نحوه.
11307 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن واقع بن سحبان، عن طريف بن يزيد =أو: يزيد بن طريف=، عن أبي موسى، مثله. (1)
11308 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا أبو خالد قال، توضأت عند أبي العالية الظهرَ أو العصر، فقلت: أصلي بوضوئي هذا، فإني لا أرجع إلى أهلي إلى العَتَمة؟ قال أبو العالية: لا حرج. وعلّمنا:
__________
(1) الآثار 11304 - 11307 - أربعة أسانيد لخبر واحد، اتفقت ثلاثة منها في الراوي عن أبي موسى، وهو"طريف بن يزيد"، على ما في اسمه من الاختلاف، وانفرد رقم: 11305، فجعل الراوي عن أبي موسى هو"واقع بن سحبان"، وكأنه إسناد مقلوب، إذ جعل الراوي عن أبي موسى هو الراوي عن"طريف بن يزيد" في الأسانيد الثلاثة الأخرى.
وأما "واقع بن سحبان"، فقد ترجم له البخاري في الكبير 4/2/189، وقال: "يعد في البصريين، أبو عقيل. روى عنه قتادة، وثابت البناني"، ولم يزد. وأما ابن أبي حاتم 4/2/49، فإنه قال: "روى عن أسير بن جابر. روى عنه قتادة، وثابت البناني، وحميد الطويل. وكان ابن المبارك يقول: "واقع بن سحبا"، بغير نون، ولا يقول: سحبان. سمعت أبي يقول ذلك".
وأما "طريف بن يزيد الحنفي"، فقد ترجم له في لسان الميزان 3: 209، والبخاري في الكبير 2/2/358، لم يزد على أن قال: "طريف بن يزيد الحنفي، عن أبي موسى". وترجم له ابن أبي حاتم 2/1/493، وفي ترجمته بياض مكانه نقط، قال: "روى عن أبي موسى، روى عنه ... سمعت أبي يقول: هما مجهولان". وقال الحافظ في لسان الميزان: "طريف بن يزيد، عن أبي موسى" مجهول، وكذا شيخه. انتهى.
وذكره ابن حبان في الثقات في التابعي، فقال: الحنفي، روى عنه أهل اليمامة. فمقتضى ذكره في التابعين، أن يكون شيخه أبو موسى، هو الأشعري.
وليس في كتاب ابن أبي حاتم أن شيخ طريف"مجهول". واعتراض ابن حجر صحيح، فإن المجهول هو الراوي عن طريف، لا شيخه.
ولم يذكر في سائر الكتب الاختلاف في اسمه"يزيد بن طريف"، أو "طريف بن زياد" أو" زياد بن طريف"، فهذه مما أفادها تفسير أبي جعفر.
وقد تبين من كتب التراجم أن الإسناد: 11305، مقلوب لا شك فيه.(10/9)
إذا توضأ الإنسان فهو في وضوئه حتى يحدث حدثا.
11309 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا ابن هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: الوضوء من غير حدث اعتداء. (1)
11310 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود، قال حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن سعيد، مثله. (2)
11311 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش قال: رأيت إبراهيم صلَّى بوضوء واحد، الظهرَ والعصرَ والمغربَ.
11312 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام قال، حدثنا الأعمش قال: كنت مع يحيى، فأصلّي الصلوات بوضوء واحد. قال: وإبراهيم مثل ذلك.
11313 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم قال: سمعت الحسن سئل عن الرجل يتوضأ فيصلي الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال: لا بأس به ما لم يُحْدث.
11314 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك، قال: يصلِّي الصلوات بالوضوء الواحد ما لم يحدث.
11315 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا زائدة، عن الأعمش، عن عمارة قال: كان الأسود يصلي الصلوات بوضوء واحد. (3)
11316 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط،
__________
(1) الأثر: 11309، 11310 - هذان الأثران، ذكرهما ابن كثير في تفسيره 3: 84 قال: "وأما ما رواه أبو داود الطيالسي، عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء = فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد. وأما مشروعيته استحبابا، فقد دلت السنة على ذلك".
(2) الأثر: 11309، 11310 - هذان الأثران، ذكرهما ابن كثير في تفسيره 3: 84 قال: "وأما ما رواه أبو داود الطيالسي، عن أبي هلال، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أنه قال: الوضوء من غير حدث اعتداء = فهو غريب عن سعيد بن المسيب، ثم هو محمول على أن من اعتقد وجوبه فهو معتد. وأما مشروعيته استحبابا، فقد دلت السنة على ذلك".
(3) الأثر: 11315 -"الأعمش" هو: "سليمان بن مهران"، مضى مرارا كثيرة.
و"عمارة"، هو: "عمارة بن عمير التيمي"، مضى برقم: 3294، 5789.
و"الأسود" هو: "الأسود بن يزيد النخعي"، مضى برقم: 3299، 4888، 8267.(10/10)
عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" يقول: قمتم وأنتم على غير طهر.
11317 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن الأسود: أنه كان له قَعبٌ قدرَ رِيِّ رجل (1) ، فكان يتوضأ ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها.
11318 - حدثنا محمد بن عباد بن موسى قال، أخبرنا زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي قال، حدثنا الفضل بن المبشر قال: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد، فإذا بال أو أحدثَ، توضأ ومسح بفضل طَهوره الخفين. فقلت: أبا عبد الله، أشيء تصنعه برأيك؟ قال: بل رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنعه، فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم من نومكم إلى الصلاة.
ذكر من قال ذلك:
11319 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني من سمع مالك بن أنس،
__________
(1) "القعب": قدح صغير من خشب مقعر، وهو يروي الرجل.
(2) الأثر: 11318 -"محمد بن عباد بن موسى الختلي"، شيخ الطبري. روى عن هشام بن محمد الكلبي، والوليد بن صالح، روى عنه أبو بكر بن أبي الدنيا. مترجم في ابن أبي حاتم 4/1/15. روى عنه أبو جعفر في التاريخ 6: 21.
و"زياد بن عبد الله بن الطفيل البكائي". قال أحمد: "ليس به بأس، حديثه حديث أهل الصدق". وقال وكيع: "هو أشرف من أن يكذب". مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/329.
و"الفضل بن المبشر الأنصاري"، سمع جابر بن عبد الله، وسالم بن عبد الله بن عمر.
قال ابن معين: "ضعيف"، وقال ابن عدي: "عامة أحاديثه لا يتابع عليها". مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/114، وابن أبي حاتم 3/2/66.
والحديث رواه ابن ماجه 1: 170 رقم: 511، عن إسمعيل بن توبة، عن زياد بن عبد الله، به. وانظر ابن كثير في تفسيره 3: 83.(10/11)
يحدث عن زيد بن أسلم، قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" قال: يعني: إذا قمتم من النوم.
11320 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب: أن مالك بن أنس أخبره عن زيد بن أسلم، بمثله. (1)
11321 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" قال فقال، قمتم إلى الصلاة من النوم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك معنيٌّ به كل حال قيام المرء إلى صلاته، أن يجدِّد لها طُهرًا.
ذكر من قال ذلك:
11322 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن مسعود بن علي قال، سألت عكرمة، قال قلت: يا أبا عبد الله، أتوضأ لصلاة الغداة، ثم آتي السوق فتحضر صلاة الظهر، فأصلي؟ قال: كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه يقول:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق". (2)
11323 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، سمعت مسعود بن علي الشيباني قال، سمعت عكرمة يقول: كان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة، ويقرأ هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم
__________
(1) الأثران: 11319، 11320 - انظر الموطأ ص: 21.
(2) الأثر: 11322 -"سفيان بن حبيب" و"مسعود بن علي الشيباني". انظر التعليق على الأثرين السالفين: 11301، 11302.
وقوله في جواب السؤال: "قال كان علي بن أبي طالب رضوان الله عليه ... "، وتلاوته الآية بعد ذلك، دون أن يذكر فعل علي، جائز في مثل هذا السياق. كأنه قال: كان علي بن أبي طالب يفعل مثل ذلك ويقرأ هذه الآية. وانظر الأثر التالي.(10/12)
إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم" ... الآية. (1)
11324 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا أزهر، عن ابن عون، عن ابن سيرين: أن الخلفاء كانوا يتوضأون لكل صلاة.
11325 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس قال، توضأ عمر بن الخطاب وضوءًا فيه تجوٌّز خفيفًا، فقال، هذا وضوء من لم يحدث. (2)
11326 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة، عن النزال، قال، رأيت عليًّا صلى الظهر ثم قعد للناس في الرَّحْبة، ثم أتِيَ بماء فغسل وجهه ويديه، ثم مَسَح برأسه ورجليه، وقال: هذا وضوء من لم يحدِث. (3)
11327 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن
__________
(1) الأثر: 11323 -"مسعود بن علي الشيباني" انظر التعليق على الأثر السالف.
وهذا الأثر ساقه ابن كثير في تفسيره 3: 83، 84، وساق معه الأثرين 11326، 11327، وقال: "هذه طرق جيدة عن علي، يقوي بعضها بعضا".
(2) الأثر: 11325 -"ابن أبي عدي"، هو: "محمد بن إبراهيم بن أبي عدي"، مضى برقم: 5440، 6497.
و"حميد"، هو"حميد الطويل"، مضى مرارا كثيرة.
و"أنس"، هو أنس بن مالك.
وهذا الأثر، نقله ابن كثير في تفسيره 3: 84، عن هذا الموضع من الطبري، وقال: "هذا إسناد صحيح".
(3) الأثر: 11326 -"عبد الملك بن ميسرة الهلالي الزراد"، ثقة، من صغار التابعين، مضى برقم: 503، 504.
و"النزال"، هو: "النزال بن سبرة الهلالي"، مختلف في صحبته. روى عن رسول الله -يقال هو مرسل- وعن عثمان، وعلي، وابن مسعود وغيرهم. ثقة من كبار التابعين.
وهذا خبر إسناده صحيح، وانظر التعليق على الأثر السالف: 11323. خرجه ابن كثير في تفسيره 3: 83، 84. ورواه أحمد في مسنده من طرق، بالأرقام: 583، 1005، 1173، 1174، 1222، 1315، 1366، وخرجه أخي السيد أحمد هناك.(10/13)
إبراهيم: أن عليًّا اكتالَ من حُبٍّ فتوضأ وضوءًا فيه تجوُّزٌ، فقال: هذا وضوء من لم يحدث. (1)
* * *
وقال آخرون: بل كان هذا أمرًا من الله عز ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به: أن يتوضَّأوا لكل صلاة، ثم نُسخ ذلك بالتخفيف.
ذكر من قال ذلك:
11328 - حدثني عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا أبي، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري =ثم المازني، مازن بني النجار= فقال لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، طاهرا كان أو غير طاهر، عمَّن هو؟ قال: حدثتنيه أسماء ابنة زيد بن الخطاب: أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، الغسيل حدَّثها: أن النبي صلى الله عليه وسلم أُمِرَ بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه، فأمِر بالسواك، ورفع عنه الوضوء إلا من حدّث. فكان عبد الله يرى أنّ به قوة عليه، فكان يتوضأ. (2)
__________
(1) الأثر: 11327 - انظر التعليق على الأثر السالف: 11323. وخرجه ابن كثير في تفسيره 3: 84.
"اكتال"، مأخوذ من"كيل الطعام وغيره"، وأراد به هنا أنه أخذ من الماء مقدار ما يكفي في وضوئه. وهو عربي صحيح المجاز.
و"الحب" (بضم الحاء) : هو الجرة الضخمة، أو الجابية التي يجعل فيها الماء.
(2) الأثر: 11328 -"عبد الله بن أبي زياد القطواني"، هو"عبد الله بن الحكم بن أبي زياد"، مضى برقم: 2247، 5796.
و"يعقوب بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري"، مضى برقم: 4314، 5493.
وأبوه"إبراهيم بن سعد بن إبراهيم الزهري"، مضى برقم: 4314، وكان من أكثر أهل المدينة حديثا في زمانه. قال البخاري: "قال لي إبراهيم بن حمزة: كان عند إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحق، نحو من سبعة عشر ألف حديث في الأحكام، سوى المغازي". مترجم في التهذيب.
و"ابن إسحق" هو: "محمد بن إسحق" صاحب المغازي، مضى مرارا، ومضى توثيق أخي السيد أحمد له. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "عن أبي إسحق"، وهو خطأ، صوابه من سنن أبي داود، وابن كثير.
و"محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري المازني"، فقيه ثقة كثير الحديث، روى له الأئمة.
مترجم في التهذيب.
و"عبيد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"، ثقة قليل الحديث، يقال إنه كان أسن من أخيه"عبد الله بن عبد الله بن عمر"، لم يذكروا في ترجمته أنه روى عن أسماء بنت زيد بن الخطاب، ولا أن محمد بن يحيى بن حبان روى عنه، بل ذكروا ذلك في ترجمته أخيه"عبد الله" كما سترى في التخريج.
وأما أخوه"عبد الله بن عبد الله بن عمر بن الخطاب" فقد روى عن أسماء بنت زيد بن الخطاب، وروى عنه محمد بن يحيى بن حبان. قال ابن سعد: "ثقة قليل الحديث"، وقيل: كان أكبر ولد"عبد الله بن عمر" وكان من أشراف قريش. ووجوهها. مترجم في التهذيب.
وأما "أسماء بنت زيد بن الخطاب" فقد روت عن"عبد الله بن حنظلة"، وروى عنها: "عبد الله بن عبد الله بن عمر". وكانت زوج ابن عمها"عبد الله بن عمر بن الخطاب". فلما قتل، لم تتزوج بعده حتى ماتت. وذكرها ابن حبان وابن مندة في الصحابة. ولكن الحافظ ابن حجر رد ذلك، وانظر ترجمتها في الإصابة في القسم الثاني من تراجم النساء. مترجمة في التهذيب.
و"عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب"، فأبوه"حنظلة"، هو غسيل الملائكة، غستله يوم قتل في أحد. وكان الأجود أن يقال، " ... بن حنظلة بن أبي عامر، ابن الغسيل". فإن أبا عامر هو الراهب، الذي سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم"الفاسق". و"عبد الله بن حنظلة" مترجم في التهذيب.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: عبد الله بن زيد بن حنظلة ... " بزيادة"ابن زيد"، وهو خطأ محض، لعله سهو من الناسخ.
وأما "عبد الله" المذكور في هذا الأثر غير منسوب، والمسئول عن وضوئه، فهو"عبد الله بن عمر بن الخطاب"، صاحب رسول الله.
وهذا الأثر، رواه أبو داود في سننه 1: 43، رقم: 48، من طريق محمد بن عوف الطائي، عن أحمد بن خالد، عن محمد بن إسحق، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن عبد الله بن عبد الله بن عمر. ثم قال أبو داود: "إبراهيم بن سعد، رواه عن محمد بن إسحق قال: عبيد الله بن عبد الله". يعني هذه الرواية التي رواها أبو جعفر في هذا الإسناد، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر.
وأخرجه البيهقي في سننه 1: 37، 38. وقد خرجه ابن كثير في تفسيره 3: 83 من رواية أحمد بن حنبل، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه إبراهيم بن سعد، بمثل رواية الطبري: "عبيد الله بن عبد الله بن عمر"، وساق رواية أبي داود"عبد الله بن عبد الله بن عمر" ثم قال: "وأيا ما كان، فهو إسناد صحيح، وقد صرح فيه ابن إسحق بالتحديث والسماع من محمد بن يحيى بن حبان، فزال محذور التدليس. لكن قال الحافظ ابن عساكر رواه سلمة بن الفضل، وعلي بن مجاهد، عن ابن إسحق، عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن محمد بن يحيى بن حبان، به. والله أعلم".
وهذا الإسناد الذي الذي ذكره ابن عساكر، هو الإسناد التالي.(10/14)
11329 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق،(10/15)
عن محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة قال، حدثني محمد بن يحيى بن حبان الأنصاري قال: قلت لعبيد الله بن عبد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة، ثم ذكر نحوه. (1)
11330 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة. فلما كان عام الفتح، صلَّى الصلوات بوضوء واحد، ومسح على خفيه، فقال عمر: إنك فعلت شيئا لم تكن تفعله! قال،"عمدا فعلته. (2)
__________
(1) الأثر: 11329 - مكرر الذي قبله.
"محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة بن عبد يزيد بن المطلب بن عبد مناف". قال أبو داود وابن معين: "ثقة"، وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث". مترجم في التهذيب.
انظر التعليق على الأثر السالف.
(2) الأثر: 11330 -"يحيى"، هو: "يحيى بن سعيد القطان".
و"عبد الرحمن"، هو"عبد الرحمن بن مهدي".
و"سفيان"، هو الثوري.
و"علقمة بن مرثد الحضرمي"، روى عن زر بن حبيش، وطارق بن شهاب، وسليمان بن بريدة وغيرهم. روى عنه شعبة، وسفيان الثوري، ومسعر. ثقة ثبت في الحديث. مترجم في التهذيب.
و"سليمان بن بريدة بن الحصيب الأسلمي". أخو"عبد الله بن بريدة". روى عن أبيه، وعمران بن حصين، وعائشة. روى عنه علقمة بن مرثد، ومحارب بن دثار، وغيرهم. قال أحمد: عن وكيع: "يقولون إن سليمان بن بريدة كان أصح حديثا من أخيه وأوثق". ثقة، مترجم في التهذيب.
وأبوه: "بريدة بن الحصيب الأسلمي"، أسلم قبل بدر، ولم يشهدها، وشهد خيبر وفتح مكة. استعمله النبي صلى الله عليه وسلم على صدقات قومه. وسكن المدينة، ثم انتقل إلى البصرة، ثم إلى مرو، فمات بها.
وهذا الأثر، سيرويه أبو جعفر من طريق أخرى رقم: 11333.
رواه أحمد في مسنده 5: 350، من طريق يحيى بن سعيد، عن سفيان به و 5: 358، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان بمثله، ورواه أيضا 5: 351، من طريق وكيع عن سفيان، بمثله.
ورواه مسلم 3: 176، 177، من طريق عبد الله بن نمير، عن سفيان = ومن طريق محمد بن حاتم = واللفظ له، عن يحيى بن سعيد، عن سفيان، بمثله.
ورواه أبو داود في سننه 1: 82، رقم: 172، من طريق مسدد، عن يحيى بن سعيد، بمثله.
ورواه النسائي 1: 86، من طريق عبيد الله بن سعيد، عن يحيى، بمثله.
ورواه البيهقي في السنن 1: 162 من طريق ابن وهب، عن سفيان، بمثله ومن طريق الضحاك بن مخلد، عن سفيان. ثم رواه أيضا 1: 271 من طريق أبي داود في سننه. ومن طريق علي بن قادم، عن سفيان.
ورواه الترمذي في السنن 1: 89، 90 (شرح أخي السيد أحمد) ، وعلق عليه الترمذي، وذكر اختلاف الرواة فيه، كما سيأتي. ولكن حديث الثوري عن علقمة بن مرثد، مرفوع موصول، لم يختلف فيه أحد من الرواة، وإنما اختلفوا في حديث الثوري، عن محارب بن دثار، كما سيأتي.(10/16)
11331 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ لكل صلاة. فلما كان يوم فتح مكة، صلى الصلوات كلها بوضوء واحد. (1)
11332 - حدثنا ابن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن، قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) الأثر: 11331 -"محارب بن دثار بن كردوس السدوسي". ثقة، روى له الأربعة.
قال سماك بن حرب: "كان أهل الجاهلية إذا كان في الرجل ست خصال سودوه: الحلم، والصبر، والسخاء، والشجاعة، والبيان، والتواضع، ولا يكملن في الإسلام إلا بالعفاف. وقد كملن في هذا الرجل - يعني محارب بن دثار".
وهذا الأثر، رواه أبو جعفر مرفوعا موصولا من طريقين، هذا، ورقم: 11334.
ورواه ابن ماجه 1: 170، رقم: 510، من طريق وكيع، عن سفيان، عن محارب ابن دثار، مرفوعا موصولا.
وتكلم في رواية سفيان، عن محارب بن دثار، الترمذي في سننه 1: 89، 90، فأشار إلى روايتها مرفوعة موصولة، ومرسلة من طريق عبد الرحمن بن مهدي وغيره عن سفيان، عن محارب ابن دثار، مرفوعا موصولا.
وتكلم في وراية سفيان، عن محارب بن دثار، الترمذي في سننه 1: 89، 90، فأشار إلى روايتها مرفوعة موصولة ومرسلة، من طريق عبد الرحمن بن مهدي وغيره، عن سفيان، عن محارب بن دثار، وقال، "وهذا أصح من حديث وكيع". وزاد الطبري في الأثر 11334، روايته من طريق معاوية بن هشام، عن سفيان، مرفوعا موصولا. و"معاوية بن هشام"، ثقة.
قال أخي السيد أحمد: "وهذه الرواية جعلها الترمذي مرجوحة، ورأى أن رواية من رواه عن الثوري، عم محارب، عن سليمان مرسلا -: أصح. ولسنا نوافقه على ذلك، لأن الحديث معروف عن سليمان عن أبيه. ووكيع ثقة حافظ. فالظاهر أن الثوري كان تارة يروي الحديث عن محارب موصولا، كما رواه عنه وكيع، وتارة مرسلا، كما رواه عنه غيره".(10/17)
عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتوضأ، فذكر نحوه. (1)
11333 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن ابن بريدة، عن أبيه قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلوات كلها بوضوء واحد، فقال له عمر: يا رسول الله، صنعت شيئا لم تكن تصنعه؟ فقال،"عمدا فعلته يا عمر. (2)
11334 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية، عن سفيان، عن محارب بن دثار، عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ لكل صلاة، فلما فتح مكة، صلى الظهرَ والعصرَ والمغرب والعشاء بوضوء واحد. (3)
11335 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا الحكم بن ظُهَير، عن مِسْعر، عن محارب بن دثار، عن ابن عمر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد. (4)
* * *
__________
(1) الأثر: 11332 - هذه هي الرواية المرسلة للأثر السالف، والتي أشار إليها الترمذي كما أسلفنا.
(2) الأثر: 11333 - هذه طريق أخرى للأثر السالف رقم: 11330، وقد أشرنا إليها في التخريج هناك.
و"معاوية بن هشام الأسدي القصار"، مضى برقم: 2997، ثقة، وثقه أبو داود وابن حبان. وقال أحمد: "هو كثير الخطأ".
(3) الأثر: 11334 - هذه طريق أخرى، لحديث وكيع، عن سفيان، التي خرجناها في رقم: 11331، وأشرنا إليها هناك.
(4) الأثر: 11335 - حديث ضعيف الإسناد جدا.
"الحكم بن ظهير الفزاري"، مضى برقم: 249، 5523، 5792. رمى بوضع الحديث، تركوه. قال ابن حبان: "كان يشتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، يروي عن الثقات الأشياء الموضوعات".
و"مسعر"، هو"مسعر بن كدام"، ثقة معروف، أحد الأعلام. مضى برقم: 503، 504، 1974، 5729، 6172.(10/18)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال: إن الله عنى بقوله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا" جميعَ أحوال قيام القائم إلى الصلاة، غير أنه أمرُ فرضٍ بغسل ما أمر الله بغسله القائمَ إلى صلاته، بعد حَدَثٍ كان منه ناقضٍ طهارتَه، وقبل إحداث الوضوء منه= وأمر ندب لمن كان على طهر قد تقدم منه، ولم يكن منه بعده حدث ينقض طهارته. ولذلك كان عليه السلام يتوضأ لكل صلاة قبل فتح مكة، ثم صلىّ يومئذ الصلوات كلها بوضوء واحد، ليعلّم أمته أن ما كان يفعل عليه السلام من تجديد الطهر لكل صلاة، إنما كان منه أخذا بالفضل، وإيثارا منه لأحب الأمرين إلى الله، ومسارعةً منه إلى ما ندبه إليه ربّه= لا على أن ذلك كان عليه فرضًا واجبًا.
فإن ظنّ ظانٌّ أن في الحديث الذي ذكرناه عن عبد الله بن حنظلة، أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء عند كل صلاة (1) دلالةً على خلاف ما قلنا من أن ذلك كان ندبا للنبي عليه السلام وأصحابه، وخُيِّل إليه أن ذلك كان على الوجوب= فقد ظنّ غير الصواب. (2)
وذلك أن قول القائل:"أمرَ الله نبيه صلى الله عليه وسلم بكذا وكذا"، محتملٌ من وجوه لأمر الإيجاب، والإرشاد والندب والإباحة والإطلاق. وإذ كان محتملا ما ذكرنا من الأوجه، كان أولى وجوهه به ما على صحته الحجة مجمعة، دون ما لم يكن على صحته برهان يوجب حقيقة مدَّعيه. (3) .
وقد أجمعت الحجة على أن الله عز وجل لم يوجب على نبيه صلى الله عليه وسلم ولا على عباده فرضَ
__________
(1) انظر الأثر رقم: 11328.
(2) سياق هذه الجملة: فإن ظن ظان ... وخيل إليه أن ذلك كان على الوجوب، فقد ظن غير الصواب".
(3) قوله: "حقيقة مدعيه"، أي: حق مدعيه. واستعمال"حقيقة" بمعنى"حق"، قد سار عليه أبو جعفر في كتابه هذا، وسار الناشرون على تغيير"حقيقة"، إلى"حقية"، كما جاء هنا في المطبوعة، مخالفا للمخطوطة. وانظر ما سلف 8: 568، تعليق: 1 = ثم: 592، تعليق: 7= ثم 9: 336، تعليق: 4 = ثم: 360، تعليق: 4.(10/19)
الوضوء لكل صلاة، ثم نسخ ذلك، ففي إجماعها على ذلك، الدلالةُ الواضحةُ على صحة ما قلنا: من أن فعل النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يفعل من ذلك، كان على ما وصفنا، من إيثاره فعلَ ما ندبه الله عز ذكره إلى فعله وندبَ إليه عباده المؤمنين بقوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق" ... الآية، وأن تركه في ذلك الحال الذي تركه، (1) كان ترخيصا لأمته، وإعلاما منه لهم أن ذلك غير واجب ولا لازم له ولا لهم، إلا من حدَثٍ يوجب نقضَ الطهر.
* * *
وقد روي بنحو ما قلنا في ذلك أخبار:
11336 - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن عامر، عن أنس: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتي بقَعْبٍ صغير فتوضأ. قال: قلت لأنس: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة؟ قال: نعم! قلت: فأنتم؟ قال: كنا نصلي الصلوات بوضوء واحد. (2) .
__________
(1) في المخطوطة: "في ذلك الحال التي تركه"، والصواب ما أثبته، يريد: وأن تركه الذي تركه، كان ترخيصا ...
(2) الأثر: 11336 -"عمرو بن عامر الأنصاري"، روى عن أنس بن مالك. وعنه أبو الزناد، وشعبة، وسفيان الثوري، ومسعر، وشريك. ثقة صالح الحديث. روى له الأربعة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/249. وانظر بقية التعليق.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 1: 272، 273) ، من طريق محمد بن يوسف الفريابي، عن سفيان الثوري، عن عمرو بن عامر = ومن طريق مسدد، عن يحيى، عن سفيان الثوري.
ورواه أبو داود في السنن 1: 81، رقم: 171، من طريق محمد بن عيسى، عن شريك، عن عمرو بن عامر البجلي = قال محمد: هو أبو: "أسد بن عمرو" = قال سألت أنس، بمثله. هذا، و"عمرو بن عامر البجلي" هو غير"عمرو بن عامر الأنصاري"، وكأن محمد بن عيسى قد أخطأ. وانظر التهذيب في"عمرو بن عامر البجلي".
ورواه الترمذي 1: 88 (شرح أخي السيد أحمد) من طريق محمد بن بشار، عن يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عمرو بن عامر، قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه النسائي في سننه 1: 85، من طريق خالد، عن شعبة، عن عمرو بن عامر كمثل طريق أبي جعفر هذا.
ورواه ابن ماجه 1: 170، رقم: 509، من طريق شريك، عن عمرو بن عامر.
والبيهقي في السنن 1: 162 من طريق الفريابي، عن سفيان.
ورواه أحمد من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن عمرو بن عامر الأنصاري، انظر تفسير ابن كثير (3: 84) .(10/20)
11337 - حدثنا سليمان بن عمر بن خالد الرقّي، حدثنا عيسى بن يونس، عن عبد الرحمن بن زياد الإفريقي، عن أبي غطيف، قال: صليت مع ابن عمر الظهر، فأتى مجلسا في داره فجلس وجلست معه. فلما نُودي بالعصر دعا بوضوء فتوضأ، ثم خرج إلى الصلاة، ثم رجع إلى مجلسه. فلما نودي بالمغرب دعا بوضوء فتوضأ، فقلت: أسنة ما أراك تَصنع؟ قال، لا وإن كان وَضوئي لصلاة الصبح كافيَّ للصلوات كلها ما لم أحدِث، (1)
ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من توضأ على طهرٍ كتب له عشر حسنات"، (2)
، فأنا رغبت في ذلك. (3)
__________
(1) في المطبوعة"كاف للصلوات كلها"، غير ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة"فأنا رغبت"، غير ما في المخطوطة.
(3) الأثر: 11337 -"سليمان بن عمر بن خالد الرقي، الأقطع"، مضت ترجمته برقم: 6254.
و"عيسى بن يونس بن أبي إسحق السبيعي"، رأى جده أبا إسحق، روى عن أبيه وأخيه، وعن كثير. ثقة، روى له الأئمة. مترجم في التهذيب.
و"عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافري الإفريقي"، هو"ابن أنعم"، و"الإفريقي"، مضى برقم: 2195، 10180، تكلم فيه بعض العلماء، ولكن وثقه أخي السيد أحمد في رقم: 2195.
و"أبو غطيف الهذلي"، ويقال: "غطيف"، ويقال: "غضيف". قال أبو زرعة: "لا يعرف اسمه". ضعفه الترمذي. مترجم في التهذيب.
وهذا الحديث، رواه أبو داود في سننه 1: 48، رقم: 62، من طريق محمد بن يحيى ابن فارس، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، ومن طريق مسدد، عن عيسى بن يونس، جميعا عن عبد الرحمن بن زياد، مختصرا.
ورواه ابن ماجه 1: 170، 171، رقم: 512، من طريق محمد بن يحيى، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، مطولا.
والبيهقي في السنن 1: 162.
والترمذي في السنن 1: 87، 88 (شرح أخي السيد أحمد) ، وقد ضعف الترمذي هذا الإسناد، وقال البخاري في حديث أبي غطيف هذا: "لم يتابع عليه". وانظر شرح السنن.(10/21)
11338 - حدثني أبو سعيد البغدادي، قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن هريم، عن عبد الرحمن بن زياد، عن أبي غطيف، عن ابن عمر، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات. (1)
* * *
وقد قال قوم: إن هذه الآية أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم إعلاما من الله له بها أن لا وضوء عليه، إلا إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال كلها، وذلك أنه كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلِّها حتى يتوضأ، فأذن الله بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث عَدَا الصلاة توضأ أو لم يتوضأ، وأمره بالوضوء إذا قام إلى الصلاة قبل الدخول فيها.
ذكر من قال ذلك:
11339 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا، ونسلم عليه فلا يرد علينا، حتى يأتي منزله فيتوضأ كوضوئه للصلاة. فقلنا: يا رسول الله، نكلمك فلا تكلمنا، ونسلم عليك فلا ترد علينا؟ قال: حتى نزلت آية الرخصة:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة"، الآية. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 11338 -"أبو سعيد البغدادي، مضى برقم: 6684، "أبو سعيد بن يوشع البغدادي" ولم أجد له ترجمة، ثم مضى برقم: 6690"أبو سعيد البغدادي" كالذي هنا.
و"إسحق بن منصور السلولي". ثقة، مضت ترجمته برقم: 4925، ومضت رواية أبي سعيد البغدادي عنه في: 6684: 6690.
و"هريم بن سفيان البجلي"، ثقة. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر مختصر الأثر السالف. ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 84، عن هذا الموضع من التفسير.
(2) الأثر: 11339 - هذا خبر مشكل، وهو مع إشكاله ضعيف الإسناد، لضعف جابر بن يزيد الجعفي، فهو ضعيف جدا، رمي بالكذب، كما بينه أخي السيد أحمد في رقم: 2340.
أول ذلك أن إسناده في المطبوعة كان هكذا: "معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه".
وفي المخطوطة: "معاوية بن هشام، عن شيبان، عن جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه".
فخالفت المطبوعة المخطوطة، فجعلت مكان"شيبان"، "سفيان" = ومكان"عبد الله بن علقمة الفغواء"، عبد الله بن علقمة بن وقاص"، ولا أدري من أين أتى به ناسخ تفسير أبي جعفر، فإن ابن كثير في تفسيره قد نقله ولا شك عن نسخة من تفسير أبي جعفر، وفيها"عبد الله بن علقمة بن وقاص".
وسأبدأ بذكر ما وجدته فيما بين يدي من الكتب، من ذكر هذا الخبر وإسناده.
1 = فرواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 53 بروايته عن ابن أبي داود قال: "حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا معاوية بن هشام، عن شيبان، عن جابر، عن عبد الله بن محمد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه ... "
2 = ونقله ابن كثير في تفسيره 3: 84، من تفسير ابن جرير فقال: "حدثنا أبو كريب، قال حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن وقاص، عن أبيه ... "
ثم قال: " ورواه ابن أبي حاتم، عن محمد بن مسلم، عن أبي كريب، به نحوه".
3 = ورواه الجصاص في أحكام القرآن 2: 329، فقال: "روى سفيان الثوري عن جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة، عن أبيه ... ".
4 = وذكره الحافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة"علقمة بن الفغواء الخزاعي"، فقال: "أخرجه مطين، والطحاوي، والدراقطني من طريق جابر الجعفي، عن عبد الله بن محمد بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه ... "
5 = وذكره ابن الأثير في أسد الغابة 4: 14 في ترجمة"علقمة بن الفغواء الخزاعي" فقال: "روى أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه ... "
6 = وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 276 فقال: "وعن علقمة بن الفغواء ... رواه الطبراني في الكبير، وفيه جابر الجعفي، وهو ضعيف".
7 = وذكره أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 119 قال: "حديث علقمة بن الفغواء، عن أبيه أنه قال، ... "، وهذا خطأ لا شك فيه، فإن المطبوع من الناسخ والمنسوخ ردئ الطبع جدا. والصواب"حديث عبد الله بن علقمة بن الفغواء، عن أبيه ... ". وفي المطبوعة: "علقمة بن القعوى"، وهو تحريف لا شك فيه خطئه.
8 = وخرجه السيوطي في الدر المنثور فقال: "وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، بسند ضعيف، عن علقمة بن صفوان ... ".
فهذا، كما ترى، اختلاف شديد جدا في أسانيد هذا الأثر.
فالاختلاف الأول: في الذي روى عنه معاوية بن هشام، ففي المطبوعة، وابن كثير، وأحكام القرآن للجصاص أنه رواه عن"سفيان"، وهو الثوري كما صرح به الجصاص. وفي المخطوطة، ومعاني الآثار للطحاوي أنه رواه عن"شيبان"، وهو النحوي. ومعاوية بن هشام يروي عنهما جميعا. وسفيان الثوري، وشيبان النحوي، يرويان جميعا عن جابر بن يزيد الجعفي. فجائز أن يكون معاوية بن هشام رواه عنهما جميعا، عن جابر، مرة عن هذا، ومرة عن هذا.
والاختلاف الثاني: في الذي رواه عنه"سفيان" أو "شيبان". ففي المطبوعة والمخطوطة: "جابر بن عبد الله بن أبي بكر، عن عمرو بن حزم"، وهو خطأ لا شك فيه، لأن الحديث مداره على"جابر بن يزيد الجعفي"، كما جاء في المراجع جميعا.
والاختلاف الثالث: في الذي رواه عنه"جابر الجعفي"، فذكر الطحاوي في معاني الآثار. أنه عن: "عبد الله بن محمد، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" فكأن جابرا رواه عن"عبد الله بن محمد" هذا، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، كما قال ابن الأثير في أسد الغابة، وأما ما نقله ابن كثير عن نسخة من تفسير أبي جعفر من أنه: "عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم" فاتفق مع ما جاء في أحكام القرآن للجصاص، وفي الإصابة لابن حجر - مع اختلاف لا يضر في اختصار اسمه.
فانفرد الطحاوي بأن زاد"عبد الله بن محمد" في هذا الإسناد، ولا ندري من يكون. فأخشى أن يكون في النسخة المطبوعة من معاني الآثار، خطأ.
والاختلاف الرابع: متعلق بالاختلاف الثالث، في الراوي عن"عبد الله بن علقمة بن الفغواء" أهو: "عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم" = كما جاء في تفسير ابن كثير، وفي أحكام القرآن للجصاص، والإصابة = أم هو أبوه"أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم"، كما جاء في إسناد الطحاوي، وكما ذكر ابن الأثير في أسد الغابة؟
والاختلاف الخامس: فإن المطبوعة وابن كثير في تفسيره، جعلا التابعي الراوي عن أبيه"عبد الله بن علقمة بن وقاص"، وانفرد السيوطي في الدر المنثور بأن جعل أباه الصحابي هو"علقمة بن صفوان"، وكلاهما خطأ لا شك فيه، بدليل إجماع سائر الرواة على أن هذا الخبر من حديث"علقمة بن الفغواء الخزاعي".
من أجل ذلك كله، غيرت ما في المطبوعة، فجعلت"شيبان" مكان"سفيان"، مطابقا لما في المخطوطة ومعاني الآثار. وجعلت"جابر، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم"، مطابقا لما في تفسير ابن كثير، وأحكام القرآن للجصاص، والإصابة لابن حجر. وجعلت"عبد الله بن علقمة بن الفغواء"، مكان"عبد الله بن علقمة بن وقاص" مطابقا لما في سائر الأخبار، سوى ابن كثير، والسيوطي.
أما رجال الإسناد فهم:
"معاوية بن هشام الأسدي القصار"، ثقة. مضى برقم: 2997.
و"سفيان" - كما أسلفنا في الاختلاف الأول - هو سفيان الثوري الإمام الثقة، مضى مرارا.
وأما "شيبان"، فهو"أبو معاوية، شيبان النحوي"، وهو"شيبان بن عبد الرحمن التميمي"، إمام ثقة. مضى مرارا، رقم: 2340، 4898، 5280، 9222، 9223، 9456.
وأما "جابر"، فهو: "جابر بن يزيد بن الحارث الجعفي"، ضعيف جدا، رمي بالكذب.
مضى برقم: 764، 858، 2340، 3074، 5423، 7350.
و"عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم"، ثقة. مضى برقم: 4808.
وأما أبوه: "أبو بكر بن محمد بن عمرو بن حزم"، ثقة. مضى برقم: 2031.
و"عبد الله بن علقمة بن الفغواء الخزاعي"، روى عن أبيه. روى عنه زيد بن أسلم، ومسلم بن نبهان. مترجم في ابن أبي حاتم 2/2/121.
وأبوه: "علقمة بن الفغواء الخزاعي"، دليل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك.
سمع النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن عمر. روى عنه ابنه عبد الله. مترجم في الإصابة، وأسد الغابة، وطبقات ابن سعد 4/2/32 ثم 5: 340، والكبير للبخاري 4/1/39، وابن أبي حاتم 3/1/404.
ومضى تخريج الأثر فيما سلف مما كتبناه، وهو بمثل لفظ الطبري، إلا في بعض حروف يسيرة، وإلا ما جاء في رواية الجصاص في أحكام القرآن. كتبه محمود محمد شاكر.(10/22)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في حدّ"الوجه" الذي أمر الله بغسله، القائمَ إلى الصلاة بقوله:"إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم".(10/23)
فقال بعضهم: هو ما ظهر من بَشرة الإنسان من قُصَاص شعر رأسه، (1) منحدرا إلى منقطع ذَقَنه طولا وما بين الأذنين عرضا. قالوا: فأما الأذن وما بطن من داخل الفم والأنف والعين، فليس من الوجه وغير واجب غسلُ ذلك ولا غسل شيء منه في الوضوء. (2) قالوا: وأما ما غطاه الشعر منه كالذقن الذي غطاه شعر اللحية، والصدغين اللذين قد غطاهما عِذَار اللحية، فإن إمرار الماء على ما على ذلك من الشعر، مجزئ من غسل ما بطن منه من بشرة الوجه،
(3) لأن"الوجه"
__________
(1) "قصاص الشعر" (بضم القاف وكسرها وفتحها) : نهاية منبته من مقدم الرأس.
(2) في المطبوعة: "فليس من الوجه ولا غيره ولا أحب غسل ذلك"، كان في المخطوطة: "فليس من الوجه وغيره اجب غسل ذلك" مع وصل راء"غير" بما يشبه الهاء المفردة، ففعل الناشر ما فعل في إفساد هذه العبارة، بلا أمانة ولا عقل.
(3) في المطبوعة: "مجزئ عن غسل"، وما في المخطوطة، هو الجيد الذي سار عليه القدماء.(10/24)
عندهم: هو ما عَنَّ لعين الناظر من ذلك فقابلها (1) دون غيره.
ذكر من قال ذلك:
11340 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمر بن عبيد، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال، يجزئ اللحية ما سال عليها من الماء. (2)
11341 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا المغيرة، عن إبراهيم قال: يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته.
11342 - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم، بنحوه.
11343 - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، بنحوه.
11344 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة في تخليل اللحية، قال: يجزيك ما مرَّ على لحيتك.
11345 - حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني، قال، حدثنا مصعب بن المقدام، قال، حدثنا زائدة، عن منصور، قال: رأيت إبراهيم يتوضأ، فلم يخلِّل لحيته. (3)
__________
(1) في المخطوطة: "فهو باطن لعين الناظر"، وهو تحريف، وصححها في المطبوعة: "ما ظهر لعين الناظر"، ورأيت قراءتها كما أثبتها يقال: "عن الشيء يعن عننا وعنونا": عرض وظهر أمامك.
(2) الأثر: 11340 - في المخطوطة: "عن معمره"، وفي المطبوعة: عن معمر"، والصواب ما أثبته.
"عمر بن عبيد بن أبي أمية الطنافسي"، مضى برقم: 8979.
و"مغيرة"، هو"مغيرة بن مقسم الضبي"، مضى مرارا كثيرة، وروايته عن"إبراهيم النخعي"، دائرة في التفسير، وانظر الآثار التالية لهذا.
وقد مضى هذا الإسناد نفسه برقم: 8979.
(3) الأثر: 11345 -"هرون بن إسحق الهمداني" و"مصعب بن المقدام"، مضيا برقم: 3001.(10/26)
11346 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن إدريس، عن سعيد الزبيدي، عن إبراهيم، قال: يجزيك ما سال عليها من أن تخللها. (1)
11347 - حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن يونس، قال: كان الحسن إذا توضأ مسح لحيته مع وجهه.
11348 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن إدريس، قال، حدثنا هشام، عن الحسن، أنه كان لا يخلِّل لحيته.
11349 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا ابن المبارك، عن هشام، عن الحسن أنه كان لا يخلل لحيته إذا توضأ.
11350 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن الحسن، مثله.
11351 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، عن أشعث، عن ابن سيرين، قال، ليس غسلُ اللحية من السنة.
11352 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن عيسى بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن: أنه كان إذا توضأ لم يبلِّغ الماء في أصول لحيته.
11353 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن أبي شيبة سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي، قال: سألت إبراهيم: أخلِّل لحيتي عند الوضوء بالماء؟ فقال، لا إنما يكفيك ما مرَّت عليه يدك. (2)
11354 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء، فقال: قال المغيرة، قال إبراهيم: يكفيه ما سال من الماء من وجهه على لحيته.
__________
(1) الأثر: 11346، 11353 -"سعيد الزبيدي"، هو"سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي""أبو شيبة"، وثقه أبو داود، وابن حبان، وقال البخاري: "لا يتابع في حديثه".
مترجم في التهذيب وسيأتي في الأثر رقم: 11353.
(2) الأثر: 11346، 11353 -"سعيد الزبيدي"، هو"سعيد بن عبد الرحمن الزبيدي""أبو شيبة"، وثقه أبو داود، وابن حبان، وقال البخاري: "لا يتابع في حديثه".
مترجم في التهذيب وسيأتي في الأثر رقم: 11353.(10/27)
11355 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال، حدثنا حجاج بن رشدين قال، حدثنا عبد الجبار بن عمر: أن ابن شهاب وربيعة توضآ فأمرا الماء على لحاهما، ولم أر واحدا منهما خلّل لحيته.
11356 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت سعيد بن عبد العزيز، عن عَرْك العارضين في الوضوء، فقال: ليس ذلك بواجب، رأيت مكحولا يتوضأ فلا يفعل ذلك. (1)
11357 - حدثنا أبو الوليد أحمد بن عبد الرحمن القرشي، قال، حدثنا الوليد، قال، أخبرني سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن، قال، ليس عَرْك العارضين في الوضوء بواجب. (2)
11358 - حدثنا أبو الوليد، قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني إبراهيم بن محمد، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: يكفيه ما مرَّ من الماء على لحيته. (3)
11359 - حدثنا أبو الوليد القرشي، قال، حدثنا الوليد، قال، أخبرني ابن لهيعة، عن سليمان بن أبي زينب، قال، سألت القاسم بن محمد: كيف أصنع بلحيتي إذا توضأت؟ قال: لستُ من الذين يغسلون لحاهم. (4)
__________
(1) الأثر: 11356 -"أبو الوليد الدمشقي"، هو"أبو الوليد القرشي"، كما في الأثر: 11359، وهو: "أحمد بن عبد الرحمن بن بكار بن عبد الملك بن الوليد بن بسر بن أرطأة القرشي"، ويقال في نسبته"البسري"، نسبة إلى جده، ويقال"العامري"، لأنه من ولد"معيص بن عامر بن لؤي". ثقة صدوق. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 11357 -"سعيد بن بشير الأزدي"، مضى برقم: 126، 5439، 9632.
(3) الأثر: 11358 -"إبراهيم بن محمد" هو: "إبراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة"، "أبو إسحق الفزاري"، مضى برقم: 3833، 11285.
(4) الأثر: 11359 -"سليمان بن أبي زينب السبأي الشامي"، روى عنه سعيد بن أبي أيوب المصري. مترجم في الكبير 2/2/15، وابن أبي حاتم 2/1/118. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "سلمان بن أبي زينب"، وهو خطأ لا شك فيه.(10/28)
11360 - حدثنا أبو الوليد، قال، حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو: ليس عَرْك العارضين وتشبيك اللحية بواجب في الوضوء. (1)
* * *
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بَطَن من الفم والأنف.
11361 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن أبي بشير، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لولا التلمُّظ في الصلاة ما مضمضتُ. (2)
11362 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت عبد الملك يقول: سئل عطاء عن رجل صلى ولم يتمضمض، قال: ما لم يسَّم في الكتاب يجزئه.
11363 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: ليس المضمضة والاستنشاق من واجب الوضوء.
11364 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح، عن أبي سنان قال: كان الضحاك ينهانا عن المضمضة والاستنشاق في الوضوء في رمضان.
11365 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت هشامًا، عن الحسن قال: إذا نسى المضمضة والاستنشاق، قال: إن ذكر وقد دخل في الصلاة فليمض في صلاته. وإن كان لم يدخل تمضمض واستنشق.
__________
(1) "عرك اللحية": دلكها. وأما "تشبيك اللحية" فقلما تصيب صفته في كتب اللغة، وهو بين في الآثار. روى البيهقي في السنن 1: 55، عن ابن عمر: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ عرك عارضيه بعض العرك، ثم شبك لحيته بأصابعه من تحتها"، يعني أنه أنشب فيها أصابعه منفرجة، فشبكها فيها.
(2) الأثر: 11361 -"عبد الملك بن أبي بشير البصري"، روى عن عكرمة وعبد الله بن مساور، وغيرهما. روى عنه ليث بن أبي سليم، وسفيان الثوري، وزهير بن معاوية، وغيرهم ثقة. مترجم في التهذيب.
و"التلمظ": تحريك اللسان في الفم بعد الأكل، كأنه يتتبع بقية الطعام بين أسنانه.(10/29)
11366 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة قال: سألت الحكم وقتادة عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق، فقال: يمضي في صلاته.
* * *
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة: من أن الأذنين ليستا من الوجه.
11367 - حدثني يزيد بن مخلد الواسطي قال، حدثنا هشيم، عن غيلان قال: سمعت ابن عمر يقول: الأذنان من الرأس. (1)
11368 - حدثنا عبد الكريم بن أبي عمي، قال، حدثنا أبو مطرف [....] قال، حدثنا غيلان مولى بني مخزوم، قال: سمعت ابن عمر يقول: الأذنان من الرأس. (2)
11369 - حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس، فإذا مسحت الرأس فامسحهما.
__________
(1) الأثر: 11367 -"يزيد بن مخلد الواسطي"، "أبو خداش"، روى عن هشيم، وبشر بن مبشر. روى عنه إبراهيم بن يوسف الهسنجاني، وعلي بن الحسين بن الجنيد. مترجم في ابن أبي حاتم 4/2/291.
"غيلان" هو: "غيلان بن عبد الله الواسطي" مولى قريش (مولى بني مخزوم) . سمع ابن عمر. سمع منه شعبة وهشيم. روى ابن أبي حاتم، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: "سمعت أبي يقول: غيلان بن عبد الله مولى قريش، الذي حدثنا عنه هشيم، روى عنه شعبة، هو أحب إلي من سهيل بن ذكوان". مترجم في الكبير 4/1/105، وابن أبي حاتم 3/2/53. ثم انظر ذكره في الآثار الآتية: 11368، 11370.
(2) الأثر: 11368 -"عبد الكريم بن أبي عمير الدهان - أو الدهقان"، شيخ الطبري.
مضى برقم: 7578. و"أبو مطرف"، المعروف بذلك هو"ابن أبي الوزير": "محمد بن عمر بن مطرف الهاشمي"، روى عن شريك وهشيم وغيرهما، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/178، وابن أبي حاتم 4/1/20.
وقد وضعت نقطا بعده، لأني أرجح أنه روى ذلك عن"هشيم"، كما في الأثر السالف، والأثر: 11370، فإن مدار هذا الخبر على"هشيم، عن غيلان".
وانظر"غيلان، مولى بني مخزوم"، في التعليق على الأثر السالف.(10/30)
11370 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرني غيلان بن عبد الله مولى قريش، قال: سمعت ابن عمر سأله سائل قال: إنه توضأ ونسي أن يمسح أذنيه، قال فقال ابن عمر: الأذنان من الرأس. ولم ير عليه بأسا. (1)
11371 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد= ح، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= جميعا، عن سفيان، عن سالم أبي النضر، عن سعيد بن مرجانة، عن ابن عمر، أنه قال: الأذنان من الرأس.
11372 - حدثني ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن رجل، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس.
11373 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن يوسف بن مهران، عن ابن عباس قال: الأذنان من الرأس. (2)
11374 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا الأذنان من الرأس.
11375 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة قال: الأذنان من الرأس= عن الحسن وسعيد.
__________
(1) الأثر: 11370 -"غيلان بن عبد الله، مولى قريش"، انظر التعليق على الأثرين السالفين.
(2) الأثر: 11373 -"علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة بن زهير بن عبد الله بن جدعان"، أو: "علي بن زيد بن جدعان" منسوبا إلى جده. مضى برقم: 40، 4897، 6495، 9293، 10275.
و"يوسف بن مهران البصري"، روى عن ابن عباس، وابن عمر، وجابر. روى عنه علي بن زيد بن جدعان قال أحمد: "لا يعرف، ولا أعرف أحدا روى عنه إلا علي بن زيد". وقال ابن سعد: "ثقة قليل الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/375، وابن سعد 7/1/161، وابن أبي حاتم 4/2/229.(10/31)
11376 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني أبو عمرو، عن يحيى بن أبي كثير، عن ابن عمر قال: الأذنان من الرأس.
11377 - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي النضر، عن ابن عمر، مثله. (1)
11378 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عيسى بن يزيد، عن عمرو، عن الحسن قال، الأذنان من الرأس.
11379 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة= أو: عن أبي هريرة، شك ابن بزيع=: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأذنان من الرأس.
11380 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معلى بن منصور، عن حماد بن زيد، عن سنان بن ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة قال: الأذنان من الرأس= قال حماد: لا أدري هذا عن أبي أمامة أو: عن النبي صلى الله عليه وسلم.
11381 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال، حدثني حماد بن زيد قال، حدثني سنان بن ربيعة أبو ربيعة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الأذنان من الرأس. (2)
__________
(1) الأثران 11376، 11377 -"أبو الوليد الدمشقي" هو: "أحمد بن عبد الرحمن القرشي"، وانظر الآثار السالفة: 11356 - 11360.
(2) الآثار: 11379 - 11381 -"معلى بن منصور الرازي"، في الإسناد الثاني، روى عن مالك، ومحمد بن ميمون الزعفراني، وحماد بن زيد، وهشيم، وغيرهم. روى عنه البخاري، وذكره في الكبير، ولم يذكر فيه جرحا. ووثقه ابن معين، وأبو حاتم وابن حبان وغيرهم. وقد تكلموا فيه. مترجم في التهذيب.
و"سنان" بن ربيعة الباهلي، أبو ربيعة صاحب السابرى"، روى عن أنس، وشهر بن حوشب، وغيرهما. روى عنه الحمادان. قال ابن معين: "ليس بالقوي"، وقال أبو حاتم: "شيخ مضطرب الحديث". وذكره ابن حبان في الثقات. روى له البخاري مقرونا بغيره في الصحيح.
و"شهر بن حوشب الأشعري"، تابعي، وثقه أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: 1489، 5244، 6650 - 6652.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 5: 258، 264، 268. مطولا، وأبو داود في سننه 1: 68، رقم: 134، وابن ماجه 1: 152، رقم: 444، والبيهقي في السنن 1: 66، 67، والترمذي في السنن (شرح أخي السيد أحمد) 1: 53 - 55، به بنحوه. وقال: "وقد أطال العلماء البحث في هذه الكلمة، وهل هي مدرجة من كلام أبي أمامة أو مرفوعة؟ ورجح كثير منهم الإدراج. انظر التلخيص (ص: 33) ، ونصب الراية (1: 10 - 12) ، والراجح عندي أن الحديث صحيح. فقد روي من غير وجه بأسانيد بعضها جيد، ويؤيد بعضها بعضا"، ثم أفاض في الكلام فيه.
وأما شك بن بزيع -في الأثر الأول- فالظاهر أنه خطأ من ابن بزيع، وأن الصواب أنه عن أبي أمامة، لا عن أبي هريرة، وسيأتي خبر أبي هريرة بعد، رقم: 11383.(10/32)
11382 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني ابن جريج وغيره، عن سليمان بن موسى: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الأذنان من الرأس. (1)
11383 - حدثنا الحسن بن شبيب، قال، حدثنا علي بن هاشم بن البريد قال، حدثنا إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأذنان من الرأس. (2)
11384 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن يونس: أن الحسن قال: الأذنان من الرأس.
* * *
وقال آخرون:"الوجه" كل ما دون منابت شعر الرأس إلى منقطع الذَّقَن
__________
(1) الأثر: 11382 -"سليمان بن موسى الأموي"، أبو هشام الأشدق، فقيه أهل الشام في زمانه. ثقة ثبت، ولكنه يروي أحاديث ينفرد بها لا يرويها غيره. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر مرسل، وإن كان سليمان بن موسى قد روى عن أبي أمامة.
(2) الأثر: 11383 -"الحسن بن شبيب بن راشد بن مطر"، أبو علي المؤدب، شيخ الطبري مضى برقم: 9642، وهو ليس بالقوي.
و"علي بن هاشم بن البريد البريدي العائذي". له في مسلم حديثان. روى عنه جماعة من الأئمة، ووثقوه وضعفه بعضهم. مترجم في التهذيب.
و"إسمعيل بن مسلم المكي"، مضى توثيقه، برقم: 5417.
وروى ابن ماجه 1: 152، رقم: 445، خبر أبي هريرة، من طريق عمرو بن الحصين، عن محمد بن عبد الله بن علاثة، عن عبد الكريم الجزري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة. وقد ضعفوه، لضعف عمرو بن الحصين، ومحمد بن عبد الله بن علاثة.(10/33)
طولا ومن الأذن إلى الأذن عرضا، ما ظهر من ذلك لعين الناظر، وما بَطَن منه من منابت شعر اللحية النابت على الذَّقَن وعلى العارضين، وما كان منه داخل الفم والأنف، وما أقبل من الأذنين على الوجه. كل ذلك عندهم من"الوجه" الذي أمر الله بغسله بقوله:"فاغسلوا وجوهكم". وقالوا: إن ترك شيئا من ذلك المتوضِّئ فلم يغسله لم تُجْزِه صلاته بوضوئه ذلك.
ذكر من قال ذلك:
11385 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني محمد بن بكر وأبو عاصم قالا أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان يبُلّ أصول شعر لحيته، ويغلغِل بيده في أصول شعرها حتى يَكثر القَطَرانُ منها. (1)
11386 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج قال، أخبرني نافع مولى ابن عمر: أن ابن عمر كان يغلغل يديه في لحيته حتى يَكثر منها القَطَران. (2)
11387 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن سعيد قال، حدثنا ليث، عن نافع، عن ابن عمر: كان إذا توضأ خلَّل لحيته حتى يبلغ أصول الشعر.
11388 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا معلى بن جابر اللقيطي قال، أخبرني الأزرق بن قيس قال: رأيت ابن عمر توضأ فخلَّل لحيته. (3)
__________
(1) في المطبوعة في الأثرين جميعا"حتى تكثر القطرات"، والصواب من المخطوطة.
"قطر الماء يقطر قطرا وقطورا وقطرانا": سال وتتابع.
(2) في المطبوعة في الأثرين جميعا"حتى تكثر القطرات"، والصواب من المخطوطة.
"قطر الماء يقطر قطرا وقطورا وقطرانا": سال وتتابع.
(3) الأثر: 11388 -"يزيد"، هو"يزيد بن زريع"، مضى مرارا.
و"معلى بن جابر مسلم اللقيطي"، وثقه ابن حبان، ولم يذكر البخاري فيه جرحا. مترجم في الكبير 4/1/394، وابن أبي حاتم 4/1/332، وتعجيل المنفعة: 409.
و"الأزرق بن قيس الحارثي"، ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/69، وابن أبي حاتم 1/1/339.(10/34)
11389 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ليث، عن نافع: أن ابن عمر كان يخلّل لحيته بالماء حتى يبلغ أصول الشعر.
11390 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، حدثنا ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عبيد بن عمير: أن أباه عبيد بن عمير كان إذا توضأ غَلغل أصابعه في أصول شعر الوجه يغلغلها بين الشعر في أصوله، يدلك بأصابعه البشرة= فأشار لي عبد الله كما أخبره الرجل، كما وصف عنه. (1)
11391 - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، حدثنا أبو عمرو، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ عرَك عَارضيه بعض العرك، وشبَّك لحيته بأصابعه أحيانا ويترك أحيانًا. (2)
11392 - حدثنا أبو الوليد وعلي بن سهل قالا حدثنا الوليد قال، قال أبو عمرو، وأخبرني عبدة، عن أبي موسى الأشعري، نحو ذلك.
11393 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مسلم قال: رأيت ابن أبي ليلى توضأ فغسل لحيته، وقال: من استطاع منكم أن يُبْلغ الماء أصولَ الشعر فليفعل.
11394 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج، عن عطاء قال: حقٌّ عليه أن يبل أصول الشعر.
11395 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: كان مجاهد يخلِّل لحيته.
__________
(1) الأثر: 11390 -"محمد بن بكر بن عثمان البرساني"، مضى برقم: 5438.
وأما قوله: "كما أخبره الرجل. كما وصف عنه" فإني في شك منها، ولكن هكذا جاءت في المخطوطة أيضا.
(2) الأثر: 11391 - رواه البيهقي في السنن 1: 55، من طريق عبد الواحد بن قيس، عن نافع، بمثله. وانظر تفسير"تشبيك اللحية" فيما سلف ص: 29، تعليق: 1، في الأثر: 11360.(10/35)
11396 - حدثنا حميد قال، حدثنا سفيان، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد: أنه كان يخلِّل لحيته إذا توضأ.
11397 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
11398 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
11399 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو داود الحفري، عن سفيان، عن ابن شبرمة، عن سعيد بن جبير قال: ما بال اللحية تغسل قبل أن تنبت فإذا نبتت لم تغسَل؟ (1)
11400 - حدثنا ابن المثني، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يخلل لحيته إذا توضأ.
11401 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ليث، عن طاوس: أنه كان يخلِّل لحيته.
11402 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن ابن سيرين: أنه كان يخلل لحيته.
11403 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن هشام، عن ابن سيرين، مثله.
11404 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، سألت شعبة عن تخليل اللحية في الوضوء، فذكر عن الحكم بن عتيبة: أن مجاهدا كان يخلل لحيته.
__________
(1) الأثر: 11399 -"أبو داود الحفري"، (بالحاء المهملة) هو: "عمر بن سعد بن عبيد"، مضى برقم: 863.(10/36)
11405 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا هارون، عن عمرو عن معروف، قال، رأيت ابن سيرين توضأ فخلل لحيته.
11406 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، مثله.
11407 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن الزبير بن عدي، عن الضحاك قال: رأيته يخلل لحيته.
11408 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن أبي الأشهب، عن موسى بن أبي عائشة، عن زيد الخدري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك قال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم توضأ فخلَّل لحيته، فقلت: لم تفعل هذا يا نبي الله؟ قال:"أمرني بذلك ربيِّ". (1)
11409 - حدثنا تميم قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن سلام بن سَلْم، عن
__________
(1) الأثر: 11408 -"محمد بن يزيد الكلاعي"، الواسطي، روى عن إسمعيل بن أبي خالد، وأبي الأشهب جعفر بن حيان السعدي، وغيرهما. روى عنه أحمد، وابن معين، وغيرهما من الأئمة. قال أحمد: "كان ثبتا في الحديث". مترجم في التهذيب.
و"أبو الأشهب" هو: "جعفر بن حيان السعدي العطاردي"، روى عن أبي رجاء العطاردي، والحسن البصري، وغيرهما. ثقة مترجم في التهذيب.
"وموسى بن أبي عائشة المخزومي"، روى عبد الله بن شداد بن الهاد، وعمرو بن الحارث، وسعيد بن جبير، روى عنه شعبة والسفيانان وغيرهم. ثقة مترجم في التهذيب.
وأما "زيد الخدري"، فلم أجد له ترجمة، ولم أعرف من يكون. وأخشى أن يكون في الإسناد خلط، أو أن يكون في هذا الاسم تحريف.
وأما "يزيد الرقاشي"، فهو: "يزيد بن أبان الرقاشي"، ضعيف مضى برقم: 6654، 6728، 7757.
وستأتي رواية هذا الخبر عن يزيد الرقاشي عن أنس، في رقم: 11409، 11411.
ومدار هذا الخبر على يزيد الرقاشي، فهو إسناد ضعيف.
وهذا الخبر رواه ابن ماجه في سننه 1: 149، رقم: 431 من طريق يحيى بن كثير، أبو النضر، صاحب البصري، عن يزيد الرقاشي، عن أنس، بغير هذا اللفظ. ورواه الحاكم في المستدرك مرسلا عن أنس، من طريق موسى بن أبي عاشة أيضا عن أنس. وأشار إليه البيهقي في السنن 1: 54.(10/37)
زيد العمي، عن معاوية بن قرة= أو: يزيد الرقاشي= عن أنس، قال: وضّأت النبي صلى الله عليه وسلم، فأدخل أصابعه من تحت حَنَكه، فخلَّل لحيته، وقال: بهذا أمرني ربي جل وعز". (1)
11410 - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي، قال، حدثنا المحاربي، عن سلام بن سَلْم المديني، قال، حدثنا زيد العمي، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (2)
11411 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا أبو عبيدة الحداد، قال حدثنا موسى بن ثروان، عن يزيد الرقاشي، عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هكذا أمرني ربي"! وأدخل أصابعه في لحيته، فخلَّلها (3)
__________
(1) الأثر: 11409 - طريق أخرى، لخبر يزيد الرقاشي، عن أنس.
و"سلام بن سلم المدائني" ويقال: "سلامة بن سليم"، "وابن سليمان"، والصواب الأول، هو"سلام الطويل"، أكثر روايته عن"زيد العمي". وروى عنه عبد الرحمن بن محمد المحاربي. قال أحمد: "روى أحاديث منكرة". وقال البخاري: "تركوه"، وقال النسائي: "ليس بثقة، ولا يكتب حديثه". مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "سلام بن سليم"، وأثبت ما في المخطوطة.
و"زيد العمي" هو"زيد بن الحواري"، قاضي هراة. روى عن أنس، وسعيد بن المسيب، وعكرمة، والحسن، ومعاوية بن قرة وغيرهم. متكلم فيه. مترجم في التهذيب.
و"معاوية بن قرة المزني"، أبو إياس، تابعي ثقة، كان من عقلاء الرجال. مترجم في التهذيب.
وهذا الحديث ضعيف لضعف سلام بن سلم.
و"الحنك": ما تحت الذقن من الإنسان وغيره.
(2) الأثر: 11410 -"محمد بن إسمعيل الأحمسي" شيخ الطبري، مضى برقم: 405، 718، 9155.
و"المحاربي"، هو"عبد الرحمن بن محمد بن زياد"، ثقة. مضى برقم: 221، 875.
و"سلام بن سلم المديني"، هو الذي مضى في الأثر السالف، ونسب في المراجع"المدائني".
وكان في المخطوطة هنا: "سلم بن سلام المديني"، وهو سهو من الناسخ لا شك فيه.
وهذا أيضا ضعيف الإسناد، كالذي قبله.
(3) الأثر: 11411 - هو مكرر الأثرين السالفين: 11408، 11409، من طريق أخرى.
"أبو عبيدة الحداد" هو: "عبد الواحد بن واصل السدوسي"، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى برقم: 3023، 9837.
"موسى بن ثروان العجلي" (بالثاء المثلثة) ، ويقال: "موسى بن سروان"، و"موسى بن فروان" (بالفاء) . ثقة. مترجم في التهذيب والكبير 4/1/281، وابن أبي حاتم 4/1/138.
وكان في المخطوطة والمطبوعة"شروان" (بالشين المعجمة) ، وهو خطأ.
وهذا الخبر ضعيف، لضعف يزيد الرقاشي.(10/38)
11412 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا معاوية بن هشام وعبيد الله بن موسى، عن خالد بن إلياس، عن عبد الله بن رافع، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ، فخلّل لحيته. (1)
11413 - حدثنا علي بن الحسين بن الحر، قال، حدثنا محمد بن ربيعة، عن واصل بن السائب، عن أبي سورة، عن أبي أيوب، قال: رأينا النبي صلى الله عليه وسلم توضأ، وخلّل لحيته. (2)
__________
(1) الأثر: 11412 -"معاوية بن هشام" و"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، مضيا مرارا كثيرة.
و"خالد بن إلياس بن صخر القرشي العدوي، المدني"، من ولد عامر بن لؤي. قال البخاري: "ليس بشيء". وقال أحمد: "متروك الحديث". مترجم في ميزان الاعتدال للذهبي 1: 295، والكبير للبخاري 2/1/129، وابن أبي حاتم 1/2/321.
و"عبد الله بن رافع المخزومي"، مولى أم سلمة، تابعي ثقة. مضى برقم: 5398.
وهذا الخبر خرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 235، وقال: "رواه الطبراني في الكبير.
وفيه: خالد بن إلياس، ولم أر من ترجمه". فقصر، فقد ذكرنا من ترجمه قبل.
(2) الأثر: 11413 -"علي بن الحسين بن الحر" هو"علي بن الحسين بن إبراهيم بن الحر بن زعلان" المعروف بابن أشكاب الأكبر، ثقة، مترجم في تاريخ بغداد 11: 392، وابن أبي حاتم 3/1/179.
و"محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي"، ثقة، مضى برقم: 181، 6860.
و"واصل بن السائب الرقاشي"، قال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال البخاري: "منكر الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/173، وابن أبي حاتم 4/2/30.
و"أبو سورة"، ابن أخي أبي أيوب الأنصاري. قال البخاري: "منكر الحديث، يروي عن أبي أيوب مناكير لا يتابع عليها". وقال الترمذي في العلل عن البخاري: "لا يعرف لأبي سورة سماع من أبي أيوب". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/2/388.
وهذا خبر ضعيف، لضعف واصل بن السائب، وأبي سورة.
رواه ابن ماجه في السنن 1: 149، رقم: 433، من طريق إسمعيل بن عبد الله الرقي عن محمد بن ربيعة، به، نحوه، وضعفه الزيلعي في نصب الراية 1: 24.
وسيأتي هذا الخبر بإسناد آخر رقم: 11418.(10/39)
11414 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عمر بن سليمان، عن أبي غالب، عن أبي أمامة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم خلّل لحيته". (1)
11415 - حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال، حدثنا سفيان، عن عبد الكريم أبي أمية: أن حسان بن بلال المزني رأى عمار بن ياسر توضأ وخلل لحيته، فقيل له: أتفعل هذا، فقال: إني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعله. (2)
__________
(1) الأثر: 11414 -"زيد بن حباب العكلي"، ثقة. مضى برقم: 2185، 5350، 8165. وكان في المطبوعة: "زيد بن حبان"، وهو خطأ محض.
و"عمر بن سليمان"، هكذا جاء في المطبوعة، وفي نصب الراية: "عمر بن سليمان الباهلي"، وفي المخطوطة"عمرو بن سليمان". ولا أدري كيف اتفق ذلك في التفسير، وفي نصب الراية، نقلا عن الطبراني في معجمه، وابن أبي شيبة في مصنفه!! فإنه يكاد يكون من المقطوع به أنه"عمر بن سليم الباهلي"، فهو الذي يروي عن أبي غالب، صاحب أبي أمامة، وهو الذي يروي عنه زيد بن الحباب، كما في ترجمته في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/112، 113. قال أبو زرعة: "صدوق"، وذكره ابن حبان في الثقات. فلا أدري أجائز أن يكون فاتهم أن في اسم أبيه اختلافا: "سليم "أو" سليمان"؟
و"أبو غالب" صاحب أبي أمامة، معروف بكنيته، قال ابن معين: "صالح الحديث"، وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحح بعضها، وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج به إلا فيما وافق الثقات". وضعفه بعضهم. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر خرجه الزيلعي في نصب الراية 1: 25، فقال: "رواه الطبراني في معجمه، وابن أبي شيبة في مصنفه، والطبراني: حدثنا عنبسة بن غنام، قال حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا زيد بن الحباب، حدثنا عمر بن سليمان الباهلي، عن ابن غالب (والصواب: عن أبي غالب) ، عن أبي أمامة ... ". الحديث.
وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 235، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه الصلت ابن دينار، وهو متروك". فهذا إسناد آخر للطبراني، فيما يظهر، غير الذي خرجه الزيلعي في نصب الراية.
(2) الأثر: 11415 -"محمد بن عيسى الدامغاني"، شيخ الطبري، مضى برقم: 3225. و"سفيان" هو ابن عيينة.
و"عبد الكريم أبو أمية" هو"عبد الكريم بن أبي المخارق"، روى عن أنس بن مالك، وطاوس وحسان بن بلال، وغيره. وهو ضعيف، متكلم فيه. وأنكر البخاري وابن عيينة سماع عبد الكريم من حسان بن بلال حديث التخليل. مترجم في التهذيب.
و"حسان بن بلال المزني" روى عن عمار بن ياسر. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر رواه ابن ماجه 1: 148، رقم: 429، والحاكم في المستدرك 1: 149، وأبو داود الطيالسي رقم: 645، والترمذي في السنن 1: 44 (شرح أخي السيد أحمد) ، وقد استوفى أخي الكلام فيه هناك. وانظر أيضا نصب الراية للزيلعي 1: 24.(10/40)
11416 - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، حدثنا أبو عمرو قال، أخبرني عبد الواحد بن قيس، عن يزيد الرقاشي وقتادة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان إذا توضأ عَرك عارضيه، وشبك لحيته بأصابعه. (1)
11417 - حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا الوليد قال، أخبرني أبو مهدي سعيد بن سنان، عن أبي الزاهرية، عن جبير بن نفير، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (2)
11418 - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال، حدثنا محمد بن عبيد الطنافسي أبو عبد الله قال، حدثني واصل الرقاشي، عن أبي سودة= هكذا قال
__________
(1) الأثر: 11416 -"أبو الوليد": هو: "أحمد بن عبد الرحمن القرشي"، انظر ما مضى في التعليقات على الآثار: 11356 - 11360.
و"الوليد"، هو"الوليد بن مسلم"، انظر ما سلف أيضا.
و"عبد الواحد بن قيس السلمي" الأفطس النحوي. روى عن أبي أمامة، ونافع مولى ابن عمر، ويزيد الرقاشي. وروى عنه أبو عمرو الأوزاعي. تكلموا فيه. مترجم في التهذيب.
وانظر تفسير"تشبيك اللحية" فيما سلف: 11360، 11391.
(2) الأثر: 11417 -"أبو مهدي"، "سعيد بن سنان الحنفي"، روى عن أبيه، وأبي الزاهرية، وغيرهما. روى عنه بشر بن بكر التنيسي، وابن المبارك، والوليد بن مسلم، وغيرهم، قال أحمد: "ضعيف"، وقال ابن معين: "ليس بثقة". وقال الجوزجاني: "أخاف أن تكون أحاديثه موضوعة، لا تشبه أحاديث الناس". وقال مسلم في الكنى: "منكر الحديث". مترجم في التهذيب.
و"أبو الزاهرية"، هو: "حدير بن كريب الحضرمي"، روى عن حذيفة، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عمرو بن العاص. ثقة. مضى برقم: 11255.
و"جبير بن نفير الحضرمي"، ثقة من كبار التابعين، كان جاهليا. مضى برقم: 7009. وهذا الخبر مرسل.(10/41)
الأحمسي= عن أبي أيوب قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا توضأ تمضمض ومسح لحيته من تحتها بالماء. (1)
* * *
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة في غسل ما بَطن من الأنف والفم.
11419 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح قال، سمعت مجاهدا يقول: الاستنشاق شَطْر الوضوء.
11420 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة قال: سألت حمادا عن رجل ذكر وهو في الصلاة أنه لم يتمضمض ولم يستنشق، قال حماد: ينصرف فيتمضمض ويستنشق.
11421 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح، عن أبي سنان قال: قدمت الكوفة فأتيت حمادا فسألته عن ذلك= يعني: عمن ترك المضمضة والاستنشاق وصلى= فقال: أرى عليه إعادة الصلاة.
11422 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة قال: كان قتادة يقول: إذا ترك المضمضة أو الاستنشاق أو أذنه أو طائفة من رجله حتى يدخل في صلاته، فإنه ينفتِلُ ويتوضأ، ويعيد صلاته. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 11418 -"محمد بن إسمعيل الأحمسي"، مضى قريبا رقم: 11410.
و"محمد بن عبيد الطنافسي" أبو عبد الله الأحدب، ثقة معروف، مضى برقم: 405، 9155.
و"واصل الرقاشي"، هو: "واصل بن السائب الرقاشي"، مضى برقم: 11413.
و"أبو سودة"، إنما هو"أبو سورة" (بالراء) كما سلف في رقم: 11413، وإنما قال ذلك محمد بن إسمعيل الأحمسي، شيخ الطبري، وأخطأ. وكان في المطبوعة"أبو سورة" بالراء، وهو تصحيح لا معنى له. والصواب من المخطوطة، وإن كان خطأ على الحقيقة.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 417، عن محمد بن عبيد الطنافسي، بمثله، مطولا.
وهو ضعيف الإسناد، كأخيه السالف رقم: 11413.
(2) في المطبوعة: "فإنه ينتقل"، وهو خطأ محض، وهو في المخطوطة كما أثبته غير منقوط.
يقال، "انفتل فلان عن صلاته، أو من صلاته"، أي: انصرف. ويقال: "فتل وجهه عن القوم": صرفه ولفته.(10/42)
ذكر من قال ما حكينا عنه من أهل هذه المقالة من أن ما أقبل من الأذنين فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس.
11423 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي، قال: ما أقبل من الأذنين فمن الوجه، وما أدبر فمن الرأس.
11424 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني شعبة، عن الحكم وحماد، عن الشعبي في الأذنين: باطنهما من الوجه، وظاهرهما من الرأس.
11425 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن الشعبي قال: مقدَّم الأذنين من الوجه، ومؤخَّرهما من الرأس.
11426 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم وحماد، عن الشعبي بمثله= إلا أنه قال: باطن الأذنين.
11427 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي بمثله، إلا أنه قال: باطن الأذنين.
11428 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن الشعبي، بمثله.
11429 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، قال: باطن الأذنين من الوجه، وظاهرهما من الرأس.
11430 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا أبو تميلة= ح، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية= قالا جميعا، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن عبيد الله الخولاني، عن ابن(10/43)
عباس قال: قال علي بن أبي طالب: ألا أتوضأ لكم وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال قلنا: نعم! فتوضأ، فلما غسل وجهه، ألقَم إبهاميه ما أقبل من أذنيه. قال: ثم لما مسح برأسه مسح أذنيه من ظهورهما (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندنا قولُ من قال:"الوجه" الذي أمر الله جل ذكره بغسله القائمَ إلى صلاته: كل ما انحدر عن منابت شَعَر الرأس إلى مُنقطع الذَّقَن طولا وما بين الأذنين عرضا مما هو ظاهر لعين الناظر، دون ما بطن من الفم والأنف والعين، ودون ما غطاه شعر اللحية والعارضين والشاربين فستره عن أبصار الناظرين، ودون الأذنين.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب= وإن كان ما تحت شعر اللحية والشاربين قد كان"وجها" يجب غسله قبل نبات الشعر الساتر عن أعين الناظرين على القائم إلى صلاته= لإجماع جميعهم على أن العينين من الوجه، ثم هم -مع إجماعهم على ذلك- مجمعون على أن غسلَ ما علاهما من أجفانهما دون إيصال الماء إلى ما تحت الأجفان منهما مجزئ.
فإذْ كان ذلك منهم إجماعا بتوقيف الرسول صلى الله عليه وسلم أمته على ذلك، فنظير ذلك كل ما علاه شيء من مواضع الوضوء من جسد ابن آدم من نفس خلقه ساتِرَه لا يصل الماء إليه إلا بكلفة ومؤنة وعلاج، قياسا لما ذكرنا من حكم العينين في ذلك.
__________
(1) الأثر: 11430 -"محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة". ثقة، مضى برقم: 11329.
و"عبيد الله الخولاني"، هو"عبيد الله بن الأسود"، ويقال: "عبيد الله بن الأسد" ربيب ميمونة، روى عنها، وعن ابن عباس. ثقة.
وهذا الخبر رواه أبو داود في السنن 1: 64، رقم: 117، ورواه أحمد في المسند رقم: 625، مطولا، وقد ضعف البخاري هذا الحديث وقال: "ما أدري ما هذا"، ولكن أخي السيد أحمد صححه في شرح هذا الخبر في المسند.(10/44)
فإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن مثلَ العينين في مؤنة إيصال الماء إليهما عند الوضوء ما بطن من الأنف والفم وشَعَر اللحية والصدغين والشاربين، لأن كل ذلك لا يصل الماء إليه إلا بعلاجٍ لإيصال الماء إليه نحو كلفة علاج الحدقتين لإيصال الماء إليهما أو أشدّ.
وإذا كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أن غسل مَنْ غسل من الصحابة والتابعين ما تحت منابت شعر اللحية والعارضين والشاربين، وما بطن من الأنف والفم، إنما كان إيثارًا منه لأشق الأمرين عليه: من غسل ذلك وترك غسله، كما آثر ابن عمر غسل ما تحت أجفان العينين بالماء بصبِّه الماء في ذلك= لا على أنّ ذلك كان عليه عنده فرضا واجبا. فأما من ظنّ أن ذلك من فعلهم كان على وجه الإيجاب والفرض، فإنه خالف في ذلك بقوله منهاجَهم وأغفل سبيلَ القياس، لأن القياس هو ما وصفنا من تمثيل المختلف فيه من ذلك، بالأصل المجمع عليه من حكم العينين= وأنْ لا خبر عن واحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجب على تارك إيصال الماء في وضوئه إلى أصول شعر لحيته وعارضيه، وتارك المضمضة والاستنشاق إعادةَ صلاته إذا صلى بطهره ذلك. ففي ذلك أوضح الدليل على صحة ما قلنا من أن فعلهم ما فعلوا من ذلك كان إيثارا منهم لأفضل الفعلين من الترك والغسل.
فإن ظن ظان أن في الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
11431 - "إذا توضأ أحدكم فليستنثر". (1)
=دليلا على وجوب الاستنثار، فإن في إجماع الحجة على أن ذلك غيرُ فرض واجب، يجب على من تركه إعادة الصلاة التي صلاها قبل غسله، ما يغني عن إكثار القول فيه.
* * *
__________
(1) الأثر: 11431 - هذا خبر لم يذكر إسناده، وانظر مثل لفظه في البخاري (فتح 1: 229) .(10/45)
وأما الأذنان فإن في إجماع جميعهم على أن ترك غسلهما، أو غسل ما أقبل منهما مع الوجه، غيُر مفسد صلاةَ من صلى بطهره الذي ترك فيه غسلهما= مع إجماعهم جميعا على أنه لو ترك غسل شيء مما يجب عليه غسله من وجهه في وضوئه أن صلاته لا تجزئه بطهوره ذلك= ما ينبئ عن أنّ القول في ذلك ما قاله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي ذكرنا قولهم: (1) إنهما ليسا من الوجه= دون ما قاله الشعبي.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"المرافق"، هل هي من اليد الواجب غسلها، أم لا؟ بعد إجماع جميعهم على أن غسل اليد إليها واجب.
فقال مالك بن أنس= وسئل عن قول الله:"فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق" أترى أن يخلف المرفقين في الوضوء؟ = قال: الذي أمر به أن يُبْلغ"المرفقين"، قال تبارك وتعالى:"فاغسلوا وجوهكم" فذهب هذا يغسل خلفه!! (2) فقيل له: فإنما يغسل إلى المرفقين والكعبين لا يجاوزهما؟ فقال، لا أدري"ما لا يجاوزهما" أما الذي أمر به أن يبلغ به فهذا: إلى المرفقين والكعبين= حدثنا يونس، عن أشهب عنه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ما ينبئ عن القول في ذلك مما قاله أصحاب رسول الله ... "، وهو مضطرب، وفي المخطوطة مثله، إلا أنه كتب"ما قاله أصحاب رسول الله ... "، وصواب السياق يقتضي أن يكون: "ما ينبئ عن أن القول ... " بزيادة"أن".
(2) في المطبوعة: "مذهب هذا يغسل خلفه"، وقد استشكلها ناشر المطبوعة الأولى، وحق له. وهي في المخطوطة مثلها سيئة الكتابة، وصوابها"فذهب"، وهذه الجملة، تعجب ممن قيل له: "فاغسلوا وجوهكم"، فراح يغسل ما خلف الوجه، أي القفا.(10/46)
وقال الشافعي: لم أعلم مخالفا في أن المرافق فيما يغسل"، كأنه يذهب إلى أن معناها: فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى أن تُغْسَل المرافق= حدثنا بذلك عنه الربيع. (1)
* * *
وقال آخرون: إنما أوجب الله بقوله:"وأيديكم إلى المرافق" غسلَ اليدين إلى المرفقين، فالمرفقان غايةٌ لما أوجب الله غسله من آخر اليد، والغاية غير داخلة في الحدِّ، كما غير داخل الليلُ فيما أوجب الله تعالى على عباده من الصوم بقوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) [سورة البقرة: 187] لأن الليل غاية لصوم الصائم، إذا بلغه فقد قضى ما عليه. قالوا: فكذلك المرافق في قوله:"فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق" غاية لما أوجب الله غسلَه من اليد. وهذا قول زُفَر بن الهذيل. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن غسل اليدين إلى المرفقين من الفرض الذي إن تركه أو شيئا منه تارك، لم تجزه الصلاة مع تركه غسلَه. فأما المرفقان وما وراءهما، فإن غسل ذلك من الندب الذي ندبَ إليه صلى الله عليه وسلم أمته بقوله:
11432 - "أمتي الغرُّ المحجلون من آثار الوضوء، فمن استطاع منكم أن يُطيل غُرَّته فليفعل". (3)
__________
(1) هذا كله نص الشافعي في الأم 1: 22، إلا أن فيه: "كأنهم ذهبوا إلى أن معناها ... "
(2) "زفر بن الهذيل بن قيس العنبري"، أبو الهذيل، صاحب أبي حنيفة. كان من أصحاب الحديث، ثم غلب عليه الرأي، فكان من أصحاب أبي حنيفة.
(3) هذا حديث صحيح، لم يذكر إسناده، ورواه البخاري (الفتح 1: 207، 208) ولفظه: "إن أمتي يدعون يوم القيامة غرا محجلين"، بمثله.
و"الغر" جمع"أغر"، أي ذو غرة (بضم الغين وتشديد الراء) ، وهي لمعة بيضاء، تكون في جبهة الفرس، وأراد بذلك النور الذي يكون في وجوه أهل الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، واهتدوا بهديه.
و"المحجلون" من"التحجيل"، وهو بياض يكون في ثلاث قوائم من قوائم الفرس. وهذه سيما المؤمنين الذين اتبعوه صلى الله عليه وسلم يوم القيامة.(10/47)
=فلا تفسد صلاة تاركِ غسلِهما وغسل ما وراءهما، لما قد بينا قبلُ فيما مضى: من أن كل غاية حُدَّت بـ"إلى" فقد تحتمل في كلام العرب دخول الغاية في الحدّ وخروجها منه. وإذا احتمل الكلام ذلك لم يجز لأحد القضاء بأنها داخلة فيه، إلا لمن لا يجوز خلافه فيما بيَّن وحَكم، ولا حُكم بأن المرافق داخلة فيما يجب غسله عندنا= ممن يجب التسليم بحكمه.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة"المسح" الذي أمر الله به بقوله:"وامسحوا برءوسكم".
فقال بعضهم: وامسحوا بما بدا لكم أن تمسحوا به من رءوسكم بالماء، إذا قمتم إلى الصلاة.
ذكر من قال ذلك:
11433 - حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حماد بن مسعدة، عن عيسى بن حفص قال: ذكر عند القاسم بن محمد مسحُ الرأس فقال: يا نافع كيف كان ابن عمر يمسح؟ فقال، مسحةً واحدة= ووصف أنه مسح مقدَّم رأسه إلى وجهه= فقال القاسم: ابن عمر أفقهُنا وأعلمُنا.
11434 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني نافع: أن ابن عمر كان إذا توضأ ردَّ كفه اليمنى إلى الماء ووضعهما فيه، ثم مسح بيديه مقدَّم رأسه.
11435 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكير، قال أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني نافع: أن ابن عمر كان يضع بطن كفه اليمنى على الماء، (1)
__________
(1) في المطبوعة: "كان يضع بطن كفيه على الماء"، ليت شعري كيف استجاز الناشر أن يجعل"كفه اليمنى""كفيه"؟ أمن أجل أن الناسخ كتب في الجملة التالية: "ثم لا ينفضهما، ثم تمسح بهما" بالتثنية؟ ولقد أخطأ الناسخ في تثنية الضمير، فرددته إلى الصواب بإفراد الضمير.(10/48)
لا ينفضهما ثم يمسح بها ما بين قَرْنيه إلى الجبين واحدًة، ثم لا يزيد عليها في كل ذلك مسحةٌ واحدة، مقبلةً من الجبين إلى القرن. (1)
11436 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان إذا توضأ مسح مقدَّم رأسه.
11437 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن عبد الأعلى الثعلبي، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: يجزيك أن تمسح مقدَّم رأسك إذا كنت معتمرا. (2) وكذلك تفعل المرأة.
11438 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الله الأشجعي، عن سفيان، عن ابن عجلان، عن نافع قال: رأيت ابن عمر مسح بَيافوخه مسحة= وقال سفيان: إن مسح شعرةً أجزأه= يعني واحدةً.
11439 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: أيّ جوانب رأسك أمْسَسْتَ الماء أجزأك. (3)
11440 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا علي بن ظبيان قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، قال: أي جوانب رأسك أمسست الماء أجزأك. (4)
11441 - حدثنا الرفاعي قال، حدثنا وكيع، عن إسماعيل الأزرق، عن الشعبي، مثله. (5)
__________
(1) "القرن" هو حد الرأس وجانبها، وهما قرنان عن يمين وشمال.
(2) "اعتمر الرجل يعتمر، فهو معتمر": إذا تعمم بعمامة، فهو معتم. و"العمارة" (بفتح العين) : كل شيء على الرأس، من عمامة، أو قلنسوة، أو تاج، أو غير ذلك.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "مسست الماء"، وهو خطأ، انظر الخبر التالي.
(4) الأثر: 11440 - كان في المطبوعة: " ... عن الشعبي، مثله"، ولم يثبت نص الخبر، وهو ثابت في المخطوطة. فرددته إلى مكانه.
(5) الأثر: 11441 - هذا الأثر، أخره ناشر المطبوعة السالفة، فوضعه بعد الأثر التالي، وقد أساء.(10/49)
11442 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع قال: كان ابن عمر يمسح رأسه هكذا= فوضع أيوب كفّه وسط رأسه، ثم أمرَّها على مقدَّم رأسه.
11443 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن الحباب، عن سفيان، قال: إن مسح رأسه بأصبع واحدة أجزأه. (1)
11444 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: قلت لأبي عمرو: ما يجزئ من مسح الرأس؟ قال: أن تمسح مقدَّم رأسك إلى القفا أحبُّ إلّي.
11445 - حدثني العباس بن الوليد، عن أبيه، عنه، نحوه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فامسحوا بجميع رءوسكم. قالوا: إن لم يمسح بجميع رأسه بالماء، لم تجزِه الصلاة بوضوئه ذلك.
ذكر من قال ذلك:
11446 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا أشهب قال، قال مالك: من مسح بعضَ رأسه ولم يعمَّ أعاد الصلاة بمنزلة من غسل بعضَ وجهه أو بعضَ ذراعه. قال، وسئل مالك عن مسح الرأس، قال: يبدأ من مقدَّم وجهه، فيدير يديه إلى قفاه، ثم يردُّهما إلى حيث بدأ منه.
* * *
وقال آخرون: لا يجزئ مسح الرأس بأقل من ثلاث أصابع. وهذا قول أبي حنيفة، وأبي يوسف ومحمد.
* * *
__________
(1) الأثر: 11443 -"زيد بن الحباب"، مضى قريبا برقم: 11414، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "يزيد بن الحباب"، وهو خطأ.(10/50)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، أن الله جل ثناؤه أمر بالمسح برأسه القائمَ إلى صلاته مع سائر ما أمره بغسله معه أو مسحه، ولم يحدَّ ذلك بحدٍّ لا يجوز التقصير عنه ولا يجاوزه. وإذ كان ذلك كذلك، فما مسح به المتوضئ من رأسه فاستحقَّ بمسحه ذلك أن يقال:"مسح برأسه"، فقد أدّى ما فرض الله عليه من مسح ذلك لدخوله فيما لزمه اسم"ماسحٍ برأسه" إذا قام إلى صلاته. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن الله قد قال في التيمم: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ) [سورة النساء: 43] أفيجزئ المسحُ ببعض الوجه واليدين في التيمم؟
قيل له: كلَّ ما مسح من ذلك بالتراب، فيما تنازعت فيه العلماء= فقال بعضهم:"يجزيه ذلك من التيمم" وقال بعضهم:"لا يجزيه"= فهو مجزئه، لدخوله في اسم"الماسحين به".
وما كان من ذلك مجمعا على أنه غير مجزئه، فمسلَّم لما جاءت به الحجة نقلا عن نبيِّها صلى الله عليه وسلم. ولا حجة لأحد علينا في ذلك، إذ كان من قولنا: إن ما جاء في آي الكتاب عامًّا في معنىً، فالواجب الحكم أنه على عمومه، (2)
حتى يخصه ما يجب التسليم له، فإذا خُصَّ منه شيء، كان ما خُصَّ منه خارجا من ظاهره، وحكم سائره على العموم. (3)
وقد بيَّنا العلة الموجبة صحة القول بذلك في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
و"الرأس" الذي أمر الله جل وعز بالمسح به بقوله:"وامسحوا برءوسكم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "اسم مامسح"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "فالواجب الحكم به على عمومه"، وأسقط"من". وفي المخطوطة: "فالواجب من الحكم به على عمومه"، وهو الصواب، مع جعل"به""أنه"، كما أثبتها.
(3) انظر تفسير آية التيمم في 8: 410 - 425.
(4) انظر القول في الخصوص والعموم فيما سلف 2: 207، 539/4: 134/5: 40، 130، وفي مواضع أخرى كثيرة متفرقة.(10/51)
وأرجلكم إلى الكعبين" هو منابت شعر الرأس، دون ما جاوز ذلك إلى القفا ممَّا استدبر، ودون ما انحدر عن ذلك مما استقبلَ من قِبل وجه إلى الجبهة.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه جماعة من قرأة الحجاز والعراق: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ، نصبًا، فتأويله: إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم إلى المرافق وأرجلَكم إلى الكعبين، وامسحوا برءوسكم وإذا قرئ كذلك، كان من المؤخر الذي معناه التقديم، وتكون"الأرجل" منصوبة عطفا على"الأيدي". وتأول قارئو ذلك كذلك، أن الله جل ثناؤه: إنما أمر عباده بغسل الأرجل دون المسح بها.
* * *
ذكر من قال: عنى الله بقوله:"وأرجلكم إلى الكعبين" الغسلَ.
11447 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا خالد الحذاء، عن أبي قلابة أن رجلا صلى وعلى ظهر قدمه موضع ظُفُر، فلما قضى صلاته، قال له عمر: أعدْ وضوءك وصلاتَك.
11448 - حدثنا حميد قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا عبد الله بن حسن قال، حدثنا هزيل بن شرحبيل، عن ابن مسعود قال: خلِّلوا الأصابع بالماء، لا تخلَّلها النارُ. (1)
__________
(1) الأثر: 11448 -"عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب"، روى له الأربعة، ثقة. وكان من العباد، له شرف وعارضة وهيبة ولسان شديد، وكان ذا منزلة من عمر بن عبد العزيز. مترجم في التهذيب.
و"هزيل بن شرحبيل الأودي"، الأعمى، أخو الأرقم بن شرحبيل، روى عن أخيه، وعثمان، وعلي، وطلحة، وسعد وابن مسعود، وغيرهم. تابعي ثقة، من أصحاب عبد الله بن مسعود. ويقال: أدرك الجاهلية. مترجم في التهذيب.(10/52)
11449 - حدثنا عبد الله بن الصباح العطار قال، حدثنا حفص بن عمر الحوضي، قال، حدثنا مُرجَّى= يعني: ابن رجاء اليشكري= قال، حدثنا أبو روح عمارة بن أبي حفصة، عن المغيرة بن حنين: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يتوضأ وهو يغسل رجليه، فقال: بهذا أمرت. (1)
11450 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن واقد مولى زيد بن خليدة، قال: سمعت مصعب بن سعد يقول: رأى عمر بن الخطاب قوما يتوضأون فقال: خلِّلوا. (2)
11451 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال: سمعت يحيى قال، سمعت القاسم قال: كان ابن عمر يخلع خفَّيه، ثم يتوضأ فيغسل رجليه، ثم يخلِّل أصابعه.
11452 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) الأثر: 11449 -"عبد الله بن الصباح بن عبد الله الهاشمي، العطار" شيخ الطبري، روى عنه الجماعة، سوى ابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب.
و"حفص بن عمر الحوضي، النمري"، أبو عمر الحوضي. روى عنه البخاري وأبو داود. قال أحمد: "ثبت، ثبت، متقن، لا يؤخذ عليه حرف واحد". مترجم في التهذيب.
و"مرجي بن رجاء اليشكري"، ضعيف، قال ابن معين: "ليس حديثه بشيء". مترجم في التهذيب.
و"أبو روح": "عمارة بن أبي حفصة العتكي". ثقة. مضى برقم: 8513.
و"مغيرة بن حنين"، تابعي، روى عن علي. روى عنه عمارة بن أبي حفصة. ذكره البخاري في الكبير 4/1/318، وابن أبي حاتم 4/1/220، لم يزيدا على ذلك شيئا، لا جرحا ولا تعديلا.
وهذا خبر مرسل، ضعيف لضعف مرجي بن رجاء.
(2) الأثر: 11450 -"واقد، مولى زيد بن خليدة" كوفي. روى عن زادان، وسعيد بن جبير. روى عنه سفيان الثوري، وشعبة. قال الثوري: "كان شيخ صدق". مترجم في التهذيب.
و"مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري"، أبو زرارة، تابعي ثقة، مضى برقم 9841. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "مصعب بن سعيد"، وليس في التابعين من يقال له: "مصعب بن سعيد"، وبعيد أن يكون تابعيا يروى عنه، ثم يغفلونه. فثبت عندي أنه"مصعب بن سعد".(10/53)
عن الزبير بن عدي، عن إبراهيم قال: قلت للأسود: رأيتَ عمر يغسل قدميه غَسْلا؟ قال: نعم.
11453 - حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا إسحاق بن منصور، قال، حدثنا محمد بن مسلم، عن إبراهيم بن ميسرة، عن عمر بن عبد العزيز: أنه قال لابن أبي سويد: بلغنا عن ثلاثة كلهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم يغسل قدميه غسلا أدناهم ابن عمك المغيرة. (1)
11454 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا الصباح، عن محمد= وهو ابن أبان= عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: اغسلوا الأقدام إلى الكعبين.
11455 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن أبي قلابة: أن عمر بن الخطاب رأى رجلا قد ترك على ظهر قدمه مثل الظُفُر، فأمره أن يعيد وضوءه وصلاته.
11456 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن شيبة بن نِصاح قال: صحبت القاسم بن محمد إلى مكة، فرأيته إذا توضأ للصلاة يُدخل أصابع رجليه يصب عليها الماء، قلت: يا أبا محمد، لم تصنع هذا؟ قال: رأيت ابن عمر يصنعه. (2)
11457 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع قالا حدثنا ابن إدريس قال: سمعت أبي، عن حماد، عن إبراهيم في قوله:"فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" قال: عاد الأمرُ إلى الغسل.
11458 - حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال، حدثنا أبي، عن حفص
__________
(1) الأثر: 11453 -"ابن أبي سويد" هو: "محمد بن أبي سويد الثقفي الطائفي". روى عن عثمان بن العاص، وعمر بن عبد العزيز. روى له الترمذي حديثا واحدا. مترجم في التهذيب.
و"المغيرة"، يعني: "المغيرة بن شعبة الثقفي"، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) الأثر: 11456 -"شيبة بن نصاح بن سرجس المخزومي"، مولى أم سلمة، أتي به إليها وهو صغير، فمسحت رأسه. كان قاضيا بالمدينة. ثقة قليل الحديث. مترجم في التهذيب.
"نصاح" بكسر النون.(10/54)
الغاضري، عن عامر بن كليب، عن أبي عبد الرحمن قال: قرأ عليَّ الحسن والحسين رضوان الله عليهما، فقرآ: (وَأَرْجُلِكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فسمع علي رضى الله عنه ذلك= وكان يقضي بين الناس= فقال:"وَأَرْجُلَكُمْ"، هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. (1)
11459 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الوهاب بن عبد الأعلى، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه قرأها: (فَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب، وقال: عاد الأمر إلى الغسل. (2)
11460 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه أنه قرأها: (وَأَرْجُلَكُمْ) وقال: عاد الأمر إلى الغسل.
11461 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن المبارك، عن قيس، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله: أنه كان يقرأ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب.
11462 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
__________
(1) الأثر: 11458 -"الحسين بن علي بن يزيد بن سليم الصدائي"، مضى مرارا منها: 2093، 5427، 5437.
وأبوه: "علي بن يزيد بن سليم الصدائي" مضى برقم: 2093.
و"حفص الغاضري" هو: "حفص بن سليمان الأسدي الغاضري"، متروك الحديث، مضى برقم: 5753.
و"عاصم بن كليب بن شهاب المجنون الجرمي"، مضى برقم: 8098، ثقة قليل الحديث.
و"أبو عبد الرحمن" هو: "أبو عبد الرحمن السلمي": "عبد الله بن حبيب بن ربيعة"، الضرير، مقرئ الكوفة. ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبيه صحبة. إليه انتهت القراءة تجويدا وضبطا. أخذ القراءة عرضا عن عثمان، وعلي، وعبد الله بن مسعود، وزيد بن ثابت، وأبي بن كعب. وأخذ القراءة عنه أئمة التابعين، منهم الحسن والحسين، رضي الله عنهما.
أقرأ القرآن في المسجد الأعظم بالكوفة، أربعين سنة، من زمن عثمان رضي الله عنه إلى أن توفي سنة 74، رحمه الله. وقد مضى برقم: 82.
(2) الأثر: 11459 -"عبد الوهاب بن عبد الأعلى" (!!) ، لم أجد له ذكرا في شيء من الكتب، ولا مر بنا قبل ذلك. ولكن هكذا هو في المخطوطة والمطبوعة.
والذي يروى عن"خالد الحذاء" ممن اسمه"عبد الوهاب": "عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي"، و"عبد الوهاب بن عطاء الخفاف"، فأخشى أن يكون أحدهما، ومنها الناسخ أو أخطأ المملي.(10/55)
حدثنا أسباط، عن السدي، قوله: "فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين"، فيقول: اغسلوا وجوهكم، واغسلوا أرجلكم، وامسحوا برءوسكم. فهذا من التقديم والتأخير.
11463 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حسين بن علي، عن شيبان، قال، أثبت لي عن علي أنه قرأ: (وَأَرْجُلَكُمْ) . (1)
11464 - حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: (وأرجلكم) رجع الأمر إلى الغسل.
11465 - حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خالد، عن عكرمة، مثله.
11466- حدثني المثني، قال، حدثنا الحماني، قال، حدثنا شريك، عن الأعمش قال: كان أصحاب عبد الله يقرأونها: (وَأَرْجُلَكُمْ) فيغسلون.
11467 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: اغسل القدمين إلى الكعبين.
11468 - حدثني عبد الله بن محمد الزهري قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن أبي السوداء، عن ابن عبد خير، عن أبيه قال: رأيت عليًّا توضأ، فغسل ظاهر قدميه، وقال: لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فَعَل ذلك، ظننت أن بَطْنَ القدم أحقُّ من ظاهرها. (2)
__________
(1) الأثر: 11463 -"حسين بن علي بن وليد الجعفي"، مضى في مواضع كثيرة، منها رقم: 29، 174، 441، 7287، 7499.
و"شيبان" النحوي، هو: "شيبان بن عبد الرحمن"، أبو معاوية. مضى كثيرا، من ذلك رقم: 2340، 4898، 5280، 9222، 9223، 9456.
و"شيبان النحوي"، روى القراءة عن عاصم، وروى القراءة عنه: "حسين بن علي الجعفي"، انظر طبقات القراء للجزري 1: 329، رقم: 1435.
(2) الأثر: 11468 -"عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور الزهري"، شيخ الطبري، روى عن سفيان بن عيينة، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وأبي عامر العقدي، وغيرهم.
روى عنه الجماعة، سوى البخاري. وروى عنه أبو جعفر في التاريخ 2: 40"عبد الله بن محمد الزهري، عن سفيان". مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "عبد الله بن محمد الزبيري"، لم يحسن قراءة ما في المخطوطة.
و"أبو السوداء" هو: "المسيب بن عبد خير بن يزيد الهمداني". ثقة. مضى برقم: 5850، 5851.
و"ابن عبد خير"، هو"المسيب بن عبد خير بن يزيد الهمداني". ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/408.
وأبوه: "عبد خير بن يزيد الخيواني الهمداني"، مخضرم، تابعي ثقة. مضى برقم: 8035.
وهذا خبر صحيح الإسناد رواه أحمد في مسنده من طريق المسيب بن عبد خير، عن أبيه برقم: 918، 1014، 1015، مع اختلاف في لفظه. ورواه من طريق أبي إسحق، عن عبد خير، برقم: 737، 917، 1013، 1263، ومن طريق السدي، عن عبد خير برقم: 943. مطولا.(10/56)
11469 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء قال: لم أر أحدا يمسح على القدمين.
11470 - حدثني المثنى قال، حدثني الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن مجاهد أنه قرأ: (وَأرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) فنصبها، وقال: رجع إلى الغسل.
11471 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا جابر بن نوح قال، سمعت الأعمش يقرأ: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب.
11472 - حدثني يونس، قال، أخبرنا أشهب قال: سئل مالك عن قول الله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" أهي:"أرجلَكم" أو"أرجلِكم"؟ فقال: إنما هو الغسل وليس بالمسح، لا تُمْسح الأرجل، إنما تُغسل. قيل له: أفرأيت من مسح أيحزيه ذلك؟ قال: لا.
11473 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك:"وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم" قال: اغسلوها غسلا.
* * *
وقرأ ذلك آخرون من قراء الحجاز والعراق: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) بخفض"الأرجل". وتأول قارئو ذلك كذلك: أنّ الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل(10/57)
في الوضوء دون غسلها، وجعلوا"الأرجل" عطفا على"الرأس"، فخفضوها لذلك.
ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
11474 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمد بن قيس الخراساني، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الوضوء غَسْلتان ومَسْحتان. (1)
11475 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن حميد= ح، وحدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا حميد= قال، قال موسى بن أنس لأنس ونحن عنده: يا أبا حمزة إن الحجاج خطبَنا بالأهواز ونحن معه، فذكر الطَّهور فقال:"اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم، وإنه ليس شيء من ابن آدم أقرَب إلى خَبَثه من قدميه، فاغسلوا بطونهما وظهورَهما وعَرَاقيبهما". فقال أنس: صدق الله وكذبَ الحجاج، قال الله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم" قال: وكان أنس إذا مسح قدميه بلَّهما. (2)
11476 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا حماد قال، حدثنا عاصم الأحول، عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسنة الغسلُ. (3)
11477 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن موسى
__________
(1) الأثر: 11474 -"محمد بن قيس الخراساني"، لم أجد له ذكرا، ولم أعرف من يكون. وعسى أن يكون محرفا.
(2) الأثر: 11475 -"موسى بن أنس بن مالك الأنصاري"، قاضي البصرة. روى عن أبيه أنس بن مالك، وعبد الله بن عباس. روى عنه ابن حمزة، وعطاء بن أبي رباح، وحميد الطويل، وغيرهم. قال ابن سعد: "كان ثقة قليل الحديث". مترجم في التهذيب.
وسيأتي هذا الخبر بلفظ آخر برقم: 11477، فانظر تخريجه هناك.
و"الخبث" (بفتحتين) : النجس، يعني البول والغائط، ويقال لهما"الأخبثان".
(3) الأثر: 11476 - في المطبوعة: "حدثنا ابن سهل"، أسقط"على"، وهي ثابتة في المخطوطة.(10/58)
بن أنس قال: خطب الحجاج فقال:"اغسلوا وجوهكم وأيديكم وأرجلَكم، ظهورَهما وبطونَهما وعراقيبَهما، فإن ذلك أدنى إلى خبثكم". قال أنس: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين". (1)
11478 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة قال: ليس على الرجلين غسل، إنما نزل فيهما المسح. (2)
11479 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن جابر، عن أبي جعفر، قال: امسح على رأسك وقدميك.
11480 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي قال: نزل جبريل بالمسح. قال: ثم قال الشعبي: ألا ترى أن"التيمم" أن يمسح ما كان غسلا ويُلغِي ما كان مسحًا؟
11481 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: أُمر بالتيمم فيما أُمر به بالغسل.
11482 - حدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي أنه قال: إنما هو المسح على الرجلين، ألا ترى أنه ما كان عليه الغسل، جعل عليه المسح، وما كان عليه المسح أهمل؟
11483 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر أنه قال: أمر أن يمسح في التيمم، ما أمر أن يغسل في الوضوء، وأبطل
__________
(1) الأثر: 11477 - انظر الأثر السالف رقم: 11475.
وفي المخطوطة: "أدنى إلى أخبثكم"، بإفراد"أخبث"، وإنما جاء على التثنية: "الأخبثان"، وهما البول والغائط. وأما في المطبوعة، فإنه جعلها"خبثكم" فأسقط الألف. والصواب ما أثبت.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن 1: 71، من طريق يحيى بن أبي طالب، عن عبد الوهاب بن عطاء، عن حميد، به نحوه.
(2) الأثر: 11478 -"عبيد الله العتكي" هو: "عبيد الله بن عبد الله العتكي"، أبو المنيب. مضى برقم: 1634، 4268، 5500، وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله العتكي"، والصواب ما أثبته، مصغرا.(10/59)
ما أمر أن يُمسح في الوضوء: الرأس والرجلان.
11484 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي قال: أمر أن يمسح بالصعيد في التيمم، ما أمر أن يغسل بالماء. وأهمِل ما أمر أن يمسح بالماء.
11485 - حدثنا ابن أبي زياد قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا إسماعيل قال: قلت لعامر: إن ناسًا يقولون إن جبريل صلى الله عليه وسلم نزل بغسل الرجلين! فقال: نزل جبريل بالمسح. (1)
11486 - حدثنا أبو بشر الواسطي إسحاق بن شاهين قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن يونس قال، حدثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه، إنما يمسح عليهما، حتى خرج منها. (2)
11487 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين" افترض الله غَسلتين ومسحتين.
11488 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش، عن يحيى بن وثَاب، عن علقمة: أنه قرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ" مخفوضة"اللام". (3)
11489 - حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن الأعمش، مثله.
__________
(1) الأثر: 11485 -"ابن أبي زياد"، هو: "عبد الله بن عبد الحكم بن أبي زياد القطواني"، مضى برقم: 2247، 5796، وغيرهما.
(2) الأثر: 11486 -"إسحق بن شاهين الواسطي"، أبو بشر الواسطي"، مضى برقم: 7211، 9788.
و"خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي"، مضى أيضا: 4433، 7211، 9141، 9788.
(3) الأثر: 11488 -"يحيى بن وثاب الأسدي" المقرئ. روى عن ابن عمر، وابن عباس، وعلقمة. ثقة. قال الأعمش: "كان يحيى بن وثاب من أحسن الناس قراءة، وكان إذا قرأ لا يسمع في المسجد حركة". مترجم في التهذيب.(10/60)
11490 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو الحسين العكلي، عن عبد الوارث، عن حميد، عن مجاهد: أنه كان يقرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ". (1)
11491 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل بن أبي خالد قال، كان الشعبي يقرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ" بالخفض.
11492 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الحسن بن صالح، عن غالب، عن أبي جعفر، أنه قرأ:"وَأَرْجُلِكُمْ" بالخفض. (2)
11493 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة، عن الضحاك: أنه قرأ"وَأَرْجُلِكُمْ" بالكسر.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في ذلك، أن الله عزّ ذكره أمر
__________
(1) الأثر: 11490 -"أبو الحسين العكلي"، هو"زيد بن الحباب العكلي"، مضى برقم: 2185، 5350، 8165، وغيرها. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أبو الحسن" وهو خطأ.
و"عبد الوارث" هو: "عبد الوارث بن سعيد بن ذكوان العنبري". إمام حافظ مقرئ. مضى برقم: 2154، 6589، 6591، 6819. ومترجم أيضا في طبقات القراء للجزري 1: 478، رقم: 1989، أخذا القراءة عرضا على أبي عمرو بن العلاء، ورافقه في العرض علي حميد بن قيس المكي.
و"حميد" هو"حميد الأعرج"، "حميد بن قيس المكي الأسدي" القارئ، مضى برقم: 3352، 6461، ومترجم أيضا في طبقات القراء للجزري 1: 265، رقم: 1200. أخذ القراءة عن"مجاهد بن جبر". روى القراءة عنه سفيان بن عيينة، وأبو عمرو بن العلاء، وعبد الوارث بن سعيد. توفى سنة 130.
(2) الأثر: 11492 -"الحسن بن صالح بن حي الثوري"، مضى برقم: 178، 5347، 7594.
وأما "غالب"، فكأنه يعني"غالب بن فائد الأسدي" المقرئ، روى عن سفيان الثوري، وإسرائيل، وأبي بكر بن عياش، وعرض القراءة على حمزة الزيات. قال أبو حاتم: "هو مقرئ ليس به بأس". وقال أبو زرعة: "هو شيخ كوفي، لا أعرفه". مترجم في ابن أبي حاتم 3/2/49.
وأما "أبو جعفر"، فهو"أبو جعفر المخزومي": "يزيد بن القعقاع"، الإمام القارئ، أحد القراء العشرة، تابعي مشهور كبير القدر. مترجم في طبقات القراء للجزري 2: 382، رقم: 3882.(10/61)
بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم. وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ، كان مستحقًّا اسم"ماسحٍ غاسلٍ"، لأن"غسلهما" إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء. و"مسحهما"، إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما. فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو"غاسل ماسح".
ولذلك= من احتمال"المسح" المعنيين اللذين وصفتُ من العموم والخصوص اللذين. أحدهما مسح ببعض والآخر مسح بالجميع= اختلفت قراءة القرأة في قوله:"وأرجلكم" فنصبها بعضهم= توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما الغسل وإنكارًا منه المسح عليهما، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعموم مسحهما بالماء. =وخفضها بعضهم، توجيها منه ذلك إلى أن الفرض فيهما المسح.
ولما قلنا في تأويل ذلك= إنه معنّي به عموم مسح الرجلين بالماء= كره من كره للمتوضئ الاجتزاءَ بإدخال رجليه في الماء دون مسحهما بيده، أو بما قام مقام اليد، توجيها منه قوله:"وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين" إلى مسح جميعهما عامًّا باليد، أو بما قام مقام اليد، دون بعضهما مع غسلهما بالماء، كما:-
11494 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان= قال، حدثنا نافع، عن ابن عمر= عن الأحول، عن طاوس، أنه سئل عن الرجل يتوضأ ويدخل رجليه في الماء. قال: ما أعدُّ ذلك طائلا. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 11494 - في هذا الإسناد خطأ لم أهتد إلى صوابه، فإن"سفيان بن عيينة" لم يرو عن"نافع" مولى"ابن عمر".
وأخشى أن يكون صوابه"قال حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا سفيان = وحدثنا نافع بن عمر= عن الأحول ... ".
وإن"عبد الرحمن بن مهدي"، يروي عن نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل الجمحي"، ولكن لا أدري، أروى"نافع بن عمر" هذا عن"الأحول" أم لم يرو عنه.
وأما "الأحول"، فهو"سليمان بن أبي مسلم المكي"، روى عنه سفيان بن عيينة. ومضى برقم: 7867.
وقوله: "ما أعد ذلك طائلا" أي مغنيا أو مجزئا. وأصل"الطائل": النفع والفائدة.
ويقال: "هذا أمر لا طائل فيه"، إذا لم يكن فيه غناء ولا مزية.(10/62)
وأجاز ذلك من أجاز، توجيهًا منه إلى أنه معنيٌّ به الغسل. كما:-
11495 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس قال: سمعت هشاما يذكر، عن الحسن، في الرجل يتوضأ في السفينة، قال: لا بأس أن يغمس رجليه غمسًا.
11496 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال: أخبرني أبو حرّة، عن الحسن في الرجل إذا توضأ على حرف السفينة، قال: يخضخِضُ قدميه في الماء. (1)
* * *
=فإذا كان"المسحَ" المعنيان اللذان وصفنا: من عموم الرجلين بالماء، وخصوص بعضهما به= وكان صحيحًا بالأدلّة الدالة التي سنذكرها بعدُ، أنّ مراد الله من مسحهما العموم، وكان لعمومهما بذلك معنى"الغسل" و"المسح"= فبيِّنٌ صواب قرأة القراءتين جميعًا (2)
= أعني النصب في"الأرجل" والخفض. لأن في عموم الرجلين بمَسحهما بالماء غسلُهما، وفي إمرار اليد وما قام مقام اليد عليهما مسحُهما.
فوجه صواب قراءة من قرأ ذلك نصبا لما في ذلك من معنى عمومها بإمرار الماء عليهما. (3)
ووجهُ صواب قراءة من قرأه خفضا، لما في ذلك من إمرار اليد عليهما، أو ما قام مقام اليد، مسحا بهما.
__________
(1) الأثر: 11496 -"أبو حرة" البصري، هو"واصل بن عبد الرحمن"، مضى مثل هذا الإسناد برقم: 6385. وكان في المطبوعة هنا: "أبو حمزة"، وهو خطأ محض.
و"خضخض الماء": حركه.
(2) في المطبوعة: "صواب القراءتين جميعا"، خالف المخطوطة وحذف."قرأة" (بفتح القاف والراء والهمزة) ، جمع"قارئ"، كما سلف مئات من المرات.
(3) في المطبوعة: "معنى عمومهما" بالتثنية، والصواب من المخطوطة.(10/63)
غير أنّ ذلك وإن كان كذلك، وكانت القراءتان كلتاهما حسنًا صوابًا، فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها، قراءة من قرأ ذلك خفضًا، لما وصفت من جمع"المسح" المعنيين اللذين وصفت، ولأنه بعد قوله:"وامسحوا برءوسكم" فالعطف به على"الرءوس" مع قربه منه، أولى من العطف به على"الأيدي"، وقد حيل بينه وبينها بقوله:"وامسحوا برءوسكم".
* * *
فإن قال قائل: وما الدليل على أن المراد بالمسح في الرجلين العموم، دون أن يكون خصوصًا، نظيرَ قولك في المسح بالرأس؟
قيل: الدليل على ذلك، تظاهرُ الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ويل للأعقاب وبُطون الأقدام من النار". ولو كان مسح بعض القدم مجزئا عن عمومها بذلك (1) لما كان لها الويل بترك ما تُرك مسحه منها بالماء بعد أن يُمسح بعضها. لأن من أدَّى فرض الله عليه فيما لزمه غسلُه منها لم يستحق الويل، بل يجب أن يكون له الثواب الجزيل. وفي وجوب الويل لعَقِب تارك غسل عَقِبه في وضوئه، (2) أوضحُ الدليل على وجوب فرض العموم بمسح جميع القدم بالماء، وصحةِ ما قلنا في ذلك، وفسادِ ما خالفه.
* * *
ذكر بعض الأخبار المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما ذكرنا:
11497 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن محمد بن زياد قال: كان أبو هريرة يمرُّ ونحن نتوضأ من المَطْهَرة، فيقول: (3)
أسبغوا الوضوء، اسبغوا الوضوء، قال أبو القاسم: ويلٌ للعراقيبِ من النار.
__________
(1) في المطبوعة: "مجزئا عن عمومها"، والصواب من المخطوطة، وكأن الناشر قد اعتاد أن يضع"عن"، مكان"من" في مثل هذا، انظر ما سلف: ص: 25، تعليق: 3.
(2) في المطبوعة: "فوجب الويل"، وهو فاسد. وفي المخطوطة: "في وجوب الويل"، سقط من الناسخ"الواو" من أول الكلام، فأثبتها.
(3) "المطهرة" (بفتح الميم، وكسرها) : الإناء الذي يكون فيه الماء، ليتوضأ منه.(10/64)
11498 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه= إلا أنه قال: ويل للأعقاب من النار. (1)
11499 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن محمد بن زياد قال: كان أبو هريرة يمرّ بأناس يتوضأون يُسِيئون الطهور، (2) فيقول: اسبغوا الوضوء، فإني سمعت أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول: ويلٌ للعَقِب من النار.
11500 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
11501 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
11502 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن حماد بن سلمة، عن محمد بن زياد، عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار. (3)
11503 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثني سليمان بن بلال قال، حدثني سهيل، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار يوم القيامة. (4)
11504 - حدثني إسحاق بن شاهين وإسماعيل بن موسى قالا حدثنا خالد بن عبد الله، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة قال، قال
__________
(1) في المخطوطة: "ويل للعراقيب"، كالذي قبله، ولا يستقيم ذلك، فالظاهر أن الصواب هو ما ثبت في المطبوعة.
(2) في المطبوعة: "مسرعين الطهور"، وفي المخطوطة: "يسوون الطهور" فكأن قراءتها كما أثبت. ولو قرئت: (يُسوُون الطهور) ، لكان صوابًا. فقد حكى ابن خالويه أنه يقال: "أسوى" بمعنى: أساء.
(3) الآثار 11497 - 11502 - ست طرق، لخبر محمد بن زياد، عن أبي هريرة.
و"محمد بن زياد القرشي الجحمي"، تابعي ثقة.
والحديث، رواه البخاري (الفتح 1: 233) ومسلم 3: 131، وأحمد في المسند رقم: 7122، من طريق شعيب، عن محمد بن زياد، وبرقم: 7803، من طريق معمر، عن محمد بن زياد. وانظر تعليق أخي السيد أحمد عليه هناك. وهو حديث صحيح.
(4) الأثر: 11503 -"خالد بن مخلد القطواني"، صدوق في الرواية، مضى برقم: 2206، 4577، 8166، 8397.
و"سليمان بن بلال التيمي"، ثقة، مضى برقم: 4333، 4923، 10846.
و"سهيل بن أبي صالح ذكوان السمان". ثقة، مضى برقم: 10676.
وأبوه: "أبو صالح ذكوان السمان". مضى برقم: 304، 3226، 5387.
حديث صحيح، رواه مسلم 1: 131، من طريق جرير، عن سهيل، بنحوه. ورواه أحمد في مسنده رقم: 7778، من طريق معمر، عن سهيل، بمثله. وسيأتي في الذي يليه بإسناد آخر.(10/65)
رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويلٌ للأعقاب من النار= وقال إسماعيل في حديثه: ويلٌ للعراقيب من النار". (1)
11505 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا حسين المعلم، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم الدوسي قال: دخلت مع عبد الرحمن بن أبي بكر على عائشة، فدعا بوضوء، فقالت عائشة: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار. (2) .
11506 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عمر بن يونس الحنفي قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثنا يحيى بن أبي كثير قال، حدثني أبو سلمة بن عبد الرحمن قال، حدثني أبو سالم مولى المَهْري =هكذا قال عمر بن يونس= قال: خرجت أنا وعبد الرحمن بن أبي بكر في جنازة سعد بن أبي وقاص قال:
__________
(1) الأثر: 11504 -"إسحق بن شاهين الواسطي"، مضى قريبا برقم: 11486.
و"إسمعيل بن موسى الفزاري" شيخ الطبري، مضى برقم: 849، 9682.
و"خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي الطحان"، مضى برقم: 4433، 7211، 9141، 9788.
وهذا إسناد آخر للحديث السالف.
(2) الأثر: 11505 -"يحيى بن أبي كثير الطائي"، روى عن أنس، وأبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، وعن سالم مولى دوس. ثقة مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر رواه يحيى بن أبي كثير مرتين هنا وفي رقم: 11507، عن"سالم" مباشرة، ثم عنه بواسطة أبي سلمة بن عبد الرحمن، في الأثر التالي.
و"سالم الدوسي" هو"سالم بن عبد الله النصري"، و"أبو عبد الله مولى شداد"، و"سالم مولى شداد بن الهاد"، وهو"سالم مولى النصريين"، و"سالم سبلان"، و"سالم مولى مالك بن أوس بن الحدثان النصري" و"سالم مولى المهري"، و"سالم مولى دوس"، هذه كلها جاءت في أخباره، كما قال النووي في شرح مسلم. قال أبو حاتم: "كان سالم من خيار المسلمين"، وكانت عائشة تستعجب بأمانته، تستأجره. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/110.
وسيأتي تخرج حديث"سالم" في رقم: 11510.(10/66)
فمررت أنا وعبد الرحمن على حُجرة عائشة أخت عبد الرحمن، فدعا عبد الرحمن بوضوء، فسمعت عائشة تناديه: يا عبد الرحمن، أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ويل للأعقاب من النار" (1) .
11507 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن سالم مولى دَوْس قال: سمعت عائشة تقول لأخيها عبد الرحمن: يا عبد الرحمن أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار" (2) .
__________
(1) الأثر: 11506-"عمر بن يونس الحنفي اليمامي"، ثقة ثبت. مضى برقم: 4435، 8224.
و"عكرمة بن عمار العجلي"، ثقة، مضى برقم: 849، 2185.
و"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف الزهري"، ثقة. مضى برقم: 8، 67، 3015، 8394.
و"أبو سالم مولى المهري"، هو"سالم الدوسي" الذي مضى في الأثر السالف. وقول الطبري: "هكذا قال عمر بن يونس"، يعني في روايته عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، فإن ابن حجر نقل في التهذيب في ترجمته: "وقال عبد الغني بن سعيد في إيضاح الإشكال: وهو الذي روى عنه أبو سلمة فقال: حدثنا أبو سالم، أو سالم، مولى المهري".
وقال البخاري في الكبير 2/2/110: "وقال عكرمة، عن يحيى، حدثني أبو سلمة، حدثني أبو سالم المهري - ولا يصح". وهو يعني هذا الإسناد نفسه.
و"المهري" (بالراء والياء المشددة) ، وكان في المطبوعة والمخطوطة بالدال، وهو خطأ محض. وسيأتي في التخريج في الأثر رقم: 11510.
(2) الأثر: 11507-"علي بن المبارك الهنائي" ثقة. قال أحمد: "كانت عنده كتب عن يحيى بن أبي كثير، بعضها سمعها، وبعضها عرض". مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر أيضا من رواية يحيى بن أبي كثير، عن سالم، دون واسطة، كما أشرت إليه في التعليق على الأثر: 11505.(10/67)
11508 - حدثني يعقوب وسوار بن عبد الله، قالا حدثنا يحيى القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي سلمة، أن عائشة رأت عبد الرحمن يتوضأ فقالت: أسبغ الوضوء، فإنّي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار. (1) .
11509- حدثنا ابن وكيع، قال، حدثنا ابن عيية ويحيى بن سعيد القطان، عن ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد، عن أبي سلمة، قال، رأت عائشة عبد الرحمن يتوضأ، فقالت: أسبغ الوضوء، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويلٌ للعراقيب من النار. (2) .
11510 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال: أخبرنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال: أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا أبو الأسود: أنّ أبا عبد الله مولى شدّاد بن الهاد حدّثه: أنه دخل على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وعندها عبد الرحمن، فتوضأ عبد الرحمن، ثم قام فأدبر، فنادته عائشة فقالت: يا عبد الرحمن! فأقبل عليها، فقالت له: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويلٌ للأعقاب من النار. (3) .
__________
(1) الأثران: 11508، 11509-"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" روى عن عائشة بغير واسطة. وهذان الخبران لم يصرح فيهما أبو سلمة بسماعه من عائشة، وقد مضى برقم: 11506، أنه سمع ذلك من سالم مولى المهري.
(2) الأثران: 11508، 11509-"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" روى عن عائشة بغير واسطة. وهذان الخبران لم يصرح فيهما أبو سلمة بسماعه من عائشة، وقد مضى برقم: 11506، أنه سمع ذلك من سالم مولى المهري.
(3) الأثر: 11510-"أبو زرعة، وهب الله بن راشد المصري"، مؤذن الفسطاط. مضى برقم: 2377، 2891، 5005، 5386، 6458. وكان في المطبوعة هنا: "أخبرنا أبو رواحة وعبد الله بن راشد قالا"، تصرف في نص المخطوطة تصرفا قبيحا، وجعل الرجل الواحد رجلين، ووضع مكان"قال"، "قالا" وليس في العبث بالأمانة أقبح من هذا الفعل.
و"حيوة بن شريح"، مضى برقم: 2891، 3179.
و"أبو الأسود"، هو"يتيم عروة": "محمد بن عبد الرحمن بن نوفل بن الأسود الأسدي" مضى برقم: 2891.
وكان في المطبوعة: "أخبرنا عبد الله مولى شداد بن الهاد"، وفي المخطوطة: "أنا عبد الله مولى شداد بن الهاد". والصواب بينهما ما أثبته بزيادة"أن"، كما في مسلم 3: 128.
وهذا الخبر: 11510، أخرجه مسلم في صحيحه 3: 128، من طريق حرملة بن يحيى، عن ابن وهب، عن حيوة، عن محمد بن عبد الرحمن، ولم يذكر لفظه. والطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 23، وأخرجه البخاري في التاريخ الكبير 2/2/111، مختصرا.
وأما الحديث: 11506، فقد أخرجه مسلم في صحيحه 3: 128، من طريق"محمد بن حاتم، وأبو معن الرقاشي، قال حدثنا عمر بن يونس، حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني يحيى بن أبي كثير، قال حدثني أو حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن، حدثني سالم مولى المهري"، ولم يقل عمر بن يونس فيه"أبو سالم المهري"، كما قال الطبري إنه كذلك في رواية"عمر بن يونس". وقد مضى أن البخاري قال في قوله: "أبو سالم المهري"، إنه لا يصح.
وحديث سالم، أخرجه مسلم أيضا (3: 127، 128) من طريق عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن سالم. وأخرجه البيهقي في السنن 1: 69، والطيالسي: 217، رقم: 1552، من طريق ابن أبي ذئب، عن عمران بن بشير، عن سالم سبلان، وفيه زيادة: "ويل للأعقاب من النار يوم القيامة"، وعنه البيهقي في السنن 1: 69. ورواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 23.(10/68)
11511 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال، حدثني أبو إسحاق، عن سعيد= أو: شعيب= بن أبي كرب قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ويل للعراقيب من النار" (1) .
11512- حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا النضر قال، أخبرنا شعبة،
__________
(1) الأثر: 11511-"أبو إسحق" هو السبيعي.
"سعيد بن أبي كرب (أو كريب) الهداني"، سئل أبو زرعة عنه فقال: "كوفي ثقة"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/467، وابن أبي حاتم 2/1/57.
كان في المطبوعة والمخطوطة هنا"أبو إسحق، عن سعد = أو: سعيد= ابن أبي كرب". وهو خطأ لا شك فيه، فإن البخاري قد نص على أن شعبة قد روى عن أبي إسحق"عن سعيد = أو شعيب". وكذلك روى أحمد في مسنده 3: 369"عن أبي إسحق أنه سمع سعيد بن أبي كريب" أو: شعيب بن أبي كريب". وهكذا جاء في المسند، "كريب" مصغرا، ومثله في التهذيب، وابن ماجه.
وهذا الخبر رواه الطبري هنا من ثلاث طرق عن أبي إسحق، إلى رقم: 11516، وسأذكر بقية تخريجه في الأثر الأخير.(10/69)
عن أبي إسحاق قال، سمعت ابن أبي كرب قال، سمعت جابر بن عبد الله قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للعَقِب= أو: العراقيب= من النار" (1) .
11513 - حدثني إسماعيل بن محمود الحجيري، قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، سمعت سعيدا يقول، سمعت جابرا يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ويل للأعقاب من النار. (2) .
11514 - حدثنا ابن بشار وابن المثني، قالا حدثنا عبد الرحمن، قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله، قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. (3)
11515 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: سَمِع أذني من النبي صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. (4)
__________
(1) الأثر: 11512-"خلاد بن أسلم"، أبو بكر الصفار، شيخ الطبري، مضى برقم: 3004.
و"النضر" هو: "النضر بن شميل المازني" النحوي البصري، روى له الأئمة، كان أروى الناس عن شعبة. وكان النضر إمام في العربية والحديث. مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر مكرر الذي سلف.
(2) الأثر: 11513-"إسمعيل بن محمود الحجيري" شيخ الطبري. لم أجد له ترجمة ولا ذكرا فيما بين يدي من الكتب، ولا أدري أهو"الحجيري" أم"الجحيري"، فإنه في المخطوطة غير منقوط.
و"خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي"، سلف برقم: 7507، 7818، 9878. وهذا الخبر مكرر الخبرين السالفين.
(3) الأثر: 11514- هذا الخبر من طريق سفيان عن أبي إسحق، رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 33 من طريق مؤمل بن إسمعيل، عن سفيان، عن أبي إسحق، بزيادة في آخره: "أسبغوا الوضوء".
(4) الأثر: 11515، 11516-"الصباح بن محارب التيمي" الكوفي ثقة، لم يرو له سوى ابن ماجه. قال أبو زرعة، وأبو حاتم: "صدوق". وقال العقيلي: "يخالف في بعض حديثه". مترجم في التهذيب.
و"محمد بن أبان بن صالح بن عمير الجعفي"، تزوج في الجعفيين، فنسب إليهم. ضعفوه، متكلم في حفظه. مضى برقم: 2720.
هذا، وأثر أبي إسحق، عن سعيد بن أبي كرب، رواه أحمد في المسند 3: 390 من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، وبمثله الطحاوي في معاني الآثار 1: 33. ثم رواه أحمد في 3: 393 من طريق يزيد بن عطاء، عن أبي إسحق. ورواه ابن ماجه في سننه 1: 155، رقم: 454، من طريق الأحوص، عن أبي إسحق.(10/70)
11516 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الصباح بن محارب، عن محمد بن أبان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن أبي كرب، عن جابر بن عبد الله قال: سمع أذني من النبي صلى الله عليه وسلم:"ويلٌ للعراقيب من النار! أسبغوا الوضوء. (1)
11517- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا الوليد بن القاسم، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر بن عبد الله قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلا يتوضأ، وبقي من عَقِبه شيء، فقال: ويلٌ للعراقيب من النار. (2) .
11518 - حدثني علي بن مسلم قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأى قوما يتوضأون لم يُصب أعقابَهم الماءُ، فقال: ويل للعراقيب من النار. (3) .
11519 - حدثنا أبو سفيان الغنوي يزيد بن عمرو قال، حدثنا خلف بن الوليد قال، حدثني أيوب بن عتبة، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن معيقيب قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للعراقيب من النار. (4)
__________
(1) الأثر: 11516- انظر التعليق على الأثر السالف.
(2) الأثران: 11517، 11518-"أبو سفيان" هو: "طلحة بن نافع القرشي"، ثقة، مضى برقم: 6654.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 3: 316 من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، بنحوه.
(3) الأثران: 11517، 11518-"أبو سفيان" هو: "طلحة بن نافع القرشي"، ثقة، مضى برقم: 6654.
وهذا الخبر رواه أحمد في المسند 3: 316 من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن أبي سفيان، بنحوه.
(4) الأثر: 11519-"أبو سفيان الغنوي"، "يزيد بن عمرو"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب.
و"معيقيب"، هو: "معيقيب بن أبي فاطمة الدوسي"، ويقال: "معيقب"، أسلم قديما بمكة، وهاجر الهجرتين، وشهد بدرا. روي عنه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 3: 426، ثم 5: 425، من طريق خلف بن الوليد بإسناده ولفظه. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 92: "تفرد به أحمد".(10/71)
11520 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو قال، رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم قوما يتوضأون، فرأى أعقابهم تلوح، فقال:"ويلٌ للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء. (1)
11521- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى الأعرج، عن عبد الله بن عمرو قال: أبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا يتوضأون لم يتمُّوا الوضوء، فقال: أسبغوا الوضوء، ويلٌ للعراقيب =أو: الأعقاب= من النار! (2)
11522 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن رجل من أهل مكة، عن عبد الله بن عمرو: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضأون، فلم يتمُّوا الوضوء، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار. (3) .
__________
(1) الأثر: 11520- هذا الخبر رواه أبو جعفر من طريق سفيان، عن منصور، هنا، ورقم: 11523، ورواه برقم: 11521 من طريق شعبة، عن منصور، ورواه برقم 11524، من طريق إسرائيل، عن منصور. وسيأتي تخريجه في آخرها.
(2) الأثر: 11520- هذا الخبر رواه أبو جعفر من طريق سفيان، عن منصور، هنا، ورقم: 11523، ورواه برقم: 11521 من طريق شعبة، عن منصور، ورواه برقم 11524، من طريق إسرائيل، عن منصور. وسيأتي تخريجه في آخرها.
(3) الأثر: 11522-"أبو بشر"، "جعفر بن إياس"، وهو"ابن أبي وحشية"، سلف مرارا كثيرة.
وهذا الخبر أخرجه أحمد في مسنده برقم: 6911، من هذه الطريق نفسها، بلفظه. قال أخي السيد أحمد: "الرجل من أهل مكة الذي رواه عنه أبو بشر، هو: "يوسف بن ماهك..، كما نص عليه الحافظ في التعجيل: 551".
و"يوسف بن ماهك بن مهران الفارسي المكي"، ثقة عدل روى له الأئمة. مترجم في التهذيب. والحديث المصرح فيه بذكر"يوسف بن ماهك"، رواه البخاري (الفتح 1: 132، 170، 232) ، ومسلم في صحيحه 3: 130، 131.
وكان في المخطوطة في هذا الخبر"عن رجل من أهل مكة، عن عبد الرحمن بن عمرو"، وهو خطأ لا شك فيه، أحسن ناشر المطبوعة الأولى في تصحيحه وأصاب.(10/72)
11523 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قوما يتوضأون وأعقابُهم تلوح، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار! أسبغوا الوضوء. (1)
11524 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن منصور، عن هلال، عن أبي يحيى مولى عبد الله بن عمرو، عن عبد الله بن عمرو قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة، فسبقنا ناس فتوضأوا، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء، فقال، ويلٌ للعراقيب من النار! أسبغوا الوضوء" (2)
11525 - حدثني علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن مطرح بن يزيد، عن عبيد الله بن زَحْر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويل للأعقاب من النار! قال: فما بقي في المسجد شريفٌ ولا وضيع إلا نظرتُ إليه يقلِّب عُرْقوبيه ينظر إليهما. (3)
__________
(1) الآثار: 11520- 11524، خلا الحديث (11522) - خبر منصور، عن هلال بن يساف، رواه الأئمة من طرق. رواه مسلم في صحيحه 3: 128-130، وأحمد في مسنده من طرق رقم: 6528، 6809، 6883، والنسائي في سننه 1: 77، 78، وابن ماجه 1: 154، رقم: 450، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 33، والبيهقي في السنن 1: 69. وانظر تخريجه في شرح المسند رقم: 6528.
وقوله: "تلوح": أي تلمع، من بياضها. وأتى في الأثر: 11524، "فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء".
(2) الآثار: 11520- 11524، خلا الحديث (11522) - خبر منصور، عن هلال بن يساف، رواه الأئمة من طرق. رواه مسلم في صحيحه 3: 128-130، وأحمد في مسنده من طرق رقم: 6528، 6809، 6883، والنسائي في سننه 1: 77، 78، وابن ماجه 1: 154، رقم: 450، والطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 33، والبيهقي في السنن 1: 69. وانظر تخريجه في شرح المسند رقم: 6528.
وقوله: "تلوح": أي تلمع، من بياضها. وأتى في الأثر: 11524، "فرأى أقدامهم بيضا من أثر الوضوء".
(3) الأثر: 11525-"مطرح بن يزيد الأسدي الكناني"، أبو المهلب. روى عن عبيد الله بن زحر. ضعيف قال أبو حاتم: "ليس بالقوي، هو ضعيف الحديث. يروي أحاديث بن زحر عن علي بن يزيد، فلا أدري من علي بن يزيد أو منه". مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/19، وابن أبي حاتم 4/1/409.
و"عبيد الله بن زحر الضمري الإفريقي"، وثقه أخي السيد أحمد فيما سلف رقم: 7660، وقال، "ضعفه أحمد، وابن معين، وابن المديني.. ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء. ونرى أن من تكلم فيه، إنما هو من أجل نسخة يرويها عن علي بن يزيد الألهاني، الحمل فيها على علي بن يزيد". وانظر التهذيب.
و"علي بن يزيد الألهاني". ضعيف بمرة. روى عن القاسم بن عبد الرحمن، صاحب أبي أمامة، نسخة كبيرة. روى عن عبيد الله بن زحر، ومطرح بن يزيد، وآخرين. ضعفه أحمد. وقال ابن معين: "علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة"، "ضعاف كلها" وقال، "أحاديث عبيد الله بن زحر وعلي بن يزيد، ضعيفة". وقال البخاري: "منكر الحديث ضعيف".
"القاسم"، هو"القاسم بن عبد الرحمن الشامي"، اختلف فيه، قال أخي السيد أحمد: "والراجح أنه ثقة، وأن ما أنكر عليه، إنما جاء من الرواة عنه الضعفاء. وقد بينا ذلك في شرح المسند: 598، وما علقنا به على تهذيب السنن للمنذري: 2376". مضى ذلك برقم: 1939.
فهذا حديث ضعيف لضعف رواته.(10/73)
11526 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسين، عن زائدة، عن ليث قال، حدثني عبد الرحمن بن سابط، عن أبي أمامة= أو: أخي أبى أمامة= أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر أقواما يتوضأون، وفي عَقِب أحدهم =أو كعب أحدهم= مثلُ موضع الدرهم= أو: موضع الظفُر= لم يمسَّه الماء، فقال: ويلٌ للأعقاب من النار! فقال: فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئا لم يصبه الماء أعادَ وضوءه. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما حدّثكم به:-
11527 - محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه، ثم قام فصلى. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 11526-"عبد الرحمن بن سابط"، واختلف في اسمه فقيل هو: "عبد الرحمن بن عبد الله بن سابط" انظر ما سلف رقم: 503، 504، 599، 4341. وهو تابعي ثقة. قيل ليحيى بن معين: "سمع عبد الرحمن من سعد بن أبي وقاص؟ قال: لا. قيل: من أبي أمامة؟ قال: لا. قيل: من جابر؟ قال: لا، هو مرسل"، فهذا خبر مرسل.
(2) الأثر: 11527-"يعلى بن عطاء العامري الطائفي". روي عن أبيه، وأوس بن أبي أوس، وغيرهما. وروي عنه شعبة، والثوري، وحماد بن سلمة، وشريك، وهشيم. ثقة. مترجم في التهذيب.
وأبوه"عطاء العامري الطائفي". روى عن أوس بن أبي أوس، وابن عمرو بن العاص، وابن عباس. وروى عنه ابنه يعلى. ذكره ابن حبان في الثقات.
و"أوس بن أبي أوس الثقفي"، هو"أوس بن حذيفة" الصحابي.
وانظر الاختلاف في اسم أبيه، في التهذيب، والإصابة، والكبير للبخاري 1/2/16، 17، وابن أبي حاتم 1/1/303.
وسيأتي هذا الخبر برقم: 11529 من طريق هشيم، عن يعلى بن عطاء. وسنخرجه هناك.(10/74)
=وما حدثك به:_
11528 - عبد الله بن الحجاح بن المنهال قال، حدثني أبي قال، حدثنا جرير بن حازم قال، سمعت الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم سُبَاطة قوم فبال عليها قائما، ثم دعا بماء فتوضأ ومسح على نعليه. (1)
* * *
=وما حدثك به:-
11529 - الحارث قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا يعلى بن عطاء، عن أبيه، عن أوس بن أبي أوس قال:"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة قوم، فتوضأ ومسح على قدميه" (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 11528-"جرير بن حازم الأزدي العتكي"، مضى برقم: 597، إمام حافظ، قال قراد: "قال لي شعبة: عليك بجرير بن حازم فاسمع منه. وقال ابنه وهب بن جرير: كان شعبة يأتي أبي فيسأله عن حديث الأعمش، فإذا حدثه قال: هكذا والله سمعته من الأعمش". فجرير يروى عن الأعمش، مباشرة، ثم من طريق شعبة عنه. بيد أن أبا جعفر الطبري، قال بعد في (ص: 80) إن هذا الخبر لم ينقله عن الأعمش بهذا اللفظ غير جرير بن حازم، وإن أصحاب الأعمش الحفاظ الثقات، رووه عنه بغير هذا اللفظ. (انظر رقم: 11531-11536) . وقد نقله ابن كثير في تفسيره 3: 94، وقال، "وهو حديث صحيح" ثم قال عن هاتين الروايتين = رواية جرير بن حازم، ورواية الحفاظ من أصحاب الأعمش=: "ويحتمل الجمع بينهما بأن يكون في رجله خفان، عليهما نعلان".
(2) الأثر: 11529- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 11528.
وهذا الحديث رواه أبو داود في سننه 1: 78، رقم: 160، من طريق مسدد وعباد بن موسى، عن هشيم. ورواه أحمد في مسنده مختصرا 4: 8 عن هشيم. ولفظ أبي داود: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ومسح على نعليه وقدميه = وقال عباد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم - يعني الميضأة، ولم يذكر مسدد: الميضأة، والكظامة - ثم اتفقا: فتوضأ ومسح على نعليه وقدميه".
وأما رواية أحمد في المسند: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى كظامة قوم فتوضأ".
وأما ما جاء في الخبر هنا"سباطة قوم"، فإنه خالف رواية أبي داود عن هشيم أنه قال"كظامة"، ومن العجيب أن ابن كثير نقل الخبر عن هذا الموضع من سنن أبي داود فكتب أيضا"سباطة قوم"، مع أن"الكظامة" (بكسر الكاف) جاءت مفسرة في حديث أبي داود أنها الميضأة. وأما "السباطة" (بضم السين) ، فهي الكناسة، أو الموضع الذي يرمي فيه التراب والأوساخ وما يكنس من المنازل.
وأما "الكظامة"، فإن أبا داود فسرها بأنها الميضأة، وهو تفسير بالمعنى، وإلا فإنها قناة في باطن الأرض يجري الماء فيها.
وعجب آخر، أن ابن كثير كتب: "أتى سباطة قوم فبال"، فزاد"فبال"، وهي ليست في حديث هشيم هذا، في سنن أبي داود. ولا في المسند، فلا أدري من أين جاء بها؟ وأخشى أن تكون عجلة منه أو من ناسخ تفسيره، اشتبه عليه حديث"أبي وائل" عن حذيفة الآتي في رقم: 11531 وما بعدها، فعجل فكتبه كذلك.(10/75)
=وما أشبه ذلك من الأخبار الدالة على أن المسح ببعض الرجلين في الوضوء مجزئ؟ قيل له: أما حديث أوس بن أبى أوس فإنه لا دلالة فيه على صحة ذلك، إذ لم يكن في الخبر الذي روي عنه ذكر أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بعد حدَثٍ يوجب عليه الوضوء لصلاته، فمسح على نعليه، أو على قدميه. وجائز أن يكون مسحه على قدميه الذي ذكره أوس كان في وضوء توضأه من غير حدث كان منه وجب عليه من أجله تجديد وضوئه، لأن الرواية عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا توضأ لغير حدث، كذلك يفعل، يدل على ذلك ما:-
11530 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو مالك الجنبي، عن مسلم، عن حبة العرني قال: رأيت عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه شرب في الرحبة قائما، ثم توضأ ومسح على نعليه وقال: هذا وضوء من لم يحدث، هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 11530-"محمد بن عبيد بن محمد بن واقد المحاربي" شيخ الطبري، مضت روايته عنه كثيرا منها: 1952، 3167، 3366، 4294، 8756، 9180. روى عنه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وآخرون. قال النسائي: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"أبو مالك الجنبي": هو: "عمرو بن هاشم الحنبي الكوفي". قال أحمد: "صدوق، ولم يكن صاحب حديث". وقال البخاري: "فيه نظر"، وقال أبو حاتم: "لين الحديث، يكتب حديثه". قال ابن سعد: "كان صدوقا، ولكنه كان يخطئ كثيرا"، وضعفه مسلم، وقال ابن حبان: "لا يجوز الاحتجاج بخبره". مترجم في التهذيب.
و"مسلم" و"مسلم الأعور" وهو: "مسلم بن كيسان الضبي الملائي" الأعور. مضى برقم: 9673. روى عن أنس بن مالك، ومجاهد وسعيد بن جبير، وحبة العرني، وغيرهم. قال البخاري: "يتكلمون فيه"، وقال أيضا: "ضعيف" ذاهب الحديث، لا أروى عنه". وقال عمرو بن علي: "كان يحيى بن سعيد، وابن مهدي، لا يحدثان عن مسلم الأعور، وكان شعبة وسفيان يحدثان عنه، وهو منكر الحديث جدا". مترجم في التهذيب.
و"حبة العرني" هو"حبة بن جوين بن علي بن عبدنهم العرني البجلي". روى عن ابن مسعود، وعلي، وعمار. روى عنه سلمة بن كهيل، والحكم بن عتيبة، ومسلم الأعور. قال ابن معين"حبة العرني، ليس بشيء". وقال البخاري: "فيه نظر، يذكر عنه سوء مذهب"، وقال النسائي: "ليس بالقوي"، وقال ابن سعد: "يضعف"، ونقل عن أحمد أنه وثقه، وقال العجلي: "كوفي تابعي ثقة". وقال ابن حبان: "كان غاليا في التشيع، واهيا في الحديث". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/86، وابن أبي حاتم 1/2/253.
وهذا خبر ضعيف كما ترى، بضعف رواته.(10/76)
=فقد أنبأ هذا الخبر عن صحة ما قلنا في معنى حديث أوس.
* * *
فإن قال: فإن حديث أوس، وإن كان محتملا من المعنى ما قلت، فإنه محتمل أيضا ما قاله من قال أنه معنيٌّ به المسح على النعلين أو القدمين في وضوء توضأه رسول الله صلى الله عليه وسلم من حدثٍ؟
قيل: أحسن حالات الخبر ما حُمِّل ما قلتَ، (1) إن سلم له ما ادَّعى من احتماله ما ذكر من المسح على القدم أو النعل بعد الحدث، وإن كان ذلك غير محتمله عندنا، إذ كان غير جائز أن تكون فرائضُ الله وسنن رسوله صلى الله عليه وسلم متنافيًة متعارضًة، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمرُ بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء، بالنقل المستفيض القاطع عذرَ من انتهى إليه وبلَغه. وإذْ كان
__________
(1) في المطبوعة: "ما احتمل ما قلت"، وأثبت ما في المخطوطة، فإنه لا بأس به.(10/77)
ذلك عنه صحيحا، فغير جائز أن يكون صحيحا عنه إباحةُ ترك غسل بعض ما قد أوجبَ فرضًا غَسْلَه في حال واحدة ووقت واحد، لأن ذلك إيجاب فرض وإبطاله في حال واحدة. وذلك عن أحكام الله وأحكام رسوله صلى الله عليه وسلم منتفٍ.
غير أنا إذا سلَّمنا لمن ادَّعى في حديث أوس ما ادعى= من احتماله مسح النبيّ صلى الله عليه وسلم على قدمه في حال وضوء من حدَث، ثقًة منا بالفَلَج عليه، بأنه لا حجة له في ذلك= (1) قلنا: فإذا كان محتملا ما ادَّعيت، أفمحتمل هو ما قلناه إنّ ذلك كان من النبي صلى الله عليه وسلم في حال وضوئه لا من حدث؟ (2)
فإن قال:"لا" ثبتت مكابرته لأنه لا بيان في خبر أوس أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك في وضوء من حدث.
وإن قال:"بل هو محتمل ما قلتَ ومحتمل ما قلنا".
قيل له: فما البرهان على أن تأويلك الذي ادَّعيتَ فيه أولى به من تأويلنا؟ فلن يدّعي برهانا على صحة دعواه في ذلك، إلا عُورض بمثله في خلاف دعواه.
وأما حديث حذيفة فإن الثِّقات الحفَّاظ من أصحاب الأعمش حدثوا به، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى سُبَاطة قوم فبال قائما، ثم توضأ ومسح على خفيه".
11531 - حدثنا بذلك أحمد بن عبدة الضبي قال، حدثنا أبو عوانة، عن
__________
(1) في المطبوعة: "..في حال وضوء من حدث، ففيه نبأ بالفلج عليه، فإنه لا حجة له في ذلك"، وهو خلف من الكلام رديء لا معنى له. وكان في المخطوطة: "..نفه منا بالفلح عليه فإنه لا حجة له في ذلك"، وصواب قراءة ذلك ما أثبته، وأخطأ ناسخ المخطوطة، فجعل"بأنه"، "فإنه" بالفاء. والصواب المحض هو ما أثبته. يقول: إذا سلمنا له ذلك ثقة منا بالفلج عليه.. قلنا: واستقام الكلام، والحمد لله وحده.
(2) في المطبوعة: "في حال وضوئه لا من حدث"، وفي المخطوطة: "في حال وضوئه من حدث" خطأ أسقط"غير"، وصوابه ما أثبت، استظهارا من نهجه في عبارته فيما سلف، وإن كان ما في المطبوعة صواب مستعمل.(10/78)
الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة.
11532- ح، حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي وائل، عن حذيفة.
11533 - ح، حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة.
11534 - ح، حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة.
11535 - ح، حدثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي قال، حدثنا عمي يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن شقيق، عن حذيفة.
11536 - ح، حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة. (1) .
* * *
__________
(1) الآثار: 11531- 11536-"أبو أوائل" هو"شقيق بن سلمة الأسدي"، من كبار التابعين الثقات، لا يسأل عن مثله. مضى كثيرا، منها رقم: 177، 3956، 4223، 4526، 7279، 7282، 9671.
وهذا الحديث رواه الأئمة من طرق عن الأعمش، عن أبي وائل شقيق بن سلمة، عن حذيفة، بمثله. رواه البخاري (الفتح 1: 282) ، ليس فيه زيادة"ومسح على خفيه"، ولكن رواها مسلم في صحيحه 3: 165، لأنها زيادة من حافظ. وانظر تفصيل ذلك فيما قاله ابن حجر في الفتح، وما كتبه أخي السيد أحمد في شرح الترمذي 1: 19، 20.
هذا، وقد جاء الأثر: 11535، في المطبوعة: "حدثنا عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي، قال حدثنا عمرو بن يحيى بن سعيد"، وفي المخطوطة: "عمر بن يحيى بن سعيد"، وكل ذلك خطأ لا شك فيه.
وإن"عيسى بن عثمان بن عيسى الرملي"، مضت ترجمته برقم 300، 2813، وهو يروى عن عمه"يحيى بن عيسى الرملي"، كما مضى هناك، ولم يذكر أنه روى عن غير عمه هذا.
وعمه"يحيى بن عيسى الرملي". مضى برقم: 300، 6317، 9035، وأما "عمر بن يحيى بن سعيد"، كما في المخطوطة، فليس في الرواة من سمى بذلك. وأما ما غيره ناشر المطبوعة"عمرو بن يحيى بن سعيد"، فإن في الرواة"عمرو بن يحيى بن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص"، روى عن جده"سعيد بن عمرو" وروى عنه ابن عيينة وروح بن عبادة، وهذه الطبقة، لا يدرك"عيسى بن عثمان الرملي" أن يروى عنه. وظاهر أن الناسخ كتب مكان"عمي""عمر" وزاد بعده"بن"، وأخطأ في قراءة"عيسى"، فكتب"سعيد"، فرددت الإسناد إلى صوابه.(10/79)
=وكل هؤلاء يحدّث ذلك عن الأعمش، بالإسناد الذي ذكرنا عن حذيفة:"أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على خفيه"، وهم أصحاب الأعمش. ولم ينقل هذا الحديث عن الأعمش غير جرير بن حازم. (1) ولو لم يخالفه في ذلك مخالف، لوجب التثبت فيه لشذوذه، فكيف والثِّقات من أصحاب الأعمش يخالفونه في روايته ما روى من ذلك!! ولو صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم كان جائزا أن يكون مسح على نعليه وهما ملبوستان فوق الجوربين، وإذا جاز ذلك لم يكن لأحد صرفُ الخبر إلى أحد المعاني المحتمِلِها الخَبرُ إلا بحجة يجب التسليم لها.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِلَى الْكَعْبَيْنِ}
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في"الكعب".
فقال بعضهم بما:-
11537 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا القاسم بن الفضل الحدّاني، قال، قال أبو جعفر: أين"الكعبين"؟ فقال القوم: هاهنا. فقال: هذا رأس الساق! ولكن"الكعبين" هما عند المفصل (2)
__________
(1) انظر ما سلف في التعليق على الأثر: 11528.
(2) الأثر: 11537-"القاسم بن الفضل بن معدان بن قريط الحداني، الأزدي"، أبو المغيرة. لم يكن حدانيا، كان نازلا فيهم، هو أزدي من بني الحارث بن مالك. روى عن أبيه وابن سيرين، ومعاوية بن قرة، وأبي جعفر محمد بن علي بن الحسين. وغيرهم. ثقة ثبت. قال يحيى القطان: "كان منكرا"، يعني من فطنته. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/169، وابن أبي حاتم 3/2/116.
و"أبو جعفر" هو الباقر: "محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، مضى برقم: 5123، 5463.
وفي المطبوعة هنا: "أين الكعبان"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض، استفهم عن"الكعبين" في لفظ الآية.(10/80)
11538 - حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب قال، قال مالك:"الكعب" الذي يجب الوضوء إليه، هو الكعب الملتصق بالساق المحاذِي العقب، وليس بالظاهر في ظاهر القدم.
* * *
وقال آخرون بما:-
11539 - حدثنا الربيع قال، قال الشافعي: لم أعلم مخالفًا في أن"الكعبين" اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء، هما الناتئان وهما مجمع مَفْصِل الساق والقدم (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن"الكعبين" هما العظمان اللذان في مفصل الساق والقدم، تسمِّيهما العرب"المِنْجَمين". (2) وكان بعض أهل العلم بكلام العرب يقول: هما عظما الساق في طرفها (3)
* * *
واختلف أهل العلم في وجوب غسلهما في الوضوء وفي الحدّ الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من الرجلين نحو اختلافهم في وجوب غسل المرفقين، وفي الحد الذي ينبغي أن يبلغ بالغسل إليه من اليدين. وقد ذكرنا ذلك ودللنا على الصحيح من القول فيه بعلله فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (4)
* * *
__________
(1) هذا في الأم للشافعي 1: 23 مع خلاف يسير في لفظه، قال الشافعي"لم أسمع مخالفا في أن الكعبين اللذين ذكر الله عز وجل في الوضوء هما الكعبان الناتئان..".
وكان في المطبوعة هنا"مجمع فصل الساق والقدم"، وهو خطأ لا شك فيه.
(2) "المنجم" (بكسر الميم وسكون النون وفتح الجيم) و (بفتح الميم وسكون النون وكسر الجيم) مثل: "منبر" و"مجلس"، ويقال مثل: "مقعد" (بفتحتين) : وهو الكعب والعرقوب، وكل ما نتأ.
(3) لم أعرف قائل هذا، وهو صواب محض.
(4) انظر ما سلف قريبا ص: 47، 48.(10/81)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وإن كنتم جنبا" وإن كنتم أصابتكم جنابة قبل أن تقوموا إلى صلاتكم فقمتم إليها="فاطَّهَّروا"، يقول: فتطهّروا بالاغتسال منها قبل دخولكم في صلاتكم التي قمتم إليها. (1)
* * *
ووحَّد"الجُنب" وهو خبر عن الجميع، لأنه اسم خرج مخرج الفعل (2) كما قيل:"رجل عَدْل وقوم عدل"، و"رجل زَوْرٌ وقوم زَوْرٌ"، وما أشبه ذلك لفظ الواحد والجميع والاثنين والذكر والأنثى فيه واحد.
يقال منه:"أجنَب الرجل" و"جَنُب" و"اجتَنَب" (3) والفعل"الجنابة"، و"الاجناب". (4) وقد سمع في جمعه"أجناب"، وليس ذلك بالمستفيض الفاشي في كلام العرب، بل الفصيح من كلامهم ما جاء به القرآن (5) .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: إن كنتم جرحى أو مُجَدَّرين (6) وأنتم
__________
(1) انظر تفسير"التطهر" فيما سلف 4: 383-387.
(2) "الفعل" هنا، يعني به المصدر، كما سلف مرارا. انظر فهارس المصطلحات.
(3) "اجتنب"، زيادة عما جاء في كتب اللغة، وعندهم أيضا: "تجنب" و"استجنب" في هذا المعنى.
(4) "الفعل" هنا، يعني به المصدر، كما سلف مرارا. انظر فهارس المصطلحات.
(5) انظر تفسير"الجنب"، فيما سلف 8: 340، 379، ولم يشرح أبو جعفر هناك هذا الحرف، ثم استوفاه في هذا الموضع. وهو من اختصاره في تفسيره.
(6) يقال، "جدر الرجل، جدرا" (بالبناء للمجهول، بضم أوله وكسر ثانيه) "فهو جدير". و"جدر" (بالبناء للمجهول مشدد الدال) "فهو مجدر"، إذا أصابه الجدري.(10/82)
جنب =
وقد بيَّنا أن ذلك كذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته (1) .
* * *
وأما قوله:"أو على سفر" فإنه يقول: وإن كنتم مسافرين وأنتم جنب (2) ="أو جاء أحد منكم من الغائط" يقول: أو جاء أحدكم وقد قضى حاجته فيه وهو مسافر. وإنما عنى بذكر مجيئه منه قضاء حاجته فيه (3) .
= أو لامستم النساء" يقول أو جامعتم النساء وأنتم مسافرون. وقد ذكرنا اختلاف المختلفين فيما مضى قبل في"اللمس" وبينا أولى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى بما أغنى عن إعادته (4) .
* * *
فإن قال قائل: وما وجه تكرير قوله:"أو لامستم النساء" إن كان معنى"اللمس" الجماع، وقد مضى ذكر الواجب عليه بقوله:"وإن كنتم جنبا فاطّهروا"؟
قيل: وجه تكرير ذلك أن المعنى الذي ألزمه تعالى ذكره من فرضه (5) بقوله:"وإن كنتم جنبا فاطهروا" غيُر المعنى الذي ألزمه بقوله:"أو لامستم النساء" وذلك أنه بيَّن حكمه في قوله:"وإن كنتم جنبا فاطهروا" إذا كان له السبيل إلى الماء الذي يطهّره، ففرض عليه الاغتسال به (6) ثم بيَّن حكمه إذا أعوزه الماء فلم يجد إليه السبيلَ وهو مسافر غير مريض مقيم، فأعلمه أن التيمم بالصعيد له حينئذ الطهور.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 8: 385-388.
(2) انظر تفسير"على سفر" فيما سلف 8: 388.
(3) انظر تفسير"الغائط" فيما سلف 5: 354/8: 388. وفي المطبوعة: "بعد قضاء حاجته"، وأثبت ما في المخطوطة، وكان فيها"فقد قضى".
(4) انظر تفسير"الملامسة" و"اللمس" فيما سلف 8: 389-406.
(5) في المطبوعة: "أن المعنى الذي ذكره تعالى من فرضه"، وكان في المخطوطة: "أن المعنى الذي تعالى ذكره"، سقط منها"ألزمه"، استظهرتها من تمام الجملة.
(6) في المطبوعة: "فرض" حذف الفاء، وهو خطل.(10/83)
القول في تأويل قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا" فإن لم تجدوا= أيها المؤمنون إذا قمتم إلى الصلاة وأنتم مرضى مقيمون، أو على سفر أصحَّاء، أو قد جاء أحد منكم من قضاء حاجته، أو جامع أهلَه في سفره="ماء فتيمموا صعيدا طيبا، يقول: فتعمَّدوا واقصدوا وجه الأرض="طيبا"، يعني: طاهرا نظيفا غير قذر ولا نجس، جائزا لكم حلالا="فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه" يقول: فاضربوا بأيديكم الصعيد الذي تيممتموه وتعمدتموه بأيديكم، فامسحوا بوجوهكم وأيديكم مما عَلِق بأيديكم="منه"، يعني: من الصعيد الذي ضربتموه بأيديكم من تُرابه وغباره.
وقد بينا فيما مضى كيفية"المسح بالوجوه والأيدي منه"= واختلاف المختلفين في ذلك= والقول في معنى"الصعيد" و"التيمم"، ودللنا على الصحيح من القول في كل ذلك بما أغنى عن تكريره في هذا الموضع (1) .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج" ما يريد الله= بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى صلاتكم، والغُسل
__________
(1) انظر تفسير"المسح بالوجوه والأيدي" فيما سلف 8: 410-425 = وتفسير التيمم" فيما سلف 8: 407، تعليق: 2، والمراجع هناك = وتفسير"الصعيد" فيما سلف 8: 408، 409 = وتفسير"الطيب" فيما سلف 8: 409، تعليق: 2، والمراجع هناك.(10/84)
من جنابتكم والتيمم صعيدا طيبا عند عدمكم الماء="ليجعل عليكم من حرج= ليلزمكم في دينكم من ضيق، ولا ليعنتكم فيه.
* * *
وبما قلنا في معنى"الحرج" قال أهل التأويل (1) .
ذكر من قال ذلك:
11540 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن خالد بن دينار، عن أبي العالية= وعن أبي مكين، عن عكرمة في قوله:"من حرج" قالا من ضيق.
11541 - حدثنا محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"من حرج" من ضيق.
11542 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولكن يريد ليطهركم" ولكن الله يريد أن يطهِّركم بما فرض عليكم من الوضوء من الأحداث والغسلِ من الجنابة، والتيمم عند عدم الماء، فتنظفوا وتطهّروا بذلك أجسامكم من الذنوب (2) . كما:-
11543 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد قال، حدثنا قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الوضوء يكفّر ما قبله، ثم تصير الصلاة نافلة. قال قلت: أنت سمعت
__________
(1) انظر تفسير"الحرج" فيما سلف 8: 518، وما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"التطهر" فيما سلف قريبا ص: 82، تعليق: 1.(10/85)
ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، غيرَ مرة، ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، ولا خمس (1) .
11544 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة صديّ بن عجلان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحوه (2) .
11545 - حدثنا أبو كريب، ومحمد بن المثني ويحيى بن داود الواسطي، قالوا، حدثنا إبراهيم بن يزيد مردانبه القرشي قال، أخبرنا رقبة بن مصقلة العبدي، عن شمر بن عطية، عن شهر بن حوشب، عن أبي إمامة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من توضأ فأحسن الوضوء ثم قام إلى الصلاة، خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه" (3)
__________
(1) الأثر: 11543-"سعيد"، هو: سعيد بن أبي عروبة.
و"شهر بن حوشب"، تابعي ثقة، مضى توثيقه برقم: 1489، 5244، 6650-6652. فهو حديث صحيح الإسناد، وسيأتي بإسنادين آخرين بعد.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 5: 251، من طريق محمد بن بشر، عن سعيد = وفي ص 261، من طريق محمد بن جعفر، عن سعيد. بمثله.
هذا، وقد كان في المخطوطة والمطبوعة: "لا مرة ولا مرتين.."، وهذا غير جائز، إلا أن يقول: "لا ثلاثا، ولا أربعا، ولا خمسا" بالنصب. فمن أجل ذلك، ومن أجل رواية أحمد في الموضعين، ورواية الطيالسي في مسنده: 154، جعلت"غير" مكان"لا". كما في روايتهم.
(2) الأثر: 11544-"معاذ بن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي"، مضى مرارا وأبوه"هشام الدستوائي"، مضى مرارا.
وهذا إسناد آخر للخبر السالف، من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة. رواه أبو داود الطيالسي في مسنده من هذه الطريق نفسها ص: 154، رقم: 1129.
وخبر أبي أمامة هذا، رواه أحمد من طرق أخرى. فرواه من طريق أبي خريم، عقبة بن أبي الصهباء، عن أبي غالب الراسبي، عن أبي أمامة (5: 254) = ومن طريق سليم بن حيان، عن أبي غالب، عن أبي أمامة (5: 255) = ومن طريق حماد بن سلمة، عن أبي غالب، عن أبي أمامة (5: 256) ، بغير هذا اللفظ. ومن هذه الطريق رواه أبو داود الطيالسي في مسنده ص: 155 رقم: 1135، بمثله.
(3) الأثر: 11545-"يحيى بن داود بن ميمون الواسطي"، شيخ الطبري. ذكره ابن حبان في الثقات وقال: "مستقيم الحديث"، مات سنة 244. مضت رواية الطبري عنه برقم: 4451. مترجم في التهذيب.
"إبراهيم بن يزيد بن مردانبه القرشي المخزومي"، مولى عمرو بن حريث. قال أبو حاتم: "شيخ، يكتب حديثه ولا يحتج به". مترجم في التهذيب، والخلاصة، والكبير 1/1/336.
وكان في المطبوعة: "إبراهيم بن يزيد يزرانبه" (بالياء في أوله) ، كما في الخلاصة، وبحذف (بن) . وضبطه في الخلاصة: "بفتح التحتانية، والمهملة، بينهما زاي ساكنة، ثم نون بعد الألف، وموحدة".
أما في المخطوطة ففيها: "يزيد بن مردانيه" بإثبات"بن" وبياء منقوطة، والصواب بالباء. وهكذا جاء في التهذيب، وفي تاريخ البخاري، وذكره البخاري أيضا بالذال"مرذانبه"، وضبطه في التقريب"بنون، ثم موحدة". فأثبت ما اتفقت عليه المخطوطة، وتاريخ البخاري، وضبط التقريب.
و"رقبة بن مصقلة بن عبد الله العبدي"، قال أحمد: "شيخ ثقة من الثقات، مأمون" وكان مفوها، يعد من رجالات العرب، وكانت فيه دعابة. مترجم في التهذيب.
و"شمر بن عطية بن بهدلة، وغيرهم. قال ابن سعد: "ثقة، وله أحاديث صالحة".
وهذا الخبر رواه أحمد من طريق وكيع، عن الأعمش، عن شمر، عن شهر، في مسنده 5: 252، 256، وخرجه في مجمع الزوائد، وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير بنحوه، وإسناده حسن". وفيه في رواية الخبر زيادة في آخره: "فإن قعد قعد مغفورا له".
ثم رواه أحمد في المسند من طرق أخرى، من طريق أبي النضر، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة (5: 263) ، مطولا، وخرجه صاحب مجمع الزوائد (1: 222) ، وقال: "رواه أحمد والطبراني في الكبير والأوسط. وفي إسناد أحمد: عبد الحميد بن بهرام، عن شهر. واختلف في الاحتجاج بهما، والصحيح أنهما ثقتان، ولا يقدح الكلام فيهما".
ثم رواه أحمد أيضا في المسند (5: 264) من طريقين، عن زائدة، عن عاصم بن أبي النجود، عن شهر بن حوشب.(10/86)
11546 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن منصور عن سالم بن أبي الجعد، عن كعب بن مرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه= أو: ذراعيه= إلا خرجت خطاياه منهما، فإذا غسل وجهه خرجت خطاياه من وجهه، فإذا مسح رأسه خرجت خطاياه من رأسه، وإذا غسل رجليه خرجت خطاياه من رجليه. (1)
__________
(1) الأثر: 11546-"كعب بن مرة البهزي السلمي "أو" مرة بن كعب"، اختلف في ذلك، وهكذا ذكره أحمد في إسناد هذا الخبر. وانظر ما قاله ابن حجر في الترجمتين من الإصابة.
وهذا الخبر رواه أحمد في مسنده 4: 234 مطولا من طريق: "محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد = قال شعبة، قال، قد حدثني به منصور، وذكر ثلاثة بينه وبين مرة بن كعب= ثم قال بعد: عن منصور، عن سالم، عن مرة، أو عن كعب".
ثم عاد أحمد فرواه أيضا (4: 321) من طريق: "سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن رجل، عن كعب بن مرة البهزي".
و"سالم بن أبي الجعد الأشجعي"، مات سنة 97، 98، وسمع جابرا وأنسا، وعبد الله بن عمرو، وهو تابعي ثقة. قال ابن حجر في التهذيب: روى عن كعب بن مرة، وقيل: "لم يسمع منه".
ومع انقطاعه، قال ابن كثير في تفسيره (3: 97) بعد أن ذكر حديث أحمد: "وهذا إسناد صحيح". وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد (1: 224، 225) ثم قال، "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح".
هذا، وقد كان سياق الخبر هكذا في المطبوعة: "ما من رجل يتوضأ فيغسل وجهه إلا خرجت خطاياه من وجهه، وإذا غسل يديه أو ذراعيه، خرجت خطاياه من ذراعيه.."، وهذا تغيير من الناشر الأول، لأن الخبر جاء في المخطوطة هكذا: "ما من رجل يتوضأ فيغسل يديه أو ذراعيه إلا خرجت خطاياه من وجهه، فإذا مسح رأسه.."، سقط من كلامه ما أثبته من رواية ابن كثير في تفسيره 3: 97، عن هذا الموضع من تفسير ابن جرير.(10/87)
11547 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا حاتم، عن محمد بن عجلان، عن أبى عبيد مولى سليمان بن عبد الملك، عن عمرو بن عبسة: أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إذا غسل المؤمن كفّيه انتثرت الخطايا من كفَّيه، وإذا تمضمض واستنشق خرجت خطاياه من فيه ومنخريه، وإذا غسل وجهه خرجت من وجهه حتى تخرج من أشفار عينيه، فإذا غسل يديه خرجت من يديه، فإذا مسح رأسه وأذنيه خرجت من رأسه وأذنيه، فإذا غسل رجليه خرجت حتى تخرج من أظفار قدميه، فإذا انتهى إلى ذلك من وضوئه كان ذلك حظّه منه، فإذ قام فصلى ركعتين مقبلا فيهما بوجهه وقلبه على ربه، كان من خطاياه كيوم ولدته أمّه" (1)
__________
(1) الأثر: 11547-"عثمان بن سعيد بن مرة القرشي"، روى عنه أبو كريب، مترجم في التهذيب.
وهناك أيضا"عثمان بن سعيد الزيات الأحول"، يروى عنه أبو كريب، مضى برقم: 137، فلا أدري أيهما هو.
و"حاتم"، هو: "حاتم بن إسمعيل المدني"، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 2003.
و"محمد بن عجلان المدني"، أحد العلماء العاملين الثقات، مضى برقم: 304، 4170، 5589.
و"أبو عبيد المذحجي" مولى سليمان بن عبد الملك، مختلف في اسمه. ثقة من أتباع التابعين، روى عن عمر بن عبد العزيز، ورجاء بن حيوة. مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة هنا"عن أبي عبيدة"، والصواب ما في المطبوعة.
و"عمرو بن عبسة السلمي"، أسلم قديما بمكة، وكان أخا لأبي ذر لأمه. وكان في الجاهلية يعتزل عبادة الأصنام، فلما أسلم يومئذ كان ربع الإسلام، كان المسلمون يومئذ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأبو بكر، وبلال، كما قال في حديثه. وكان في المخطوطة: "ابن عنبسة"، وهو خطأ صرف.
وهذا الخبر الذي رواه أبو جعفر منقطع، لم يسمع أبو عبيد من عمرو بن عبسة، وقد روى من طرق صحاح. رواه مسلم في صحيحه 6: 114-116، ورواه أحمد في مسنده 4: 112، 113، 285-388، ورواه ابن سعد في الطبقات 4/1/158، 159، مطولا، وهو حديث إسلام عمرو بن عبسة بطوله، بغير هذا اللفظ.(10/88)
11548 - حدثنا أبو الوليد الدمشقي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني مالك بن أنس، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال، إذا توضأ العبد المسلم =أو المؤمن= فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، أو نحو هذا. وإذا غسل يديه خرجت من يديه كل خطيئة بطشت بها يداه مع الماء، أو مع آخر قطرة من الماء، حتى يخرج نقيًّا من الذنوب" (1) .
11549 - حدثنا عمران بن بكار الكلاعي، قال، حدثنا علي بن عياش، قال، حدثنا أبو غسان، قال، حدثنا زيد بن أسلم، عن حمران مولى عثمان قال،
__________
(1) الأثر: 11548- رواه مالك في الموطأ ص 32، رقم: 31، ومسلم في صحيحه 3: 132، 133، وخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 226 مطولا بلفظ آخر وقال، "رواه الطبراني في الأوسط، وهو في الصحيح باختصار، ورجاله موثقون". وانظر ابن كثير 3: 97.
وخبر أبي جعفر هنا مختصر، والزيادة في الموطأ ومسلم: "فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء، أو مع آخر قطر الماء".
وفي المخطوطة والمطبوعة: "مع آخرة قطرة من الماء" في الموضعين، وهو في مسلم والموطأ: "مع آخر قطر الماء".(10/89)
أتيت عثمان بن عفان بوضوء وهو قاعد، فتوضأ ثلاثا ثلاثا، ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ كوضوئي هذا. ثم قال: من توضأ وضوئي هذا كان من ذنوبه كيوم ولدته أمّه، وكانت خُطاه إلى المساجد نافلة. (1)
* * *
وقوله:"وليتم نعمته عليكم" فإنه يقول: ويريد ربكم =مع تطهيركم من ذنوبكم بطاعتكم إياه فيما فرض عليكم من الوضوء والغسل إذا قمتم إلى الصلاة بالماء إن وجدتموه، وتيممكم إذا لم تجدوه= أن يتم نعمته عليكم بإباحته لكم التيمم، وتصييره لكم الصعيد الطيب طهورا، رخصة منه لكم في ذلك مع سائر نِعَمه التي أنعم بها عليكم (2) أيها المؤمنون ="لعلكم تشكرون" يقول: لكي تشكروا الله على نعمه التي أنعمها عليكم بطاعتكم إياه فيما أمركم ونهاكم (3) .
* * *
__________
(1) الأثر: 11549-"علي بن عياش بن مسلم الألهاني الحمصي"، ثقة حجة متقن، من شيوخ أحمد، روى له الأربعة، مترجم في التهذيب.
و"أبو غسان" هو: "محمد بن مطرف الليثي المدني"، أحد الأعلام الأثبات، مضى برقم: 2990.
وهذا الخبر من طريق زيد بن أسلم، عن حمران، عن عثمان، رواه مسلم في صحيحه بنحو من لفظه 3: 113.
وقد روي من طرق أخرى كثيرة، عن حمران بن أبان مولى عثمان، عن عثمان مختصرا ومطولا، انظر مسلم في صحيحه 3: 105-117، 133، وسنن أبي داود 1: 60، رقم: 106، وأحمد في المسند بالأرقام: 406، 415، 418، 419، 421، 428، 430، 459، 476، 478، 484، 486، 487، 489، 493، 503.
(2) انظر تفسير"إتمام النعمة" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (تمم) (نعم) .
(3) في المطبوعة: "يقول: تشكرون الله على نعمه.."، وفي المخطوطة: "تشكروا الله.."، والصواب ما أثبت. وانظر ما سلف في مواضع كثيرة، في تفسير"لعل" بمعنى"لكي"، منها 1: 364، 365/2: 69، 2، 85.(10/90)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: (1) واذكروا نعمة الله عليكم أيها المؤمنون، بالعقود التي عقدتموها لله على أنفسكم، واذكروا نعمته عليكم في ذلك بأن هداكم من العقود لما فيه الرضا، ووفقكم لما فيه نجاتكم من الضلالة والرَّدَى في نِعم غيرها جَمّة. كما:-
11550 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واذكروا نعمة الله عليكم" قال، النعم: آلاءُ الله.
11551 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وأما قوله:"وميثاقه الذي واثقكم به" فإنه يعني: واذكروا أيضا أيها المؤمنون، في نعم الله التي أنعم عليكم="ميثاقه الذي واثقكم به، وهو عهده الذي عاهدكم به. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في"الميثاق" الذي ذكر الله في هذه الآية، أيَّ مواثيقه عَنى؟
فقال بعضهم: عنى به ميثاقَ الله الذي واثقَ به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بايعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني جل ثناؤه بقوله"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف 9: 363، تعليق: 1، والمراجع هناك.(10/91)
له فيما أحبّو وكرهوا، والعمل بكل ما أمرهم الله به ورسوله.
ذكر من قال ذلك:
11552 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا" الآية، يعني: حيث بعث الله النبيَّ صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه الكتاب، (1) فقالوا:"آمنا بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالكتاب، (2) وأقررنا بما في التوراة"، فذكّرهم الله ميثاقَه الذي أقروا به على أنفسهم، وأمرهم بالوفاء به.
11553 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واذكروا نعمة الله عليكم وميثاقه الذي واثقكم به إذ قلتم سمعنا وأطعنا"، فإنه أخذ ميثاقنا فقلنا: سمعنا وأطعنا على الإيمان والإقرار به وبرسوله.
* * *
وقال آخرون: بل عنى به جلّ ثناؤه: ميثاقه الذي أخذ على عباده حين أخرجهم من صُلب آدم صلى الله عليه وسلم، وأشهدهم على أنفسهم: ألستُ بربكم؟ فقالوا: بلى شهدنا.
ذكر من قال ذلك:
11554 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) "حيث" هنا، استعملت في موضع"حين". وقد قال الأصمعي: "ومما تخطئ فيه العامة والخاصة، باب"حين" و"حيث"، غلط فيه العلماء، مثل أبي عبيدة وسيبويه".وقال أبو حاتم: "رأيت في كتاب سيبويه أشياء كثيرة، يجعل حين: حيث"، وكذلك في كتاب أبي عبيدة بخطه. قال أبو حاتم: واعلم أن"حين" و"حيث" ظرفان، فحين ظرف للزمان، وحيث ظرف للمكان، ولكل واحد منهما حد لا يجاوزه، والأكثر من الناس جعلوهما معا: حيث".
ثم انظر مقالة الأخفش أن"حيث" ظرف للزمان، في الخزانة 3: 162. والأمر يحتاج إلى زيادة بحث. ليس هذا موضعه.
(2) في المطبوعة: "بالنبي والكتاب" وأثبت ما في المخطوطة.(10/92)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وميثاقه الذي واثقكم به" قال: الذي واثق به بني آدم في ظهر آدم.
11555 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
* * *
ثال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك: قولُ ابن عباس، وهو أن معناه:"واذكروا" أيها المؤمنون="نعمة الله عليكم" التي أنعمها عليكم بهدايته إياكم للإسلام="وميثاقه الذي واثقكم به"، يعني: وعهده الذي عاهدكم به حين بايعتم رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة له في المنشَط والمكرَه، والعُسر واليُسر="إذ قلتم سمعنا" ما قلت لنا، وأخذت علينا من المواثيق وأطعناك فيما أمرتنا به ونهيتنا عنه، وأنعم عليكم أيضا بتوفيقكم لقبول ذلك منه بقولكم له:"سمعنا وأطعنا"، يقول: ففُوا لله، أيها المؤمنون بميثاقه الذي واثقكم به، ونعمته التي أنعم عليكم في ذلك بإقراركم على أنفسكم بالسمع له والطاعة فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، يَفِ لكم بما ضمن لكم الوفاءَ به إذا أنتم وفيتم له بميثاقه، من إتمام نعمته عليكم، وبإدخالكم جنته وإنعامكم بالخلود في دار كرامته، وإنقاذكم من عقابه وأليم عذابه.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب من قول من قال:"عنى به الميثاق الذي أخذ عليهم في صلب آدم صلوات الله عليه"، لأن الله جل ثناؤه ذكرَ بعقب تذكرة المؤمنين ميثاقَه الذي واثقهم به، ميثاقَه الذي واثق به أهل التوراة= بعد ما أنزل كتابه على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم= فيها، (1) فقال: (وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) ، الآيات بعدها [سور المائدة: 12] = مُنبِّهًا بذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) قوله: "فيها"، أي في التوراة، والسياق: "ميثاقه الذي واثق به أهل التوراة.. فيها".(10/93)
محمد على مواضع حظوظهم من الوفاء لله بما عاهدهم عليه= ومعرِّفَهم سوء عاقبة أهل الكتاب في تضييعهم ما ضيعوا من ميثاقه الذي واثقهم به في أمره ونهيه، وتعزير أنبيائه ورسله= زاجرًا لهم عن نكث عهودهم، فيُحلّ بهم ما أحلَّ بالناكثين عهوده من أهل الكتاب قبلهم.
فكان= إذْ كان الذي ذكرهم فوعظهم به ونهاهم عن أن يركبوا من الفعل مثلَه، ميثاقَ قوم أخذ ميثاقهم بعد إرسال الرسول إليهم وإنزال الكتاب عليهم (1) واجبًا أن يكون الحال التي أخذ فيها الميثاق والموعوظين نظيرَ حال الذين وعظوا بهم. وإذا كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا صحة ما قلنا في ذلك وفسادُ خلافه.
* * *
وأما قوله:"واتقوا الله إنّ الله عليم بذات الصدور"، فإنه وعيد من الله جل اسمه للمؤمنين كانوا برسوله صلى الله عليه وسلم من أصحابه (2) وتهدُّدًا لهم أن ينقضوا ميثاق الله الذي واثقهم به في رسوله (3) وعهدهم الذي عاهدوه فيه= بأن يضمروا له خِلاف ما أبدوا له بألسنتهم. (4) .
يقول لهم جل ثناؤه: واتقوا الله، أيها المؤمنون، فخافوه أن تبدِّلوا عهده وتنقضوا ميثاقه الذي واثقكم به، أو تخالفوا ما ضمنتم له بقولكم:"سمعنا وأطعنا"، بأن تضمروا له غير الوفاء بذلك في أنفسكم، فإن الله مطلع على ضمائر صدوركم (5) وعالم بما تخفيه نفوسكم لا يخفى عليه شيء من ذلك، فيُحّل بكم من عقوبته ما لا قبل لكم به، كالذي حلَّ بمن قبلكم من اليهود من المسخ وصنوف النّقم، وتصيروا في معادِكم إلى سخط الله وأليم عقابه.
* * *
__________
(1) سياق هذه العبارة: "فكان.. واجبا أن يكون الحال.."، وأما الجملة التي بينهما فهي معترضة، فمن أجل ذلك وضعتها بين خطين.
(2) في المطبوعة: ".. للمؤمنين الذين أطافوا برسوله"، غير ما في المخطوطة، وهو صواب محض وعربي عريق، وضع مكان"كانوا": "الذي أطافوا".
(3) في المطبوعة: "وتهديدا لهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(4) قوله: "بأن يضمروا.." متعلق"أن ينقضوا ميثاق الله.."، بأن يضمروا.
(5) انظر تفسير"ذات الصدور" فيما سلف 7: 155، 325.(10/94)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله محمد، ليكن من أخلاقكم وصفاتكم القيامُ لله شهداء بالعدل في أوليائكم وأعدائكم، (1) ولا تجوروا في أحكامكم وأفعالكم فتجاوزوا ما حددت لكم في أعدائكم لعدواتهم لكم، ولا تقصِّروا فيما حددت لكم من أحكامي وحدودي في أوليائكم لولايتهم لكم، (2) ولكن انتهوا في جميعهم إلى حدِّي، واعملوا فيه بأمري.
* * *
وأما قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا" فإنه يقول: ولا يحملنكم عداوةُ قوم على ألا تعدلوا في حكمكم فيهم وسيرتكم بينهم، فتجوروا عليهم من أجل ما بينكم وبينهم من العداوة.
* * *
وقد ذَكرنا الرواية عن أهل التأويل في معنى قوله: (كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ) [سورة النساء: 135] وفي قوله: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ) [سورة المائدة: 2] واختلاف المختلفين في قراءة ذلك، والذي هو أولى بالصواب من القول فيه والقراءة= بالأدلة الدالة على صحته، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
وقد قيل: إن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين همت اليهود بقتله.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "لولايتهم"، وأسقط"لكم"، وأثبتها من المخطوطة.
(2) انظر تفسير"القسط" فيما سلف 9: 301، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(3) انظر ما سلف 9: 301، الآية الأولى = ثم الثانية 9: 483- 487.(10/95)
11556 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، نزلت في يهود خيبر، أرادوا قتل النبيّ صلى الله عليه وسلم= وقال ابن جريج، قال عبد الله بن كثير: ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يهود يستعينهم في دية، فهمُّوا أن يقتلوه، فذلك قوله:"ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا" ... الآية.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: اعدلوا" أيها المؤمنون، على كل أحد من الناس وليًّا لكم كان أو عدوًّا، فاحملوهم على ما أمرتكم أن تحملوهم عليه من أحكامي، ولا تجوروا بأحد منهم عنه.
* * *
وأما قوله:"هو أقرب للتقوى" فإنه يعني بقوله:"هو" العدلُ عليهم أقرب لكم أيها المؤمنون إلى التقوى، يعني: إلى أن تكونوا عند الله باستعمالكم إياه من أهل التقوى، وهم أهل الخوف والحذر من الله أن يخالفوه في شيء من أمره، أو يأتوا شيئا من معاصيه. (1)
* * *
وإنما وصف جل ثناؤه"العَدْل" بما وصفه به من أنه"أقرب للتقوى" من الجور، لأن من كان عادلا كان لله بعدله مطيعًا، ومن كان لله مطيعا، كان لا شك
__________
(1) انظر تفسير"العدل"، و"التقوى"، فيما سلف من فهارس اللغة.(10/96)
من أهل التقوى، ومن كان جائرا كان لله عاصيا، ومن كان لله عاصيا، كان بعيدًا من تقواه.
* * *
وإنما كنى بقوله:"هو أقرب" عن الفعل (1) والعرب تكني عن الأفعال إذا كَنَتْ عنها بـ "هو" وبـ "ذلك"، كما قال جل ثناؤه: (فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) (2) [سورة البقرة: 271] و (ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ) [سورة البقرة: 232] . (3) ولو لم يكن في الكلام"هو" لكان"أقرب" نصبا، ولقيل:"اعدلوا أقربَ للتقوى"، كما قيل: (انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ) [سورة النساء: 171] . (4)
* * *
وأما قوله:"واتقوا الله إنّ الله خبير بما تعملون"، فإنه يعني: واحذروا أيها المؤمنون، أن تجوروا في عباده فتجاوزوا فيهم حكمه وقضاءَه الذين بيّن لكم، فيحلّ بكم عقوبته، وتستوجبوا منه أليم نكاله="إن الله خبير بما تعملون"، يقول: إن الله ذو خبرة وعلم بما تعملون أيها المؤمنون فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، من عمل به أو خلافٍ له، مُحْصٍ ذلكم عليكم كلّه، حتى يجازيكم به جزاءَكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءته، فاتقوا أن تسيئوا. (5)
* * *
__________
(1) "الفعل"، يعني مصدر الفعل، كما سلف قريبا ص: 82، تعليق: 2، وانظر فهرس المصطلحات.
(2) كان في المطبوعة: "هو خير لكم"، وفي المخطوطة بإسقاط"هو"، وهذا الذي أثبته هو نص آية البقرة: 271، وراجع ذلك في 5: 582 مما سلف. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 303.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "ذلك أذكى"، وأثبت نص آية البقرة. وانظر ما سلف 5: 29.
(4) انظر ما سلف 9: 413-415.
(5) انظر تفسير"خبير" فيما سلف من فهارس اللغة.(10/97)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، وعد الله أيها الناس الذين صدّقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به من عند ربهم، وعملوا بما واثقهم الله به، وأوفوا بالعقود التي عاقدَهم عليها بقولهم:"لنسمعن ولنطيعنَّ الله ورسوله" فسمعوا أمر الله ونهيه وأطاعوه، فعملوا بما أمرهم الله به، وانتهوا عما نهاهم عنه. (1)
ويعني بقوله:"لهم مغفرة" لهؤلاء الذين وفوا بالعقود والميثاق الذي واثقهم به ربهم="مغفرة" وهي ستر ذنوبهم السالفة منهم عليهم وتغطيتها بعفوه لهم عنها، وتركه عقوبتهم عليها وفضيحتهم بها (2) ="وأجر عظيم" يقول: ولهم مع عفوه لهم عن ذنوبهم السالفة منهم، جزاءً على أعمالهم التي عملوها ووفائهم بالعقود التي عاقدوا ربهم عليها="أجر عظيم"، و"العظيم" من خيره غير محدود مبلغه، ولا يعرف منتهاه غيره تعالى ذكره. (3)
* * *
فإن قال قائل: إن الله جل ثناؤه أخبر في هذه الآية أنه وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولم يخبر بما وعدهم، فأين الخبر عن الموعود؟
قيل: بلى (4) إنه قد أخبَر عن الموعود، والموعود هو قوله:"لهم مغفرة وأجر عظيم".
__________
(1) انظر تفسير"الصالحات" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"المغفرة" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"الأجر" و"عظيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) "بلى" تكون جوابا للكلام الذي فيه الجحد كقوله: "ألست بربكم قالوا بلى". هكذا قالوا، وقال ابن هشام في المغنى في باب"بلى": "ولكن وقع في كتب الحديث أنها يجاب بها الاستفهام المجرد، ففي صحيح البخاري في كتاب الإيمان: أنه عليه الصلاة والسلام قال لأصحابه: أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قالوا: بلى = وفي صحيح مسلم في كتاب الهبة: أيسرك أن يكونوا لك في البر سواء؟ قال، بلى! قال، فلا إذن = وفيه أيضا أنه قال، أنت الذي لقيتني بمكة؟ فقال له: بلى".
فمن أجل ذلك استعمله الطبري في جواب الاستفهام الذي لا جحد فيه، فكأنه عد سؤال السائل جحدا لذكره في الآية، فقال في جوابه"بلى"، بمعنى: ليس ذلك كما تزعم، وانظر ما سلف 2: 280، 510، وما سيأتي في الأثر رقم: 11818.(10/98)
فإن قال: فإن قوله:"لهم مغفرة وأجر عظيم" خبرٌ مبتدأ، ولو كان هو الموعود لقيل:"وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرًا عظيمًا، ولم يدخل في ذلك"لهم"، وفي دخول ذلك فيه، دلالة على ابتداء الكلام، وانقضاء الخبر عن الوعد!
قيل: إن ذلك وإن كان ظاهره ما ذكرتَ، فإنه مما اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام على ما بطن من معناه= من ذكر بعضٍ قد ترك ذكره فيه، وذلك أن معنى الكلام: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يغفر لهم ويأجرهم أجرًا عظيما= لأن من شأن العرب أن يُصْحِبوا"الوعد""أن" ويعملوه فيها، فتركت"أن" إذ كان"الوعد" قولا. ومن شأن"القول" أن يكون ما بعده من جمل الأخبار مبتدأ، وذكر بعده جملة الخبر اجتزاءً بدلالة ظاهر الكلام على معناه، وصرفا للوعد= الموافق للقول في معناه وإن كان للفظه مخالفا= إلى معناه، (1) فكأنه قيل:"قال الله: للذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجر عظيم".
* * *
وكان بعض نحويي البصرة يقول، إنما قيل:"وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم مغفرة وأجر عظيم"، في الوعد الذي وُعِدوا (2) =فكأن معنى الكلام على تأويل قائل هذا القول: وعد الله الذي آمنوا وعملوا الصالحات، لهم مغفرة وأجر عظيم، [فيما وعدهم به] . (3)
* * *
__________
(1) السياق: "وصرفا للوعد.. إلى معناه"، أي: إلى معنى القول.
(2) في المطبوعة: "الوعد الذي وعدوا" بإسقاط"في"، وهي في المخطوطة مكتوبة بسن القلم بين"عظيم" و"الوعد".
(3) اقتصر في هذا الموضع في المطبوعة والمخطوطة على نص الآية، واستظهرت تمام الكلام من تفسير القرطبي 6: 110، وقد عقب عليه بقوله: "وهذا المعنى عن الحسن"، فلا أدري أأصبت في ذلك، أم أخطأني التوفيق!(10/99)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"والذين كفروا" والذين جحدوا وحدانية الله، ونقضوا ميثاقه وعقودَه التي عاقدوها إياه="وكذبوا بآياتنا" يقول: وكذبوا بأدلّة الله وحججه الدالة على وحدانيته التي جاءت بها الرسل وغيرها="أولئك أصحاب الجحيم" يقول: هؤلاء الذين هذه صفتهم= أهل"الجحيم"، يعني: أهل النار الذين يخلُدون فيها ولا يخرجون منها أبدًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (2) "يا أيها الذين آمنوا" يا أيها الذين أقرُّوا بتوحيد الله ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربهم="اذكروا نعمة الله عليكم"، اذكروا النعمة التي أنعم الله بها عليكم، فاشكروه عليها بالوفاء له بميثاقه الذي واثقكم به، والعقود التي عاقدتم نبيكم صلى الله عليه وسلم عليها. ثم وصف نعمته التي أمرهم جل ثناؤه بالشكر عليها مع سائر نعمه، فقال، هي كفُّه عنكم أيدي القوم الذين همُّوا بالبطش بكم، فصرفهم عنكم،
__________
(1) انظر تفسير"الكفر" و"الآيات" و"أصحاب الجحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) كان في المطبوعة والمخطوطة: "يعنى بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا أقروا.."، فأثبت ما يقتضيه سياق أبي جعفر في سائر تفسيره، وهو في أغلب الظن اختصار سيئ من الناسخ.(10/100)
وحال بينهم وبين ما أرادوه بكم. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذه النعمة التي ذكّر الله جل ثناؤه أصحابَ نبيه صلى الله عليه وسلم بها، وأمرهم بالشكر له عليها.
فقال بعضهم: هو استنقاذ الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابَه مما كانت اليهود من بني النضير همُّوا به يوم أتوهم يستحملونهم دية العامريَّين اللذين قَتلهما عمرو بن أمية الضمري. (2)
ذكر من قال ذلك:
11557 - حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر قالا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير ليستعينَهم على دية العامريَّين اللذين قتلهما عمرو بن أمية الضَّمري. فلما جاءهم خلا بعضهم ببعض فقالوا: إنكم لن تجدوا محمدًا أقرب منه الآن، فَمَن رجلٌ يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمرو بن جحاش بن كعب: أنا. (3) فأتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ، وانصرف عنهم، فأنزل الله عز ذكره فيهم وفيما أرادَ هو وقومه:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمت الله عليكم إذْ همَّ قومٌ أن يبسطوا إليكم أيديهم" ... الآية. (4)
__________
(1) انظر تفسير"الكف" فيما سلف 8: 548/9: 29 = وقد مضى"الهم" غير مشروح أيضا فيما سلف 9: 199.
(2) "الحمالة" (بفتح الحاء) : الدية والغرامة التي يحملها قوم عن قوم يكفلون دفعها يقال: "تحمل الحمالة" و"استحمل القوم"، طلب إليهم أن يعينوه في"حمالته"، وهي الدية التي تكفل بها.
(3) "ظهر على البيت": علاه، أي ركب ظهره. وكان في المطبوعة: "فمروا رجلا يظهر" وليس فيها ولا في المخطوطة: "أنا"، فلذلك غيرها الناسخ، لفساد خط الناسخ في هذا الموضع. والصواب من سيرة ابن هشام.
(4) الأثر: 11557- هو في سيرة ابن هشام 2: 211، 212، ثم يأتي فيها بغير هذا اللفظ 3: 199-200.(10/101)
11558 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، قال: اليهود دخل عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطا لهم، (1) وأصحابه من وراء جداره، فاستعانهم في مغَرِم ديةٍ غَرِمها، ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله، فخرج يمشي القَهقَرى ينظر إليهم، ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تَتَامُّوا إليه.
11559 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"اذكروا نعمة الله عليكم إذ هَمَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم" يهودُ حين دخل النبي صلى الله عليه وسلم حائطا لهم، وأصحابه من وراء جدار لهم، فاستعانهم في مغرم، في الدية التي غرمها (2) ثم قام من عندهم، فائتمروا بينهم بقتله، فخرج يمشي معترضا ينظرُ إليهم خِيفتَهم (3) ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتامُّوا إليه. قال الله جل وعز:"فكف أيديهم عنكم واتَّقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون".
11560 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني أبو معشر، عن يزيد بن أبي زياد قال: جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير يستعينهم في عَقْلٍ أصابه (4) ومعه أبو بكر وعمر وعلي فقال: أعينوني في عَقْلٍ أصابني. فقالوا: نعم يا أبا القاسم، قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة! اجلس حتى نطعمَك ونعطَيك الذي تسألنا! فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) "الحائط": البستان من النخيل، قد أحاطوه بجدار.
(2) في المطبوعة: "في مغرم في دية غرمها" كما في الدر المنثور 1: 266. وفي المخطوطة: "في الدية" بالتعريف فرجحت أنه قد سقط من الكلام"التي" فأثبتها.
(3) "معترضا"، أي يأخذ يمنة ويسرة، يميل بوجهه إليهم ينظر، ويمشي هكذا وهكذا، لا تستقيم مشيته على الطريق.
(4) "العقل" هو: الدية.(10/102)
وأصحابُه ينتظرونه، وجاء حُييّ بن أخطب وهو رأس القوم، وهو الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال، فقال حيي لأصحابه: لا ترونه أقربَ منه الآن، اطرحوا عليه حجارة فاقْتُلوه، ولا ترون شرًّا أبدًا! فجاءوا إلى رحًى لهم عظيمة ليطرحوها عليه، فأمسك الله عنها أيديهم، حتى جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم فأقامه من ثَمَّ، فأنزل الله جل وعز:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذْ همّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفَّ أيديهم عنكم واتقوا الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، فأخبر الله عزَّ ذكره نبيّه صلى الله عليه وسلم ما أرادوا به.
11561 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" الآية، قال، يهودُ، دخلَ عليهم النبي صلى الله عليه وسلم حائطا، فاستعانهم في مَغْرَمٍ غرمه، فائتمروا بينهم بقتله، فقام من عندهم فخرج معترِضًا ينظر إليهم خِيفتَهم، (1) ثم دعا أصحابه رجلا رجلا حتى تتامُّوا إليه.
11562 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الأنصاري= أحدَ بني النجار وهو أحد النُّقباء ليلة العقبة= فبعثه في ثلاثين راكبًا من المهاجرين والأنصار، فخرجوا، فلقوا عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر على بئر معونة، وهي من مياه بني عامر، فاقتتلوا، فقُتل المنذرُ وأصحابُه إلا ثلاثة نَفَرٍ كانوا في طلب ضَالة لهم، فلم يرعهم إلا والطيرُ تحُوم في السماء، يسقط من بين خراطيمها عَلَقُ الدم. (2) فقال أحد النفر: قُتِل أصحابنا والرحمنِ! ثم تولّى يشتدُّ حتى لقي رجلا (3) فاختلفا ضربتين، فلما خالطته الضربة، رفع رأسه إلى السماء ففتح
__________
(1) "معترضا" أي يأخذ يمنة ويسرة، يميل بوجهه إليهم ينظر، ويمشي هكذا وهكذا، لا تستقيم مشيته على الطريق.
(2) "العلق" (بفتحتين) : قطع الدم الغليظ الجامد قبل أن ييبس.
(3) "اشتد": عدا عدوا شديدا.(10/103)
عينيه ثم قال: الله أكبر، الجنةُ وربّ العالمين!! فكان يُدْعى"أعنقَ لِيَمُوت"، (1) ورجع صاحباه، فلقيا رجلين من بني سليم، وبين النبي صلى الله عليه وسلم وبين قومهما مُوَادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر، فقتلاهما. وقدِم قومهما إلى النبي صلى الله عليه وسلم يطلبون الدية، فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعليُّ وطلحة وعبد الرحمن بن عوف، حتى دخلوا إلى كعب بن الأشرف ويهود النضير، فاستعانهم في عَقْلهما. قال، فاجتمعت اليهودُ لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واعتَلُّوا بصنيعة الطعام، (2) فأتاه جبريل صلى الله عليه وسلم بالذي أجمعت عليه يهودُ من الغَدر، (3) فخرج ثم دعا عليًّا، فقال، لا تبرح مَقامك، فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عنِّي فقل:"وجّه إلى المدينة فأدركوه". (4) قال: فجعلوا يمرُّون على عليّ، فيأمرهم بالذي أمرَه حتى أتى عليه آخرُهم، ثم تبعهم، فذلك قوله: (وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ) [سورة المائدة: 13] .
11563 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل، عن السدي، عن أبي مالك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكفّ أيديهم عنكم" قال: نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه، حين أرادوا أن يغدِروا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: بل النعمة التي ذكرها الله في هذه الآية، فأمر المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى اله عليه وسلم بالشُّكر له عليها: أنَّ اليهود كانت هَمَّت بقتل النبيّ صلى الله عليه وسلم في طعامٍ دعوه إليه، فأعلم الله عز وجل نبيّه صلى
__________
(1) "أعنق ليموت" و"المعنق ليموت"، يقال هو"المنذر بن عمرو الأنصاري"، ويقال هو"حرام بن ملحان النجاري". ="أعنق الرجل إعناقا": سارع وأسرع إسراعًا شديدًا حتى يسبق الناس. سمي بذلك، لأنه أسرع إلى مصرعه، رضي الله عنه.
(2) "الصنيعة" و"الصنيع": الطعام يصنع ويهيأ للحفاوة والإكرام.
(3) في المطبوعة: "اجتمعت عليه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المخطوطة: "وجه المدينة" أسقط"إلى"، والجيد ما في المطبوعة.(10/104)
الله عليه وسلم ما همُّوا به، فانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إليه.
ذكر من قال ذلك:
11564 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم" إلى قوله:"فكف أيديهم عنكم" وذلك أن قوما من اليهود صَنَعوا لرسول الله وأصحابه طعاما ليقتلوه إذا أتى الطعام، فأوحى الله إليه بشأنهم، فلم يأتِ الطعام، وأمرَ أصحابه فلم يأتوه. (1)
* * *
وقال آخرون: عنى الله جل ثناؤه بذلك: النعمةَ التي أنعمها على المؤمنين باطلاع نبيّه صلى الله عليه وسلم على ما همَّ به عدوّه وعدوُّهم من المشركين يوم بَطْن نَخْلٍ من اغترارهم إياهم، والإيقاع بهم، إذا هُم اشتغلوا عنهم بصلاتهم، فسجدوا فيها= وتعريفِه نبيَّه صلى الله عليه وسلم الِحذَار من عدوّه في صَلاته بتعليمه إيَّاه صلاة الخوف.
ذكر من قال ذلك:
11565 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم" ... الآية، ذكر لنا أنها نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ببَطْنِ نخل في الغَزْوة السابعة، (2) فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتِكوا
__________
(1) في المطبوعة: "وأمر أصحابه فأبوه"، و"أبوه" هنا سقيمة المنزل. وفي المخطوطة: "فأتوه" معجمة. وهو مخالف لما في الترجمة، إذ قال، "فانتهى هو وأصحابه عن إجابتهم إليه"، فآثرت أن أثبت نص ما في الدر المنثور 1: 266، فهو المطابق للترجمة. ونقله السيوطي عن ابن جرير، وابن أبي حاتم، من هذه الطريق نفسها.
(2) هكذا قال: "في الغزوة السابعة"، وهي في كثير من الروايات"الغزوة التاسعة"، وهي"غزوة ذي أمر" بنجد، انظر ابن سعد 2/1/24، وإمتاع الأسماع للمقريزي 1: 110، 111. وانظر التعليق على الأثر التالي، والأثر السالف رقم: 10340، والذي جاء في الأخبار أن صلاة الخوف كانت في السنة السابعة.(10/105)
به، فأطلعه الله على ذلك. ذكر لنا أن رجلا انتدب لقتله، فأتى نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم وسيفُه موضوع، فقال: آخذه، يا نبي الله؟ قال: خذه! قال: أستلُّه؟ قال: نعم! فسلَّه، فقال، من يمنعك منِّي؟ قال:"الله يمنعُني منك!. فهدّده أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأغلظوا له القول، فشامَ السَّيف (1) وأمر نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم أصحابَه بالرحيل، فأنزلت عليه صلاة الخوف عند ذلك. (2)
11566 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، ذكره عن أبي سلمة، عن جابر: أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم نزل منزلا وتفرَّق الناس في العِضاه يستظِلُّون تحتها، (3) فعلَّق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحَه بشجرةٍ، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخذه فسلَّه، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال، من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:"الله"، فشامَ الأعْرابي السيف، (4) فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه فأخبرهم خبرَ الأعرابيّ، وهو جالس إلى جنبه لم يعاقبه= قال معمر: وكان قتادة يذكر نحو هذا، وذكر أنَّ قومًا من العرب أرادُوا أن يفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسلوا هذا الأعرابي. وتأوّل:"اذكروا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، الآية. (5)
* * *
__________
(1) "شام السيف": أغمده. وهو من الأضداد، ويقال أيضا: "شام السيف": إذا سله.
(2) الأثر: 11565- هذا الخبر عن"صلاة الخوف"، لم يذكره أبو جعفر في صلاة الخوف فيما سلف 5: 237-250، ولا في 9: 123-166.
(3) "العضاه" (بكسر العين) : اسم يقع على ما عظم من شجر الشوك وطال واشتد شوكه، فاستظل به الناس.
(4) "شام السيف": أغمده. وهو من الأضداد، ويقال أيضا: "شام السيف": إذا سله.
(5) الأثر: 11566-"أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف" مضى مرارا. وكان في المطبوعة والمخطوطة"ابن أبي سلمة" بزيادة"ابن"، والصواب حذفها كما في تفسير ابن كثير 3: 101.
وهذا الخبر عن الزهري، عن أبي سلمة، عن جابر في مسند أحمد 3: 311، عن عبد الله بن أحمد بن حنبل، قال: "حدثنا عبد الله قال: وجدت هذا الحديث في كتاب أبي بخط يده، وسمعته في موضع آخر: حدثنا أبو اليمان قال، أخبرني شعيب، عن الزهري، حدثني سنان بن أبي سنان الدؤلي، وأبو سلمة بن عبد الرحمن: أن جابر بن عبد الله الأنصاري"، وساق الخبر بغير هذا اللفظ مطولا.
ثم رواه أحمد أيضا 3: 364، من طريق عفان بن أبان، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن جابر بغير ذاك اللفظ.
وروى أحمد خبر جابر مطولا مفصلا، من طريق أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر قال: قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة بنخل = في المسند 3: 364، 365 ثم: 390.
ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 329-331) ، بأسانيد. ورواه مسلم في صحيحه 15: 44، 45، بإسناد الطبري وأحمد.
وانظر أيضا ما رواه أبو جعفر من حديث جابر فيما سلف برقم: 10325.
وقال ابن كثير في تفسيره 3: 101، بعد أن ساق خبر أبي جعفر عن هذا الموضع من التفسير: "وهذا الأعرابي، هو غورث بن الحارث، ثابت في الصحيح".(10/106)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في تأويل ذلك، قولُ من قال: عنى الله بالنعمة التي ذكر في هذه الآية، نعمتَه على المؤمنين به وبرسوله التي أنعم بها عليهم في استنقاذه نبيّهم محمدا صلى الله عليه وسلم مما كانت يهود بني النضير همت به من قتله وقتل من معه يومَ سار إليهم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في الدية التي كان تحمَّلها عن قتيلي عمرو بن أمية.
وإنما قلنا ذلك أولى بالصحة في تأويل ذلك لأن الله جل ثناؤه عقًّب ذكر ذلك برمي اليهود بصنائعها وقبيح أفعالها، وخيانتها ربَّها وأنبياءها. ثم أمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم بالعفو عنهم، والصفح عن عظيم جهلهم، فكان معلوما بذلك أنه صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالعفو عنهم والصفح عَقِيب قوله:"إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم" وغيرُهم كان يبسط الأيدي إليهم. (1) لأنه لو كان الذين همُّوا ببسط الأيدي إليهم غيرَهم لكان حريًّا أن يكون الأمر بالعفو والصفح عنهم، لا عمَّن لم يجر لهم بذلك ذكر= ولكان الوصف بالخيانة في وصفهم في هذا الموضع،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ومن غيرهم كان يبسط الأيدي إليهم" بزيادة"من"، وهو فساد في الكلام شديد، والصواب حذف"من"، كما يدل عليه سياق الكلام. والواو في"وغيرهم" واو الحال.(10/107)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
لا في وصف من لم يجر لخيانته ذكر، ففي ذلك ما ينبئ عن صحة ما قضينا له بالصحة من التأويلات في ذلك، دون ما خالفه.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) }
(1) قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: واحذرُوا الله، أيها المؤمنون أن تخالفوه فيما أمركم ونهاكم، وأن تنقضوا الميثاق الذي واثقكم به فتستوجبوا منه العقابَ الذي لا قبل لكم به="وعلى الله فليتوكل المؤمنون" يقول: وإلى الله فليُلْقِ أزمَّة أمورهم، ويستسلم لقضائه، ويثقْ بنصرته وعونه (2) = المقروّن بوحدانيّة الله ورسالة رسوله، العاملون بأمره ونهيه، فإن ذلك من كمال دينهم وتمامِ إيمانهم= وأنّهم إذا فعلوا ذلك كلأهم ورعاهم وحفظهم ممن أرادهم بسوء، كما حفظكم ودافع عنكم، أيها المؤمنون اليهودَ الذين همُّوا بما همُّوا به من بسط أيديهم إليكم، كلاءَةً منه لكم، إذ كنتم من أهل الإيمان به وبرسوله دون غيره، (3) فإن غيره لا يطيق دَفْع سوءٍ أراد بكم ربُّكم ولا اجتلابَ نفعٍ لكم لم يقضه لكم.
* * *
__________
(1) سقط من المخطوطة والمطبوعة صدر بقية الآية، وهو قوله: "واتقوا الله"، فأثبتها.
(2) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف 8: 566، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) قوله: "دون غيره"، أي: كما حفظكم ودافع عنكم دون غيره.(10/108)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا}
قال أبو جعفر: وهذه الآية أنزلتْ إعلامًا من الله جلّ ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، أخلاقَ الذين همُّوا ببسط أيديهم إليهم من اليهود. كالذي:-
11567 - حدثنا الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك، عن الحسن في قوله:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" قال: اليهود من أهل الكتاب.
* * *
= (1) وأن الذي هموا به من الغدر ونقض العهد الذي بينهم وبينه، من صفاتهم وصفات أوائلهم وأخلاقِهم وأخلاقِ أسلافهم قديما= (2) واحتجاجا لنبيه صلى الله عليه وسلم على اليهود، بإطلاعه إيَّاه على ما كان علمه عندَهم دون العرب من خفيّ أمورهم ومكنون علومهم= وتوبيخا لليهود في تمادِيهم في الغيّ، وإصرارهم على الكفر، مع علمهم بخطأ ما هم عليه مقيمون.
يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: لا تستعظموا أمرَ الذين همُّوا ببسط أيديهم إليكم من هؤلاء اليهود بما همُّوا به لكم، ولا أمرَ الغدر الذي حاولوه وأرادوه بكم، فإن ذلك من أخلاق أوائلهم وأسْلافهم، لا يَعْدُون أن يكونوا على منهاج أوَّلهم وطريق سَلَفِهم. ثم ابتدأ الخبر عز ذكره عن بعضِ غَدَراتهم وخياناتهم وجراءَتهم على ربهم ونقضهم ميثاقَهم الذي واثقَهم عليه بَارِئُهم، (3) مع نعمه التي خصَّهم بها،
__________
(1) قوله: "وأن الذي هموا به.." معطوف على قوله: "إعلاما منه نبيه.. أخلاق الذين هموا ... وأن الذي هموا به.."، هذا سياق الجملة.
(2) قوله"واحتجاجا.."، معطوف على قوله آنفا: "وهذه الآية أنزلت إعلاما..".
(3) في المطبوعة: "الذي واثقتهم عليه بأدائهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة إذ كانت غير معجمة، فحرفها تحريفا أفضى إلى هلاك العبارة كلها.(10/109)
وكراماته التي طوّقهم شكرها، فقال، ولقد أخذ الله ميثاق سَلَف من همّ ببسط يده إليكم من يهود بني إسرائيل، يا معشر المؤمنين بالوفاء له بعهوده وطاعته فيما أمرهم ونهاهم، (1) كما:-
11568 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل" قال: أخذ الله مواثيقهم أن يخلصوا له، ولا يعبدُوا غيره.
* * *
="وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا" يعني بذلك: وبعثنا منهم اثنى عشر كفيلا كفلوا عليهم بالوفاء لله بما واثقوه عليه من العهود فيما أمرهم به وفيما نهاهم عنه.
و"النقيب" في كلام العرب، كالعَرِيف على القوم، غير أنه فوق"العريف". يقال منه:"نَقَب فلان على بني فلان فهو ينقُبُ نَقْبًا (2) فإذا أريد أنه لم يكن نقيبا فصار نقيبا، قيل:"قد نَقُبَ فهو ينقُب نَقَابة" = ومن"العريف":"عَرُف عليهم يَعْرُف عِرَافَةً". فأما"المناكب" فإنهم كالأعوان يكونون مع العُرفاء، واحدهم"مَنْكِب".
وكان بعض أهل العلم بالعربية يقول: هو الأمين الضامن على القوم. (3)
* * *
فأما أهل التأويل فإنهم قد اختلفوا بينهم في تأويله.
__________
(1) انظر تفسير"أخذ الميثاق" فيما سلف ص: 91، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "نقبا"، وهذا مصدر غريب جدا، ولم تذكره العربية، وهو جائز على ضعف شديد، وأنا أخشى أن يكون ذلك خطأ من النساخ، وأن الصواب هو الذي أجمعت عليه كتب اللغة"نقابة" (بكسر النون) في مصدر هذا الفعل. أما مصدر الفعل الذي يليه فهو بفتح النون. وقال سيبويه: "النقابة بالكسر الاسم، وبالفتح المصدر، مثل الولاية والولاية".
(3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 156.(10/110)
فقال بعضهم: هو الشاهد على قومه.
ذكر من قال ذلك:
11569 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا"، من كل سِبْط رجل شاهد على قومه.
* * *
وقال آخرون:"النقيب"، الأمين.
ذكر من قال ذلك:
11570 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال:"النقباء" الأمناء.
11571 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *
وإنما كان الله عز ذكره أمر موسى نبيّه صلى الله عليه وسلم ببعثة النقباء الاثنى عشر من قومه بني إسرائيل إلى أرض الجبابرة بالشأم، ليتحسَّسوا لموسى أخبارَهم (1) إذْ أراد هلاكهم، وأن يورِّث أرضَهم وديارَهم موسى وقومَه، وأن يجعلها مساكن لبني إسرائيل بعد ما أنجاهم من فرعون وقومه، وأخرجهم من أرض مصر، فبعث مُوسى الذين أمَره الله ببعثهم إليها من النقباء، كما:
11572 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أمر الله بني إسرائيل بالسير إلى أرْيَحَا، وهى أرض بيت المقدس، فساروا حتى إذا كانوا قريبا منهم بعث موسى اثنى عشر نقيبا من جميع أسباط بني إسرائيل. فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبابرة، فلقيهم رجل
__________
(1) في المطبوعة: "ليتجسسوا" بالجيم، و"التحسس" بالحاء: تطلب الخبر وتبحثه. وفي التنزيل: "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه".(10/111)
من الجبَّارين يقال له"عاج"، فأخذ الاثنى عشر، فجعلهم في حُجْزَته (1) وعلى رأسه حَمْلَةُ حطب. (2) فانطلق بهم إلى امرأته فقال: انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرَحَهم بين يديها، فقال، ألا أطْحَنُهم برجلي! فقالت امرأته: بل خلّ عنهم حتى يخبروا قومَهم بما رأوا. ففعل ذلك. فلما خرج القومُ، قال بعضهم لبعض: يا قوم إنكم إن أخبرتم بني إسرائيل خبرَ القوم، ارتدُّوا عن نبيِّ الله عليه السلام، ولكن اكتموه وأخبروا نَبِيَّ الله، فيكونان هما يَرَيان رأيهما! (3) فأخذ بعضهم على بعض الميثاق بذلك ليكتموه، ثم رجعوا فانطلق عشرة منهم فنكثوا العهدَ، فجعل الرجل يخبر أخاه وأباه بما رأى من [أمر] "عاج" (4) وكتم رجلان منهم، فأتوا موسى وهارون، فأخبروهما الخبرَ، فذلك حين يقول الله (5) "ولقد أخذ الله ميثاقَ بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا". (6)
11573 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"اثنى عشر نقيبا" من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم يُلقونهم إلقاءً (7) ولا يحمل عنقود عنبهم إلا خمسة أنفس
__________
(1) "الحجزة" (بضم فسكون) : موضع شد الإزار. وسبحان الله!! كيف كان يبالغ هؤلاء الرواة من أصحاب الإسرائيليات!!
(2) في المطبوعة: "حزمة حطب"، لم يحسن قراءة المخطوطة مع وضوحها. وأثبتها لما طابقت المخطوطة تاريخ الطبري. وما سيأتي برقم: 11656.
و"الحملة" (بفتح الحاء) : هي مقدار ما يحمله الحامل، كما يقال: "قبضة"، لمقدار ما تقبض عليه الكف. وهذا حرف لم أجد النص عليه في كتاب.
(3) "نبي الله"، يعني موسى وهرون عليهما السلام. وكان في المطبوعة: "فيما يريان"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(4) هذه الزيادة بين القوسين، من تاريخ الطبري.
(5) انظر ما كتبته في ص: 92، تعليق: 1، في أمر"حيث" و"حين".
(6) الأثر: 11572- هو من بقية الأثر الذي رواه أبو جعفر قديما برقم: 991، وهو في تاريخ الطبري 1: 221، 22. وسيأتي صدره برقم: 11656.
(7) في المخطوطة: "يلفونهم الفا" غير واضحة ولا منقوطة، وفي المطبوعة هنا"يلفونهم لفا"، وسيأتي برقم: 11660، كما أثبتها، في المخطوطة والمطبوعة معا. وانظر الأثر التالي: 11574، والتعليق عليه.(10/112)
منهم في خشبة (1) ويدخل في شطر الرمانة إذا نزع حبُّها خمسة أنفس أو أربع. فرجع النقباء كلٌّ منهم يَنْهى سِبْطه عن قتالهم إلا يوشع بن نون وكلاب بن يافنة، (2) يأمران الأسباط بقتال الجبابرة وبجهادهم، فعصوا هذين وأطاعُوا الآخرين.
11574 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: من بني إسرائيل رجالٌ= وقال أيضا: يلقونهما. (3)
11575 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: أمر موسى أن يسير ببني إسرائيل إلى الأرض المقدّسة، وقال: إني قد كتبتها لكم دارا وقرارا ومنزلا فاخرج إليها، وجاهد من فيها من العدوّ، فإني ناصركم عليهم، وخُذ من قومك اثنى عشر نقيبًا من كل سبط نقيبا يكون على قومه بالوفاء منهم على ما أمروا به، وقل لهم: إن الله يقول لكم: (إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ) ... إلى قوله: (فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ) وأخذ موسى منهم اثنى عشر نقيبا اختارهم من الأسباط كفلاء على قومهم بما هم فيه، على الوفاء بعهده وميثاقه. وأخذ من كل سبط منهم خيرَهم وأوفاهم رجلا. يقول الله عز وجل:"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا" فسار بهم موسى إلى الأرض المقدّسة بأمر الله، حتى إذا نزل التيه بين مصر والشام= وهي بلاد ليس فيها خَمَرٌ
__________
(1) في المخطوطة: "خمسة أنفاس بينهم في خشبة"، وفي المطبوعة: "خمسة أنفس بينهم في خشبة"، وأثبت ما في تفسير البغوي (هامش ابن كثير 3: 104) ، فهو أقرب إلى هذا السياق. وانظر ما سيأتي، الأثر رقم: 11573.
(2) في المطبوعة: "وكالب بن يوفنا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو فيها هنا" " غير منقوطة، ولكنه سيأتي في المخطوطة، في رقم: 11666، كما أثبته هنا. وانظر ما مضى 5: 272. وفي التاريخ 1: 222: "كالوب بن يوفنة، وقيل: كلاب بن يوفنة ختن موسى". وسيأتي بعض هذا الأثر مختصرا برقم: 11660.
(3) في المطبوعة: "يلففونها"، مع أنها في المخطوطة كما أثبتها واضحة منقوطة، وانظر التعليق على الأثر السالف ص: 112، تعليق: 7، وانظر الأثر التالي: 11660.(10/113)
ولا ظلّ (1) = دعا موسى ربه حين آذاهم الحرّ، فظلَّل عليهم بالغمام، ودعا لهم بالرزق، فأنزل الله عليهم المنَّ والسلوى. (2) وأمر الله موسى فقال: أَرْسل رجالا يتحسسّون إلى أرض كنعان التي وهبت لبني إسرائيل (3) من كل سبط رجلا. فأرسل موسى الرءوس كلهم الذين فيهم، [فبعث الله جل وعزّ من برّية فاران بكلام الله، وهم روءس بني إسرائيل] . (4) وهذه أسماء الرَّهط الذين بعث الله جل ثناؤه من بني إسرائيل إلى أرض الشام، فيما يذكر أهل التوراة ليجوسوها لبني إسرائيل (5) من سبط روبيل:"شامون بن زكوّن" (6) = ومن سبط شمعون:"شافاط بن حُرّي" (7) ومن سبط يهوذا:"كالب بن يوفنّا (8) ومن سبط أتين:"يجائل بن يوسف" (9) =ومن سبط يوسف: وهو سبط أفرائيم:"يوشع بن نون" (10) ومن سبط بنيامين"فلط بن رفون" (11) =ومن سبط زبالون:"جدي بن سودي (12) =ومن سبط منشا بن يوسف:"جدي بن سوسا (13) =ومن سبط دان:"حملائل بن جمل" (14) =ومن سبط أشر: ساتور بن ملكيل" (15) = ومن سبط نفتالي:"نحى بن وفسي" (16) =ومن سبط جاد:"جولايل بن ميكي". (17)
=فهذه أسماء الذين بعثهم موسى يتحسّسون له الأرض= (18) ويومئذ سمى"هوشع بن نون":"يوشع بن نون" (19) =فأرسلهم وقال لهم: ارتفعوا قِبَل الشمس، فارقوا الجبل، وانظروا ما في الأرض، وما الشعب الذي يسكنون، أقوياء هم أم ضعفاء، أقليل هم أم كثير؟ وانظروا أرضهم التي يسكنون: أسمينة هي [أم هزيلة] ؟ أذات شجر أم لا؟ اجتازوا، واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض. وكان ذلك في أول ما أشجن بكر ثمرة العنب. (20)
__________
(1) في المطبوعة: "شجر ولا ظل"، وفي المخطوطة: "حعر"، والصواب ما أثبته، كما مضى في الأثر: 992، و"الخمر" (بفتحتين) : كل ما سترك من شجر أو بناء أو غيره.
(2) إلى هذا الموضع مضى قديما في الأثر رقم: 992.
(3) في المخطوطة: "وهب"، والصواب ما في المطبوعة. وفي المطبوعة: "يتجسسون" بالجيم، وانظر ص: 111، تعليق: 1.
(4) هذه الجملة التي بين القوسين، من المخطوطة، وحذفها ناشر المطبوعة. وهي عبارة غير مفهومة، ولم أستطع أن أهتدي إلى صوابها، ولا استطعت أن أصل الكلام بعضه ببعض. والذي في كتاب القوم، في العهد القديم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر: "فأرسلهم موسى من برية فاران حسب قول الرب". وكل وجه من التصحيف، أو التحريف، أو النقص في العبارة، أردت أن أحمل عليه هذه الجملة، حتى تستقيم، خرج معي وجها ضعيف التركيب، فتركت ذلك لمن يحسن أن يقيمه، أو لمن يهتدي إلى صوابه من مرجع آخر، غير المراجع التي بين يدي.
(5) هذه الأسماء مذكورة في كتاب القوم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر. ونقلها عن هذا الموضع من الطبري، ابن كثير في تفسيره 3: 103. وذكرها ابن حبيب في"المحبر" ص: 464، ونقلها عنه القرطبي في تفسيره 6: 113، فسأذكر بعد، ما اختلف فيه من الأسماء، عن هذه المراجع، ونصها في كتاب القوم.
(6) في كتاب القوم: "من سبط رَأو بين: شمع بن زكُّور"، كما في المحبر. وفي المطبوعة وابن كثير"بن ركون"، وفي القرطبي"ركوب". وفي المخطوطة، تقرأ كما كتبتها.
(7) في كتاب القوم: ".. بن حوري". وفي المحبر: "شرفوط بن حوري"، وفي القرطبي: "شوقوط بن حوري".
(8) في كتاب القوم: ".. بن يُفَنّة"، وفي المحبر: "كولب.."، وفي القرطبي: "يوقنا".
(9) في كتاب القوم: "ومن سبط يسَّاكرَ: يجال بن يوسف"، وكان في المطبوعة هنا"ومن سبط كاذ: ميخائيل بن يوسف"، ولا أدري من أين جاء به ناشر المطبوعة. وفي ابن كثير: "ومن سبط أتين: ميخائيل بن يوسف"، ولم أجد في الأسباط"أتين"، ولكن هكذا كتب في مخطوطة التفسير كما كتبته غير منقوط، وفيها أيضا"محامل" غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها. أما في المحبر فهو: "ومن سبط إساخر: يغوول بن يوسف"، وفي القرطبي: "ومن سبط الساحر: يوغول بن يوسف". وهذا السبط، ذكره الطبري عن محمد بن إسحق فيما سلف رقم: 2107: "يشجر"، وهو"يساكر"، فالذي لا شك فيه أن"أبين" التي في مخطوطة التفسير، هي"يشجر"، أو "أشجر"، ولكني تركتها كما هي في المخطوطة.
(10) في كتاب القوم: "من سبط أفرايم: هو شع بن نون"، ولكن كتب في مخطوطة التفسير"يوشع" هنا، وكان الأجود أن يكتب هنا"هوشع"، لأنه سيأتي في آخر الخبر أنه يومئذ سمى"هوشع"، "يوشع".
(11) في كتاب القوم: "من سبط بنيامين فَلطي بن رافو" وفي المخطوطة: "بن دفون"، وفي المطبوعة: "بن ذنون"، وفي ابن كثير: "فلطم بن دفون"، وفي المحبر: "يلطى بن ردفوا"، وفي القرطبي: "يلظى بن روقو".
(12) في كتاب القوم: "من سبط زبولون: جَدّ يئيل بن سودى"، وفي المخطوطة"جدي بن سوشي"، ولكن ابن كثير نقله في تفسيره عن الطبري: "جدي بن شورى"، فتبين أن"سوشي" تحريف"سودي". وكان في المطبوعة"كرابيل بن سودي"، وفي المحبر"كداييل بن شوذي"، وفي القرطبي: "كرابيل بن سورا".
(13) في كتاب القوم: "من سبط يوسف، من سبط منسي: جدّي بن سوسي"، وفي ابن كثير: "بن موسى"، خطأ. وفي المحبر: "كدي بن سوسي"، وفي القرطبي والمطبوعة: "سوشا".
(14) في كتاب القوم: ".. عميئيل بن جملّى" وفي ابن كثير: "خملائيل بن حمل"، وفي المحبر: "عماييل بن كملى"، وفي القرطبي: "عمائيل بن كسل".
(15) في كتاب القوم: "من سبط أشير: ستور بن ميخائيل"، وفي المطبوعة: "أشار: سابور"، فأثبت ما في المخطوطة، وهي غير منقوطة. وفي ابن كثير: "أشار: ساطور بن ملكيل". وفي المحبر"ومن سبط أوشير: شتور بن ميخائيل"، "شير: ستور".
(16) في كتاب القوم"من سبط نفتالي: نحيى بن وفسى"، وفي المطبوعة: "محر بن وقسى"، وفي المخطوطة: "ومن سبط ثفثا أبي بحر بن وفسى"، وصواب قراءتها ما أثبت. وفي ابن كثير: "بحر بن وقسي". وفي المحبر: "يحيى بن وقسي: وفي القرطبي: "يوحنا بن وقوشا".
(17) في كتاب القوم: "من سبط جاد: جأوئيل بن ماكي" وفي المخطوطة: "ومن سبط دار: جولائل بن منكد"، وفي المطبوعة: "ومن سبط يساخر: حولايل بن منكد"، وفي تفسير ابن كثير: "ومن سبط يساخر: لايل بن مكيد" وفي المحبر: "ومن سبط جاذ: كوآءل بن موخى". وفي القرطبي: "ومن سبط كاذ: كوال بن موخى". فأثتب"جاد" مكان"دار" في المخطوطة، من أسماء الأسباط في رواية ابن إسحق فيما سلف في الأثر رقم: 2107. وقرأت"منكد""ميكي"، لأنها أقرب إلى"ماكي" و"موخي".
هذا، وقد نقل ابن كثير في تفسيره 3: 103 أسماء هؤلاء النقباء، وقال: "وقد رأيت في السفر الرابع من التوراة، تعداد النقباء على أسباط بني إسرائيل، وأسماء مخالفة لما ذكره ابن إسحق، والله أعلم". ولكن اتضح من المراجعة أن الذي ذكره ابن إسحق، هو الموجود في النسخة التي بين أيدينا من التوراة. أما الذي نقله ابن كثير فهو مخالف كل المخالفة لما في رواية ابن إسحق، ولما جاء في كتاب القوم. فلا ريب أن التوراة التي كانت في يد ابن كثير، هي غير التي في أيدينا من كتاب القوم.
(18) في المطبوعة: "يتجسسون" بالجيم، وانظر ما سلف ص: 111، تعليق: 1، وص: 114، تعليق: 3.
(19) في المطبوعة والمخطوطة في هذا الاسم الأول"يوشع"، ولكن المخطوطة غير متقوطة، والصواب أن تكون"هوشع" كما أثبتها. انظر ص: 115، تعليق: 2.
(20) في المطبوعة: ".. أشمسة هي أم ذات شجر، واحملوا إلينا من ثمرة تلك الأرض"، رأى ما في المخطوطة لا يقرأ، فحذفه. وكان في المخطوطة: "أسمسه هي أم ذات شجر أم لا احباروا واحملوا إلينا..". ورأيت أن أقرأها كذلك، استظهارا مما جاء في كتاب القوم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر: "وكيف هي الأرض: أسمينة أم هزيلة؟ أفيها شجر أم لا؟ وتشددوا فخذوا من ثمر الأرض".
يقال، "أرض سمينة"؛ جيدة الترب، قليلة الحجارة، قوية على ترشيح النبت. ويقال، "أرض مهزولة"، رقيقة. و"المهازل": الجدوب، فلذلك آثرت وضع"هزيلة" كما جاءت في كتاب القوم بهذا المعنى، وإن أغفلتها كتب اللغة، أو أغفلت النص عليها.
وكان في المطبوعة: "وكان في أول ما سمى لهم من ذلك ثمرة العنب"، وهو تصرف رديء مستهجن. فإن الذي في المخطوطة هو: "وكان ذلك في أول ما سمى بكر ثمرة العنب" لم يحسن قراءة"سمن"، فتصرف بلا ورع. والذي في كتاب القوم ما نصه: "وأما الأيام فكانت أيام باكورات العنب". فاستظهرت منها صواب ما في المخطوطة، وقرأت: "أول ما سمن": "أول ما أشجن بكر ثمرة العنب".
و"الشجنة" (بكسر فسكون) : الشعبة من عنقود العنب تدرك كلها. يقال منها"أشجن الكرم"، أدركت عناقيده وطابت.
وقوله"بكر العنب"، فإن"بكر كل شيء"، أوله. وهو صحيح في العربية، وإن كانوا قد خصوا الثمار التي أدركت في أول إدراكها بقولهم: "باكورة الثمرة".(10/114)
11576 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا" فهم من بني إسرائيل، بعَثهم موسى لينظُروا له إلى المدينة. فانطلقوا فنظروا إلى المدينة، فجاءوا بحبّة من فاكهتهم وِقْرَ رجلٍ، (1) فقالوا:
__________
(1) "الوقر" (بكسر الواو وسكون القاف) : الحمل. وفي حديث عمر بن الخطاب والمجوس: "فألقوا وقر بغل أو بغلين"، أي: حمل بغل أو بغلين.(10/117)
اقدُروا قوة قوم وبأسهم هذه فاكهتهم! فعند ذلك فُتِنوا فقالوا: لا نستطيع القتال، (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) [سورة المائدة: 24] .
11577 - حدثت عن الحسين بن الفرج المروزي قال: سمعت أبا مُعاذ الفضلَ بن خالد يقول في قوله:"وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا" أمر الله بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدّسة مع نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال لهم موسى: ادخلوها! فأبوا وجَبُنوا، وبعثُوا اثنى عشر نقيبًا لينظروا إليهم، فانطلقوا فنظروا، فجاءوا بحبة من فاكهتهم بوِقْرِ الرجل، فقالوا: اقدورا قوة قوم وبأسهم، (1) هذه فاكهتهم!! فعند ذلك قالوا لموسى: (اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وقال الله لبني إسرائيل:"إني معكم"، يقول: إني ناصركم على عدوّكم وعدوِّي الذين أمرتكم بقتالهم، (2) إن قاتلتموهم ووفيتم بعهدي وميثاقي الذي أخذته عليكم.
* * *
وفي الكلام محذوف، استغنى بما ظهر من الكلام عما حذف منه. وذلك أن معنى الكلام: وقال الله لَهُم إني معكم= فترك ذكر"لهم"، استغناء بقوله:"ولقد أخذ الله ميثاقَ بني إسرائيل"، إذ كان مُتقدّم الخبر عن قوم مسمَّين بأعيانهم، فكان معلومًا أن ما في سياق الكلام من الخبر عنهم، (3) إذ لم يكن الكلام مصروفًا عنهم إلى غيرهم.
* * *
ثم ابتدأ ربُّنا جل ثناؤه القسمَ فقال: قسمًا لئن أقمتم، معشر بني إسرائيل، الصلاة ="وآتيتم الزكاة"، أي: أعطيتموها من أمرتكم بإعطائها (4) ="وآمنتم برسلي" يقول: وصدّقتم بما آتاكم به رسلي من شرائع ديني.
__________
(1) في المطبوعة في الموضعين: "قدروا"، والجيد من المخطوطة.
(2) انظر تفسير"مع" فيما سلف 3: 213-214/5: 353.
(3) في المطبوعة: "كان معلوما"، والسياق يقتضي"فكان" بالفاء.
(4) انظر فهارس اللغة فيما سلف في تفسير"إقامة الصلاة"، و"إيتاء الزكاة".(10/118)
وكان الربيع بن أنس يقول: هذا خطاب من الله للنقباء الاثنى عشر.
11578 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس: أنّ موسى صلى الله عليه وسلم قال للنقباء الاثنى عشر: سيروا إليهم= يعني: إلى الجبارين= فحدثوني حديثهم، وما أمْرهم، ولا تخافوا إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزّرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنًا.
* * *
قال أبو جعفر: وليس الذي قاله الربيع في ذلك ببعيد من الصواب، غيرَ أن من قضاءِ الله في جميع خلقه أنه ناصرٌ من أطاعه، ووليّ من اتّبع أمره وتجنّب معصيتَه وتحامَى ذنوبه. (1) فإذ كان ذلك كذلك، وكان من طاعته إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والإيمان بالرسل، وسائر ما ندب القوم إليه= كان معلوما أن تكفير السيئات بذلك وإدخال الجنات به. لم يخصص به النقباء دون سائر بني إسرائيل غيرهم. فكان ذلك بأن يكون ندبًا للقوم جميعا، وحضًّا لهم على ما حضَّهم عليه، أحق وأولى من أن يكون ندبًا لبعضٍ وحضًّا لخاصّ دون عامّ.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وعزرتموهم".
فقال بعضهم: تأويل ذلك: ونصرتموهم.
ذكر من قال ذلك:
11579 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وعزرتموهم" قال: نصرتموهم.
__________
(1) في المطبوعة: "وجافى ذنوبه"، وفي المخطوطة: "وعامى ذنوبه" فرأيت أن أقرأها "تحامى"، فهي عندي أجود وأبين في معنى اتقاء الذنوب والتباعد عنها.(10/119)
11580 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
11581 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وعزرتموهم" قال: نصرتموهم بالسيف.
* * *
وقال آخرون: هو الطاعة والنصرة.
ذكر من قال ذلك:
11582 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت عبد الرحمن بن زيد يقول في قوله:"وعزرتموهم" قال:"التعزيز" و"التوقير"، الطاعة والنصرة.
* * *
واختلف أهل العربية في تأويله.
فذكر عن يونس [الحرمري] أنه كان يقول (1) تأويل ذلك: أثنيتم عليهم.
11583 - حدثت بذلك عن أبي عبيدة معمر بن المثنى عنه (2) .
* * *
وكان أبو عبيدة يقول: معنى ذلك نصرتموهم وأعنتموهم ووقّرتموهم وعظمتوهم وأيَّدتموهم، وأنشد في ذلك: (3)
وَكَمْ مِنْ مَاجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ ... وَمِنْ لَيْثٍ يُعَزَّرُ في النَّدِيِّ (4)
__________
(1) قوله: "يونس [الحرمري] "، هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة، وهو مشكل، فإنه إما أن يكون نسبة نسب إليها، ونسبة"يونس بن حبيب"، هي"النحوي" ونسبته في ولائه"الضبي"، وهو مولى"بلال بن هرمي من بني ضبيعة بن بجالة" (النقائص: 323) ، ولا أظنه محرفا عن شيء من ذلك = وإما أن يكون نسبة إلى مكان، ويونس من أهل جبل (بفتح الجيم وتشديد الباء مضمومة) (انظر طبقات النحويين للزبيدي: 48) . وليس تحريفا لهذا أيضا. ولعل باحثًا يهتدي إلى صوابه، فتركته كما هو. هذا مع أن أبا عبيدة في مجاز القرآن، لم يذكر غير اسمه، والطبري يروي هذا عن أبي عبيدة.
(2) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 157.
(3) لم أعرف قائله.
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 157. و"الندى": مجلس القوم، ما داموا مجتمعين فيه، فإذا تفرقوا عنه فليس بندي. ومثله"النادي".
ومن العجب العاجب شرح من شرح هذا البيت فقال! "واللهم، بكسر اللام وسكون الهاء، الثور المسن.. ولعل الكلمة محرفة عن كلمة شهم". وهذا خلط لا يعلى عليه، فتجنب مثله.(10/120)
وكان الفراء يقول:"العَزْر" الردُّ"عَزَرته"، رددته: إذا رأيته يظلم فقلت:"اتق الله" أو نهيته، فذلك"العزر".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب، قول من قال:"معنى ذلك: نصرتموهم". وذلك أن الله جل ثناؤه قال في"سورة الفتح": (إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ) [سورة الفتح: 8، 9] فـ"التوقير" هو التعظيم. وإذْ كان ذلك كذلك كان القول في ذلك إنما هو بعضُ ما ذكرنا من الأقوال التي حكيناها عمن حكينا عنه. وإذا فسد أن يكون معناه: التعظيم= وكان النصر قد يكون باليد واللسان، فأما باليد فالذبُّ بها عنه بالسيف وغيِره، وأما باللسان فحُسْن الثناء، والذبّ عن العرض= صحَّ أنه النصر، إذ كان النصر يحوي معنى كلِّ قائلٍ قال فيه قولا مما حكينا عنه.
* * *
وأما قوله:"وأقرضتم الله قرضا حسنًا" فإنه يقول: وأنفقتم في سبيل الله، وذلك في جهاد عدوه وعدوكم="قرضا حسنًا" يقول: وأنفقتم ما أنفقتم في سبيله، فأصبتم الحق في إنفاقكم ما أنفقتم في ذلك، ولم تتعدوا فيه حدودَ الله وما ندبكم إليه وحثَّكم عليه إلى غيره. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف قال:"وأقرضتم الله قرضا حسنا" ولم يقل:"إقراضا حسنًا"، وقد علمت أن مصدر"أقرضت""الإقراض"؟
قيل: لو قيل ذلك كان صوابا، ولكن قوله:"قرضًا حسنًا" أخرج
__________
(1) انظر تفسير"القرض"، و"القرض الحسن" فيما سلف 5: 282، 283، = وقوله: "إلى غيره" متعلق بقوله"ولم تتعدوا فيه ... ".(10/121)
مصدرًا من معناه لا من لفظه. وذلك أن في قوله:"أقرض" معنى"قرض"، كما في معنى"أعطى""أخذ". فكان معنى الكلام: وقَرَضْتم الله قرضًا حسنًا، ونظير ذلك: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأَرْضِ نَبَاتًا) [سورة نوح: 17] إذ كان في"أنبتكم" معنى:"فنبتم"، وكما قال امرؤالقيس:
وَرُضْتُ فَذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إِذْلالِ (1)
إذ كان في"رضت" معنى"أذللت"، فخرج"الإذلال" مصدرا من معناه لا من لفظه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك بني إسرائيل، يقول لهم جل ثناؤه: لئن أقمتم الصلاة، أيها القوم الذين أعطوني ميثاقَهم بالوفاء بطاعتي واتباع أمري، وآتيتم الزكاة، وفعلتم سائرَ ما وعدتكم عليه جنّتي="لأكفرن عنكم سيئاتكم"،
__________
(1) ديوانه: 141، وغيره، وقبل البيت، يقول لصاحبته بعد ما سما إليها سمو حباب الماء: حَلَفْتُ لَهَا بِاللهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا، فَمَا إنْ من حَدِيثٍ ولا صَالِي
فَلَمَّا تَنَازَعْنَا الْحَدِيثَ وأَسْمَحَتْ، ... هَصَرَتْ بُغِصْنٍ ذِي شَمَارِيخَ مَيَّالِ
وَصِرْنَا إِلَى الحُسْنَى، وَرَقَّ كَلامُنَا ... ورُضْتُ، فَذَلَّتْ صَعْبَةً أيَّ إِذْلالِ!!
و"راض الدابة أو غيرها يروضها": وطأها وذللها وعلمها السير.
(2) انظر ما سلف 5: 533، 534. هذا وقد سلف في 5: 282، 283، "يقرض الله قرضا حسنا"، فلم يستوف الكلام هناك. وهذا باب من أبواب اختصار أبي جعفر تفسيره.(10/122)
يقول: لأغطين بعفوي عنكم- وصفحي عن عقوبتكم، على سالف أجرامكم التي أجرمتموها فيما بيني وبينكم (1) - على ذنوبكم التي سلفت منكم من عبادة العجل وغيرها من موبقات ذنوبكم (2)
="ولأدخلنكم" مع تغطيتي على ذلك منكم بفضلي يوم القيامة="جنات تجري من تحتها الأنهار".
* * *
فـ"الجنات" البساتين. (3)
* * *
وإنما قلت معنى قوله:"لأكفرّن" لأغطين، لأن"الكفر" معناه الجحود، والتغطية، والستر، كما قال لبيد:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا (4)
يعني:"غطاها"، فـ"التكفير""التفعيل" من"الكَفْر".
* * *
واختلف أهل العربية في معنى"اللام" التي في قوله:"لأكفرن".
فقال بعض نحويي البصرة:"اللام" الأولى على معنى القسم= يعني"اللام" التي في قوله:"لئن أقمتم الصلاة" قال: والثانية معنى قسمٍ آخر.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: بل"اللام" الأولى وقعت موقع اليمين، فاكتفى بها عن اليمين= يعني بـ"اللام الأولى":"لئن أقمتم الصلاة". قال، و"اللام" الثانية= يعني قوله:"لأكفرنّ عنكم سيئاتكم"= جواب لها، يعني"اللام" التي في قوله:"لئن أقمتم الصلاة" واعتلّ لقيله ذلك بأن قوله:"لئن أقمتم الصلاة"
__________
(1) سياق الجملة: "لأغطين بعفوي عنكم.. على ذنوبكم.."
(2) انظر تفسير"التكفير" و"السيئات" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (كفر) و (سوأ) .
(3) انظر تفسير"الجنات" فيما سلف من فهارس اللغة (جنن) .
(4) سلف البيت وتمامه وتخريجه في 1: 255.(10/123)
غير تام ولا مستغنٍ عن قوله:"لأكفرن عنكم سيئاتكم". وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز أن يكون قوله:"لأكفرنّ عنكم سيئاتكم" قسما مبتدأ، بل الواجب أن يكون جوابًا لليمين إذْ كانت غير مستغنية عنه.
* * *
وقوله: (تجري من تحتها الأنهار) يقول: تجري من تحت أشجار هذه البساتين التي أدخلكموها الأنهار.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) }
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: فمن جحد منكم، يا معشر بني إسرائيل، شيئا مما أمرته به فتركه، أو ركب ما نهيته عنه فعمله بعد أخذي الميثاق عليه بالوفاء لي بطاعتي واجتناب معصيتي="فقد ضلَّ سواء السبيل" يقول: فقد أخطأ قصدَ الطريق الواضح، وزلَّ عن منهج السبيل القاصد.
* * *
"والضلال"، الركوب على غير هدى، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله"سواء" يعني به: وسط=: و"السبيل"، الطريق.
* * *
وقد بيَّنا تأويل ذلك كله في غير هذا الموضع، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف 2: 495، 496/6: 66، 584، ومواضع غيرها، التمسها في فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"سواء السبيل" فيما سلف 2: 496، 497، وفهارس اللغة في (سوى) و (سبل) .(10/124)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ}
قال أبو جفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تعجبن من هؤلاء اليهود الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليك وإلى أصحابك، ونكثوا العهدَ الذي بينك وبينهم، غدرًا منهم بك وبأصحابك، فإن ذلك من عاداتهم وعادات سَلَفهم، ومن ذلك أنَّي أخذت ميثاق سلفهم على عهد موسى صلى الله عليه وسلم على طاعتي، وبعثت منهم اثنى عشر نقيبًا وقد تُخُيِّرُوا من جميعهم ليتحسَّسُوا أخبار الجبابرة، ووعدتهم النصرَ عليهم، وأن أورثهم أرضَهم وديارهم وأموالهم، بعد ما أريتهم من العِبَر والآيات- بإهلاك فرعون وقومِه في البحر، وفلق البحر لهم، وسائر العبر- ما أريتهم، (1) فنقضوا مِيثاقهم الذي واثقوني ونكثوا عهدي، فلعنتهم بنقضهم ميثاقهم. فإذْ كان ذلك من فعل خيارهم مع أياديَّ عندهم، فلا تستنكروا مثله من فعل أرَاذلهم.
* * *
=وفى الكلام محذوف اكتُفِي بدلالة الظاهر عليه، وذلك أن معنى الكلام:"فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل"- فنقضوا الميثاق، فلعنتهم="فبما نقضْهم ميثاقهم لعناهم" فاكتفى بقوله:"فبما نقضهم ميثاقهم" من ذكر"فنقضوا". (2)
* * *
ويعني بقوله جل ثناؤه:"فبما نقضهم ميثاقهم"، فبنقضهم ميثاقهم، كما قال قتادة.
11584 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
__________
(1) السياق: "بعد ما أريتهم من العبر والآيات.. ما أريتهم"، وما بين الخطين فصل مفسر.
(2) انظر تفسير"النقص" فيما سلف 9: 363.(10/125)
"فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم" يقول: فبنقضهم ميثاقهم لعناهم. (1)
11585 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"فبما نقضهم ميثاقهم" قال: هو ميثاق أخذه الله على أهل التوراة فنقضوه.
* * *
وقد ذكرنا معنى"اللعن" في غير هذا الموضع. (2)
* * *
و"الهاء والميم" من قوله:"فبما نقضهم" عائدتان على ذكر بني إسرائيل قبل.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهلِ المدينة وبعض أهل مكة والبصرة والكوفة: (قَاسِيَةً) بالألف=
* * *
=على تقدير"فاعلة" من"قسوة القلب"، من قول القائل:"قَسَا قلبه، فهو يقسُو وهو قاسٍ"، وذلك إذا غلظ واشتدّ وصار يابسًا صلبًا (3) كما قال الراجز: وَقَدْ قَسَوْتُ وَقَسَتْ لِدَاتِي (4)
* * *
=فتأويل الكلام على هذه القراءة: فلعنَّا الذين نقضوا عهدي ولم يفُوا بميثاقي من بني إسرائيل، بنقضهم ميثاقهم الذي واثقوني="وجعلنا قلوبهم قاسية"،
__________
(1) الأثر: 11584- في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا كثير، قال حدثنا يزيد"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في التفسير.
(2) انظر تفسير"اللعن" فيما سلف 9: 213، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"القسوة" فيما سلف 2: 233.
(4) مر تخريجه فيما سلف 2: 233، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 158.(10/126)
غليظة يابسةً عن الإيمان بي، والتوفيق لطاعتي، منزوعةً منها الرأفةُ والرحمة.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً) .
* * *
ثم اختلف الذين قرأوا ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معنى ذلك معنى"القسوة"، لأن"فعيلة" في الذم أبلغ من"فاعلة"، فاخترنا قراءتها"قسية" على"قاسية" لذلك.
* * *
وقال آخرون منهم: بل معنى"قسِيَّة" غير معنى"القسوة"، وإنما"القسية" في هذا الموضع: القلوبُ التي لم يخلص إيمانها بالله، ولكن يخالط إيمانها كُفْر، كالدراهم"القَسِيَّة"، وهي التي يخالط فضّتها غشٌّ من نحاس أو رَصاص وغير ذلك، كما قال أبو زُبَيْد الطائي:
لَهَا صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلامِ كَمَا ... صَاحَ القَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيارِيفِ (1)
__________
(1) المعاني الكبير: 1024، 1025، وأمالي القالى 1: 28، وسمط اللآلئ: 128، 931، واللسان (أمر) (صهل) من قصيدته في رثاء أمير المؤمنين المقتول ظلمًا، ذي النورين عثمان بن عفان، يقول فيها: يَا لَهْفَ نَفْسِي إنْ كَانَ الَّذِي زَعَمُوا ... حَقًّا، وَمَاذَا يَرُدُّ الْيَومَ تَلْهِيفِي!!
إِنْ كَانَ عُثْمَانُ أَمْسَى فَوْقَهُ أَمَرٌ ... كَرَاقِبِ العُونِ فَوْقَ القُنَّةِ المُوفِي
"الأمر" (بفتحتين) : الحجارة. و"العون" جمع"عانة"، وهي حمر الوحش."وراقب العون": الفحل الذي يحوطها ويحرسها على مربأة عالية، ينتظر مغيب الشمس فيرد بها الماء.
ثم يقول بعد ذلك: يَا بُؤْسَ لْلأرْضِ، مَا غَالَتْ غَوَائِلُهَا ... مِنْ حُكْمِ عَدْلٍ وَجُودٍ غَيْرِ مَكْفُوفِ!!
على جَنَابَيْهِ مِنْ مَظَلُومَةٍ قِيَمٌ ... تَعَاوَرَتْهَا مَسَاحٍ كَالْمَنَاسِيفِ
لَهَا صَوَاهَلُ فِي صُمِّ السِّلامِ، كَمَا ... صَاحَ القَسِيَّاتُ فِي أَيْدِي الصَّيَارِيفِ
كَأنَّهُنَّ بِأَيْدِي الْقَوْمِ فِي كَبَدٍ ... طَيْرٌ تَكَشفُ عَنْ جُونٍ مَزَاحِيفِ
قوله: "جنابيه" أي: جانبيه."مظلومة": حفرت ولم تكن حفرت من قبل، يعني أرض لحده."قيم" جمع"قامة": يعني ما ارتفع من ركام تراب القبر. و"المساحي" جمع"مسحاة": وهي المجرفة من الحديد. و"المناسيف" جمع"منسفة"، وهي آلة يقلع بها البناء وينسف، أصلب وأشد من المسحاة. و"الصواهل" جمع"صاهلة" مصدر على"فاعلة"، بمعنى"الصهيل": وهو صوت الخيل الشديد، وكل صوت يشبهه. و"الصم" جمع"أصم"، يعني أنها حجارة صلبة تصهل منها المساحي. و"السلام" (بكسر السين) الصخور. و"الصياريف"هم"الصيارف"، وزاد الياء للإشباع. و"الكبد": الشدة. و"الجون": السود. و"مزاحيف"، تزحف من الإعياء، يعني إبلا قد هلكت من الإعياء. شبه المساحي بأيدي القوم وهم يحفرون قبره، بنسور تقع على الإبل المعيية، ثم تنهض، ثم تعود فتسقط عليها. وكان قبر عثمان في حرة المدينة ذات الحجارة السود، فلذلك قال: "عن جون مزاحيف".(10/127)
يصف بذلك وقع مَسَاحي الذين حفروا قبر عثمان على الصخور، وهي"السِّلام".
* * *
قال أبو جعفر: وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك، قراءة من قرأ: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَسِيَّةً) على"فعيلة"، لأنها أبلغ في ذم القوم من"قاسية". وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، تأويل من تأوله:"فعيلة" من"القسوة"، كما قيل:"نفس زكيّة" و"زاكية"، و"امرأة شاهدة" و"شهيدة"، لأن الله جل ثناؤه وصف القوم بنقضهم ميثاقَهم وكفرِهم به، ولم يصفهم بشيء من الإيمان، فتكون قلوبهم موصوفة بأنّ إيمانها يخالطه كفر، كالدراهم القَسِيَّة التي يخالط فضَّتها غشٌّ.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: وجعلنا قلوب هؤلاء الذين نقضوا عهودَنا من بني إسرائيل قَسِيَّة، منزوعا منها الخير، مرفوعًا منها التوفيق، فلا يؤمنون ولا يهتدون، فهم لنزعِ الله عز وجل التوفيقَ من قلوبهم والإيمانَ، يحرّفون كلام(10/128)
ربِّهم الذي أنزله على نبيهم موسى صلى الله عليه وسلم، وهو التوراة، فيبدّلونه، ويكتبون بأيديهم غير الذي أنزله الله جل وعز على نبيهم، ثم يقولون لجهال الناس: (1) "هذا هو كلام الله الذي أنزله على نبيه موسى صلى الله عليه وسلم، والتوراة التي أوحاها إليه". (2) وهذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليهود، ممن أدرك بعضُهم عصرَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ولكن الله عزّ ذكره أدخلهم في عِدَاد الذين ابتدأ الخبر عنهم ممن أدرَك موسى منهم، إذ كانوا من أبنائهم وعلى منهاجهم في الكذب على الله، والفرية عليه، ونقض المواثيق التي أخذها عليهم في التوراة، كما:-
11586 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"يحرّفون الكلم عن مواضعه" يعني: حدود الله في التوراة، ويقولون: إن أمركم محمد بما أنتم عليه فاقبلوه، وإن خالفكم فاحذروا.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}
يعني تعالى ذكره بقوله:"ونسوا حظًّا" وتركوا نصيبا، وهو كقوله: (نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ) [سورة التوبة: 67] أي: تركوا أمر الله فتركهم الله. (3)
* * *
وقد مضى بيان ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته. (4)
* * *
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) في المطبوعة: "ويقولون"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"تحريف الكلم عن مواضعه" فيما سلف 2: 248/8: 430-432.
(3) انظر تفسير"النسيان" فيما سلف 2: 9، 476/5: 164/6: 133- 135.
(4) انظر التعليق السالف، وتفسير"حظ" فيما سلف من فهارس اللغة.(10/129)
ذكر من قال ذلك:
11587 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ونسوا حظًّا مما ذكروا به" يقول: تركوا نصيبًا.
11588 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن في قوله:"ونسوا حظًّا مما ذكروا به" قال: تركوا عُرَى دينهم، ووظائفَ الله جل ثناؤه التي لا تُقْبل الأعمال إلا بها. (1)
..............................................
................................................ (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ}
قال أبو جعفر: يقول تبارك وتعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ولا تزال يا محمد تَطَّلع من اليهود= الذين أنبأتك نبأهم، من نقضهم ميثاقي، ونكثهم
__________
(1) "الوظائف" جمع"وظيفة"، وهي من كل شيء، ما يقدر له في كل يوم من رزق أو طعام أو علف أو شراب. ثم قالوا: "وظف الشيء على نفسه توظيفا"، أي: ألزمها إياه، وقالوا: "عليه كل يوم وظيفة من عمل"، أي: ما ألزم عمله في يومه هذا. وعنى الحسن بقوله"وظائف الله"، فروضه التي ألزمها عباده في الإيمان به، وطاعته، وإخلاص النية له سبحانه. وهذا حرف ينبغي تقييده في كتب اللغة، من كلام الحسن رضي الله عنه.
(2) وضعت هذه النقط دلالة على سقط أو خرم في نسخ ناسخ المخطوطة. وذلك أنه كتب في أول تفسير هذا الجزء من الآية: "ونسوا حظًا"، ثم ساق كلام أبي جعفر إلى آخر الخبر رقم: 11588.
ثم بدأ بعد ذلك هكذا: "القول في تأويل قوله عز ذكره: "مما ذكروا به" = ثم ساق تفسير الجزء التالي من الآية، وهو: "ولا تزال تطلع على خائنة منهم إلا قليلا منهم". ولم يكتب هذا الجزء من الآية، والتفسير تفسيرها. فاتضح من ذلك أن الناسخ نسى تفسير"مما ذكروا" فسقط منه. ولم يذكر الآية التي يفسرها كلام أبي جعفر.
هذا، وانظر معنى"التذكير" فيما سلف 5: 580/6: 62-65، 211.(10/130)
عهدي، مع أياديَّ عندهم، ونعمتي عليهم= على مثل ذلك من الغدر والخيانة="إلا قليلا منهم"، إلا قليلا منهم [لم يحزنزا] . (1)
* * *
و"الخائنة" في هذا الموضع: الخيانة، وُضع وهو اسمٌ- موضع المصدر، كما قيل:"خاطئة"، للخطيئة (2) و"قائلة" للقيلولة.
* * *
وقوله:"إلا قليلا منهم"، استثناء من"الهاء والميم" اللتين في قوله:"على خائنة منهم".
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
11589 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: على خيانة وكذب وفجور.
11590 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل وعزّ:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم" قال: هم يهودُ مِثْلُ الذي هموا به من النبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل حائطهم.
__________
(1) في المطبوعة، وقف عند قوله: "إلا قليلا منهم"، وأسقط: "إلا قليلا منهم لم يخونوا". وفي المخطوطة سقط من الناسخ"لم يخونوا" فكتب"إلا قليلا منهم، إلا قليلا منهم". واستظهرت"لم يخونوا"ووضعتها بين قوسين، من قوله بعد: إنه استثناء من الهاء والميم في"خائنة منهم".
(2) في المطبوعة: "خاطئة، للخطأة"، كأنه استنكرها، وسيأتي في تفسير أبي جعفر 29: 33 (بولاق) في تفسير قوله تعالى: "والموتفكات بالخاطئة"، قال، "بالخاطئة، يعني بالخطيئة". وهكذا كتب أبو جعفر كما ترى، وإن كان لا يعجبني هذا التمثيل، بل كنت أوثر أن يقول إنه مصدر جاء على فاعلة، مثل"العافية". إلا أن يكون أبو جعفر أراد أن"الخطيئة" مصدر على"فعيلة" كالشبيبة والفضيحة، وأشباهها، وهي قليلة.(10/131)
11591 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بنحوه.
11592 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد وعكرمة قوله:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم" من يهود مثلُ الذي همُّوا بالنبي صلى الله عليه وسلم يوم دخل عليهم.
* * *
وقال بعض القائلين: (1) معنى ذلك: ولا تزال تطلع على خائن منهم، قال: والعرب تزيد"الهاء" في آخر المذكر كقولهم:"هو راوية للشعر"، و"رجل علامة"، وأنشد: (2)
حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالوَفَاءِ ولَمْ تَكُنْ ... لِلغَدْرِ خَائِنَةً مُغِلَّ الإصْبَعِ (3)
__________
(1) ما أشد استنكار أبي جعفر لمقالات أبي عبيدة معمر بن المثنى، حتى يذكره مجهلا بأساليب مختلفة!! وهذا الآتي هو نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 158.
(2) هو رجل من السواقط، من بني أبي بكر بن كلاب. و"السواقط" هم الذين يردون اليمامة لامتياز التمر.
(3) الكامل للمبرد 1: 211، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 158، وإصلاح المنطق: 295، واللسان (صبع) (غلل) (خون) . وهذا من شعر له خبر. وذلك أن هذا الشاعر لما ورد اليمامة كان معه أخ له جميل، فنزل جارا لعمير بن سلمى، فقال قرين أخو عمير للكلابي: "لا تردن أبياتنا بأخيك هذا"، مخافة جماله، فرآه قرين بين أبياتهم بعد، وأخوه عمير غائب، فقتله. فجاء الكلابي قبر سلمى (أبي عمير، وقرين) فاستجار به وقال: وَإِذَا اسْتَجَرْتَ مِنَ الْيَمَامَةِ فَاسْتَجِرْ ... زَيْدَ بن يَرْبُوعٍ وَآلَ مُجَمِّعِ
وَأَتَيْتُ سُلْمِيَّا فَعُذْتُ بِقَبْرِهِ ... وَأَخُو الزَّمَانَةِ عَائِذٌ بِالأمْنَعِ
أَقَرِينُ إِنَّكَ لَوْ رَأَيْتَ فَوَارِسِي ... بِعَمَايَتَيْنَ إِلَى جَوَانِبِ ضَلْفَعِ
حَدَّثْتَ نَفْسَك.................. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فلجأ قرين إلى وجوه بني حنيفة (وهم زيد بن يربوع، وآل مجمع) ، فحملوا إلى الكلابي ديات مضاعفة، فأبى أن يقبلها. فلما قدم عمير، فقالت له أمه: "لا تقتل أخاك، وسق إلى الكلابي جميع ماله"، فأبى الكلابي أن يقبل. فأخذ عمير أخاه قرينًا فقتله، وقال: قَتَلْنَا أَخَانَا لِلْوَفَاءِ بِجَارِنَا ... وَكَانَ أَبُونَا قَدْ تُجِيرُ مَقابِرُهْ
وقالت أم عمير لعمير: تَعُدُّ مَعَاذِرًا لا عُذْرَ فِيهَا ... وَمَنْ يَقْتُلْ أَخَاهُ فَقَدْ أَلاَمَا
وقوله: "أخو الزمانة"، هي العاهة، يريد ضعفه عن درك ثأره. و"عمايتان" و"ضلفع" مواضع من بلاد هذا الكلابي. وقوله"مغل الإصبع"، كناية عن الخيانة والسرقة."أغل يغل": خان الأمانة خلسة. ويقول بعضهم: "مغل الإصبع"، منصوب على النداء.(10/132)
فقال:"خائنة"، وهو يخاطب رجلا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من التأويل في ذلك، القولُ الذي رويناه عن أهل التأويل. لأنّ الله عنى بهذه الآية، القوم من يهود بني النضير الذين همُّوا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، إذ أتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعينهم في دية العامريّين، فأطلعه الله عز ذكره على ما قد همُّوا به. ثم قال جل ثناؤه بعد تعريفِه أخبار أوائلهم، وإعلامه منهج أسلافهم، وأنَّ آخرهم على منهاج أوّلهم في الغدر والخيانة، لئلا يكبُر فعلُهم ذلك على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال جل ثناؤه: ولا تزال تطَّلع من اليهود على خيانة وغدرٍ ونقضِ عهد= ولم يرد أنّه لا يزال يطلع على رجل منهم خائنٍ. وذلك أن الخبر ابتُدِئ به عن جماعتهم فقيل:"يا أيها الذين آمنوا اذكرُوا نعمة الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم"، ثم قيل:"ولا تزال تطلع على خائنة منهم"، فإذ كان الابتداء عن الجماعة، فالختْمُ بالجماعة أولى. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فلتختم بالجماعة أولى"، ولست أدري فيم يغير الصواب المستقيم!(10/133)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) }
قال أبو جعفر: وهذ أمر من الله عز ذكره نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بالعفو عن هؤلاء القوم الذين همُّوا أن يبسطوا أيديهم إليه من اليهود. يقول الله جل وعز له: اعف، يا محمد، عن هؤلاء اليهود الذين همُّوا بما هموا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك بالقتل، واصفح لهم عن جُرْمهم بترك التعرُّض لمكروههم، فإني أحب من أحسنَ العفو والصَّفح إلى من أساء إليه. (1)
* * *
وكان قتادة يقول: هذه منسوخة. ويقول: نسختها آية"براءة": (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) الآية [سورة التوبة: 29] .
11593 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فاعف عنهم واصفح"، قال: نسختها: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) .
11594 - حدثني المثني قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة:"فاعف عنهم واصفح إنّ الله يحب المحسنين"، ولم يؤمر يومئذ بقتالهم، فأمره الله عز ذكره أن يعفو عنهم ويصفح. ثم نسخ ذلك في"براءة" فقال: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ) [سورة التوبة: 29] ، وهم أهل الكتاب، فأمر الله
__________
(1) انظر تفسير"العفو" فيما سلف من فهارس اللغة = وتفسير"الصفح" فيما سلف 2: 503 = وتفسير"المحسنين"، فيما سلف من فهارس اللغة.(10/134)
جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقاتلهم حتى يسلموا أو يقرُّوا بالجزية.
11595 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، قرأت على ابن أبي عروبة، عن قتادة، نحوه.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قاله قتادة غير مدفوع إمكانهُ، غير أن الناسخ الذي لا شك فيه من الأمر، هو ما كان نافيًا كلَّ معاني خلافهِ الذي كان قبله، فأمَّا ما كان غير نافٍ جميعَه، فلا سبيل إلى العلم بأنه ناسخ إلا بخبر من الله جل وعز أو من رسوله صلى الله عليه وسلم. وليس في قوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) دلالةٌ على الأمر بنفي معاني الصَّفح والعفو عن اليهود.
وإذ كان ذلك كذلك= وكان جائزًا مع إقرارهم بالصَّغار وأدائهم الجزية بعد القتال، الأمرُ بالعفو عنهم في غَدْرة همُّوا بها، أو نكثةٍ عزموا عليها، ما لم يَنْصِبُوا حربًا دون أداء الجزية، (1) ويمتنعوا من الأحكام اللازمَتِهم (2) = لم يكن واجبا أن يحكم لقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ) الآية، بأنه ناسخ قوله:"فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ما لم يصيبوا حربًا"، والصواب المحض من المخطوطة. يقال: "نصب له الحرب نصبًا": وضعها وأظهرها، وأعلنها. و"ناصبه الحرب والعداوة": أي أظهرها ولج في إظهارها.
(2) في المطبوعة: "اللازمة منهم"، غير صواب المخطوطة، إلى ما درج عليه كلام أمثاله، وقد مضى مثل ذلك مرارًا، ومضى مثل ذلك من فعل الناشر.(10/135)
وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ}
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: وأخذنا من النصارى الميثاقَ على طاعتي وأداء فرائضي، واتباع رسلي والتصديق بهم، فسلكوا في ميثاقي الذي أخذتُه عليهم منهاج الأمة الضالة من اليهود، فبدلوا كذلك دينَهم، ونقضوه نقضَهم، (1) وتركوا حظّهم من ميثاقي الذي أخذته عليهم بالوفاء بعهدي، وضيَّعوا أمري، (2) كما:-
11596 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ومن الذين قالوا إنّا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًّا مما ذكروا به"، نسوا كتاب الله بين أظهرهم، وعهدَ الله الذي عهده إليهم، وأمرَ الله الذي أمرهم به.
11597 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قالت النصارى مثل ما قالت اليهود، ونسوا حظًّا مما ذكروا به.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ونقضوا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"أخذ الميثاق" فيما سلف ص: 110، تعليق: 1، والمراجع هناك= وتفسير"النسيان" و"الحظ" فيما سلف ص: 129، تعليق: 3، 4، والمراجع هناك= وتفسير"التذكير" فيما سلف ص: 130، تعليق: 2، والمراجع هناك.(10/135)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فأغرينا بينهم" حرّشنا بينهم وألقينا، كما تغري الشيء بالشيء.
يقول جل ثناؤه: لما ترك هؤلاء النصارى، الذين أخذتُ ميثاقهم بالوفاء بعهدي، حظَّهم مما عهدتُ إليهم من أمري ونهيي، أغريتُ بينهم العداوة والبغضاء.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة"إغراء الله عز ذكره بينهم العداوة، والبغضاء". (1)
__________
(1) انظر تفسير"البغضاء" فيما سلف 7: 146.(10/136)
فقال بعضهم: كان إغراؤه بينهم بالأهواء التي حَدَثت بينهم.
ذكر من قال ذلك:
11598 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال: أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي في قوله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: هذه الأهواء المختلفة والتباغُض، فهو الإغراء.
11599 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب قال: سمعت النخعي يقول:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: أغرى بعضهم ببعض بخصُومات بالجدال في الدين.
11600 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب، عن إبراهيم النخعي والتّيمي، قوله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: ما أرى"الإغراء" في هذه الآية إلا الأهواء المختلفة= وقال معاوية بن قرة: الخصومات في الدين تُحْبِط الأعمال.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك هو العداوة التي بينهم والبغضاء.
ذكر من قال ذلك:
11601 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة" الآية، إنّ القوم لما تركوا كتابَ الله، وعصَوْا رسله، وضَيّعوا فرائضه، وعطّلوا حدُوده، ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، بأعْمالهم أعمالِ السوء، ولو أخذ القوم كتاب الله وأمرَه، ما افترقوا ولا تباغَضُوا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأولين في ذلك عندنا بالحق، تأويلُ من قال:"أغرى بينهم بالأهواء التي حدثت بينهم"، كما قال إبراهيم النخعي، لأن عداوة النصارى(10/137)
بينَهم، إنما هي باختلافهم في قولهم في المسيح، وذلك أهواءٌ، لا وحيٌ من الله.
* * *
واختلف أهل التأويل في المعنيِّ بـ"الهاء والميم" اللتين في قوله:"فأغرينا بينهم".
فقال بعضهم: عني بذلك اليهود والنصارى. فمعنى الكلام على قولِهم وتأويلهم: فأغرينا بين اليهود والنصارى، لنسيانهم حظًّا مما ذكّروا به.
ذكر من قال ذلك:
11602 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: وقال في النصارى أيضا:"فنسوا حظًّا مما ذكروا به"، فلما فعلوا ذلك، أغرى الله عز وجل بينَهم وبين اليهود العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم القيامة.
11603 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة"، قال: هم اليهود والنصارى. قال ابن زيد: كما تُغْري بين اثنين من البهائم.
11604 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء"، قال: اليهود والنصارى.
11605 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
11606 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة قال: هم اليهود والنصارى، أغرى الله بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة.
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك النصارَى وحدَها. وقالوا: معنى ذلك: فأغرينا بين النصارى، عقوبةً لها بنسيانها حظًّا مما ذكرت به. قالوا: وعليها عادت(10/138)
"الهاء والميم" في"بينهم"، دون اليهود.
ذكر من قال ذلك:
11607 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، (1) عن أبيه، عن الربيع قال: إن الله عز ذكره تقدَّم إلى بني إسرائيل: أن لا تشتروا بآيات الله ثمنًا قليلا وعلموا الحكمة ولا تأخذوا عليها أجرًا، فلم يفعل ذلك إلا قليل منهم، فأخذُوا الرّشوة في الحكم، وجاوزوا الحدود، فقال في اليهود حيث حكموا بغير ما أمر الله: (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [سورة المائدة: 64] ، وقال في النصارى:"فنسوا حظًّا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأولين بالآية عندي ما قاله الربيع بن أنس، وهو أنّ المعنيّ بالإغراء بينهم، النصارى، في هذه الآية خاصة= وأنّ"الهاء والميم" عائدتان على النصارى دون اليهود، لأن ذكر"الإغراء" في خبر الله عن النصارى، بعد تقضِّي خبره عن اليهود، وبعد ابتدائه خبَره عن النصارى، فلأنْ يكون ذلك معنيًّا به النصارى خاصًّة، (2) أولى من أن يكون معنيًّا به الحزبان جميعًا، لما ذكرنا.
* * *
فإن قال قائل: وما العداوة التي بين النصارى، فتكون مخصوصة بمعنى ذلك؟
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "عبيد الله بن أبي جعفر"، والصواب"عبد الله" كما أثبته، وهو"عبد الله بن أبي جعفر الرازي"، مضى مئات من المرات في الأسانيد السالفة.
(2) في المطبوعة: "فأن لا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى خاصة"، وهو كلام بريء من العربية. وفي المخطوطة: "فلا يكون ذلك معنيا به إلا النصارى خاصة"، وهو مثله، ولكنه سهو من الناسخ وغفلة، أخطأ فكتب"فلأن يكون""فلا يكون"، ثم زاد"إلا". وهذا كله فساد، صوابه ما أثبت.(10/139)
قيل: ذلك عداوة النسطوريةِ واليعقوبيةِ، والملكيةَ= والملكيةِ النسطوريةَ واليعقوبيةَ. (1) وليس الذي قاله من قال:"معنيٌّ بذلك: إغراء الله بين اليهود والنصارى" ببعيد، غير أن هذا أقرب عندي، وأشبهُ بتأويل الآية، لما ذكرنا.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمَّد صلى الله عليه وسلم: اعفُ عن هؤلاء الذين همُّوا ببسط أيديهم إليك وإلى أصحابك واصفح، فإن الله عز وجل من وراء الانتقام منهم، وسينبئهم الله عند ورودهم عليه في معادهم، بما كانوا في الدنيا يصنعون، من نقضهم ميثاقه، ونكثهم عهده، وتبديلهم كتابه، وتحريفهم أمره ونهيه، فيعاقبهم على ذلك حسب استحقاقهم.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره لجماعة أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم:"يا أهل الكتاب" من اليهود والنصارى="قد جاءكم رسولنا"، يعني محمّدا صلى الله عليه وسلم، كما:-
__________
(1) في المطبوعة: "ذلك عداوة النسطورية واليعقوبية والملكية النسطورية واليعقوبية". وهو كلام خال من المعنى، صوابه من المخطوطة. يعني عداوة هؤلاء لهؤلاء= وعداوة هؤلاء لهؤلاء.(10/140)
11608 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا"، وهو محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقوله:"يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب"، يقول: يبين لكم محمّد رسولنا، كثيرًا مما كنتم تكتمونه الناسَ ولا تُبينونه لهم ممّا في كتابكم. وكان مما يخفونه من كتابهم فبيَّنه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم للناس: رَجْمُ الزَّانيين المحصنين.
* * *
وقيل: إن هذه الآية نزلت في تبيين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك للناس، من إخفائهم ذلك من كتابهم.
ذكر من قال ذلك:
11609 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال، من كفر بالرجم، فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب. قوله:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسوُلنا يبين لكم كثيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب"، فكان الرجمُ مما أخفوا. (1) .
11610 - حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبَّويه، أخبرنا علي بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا يزيد، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله. (2) .
__________
(1) الأثر: 11609-"يحيى بن واضح"، أبو تميلة، مضى مرارا، منها: 392.
و"الحسين بن واقد المروزي"، ثقة. مضى برقم: 481، 6311.
و"يزيد النحوي"، هو"يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي"، ثقة، مضى برقم: 6311. وهذا إسناد صحيح، وسيأتي تخريجه في الأثر التالي.
(2) الأثر: 11610-"عبد الله بن أحمد بن شبويه الخزاعي"، ثقة مضى برقم: 1909، 4612، 4923.
و"علي بن الحسن بن شقيق بن دينار"، ثقة، من شيوخ أحمد، مضى برقم: 1591، 1909، 9951، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "علي بن الحسين"، وهو خطأ محض.
وهذا إسناد صحيح أيضا، مكرر الذي قبله. وهذا الخبر أخرجه الحاكم في المستدرك 4: 359 من طريق علي بن الحسن بن شقيق، بمثله، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 269، وزاد نسبته إلى ابن الضريس، والنسائي، وابن أبي حاتم.
فائدة: راجع أحاديث الرجم فيما سيأتي برقم 11921-11924.(10/141)
11611 - حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم"، إلى قوله:"صراط مستقيم"، قال: إنّ نبيّ الله أتاه اليهود يسألونه عن الرجم، واجتمعوا في بيتٍ، قال: أيُّكم أعلم؟ فأشاروا إلى ابن صُوريا، فقال: أنت أعلمهم؟ قال، سل عما شئت، قال،"أنت أعلمهم؟ " قال: إنهم ليزعمون ذلك! قال: فناشده بالذي أنزل التوراة على موسى، والذي رفع الطُّور، وناشده بالمواثيق التي أُخذت عليهم، حتى أخذه أفْكَل، (1) فقال: إن نساءنا نساء حسان، فكثر فينا القتل، فاختصرنا أُخصورةً، (2) فجلدنا مئة، وحلقنا الرءوس، وخالفنا بين الرءوس إلى الدواب (3) = أحسبه قال: الإبل= قال: فحكم عليهم بالرجم، فأنزل الله فيهم:"يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبيين لكم"، الآية= وهذه الآية: (وَإِذَا خَلا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ
__________
(1) "أفكل" (علي وزن أفعل) : رعدة تعلو الإنسان من برد أو خوف أو غيرهما، وليس له فعل، وأنشد ابن بري: بِعَيْشِكِ هَاتِي فَغَنِّي لَنَا ... فَإِنَّ نَدَامَاكِ لَمْ يَنْهَلُوا
فَبَاتَتْ تُغَنِّي بِغِرْبَالِهَا ... غِنَاء رُوَيْدًا لَهُ أفْكَلُ
(2) قوله: "فاختصرنا أخصورة"، هكذا جاءت في المخطوطة أيضا. وفي تفسير أبي حيان 3: 447"فاختصرنا فجلدنا مئة مئة"، وحذف"أخصورة". ولم أجد لها في اللغة ذكرًا، بمعنى: شيئًا من الاختصار. والذي في الكتب"الخصيري" (بضم الخاء وفتح الصاد وسكون الياء بعدها راء مفتوحة) ، وهي: حذف الفضول من كل شيء، مثل"الاختصار". فلعل صواب العبارة: "فاختصرنا خصيري"، أي اختصارا من حكم الرجم. وتركت ما في المطبوعة والمخطوطة، مخافة أن يكون في الكلمة تحريف لم أهتد إليه.
(3) في تفسير أبي حيان"وخالفنا بين الرءوس على الدبرات"، وكأنه خطأ.(10/142)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15)
لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ) [سورة البقرة: 76] . (1)
* * *
وقوله:"ويعفو عن كثير" يعني بقوله:"ويعفو"، ويترك أخذكم بكثير مما كنتم تخفون من كتابكم الذي أنزله الله إليكم، وهو التوراة، فلا تعملون به حتى يأمره الله بأخذكم به. (2) .
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء الذين خاطبهم من أهل الكتاب:"قد جاءكم"، يا أهل التوراة والإنجيل="من الله نور"، يعني بالنور، محمدًا صلى الله عليه وسلم الذي أنار الله به الحقَّ، وأظهر به الإسلام، ومحق به الشرك، فهو نور لمن استنار به يبيِّن الحق. ومن إنارته الحق، تبيينُه لليهود كثيرًا مما كانوا يخفون من الكتاب. (3)
* * *
وقوله:"وكتاب مبين"، يقول: جل ثناؤه: قد جاءكم من الله تعالى النور الذي أنار لكم به معالم الحقِّ،="وكتاب مبين"، يعني كتابًا فيه بيان ما اختلفوا فيه بينهم: من توحيد الله، وحلاله وحرامه، وشرائع دينه، وهو القرآن الذي أنزله
__________
(1) الأثر: 11611- في هذا الأثر، ذكر سبب نزول آية"سورة البقرة": 76، ولم يذكره أبو جعفر في تفسير الآية هناك (2: 250-254) ، مع أنه يصلح أن يكون وجهًا آخر في تفسير الآية، وأن يكون مرادًا بها"الرجم". فهذا دليل آخر على اختصار أبي جعفر تفسيره، وهو أيضا وجه من وجوه منهجه في اختصاره.
(2) انظر تفسير"العفو" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"نور" فيما سلف 9: 428.(10/143)
يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يبين للناس جميع ما بهم الحاجةُ إليه من أمر دينهم، ويوضحه لهم، حتى يعرفوا حقَّه من باطله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ}
قال أبو جعفر: يعني عز ذكره: يهدي بهذا الكتاب المبين الذي جاء من الله جل جلاله= ويعني بقوله:"يهدي به الله"، يرشد به الله ويسدِّد به، (2) = و"الهاء" في قوله:"به" عائدة على"الكتاب"="من اتبع رضوانه"، يقول: من اتبع رِضَى الله. (3)
* * *
واختلف في معنى"الرضى" من الله جل وعز.
فقال بعضهم: الرضى منه بالشيء"، القبول له والمدح والثناء. قالوا: فهو قابل الإيمان، ومُزَكّ له، ومثنٍ على المؤمن بالإيمان، وواصفٌ الإيمانَ بأنه نور وهُدًى وفصْل. (4)
* * *
وقال آخرون: معنى"الرضى" من الله جل وعز، معنى مفهوم، هو
__________
(1) انظر تفسير"مبين" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"يهدي" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"الرضوان" فيما سلف 6: 262/9: 480.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "وفضل" بالضاد المعجمة، و"الفصل" هنا هو حق المعنى، لأنه يفصل بين الحق والباطل.(10/144)
خلاف السخط، وهو صفة من صفاته على ما يعقل من معاني:"الرضى" الذي هو خلاف السخط، وليس ذلك بالمدح، لأن المدح والثناء قولٌ، وإنما يثنى ويمدح ما قد رُضِي. قالوا: فالرضا معنًى، و"الثناء" و"المدح" معنًى ليس به.
* * *
ويعني بقوله:"سُبُل السلام"، طرق السلام (1) = و"السلام"، هو الله عزَّ ذكره.
11612 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"من اتبع رضوانه سبل السلام"، سبيل الله الذي شرعه لعباده ودعاهم إليه، وابتعث به رسله، وهو الإسلام الذي لا يقبل من أحد عملا إلا به، لا اليهودية، ولا النصرانية، ولا المجوسية.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ}
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: يهدي الله بهذا الكتاب المبين، من اتبع رضوان الله إلى سبل السلام وشرائع دينه="ويخرجهم"، يقول: ويخرج من اتبع رضوانه= و"الهاء والميم" في:"ويخرجهم" إلى من ذُكر="من الظلمات إلى النور"، يعني: من ظلمات الكفر والشرك، إلى نور الإسلام وضيائه (2) ="بإذنه"، يعني: بإذن الله جل وعز. و"إذنه في هذا الموضع: تحبيبه إياه الإيمان برفع طابَع الكفر عن قلبه، وخاتم الشرك عنه، وتوفيقه لإبصار سُبُل السّلام. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"سبيل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"من الظلمات إلى النور" فيما سلف 5: 424-426.
(3) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 8: 516، تعليق: 1، والمراجع هناك.(10/145)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) }
قال أبو جعفر: يعني عز ذكره بقوله:"ويهديهم"، ويرشدهم ويسددهم (1) ="إلى صراط مستقيم"، يقول: إلى طريق مستقيم، وهو دين الله القويم الذي لا اعوجاج فيه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ}
قال أبو جعفر: هذا ذمٌّ من الله عز ذكره للنصارى والنصرانية، الذين ضلُّوا عن سبل السلام= واحتجاجٌ منه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في فِرْيتهم عليه بادّعائهم له ولدًا.
يقول جل ثناؤه: أقسم، لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم= و"كفرهم" في ذلك، تغطيتهم الحقّ في تركهم نفي الولد عن الله جل وعز، وادِّعائهم أن المسيح هو الله، فرية وكذبًا عليه. (3)
* * *
وقد بينا معنى:"المسيح" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (4) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير"يهدي" في فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 8: 529، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"المسيح" فيما سلف 9: 417، تعليق: 1، والمراجع هناك.(10/146)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأرْضِ جَمِيعًا}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد، للنصارى الذين افتروا عليّ، وضلُّوا عن سواء السبيل بقيلهم: إنّ الله هو المسيح ابن مريم:"من يملك من الله شيئًا"، يقول: من الذي يطيق أن يدفع من أمر الله جل وعز شيئا، فيردّه إذا قضاه.
* * *
= من قول القائل:"ملكت على فلان أمره"، إذا صار لا يقدر أن ينفذ أمرًا إلا به. (1)
* * *
وقوله:"إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعًا"، يقول: من ذا الذي يقدر أن يرد من أمر الله شيئًا، إن شاء أن يهلك المسيح بن مريم، بإعدامه من الأرض وإعدام أمه مريم، وإعدام جميع من في الأرض من الخلق جميعا. (2)
* * *
يقول جل ثناؤه لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهؤلاء الجهلة من النصارى: لو كان المسيح كما تزعمون= أنّه هو الله، وليس كذلك= لقدر أن يردَّ أمرَ الله إذا جاءه بإهلاكه وإهلاك أمه. وقد أهلك أمَّه فلم يقدر على دفع أمره فيها إذْ نزل ذلك. ففي ذلك لكم معتَبرٌ إن اعتبرتم، وحجة عليكم إن عقلتم: في أن المسيح، بَشَر كسائر بني آدم، وأن الله عز وجل هو الذي لا يغلب ولا يقهر ولا يردُّ له
__________
(1) هذا بيان قلما تصيبه في كتب اللغة.
(2) انظر تفسير"الإهلاك" فيما سلف 4: 239، 240/9: 430.(10/147)
أمر، بل هو الحيُّ الدائم القيُّوم الذي يحيي ويميت، وينشئ ويفني، وهو حي لا يموت.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني تبارك وتعالى بذلك: والله له تصريف ما في السموات والأرض وما بينهما (1) = يعني: وما بين السماء والأرض= يهلك من يشاء من ذلك ويبقي ما يشاء منه، ويوجد ما أراد ويعدم ما أحبّ، لا يمنعه من شيء أراد من ذلك مانع، ولا يدفعه عنه دافع، يُنْفِذ فيهم حكمه، ويُمضي فيهم قضاءه= لا المسيح الذي إن أراد إهلاكه ربُّه وإهلاكَ أمّه، لم يملك دفع ما أراد به ربُّه من ذلك.
* * *
يقول جل وعز: كيف يكون إلهًا يُعبد من كان عاجزًا عن دفع ما أراد به غيره من السوء، وغير قادرٍ على صرف ما نزل به من الهلاك؟ بل الإله المعبود، الذي له ملك كل شيء، وبيده تصريف كل من في السماءِ والأرض وما بينهما.
* * *
فقال جل ثناؤه:"وما بينهما"، وقد ذكر"السموات" بلفظ الجمع، ولم يقل:"وما بينهن"، لأن المعنى: وما بين هذين النوعين من الأشياء، كما قال الراعي:
__________
(1) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 8: 48، تعليق: 3، والمراجع هناك.(10/148)
طَرَقَا، فَتِلْكَ هَمَاهِمِي، أَقْرِيهِمَا ... قُلُصًا لَوَاقِحَ كَالقِسِيِّ وَحُولا (1)
فقال:"طرقا"، مخبًرا عن شيئين، ثم قال:"فتلك هَمَاهمي"، فرجع إلى معنى الكلام.
* * *
وقوله:"يخلق ما يشاء"، يقول جل ثناؤه: وينشئ ما يشاء ويوجده، ويخرجُه من حال العدم إلى حال الوجود، ولن يقدر على ذلك غير الله الواحد القهَّار. وإنما يعني بذلك، أنّ له تدبير السموات والأرض وما بينهما وتصريفه، وإفناءه وإعدامه، وإيجادَ ما يشاء مما هو غير موجود ولا مُنْشأ. يقول: فليس ذلك لأحد سواي، فكيف زعمتم، أيها الكذبة، أنّ المسيح إله، وهو لا يطيق شيئا من ذلك، بل لا يقدر على دفع الضرَر عن نفسه ولا عن أمه، ولا اجتلابِ نفعٍ إليها إلا بإذني؟
* * *
__________
(1) من قصيدته في جمهرة أشعار العرب: 173، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 118، 160، يقول لابنته خليدة: لَمَّا رَأَتْ أَرَقِي وَطُولَ تَلَدُّدِي ... ذَاتَ الْعِشَاء وَلَيْلَيِ الْمَوْصُولا
قَالَتْ خُلَيْدَةُ: مَا عَرَاكَ، وَلَمْ تَكُنْ ... أَبَدًا إِذَا عَرَتِ الشُّئُونُ سَؤُولا
أَخُلَيْدَ، إِنَّ أَبَاكِ ضَافَ وِسَادَهُ ... هَمَّان باتَا جَنْبَةً وَدَخِيلا
طَرَقَا، فَتِلْكَ هَمَا هِي.... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"الهماهم": الهموم. و"قلص" جمع"قلوص": الفتية من الإبل."لواقح": حوامل، جمع"لاقح". و"الحول"، جمع"حائل"، وهي الناقة التي لم تحمل سنة أو سنتين أو سنوات، وكذلك كل حامل ينقطع عنها الحمل. يقول: أجعل قرى هذه الهموم، نوقًا هذه صفاتها، كأنها قسى موترة من طول أسفارها، فأضرب بها الفيافي.
والشاهد الذي أراده الطبري أنه قال: "فتلك هماهمي"، وقد ذكر قبل"همان"، ثم عاد بعد يقول: "أقريهما"، وقد قال: "فتلك هماهمي" جمعًا. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 118، 160.(10/149)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) }
قال أبو جعفر: يقول عز ذكره: الله المعبودُ، هو القادر على كل شيء، والمالك كلَّ شيء، الذي لا يعجزُه شيء أراده، ولا يغلبه شيء طلبه، المقتدرُ على هلاك المسيح وأمه ومن في الأرض جميعًا = لا العاجز الذي لا يقدر على منع نفسه من ضُرّ نزل به من الله، ولا منْعِ أمّه من الهلاك. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة.(10/150)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل وعز عن قوم من اليهود والنصارى أنهم قالوا هذا القول.
* * *
وقد ذكر عن ابن عباس تسمية الذين قالوا ذلك من اليهود.
11613 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نعمانُ بن أضَاء (1) وبحريّ بن عمرو، وشأس بن عدي، فكلموه، فكلّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الله وحذّرهم نقمته، فقالوا: ما تُخَوّفنا،
__________
(1) في المطبوعة: "نعمان بن أحي، ويحرى بن عمرو.."، وفي المخطوطة: "عثمان بن أصار ويحوى بن عمرو ... "، وكلاهما خطأ، وصوابه من سيرة ابن هشام.(10/150)
يا محمد!! نحن والله أبناء الله وأحبَّاؤه!! (1) = كقول النصارى، فأنزل الله جل وعز فيهم:"وقالت اليهودُ والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه"، إلى آخر الآية. (2)
* * *
وكان السدي يقول في ذلك بما:
11614 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه"، أما"أبناء الله"، فإنهم قالوا: إن الله أوحى إلى إسرائيل أن ولدًا من ولدك، (3) أدخلهم النار، فيكونون فيها أربعين يومًا حتى تطهرهم وتأكل خطاياهم، ثم ينادي منادٍ: أن أخرجوا كل مختون من ولدِ إسرائيل، فأخرجهم. فذلك قوله: (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ) [سورة آل عمران: 24] . وأما النصارى، فإن فريقًا منهم قال للمسيح: ابن الله. (4)
* * *
والعرب قد تخرج الخبرَ، إذا افتخرت، مخرجَ الخبر عن الجماعة، وإن كان ما افتخرت به من فعل واحد منهم، فتقول:"نحن الأجواد الكرام"، وإنما الجواد فيهم واحدٌ منهم، وغير المتكلِّم الفاعلُ ذلك، كما قال جرير:
نَدَسْنَا أَبَا مَنْدُوسَةَ القَيْنَ بِالقَنَا ... وَمَارَ دَمٌ مِنْ جَارِ بَيْبَةَ نَاقعُ (5)
__________
(1) في المخطوطة: "نحن أبناء الله وأحباءه، بل أنتم بشر ممن خلق"، وهو من عجلة الناسخ لا شك في ذلك.
(2) الأثر: 11613- سيرة ابن هشام 2: 212، وهو تابع الأثر السالف رقم: 11557.
(3) في المخطوطة: "إلى بني إسرائيل إن ولدك من الولد فأدخلهم النار"، وهو خلط بلا معنى، صوابه ما في المطبوعة على الأرجح.
(4) الأثر: 11614- لم يمض هذا الأثر في تفسير آية سورة البقرة: 80 (2: 274-278) ، ولا آية سورة آل عمران: 24 (6: 292، 293) . وهذا أيضا من الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره.
(5) ديوانه: 372، والنقائض: 693، واللسان (بيب) (مور) (ندس) . و"ندس": طعن طعنًا خفيفًا. و"أبو مندوسة"، هو مرة بن سفيان بن مجاشع، جد الفرزذق. قتلته بنو يربوع -قوم جرير- في يوم الكلاب الأول. و"القين" لقب لرهط الفرزدق، يهجون به. و"جاربيبة"، هو الصمة بن الحارث الجشمي، قتله ثعلبة بن حصبة، وهو في جوار الحارث بن بيبة بن قرط بن سفيان بن مجاشع، من رهط الفرزدق. و"مار الدم على وجه الأرض": جرى وتحرك فجاء وذهب. و"دم ناقع"، أي: طري لم ييبس.(10/151)
فقال:"نَدَسْنَا"، وإنما النادس رجل من قوم جريرٍ غيرُه، فأخرج الخبر مخرج الخبر عن جماعة هو أحدهم. فكذا أخبر الله عزّ ذكره عن النصارى أنها قالت ذلك، على هذا الوجه إن شاء الله.
* * *
وقوله:"وأحباؤه"، وهو جمع"حبيب".
* * *
يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"قل" لهؤلاء الكذبة المفترين على ربهم="فلم يعذبكم" ربكم، يقول: فلأي شيء يعذبكم ربكم بذنوبكم، إن كان الأمر كما زعمتم أنكم أبناؤه وأحبّاؤه، فإن الحبيب لا يعذِّب حبيبه، وأنتم مقرُّون أنه معذبكم؟ وذلك أن اليهود قالت: إن الله معذبنا أربعين يومًا عَدَد الأيام التي عبدنا فيها العجل، (1) ثم يخرجنا جميعًا منها، فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم: إن كنتم، كما تقولون، أبناءُ الله وأحباؤه، فلم يعذبكم بذنوبكم؟ يعلمهم عز ذكره أنَّهم أهل فرية وكذب على الله جل وعز.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لنبيه محمّدٍ صلى الله عليه وسلم، قل لهم: ليس الأمر كما زعمتم أنكم أبناء الله وأحباؤه="بل أنتم بشر ممن خلق"، يقول: خلق من بني آدم، خلقكم الله مثل سائر بني آدم، (2) إن أحسنتم جُوزيتم بإحسانكم،
__________
(1) انظر ما سلف 6: 292.
(2) انظر تفسير"بشر" فيما سلف 6: 538.(10/152)
كما سائر بني آدم مجزيُّون بإحسانهم، وإن أسأتم جوزيتم بإساءتكم، كما غيركم مجزيٌّ بها، ليس لكم عند الله إلا ما لغيركم من خلقه، فإنه يغفر لمن يشاء من أهل الإيمان به ذنوبَه، فيصفح عنه بفضله، ويسترها عليه برحمته، فلا يعاقبه بها.
* * *
وقد بينا معنى"المغفرة"، في موضع غير هذا بشواهده، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1) .
* * *
="ويعذب من يشاء" يقول: ويعدل على من يشاء من خلقه فيعاقبه على ذنوبه، ويفضَحه بها على رءوس الأشهاد فلا يسترها عليه.
* * *
وإنما هذا من الله عز وجل وعيد لهؤلاء اليهود والنصارى المتّكلين على منازل سَلَفهم الخيارِ عند الله، الذين فضلهم الله جل وعز بطاعتهم إياه، واجتباهم لمسارعتهم إلى رضاه، (2) واصطبارهم على ما نابهم فيه. (3) يقول لهم: لا تغتروا بمكان أولئك مني ومنازلهم عندي، فإنهم إنما نالوا ما نالوا منّي بالطاعة لي، وإيثار رضاي على محابِّهم= (4) لا بالأماني، فجدُّوا في طاعتي، وانتهوا إلى أمري، وانزجروا عما نهيتُهم عنه، فإني إنما أغفر ذنوب من أشاء أن أغفر ذنوبه من أهل طاعتي، وأعذّب من أشاء تعذيبه من أهل معصيتي= (5) لا لمن قرَّبتْ زُلْفَةُ آبائه مني، وهو لي عدوّ، ولأمري ونهيي مخالفٌ.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2: 109، 110، ثم سائر فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "واجتنابهم معصيته لمسارعتهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة، وزاد"معصيته" لتستقيم له قراءته. و"الاجتباء": الاصطفاء والاختيار.
(3) في المخطوطة: "إلى ما نابهم فيه"، والجيد ما في المطبوعة.
(4) يقول: "نالوا ما نالوا مني بالطاعة لي.. لا بالأماني". هكذا السياق.
(5) يقول: "فإني أغفر ذنوب من أشاء.. لا لمن قربت زلفة آبائه مني"، هكذا السياق.(10/153)
وكان السدي يقول في ذلك بما:-
11615 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء"، يقول: يهدي منكم من يشاء في الدنيا فيغفر له، ويميت من يشاء منكم على كفره فيعذِّبه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) }
قال أبو جعفر يقول: لله تدبيرُ ما في السموات وما في الأرض وما بينهما، وتصريفُه، وبيده أمره، وله ملكه، (1) يصرفه كيف يشاء، ويدبره كيف أحبّ، (2) لا شريك له في شيء منه، ولا لأحدٍ معهُ فيه ملك. فاعلموا أيها القائلون:"نحن أبناء الله وأحباؤه"، أنه إن عذبكم بذنوبكم، لم يكن لكم منه مانع، ولا لكم عنه دافع، لأنه لا نسب بين أحد وبينه فيحابيه لسبب ذلك، ولا لأحد في شيء دونه ملك، فيحول بينه وبينه إن أراد تعذيبه بذنوبه، (3) وإليه مصير كل شيء ومرجعه. فاتَّقوا أيها المفترون، عقابَه إياكم على ذنوبكم بعد مرجعكم إليه، ولا تغتروا بالأمانيّ وفضائل الآباء والأسلاف.
* * *
__________
(1) انظر تفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف قريبا ص: 148، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "كيف أحبه"، وأثبت الجيد من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "بذنبه"، وفي المخطوطة: "بدونه"، ورجحت ما أثبت.(10/154)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أهل الكتاب"، اليهودَ الذين كانوا بين ظهرانَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم نزلت هذه الآية. وذلك أنهم= أو: بعضهم، فيما ذكر= لما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان به وبما جاءهم به من عند الله، قالوا: ما بعثَ الله من نبيّ بعد موسى، ولا أنزل بعد التوراة كتابًا!
11616 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب لليهود: يا معشر اليهود، اتقوا الله، فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله! لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مَبعثه، وتصفونه لنا بصفته! فقال رافع بن حُرَيملة ووهب بن يهودا (1) ما قلنا هذا لكم، وما أنزل الله من كتاب بعد موسى، ولا أرسل بشيرًا ولا نذيرًا بعده! (2) فأنزل الله عز وجل في [ذلك من] قولهما (3) "يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشيرٌ ونذيرٌ والله على كل شيء قدير". (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "رافع بن حرملة"، وفي المخطوطة: "نافع بن حرملة"، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.
(2) في المخطوطة: "ولا أرسل بشيرًا ونذيرًا"، والصواب ما في المطبوعة كما في سيرة ابن هشام.
(3) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام.
(4) سيرة ابن هشام 2: 212، وهو تابع الأثر السالف رقم: 11613.(10/155)
ويعني بقوله جل ثناؤه:"فقد جاءكم رسولنا"، قد جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم رسولنا="يبين لكم"، يقول: يعرفكم الحقَّ، ويوضح لكم أعلام الهدى، ويرشدكم إلى دين الله المرتضى، (1) كما:-
11617 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل"، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، جاء بالفرقان الذي فرَق الله به بين الحق والباطل، فيه بيان الله ونوره وهداه، وعصمةٌ لمن أخذ به.
* * *
="على فترة من الرسل"، يقول: على انقطاع من الرسل= و"الفترة" في هذا الموضع الانقطاع= يقول: قد جاءكم رسولنا يبين لكم الحق والهدى، على انقطاع من الرسل.
* * *
و"الفترة""الفعلة" من قول القائل:"فتر هذا الأمر يفتُر فُتورًا"، وذلك إذا هدأ وسكن. وكذلك"الفترة" في هذا الموضع، معناها: السكون، يراد به سكون مجيء الرسل، وذلك انقطاعها.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في قدر مدة تلك الفترة، فاختلف في الرواية في ذلك عن قتادة. فروى معمر عنه ما:-
11618 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"على فترة من الرسل" قال: كان بين عيسى ومحمَّدٍ صلى الله عليه وسلم خمسمائة وستون سنة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"التبيين" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (بين) .(10/156)
وروى سعيد بن أبي عروبة عنه ما:-
11619 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمّدٍ صلى الله عليهما، ذكر لنا أنها كانت ستمائة سنة، أو ما شاء من ذلك، والله أعلم. (1)
11620 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن أصحابه قوله:"قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل"، قال: كان بين عيسى ومحمد صلى لله عليهما خمسمائة سنة وأربعون سنة= قال معمر، قال قتادة: خمسمائة سنة وستون سنة.
* * *
وقال آخرون بما:-
11621 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"على فترة من الرسل"، قال: كانت الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليهما، أربعمائة سنة وبضعًا وثلاثين سنة.
ويعني بقوله:"أن تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير" أن لا تقولوا، وكي لا تقولوا، كما قال جل ثناؤه: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [سورة النساء: 176] ، بمعنى: أن لا تضلوا، وكي لا تضلوا.
* * *
فمعنى الكلام: قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل، كي لا تقولوا ما جاءَنا من بشير ولا نذير. يعلمهم عز ذكره أنه قد قطَع عذرهم برسوله صلى الله عليه وسلم، وأبلغ إليهم في الحجة. (2)
__________
(1) كان في المطبوعة: "وما شاء الله" بالواو، وفي المطبوعة والمخطوطة: "الله أعلم" بغير واو. والصواب ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 9: 445، 446.(10/157)
ويعني بـ"البشير"، المبشر من أطاع الله وآمن به وبرسوله، وعمل بما آتاه من عند الله، بعظيم ثوابه في آخرته (1) = وبـ"النذير"، المنذر من عصاه وكذّب رسولَه صلى الله عليه وسلم وعمل بغير ما أتاه من عند الله من أمره ونهيه، بما لا قبل له به من أليم عقابه في معاده، وشديد عذابه في قِيامته.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لهؤلاء اليهود الذين وصفنا صفتهم: قد أعذرنا إليكم، واحتججنا عليكم برسولنا محمد صلى الله عليه وسلم إليكم، وأرسلناه إليكم ليبيّن لكم ما أشكل عليكم من أمر دينكم، كيلا تقولوا:"لم يأتنا من عندك رسولٌ يبيِّن لنا ما نحن عليه من الضلالة"، فقد جاءكم من عندي رسول يبشر من آمن بي وعمل بما أمرته وانتهى عما نهيته عنه، وينذر من عصاني وخالف أمري، وأنا القادر على كل شيء، أقدر على عقاب من عصاني، وثواب من أطاعني، فاتقوا عقابي على معصيتكم إياي وتكذيبكم رسولي، واطلبوا ثوابي على طاعتكم إياي وتصديقكم بشيري ونذيري، فإني أنا الذي لا يعجزه شيء أرادَه، ولا يفوته شيء طلبه. (2)
__________
(1) وانظر تفسير"البشارة" فيما سلف 9: 318، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"قدير" فيما سلف من فهارس اللغة.(10/158)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20)
القول في تأويل عز ذكره: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُم}
قال أبو جعفر: وهذا أيضا من الله تعريفٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، قديمَ تمادي هؤلاء اليهود في الغيّ، وبعدِهم عن الحق، وسوء اختيارهم لأنفسهم، وشدة خلافهم لأنبيائهم، وبطء إنابتهم إلى الرشاد، مع كثرة نعم الله عندهم، وتتابع أياديه وآلائه عليهم= مسلِّيًا بذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم عما يحلّ به من علاجهم، وينزل به من مقاساتهم في ذات الله. يقول الله له صلى الله عليه وسلم: لا تأسَ على ما أصابك منهم، فإن الذهابَ عن الله، والبعد من الحق، وما فيه لهم الحظ في الدنيا والآخرة، من عاداتهم وعادات أسلافهم وأوائلهم= وتعزَّ بما لاقى منهم أخوك موسى صلى الله عليه وسلم= واذْكُر إذ قال موسى لهم:"يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم"، يقول: اذكروا أيادِي الله عندكم، وآلاءه قبلكم، (1) كما:-
11622 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن الزبير، عن ابن عيينة:"اذكروا نعمة الله عليكم"، قال: أيادي الله عندكم وأيَّامه. (2)
11623 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اذكروا نعمة الله عليكم" يقول: عافية الله عز وجل.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا، لأن الله لم يخصص من النعم شيئًا، بل عمَّ ذلك بذكر النعم، فذلك على العافية وغيرها، إذ كانت"العافية" أحد معاني"النعم".
__________
(1) انظر تفسير"النعمة" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) الأثر: 11622-"عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبيد الله بن أسامة الأسدي الحميدي". روى عن ابن عيينة، والشافعي وهذه الطبقة. روى عن البخاري. ومضى برقم: 9914.(10/159)
القول في تأويل جل ثناؤه: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنَّ موسى ذكَّر قومه من بني إسرائيل بأيَّام الله عندهم، وبآلائه قبلهم، مُحَرِّضهم بذلك على اتباع أمر الله في قتال الجبارين، (1) فقال لهم: اذكروا نعمة الله عليكم أنْ فضّلكم، بأن جعل فيكم أنبياء يأتونكم بوحيه، ويخبرونكم بأنباء الغيب، (2) ولم يعط ذلك غيركم في زمانكم هذا. (3)
=فقيل: إن الأنبياء الذين ذكَّرهم موسى أنهم جُعلوا فيهم: هم الذين اختارهم موسى إذ صار إلى الجبل، وهم السبعون الذين ذكرهم الله فقال: (وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلا لِمِيقَاتِنَا) [سورة الأعراف: 155] .
* * *
="وجعلكم ملوكًا" سخر لكم من غيركم خدمًا يخدمونكم.
* * *
وقيل: إنما قال ذلك لهم موسى، لأنه لم يكن في ذلك الزمان أحدٌ سواهم يخدُمه أحد من بني آدم.
ذكر من قال ذلك:
11624 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياءَ
__________
(1) في المطبوعة: "فحرضهم بذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ويخبرونكم بآياته الغيب"، وهو كلام فارغ من المعنى، وفي المخطوطة هكذا"بآياتنا الغيب"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) انظر تفسير"نبي" فيما سلف 2: 140-142/6: 380، وغيرها في فهارس اللغة.(10/160)
وجعلكم ملوكًا"، قال: كنا نحدَّثُ أنهم أول من سُخِّر لهم الخدَم من بني آدم ومَلَكوا.
* * *
وقال آخرون: كل من ملك بيتًا وخادمًا وامرأةً، فهو"ملك"، كائنًا من كان من الناس.
ذكر من قال ذلك:
11625 - حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا أبو هانئ: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص، وسأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم! قال ألك مسكن تسكُنُه؟ قال: نعم! قال: فأنت من الأغنياء! فقال: إنّ لي خادمًا. قال: فأنت من الملوك. (1)
11626 - حدثنا الزبير بن بكار قال، حدثنا أبو ضمرة أنس بن عياض قال: سمعت زيد بن أسلم يقول:"وجعلكم ملوكًا" فلا أعلم إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من كان له بيتٌ وخادم فهو ملك. (2)
11627 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا العلاء بن عبد الجبار، عن
__________
(1) الأثر: 11625-"أبو هانئ"، هو: "حميد بن هانئ الخولاني المصري" من ثقات التابعين، مضى: 6039، 6657.
و"أبو عبد الرحمن الحبلي"، هو: "عبد الله بن يزيد المعافري"، تابعي ثقة، مضى برقم: 6657، 9483.
وهذا حديث صحيح، رواه مسلم في صحيحه 18: 109، 110، من طريق أبي الطاهر أحمد بن عمرو بن سرح، عن ابن وهب، بإسناده، مطولا.
وقصر السيوطي في الدر المنثور 1: 270 فقال"أخرجه سعيد بن منصور"، واقتصر عليه.
(2) الأثر: 11626-"الزبير بن بكار" شيخ الطبري، مضى برقم: 7855.
"وأنس بن عياض بن ضمرة"، ثقة. مضى برقم: 7، 1679.
والحديث خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 270، ولم ينسبه لابن جرير، ونسبه للزبير بن بكار في الموفقيات، ولأبي داود في مراسيله. وذكره ابن كثير في تفسيره 3: 112، 113، وقال: "وهذا مرسل غريب".(10/161)
حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن: أنه تلا هذه الآية:"وجعلكم ملوكًا"، فقال: وهل المُلْك إلا مركبٌ وخادمٌ ودار؟
فقال قائلو هذه المقالة: إنما قال لهم موسى ذلك، لأنهم كانوا يملكون الدّور والخدم، ولهم نساءٌ وأزواج.
ذكر من قال ذلك:
11628 - حدثنا سفيان بن وكيع وابن حميد قالا حدثنا جرير، عن منصور= قال: أراه عن الحكم=:"وجعلكم ملوكًا"، قال: كانت بنو إسرائيل إذا كان للرجل منهم بيتٌ وامرأة وخادم، عُدَّ ملكًا.
11629 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= ح، وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان= عن منصور، عن الحكم:"وجعلكم ملوكًا" قال: الدار والمرأة، والخادم= قال سفيان: أو اثنتين من الثلاثة. (1)
11630 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن رجل، عن ابن عباس في قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال: البيت والخادم.
11631 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن الحكم أو غيره، عن ابن عباس في قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال: الزوجة والخادم والبيت.
11632 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وجعلكم ملوكًا" قال: جعل لكم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا.
11633 - حدثنا المثنى قال، حدثنا علي بن محمد الطنافسي قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "واثنتين" بالواو، والصواب من المخطوطة.(10/162)
أبو معاوية، عن حجاج بن تميم، عن ميمون بن مهران، عن ابن عباس في قول الله:"وجعلكم ملوكًا" قال: كان الرجل من بني إسرائيل إذا كانت له الزوجة والخادم والدار يسمَّى مَلِكًا. (1)
11634 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وجعلكم ملوكًا" قال: مُلْكُهم الخدم= قال قتادة: كانوا أوَّل من مَلك الخدم.
11635 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد:"وجعلكم ملوكًا" قال: جعل لكم أزواجًا وخدمًا وبيوتًا.
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بقوله:"وجعلكم ملوكًا" أنهم يملكون أنفُسَهم وأهلِيهم وأموالهم.
ذكر من قال ذلك:
11636 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وجعلكم ملوكًا" يملك الرجل منكم نفسَه وأهلَه ومالَه.
__________
(1) الأثر: 11633-"علي بن محمد بن إسحق الطنافسي"، روى عن أبي معاوية الضرير. ثقة صدوق. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/202. وكان في المخطوطة"الطيالسي"، وهو خطأ من الناسخ.
و"أبو معاوية" الضرير، هو: "محمد بن خازم التميمي". ثقة كثير الحديث، كان يدلس. مضى برقم: 2783.
و"حجاج بن تميم الجزري". روى عن ميمون بن مهران، وروى عنه أبو معاوية الضرير. قال النسائي: "ليس بثقة"، وقال الأزدي: "ضعيف". وقال العقيلي: "روى عن ميمون بن مهران أحاديث لا يتابع عليها". وقال ابن حبان في الثقات: "روى عن ميمون بن مهران. روى عنه أبو معاوية الضرير". مترجم في التهذيب. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "حجاج بن نعيم"، وهو خطأ محض كما ترى.(10/163)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) }
قال أبو جعفر: اختلف فيمن عنوا بهذا الخطاب.
فقال بعضهم: عني به أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
11637 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك وسعيد بن جبير:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، قالا أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: عُنِي به قوم موسى صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
11638 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، هم قوم موسى.
11639 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، قال: هم بين ظهرانيه يومئذٍ. (1)
* * *
ثم اختلفوا في الذي آتاهمُ الله ما لم يؤت أحدًا من العالمين.
__________
(1) الأثر 11639- هذا الخبر رواه الحاكم في المستدرك 2: 311، 312، من طريق مصعب بن المقدام، عن سفيان بن سعيد، عن الأعمش، مطولا. ونصه: "الذين هم بين ظهرانيهم يومئذ". وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
والذي في نص الطبري"هم بين ظهرانيه يومئذ"، الضمير بالإفراد، كأنه يعني"العالم" الذي هم بين ظهرانيه يومئذ.
والخبر خرجه السيوطه في الدر المنثور 1: 269، وزاد نسبته للفريابي، وابن المنذر، والبيهقي في شعب الإيمان.(10/164)
فقال بعضهم: هو المنّ والسلوى والحجر والغمام. (1)
ذكر من قال ذلك:
11640 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين" قال: المنّ والسلوى والحجر والغمام.
11641 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، يعني: أهل ذلك الزمان، المنَّ والسلوى والحجر والغمام.
* * *
وقال آخرون: هو الدَّار والخادِم والزوجة.
ذكر من قال ذلك:
11642 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بشر بن السري، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين" قال: الرجل يكون له الدار والخادم والزوجة. (2)
11643 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، المنّ والسلوى والحجر والغمام.
* * *
__________
(1) "الحجر"، يعني الحجر الذي ضربه موسى بعصاه، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا. وانظر ما سلف 2: 119-122.
(2) الأثر: 11642-"بشر بن السري البصري"، أبو عمرو الأفوه، ثقة كثير الحديث. روى له الجماعة، وهو من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب.
و"طلحة بن عمرو بن عثمان الحضرمي"، روى عن عطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير وغيرهما. ضعيف جدًا، قال أحمد: "لا شيء، متروك الحديث". وقال ابن عدي: "روى عنه قوم ثقات، وعامة ما يرويه لا يتابع عليه". وقال ابن حبان: "لا يحل كتب حديثه ولا الرواية عنه، إلا على جهة التعجب". مترجم في التهذيب.(10/165)
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، في سياق قوله:"اذكروا نعمة الله عليكم"، ومعطوفٌ عليه. (1)
ولا دلالة في الكلام تدلّ على أن قوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين" مصروف عن خطاب الذين ابتدئَ بخطابهم في أوّل الآية. فإذ كان ذلك كذلك، فأنْ يكون خطابًا لهم، أولى من أن يقال: هو مصروف عنهم إلى غيرهم.
فإن ظن ظان أن قوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدًا من العالمين"، لا يجوز أن يكون لهم خطابًا، (2) إذ كانت أمة محمَّد قد أوتيت من كرامة الله جلّ وعزّ بنبيِّها عليه السلام محمّدٍ، ما لم يُؤتَ أحدٌ غيرهم، (3) =وهم من العالمين= (4) فقد ظنَّ غير الصواب. وذلك أن قَوله:"وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين"، خطاب من موسى صلى الله عليه وسلم لقومه يومئذٍ، وعنى بذلك عالمي زمانه، لا عالمي كل زمان. ولم يكن أوتي في ذلك الزمان من نِعَم الله وكرامته، ما أوتي قومُه صلى الله عليه وسلم، أحد من العالمين. (5) فخرج الكلام منه صلى الله عليه على ذلك، لا على جميع [عالم] كلِّ زمان. (6)
* * *
__________
(1) لم يفهم ناشر المطبوعة عربية أبي جعفر، فجعل الكلام هكذا: "وآتاكم ما لم يوت أحدا من العالمين، خطاب لبني إسرائيل حيث جاء في سياق قوله: اذكروا نعمة الله عليكم = ومعطوفًا عليه"، فغير وزاد وأساء وخان الأمانة!!
(2) في المطبوعة: "لا يجوز أن تكون خطابًا لبني إسرائيل" بزيادة"لبني إسرائيل"، وفي المخطوطة: "أن تكون له خطابا"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "من كرامة الله نبيها عليه السلام محمدًا ما لم يؤت أحدًا غيرهم"، فأثبت زيادة المخطوطة، وجعلت"نبيها""بنبيها"، بزيادة الباء في أوله، وجعلت"أحدًا""أحد"، وذلك الصواب المحض.
(4) السياق: "فإن ظن ظان.. فقد ظن غير الصواب".
(5) السياق: "ولم يكن أوتي في ذلك الزمان.. أحد من العالمين".
(6) انظر تفسير"العالمين" فيما سلف 1: 143-146/2: 23-26/5: 375/6: 393.(10/166)
يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول موسى صلى الله عليه وسلم لقومه من بني إسرائيل، وأمرِه إياهم =عن أمر الله إياه= بأمرهم بدخول الأرض المقدسة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الأرض التي عناها بـ"الأرض المقدَّسة".
فقال بعضهم: عنى بذلك الطورَ وما حوله.
ذكر من قال ذلك:
11644 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الأرض المقدسة" الطور وما حوله.
11645 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
11646 - حدثني الحارث بن محمد قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"ادخلوا الأرض المقدسة"، قال: الطور وما حوله.
* * *
وقال آخرون: هو الشأم.
ذكر من قال ذلك:
11647 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"الأرض المقدسة" قال: هي الشأم.
* * *(10/167)
وقال آخرون: هي أرض أريحا.
ذكر من قال ذلك:
11648 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" قال: أريحا.
11649 - حدثني يوسف بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هي أريحا.
11650 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن أبي سعيد، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: هي أريحا.
* * *
وقيل: إن"الأرض المقدسة" دمشق وفلسطين وبعض الأرْدُنّ.
* * *
وعنى بقوله:"المقدسة" المطهرة المباركة، (1) كما:-
11651 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"الأرض المقدسة"، قال: المباركة.
11652 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: هي الأرض المقدّسة، كما قال نبي الله موسى صلى الله عليه، لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تُدرك حقيقةُ صحته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به. غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر، لإجماع جميع أهل التأويل والسِّير والعلماء بالأخبار على ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"التقديس" فيما سلف 1: 475، 476/2: 322.(10/168)
ويعني بقوله:"التي كتب الله لكم" التي أثبت في اللوح المحفوظ أنها لكم مساكن ومنازل دون الجبابرة التي فيها. (1)
* * *
فإن قال قائل: فكيف قال:"التي كتب الله لكم"، وقد علمت أنَّهم لم يدخلوها بقوله:"فإنها محرَّمة عليهم"؟ فكيف يكون مثبتا في اللوح المحفوظ أنها مساكن لهم، ومحرمًا عليهم سكناها؟
قيل: إنها كتبت لبني إسرائيل دارًا ومساكن، وقد سكنوها ونزلوها وصارت لهم، كما قال الله جل وعز. وإنما قال لهم موسى:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، يعني بها: كتبها الله لبني إسرائيل، =وكان الذين أمرهم موسى بدخولها من بني إسرائيل= ولم يعن صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى ذكره كتبها للذين أمرهم بدخولها بأعيانهم.
ولو قال قائل: قد كانت مكتوبة لبعضهم ولخاص منهم= فأخرج الكلام على العموم، والمراد منه الخاص، إذ كان يُوشع وكالب قد دخلا (2) وكانا ممن خوطب بهذا القول= كان أيضًا وجهًا صحيحًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
11653 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق،"التي كتب الله لكم"، التي وهب الله لكم.
* * *
وكان السدي يقول: معنى"كتب" في هذا الموضع، بمعنى: أمر.
11654 - حدثنا بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، التي أمركم الله بها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 9: 262، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "يوشع وكلاب"، وانظر ما سلف ص: 113 تعليق: 2.(10/169)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قيل موسى عليه السلام لقومه من بني إسرائيل، إذ أمرهم عن أمر الله عزّ ذكره إيّاه بدخول الأرض المقدسة، أنه قال لهم: امضُوا، أيها القوم، لأمر الله الذي أمركم به من دخول الأرض المقدسة="ولا ترتدوا" يقول: لا ترجعوا القهقرى مرتدّين (1) ="على أدباركم" يعني: إلى ورائكم، (2) ولكن امضوا قُدُمًا لأمر الله الذي أمركم به، من الدخول على القوم الذين أمركم الله بقتالهم والهجوم عليهم في أرضهم، وأنّ الله عز ذكره قد كتبها لكم مسكنًا وقرارًا.
ويعني بقوله:"فتنقلبوا خاسرين"، أي: تنصرفوا خائبين هُلَّكًا. (3)
* * *
وقد بينا معنى"الخسارة" في غير هذا الموضع، بشواهده المغنية عن إعادته في هذا الموضع. (4)
* * *
فإن قال قائل: وما كان وجه قيل موسى لقومه، إذْ أمرهم بدخول الأرض المقدسة:"لا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"، أوَ يستوجب الخسارة من لم يدخل أرضًا جعلت له؟
__________
(1) انظر تفسير"ارتد" فيما سلف 3: 163/4: 316.
(2) انظر تفسير"الأدبار" فيما سلف 7: 109.
(3) انظر تفسير"انقلب" فيما سلف 3: 163/7: 414. وكانت هذه العبارة في المخطوطة والمطبوعة: "أنكم تنصرفوا خائبين هكذا"، ورجحت أن صواب قراءتها ما أثبت.
و"هلك" جمع"هالك". وقد مر تفسيره"الخسارة" بمعنى"الهلاك".
(4) انظر تفسير"الخسارة" فيما سلف 9: 224، تعليق: 3، والمراجع هناك.(10/170)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22)
قيل: إن الله عز ذكره كان أمرهم بقتال من فيها من أهل الكفر به وفرض عليهم دخولها، (1) فاستوجب القوم الخسارة بتركهم إذًا فرض الله عليهم من وجهين: أحدُهما: تضييع فرض الجهاد الذي كان الله عز ذكره فرضه عليهم= والثاني: خلافهم أمر الله في تركهم دخول الأرض، وقولهم لنبيهم موسى صلى الله عليه وسلم إذ قال لهم:"ادخلوا الأرض المقدسة":"إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون".
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك بما:
11655 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم" أمروا بها، كما أمروا بالصلاة والزكاة والحجِّ والعُمْرة.
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن جواب قوم موسى عليه السلام، إذ أمرهم بدخول الأرض المقدسة: أنهم أبوا عليه إجابته إلى ما أمرهم به من ذلك، (2) واعتلّوا عليه في ذلك بأن قالوا، إن في الأرض المقدسة التي تأمرنا بدخولها، قومًا جبارين لا طاقة لنا بحربهم، ولا قوة لنا بهم. وسموهم"جبّارين"، لأنهم كانوا لشدة بطشهم وعظيم خلقهم، (3) فيما ذكر لنا، قد قهروا سائر الأمم غيرهم.
__________
(1) في المطبوعة: "كان أمره"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "إجابة إلى ما أمرهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "بشدة بطشهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.(10/171)
وأصل"الجبار"، المصلح أمر نفسه وأمر غيره، ثم استعمل في كل من اجترَّ نفعا إلى نفسه بحق أو باطل طلبَ الإصلاح لها، حتى قيل للمتعدِّي إلى ما ليس له= بغيًا على الناس، وقهرًا لهم، وعتوًّا على ربه="جبار"، وإنما هو"فعّال" من قولهم:"جبر فلان هذا الكسر"، إذا أصلحه ولأمه، ومنه قول الراجز: (1)
قَدْ جَبَرَ الدِّينَ الإلهُ فَجَبَرْ ... وَعَوَّرَ الرَّحمنُ مَنْ وَلَّي العَوَرْ (2)
يريد: قد أصلح الدين الإله فصلح. ومن أسماء الله تعالى ذكره"الجبار"، لأنه المصلحُ أمرَ عباده، القاهرُ لهم بقدرته.
* * *
ومما ذكرته من عظم خلقهم ما:-
11656 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قصة ذكرها من أمر مُوسى وبني إسرائيل، قال، ثم أمرهم بالسير إلى أريحا= وهي أرض بيت المقدس= فساروا، حتى إذا كانوا قريبًا منهم، بعث موسى اثنى عشر نقيبًا من جميع أسباط بني إسرائيل، فساروا يريدون أن يأتوه بخبر الجبَّارين، فلقيهم رجل من الجبارين، يقال له:"عاج"، (3) فأخذ الاثنى عشر فجعلهم في حُجْزَته، وعلى رأسه حَمْلة حطب، (4) وانطلق بهم
__________
(1) هو العجاج.
(2) ديوانه: 15، واللسان (جبر) (عور) ، وهو أول أرجوزته التي مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، وقد مضت منها أبيات، وذكرنا خبرها فيما سلف، انظر 1: 190/2: 157/3: 229/4: 321. وقوله: "قد جبر الدين الإله"، من قولهم: "جبرت العظم" متعديًا، "فجبر"، لازمًا، أي: انجبر العظم نفسه. و"العور" في هذا الشعر هو قبح الأمر وفساده، وترك الحق فيه، وليس من عور العين. و"عور الشيء" قبحه. يدعو فيقول: قبح الله من اتبع الفساد واستقبله بوجهه. من قولهم"ولي الشيء وتولاه"، أي اتبعه وفي التنزيل: "ولكل وجهة هو موليها"، أي مستقبلها ومتبعها، فهذا تفسير البيت بلا خلط في تفسيره.
(3) في المطبوعة: "عوج"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو موافق لما سلف رقم: 11572، وتاريخ الطبري.
(4) انظر ما سلف ص 112 تعليق: 1، 2، وما غيره، مصحح المطبوعة السالفة هناك.(10/172)
إلى امرأته فقال، انظري إلى هؤلاء القوم الذين يزعمون أنهم يريدون أن يقاتلونا!! فطرحهم بين يديها، فقال: ألا أطحنهم برجلي؟ فقالت امرأته: لا بل خلِّ عنهم حتى يُخْبروا قومهم بما رأوا! ففعل ذلك. (1)
11657 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس قال: أمر موسى أن يدخل مدينة الجبَّارين. قال: فسار موسى بمن معه حتى نزل قريبًا من المدينة =وهي أريحاء= فبعث إليهم اثنى عشر عينًا، من كل سبطٍ منهم عينًا، ليأتوه بخبر القوم. قال: فدخلوا المدينة، فرأوا أمرًا عظيمًا من هيئتهم وجثثهم وعظمهم، فدخلوا حائطًا لبعضهم، فجاء صاحب الحائط ليجتني الثمار من حائطه، فجعل يجتني الثمار وينظر إلى آثارهم، وتتبعهم. فكلما أصاب واحدًا منهم أخذه فجعله في كمه مع الفاكهة، وذهب إلى ملكهم فنثرهم بين يديه، فقال الملك: قد رأيتم شأننا وأمرنا، اذهبوا فأخبروا صاحبكم. قال: فرجعوا إلى موسى فأخبروه بما عايَنُوا من أمرهم.
11658 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إن فيها قومًا جبَّارين"، ذكر لنا أنهم كانت لهم أجسام وخِلَقٌ ليست لغيرهم.
11659 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: إن موسى عليه السلام قال لقومه:"إني سأبعث رجالا يأتونني بخبرهم"= وإنه أخذ من كل سبط رجلا فكانوا اثنى عشر نقيبًا، فقال:"سيروا إليهم وحدِّثوني حديثهم وما أمرهم، ولا تخافوا، إن الله معكم ما أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برُسله، وعزرتموهم، وأقرضُتم الله قرضًا حسنًا"= وإنّ القوم ساروا حتى هجموا عليهم، (2) فرأوا أقوامًا لهم أجسام عجبٌ عظمًا
__________
(1) الأثر: 11656- مضى مطولا برقم: 11572، وهو في تاريخ الطبري 1: 221، 222.
(2) في المطبوعة: "ثم إن القوم"، وأثبت ما في المخطوطة.(10/173)
وقوة، وإنه =فيما ذكر= أبصرهم أحد الجبَارين، وهم لا يألون أن يخفُوا أنفسهم حين رأوا العجب. فأخذ ذلك الجبّار منهم رجالا فأتى رئيسَهم، فألقاهم قدّامه، فعجبوا وضحكوا منهم. فقال قائل منهم:"فإنّ هؤلاء زعموا أنهم أرادوا غزوكم"!! (1) وأنه لولا ما دفع الله عنهم لقُتلوا، وأنهم رجعوا إلى موسى عليه السلام فحدّثوه العجب.
11660 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"اثنى عشر نقيبًا" من كل سبط من بني إسرائيل رجل، أرسلهم موسى إلى الجبارين، فوجدُوهم يدخل في كُمِّ أحدهم اثنان منهم، يلقونهم إلقاءً، ولا يحمل عنقود عِنبهم إلا خمسة أنفُسٍ بينهم في خشبة، ويدخُل في شطر الرمانة إذا نزع حبها خمسة أنفس، أو أربعة. (2)
11661 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
11662 - حدثني محمد بن الوزير بن قيس، عن أبيه، عن جويبر، عن الضحاك:"إن فيها قومًا جبارين" قال: سِفْلة لا خَلاقَ لهم. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إن هؤلاء"، بحذف الفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 11660- مضى هذا الأثر برقم: 11573، 11574.
(3) الأثر: 11662-"محمد بن وزير بن قيس الواسطي"، روى عن أبيه، وابن عيينة، ويحيى بن سعيد القطان، وغيرهم. روى عنه الترمذي وابن أبي حاتم، وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/115.
وأبوه"وزير بن قيس الواسطي"، روى عن جويبر. مترجم في ابن أبي حاتم 4/2/44.(10/174)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قولِ قوم موسى لموسى، جوابًا لقوله لهم:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم"، فقالوا:"إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها"، يعنون: [حتى يخرج] من الأرض المقدسة الجبارون الذين فيها، (1) جبنًا منهم، وجزعًا من قتالهم. وقالوا له: إن يخرج منها هؤلاء الجبارون دخلناها، وإلا فإنا لا نُطيق دخولها وهم فيها، لأنه لا طاقة لنا بهم ولا يَدَان. (2)
11663 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، أن كالب بن يافنا، أسكت الشعْبَ عن موسى صلى الله عليه وسلم فقال لهم: إنا سنعلو الأرض ونرثُها، وإن لنا بهم قوّة! وأما الذين كانوا معه فقالوا: لا نستطيع أن نصل إلى ذلك الشعب، من أجل أنهم أجرأ منا! ثم إن أولئك الجواسيس أخبروا بني إسرائيل الخبر، وقالوا: إنّا مررنا في أرض وحسسناها، فإذا هي تأكل ساكنها، ورأينا رجالهَا جسامًا، ورأينا الجبابرة بني الجبابرة، وكنا في أعينهم مثل الجراد! فأرجفت الجماعة من بني إسرائيل، فرفعوا أصواتهم بالبكاء. فبكى الشعب تلك الليلة، ووسوسُوا على موسى وهارون، (3) فقالوا لهما: يا ليتنا مِتنا في أرض مصر! وليتنا نموت في هذه البرية، ولم يدخلنا الله هذه الأرض لنقع في الحرب، فتكون نساؤنا وأبناؤنا وأثقالنا غنيمًة! ولو كنا قعودًا في أرض مصر، كان خيرًا لنا وجعل الرجل يقول لأصحابه: تعالوا نجعل علينا رأسًا وننصرف إلى مصر.
* * *
__________
(1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(2) في المطبوعة: "ولا يد"، وفي المخطوطة"ولا يدان" غير منقوطة.
(3) "وسوس عليه"، انظر تفسيرها في الأثر رقم: 11697 ص: 195، تعليق: 7.(10/175)
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن الرجلين الصَّالحين من قوم موسى:"يوشع بن نون" و"كالب بن يافنا"، أنهما وفَيا لموسى بما عهد إليهما من ترك إعلام قومِه بني إسرائيل= الذين أمرَهم بدخول الأرض المقدسة على الجبابرة من الكنعانيين= بما رأيا وعاينا من شدّة بطش الجبابرة وعِظم خلقهم، ووصفهما الله عز وجل بأنهما ممن يخاف الله ويراقبه في أمره ونهيه، كما:-
11664 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان= ح، وحدثنا ابن وكيع قال حدثنا أبي، عن سفيان= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= عن منصور، عن مجاهد:"قال: رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: كلاب بن يافنا، (1) ويوشع بن نون.
11665 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن منصور، عن مجاهد قال:"رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: يوشع بن نون، وكلاب بن يافنا، (2) وهما من النقباء.
11666 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قصة ذكرها، قال: فرجع النقباء، كلُّهم ينهى سِبْطه عن قتالهم، إلا يوشع بن نون، وكلاب بن يافنة، (3) يأمران الأسباط بقتال الجبارين ومجاهدتهم، فعصوهما، وأطاعوا الآخرين، فهما الرجلان اللذان أنعم الله عليهما. (4)
__________
(1) في المطبوعة الموضعين: "يوفنة"، وفي المخطوطة في الموضعين: "فانيا"، وانظر ص: 113 تعليق: 2.
(2) في المطبوعة: "يوفنا"، وفي المخطوطة: "فانيه". وانظر التعليق على الأثر: 11573.
(3) في المطبوعة: "يوفنا"، وفي المخطوطة: "فانيه". وانظر التعليق على الأثر: 11573.
(4) الأثر: 11666- مضى هذا الخبر برقم: 11573، ومضى صدره قريبًا برقم: 11660.(10/176)
11667 - حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثل حديث ابن بشار، عن ابن مهدي= إلا أنّ ابن حميد قال في حديثه: هما من الاثنى عشر نقيبًا.
11668 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، قال عكرمة، عن ابن عباس في قصة ذكرها. قال: فرجعوا= يعني النقباء الاثنى عشر= إلى موسى، فأخبروه بما عاينوا من أمرهم، فقال لهم موسى: اكتموا شأنهم، ولا تخبروا به أحدًا من أهل العسكر، فإنكم إن أخبرتموهم بهذا الخبر فَشِلوا ولم يدخلوا المدينة. (1) قال: فذهب كل رجل منهم فأخبر قريبه وابنَ عمه، إلا هذين الرجلين= يوشع بن نون، وكلاب بن يوفنة= فإنهما كتما ولم يخبرا به أحدًا، وهما اللذان قال الله عز وجل:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، إلى قوله:"وبين القوم الفاسقين".
11669 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، وهما اللذان كتماهم: يوشع بن نون فتى موسى، (2) وكالوب بن يوفنة ختَنُ موسى.
11670 - حدثنا سفيان قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، كالوب، ويوشع بن النون فتى موسى. (3)
11671 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
__________
(1) "فشل": جبن ونكص.
(2) في المخطوطة: "هو يوشع بن النون"، وأظن أصلها"هوشع بن النون"، كما سلف في ص: 113، تعليق: 2. وكان في المطبوعة هنا"نون"، فأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "بن نون"، في الموضعين، وأثبت ما في المخطوطة.(10/177)
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، والرجلان اللذان أنعم الله عليهما من بني إسرائيل: يوشع بن النون، وكالوب بن يوفنة.
11672 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما" ذكر لنا أن الرجلين: يوشع بن نون وكالب.
11673 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن موسى قال للنقباء لمَّا رجعوا فحدثوه العجبَ:"لا تحدثوا أحدًا بما رأيتم، إن الله سيفتحها لكم ويظهركم عليها من بعد ما رأيتم" =وإن القوم أفشوا الحديث في بني إسرائيل، فقام رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما، (1) كان أحدهما، فيما سمعنا، يوشع بن نون وهو فتى موسى، والآخر كالب- فقالا"ادخلوا عليهم الباب" إلى"إن كنتم مؤمنين". (2)
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"قال رجلان من الذين يخافون".
قرأ ذلك قرأة الحجاز والعراق والشام: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بفتح"الياء" من"يخافون"، على التأويل الذي ذكرنا عمن ذكرنا عنه آنفًا، أنهما يوشع بن نون وكالب، من قوم موسى، ممن يخاف الله، وأنعمَ عليهما بالتوفيق.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "فقام رجلان هما اللذان يخافون.."، والذي في المطبوعة هو الصواب.
(2) في المطبوعة: "ادخلوا عليهما الباب إن كنتم مؤمنين"، وهو غير صواب، والصواب من المخطوطة.(10/178)
وكان قتادة يقول: في بعض القراءة: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الذِينَ يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) .
11674 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة= ح، وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، في بعض الحروف: (يَخَافُونَ اللهَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) .
* * *
وهذا أيضا مما يدل على صحة تأويل من تأوَّل ذلك على ما ذكرنا عنه أنه قال: يوشع، وكالب.
* * *
وروي عن سعيد بن جبير أنه كان يقرأ ذلك: (قَالَ رَجُلانِ مِنَ الذِينَ يُخَافُونَ) بضم الياء (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) .
11675 - حدثني بذلك أحمد بن يوسف قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا هشيم، عن القاسم بن أبي أيوب= ولا نعلمه أنه سمع منه= عن سعيد بن جبير: أنه كان يقرؤها بضم الياء من: (يُخافُونَ) .
وكأن سعيدًا ذهب في قراءته هذه إلى أن الرجلين اللذين أخبر الله عنهما أنهما قالا لبني إسرائيل:"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون"، كانا من رهط الجبابرة، وكانا أسلما واتَّبعا موسى، فهما من أولاد الجبابرة الذين يخافهم بنو إسرائيل، (1) وإن كانوا لهم في الدين مخالفين. (2)
* * *
وقد حكي نحو هذا التأويل عن ابن عباس.
__________
(1) في المخطوطة: "فهم من أولاد الجبابرة"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة: "وإن كانا لهم في الدين مخالفين"، وفي المخطوطة: "وإن كانوا لهم في الدنيا مخالفين"، والصواب المحض ما أثبته.(10/179)
11676 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين"، قال: هي مدينةُ الجبارين. لما نزل بها موسى وقومه، بعث منهم اثني عشر رجلا= وهم النقباء الذين ذكر بعثتهم (1) = ليأتوه بخبرهم. فساروا، فلقيهم رجل من الجبارين، فجعلهم في كسائه، فحملهم حتى أتى بهم المدينة، ونادى في قومه فاجتمعوا إليه، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: نحن قوم موسى، بعثَنا إليكم لنأتيه بخبركم! فأعطوهم حبَّة من عِنب بوِقْر الرجل، (2) فقالوا لهم: اذهبوا إلى موسى وقومه فقولوا لهم: اقدُروا قَدْر فاكهتهم! فلما أتوهم قالوا لموسى:"اذهب أنت وربُّك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"! ="قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، وكانا من أهل المدينة أسلَما واتّبعا موسى وهارون، فقالا لموسى:"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكَّلوا إن كنتم مؤمنين".
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذه القراءة وهذا التأويل، لم يكتم من الاثنى عشر نقيبًا أحدٌ، ما أمرهم موسى بكتمانه بني إسرائيل مما رأوا وعاينوا من عظم أجسام الجبابرة، وشدة بطشهم، وعجيب أمورهم، بل أفشوا ذلك كله. وإنما القائل للقوم ولموسى:"ادخلوا عليهم الباب"، رجلان من أولاد الذين كان بنو إسرائيل يخافونهم ويرهبون الدخولَ عليهم من الجبابرة، كان أسلما وتبعا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب عندنا، قراءةُ من قرأ:
__________
(1) في المطبوعة: "ذكر نعتهم"، وفي المخطوطة: "ذكر بعثهم"، وكتبتها"بعثتهم"، ويعني بذلك ما جاء في الآية السالفة من هذه السورة: 10"ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبًا".
(2) "الوقر" (بكسر فسكون) : الحمل والثقل.(10/180)
(مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) لإجماع قرأة الأمصار عليها= وأنَّ ما استفاضت به القراءة عنهم، فحجة لا يجوز خلافها، وما انفرد به الواحد، فجائز فيه الخطأ والسهو. ثم في إجماع الحجةِ في تأويلها على أنهما رجلان من أصحاب موسى من بني إسرائيل وأنهما يوشع وكلاب، ما أغنى عن الاستشهاد على صحة القراءة بفتح"الياء" في ذلك، وفسادِ غيره. وهو التأويل الصحيحُ عندنا، لما ذكرنا من إجماعها عليه.
* * *
وأما قوله:"أنعم الله عليهما"، فإنه يعني: أنعم الله عليهم بطاعة الله في طاعة نبيه موسى صلى الله عليه، وانتهائهم إلى أمره، والانزجار عما زجرهما عنه صلى الله عليه وسلم، من إفشاء ما عاينا من عجيب أمر الجبارين إلى بني إسرائيل، الذي حدّث عنه أصحابهما الآخرون الذين كانوا معهما من النقباء. (1)
* * *
وقد قيل إن معنى ذلك: أنعم الله عليهما بالخوف.
ذكر من قال ذلك:
11677 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا خلف بن تميم قال، حدثنا إسحاق بن القاسم، عن سهل بن علي قوله:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، قال: أنعم الله عليهما بالخوف. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "الذي حذر عنه أصحابهما الآخرين.."، وفي المخطوطة: "الذي حول عنه أصحابهما الآخرون"، وصواب قراءة ذلك ما أثبت، ولا معنى لتغيير ما غيره ناشر المطبوعة الأولى.
(2) الأثر: 11677-"خلف بن تميم بن أبي عتاب التميمي"، أبو عبد الرحمن ثقة عابد. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/180، وابن أبي حاتم 1/2/370.
و"إسحق بن القاسم"، لم أجده.
وأما "سهل بن علي"، فلم أجد من يسمى بذلك إلا"سهل بن علي المروزي"، روى عن المبارك. روى عنه المراوزة كلامه، وتأدبوا بورعه. مترجم في ابن أبي حاتم 2/1/203.(10/181)
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان الضحاك يقول، وجماعة غيره.
11678 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما"، بالهدى فهداهما، فكانا على دين موسى، وكانا في مدينة الجبّارين.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز ذكره عن قول الرجلين اللذين يخافان الله لبني إسرائيل، إذ جبُنوا وخافوا من الدخول على الجبارين، لمَّا سمعوا خبرهم، وأخبرهم النقباء الذين أفشَوْا ما عاينوا من أمرهم فيهم، وقالوا: (1) "إن فيها قومًا جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها"، فقالا لهم: ادخلوا عليهم، أيها القوم بابَ مدينتهم، فإن الله معكم، وهو ناصركم، وإنكم إذا دخلتم الباب غلبتموهم، كما:-
11679 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوَّل، قال: لما هم بنو إسرائيل بالانصراف إلى مصر، حين أخبرهم النقباء بما أخبروهم من أمر الجبابرة، خرَّ موسى وهارون على وجوههما سجودًا قدِّام جماعة بني إسرائيل، وخرَّق يوشع بن نون وكالب بن يافنا ثيابهما، وكانا من جواسيس الأرض، وقالا لجماعة بني إسرائيل:"إن الأرض مررنا بها وحسِسْناها صالحًة، (2) رضيها ربُّنا لنا فوهبها لنا، وإنها.. تفيض لبنًا وعسلا (3) ولكن افعلوا واحدة:
__________
(1) السياق:.. إذ جبنوا وخافوا.. وقالوا"، معطوفا على ذلك.
(2) "حس منه خيرًا وأحس"، رآه وعلمه.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنها لم تكن تفيض لبنًا وعسلا"، وهو لا يستقيم، والذي جاء في كتاب القوم، في سفر العدد، في الإصحاح الثالث عشر: "وحقًا إنها تفيض لبنًا وعسلا"، وفي الرابع عشر = وهو نص هذا الكلام بالعربية="ويعطينا إياها أرضًا تفيض لبنًا وعسلا". فحذفت"لم تكن"، ووضعت مكانها نقطًا، مخافة أن تكون الكلمة محرفة عن شيء لم أعرفه.(10/182)
لا تعصُوا الله، ولا تخشوا الشعب الذين بها، فإنهم خُبْزُنا، ومُدَفَّعون في أيدينا، (1) إن كبرياءهم ذهبت منهم، (2) وإن الله معنا فلا تخشوهم. فأراد جماعة من بني إسرائيل أن يرجموهما بالحجارة.
11680 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنهم بعثوا اثنى عشر رجلا من كل سبط رجلا عيونًا لهم، وليأتوهم بأخبار القوم. فأمَّا عشرة فجبَّنُوا قومهم وكرَّهوا إليهم الدخول عليهم. وأما الرجلان فأمرا قومهما أن يدخلوها، وأن يتبعوا أمر الله، ورغَّبا في ذلك، وأخبرا قومهما أنهم غالبون إذا فعلوا ذلك.
11681 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"عليهم الباب"، قرية الجبَّارين.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فإنهم جبناء مدفعون.."، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في كتاب القوم في سفر العدد، الإصحاح الرابع عشر. ويعني بقوله: "خبرنا"، أي هم طعمة لنا وغنيمة، كما نقول بالعربية.
(2) في المطبوعة: "إن حاربناهم ذهبت منهم"، ولا أدري ما هذا. وفي المخطوطة: "إن حرباهم ذهبت منهم". ورأيت أن أقرأها كذلك، فإني رأيت في كتاب القوم: "قد زال عنهم ظلهم، والرب معنا"، كأنه يعني: قد ذهب عنهم ما كان ملازمًا لهم من الجرأة والقوة والبطش والمهابة.
هذا، ومن المفيد أن تقارن هذا المروى عن ابن إسحق، بترجمة التوراة الموجودة في أيدينا، فإن هذه الروايات عن ابن إسحق، ترجمته قديمة للتوراة بلا شك. ولعل متتبعًا يتتبع هذه الرواية عن ابن إسحق وغيره، ويقارنها بالترجمة الموجودة الآن، فإن في ذلك فوائد تاريخية عظيمة، وفوائد في مناهج الترجمة قديمًا وحديثًا.(10/183)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) }
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا خبر من الله جل وعزّ عن قول الرجلين اللذين يخافان الله، أنهما قالا لقوم موسى يشجعانهم بذلك، ويرغِّبانهم في المضيّ لأمر الله بالدخول على الجبارين في مدينتهم= توكلوا أيها القوم، على الله في دخولكم عليهم، فيقولان لهم: (1) ثقوا بالله، (2) فإنه معكم إن أطعتموه فيما أمركم من جهاد عدوِّكم. وعنيا بقولهما:"إن كنتم مؤمنين" إن كنتم مصدِّقي نبيكم صلى الله عليه وسلم فيما أنبأكم عن ربَّكم من النصرة والظفر عليهم، وفي غير ذلك من إخباره عن ربه= ومؤمنين بأن ربَّكم قادر على الوفاء لكم بما وعدكم من تمكينكم في بلاد عدوِّه وعدوِّكم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ويقولان"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف ص: 108، تعليق: 2، والمراجع هناك.(10/184)
قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَا هُنَا (24) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ذكره عن قول الملأ من قوم موسى لموسى، إذ رُغِّبوا في جهاد عدوِّهم، ووعِدوا نصر الله إيَّاهم إن هم ناهضوهم ودخلوا عليهم باب مدينتهم، أنهم قالوا له:"إنا لن ندخلها أبدًا" يعنون: إنا لن ندخل مدينتهم أبدًا.(10/184)
و"الهاء والألف" في قوله:"إنا لن ندخلها"، من ذكر"المدينة".
* * *
ويعنون بقولهم:"أبدًا"، أيام حياتنا (1) ="ما داموا فيها"، يعنون: ما كان الجبارُون مقيمين في تلك المدينة التي كتبها الله لهم وأُمِروا بدخولها="فاذهب أنت وربك فقاتلا إنَّا ههنا قاعدون"، لا نجيء معك يا موسى إن ذهبت إليهم لقتالهم، ولكن نتركك تذهب أنت وحدك وربُّك فتقاتلانهم.
* * *
وكان بعضهم يقول في ذلك: ليس معنى الكلام: اذهب أنت، وليذهب معك ربك فقاتلا= ولكن معناه: اذهب أنت، يا موسى، وليعنك ربُّك. وذلك أن الله عز ذكره لا يجوز عليه الذهاب. (2)
وهذا إنما كان يحتاج إلى طلب المخرج له، لو كان الخبر عن قوم مؤمنين. فأمّا قومٌ أهلُ خلافٍ على الله عز ذكره ورسوله، فلا وجه لطلب المخرج لكلامهم فيما قالوا في الله عز وجل وافتروا عليه، إلا بما يشبه كفرهم وضلالتهم.
* * *
وقد ذكر عن المقداد أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خلافَ ما قال قومُ موسى لموسى.
11682 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= عن سفيان، عن مخارق، عن طارق: أن المقداد بن الأسود قال للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا لا نقول كما قالت بنو إسرائيل:"اذهب أنت ورَبك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"، ولكن نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكم مقاتلون. (3)
__________
(1) انظر تفسير"أبدا" فيما سلف 9: 227.
(2) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 160، بمعناه، وبغير لفظه.
(3) الأثر: 11682-"مخارق"، هو: "مخارق بن عبد الله بن جابر البجلي الأحمسي"، ويقال: "مخارق بن خليفة". مترجم في التهذيب.
و"طارق هو"طارق بن شهاب بن عبد شمس البجلي الأحمسي"، رأى النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلا، وروى عن الخلفاء الأربعة، وهو من أصحاب عبد الله بن مسعود. مترجم في التهذيب. ومضى برقم: 9744.
وهذا الخبر روي من طريق طارق، مطولا ومختصرًا. رواه البخاري مختصرًا، مرسلا وموصولا في صحيحه (الفتح 8: 205) ، ورواه مطولا موصولا (الفتح 7: 223-227) ، ورواه أحمد مطولا في مسند ابن مسعود برقم: 3698، 4070، 4376.
وهذا الخبر في مشورة النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل بدر لما وصل الصفراء، وبلغه أن قريشًا قصدت بدرًا، وأن أبا سفيان نجا بما معه، فاستشار الناس. وانظر القصة مفصلة في كتب السير. ثم انظر الخبر التالي، وأن ذلك كان يوم الحديبية.(10/185)
11683 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم الحديبية، حين صَدّ المشركون الهَدْيَ وحيل بينهم وبين مناسكهم:"إني ذاهب بالهَدْيِ فناحِرُه عند البيت! فقال له المقداد بن الأسود: أمَا والله لا نكون كالملأ من بني إسرائيل إذْ قالوا لنبيهم:"اذهب أنت وربك فقاتِلا إنا ههنا قاعدون" ولكن: اذهب أنت وربك فقاتِلا إنّا معكم مقاتلون! فلما سمعها أصحابُ نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم تتابعوا على ذلك. (1)
* * *
وكان ابن عباس والضحاك بن مزاحم وجماعة غيرهما يقولون: إنما قالوا هذا القول لموسى عليه السلام، حين تبيَّن لهم أمر الجبارين وشدّةُ بطشهم.
11684 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: أمر الله جل وعزّ بني إسرائيل أن يسيروا إلى الأرض المقدسة مع نبيهِّم موسى عليه السلام، فلما كانوا قريبًا من المدينة قال لهم موسى:"ادخلوها"، فأبوا وجبُنوا، وبعثوا اثنى عشر نقيبًا لينظروا
__________
(1) الأثر: 11683- كرر في المخطوطة هذا الأثر بإسناده ونصه، ففي المرة الأولى كتبه إلى قوله: "إنا معكم مقاتلون"، ثم عاد فكتب الخبر نفسه بإسناده، وأتمه على وجهه إلى آخره. والظاهر أنه وقف عند هذا الموضع، ثم عاد يكتب، وكان الخبر قبله ينتهي أيضًا بقوله: "إنا معكم مقاتلون"، فظن أن الذي كتب هو الخبر الأول، فعاد فكتب الخبر بإسناده من أوله إلى تمامه.(10/186)
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25)
إليهم، فانطلقوا فنظروا فجاءوا بحبة فاكهة من فاكهتهم بوِقْر الرجل، فقالوا: اقدُرُوا قوّة قوم وبأسُهم هذه فاكهتهم! فعند ذلك قالوا لموسى:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون".
11685 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، نحوه.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل وعز عن قيل قوم موسى حين قال له قومه ما قالوا، من قولهم:"إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"= أنه قال عندَ ذلك، وغضب من قيلهم له، (1) داعيا: يا رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي= يعني بذلك، لا أقدر على أحد أن أحمله على ما أحب وأريد من طاعتك واتّباع أمرك ونهيك، إلا على نفسي وعلى أخي.
* * *
= من قول القائل:"ما أملك من الأمر شيئا إلا كذا وكذا"، بمعنى: لا أقدر على شيء غيره. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "من قيلهم لهم"، والسياق يقتضي"له"، وسياق العبارة: "أنه قال عند ذلك.. داعيًا: يا رب..".
(2) انظر تفسير"ملك" فيما سلف قريبًا ص: 105.(10/187)
ويعني بقوله:"فافرق بيننَا وبين القوم الفاسقين"، افصل بيننا وبينهم بقضاء منك تقضيه فينا وفيهم فتبعِدُهم منّا.
* * *
=من قول القائل:"فَرَقت بين هذين الشيئين"، بمعنى: فصلت بينهما، من قول الراجز: (1)
يَا رَبِّ فافْرُقْ بَيْنَهُ وَبَيْنِي ... أَشَدَّ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَ اثْنَيْنَ (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل
ذكر من قال ذلك:
11686 - حدثني محمد بن سعد قال حدثني أبي قال، حدثني عمي
__________
(1) لعله: حبينة بن طريف العكلي. وانظر التعليق التالي. و"حبينة" بالباء، والنون وأخطأ من ظن أنه بنونين.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 160، وهكذا جاء هناك وهنا. وفي المخطوطة: "يا رب فارق"، وصححه في المطبوعة، وجاء تصحيحه موافقًا لما في مجاز القرآن. ولم أجد الرجز بهذا اللفظ، وظني أنه رجز حبينة بن طريف العكلي، له خبر طويل (انظر تهذيب إصلاح المنطق 1: 138) ، كان بينه وبين ليلى الأخيلية كلام، فقال لها: "أما والله لو أن لي منك النصف، لسببتك سبًا يدخل معك قبرك!! " ثم راجزها وفضحها، فقال في رجزه ذلك: جَارِيَةٌ منْ شِعْب ذي رُعَيْنِ ... حَيَّاكَةٌ تَمْشِي بِعُلْطَتَيْنِ
وَذِي هِبَابٍ نَعِظِ الْعَصْرَيْنِ ... قَدْ خَلَجَتْ بحاجِبٍ وعَيْنِ
يَا قَوْمِ خَلُّوا بَيْنَها وَبَيْنِي ... أَشَدَّ مَا خُلِّي بَيْنَ اثْنَيْنَ
لم يُلْقَ قَطُّ مِثْلَنَا سِيَّيْنِ
"حياكة"، تحيك في مشيتها، أي تتبختر. و"وتتثط بالعلطتان"، قلادتان أو ودعتان تكون في أعناق الصبيان، "خجلت العين" واضطربت. يصفها بالغمز للرجال."سيين": مثلين. و"هب التيس هبابًا وهبيبًا"، هاج ونب للسفاد.
وتجد هذا الشعر وخبره مفرقًا في المؤتلف والمختلف للآمدي: 97، وإصلاح المنطق: 89، وتهذيب إصلاح المنطق: 138، واللسان (خلج) (علط) (نعظ) (عرك) ، والمخصص 2: 47. والشعر بهذه الرواية لا شاهد فيه.(10/188)
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، يقول: اقض بيني وبينهم.
11687 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، يقول: اقض بيننا وبينهم.
11688 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: غضب موسى صلى الله عليه وسلم حين قال له القوم:"اذهب أنت وربك فقاتلا إنّا ههنا قاعدون"، فدعا عليهم فقال:"رب إنّي لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، وكانت عَجْلَةً من موسى عِجلها. (1)
11689 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين"، يقول: اقض بيننا وبينهم، وافتح بيننا وبينهم= كلّ هذا يقول الرجل:"اقض بيننا" (2)
فقضاء الله جل ثناؤه بينه وبينهم: أن سماهم"فاسقين". (3)
* * *
وعنى بقوله:"الفاسقين" الخارجين عن الإيمان بالله وبه إلى الكفر بالله وبه.
* * *
وقد دللنا على أن معنى"الفسق"، الخروج من شيء إلى شيء، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (4)
* * *
__________
(1) "عجلة" مصدر الواحدة من قولهم: "عجل"، إذا أسرع.
(2) في المطبوعة: "كل هذا من قول الرجل"، وأثبت ما في المخطوطة، وكأنه صواب، وكأنه يقول"افرق بينا" و"اقض بينا"، و"افتتح بيننا" كل ذلك يقول الرجل بمعنى"اقض بيننا".
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فقضى الله"، وآثرت قراءتها كذلك لحسن سياقها، وهو في المخطوطة يكثر أن يكتب"قضاء" هكذا"قضى"، كما سلف مرارا.
(4) انظر تفسير"الفسق" فيما سلف 1: 409، 410/2: 118/ ثم 9: 515، تعليق: 2، والمراجع هناك.(10/189)
قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأَرْضِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الناصب لِـ"الأربعين".
فقال بعضهم: الناصب له قوله:"محرّمة"، وإنما حرم الله جل وعزّ على القوم الذين عصوه وخالفوا أمره من قوم موسى وأبوا حَرْب الجبارين (1) = دخولَ مدينتهم أربعين سنة، (2) ثم فتحها عليهم وأسكنهموها، (3) وأهلك الجبارين بعد حرب منهم لهم، بعد أن انقضت الأربعون سنة وخرجوا من التيه. (4)
11690 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما قال لهم القوم ما قالوا، ودعا موسى عليهم، أوحى الله إلى موسى:"إنها محرمة عليهم أربعين سنًة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين"، وهم يومئذ، فيما ذكر، ستمائة ألف مقاتل. فجعلهم"فاسقين" بما عصوا. فلبثوا أربعين سنة في فراسخ ستّة، أو دون ذلك، يسيرون كل يوم جادِّين لكي يخرجوا منها، حتى سئموا ونزلوا، (5) فإذا هم في الدار التي منها ارتحلوا= وإنهم اشتكوا إلى موسى ما فُعِل بهم، فأنزل عليهم المنّ والسلوى، وأعطوا من الكسوة ما هي قائمة لهم، وينشأ الناشئ فتكون معه على هيئته. (6) وسأل موسى ربه أن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وإنما حرم الله جل وعز القوم.."، والسياق يقتضي ما أثبت، بزيادة"على".
(2) قوله"دخول" منصوب، مفعول لقوله: "حرم". وكان في المطبوعة: "ودخول مدينتهم"، وهو خطأ لا شك فيه، والكلام لا يستقيم.
(3) في المطبوعة: "وأسكنوها"، غير ما في المخطوطة لغير علة.
(4) في المطبوعة: "بعد أن قضيت الأربعون سنة"، غير ما في المخطوطة لغير علة.
(5) في المطبوعة: "حتى يمسوا وينزلوا"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب.
(6) قوله: "ما هي قائمة لهم"، كأنه يعني أن ثيابهم كانت لا تبلي، بل لا تزال قائمة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ينشأ" بغير واو، فزدتها لاقتضاء السياق.(10/190)
يسقيهم، فأتى بحجر الطور، وهو حجر أبيض، إذا ما نزل القوم ضربه بعصاه، فيخرج منه اثنتا عشرة عينًا، لكل سبط منهم عَيْنٌ، قد علم كل أناس مشربهم. حتى إذا خَلَت أربعون سنة، وكانت عذابًا بما اعتدوا وعصوا، أوحى إلى موسى: أنْ مُرْهم أن يسيروا إلى الأرض المقدسة، فإن الله قد كفاهم عدوَّهم، وقل لهم إذا أتوا المسجد: أن يأتوا الباب، ويسجدوا إذا دخلوا، ويقولوا:"حطة"= وإنما قولهم:"حطة"، أن يحطَّ عنهم خطاياهم= فأبى عامة القوم وعصوا، وسجدوا على خدِّهم، وقالوا:"حنطة"، فقال الله جل ثناؤه: (فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ إِلَى بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [سورة البقرة: 59] . (1)
* * *
وقال آخرون: بل الناصب لِـ"الأربعين"،"يتيهون في الأرض". قالوا: ومعنى الكلام: قال، فإنَّها محرمة عليهم أبدًا، يتيهون في الأرض أربعين سنة. قالوا: ولم يدخُل مدينة الجبَّارين أحد ممن قال:"إنا لن ندخلها أبدًا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون"، وذلك أن الله عز ذكره حرَّمها عليهم. قالوا: وإنما دخلها من أولئك القوم يُوشع وكلاب، اللذان قالا لهم:"ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون"، وأولادُ الذين حرَّم الله عليهم دخولها، فتيَّههم الله فلم يدخلها منهم أحدٌ.
ذكر من قال ذلك:
11691 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله جل وعزّ:"إنها محرمة عليهم"، قال: أبدًا.
11692 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان بن حرب قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة في قول الله:"يتيهون في الأرض"، قال: أربعين سنة.
11693 - حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون
__________
(1) الأثر: 11690- كأن هذا هو الأثر الذي ذكر أبو جعفر إسناده ولم يتمه فيما مضى رقم: 993. فلا أدري أفعل ذلك اختصارا، أم سقط الخبر من هناك.(10/191)
النحوي قال، حدثني الزبير بن الخرّيت، عن عكرمة في قوله:"فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض"، قال: التحريم، التيهاءُ. (1)
11694 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: غضب موسى على قومه فدعا عليهم فقال:"رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي" الآية، فقال الله جل وعز:"فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". فلما ضُرِب عليهم التيه، ندم موسى. وأتاه قومه الذين كانوا [معه] يطيعونه، (2) فقال له: ما صنعت بنا يا موسى! فمكثوا في التيه. فلما خرجوا من التيه، رُفع المنُّ والسلوى وأكلُوا من البقول. والتقى موسى وعاج، (3) فنزا موسى في السماء عشرة أذرع (4) = وكانت عصاه عشرة أذرع، وكان طوله عشرة أذرع= فأصاب كعب عاج فقتله. (5) ولم يبق [أحد] ممن أبى أن يدخل قرية الجبَارين مع موسى، إلا مات ولم يشهد الفتح. (6) ثم إن الله جل وعز لما انقضت الأربعون سنة، بعث يوشع بن النون نبيًا، (7) فأخبرهم أنه نبيّ، وأن الله قد أمره أن يقاتل الجبّارين، فبايعوه وصدَّقوه، فهزم الجبارين واقتحمُوا عليهم يقتُلونهم، (8)
__________
(1) الأثر: 11693-"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي".
و"هرون النحوي"، هو: "هرون بن موسى الأزدي"، الأعور.
و"الزبير بن الحزيت". ثقات مضوا جميعًا برقم: 4985.
وهذا الخبر، رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 225، 226.
وكان في المطبوعة هنا: "التحريم، لا منتهى له"، وهو تصرف معيب بالغ العيب. وفي المخطوطة: "التحريم، المنتهى"، فآثرت قراءتها"التيهاء" يقال: "أرض تيه، وتيهاء"، ويقال، "تيه" جمع"تيهاء"، وهي المفازة يتاه فيها. وفي تاريخ الطبري 1: 226"التحريم: التيه".
(2) هذه الزيادة بين القوسين مما مضى في 2: 98، رقم: 991.
(3) في المطبوعة: "عوج" في هذا المكان، وكل ما سيأتي، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "فوثب"، ولم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة. و"نزا ينزو نزوا"، وثب. وهي كما أثبتها في تاريخ الطبري 2: 223.
(5) عند هذا الموضع انتهى ما رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 223.
(6) زدت ما بين القوسين من تاريخ الطبري، ولا يستقيم الكلام إلا بها.
(7) في المطبوعة: "بن نون".
(8) في المطبوعة: "يقاتلونهم"، وأثبت ما في المخطوطة. وفي تاريخ الطبري: "فقتلوهم".(10/192)
فكانت العصابة من بني إسرائيل يجتمعون على عُنُق الرجل يضربونها لا يقطعونها. (1)
11695 - حدثني عبد الكريم بن الهيثم قال، حدثنا إبراهيم بن بشار قال، حدثنا سفيان قال، قال أبو سعيد، (2) عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال الله جل وعز: لما دعا موسى="فإنها محرّمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض". (3) قال: فدخلوا التيه، فكلُّ من دخل التيه ممن جاوز العشرين سنًة مات في التيه. (4)
قال: فمات موسى في التيه، ومات هارون قبله. قال: فلبثوا في تيههم أربعين سنة، فناهض يوشع بمن بقي معه مدينةَ الجبارين، فافتتح يوشع المدينة. (5)
11696 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال الله جل وعزّ:"إنها محرّمة عليهم أربعين سنة"، حرمت عليهم [القُرَى] ، (6) فكانوا لا يهبطون قرية ولا يقدرون على ذلك، إنما يتبعون الأطواء أربعين سنة، (7) =وذكر لنا أن موسى صلى الله عليه وسلم مات في الأربعين سنة، وأنه لم يدخل بيت المقدس منهم إلا أبناؤهم والرجلان اللذان قالا ما قالا. (8)
11697 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل قال: لما فعلت بنو إسرائيل ما فعلت= من
__________
(1) الأثر: 11694- هذا الأثر رواه أبو جعفر مفرقًا بين تاريخه وتفسيره، كما مر عليك في التعليقات السالفة. ومن عند ذلك الموضع الذي أشرت إليه في ص: 192 التعليق رقم: 5، إلى هذا الموضع رواه أبو جعفر في التاريخ 1: 225.
(2) في المخطوطة: "أبو سعد"، وهو خطأ، وانظر الأثر السالف رقم: 11668.
(3) في المطبوعة: "قال لما دعا موسى قال الله فإنها محرمة.."، غير ما في المخطوطة، مع أنه مطابق لما في تاريخ الطبري.
(4) في المخطوطة؛"جاز العشرين"، وما في المطبوعة مطابق لما في التاريخ.
(5) الأثر: 11695- هذا الأثر، رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 225.
(6) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري، وهي زيادة لا بد منها. وكان في المطبوعة والمخطوطة بعد"وكانوا" بالواو، والصواب من التاريخ.
(7) "الأطواء" جمع"طوى" (بفتح الطاء، وكسر الواو، وتشديد الياء) : وهو البئر المطوية بالحجارة، وهو صفة على"فعيل" بمعنى"مفعول" انتقل إلى الأسماء، فلذلك جمعوه على"أفعال" كما قالوا: "شريف" و"أشراف"، و"يتيم"، و"أيتام".
(8) الأثر: 11696- رواه أبو جعفر في التاريخ 1: 225، إلا قوله: "إنما يتتبعون الأطواء".(10/193)
معصيتهم نبيّهم، وهّمهم بكالب ويوشع، إذْ أمرَاهم بدخول مدينة الجبارين، وقالا لهم ما قالا= ظهرت عظمة الله بالغمام على باب قُبّة الزُّمَرِ على كل بني إسرائيل، (1) فقال جل ثناؤه لموسى: إلى متى يعصيني هذا الشعب؟ وإلى متى لا يصدّقون بالآيات كلِّها التي وضَعتُ بينهم؟ أضربهم بالموت فأهلكهم، (2) وأجعل لك شعبًا أشد وأكبر منهم. فقال موسى: يسمع أهلُ المصر الذين أخرجتَ هذا الشعب بقوّتك من بينهم، (3) ويقول ساكن هذه البلاد الذين قد سمعوا أنك أنت الله في هذا الشعب، (4) فلو أنك قتلت هذا الشعب كلهم كرجل واحد، لقالت الأمم الذين سمعوا باسمك:"إنما قتل هذا الشعب من أجل الذين لا يستطيع أن يدخلهم الأرض التي خلق لهم، فقتلهم في البّرية"، ولكن لترتفع أياديك ويعظم جزاؤك، يا رَبِّ، كما كنت تكلَّمت وقلتَ لهم، فإنه طويلٌ صبرك، كثيرة نعمك، وأنت تغفر الذنوب فلا توبق، (5) وإنك تحفظ [ذنب] الآباء على الأبناء وأبناء الأبناء إلى ثلاثة أحقاب وأربعة. (6) فاغفر، أيْ ربِّ، آثام هذا الشعب بكثرة نعمك، وكما غفرت لهم منذ أخرجتهم من أرض مصر إلى الآن. فقال الله جل ثناؤه لموسى صلى الله عليه: قد غفرت لهم بكَلمتك، ولكن حيٌّ أنا، (7) وقد ملأت الأرض محمدتي كلها، لا يرى القوم الذين قد رأوا محمدتي وآياتي التي فعلت في أرض مصر وفي القفار، (8) وابتلوني عشر مرات ولم يطيعوني، (9) لا يرون الأرض التي حلفت لآبائهم، (10) ولا يراها من أغضبني، فأما عبدي كالب الذي كان روحه معي واتبع هواي، (11) فإني مدخله الأرض التي دخلها، ويراها خَلَفه.
=وكان العماليق والكنْعانيون جلوسًا في الجبال، ثم غدوا فارتحلوا إلى القفار في طريق بحر سوف، (12) وكلم الله عز وجل موسى وهارون، وقال لهما: إلى متى توسوس عليّ هذه الجماعة جماعة السوء؟ قد سمعتُ وسوسة بني إسرائيل. (13) وقال،
__________
(1) كان في المطبوعة: "على نار فيه الرمز"، وهو لا معنى له، وفي المخطوطة"على فيه الرمز" كل ذلك غير منقوط، وصواب قراءته كما أثبت، فإني أشك في كلمة"نار" التي كانت في المطبوعة، والتي في المخطوطة غير منقوطة، فرجحت قراءتها"باب"، لأنه يكثر في كتاب القوم: "باب خيمة الاجتماع" كما في سفر العدد، الإصحاح العاشر مثلا. و"خيمة الاجتماع"، هي التي جاءت في خبر بن إسحق"قبة الزمر"، و"الزمر" جمع"زمرة" وهي الجماعة. ويقابل ما رواه ابن إسحق هنا في سفر العدد، الإصحاح الرابع عشر، "ثم ظهر مجد الرب في خيمة الاجتماع"، فثبت بهذا أن"خيمة الاجتماع" هي"قبة الزمر". و"القبة" عند العرب. هي خيمة من أدم مستديرة.
هذا، وخبر ابن إسحق هذا بطوله، هو ترجمة أخرى للإصحاح الرابع عشر من سفر العدد. فمن المفيد مراجعته، كما أسلفت في ص: 183، تعليق 2. وسأجتهد في بيان بعض خلاف الترجمة هنا.
(2) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "أضربهم بالموت"، وفي كتاب القوم"بالوبأ"، وغير بعيد أن يكون لفظ"الموت" مصحفا عن"الوبأ".
(3) في كتاب القوم: "فيسمع المصريون..".
(4) في المطبوعة: "ساكنو هذه البلاد"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) من الحسن أن تقرأ هذا النص في كتاب القوم، فإنه هناك: "فالآن لتعظم قدرة سيدي كما تكلمت قائلا. الرب طويل الروح، كثير الإحسان، يغفر الذنب والسيئة".
(6) في المطبوعة: "إلى ثلاثة أجيال وأربعة"، وأثبت ما في المخطوطة. و"الأحقاب" جمع"حقب" (بضم فسكون، أو بضمتين) : وهي الدهر، قيل: ثمانون سنة، وقيل أكثر. وأما ما بين القوسين فقد استظهرته من كتاب القوم، فإن الكلام بغيره غير مستقيم. وهو في كتابهم: "بل يجعل ذنب الآباء على الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع".
(7) في المطبوعة: "ولكن قد أتى أني أنا الله"، غير ما في المخطوطة، إذ لم يحسن قراءته، وهو كما أثبته، وهو في كتاب القوم أيضًا: "ولكن حي أنا فتملأ كل الأرض من مجد الرب".
(8) في المطبوعة والمخطوطة: "ألا ترى القوم"، والسياق يقتضي ما أثبت، وهو بمعناه في كتاب القوم.
(9) في المطبوعة: "وسلوني عشر مرات"، و"ابتلاه": اختبره، وفي كتاب القوم: "وجربوني عشر مرات".
(10) في المطبوعة: "التي خلقت"، وهو ليس صحيح المعنى، بل هو باطل. وهي في المخطوطة غير منقوطة، وهي في كتاب القوم"حلفت" كما هي في رسم المخطوطة، وكما أثبتها، واتفقت على ذلك الترجمة القديمة، وهذه الترجمة التي بين أيدينا. والمعنى في ذلك: الأرض التي أقسمت لآبائهم بعزتي وجلالي أن أجعلها لأبنائهم.
(11) في ترجمة القوم: "وأما عبدي كالب، فمن أجل أنه كانت معه روح أخرى. وقد اتبعني تمامًا".
(12) في المطبوعة والمخطوطة: "في طريق يحرسون"، وهو تصحيف وتحريف. والصواب ما أثبته و"بحر سوف" هو المعروف باسم"البحر الأحمر"، وكان العرب يعرفونه باسم"بحر القلزم"، و"القلزم": مدينة قديمة كانت قرب أيلة والطور. و"السوف" لعلها نطق قديم لقول العرب"السيف" (بكسر السين) ، وهو ساحل البحر، ولعله قد سمى به موضع هناك، فنسب إليه البحر.
(13) "وسوس عليه"، و"الوسوسة"، مضت في الأثر رقم: 11663، ولم أشرحها هناك.
وأصل"الوسوسة": الصوت من الريح، أو صوت الحلي والقصب وغيرها. و"الوسوسة" أيضا: كلام خفي مختلط لا يستبين."وسوس الرجل": إذا تكلم بكلام لم يبينه. وهذه ترجمة بلا شك يراد بها الإكثار من الكلام الخفي المبهم، يتناقله القوم بينهم متذمرين. ويقابله في ترجمة القوم، في الكتاب الذي بين أيدينا: "قد سمعت تذمر بني إسرائيل.."(10/194)
لأفعلن بكم كما قلت لكم، (1) ولتلقينَّ جِيَفكم في هذه القفار، وكحسابكم، (2) من بني عشرين سنة فما فوق ذلك، من أجل أنكم وسوستم عليّ، (3) فلا تدخلوا الأرض التي رفعت [يدي] إليها، (4) ولا ينزل فيها أحد منكم غير كالب بن يوفنا ويوشع بن نون، وتكون أثقالكم كما كنتم الغنيمة، وأما بنُوكم اليوم الذين لم يعلموا ما بين الخير والشر، فإنهم يدخلون الأرض، وإني بهم عارف، لهم الأرض التي أردت لهم، وتسقط جيفكم في هذه القفار، وتتيهون في هذه القفار على حساب الأيَّام التي حَسَستم الأرض أربعين يومًا، مكان كل يوم سنةً وتقتلون بخطاياكم أربعين سنة، وتعلمون أنكم وسوستم قُدَّامي. إنى أنا الله فاعل بهذه الجماعة= جماعة بني إسرائيل الذين وعدوا قدامي= بأن يتيهوا في القفار، (5) فيها يموتون.
= فأما الرهط الذين كان موسى بعثهم ليتحسسوا الأرض، ثم حرَّشوا الجماعة، فأفشوا فيهم خبرَ الشرّ، فماتوا كلهم بغتًة، وعاش يوشع وكالب بن يوفنا من الرهط الذين انطلقوا يتحسسون الأرض.
=فلما قال موسى عليه السلام هذا الكلام كلَّه لبني إسرائيل، حزن الشعب
__________
(1) في كتاب القوم هكذا: "لأفعلن بكم كما تكلمتم في أذني".
(2) في المطبوعة: "وحسابكم"، وأثبت ما في المخطوطة، يعني: مثل عددكم، أي جميعا. وفي كتاب القوم: "جميع المعدودين منكم حسب عددكم".
(3) انظر تفسير"الوسوسة" آنفا ص 195، رقم: 7.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "التي دفعت إليها"، وليس له معنى، فجعلتها"رفعت" وزدت"يدي" بين القوسين استظهارًا من نص كتاب القوم، وفيه: "التي رفعت يدي لأسكننكم فيها".
(5) في المطبوعة: "قد أتى أني أنا الله......... الذين وعدوا بأن يتيهوا........"، وأثبتت ما في المخطوطة. وفي كتاب القوم: "........فتعرفون ابتعادي. أنا الرب قد تكلمت، لأفعلن هذا بكل هذه الجماعة الشريرة المتفقة على. في هذا القفر يفنون وفيه يموتون".(10/196)
حزنًا شديدًا، وغدوا فارتفعوا، إلى رأس الجبل، (1) وقالوا: نرتقي الأرض التي قال جل ثناؤه، من أجل أنا قد أخطأنا. فقال لهم موسى:"لم تعتدون في كلام الله؟ من أجل ذلك لا يصلح لكم عمل، ولا تصعدوا من أجل أنَّ الله ليس معكم، فالآن تنكسرون من قدّام أعدائكم، من أجل العمالقة والكنعانيين أمامكم، فلا تقعوا في الحرب من أجل أنكم انقلبتم على الله، فلم يكن الله معكم". فأخذوا يَرْقَوْنَ في الجبل، ولم يبرح التابوت الذي فيه مواثيق الله جل ذكره وموسى من المحلة= يعني من الخيمة (2) = حتى هبط العماليق والكنعانيون في ذلك الحائط، فحرقوهم وطردوهم وقتلوهم. (3) فتيّهم الله عز ذكره في التيه أربعين سنًة بالمعصية، حتى هلك من كان استوجب المعصية من الله في ذلك. =قال: فلما شَبّ النواشئ من ذراريهم وهلك آباؤهم، وانقضت الأربعون سنة التي تُيِّهوا فيها، (4) وسار بهم موسى ومعه يوشع بن نون وكالب بن يوفنا، وكان -فيما يزعمون- على مريم ابنة عمران أخت موسى وهارون، وكان لهما صهرًا، (5) قدَّم يوشع بن نون إلى أريحا، في بني إسرائيل، فدخلها بهم، وقتل بها الجبابرة الذين كانوا فيها، ثم دخلها موسى ببني إسرائيل، فأقام فيها ما شاء الله أن يُقيم، ثم قبضه الله إليه، لا يعلم قبره أحد من الخلائق.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، قولُ من قال: إن"الأربعين" منصوبة بـ"التحريم"= وإنّ قوله:"محرمة عليهم أربعين سنة"، معنيٌّ به جميع قوم موسى، لا بعض دون بعض منهم. لأن الله عز ذكره عمَّ بذلك القوم، ولم يخصص منهم بعضًا دون بعض. وقد وفَى الله جل ثناؤه بما وعدهم به من العقوبة، فتيَّههم أربعين سنة، وحرَّم على جميعهم، في الأربعين سنة التي مكثوا فيها تائهين، دخولَ الأرض المقدَّسة، فلم يدخلها منهم أحد، لا صغير ولا كبير، ولا صالح ولا طالح، حتى انقضت السنون التي حرَّم الله عز وجَل عليهم فيها دخولها. ثم أذن لمن بقي منهم وذراريهم بدخُولها مع نبي الله موسى والرجلين اللذين أنعمَ الله عليهما، وافتتح قرية الجبارين، إن شاء الله، نبيُّ الله موسى صلى الله عليه وسلم، وعلى مقدّمته يوشع، وذلك لإجماع أهل العلم بأخبار الأوَّلين أن عوج بن عناق قتلَه موسى صلى الله عليه وسلم. (6) فلو كان قتلُه إياه قبل مصيره في التيه، وهو من أعظم الجبارين خلقًا، لم تكن بنو إسرائيل تجزَع من الجبارين الجزعَ الذي ظهر منها. ولكن ذلك كان، إن شاء الله، بعد فناء الأمة التي جزعت وعصت ربها، وأبت الدخول على الجبارين مدينَتهم.
وبعدُ: فإن أهل العلم بأخبار الأوّلين مجمعون على أن بلعم بن باعور، (7) كان ممن أعان الجبارين بالدعاء على موسى. ومحالٌ أن يكون ذلك كان وقوم موسى ممتنعون من حربهم وجهادهم، لأن المعونة إنما يحتاج إليها من كان مطلوبًا، فأما ولا طالب، فلا وجه للحاجة إليها.
__________
(1) في المطبوعة: "على رأس الجبل"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يعني من الحكمة"، والصواب ما أثبت، لأن"التابوت" كان في خيمة. واللفظة في المخطوطة غير بينة الكتابة. وانظر صفة"الخيمة" التي كان فيها التابوت في قاموس كتابهم.
(3) إلى هذا الموضع انتهى الإصحاح الرابع عشر من سفر العدد. وقد تبين أن ما رواه ابن إسحق، هو ترجمة أخرى لهذا الإصحاح. ولغة ترجمة ابن إسحق تخالف كل المخالفة، عبارة ابن إسحق في سائر ما كتب من السير، وفيها عبارات وجمل وألفاظ، لا أشك في أنها من عمل مترجم قديم. ومحمد بن إسحق مات في نحو سنة 150 من الهجرة، فهذه الترجمة التي رواها عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول، قد تولاها بلا ريب رجال قبل هذا التاريخ، أي في القرن الأول من الهجرة. وهذا أمر مهم، أرجو أن أتتبعه فيما بعد حتى أضع له تاريًخا يمكن أن يكشف عن أمر هذه الترجمة العتيقة.
(4) في المطبوعة: "التي تتيهوا" بتاءين، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في تاريخ الطبري 1: 226.
(5) من أول قوله: "فلما شب النواشئ"، إلى هذا الموضع، مروي في تاريخ الطبري 1: 226.
(6) في المطبوعة: "عوج بن عنق"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر ما سلف أنه روى في اسمه"عاج" ص: 192، تعليق: 2.
(7) في المطبوعة: "باعوراء"، وأثبت ما في المخطوطة.(10/197)
11698 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف قال: كان سرير عوج ثمانمائة ذراع، وكان طول موسى عشرة أذرع، وعصاه عشرة أذرع، ووثب في السماء عشرة أذرع، (1) فضرب عوجًا فأصاب كعبه، فسقط ميتًا، فكان جسرًا للناس يمرُّون عليه. (2)
11699 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت عصا موسى عشرة أذرع، ووثبته عشرة أذرع، وطوله عشرة أذرع، (3) فوثب فأصاب كعب عوج فقتله، فكانَ جسرًا لأهل النيل سنة. (4)
* * *
ومعنى:"يتيهون في الأرض"، يحارون فيها ويضلُّون= ومن ذلك قيل للرجل الضال عن سبيل الحق:"تائه". وكان تيههم ذلك: أنهم كانوا يصبحون أربعين سنة كل يوم جادِّين في قدر ستة فراسخ للخروج منه، فيمسون في الموضع الذي ابتدأوا السير منه.
11700 - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع. (5)
11701 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة"عشرة أذرع" في المواضع الثلاثة، وأثبت ما في المخطوطة، وكلاهما صواب فإن"الذراع"، مؤنثة، وقد تذكر.
(2) الأثر: 11698- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 223.
(3) في المطبوعة"عشرة أذرع" في المواضع الثلاثة، وأثبت ما في المخطوطة، وكلاهما صواب فإن"الذراع"، مؤنثة، وقد تذكر.
(4) الأثر: 11699- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 223.
هذا، وكل ما رواه أبو جعفر من أخبار عوج، وما شابهه مما مضى في ذكر ضخامة خلق هؤلاء الجبارين، إنما هي مبالغات كانوا يتلقونها من أهل الكتاب الأول، لا يرون بروايتها بأسًا. وهي أخبار زيوف لا يعتمد عليها.
(5) الأثر: 11700- انظر الأثر السالف رقم: 11690.(10/199)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: تاهت بنو إسرائيل أربعين سنة، يصبحون حيث أمسوا، ويمسون حيث أصبحوا في تيههم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلا تأس"، فلا تحزن.
يقال منه:"أسِيَ فلان على كذا يأسىَ أسًى"، و"قد أسيت من كذا"، أي حزنت، ومنه قول امرئ القيس:
وُقُوفًا بِهَا صَحْبي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ... يَقُولُونَ: لا تَهْلِكْ أَسًى وتَجَمَّل (1)
يعني: لا تهلك حزنًا.
* * *
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
11702 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فلا تأس" يقول: فلا تحزن.
11703 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تأس على القوم الفاسقين"، قال: لما ضُرب عليهم التّيه، ندم موسى صلى الله عليه وسلم، فلما نَدِم أوحى الله إليه:"فلا تأس على القوم الفاسقين"، لا تحزن على القوم الذين سمَّيتهم"فاسقين"، فلم يحزن. (2)
* * *
__________
(1) ديوانه: 125، من معلقته المشهورة.
(2) الأثر: 11703- هو بعض الأثر السالف قديمًا رقم: 991. وأسقط ناشر المطبوعة الأولى: "فلم يحزن"، لأنها كانت في المخطوطة: "فلا تحزن"، فظنها تكرارًا فحذفها، وهي ثابتة كما كتبتها في الأثر السالف: 991.(10/200)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27)
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: واتلُ على هؤلاء اليهود الذين هموا أن يبسطُوا أيديهم إليكم، وعلى أصحابك معك (1) = وعرِّفهم مكروهَ عاقبة الظلم والمكر، وسوء مغبَّة الخَتْر ونقض العهد، (2) وما جزاء الناكثِ وثوابُ الوافي= (3) خبرَ ابني آدم، هابيل وقابيل، وما آل إليه أمر المطيع منهما ربَّه الوافي بعهده، وما إليه صار أمر العاصي منهما ربَّه الخاتِر الناقضِ عهده. (4) فلتعرف بذلك اليهود وخَامِة غِبّ غَدْرهم ونقضهم ميثاقَهم بينك وبينهم، (5) وهمَّهم
__________
(1) أخطأ ناشر المطبوعة الأولى فهم هذه العبارة، فجعلها"واتل على هؤلاء الذين هموا أن يبسطوا أيديهم إليكم عليك وعلى أصحابك معك"، فزاد"عليك"، وجعل"معهم"، "معك" فأخرج الكلام من عربية أبي جعفر، إلى كلام غسل من عربيته.
وسياق الكلام: واتل على هؤلاء اليهود.. وعلى أصحابك معهم". فسبحان من سلط الناشرين على الكاتبين!!
(2) "الختر": هو أسوأ الغدر. وأقبح الخديعة، وفي الحديث: "ما ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو"، وفي التنزيل: "وما يحجد بآياتنا إلا كل ختار كفور". ولم يحسن ناشر المطبوعة قراءة"الختر"، فجعل مكانها"الجور".
(3) قوله"خبر ابني آدم" منصوب، مفعول قوله: "واتل على هؤلاء اليهود"، وما بين الخطين، جملة فاصلة للبيان.
وانظر تفسير"يتلو" فيما سلف 2: 409، 411، 569/3: 86/6: 466/7: 97. وتفسير"نبأ" فيما سلف 1: 488، 489/6: 259، 404.
(4) في المطبوعة: "الجائر"، وانظر تفسير"الختر" فيما سلف تعليق: 2، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(5) في المطبوعة: "وخامة غب عدوهم"، وهو فاسد مريض، وهي في المخطوطة كما كتبتها غير منقوطة.(10/201)
بما همُّوا به من بسط أيديهم إليك وإلى أصحابك، فإن لك ولهم (1) = في حسن ثوابي وعِظَم جزائي على الوفاء بالعهد الذي جازيت المقتولَ الوافِيَ بعهده من ابني آدم، وعاقبتُ به القاتل الناكثَ عهده= عزاءً جميلا. (2)
* * *
واختلف أهل العلم في سبب تقريب ابني آدم القربان، وسبب قَبُول الله عز وجل ما تقبل منه، ومَنِ اللذان قرَّبا؟
فقال بعضهم: كان ذلك عن أمر الله جل وعز إياهما بتقريبه، وكان سبب القبول أن المتقبَّل منه قرَّب خير ماله، وقرب الآخر شر ماله، وكان المقرِّبان ابني آدم لصلبه، أحدهما: هابيل، والآخرُ: قابيل.
ذكر من قال ذلك:
11704 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن هشام بن سَعْد، عن إسماعيل بن رافع قال: بلغني أن ابني آدم لمّا أُمِرَا بالقربان، كان أحدهما صاحب غَنَم، وكان أُنْتِجَ له حَمَلٌ في غنمه، (3) فأحبه حتى كان يؤثره بالليل، وكان يحمله على ظهره من حبه، حتى لم يكن له مالٌ أحبَّ إليه منه. فلما أُمِر بالقربان قرّبه لله فقبله الله منه، فما زال يَرْتَع في الجنة حتى فُدِي به ابن إبراهيم صلى الله عليهما. (4)
11705 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو قال: إنّ ابني آدم اللذين قرّبا قربانًا فتقبّل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، كان أحدهما صاحب حَرْثٍ،
__________
(1) يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
(2) السياق: "فإن لك ولهم.. عزاء جميلا".
(3) "أنتج" (بالبناء للمجهول) ، أي: ولد. و"الحمل" (بفتحتين) : الخروف.
(4) الأثر: 11704-"هشام بن سعد المدني"، ثقة، تكلموا فيه من جهة حفظه. مضى برقم: 5490. وكان في المطبوعة هنا: "بن سعيد"، والصواب من المخطوطة.
"إسمعيل بن رافع بن عويمر المدني القاص"، ضعيف جدا، مضى برقم: 4039.(10/202)
والآخر صاحب غنم. وأنهما أُمرا أن يقرّبا قربانًا= وإن صاحب الغَنَم قرب أكرم غنمه وأسمَنَها وأحسَنَها طيّبًة بها نفسه= وإن صاحبَ الحرث قرّب شَرّ حرثه، [الكوزن] والزُّوان، (1) غير طيبةٍ بها نفسه= وإن الله تقبّل قربان صاحب الغنم، ولم يتقبل قُربان صاحب الحرث. وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه. وقال: أيمُ الله، إنْ كان المقتول لأشدّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّجُ أن يبسطَ يده إلى أخيه. (2)
* * *
وقال آخرون: لم يكن ذلك من أمرِهما عن أمرِ الله إياهما به.
ذكر من قال ذلك:
11706 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان من شأنهما أنه لم يكن مسكين يُتصدَّق عليه، (3) وإنما كان القربان يقرِّبه الرجل. فبينا ابنا آدم قاعدان إذ قالا"لو قربنا قربانًا"! وكان الرجل إذا قرب قربانًا فرضيه الله جل وعزّ، أرسل إليه نارًا فأكلته. وإن لم يكن رضيَه الله، خَبَتِ النار. فقرّبا قربانًا، وكان أحدهما راعيًا، وكان الآخر حرَّاثًا، وإنّ صاحب الغنم قرب خير غنمه وأسمنَها، وقرب الآخر بعضَ زرعه. (4) فجاءت النار فنزلت يينهما، فأكلت الشاة وتركت
__________
(1) "الكوزن"، هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وفي تاريخ الطبري"الكوذر"، ولم أجدها في شيء مما بين يدي من الكتب. والذي وجدته أن"الدوسر": نبات كنبات الزرع، له سنبل وحب دقيق أسمر، يكون في الحنطة، ويقال هو"الزوان". و"الزوان" (بضم الزاي) : ما يخرج من الطعام فيرمي به، وهو الرديء منه. وقيل: هو حب يخالط الحنطة، تسميه أهل الشأم: "الشيلم".
(2) الأثر: 11705- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 71، وسيأتي برقم: 11727، مختصرًا. وفي المطبوعة هنا: "أن يبسط يده إلى أخيه"، زاد"يده"، وهي ليست في المخطوطة، ولا في التاريخ، ولا في هذا الأثر الذي سيرويه مرة أخرى بعد.
(3) في المطبوعة: "فيتصدق"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(4) في المطبوعة: "أبغض زرعه"، غير ما في المخطوطة، وهي موافقه لما في التاريخ. ويعني بقوله: "بعض زرعه"، أي: ما اتفق له، غير متخير كما تخير أخوه. وهو كقوله في الأثر رقم: 11709."زرعا من زرعه".(10/203)
الزرع، وإن ابن آدم قال لأخيه: أتَمْشي في الناس وقد علموا أنك قرَّبت قربانًا فتُقبِّل منك، ورُدَّ علي؟ فلا والله لا تنظر الناس إليّ وإليك وأنت خير مني!! فقال: لأقتلنَّك! فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. (1)
11707 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إذ قربا قربانًا"، قال: ابنا آدم، هابيل وقابيل، لصلب آدم. فقرّب أحدهما شاةً، وقرب الآخر بَقْلا فقبل من صاحب الشاة، فقتله صاحبه.
11708 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
11709 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذْ قرّبا قربانًا" قال: هابيل وقابيل، فقرب هابيل عَنَاقًا من أحسن غَنَمه، (2) وقرب قابيل زرعًا من زرعه. قال: فأكلت النار العَناقَ، ولم تأكل الزرع، فقال: لأقتلنك! قال: إنما يتقبل الله من المتقين.
11710 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدا في قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانًا" قال: هو هابيل وقابيل لصُلْب آدم، قربا قربانًا، قرب أحدهما شاة من غنمه، وقرب الآخر بَقْلا فتُقُبِّل من صاحب الشاة، فقال لصاحبه: لأقتلنك! فقتله. فعقل الله إحدى رجليه بساقها إلى فخذها إلى يوم القيامة، وجعل وجهه إلى الشمس حيثما دارت، عليه حَظِيرة من ثلج في الشتاء، وعليه في الصيف حظيرة من نار، ومعه
__________
(1) الأثر: 11706- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 71، وسيأتي برقم: 11750، بزيادة في آخره.
(2) "العناق" (بفتح العين) : وهي الأنثى من المعز ما لم تتم سنة.(10/204)
سبعةُ أملاكٍ، كلما ذهب مَلَك جاء الآخر.
11711 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان= عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن مجاهد، عن ابن عباس:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر"، قال: قرّب هذا كبشًا، وقرّب هذا صُبَرًا من طعام، (1) فتقبل من أحدهما، قال: تُقُبل من صاحب الشاة، ولم يتقبل من الآخر.
11712 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قرّبا قربانًا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر"، كان رجلان من بني آدم، فتُقُبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر.
11713 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، قال: كان أحدهما اسمه قابيل، والآخر هابيل، أحدهما صاحب غنم، والآخر صاحب زرع، فقرب هذا من أمثل غنمه حَمَلا وقرّب هذا من أرذَلِ زرعه، (2) قال: فنزلت النار فأكلت الحمل، فقال لأخيه: لأقتلنك!
11714 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوَّل: أن آدم أمر ابنه قابيل أن يُنكِح أختَه تُؤْمَهُ هابيل، وأمر هابيل أن ينكح أخته تُؤْمَه قابيل، (3) فسلم لذلك هابيل ورضي، وأبى قابيل
__________
(1) "الصبر" (بضم الصاد وفتح الباء) جمع"صبرة" (بضم فسكون) : كومة من طعام بلا كيل ولا وزن. ويقال: "اشتريت الشيء صبرة"، أي بلا كيل ولا وزن. وفي المطبوعة: "صبرة" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "من أردإ زرعه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة في الموضعين"توأمة"، وأثبت ما في المخطوطة، وفي تاريخ الطبري: "توأمته". و"التوأم" و"التئم" (بكسر فسكون) و"التؤم" (بضم فسكون) ، و"التئيم"، هو من جميع الحيوان، المولود مع غيره في بطن، من الاثنين إلى ما زاد، ذكرًا كان أوأنثى، أو ذكرًا مع أنثى. ويقال أيضا"توأم للذكر"و"توأمة" للأنثى.
وفي المخطوطة والمطبوعة في جميع المواضع"قابيل". وأما في التاريخ، فهو في جميع المواضع"قين" مكان"قابيل"، وهما واحد، فتركت ما في المطبوعة والمخطوطة على حاله، وإن كان يخالف ما رواه أبو جعفر في التاريخ.(10/205)
ذلك وكره، (1) تكرمًا عن أخت هابيل، ورغب بأخته عن هابيل، وقال: نحنَ وِلادة الجنة، وهما من ولادة الأرض، وأنا أحق بأختي! = ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول: كانت أخت قابيل من أحسن الناس، فضن بها عن أخيه وأرادها لنفسه. فالله أعلم أيّ ذلك كان= فقال له أبوه: يا بني إنها لا تحلُّ لك! فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه، فقال له أبوه: يا بني فقرّب قربانًا، ويقرّب أخوك هابيل قربانًا، فأيُّكما قَبِل الله قربَانه فهو أحق بها. وكان قابيل على بَذْر الأرض، وكان هابيل على رِعاية الماشية، فقرب قابيل قمحًا وقرّب هابيل أبْكارًا من أبكار غنمه= وبعضهم يقول: قرب بقرة= فأرسل الله جل وعز نارًا بيضاء فأكلت قربان هابيل، وتركت قربان قابيل، وبذلك كان يُقْبَل القُربان إذا قبله. (2)
11715 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة، عن ابن مسعود= وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: وكان لا يولد لآدم مولود إلا ولد معه جارية، (3) فكان يزوّج غلام هذا البطن، جاريةَ هذا البطن الآخر، ويزوج جارية هذا البطن، غلامَ هذا البطن الآخر. حتى ولد له ابنان يقال لهما: قابيل، وهابيل. وكان قابيل صاحب زرع، وكان
__________
(1) في المطبوعة: "وكرهه"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(2) الأثر: 11714- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 70.
(3) في المطبوعة: "كان.." بغير واو، وأثبت ما في المخطوطة.(10/206)
هابيل صاحب ضَرْعٍ. وكان قابيل أكبرهما، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل. وإن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل، فأبى عليه وقال: هي أختي، ولدت معي، وهي أحسن من أختك، وأنا أحق أن أتزوَّجها! فأمره أبوه أن يزوِّجها هابيل، فأبى. وإنهما قربا قربانًا إلى الله أيُّهما أحق بالجارية، كان آدم يومئذ قد غاب عنهما إلى مكة ينظر إليها، قال الله عز ذكره لآدم: يا آدمُ، هل تعلم أن لي بيتًا في الأرض؟ قال: اللهم لا! قال: فإن لي بيتًا بمكة فأتِه. فقال آدم للسماء:"احفظي ولدي بالأمانة"، فأبت. وقال للأرض، فأبت. وقال للجبال فأبت. وقال لقابيل، فقال: نعم، تذهب وترجع وتجدُ أهلك كما يسرُّكَ. فلما انطلق آدم، قربا قربانًا، وكان قابيل يفخَر عليه فقال: أنا أحق بها منك، هي أختي، وأنا أكبر منك، وأنا وصيُّ والدي! فلما قرَّبا، قرب هابيل جَذَعة سمينة، (1) وقرّب قابيل حُزمة سنبل، فوجد فيها سنبلةً عظيمة، ففرَكَها فأكلها. فنزلت النار فأكلت قربانَ هابيل، وتركت قربان قابيل، فغضب وقال: لأقتلنك حتى لا تنكح أختي! فقال هابيل: إنما يتقبَّل الله من المتقين. (2)
11716 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، ذكر لنا أنهما هابيل وقابيل. فأما هابيل، فكان صاحب ماشية، فعمَد إلى خير ماشيته فتقرّب بها، فنزلت عليه نار فأكلته= وكان القربان إذا تُقُبل منهم، نزلت عليه نار فأكلته. وإذا رُدَّ عليهم أكلته الطيرُ والسباع= وأما قابيل، فكان صاحب زرع، فعمد إلى أردإ زرعه فتقرب به، فلم تنزل عليه النار، فحسد أخاه عند ذلك فقال: لأقتلنك! قال: إنما يتقبل الله من المتقين.
11717 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
__________
(1) "الجذعة" من الضأن والمعز، الصغير، لم يتم سنته.
(2) الأثر: 11715- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 68، 69.(10/207)
معمر، عن قتادة في قوله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، قال: هما هابيل وقابيل، قال: كان أحدهما صاحب زرع، والآخر صاحب ماشية، فجاء أحدهما بخيرِ ماله، وجاء الآخر بشر ماله. فجاءت النار فأكلت قربان أحدهما، وهو هابيل، وتركت قربان الآخر، فحسده فقال: لأقتلنك!
11718 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"إذ قرّبا قربانًا"، قال: قرّب هذا زرعًا، وذَا عناقًا، فتركت النارُ الزرعَ وأكلتِ العَناق. (1)
* * *
وقال آخرون: اللذان قرّبا قربانًا، وقصَّ الله عز ذكره قصصهما في هذه الآية: رجلان من بني إسرائيل، لا من ولد آدم لصلبه.
ذكر من قال ذلك:
11719 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا سهل بن يوسف، عن عمرو، عن الحسن قال: كان الرجلان اللذان في القرآن، اللذان قال الله:"واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق"، من بني إسرائيل، ولم يكونا ابني آدم لصلبه، وإنما كان القُربان في بني إسرائيل، وكان آدم أول من مات. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندي بالصواب، أن اللذين قرّبا القربان كانا ابني آدم لصلبه، لا من ذرّيته من بني إسرائيل. وذلك أن الله عز وجل يتعالى عن أن يخاطب عبادَه بما لا يفيدهم به فائدة، والمخاطبون بهذه الآية كانوا عالمين أن تقريبَ القربان لله لم يكن إلا في ولد آدم، دون الملائكة والشياطين
__________
(1) "العناق": أنثى المعز، ما لم تتم سنة.
(2) الأثر: 11719-"سهل بن يوسف الأنماطي"، روى عن ابن عون، وعوف الأعرابي، وحميد الطويل، وغيرهم. روى عنه أحمد، ويحيى بن معين، ومحمد بن بشار، وغيرهم. مترجم التهذيب.
وهذا الخبر رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 71.
وسيأتي رد هذا الذي قاله الحسن فيما سيأتي ص: 219، 220.(10/208)
وسائرِ الخلق غيرهم. فإذْ كان معلومًا ذلك عندهم، فمعقول أنه لو لم يكن معنيًّا بِ"ابني آدم" اللذين ذكرهما الله في كتابه، ابناهُ لصلبه، لم يفدْهم بذكره جل جلاله إياهما فائدة لم تكن عندهم. وإذْ كان غيرَ جائز أن يخاطبهم خطابًا لا يفيدهم به معنًى، فمعلوم أنه عَنى بـ"ابني آدم"، [ابني آدم لصلبه] ، لا بَنِي بنيه الذين بَعُد منه نسبهم، (1) مع إجماع أهل الأخبار والسير والعلم بالتأويل، على أنهما كانا ابني آدم لصلبه، وفي عهد آدم وزمانه، وكفى بذلك شاهدا.
* * *
وقد ذكرنا كثيًرا ممن نُصَّ عنه القول بذلك، وسنذكر كثيرًا ممن لم يذكر إن شاء الله.
11720 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا حسام بن المِصَكّ، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد قال: لما قتل ابن آدم أخاه، مكث آدم مائة سنة حزينًا لا يضحك، ثم أتي فقيل له: حيّاك الله وبيّاك! = فقال:"بياك"، أضحكك. (2)
11721 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن غياث بن إبراهيم، عن أبي إسحاق الهمداني قال، قال علي بن أبي طالب رضوان الله عليه: لما قتل ابن آدم أخاه، بكى آدم فقال:
تَغَيَّرَتِ الْبِلادُ وَمَنْ عَلَيْهَا ... فَلَوْنُ الأَرْضِ مُغْبَرٌّ قَبِيحُ
تَغَيَّرَ كُلُّ ذِي لَوْنٍ وَطَعْمٍ ... وَقَلَّ بَشَاشَةُ الْوَجْهِ الْمَلِيحِ
__________
(1) في المطبوعة، بغير الزيادة التي بين القوسين. أما المخطوطة، فكانت العبارة غير مستقيمة، كتب هكذا: "أنه عني بابني آدم لصلبه بني بنيه الذين بعد منه نسبهم" فالصواب زيادة ما زدته بين القوسين، وزيادة"لا" كما فعل في المطبوعة السابقة.
(2) الأثر: 11720-"حسام بن مصك بن ظالم بن شيطان الأزدي". روى عن الحسن. وابن سيرين، وقتادة، ونافع مولى ابن عمر. روى عنه أبو داود الطيالسي، وهشيم، ويزيد بن هرون، وغيرهم. ضعفوه، حتى قال ابن معين: "كان كثير الخطأ، فاحش الوهم، حتى خرج عن حد الاحتجاج به". مترجم في التهذيب.(10/209)
فأجيب آدم عليه السلام:
أَبَا هَابِيلَ قَدْ قُتِلا جَمِيعًا ... وَصَارَ الْحَيُّ كَالْمَيْتِ الذَّبِيحِ
وَجَاءَ بِشِرَّةٍ قَدْ كَانَ مِنْهَا ... عَلَى خَوْفٍ، فَجَاءَ بِهَا يَصِيحُ (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأما القول في تقريبهما ما قرَّبا، فإن الصواب فيه من القول أن يقال: إن الله عز ذكره أخبرَ عبادَه عنهما أنهما قد قربا، ولم يخبر أن تقريبهما ما قرّبا كان عن أمر الله إياهما به، ولا عن غير أمره. وجائز أن يكون كان عن أمر الله إياهما بذلك= وجائز أن يكون عن غير أمره. غير أنه أيّ ذلك كان، فلم يقرّبا ذلك إلا طلب قرْبةٍ إلى الله إن شاء الله.
* * *
وأما تأويل قوله:"قال لأقتلنك"، فإن معناه: قال الذي لم يُتَقَبَّل منه قربانه، للذي تُقُبّل منه قربانه:"لأقتلنك"، فترك ذكر:"المتقبل قربانه" و"المردود عليه قربانه"، استغناء بما قد جرى من ذكرهما عن إعادته. وكذلك ترك ذكر"المتقبل قربانه" مع قوله،"قال إنما يتقبل الله من المتقين".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك روي الخبر عن ابن عباس.
11722 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"قال لأقتلنك"، فقال له أخوه: ما ذنبي؟ إنما يتقبل الله من المتقين. (2)
__________
(1) الأثر: 11721-"غياث بن إبراهيم النخعي، الكوفي"، قال يحيى بن معين: "كذاب خبيث". وقال خالد بن الهياج: "سمعت أبي يقول: رأيت غياث بن إبراهيم، ولو طار على رأسه غراب لجاء فيه بحديث! وقال: إنه كان كذابًا يضع الحديث من ذات نفسه". مترجم في الكبير 4/1/109، وابن أبي حاتم 3/2/57، وفي لسان الميزان، وميزان الاعتدال.
وفي المخطوطة والمطبوعة، سقط من الإسناد"عن غياث بن إبراهيم"، وزدته من إسناد أبي جعفر في تاريخه 1: 72، وروى الخبر هناك.
(2) الأثر: 11722- هذا ختام الأثر السالف رقم: 11706.(10/210)
11723 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إنما يتقبل الله من المتقين"، قال يقول: إنك لو اتقيت الله في قربانك تُقُبل منك، جئت بقربانٍ مغشوش بأشرِّ ما عندك، (1) وجئت أنا بقربان طيِّب بخير ما عندي. قال: وكان قال: يتقبل الله منك ولا يتقبل مني!
* * *
ويعني بقوله:"من المتقين"، من الذين اتقوا الله وخافوه، بأداء ما كلفهم من فرائضه، واجتناب ما نهاهم عنه من معصيته. (2)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل:"المتقون" في هذا الموضع، الذين اتقوا الشرك.
ذكر من قال ذلك:
11724 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"إنما يتقبل الله من المتقين"، الذين يتقون الشرك.
* * *
وقد بينا معنى"القربان" فيما مضى= وأنه"الفعلان" من قول القائل:"قرَّب"، كما"الفُرْقان""الفعلان" من"فرق"، و"العُدْوان" من"عدا". (3)
* * *
وكانت قرابين الأمم الماضية قبل أمَّتنا، كالصدقات والزكوات فينا، غير أن قرابينهم كان يُعْلم المتقبل منها وغير المتقبَّل =فيما ذكر= بأكل النار ما تُقُبل منها، وترك النار ما لم يُتقبّل منها. (4) و"القربان" في أمّتنا، الأعمال الصالحة، من الصَّلاة، والصيام، والصدقة على أهل المسكنة، وأداءِ الزكاة المفروضة. ولا سبيل
__________
(1) قوله: "بأشر ما عندك"، أي: "بشر ما عندك"، وهي لغة قليلة. وقد مضت في الخبر رقم: 5080، وانظر التعليق هناك: 5: 85، تعليق: 1.
(2) انظر تفسير"اتقى" فيما سلف من فهارس اللغة (وقى) .
(3) انظر ما سلف 7: 448.
(4) انظر الأثرين السالفين: 8310، 8311.(10/211)
لها إلى العلم في عاجلٍ بالمتقبَّل منها والمردود. (1)
* * *
وقد ذكر عن عامر بن عبد الله العنبري، أنه حين حضرته الوفاة بَكى، فقيل له: ما يبكيك؟ فقد كنتَ وكنتَ! فقال: يبكيني أنّي أسمع الله يقول:"إنما يتقبل الله من المتقين".
11725 - حدثني بذلك محمد بن عمر المقدمي قال، حدثني سعيد بن عامر، عن همّام، عمن ذكره، عن عامر. (2)
* * *
وقد قال بعضهم: قربان المتقين، الصلاة.
11726 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص بن غياث، عن عمران بن سليمان، عن عدي بن ثابت قال: كان قربان المتّقين، الصلاة. (3)
* * *
__________
(1) قوله: "لها"، الضمير عائد إلى قوله: "أمتنا".
(2) الأثر: 11725-"محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي"، مضى برقم: 6225، 6809.
و"سعيد بن عامر الضبعي"، ثقة مأمون. مترجم في التهذيب.
و"همام" هو"همام بن يحيى بن دينار الأزدي"، ثقة صدوق. مترجم في التهذيب.
و"عامر بن عبد الله العنبري"، هو"عامر بن عبد الله بن عبد قيس العنبري"، ويقال: "عامر بن عبد قيس"، أحد الزهاد الثمانية، وهم: "عامر بن عبد الله بن عبد قيس، وأويس القرني، وهرم بن حبان، والربيع بن خثيم، ومسروق بن الأجدع، والأسود بن يزيد، وأبو مسلم الخولاني، والحسن بن أبي الحسن البصري". انظر ترجمته في حلية الأولياء 2: 87-95، وكتاب الزهد لأحمد بن حنبل: 218- 228. ولم أجد هذا الخبر في أخباره في الكتابين.
(3) الأثر: 11726-"عمران بن سليمان القيسي"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في لسان الميزان.
و"عدي بن ثابت الأنصاري"، ثقة، إلا أنه كان يتشيع. مات سنة 116. مترجم في التهذيب.(10/212)
لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن المقتول من ابني آدم أنه قال لأخيه= لما قال له أخوه القاتل: لأقتلنك=: والله"لئن بسطت إليَّ يدك"، يقول: مددت إليَّ يدك="لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك"، يقول: ما أنا بمادٍّ يدي إليك (1) "لأقتلك".
* * *
وقد اختلف في السبب الذي من أجله قال المقتول ذلك لأخيه، ولم يمانعه ما فَعَل به. فقال بعضهم: قال ذلك، إعلامًا منه لأخيه القاتل أنه لا يستحل قتلَه ولا بسطَ يده إليه بما لم يأذن الله جل وعز له به. (2)
ذكر من قال ذلك:
11727 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عوف، عن أبي المغيرة، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: وايم الله، إن كان المقتول لأشدَّ الرجلين، ولكن منعه التحرُّج أن يبسُط إلى أخيه. (3)
11728 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك"، ما أنا بمنتصر، (4) ولأمسكنَّ يدي عنك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير: "بسط" فيما سلف ص: 100.
(2) في المطبوعة: "بما لم يأذن الله به"، أسقط ما هو ثابت في المخطوطة، ولا أدري لم يرتكب ذلك!!
(3) الأثر: 11727- سلف هذا الأثر مطولا برقم: 11705، وانظر التعليق عليه هناك.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "لا أنا"، والسياق يقتضي ما أثبت.(10/213)
وقال آخرون: لم يمنعه مما أراد من قتله، وقال ما قال له مما قصَّ الله في كتابه: [إلا] أن الله عزّ ذكره فرضَ عليهم أن لا يمتنع من أريد قتله ممن أراد ذلك منه. (1)
ذكر من قال ذلك:
11729 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدًا يقول في قوله:"لئن بسطت إليّ يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك"، قال مجاهد: كان كُتب عليهم، (2) إذا أراد الرجل أن يقتل رجلا تركه ولا يمتنع منه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد كان حرَّم عليهم قتل نفسٍ بغير نفس ظلمًا، وأن المقتول قال لأخيه:"ما أنا بباسط يدي إليك إن بسطت إليّ يدك"، لأنه كان حرامًا عليه من قتل أخيه مثلُ الذي كان حرامًا على أخيه القاتل من قتله. فأما الامتناع من قتله حين أراد قتله، فلا دلالة على أن القاتلَ حين أراد قتله وعزم عليه، كان المقتول عالمًا بما هو عليه عازمٌ منه ومحاولٌ من قتله، فترك دفعَه عن نفسه. بل قد ذكر جماعة من أهل العلم أنه قتله غِيلةً، اغتاله وهو نائم، فشدَخ رأسه بصخرةٍ. (3) فإذْ كان ذلك ممكنًا، ولم يكن في الآيةِ دلالة على أنه كان مأمورًا بترك منع أخيه من قتله، يكون جائزًا ادعاءُ ما ليس في الآية، إلا ببرهان يجب تسليمُه.
* * *
وأما تأويل قوله:"إنّي أخاف الله رب العالمين" فإنه: إنّي أخاف الله في بسط يدي إليك إن بسطتها لقتلك= (4) "رب العالمين"، يعني: مالك الخلائق كلها (5) =أن يعاقبني على بسط يدي إليك.
* * *
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق هذه الجملة.
(2) في المطبوعة: "كان كتب الله عليهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر الآثار التالية من رقم: 11746-11749.
(4) في المطبوعة: "فإني أخاف"، وهو لا يستقيم، والصواب ما أثبته من المخطوطة.
(5) انظر تفسير"رب" و"العالمون" فيما سلف من فهارس اللغة.(10/214)
إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: إني أريد أن تبوء بإثمي من قتلك إياي، وإثمك في معصيتك الله، وغير ذلك من معاصيك. (1)
ذكر من قال ذلك:
11730 - حدثني موسى بن هارون، (2) قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في حديثه، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة، عن ابن مسعود= وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: إثم قتلي، إلى إثمك الذي في عنقك="فتكون من أصحاب النار".
11731 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: بقتلك إياي، وإثمك قبل ذلك.
11732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، قال: بإثم قتلي وإثمك.
11733 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك" يقول: إني أريد أن يكون عليك خطيئتك ودمي، تبوء بهما جميعًا.
11734 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز، عن سفيان، عن
__________
(1) في المطبوعة: "وإثمك في معصيتك الله بغير ذلك من معاصيك"، وهو كلام لا يستقيم، لا شك أن صوابه ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "محمد بن هرون"، وهو خطأ لا شك فيه، صوابه في المخطوطة.(10/215)
منصور، عن مجاهد:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: إني أريد أن تبوء بقتلك إياي="وإثمك"، قال: بما كان منك قبل ذلك.
11735 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثني عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، قال: أما"إثمك"، فهو الإثم الذي عمل قبل قتل النفس =يعني أخاه= وأما"إثمه"، فقتلُه أخاه.
* * *
=وكأن قائلي هذه المقالة، وجَّهوا تأويل قوله:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، إلى: إني أريد أن تبوء بإثم قتلي (1) =فحذف"القتل" واكتفى بذكر"الإثم"، إذ كان مفهومًا معناه عند المخاطبين به.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إني أريد أن تبوء بخطيئتي، فتتحمل وزرها، وإثمِك في قتلك إيّاي. وهذا قول وجدتُه عن مجاهد، وأخشى أن يكون غلطًا، لأن الصحيح من الرواية عنه ما قد ذكرنا قبلُ.
ذكر من قال ذلك:
11736 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك"، يقول: إني أريد أن تكون عليك خطيئتي ودمي، فتبوء بهما جميعًا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن تأويله: إني أريد أن تنصرف بخطيئتك في قتلك إياي (2) =وذلك هو معنى قوله:"إني
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أي: إني أريد.."، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) انظر تفسير"باء" فيما سلف 2: 138، 345/7: 116، 366 = وتفسير"الإثم"، فيما سلف من فهارس اللغة.(10/216)
أريد أن تبوء بإثمي" =وأما معنى:"وإثمك"، فهو إثمه بغير قتله، وذلك معصيته الله جل ثناؤه في أعمالٍ سِوَاه.
وإنما قلنا ذلك هو الصواب، لإجماع أهل التأويل عليه. لأن الله عز ذكره قد أخبرنا أن كل عامل فجزاءُ عمله له أو عليه. وإذا كان ذلك حكمه في خلقه، فغير جائز أن يكون آثام المقتول مأخوذًا بها القاتل، وإنما يؤخذ القاتل بإثمه بالقتل المحرم وسائر آثامِ معاصيه التي ارتكبها بنفسه، دون ما ركبَه قتيلُه.
* * *
فإن قال قائل: أو ليس قتلُ المقتول من بني آدم كان معصيةً لله من القاتل؟ قيل: بلى، وأعظِمْ بها معصية!
فإن قال: فإذا كان لله جل وعز معصيًة، فكيف جاز أن يُريد ذلك منه المقتول، ويقول:"إني أريد أن تبوء بإثمي"، وقد ذكرتَ أن تأويل ذلك، إني أريد أن تبوء بإثم قتلي؟ [قيل] معناه: (1) إني أريد أن تبوء بإثم قتلي إن قتلتني، لأني لا أقتلك، فإن أنت قتلتني، فإني مريد أن تبوء بإثم معصيتك الله في قتلك إياي. وهو إذا قتله، فهو لا محالة باءَ به في حكم الله، فإرادته ذلك غير موجبةٍ له الدخولَ في الخطأ.
* * *
ويعني بقوله:"فتكون من أصحاب النار وذلك جزاء الظالمين"، يقول: فتكون بقتلك إياي من سكان الجحيم، ووقود النار المخلدين فيها (2) ="وذلك جزاء الظالمين"، يقول: والنار ثوابُ التاركين طريق الحق، الزائلين عن قصد
__________
(1) في المطبوعة، وصل الكلام، فلم يكن للاستفهام جواب، فكتب هكذا: "إني أريد أن تبوء بإثم قتلي، فمعناه: إني أريد..". وفي المخطوطة مثل ذلك، إلا أنه كتب"ومعناه" بالواو. واستظهرت أن الصواب ما زدت بين القوسين"قيل"، فإنه هذا أول جواب السائل.
(2) انظر تفسير"أصحاب النار" فيما سلف 2: 286/4: 317/5: 429/ 6: 14/ 7: 133، 134.(10/217)
السبيل، المتعدِّين ما جُعِل لهم إلى ما لم يجعل لهم. (1)
وهذا يدل على أن الله عز ذكره قد كان أمرَ ونهى آدم بعد أن أهبطه إلى الأرض، ووعد وأوعد. ولولا ذلك ما قال المقتول للقاتل:"فتكون من أصحاب النار" بقتلك إياي، ولا أخبره أن ذلك جزاء الظالمين. فكان مجاهد يقول: عُلّقت إحدى رجلي القاتل بساقها إلى فخذها من يومئذ إلى يوم القيامة، ووجهه في الشمس حيثما دارت دار، عليه في الصيف حظيرة من نار، وعليه في الشتاء حظيرة من ثلج.
11737 - حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال مجاهد ذلك= قال: وقال عبد الله بن عمرو: وإنا لنجد ابنَ آدم القاتلَ يقاسِم أهل النار قسمًة صحيحًة العذابَ، عليه شطرُ عذابهم. (2)
* * *
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحو ما روي عن عبد الله بن عمرو، خبٌر.
11738 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير= وحدثنا سفيان قال، حدثنا جرير وأبو معاوية= ح، وحدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع= جميعًا، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما من نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأوَّلَ كفلٌ منها، ذلك بأنه أول من سَنَّ القتل. (3)
11739 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي= ح، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن= جميعا، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (4)
__________
(1) انظر تفسير"جزاء" و"الظالمون" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) الأثر: 11737- رواه أبو جعفر فيما سلف برقم: 11710، طريق أخرى. وليس فيه هذه الزيادة عن عبد الله بن عمرو.
(3) الأثران: 11738، 11739- هذا حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده من هذه الطرق، من حديث عبد الله بن مسعود برقم: 3630، 4092، 4123. ورواه البخاري في صحيحه من طرق عن الأعمش (الفتح 6: 262/12: 169/ 13: 256) ، ورواه مسلم في صحيحه من طرق عن الأعمش 11: 165، 166. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 130: "وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود، من طرق عن الأعمش، به". ورواها أبو جعفر في تاريخه 1: 72، بمثل الذي رواه هنا.
و"الكفل" (بكسر فسكون) : الحظ والنصيب من الوزر والإثم. وانظر تفسير أبي جعفر فيما سلف 8: 581.
(4) الأثران: 11738، 11739- هذا حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده من هذه الطرق، من حديث عبد الله بن مسعود برقم: 3630، 4092، 4123. ورواه البخاري في صحيحه من طرق عن الأعمش (الفتح 6: 262/12: 169/ 13: 256) ، ورواه مسلم في صحيحه من طرق عن الأعمش 11: 165، 166. وقال ابن كثير في تفسيره 3: 130: "وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود، من طرق عن الأعمش، به". ورواها أبو جعفر في تاريخه 1: 72، بمثل الذي رواه هنا.
و"الكفل" (بكسر فسكون) : الحظ والنصيب من الوزر والإثم. وانظر تفسير أبي جعفر فيما سلف 8: 581.(10/218)
11740 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حسن بن صالح، عن إبراهيم بن مهاجر، عن إبراهيم النخعي قال: ما من مقتول يقتل ظلمًا، إلا كان على ابن آدم الأول والشيطان كفلٌ منه.
11741 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، أنه حُدِّث عن عبد الله بن عمرو: أنه كان يقول: إن أشقى الناس رجلا لابْنُ آدم الذي قتل أخاه، ما سُفِك دم في الأرض منذ قَتَل أخاه إلى يوم القيامة، إلا لحق به منه شيء، وذلك أنه أوَّل من سنَّ القتل. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الخبر الذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، (2) مبينٌ عن أنّ القول الذي قاله الحسن في ابني آدم اللذين ذكرهما الله في هذا الموضع (3) أنهما ليسا بابني آدم لصلبه، ولكنهما رجلان من بني إسرائيل= وأن القول الذي حكي عنه (4) أنّ أول من مات آدم، وأن القربان الذي كانت
__________
(1) الأثر: 11741-"حكيم بن حكيم بن عباد بن حنيف الأنصاري"، روى عن ابن عمه أبي أمامة بن سهل، ونافع بن جبير بن مطعم، والزهري، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات، وصحح له الترمذي وابن خزيمة وغيرها، وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث، ولا يحتجون بحديثه". مترجم في التهذيب.
(2) في المطبوعة: "وبهذا الخبر.."، غير ما في المخطوطة، لم يحسن قراءة الآتي.
(3) في المطبوعة: "تبين أن القول"، جعلها كذلك، وغير التي قبلها من أجل تغييره. وفي المخطوطة"متبين عن القول" غير منقوطة، والصواب ما أثبته، أسقط الناسخ"أن"، والسياق دال على ذلك.
(4) قول الحسن هذا، هو ما رواه في الأثر رقم: 11719. وانظر أيضا ما سيأتي ص: 224.(10/219)
فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30)
النار تأكله لم يكن إلا في بني إسرائيل= (1) خطأ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر عن هذا القاتل الذي قَتَل أخاه: أنه أول من سَنَّ القتل. وقد كان، لا شك، القتلُ قبل إسرائيل، فكيف قبل ذريته! فخطأ من القول أن يقال: أول من سن القتل رجلٌ من بني إسرائيل. (2)
وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الصحيح من القول هو قول من قال:"هو ابن آدم لصلبه"، لأنه أولُ من سن القتل، فأوجب الله له من العقوبة ما رَوَينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فطوّعت" فآتتهُ وساعدته عليه. (3)
* * *
وهو"فعَّلت" من"الطوع"، من قول القائل:"طاعني هذا الأمر"، إذا انقاد له.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويله.
فقال بعضهم، معناه: فشجَّعت له نفسه قتل أخيه.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) السياق: وهذا الخبر ... مبين عن أن القول الذي قاله الحسن ... خطأ".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "وخطأ من القول" بالواو، والسياق يقتضي الفاء، كما أثبتها.
(3) في المطبوعة: "فأقامته وساعدته ... "، وفي المخطوطة كما كتبتها، ولكنها غير منقوطة. يقال: "آتيته على هذا الأمر مؤاتاة"، إذا وافقته وطاوعته. قالوا: "والعامة تقول: واتيته. قالوا: ولا تقل: واتيته، إلا في لغة لأهل اليمن. ومثله آسيت، وآكلت، وآمرت= وإنما جعلوها واوًا على تخفيف الهمزة في: يواكل، ويوامر، ونحو ذلك".(10/220)
11742 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ومحمد بن حميد قالا حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه"، قال: شجعت. (1)
11743 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه" قال: فشجعته.
11744 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فطوعت له نفسه قتل أخيه"، قال: شجعته على قتل أخيه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: زيَّنَت له.
ذكر من قال ذلك:
11745 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فطوعت له نفسه"، قال: زينت له نفسه قتلَ أخيه فقَتله.
* * *
ثم اختلفوا في صفة قتله إياه، كيف كانت، والسبب الذي من أجله قتله.
* * *
فقال بعضهم: وجده نائمًا فشدَخ رأسه بصَخرة.
ذكر من قال ذلك:
11746 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبى مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس=
__________
(1) الأثر: 11742-"عنبسة"، هو"عنبسة بن سعيد بن الضريس الأسدي" مضى مرارًا، منها رقم: 224، 3356، 5385.
و"ابن أبي ليلى"، هو"محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى"، مضى مرارًا. رقم: 32، 33، 631، 3914، 5434.
وكان في الإسناد هنا، في المخطوطة والمطبوعة: "عن عنبسة بن أبي ليلى"، وهو خطأ لا شك فيه، وقد مضى هذا الإسناد كثيًرا، انظر مثلا رقم: 631.(10/221)
وعن مرة، عن عبد الله= وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم:"فطوعت له نفسه قتل أخيه" فطلبه ليقتله، فراغ الغلام منه في رءوس الجبال. وأتاه يومًا من الأيام وهو يرعى غنمًا له في جبل، وهو نائم، فرفع صخرة فشدَخ بها رأسه، فمات، فتركه بالعَرَاء.
* * *
وقال بعضهم ما:-
11747 - حدثني محمد بن عمر بن علي قال، سمعتَ أشعث السجستاني يقول: سمعت ابن جريج قال: ابنُ آدم الذي قتل صاحبَه لم يدر كيف يقتله، فتمثَّل إبليس له في هيئة طير، فأخذ طيرًا فقطع رأسه، (1) ثم وضعه بين حجرين فشدَخ رأسه، فعلَّمه القتل.
11748 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قتله حيث يرعَى الغنم، فأتاه فجعل لا يدري كيف يقتله، (2) فلَوَى برقبته وأخذ برأسه، فنزل إبليس وأخذ دابَّةً أو طيرًا، فوضع رأسه على حجرٍ، ثم أخذ حجرًا آخر فرضخ به رأسه، وابنُ آدم القاتلُ ينظر. فأخذ أخاه فوضع رأسه على حجَر، وأخذ حجرًا آخر فرضخ به رأسه.
11749 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا رجل سمع مجاهدًا يقول، فذكر نحوه.
11750 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما أكلت النار قربانَ ابن آدم الذي تُقُبِّل قربانه، قال الآخر لأخيه: أتمشي في الناس وقد علموا أنك قربت قربانًا فتقُبِّل منك، ورُدَّ عليَّ؟ والله لا تنتظر الناس إلي وإليك وأنت خير
__________
(1) في المطبوعة: "فقصع رأسه"، ولا تصح وأثبت ما في المخطوطة. وإنما عني"قطع رأسه"، علمه قطع الرأس في القتل، ثم علمه الشدخ في القتل. صورتان للقتل.
(2) في المطبوعة"فأتى"، وأثبت ما في المخطوطة.(10/222)
مني! فقال:"لأقتلنك"، فقال له أخوه: ما ذنبي؟ "إنما يتقبل الله من المتقين". فخوّفه بالنار، فلم ينته ولم ينزجر="فطوعت له نفسه قتلَ أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين". (1)
11751 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن عثمان بن خثيم، قال: أقبلت مع سعيد بن جبير أرمي الجَمْرة، وهو متقَنّع متوكئٌ على يدي، حتى إذا وازينا بمنزل سَمُرَةَ الصوّاف، (2) وقف يحدثني عن ابن عباس قال: نهى أن ينكح المرأة أخوها تُؤْمها، (3) وينكحها غيره من إخوتها. وكان يولد في كل بطن رجلٌ وامرأة. فوُلدت امرأةٌ وسيمةٌ، وولدت امرأة دميمة قبيحة. فقال أخو الدّميمة: أنكحني أختك وأنكحك أختي. قال: لا أنا أحق بأختي. فقرّبا قربانًا، فتقبل من صاحب الكبش، ولم يتقبل من صاحب الزرع، فقتله. فلم يزل ذلك الكبش محبوسًا عند الله عز وجل حتى أخرجه في فداء إسحاق، فذبحه على هذا الصَّفا في ثَبِير، عند منزل سمرة الصواف، (4) وهو على يمينك حين ترمي الجمار = قال ابن جريج، وقال آخرون بمثل هذه القصة. قال: فلم يزل بنو آدم على ذلك حتى مضى أربعة آباء، فنكح ابنةَ عمه، وذهب نكاح الأخوات. (5)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله عز ذكره قد أخبر عن القاتل أنه قتل أخاه، ولا خبر عندنا يقطع العذر بصفة قتله إياه. وجائزٌ أن يكون على نحو ما قد ذكر السديّ في خبره= وجائزٌ أن يكون كان على
__________
(1) الأثر: 11750- مضى مفرقًا برقم: 11706، 11722.
(2) في المطبوعة والمخطوطة"بمنزل سمرة الصراف" بالراء، وأثبت ما في تاريخ الطبري، ولا أدري ما يكون هذا، فلم أجد موضعًا بهذا الاسم فيما بين يدي من المراجع. و"سمرة الصراف"، اسم رجل. ولم أعرف من يكون.
(3) في تاريخ الطبري: "أن تنكح المرأة أخاها توأمها"، وكان في المطبوعة هنا"توأمها"، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر ما سلف ص: 205، تعليق: 3.
(4) في المطبوعة والمخطوطة"بمنزل سمرة الصراف" بالراء، وأثبت ما في تاريخ الطبري، ولا أدري ما يكون هذا، فلم أجد موضعًا بهذا الاسم فيما بين يدي من المراجع. و"سمرة الصراف"، اسم رجل. ولم أعرف من يكون.
(5) الأثر: 11751- رواه أبو جعفر في تاريخه 1: 69.(10/223)
فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
ما ذكره مجاهد، والله أعلم أيُّ ذلك كان. غير أن القتل قد كان لا شك فيه.
* * *
وأما قوله:"فأصْبَحَ من الخاسرين"، فإن تأويله: فأصبح القاتل أخاه من ابني آدم، من حزب الخاسرين، وهم الذين باعوا آخرتهم بدنياهم، بإيثارهم إياها عليها، فوُكسوا في بيعهم، وغبنوا فيه، وخابوا في صفقتهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز ذكره: {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) }
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا أحدُ الأدلة على أن القول في أمر ابني آدم بخلاف ما رواه عمرو، عن الحسن، (2) لأن الرجلين اللذين وصف الله صفتهما في هذه الآية، لو كانا من بني إسرائيل، لم يجهل القاتلُ دفنَ أخيه ومواراة سوأة أخيه، ولكنهما كانا من ولد آدم لصلبه، ولم يكن القاتلُ منهما أخاه عَلِم سنّة الله في عبادِهِ الموتى، (3) ولم يدر ما يصنع بأخيه المقتول. فذكر أنه كان يحمله على عاتقه حينًا حتى أراحت جيفته، (4) فأحب الله تعريفَه السنة في موتى خلقه، فقيَّض له الغرابين اللذين وصف صفتهما في كتابه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الخاسرين" و"الخسران" فيما سلف ص: 170، تعليق: 4. والمراجع هناك.
(2) يعني الأثر: 11719، وانظر ما سلف أيضًا في ص: 219.
(3) في المخطوطة: "في عاده الموتى"، وفي المطبوعة: "في عادة الموتى"، وهذا كلام لا معنى له، صواب قراءته ما أثبت.
(4) "أراح اللحم"، أنتن وسطعت له ريح خبيثة.(10/224)
ذكر الأخبار عن أهل التأويل بالذي كان من فعل القاتل من ابني آدم بأخيه المقتول، بعد قتله إياه.
11752 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يحيى بن أبي روق الهمداني، عن أبيه، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: مكث يحمل أخاه في جِرابٍ على رقبته سنًة، حتى بعث الله جل وعز الغُرَابين، فرآهما يبحثان، فقال:"أعجزتُ أن أكون مثل هذا الغراب"؟ فدفن أخاه. (1)
11753 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه"، بعث الله جل وعز غرابًا حيًّا، إلى غراب ميت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" الآية.
11754 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما ذكر، عن أبي مالك= وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة، عن عبد الله= وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: لما مات الغلام تَركه بالعراء، ولا يعلم كيف يَدْفن. فبعث الله جل وعزّ غرابين أخوين، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فحفر له ثم حَثا عليه. فلما رآه قال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي"، فهو قول الله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه".
11755 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يبحث"، قال: بعث الله غرابًا حتى
__________
(1) الأثر: 11752-"يحيى بن أبي روق"، هو"يحيى بن عطية بن الحارث الهمداني الكوفي. ضعيف. قال يحيى بن معين"ليس بثقة". مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم 4/2/180 وأبوه"أبو روق" هو"عطية بن الحارث الهمداني"، ثقة، لا بأس به. مضى برقم: 137، 9632.(10/225)
حفر لآخر إلى جنبه ميت= وابن آدم القاتل ينظر إليه= ثم بحث عليه حتى غيَّبه. (1)
11756 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"غرابًا يبحث في الأرض"، حتى حفر لآخر ميت إلى جنبه، فغيّبه، وابن آدم القاتل ينظر إليه، حيث يبحثُ عليه حتى غيبه، فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الآية.
11757 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض"، قال: بعث الله غرابًا إلى غراب، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، فجعل يَحْثِي عليه التراب، (2) فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".
11758 - حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض"، قال: جاء غراب إلى غراب ميّت، فحثَى عليه من التراب حتى واراه، فقال الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الآية.
11759 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: لما قتله ندم، فضَّمه إليه حتى أروح، (3) وعكفت عليه الطير والسباع تنتظر متى يَرْمي به فتأكله.
11760 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) "بحث عليه": يعني حفر التراب عليه وغطاه به.
(2) "حثا عليه التراب يحثوه حثوًا" و"حثى عليه التراب يحثيه حثيًا": هاله. والثاني منهم أعلى من الأول وأفصح. وقد مضت: "حثا"، وستأتي في الآثار التالية: "يحثو"، فأغنانا ذكرها هنا عن ذكرها فيما سلف وما سيأتي.
(3) "أروح اللحم، وأراح". أنتن، وانظر للتعليق السالف ص: 224، تعليق: 4.(10/226)
قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه"، أنه بعثه الله عز ذكره يبحثُ في الأرض، ذكر لنا أنهما غرابان اقتَتَلا فقتل أحدهما صاحبه، وذلك = يعني ابن آدم = ينظر، وجعل الحيّ يَحْثِي على الميت الترابَ، فعند ذلك قال ما قال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب" الآية، إلى قوله:"من النادمين".
11761 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: أما قوله:"فبعث الله غرابًا"، قال: قتل غرابٌ غرابًا، فجعل يحثُو عليه، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه حين رآه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".
11762 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه"، قال: وارى الغراب الغراب. قال: كان يحمله على عاتقه مائة سنة لا يدري ما يصنع به، يحمله ويضعه إلى الأرض، حتى رأى الغراب يدفن الغرابَ، فقال:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".
11763 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلَّى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قول الله:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، قال: بعث الله عزّ وجل غرابًا، فجعل يَبْحَثُ على غراب ميت الترابَ. قال: فقال عند ذلك:"أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين".
11764 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فبعث الله غرابًا يبحث في الأرض"، بعث الله غرابًا حيًّا إلى غراب ميّت، فجعل الغراب الحيُّ يواري سوأة الغراب الميت، فقال ابن آدم الذي قتل أخاه:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الآية.(10/227)
11765 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، فيما يذكر عن بعض أهل العلم بالكتاب الأوّل، قال: لما قتله سُقِط في يديه، ولم يَدْر كيف يواريه. وذلك أنه كان، فيما يزعمون، أوَّل قتيل من بني آدم وأوّل ميت= [قال] :"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي" الآية= [إلى قوله:"ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون"، قال] : (1) ويزعم أهل التوراة أن قابيل حين قتل أخاه هابيل قال له جل ثناؤه: يا قابيل، (2) أين أخوك هابيل؟ قال: ما أدري، ما كنت عليه رقيبًا! فقال الله جل وعز له: إنّ صوت دم أخيك لينادِيني من الأرض، الآن أنت ملعون من الأرضِ التي فتحت فاها فبلعت دم أخيك من يدك. فإذا أنت عملت في الأرض، فإنها لا تعود تعطيك حرثَها حتى تكون فزعًا تائهًا في الأرض. قال قابيل: عظمت خطيئتي من أن تغفرها! (3) قد أخرجتني اليوم عن وجه الأرض، وأتوارى من قُدَّامك، وأكون فزعًا تائهًا في الأرض، وكل من لقيني قتلني! فقال الله جل وعز: ليس ذلك كذلك، ولا يكون كل من قتل قتيلا يجزى بواحدٍ سبعة، ولكن من قتل قابيل يجزي سبعة، (4) وجعل الله في قابيل آية لئلا يقتله كل من وجده، وخرج قابيل من قدام الله عز وجل من شرقي عدن الجنة. (5)
__________
(1) زدت ما بين القوسين من تاريخ الطبري.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "قابيل"، وفي التاريخ مكان"قابيل" في كل موضع"قين"، وانظر ص: 205، تعليق: 3.
(3) في المخطوطة: "قال ومن عظمت خطيئتي"، وصوابها"قال قين: عظمت ... " كما في التاريخ ولكن المخطوطة جرت هنا على أن تضع"قابيل" مكان"قين"، فوضع الناشر الأول للتفسير"قال قابيل" وهو حسن.
(4) كانت هذه الجملة في المطبوعة: "ولا يكون كل قاتل قتيلا يجزي واحدا، ولكن يجزي سبعة" وهي فاسدة كل الفساد، صححتها من تاريخ الطبري، ولكني سرت على نهج المخطوطة في وضع"قابيل" مكان"قين"، فكتبت"من قتل قابيل".
(5) الأثر: 11765- هذا الذي رواه ابن إسحق من قول أهل التوراة، تجده في كتاب القوم في سفر التكوين، في الإصحاح الرابع، وهو ترجمة أخرى لهذه الفقرة من هذا الإصحاح. وانظر ما سلف ص: 183، تعليق: 2.(10/228)
11766 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا الأعمش، عن خيثمة قال: لما قتل ابن آدم أخاه نَشِفت الأرض دمه، فلُعِنت فلم تَنْشَف الأرض دمًا بعدُ. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: فأثار الله للقاتل (2) =إذ لم يدر ما يصنع بأخيه المقتول="غرابًا يبحث في الأرض"، يقول: يحفر في الأرض، فيثير ترابها="ليريه كيف يواري سوأة أخيه"، يقول: ليريه كيف يواري جيفةَ أخيه.
* * *
وقد يحتمل أن يكون عُنِيَ بـ"السوأة"، الفرج، غير أن الأغلب من معناه ما ذكرت من الجيفة، بذلك جاء تأويل أهل التأويل.
* * *
قال أبو جعفر: وفي ذلك محذوفٌ ترك ذكره، استغناء بدلالة ما ذكر منه، وهو:"فأراه بأن بحث في الأرض لغراب آخر ميتٍ فواراه فيها"، فقال القاتل أخاه حينئذ:"يا ويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب"، الذي وارى الغرابَ الآخر الميتَ="فأواري سوأة أخي"، فواراه حينئذ="فأصبح من النادمين"، على ما فرط منه، من معصية الله عز ذكره في قتله أخاه. (3)
* * *
وكل ما ذكر الله عز وجلّ في هذه الآيات، مثلٌ ضربه الله عز ذكره لبني آدم، وحرَّض به المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على استعمال العفوِ والصفح عن اليهود= الذين كانوا هموا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم= من بني النضير، (4) إذ أتوهم يستعينونهم في دية قتيلي عمرو بن أمية الضمري،
__________
(1) "نشفت الأرض الماء تنشفه نشفًا" (على وزن: علم يعلم) : شربته.
(2) انظر تفسير"بعث" فيما سلف 2: 84، 85/5: 457.
(3) في المخطوطة: "في قتله أخيه"، والصواب ما في المطبوعة، أو تكون: "في قتل أخيه".
(4) السياق: " ... عن اليهود ... من بني النضير".(10/229)
وعرَّفهم جل وعز رداءة سجيَّة أوائلهم، (1) وسوء استقامتهم على منهج الحق، مع كثرة أياديه وآلائه عندهم. وضرب مثلهم في غَدْرهم، (2) ومثل المؤمنين في الوفاء لهم والعفو عنهم، بابني آدم المقرِّبَين قرابينهما، (3) اللذين ذكرهما الله في هذه الآيات. ثم ذلك مثلٌ لهم على التأسِّي بالفاضل منهما دون الطالح. (4) وبذلك جاء الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
11767 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، قلت لبكر بن عبد الله، أما بلغك أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال:"إن الله جل وعز ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا خيرَهما ودعوا شرَّهما"؟ قال: بلى.
11768 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ابني آدم ضُرِبا مثلا لهذه الأمة، فخذوا بالخير منهما.
11769 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن الحسن قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرهم ودعوا الشر. (5)
* * *
__________
(1) في المخطوطة هكذا: "ردأ سجه أوائلهم" وغير منقوطة، وما في المطبوعة مقارب للصواب.
(2) في المطبوعة: "في عدوهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "قرا بينهم"، والصواب ما أثبت.
(4) في المخطوطة: "دون الصالح"، وهو خطأ محض. ولعل الأصل: "بالصالح منهما دون الطالح".
(5) الآثار: 11767- 11769- هذه الثلاثة أخبار مرسلة، لم أهتد إلى شيء منها في دواوين السنة.(10/230)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من أجل ذلك"، من جرِّ ذلك وجَريرته وجنايته. يقول: من جرِّ القاتل أخاه من ابني آدم= اللذين اقتصصنا قصتهما= الجريرةَ التي جرَّها، وجنايتِه التي جناها="كتبنا على بني إسرائيل".
* * *
يقال منه:"أجَلْت هذا الأمر"، أي: جررته إليه وكسبته،"آجله له أجْلا"، كقولك:"أخَذْته أخذًا"، ومن ذلك قول الشاعر: (1)
وَأَهْلِ خِبَاءٍ صَالِحٍ ذَاتُ بَيْنِهمْ ... قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أَنَا آجِلُه (2)
__________
(1) نسبه أبو عبيدة في مجاز القرآن فقال: "قال الخنوت، وهو توبة بن مضرس، أحد بني مالك بن سعد بن زيد مناة بن تميم. وإنما سماه الخنوت، الأحنف بن قيس. لأن الأحنف كلمه، فلم يكلمه احتقارًا له، فقال: إن صاحبكم هذا الخنوت! والخنوت: المتجبر الذاهب بنفسه، المستصغر للناس".
و"الخنوت" (بكسر الخاء، ونون مشددة مفتوحة، واو ساكنة) .
وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ص: 68 وقال: "وقتل أخواه ... فأدرك الأخذ بثأرهما ... وجزع على أخويه جزعًا شديدًا، ... وكان لا يزال يبكي أخويه، فطلب إليه الأحنف أن يكف، فأبى، فسماه: الخنوت = وهو الذي يمنعه الغيظ أو البكاء من الكلام".
ونسبه التبريزي في شرح إصلاح المنطق، والشنتمري في شرح ديوان زهير إلى خوات بن جبير الأنصاري صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو الذي يذكر في خبر ذات النحيين.
وألحق بشعر زهير بن أبي سلمى، في ديوانه (شرح الشنتمري) .
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 163 (وفيه مراجع) ، وشرح إصلاح المنطق 1: 14، وشرح شعر زهير للشنتمري: 33، واللسان (أجل) ، وفي رواية لابن برى، في اللسان. وَأَهْل خِبَاء آمِنِين، فَجَعْتُهُمْ ... بِشَيْءٍ عَزِيزٍ عَاجِل أَنَا آجِلُهْ
وَأَقْبَلْتُ أَسْعَى أَسْأَلُ الْقَوْمَ مَالَهُمْ ... سُؤَالَكَ بِالَّشْيءِ الَّذِي أَنْتَ جَاهِلُهْ
ويروى الشطر الأول، من البيت الثاني: فَأَقْبَلَتْ فِي السَّاعِينَ أَسْأَلُ عَنْهُمُ
وفي المخطوطة: "قد اصرموا"، غير منقوطة، والصواب من المراجع.(10/231)
يعني بقوله:"أنا آجله"، أنا الجارُّ ذلك عليه والجانِي.
* * *
فمعنى الكلام: من جناية ابن آدم القاتل أخاه ظلمًا، حكمنا على بني إسرائيل أنه من قتل منهم نفسًا ظلمًا، بغير نفس قتلت، فقتل بها قصاصًا (1) ="أو فساد في الأرض"، يقول: أو قتل منهم نفسًا بغير فسادٍ كان منها في الأرض، فاستحقت بذلك قتلها. و"فسادها في الأرض"، إنما يكون بالحرب لله ولرسوله، وإخافة السبيل. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
11770 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل"، يقول: من أجل ابن آدم الذي قتل أخاه ظلمًا.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله جل ثناؤه:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا".
فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن شدَّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل، فكأنما أحيا الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:
11771 - حدثنا أبو عمار الحسين بن حريث المروزي قال، حدثنا الفضل
__________
(1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: 169، تعليق 1. والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الفساد في الأرض" فيما سلف 1: 287، 406/ 4: 238، 239، 243، 424/ 5: 372/ 6: 477.(10/232)
بن موسى، عن الحسين بن واقد، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا"، قال: من شدّ على عضُد نبيّ أو إمام عدل فكأنما أحيا الناس جميعًا، ومن قتل نبيًّا أو إمام عدل، فكأنما قتل الناس جميعًا. (1)
11772 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، يقول: من قتل نفسًا واحدًة حرَّمتها، فهو مثل من قتل الناس جميعًا="ومن أحياها"، يقول: من ترك قتل نفس واحدة حرمتها مَخَافتي، واستحياها أن يقتلها، فهو مثل استحياء الناس جميعًا= يعني بذلك الأنبياء.
* * *
وقال آخرون:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، عند المقتول في الإثم="ومن أحياها"، فاستنقذها من هلكةٍ="فكأنما أحيى الناس جميعًا"، عند المستنقذ.
ذكر من قال ذلك:
11773 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، فيما ذكر عن أبي مالك= وعن أبي صالح، عن ابن عباس= وعن مرة الهمداني، عن عبد الله= وعن ناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتَلَ
__________
(1) الأثر: 11771-"أبو عمار المروزي"، هو: "الحسين بن حريث بن الحسن بن ثابت". روى عن ابن المبارك، والفضل بن موسى، وابن أبي حازم، وابن عيينة، وغيرهم. روى عنه الجماعة سوى ابن ماجه. ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/389، وابن أبي حاتم 1/2/50.
و"الفضل بن موسى السيناني"، أبو عبد الله المروزي. ثقة ثبت روى له الجماعة. مترجم في التهذيب.
و"الحسين بن واقد المروزي"، مضى برقم: 4810، 6311.(10/233)
الناس جميعًا"، عند المقتول، يقول: في الإثم="ومن أحياها"، فاستنقذها من هلكة="فكأنما أحيى الناس جميعًا"، عند المستنقَذ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن قاتل النفس المحرم قتلُها، يصلى النار كما يصلاها لو قتل الناس جميعًا="ومن أحياها"، من سلم من قتلها، فقد سلم من قتل الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:
11774 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من كف عن قتلها فقد أحياها="ومن قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: ومن أوبقها.
11775 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن خصيف، عن مجاهد قال: من أوبق نفسًا فكما لو قتل الناس جميعًا، ومن أحياها وسلم من ظُلمها فلم يقتلها، (1) فقد سلم من قتل الناس جميعًا.
11776 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن خصيف، عن مجاهد:"فكأنما قتل الناس جميعًا، ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، لم يقتلها، وقد سلم منه الناس جميعًا، لم يقتل أحدًا.
11777 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الأوزاعي قال، أخبرنا عبدة بن أبي لبابة قال: سألت مجاهدًا= أو: سمعته يُسْأل= عن قوله:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: لو قتل الناس جميعًا، كان جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغَضِب
__________
(1) في المطبوعة: "وسلم من طلبها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.(10/234)
الله عليه ولَعنه، وأعد له عذابًا عظيمًا. (1)
11778 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءةً، عن الأعرج، (2) عن مجاهد في قوله:"فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: الذي يقتل النفس المؤمنة متعمدًا، جعل الله جزاءه جهَنّم، وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابًا عظيمًا. يقول: لو قتل الناس جميعًا لم يزد على مثل ذلك من العذاب= قال ابن جريج، قال مجاهد:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" قال: من لم يقتل أحدًا، فقد استراح الناسُ منه.
11779 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد قال: أوبق نفسه. (3)
11780 - حدثنا سفيان قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد قال: في الإثم.
11780 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:"من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، وقوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) [سورة النساء: 93] قال: يصير إلى جهنم بقتل المؤمن، كما أنه لو قتل الناس جميعًا لصار إلى جهنم.
11781 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا" قال: هو كما قال= وقال:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، فإحياؤها: لا يقتل نفسًا حرمها الله، فذلك الذي أحيى الناس جميعًا، يعني: أنه من حرم قتلها إلا بحقٍّ، حَيِي الناس منه جميعًا.
__________
(1) هذا تضمين آية"سورة النساء": 93.
(2) في المطبوعة: "قراءة عن الأعرج"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "أوبق نفسا"، وأثبت ما في المخطوطة.(10/235)
11782 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد:"ومن أحياها"، قال: ومن حرَّمها فلم يقتلها.
11783 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن العلاء قال: سمعت مجاهدًا يقول:"من أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من كف عن قتلها فقد أحياها.
11784 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"فكأنما قتل الناس جميعًا" قال: هي كالتي في"النساء": (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) [سورة النساء: 93] ، في جزائه.
11785 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فكأنما قتل الناس جميعًا" كالتي في"سورة النساء"، (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا) في جزائه="ومن أحياها"، ولم يقتل أحدًا، فقد حيِيَ الناس منه.
11786 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد في قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا"، قال: التفت إلى جلسائه فقال: هو هذا وهذا. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن قتل نفسًا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، لأنه يجب عليه من القِصاص به والقوَد بقتله، مثلُ الذي يجب عليه من القَوَد والقصاص لو قتل الناس جميعًا.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) كأنه يعني بقوله: "هو هذا وهذا"، أن قتل نفس محرمة بغير نفس أو فساد في الأرض قتل للناس جميعًا، وإحياؤها إحياء للناس جميعًا.(10/236)
11787 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا"، قال: يجب عليه من القتل مثلُ لو أنه قتل الناس جميعًا. قال: كان أبي يقول ذلك.
* * *
وقال آخرون معنى قوله:"ومن أحياها": من عفا عمن وجب له القِصَاص منه فلم يقتله.
ذكر من قال ذلك:
11788 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، يقول: من أحياها، أعطاه الله جل وعزّ من الأجر مثلُ لو أنه أحيى الناس جميعًا="أحياها" فلم يقتلها وعفا عنها. قال: وذلك وليّ القتيل، والقتيل نفسه يعفو عنه قبل أن يموت. قال: كان أبي يقول ذلك:
11789 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن في قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من عفا.
11790 - حدثنا سفيان قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من قُتِل حميمٌ له فعفا عن دمه. (1)
11791 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن يونس، عن الحسن."ومن أحياها فكأنما أحيى الناسَ جميعًا"، قال: العفو بعد القدرة.
* * *
__________
(1) "الحميم": ذو القرابة القريب.(10/237)
وقال آخرون: معنى قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، ومن أنجاها من غَرَق أو حَرَقٍ. (1)
ذكر من قال ذلك:
11792 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد:"ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا" قال: من أنجاها من غَرَق أو حرَقٍ أو هَلَكةٍ.
11793 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا هناد قال، حدثنا وكيع= عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، قال: من غرَق أو حَرَق أو هَدَمٍ. (2)
11794 - حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا إسرائيل عن خصيف، عن مجاهد:"ومن أحياها"، قال: أنجاها.
* * *
وقال الضحاك بما:-
11795 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن أبي عامر، عن الضحاك قال:"من قتل نفسًا بغير نفس"، قال: من تورَّع أو لم يتورَّع. (3)
11796 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فكأنما أحيى الناس جميعًا"، يقول: لو لم يقتله لكان قد أحيى الناس، فلم يستحلّ محرَّمًا.
* * *
__________
(1) "الحرق" (بفتحتين) : النار ولهبها، كالحريق. وفي الحديث: "الحرق والغرق والشرق شهادة" (كل ذلك بفتحات) .
(2) "الهدم" (بفتحتين) . وهو البناء المهدوم، وفي حديث الشهداء: "وصاحب الهدم شهادة".
(3) كأنه يعني: من تورع عن قتلها، أو لم يتورع ولكنه لم يقتل، فكأنما أحيى الناس جميعا.(10/238)
وقال قتادة والحسن في ذلك بما:-
11797 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن:"من قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض"، قال: عَظُم ذلك.
11798 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس" الآية، من قتلها على غير نفس ولا فسادٍ أفسدته="فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" عظُم والله أجرُها، وعظُم وزرها! فأحيها يا ابن آدم بما لك، وأحيها بعفوك إن استطعت، ولا قوة إلا بالله. وإنا لا نعلمُه يحل دم رجل مسلمٍ من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث: رجل كفرَ بعد إسلامه، فعليه القتل= أو زنى بعد إحصانه، فعليه الرجم= أو قتل متعمدًا، فعليه القَوَد.
11799 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال: تلا قتادة:"من قتل نفسًا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعًا ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" قال: عظم والله أجرُها، وعظم والله وِزْرها!
11800 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سلاّم بن مسكين قال، حدثني سليمان بن علي الربعي قال: قلت للحسن:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفس" الآية، أهي لنا يا أبا سعيد، كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال: إِي والذي لا إله غيره، كما كانت لبني إسرائيل! وما جعل دماءَ بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا؟ (1)
11801 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن
__________
(1) الأثر: 11800-"سلام بن مسكين بن ربيعة الأزدي"، "أبو روح"، ثقة. مضى برقم: 692.
و"سليمان" بن علي الربعي الأزدي". ثقة. مترجم في التهذيب.(10/239)
المبارك، عن سعيد بن زيد قال: سمعت خالدًا أبا الفضل قال: سمعت الحسن تلا هذه الآية:"فطوَّعت له نفسه قتل أخيه" إلى قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا"، ثم قال: عظَّم والله في الوزر كما تسمعون، ورغَّب والله في الأجر كما تسمعون! إذا ظننت يا ابن آدم، أنك لو قتلت الناس جميعًا، فإن لك من عملك ما تفوز به من النار، كذَبَتْك والله نفسك، وكذَبَك الشيطان. (1)
11802 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن عاصم، عن الحسن في قوله:"فكأنما قتل الناس جميعًا" قال: وِزْرًا="ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" قال: أجرًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: تأويل
__________
(1) الأثر: 11801-"سعيد بن زيد بن درهم الأزدي"، أخو: حماد بن زيد. تكلموا فيه، ووثقوه فقالوا: "صدوق حافظ"، وأعدل ما قيل فيه ما قاله ابن حبان: "كان صدوقا حافظًا، ممن كان يخطئ في الأخبار ويهم، حتى لا يحتج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/432، وابن أبي حاتم 2/1/21.
و"خالد، أبو الفضل". قال البخاري في الكبير 2/1/153: "خالد بن أبي الفضل، سمع الحسن. روى عنه سعيد بن زيد قوله ... وكنيته خالد بن رباح أبا الفضل، فلا أدري هو ذا أم لا"؟ كأن البخاري يعني هذا الأثر.
ثم ترجم"خالد بن رباح الهذلي" 2/1/136، وقال: "سمع منه وكيع"، ولم يذكر"سعيد بن زيد". وقال: "قال يزيد بن هرون، أخبرنا خالد بن رباح أبو الفضل".
وأما ابن أبي حاتم فقد ترجم في الجرح والتعديل 1/2/346: "خالد بن الفضل. روي عن الحسن. روى عنه سعيد بن زيد. سمعت أبي يقول ذلك".
ثم ترجم في 1/2/330. و"خالد بن رباح الهذلي، أبو الفضل ... روى عن الحسن...."، ولم يذكر في الرواه عنه"سعيد بن زيد".
وترجم له الحافظ ابن حجر في تعجيل المنفعة: 112، وفي لسان الميزان 2: 374، "خالد بن رباح الهذلي، أبو الفضل البصري"، ونقل عن ابن حبان في الضعفاء أن كنيته"أبو الفضل" ثم قال: "ولما ذكره في الطبقة الثالثة من الثقات قال: خالد بن رباح أبو الفضل، يروي عن الحسن. روى عنه سعيد بن زيد". قال ابن حجر: "فما أدري، ظنه آخر، أو تناقض فيه؟ ".
أما ترجمته في لسان الميزان، فلم يذكر كنيته هناك، ونقل بعض ما جاء في تعجيل المنفعة.
والظاهر أن"خالدًا أبا الفضل"، هو"خالد بن رباح الهذلي" نفسه، وأن ما جاء في ابن أبي حاتم"خالد بن الفضل" خطأ أو وهم. والظاهر أيضًا أنه توقف في أمر"خالد بن أبي الفضل"، ورجح أن يكون خطأ من الرواة، وأن الراوية"خالد أبو الفضل". وهو"خالد بن رباح الهذلي" نفسه.(10/240)
ذلك: أنه من قتل نفسًا مؤمنة بغير نفس قَتَلتها فاستحقت القَوَد بها والقتل قِصاصًا= أو بغير فساد في الأرض، بحرب الله ورسوله وحرب المؤمنين فيها= فكأنما قتل الناس جميعًا فيما استوجب من عظيم العقوبة من الله جل ثناؤه، كما أوعده ذلك من فعله ربُّه بقوله: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) [سورة النساء: 93] .
* * *
وأما قوله:"ومن أحياها فكأنما أحيى الناس جميعًا" فأولى التأويلات به، قول من قال: من حرّم قتل من حرّم الله عز ذكره قتله على نفسه، فلم يتقدّم على قتله، فقد حيى الناس منه بسلامتهم منه، وذلك إحياؤه إياها. وذلك نظير خبر الله عز ذكره عمن حاجّ إبراهيم في ربّه إذ قال له إبراهيم: (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [سورة البقرة: 258] . فكان معنى الكافر في قيله:"أنا أحيي"، (1) أنا أترك من قَدَرت على قتله- وفي قوله:"وأميت"، قتله من قتله. (2) فكذلك معنى"الإحياء" في قوله:"ومن أحياها"، من سلِمَ الناس من قتله إياهم، إلا فيما أذن الله في قتله منهم="فكأنما أحيى الناس جميعًا".
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بتأويل الآية، لأنه لا نفسَ يقومُ قتلُها في عاجل الضُّرّ مقام قتل جميع النفوس، ولا إحياؤها مقامَ إحياء جميع النفوس في عاجل النفع. فكان معلومًا بذلك أن معنى"الإحياء": سلامة جميع النفوس منه، لأنه من لم يتقدم على نفس واحدة، فقد سلم منه جميع النفوس- وأن الواحدة منها التي يقوم قتلُها مقام جميعها إنما هو في الوِزْر، لأنه لا نفس من نفوس بني آدم يقوم فقدها مقام فقد جميعها، وإن كان فقد بعضها أعمّ ضررًا من فقد بعض. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة هنا: "أنا أحيي وأميت" ولا شك أن قوله: "وأميت" تكرار، فتركته.
(2) انظر ما سلف: 5: 432.
(3) انظر تفسير"الإحياء" فيما سلف 5: 432، وما بعدها.(10/241)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) }
قال أبو جعفر: وهذا قسم من الله جل ثناؤه أقسم به: أن رسله صلوات الله عليهم قد أتت بني إسرائيل الذين قصَّ الله قَصَصهم وذكر نبأهم في الآيات التي تقدَّمت، من قوله:"يا أيُّها الذين آمنوا اذكروا نعمةَ الله عليكم إذ همَّ قوم أن يبسُطوا إليكم أيديهم" إلى هذا الموضع="بالبينات"، يعني: بالآيات الواضحة والحجج البيِّنة على حقيقة ما أرسلوا به إليهم، (1) وصحة ما دعوهم إليه من الإيمان بهم، وأداء فرائضِ الله عليهم.
=يقول الله عز ذكره:"ثم إن كثيًرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون"، يعني: أن كثيرًا من بني إسرائيل.
* * *
=و"الهاء والميم" في قوله:"ثم إن كثيرًا منهم"، من ذكر بني إسرائيل، وكذلك ذلك في قوله:"ولقد جاءتهم".
* * *
="بعد ذلك"، يعني: بعد مجيء رسل الله بالبينات (2) .
="في الأرض لمسرفون"، يعني: أنهم في الأرض لعاملون بمعاصي الله، ومخالفون أمر الله ونهيه، ومحادُّو الله ورسله، باتباعهم أهواءَهم. وخلافهم على أنبيائهم، وذلك كان إسرافهم في الأرض. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "على حقية"، فعل بما كان في المخطوطة، كما فعل بأخواتها من قبل، انظر ما سلف، كما أشرت إليه في ص: 19، تعليق: 3، والمراجع السابقة هناك.
(2) انظر تفسير"البينات" فيما سلف 9: 360، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"الإسراف" فيما سلف 7: 272، 579.(10/242)
إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرْضِ فَسَادًا}
قال أبو جعفر: وهذا بيان من الله عز ذكره عن حكم"الفساد في الأرض"، الذي ذكره في قوله:"من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسًا بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض"= أعلم عباده: ما الذي يستحق المفسدُ في الأرض من العقوبة والنكال، فقال تبارك وتعالى: لا جزاء له في الدنيا إلا القتلُ، والصلب، وقطعُ اليد والرِّجل من خلافٍ، أو النفي من الأرضِ، خزيًا لهم. وأما في الآخرة إن لم يتبْ في الدنيا، فعذاب عظيم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في قوم مِن أهل الكتاب كانوا أهل مودَاعةٍ لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فنقضوا العهد، وأفسدوا في الأرض، فعرَّف الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم الحكمَ فيهم.
ذكر من قال ذلك:
11803 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادًا"، قال: كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهدٌ وميثاق، فنقضوا العهدَ وأفسدوا في الأرض، فخيَّرَ الله رسوله: إن شاء أن يقتل، وإن شاء أن يقطع أيديهم وأرجلهم من خِلافٍ.
11804 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: كان قوم بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ميثاقٌ، فنقضوا العهد وقطعوا السبيل، وأفسدوا في الأرض، فخيَّر الله جل(10/243)
وعز نبيَّه صلى الله عليه وسلم فيهم، فإن شاء قتل، وإن شاء صَلَب، وإن شاء قطع أيديهم وأرجلهم من خلاف.
11805 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه.
* * *
وقال آخرون: نزلت في قوم من المشركين.
ذكر من قال ذلك:
11806 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد، عن عكرمة والحسن البصري قالا قال:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى "أن الله غفور رحيم"، نزلت هذه الآية في المشركين، فمن تاب منهم من قبل أن تقدِروا عليه لم يكن عليه سبيل. وليست تُحْرِزُ هذه الآية الرجلَ المسلم من الحدِّ. إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله، ثم لحق بالكفار قبل أن يُقْدَر عليه، لم يمنعه ذلك أن يقام فيه الحدُّ الذي أصاب. (1)
11807 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن أشعث، عن الحسن:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"، قال: نزلت في أهل الشرك.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في قوم من عُرَيْنه وعُكْل، ارتدُّوا عن الإسلام، وحارَبوا الله ورسوله.
[ذكر من قال ذلك] :
11808 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا سعيد
__________
(1) الأثر: 11806-"يزيد" هو"يزيد النحوي"، "يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي" مضى برقم: 6311. وكان في المطبوعة هنا: "زيد"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة. وأخرجه النسائي في سننه 7: 101 بمثله. وأبو داود في سننه 4: 187، رقم 4372، وسيأتي برقم: 11872.(10/244)
بن أبي عروبة، عن قتادة، عن أنس: أن رهطًا من عُكْلٍ وعُرَينة، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا أهل ضَرْع، ولم نكن أهل ريفٍ، (1) وإنا استوخمنا المدينة، (2) فأمر لهم النبي صلى الله عليه وسلم بِذَوْدٍ وراعٍ، (3) وأمرهم أن يخرجوا فيها فيشربوا من ألبانها وأبوالها، فقتلوا راعيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستاقوا الذود، وكفروا بعد إسلامهم. فأتيَ بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلهم، وَسَمل أعينهم، (4) وتركهم في الحرَّة حتى ماتوا (5) = فذُكر لنا أن هذه الآية نزلت فيهم:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله". (6)
11809 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا روح قال، حدثنا هشام بن أبي عبد الله، عن قتادة، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بمثل هذه القصة. (7)
11810 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبى يقول:
__________
(1) "أهل ضرع": أهل إبل وشاء. و"الضرع"، ثدي كل ذات خف أو ظلف، يعني أنهم أهل بادية= و"أهل ريف": أهل زرع وحرث، وهم الحضر. و"الريف"، ما قارب الماء من أرض العرب وغيرها.
(2) "استوخموا المدينة": استثقلوها، ولم يوافق هواؤها أبدانهم، فمرضوا.
(3) "الذود": القطيع من الإبل، من الثلاث إلى التسع.
(4) "سمل عينه": فقأها بحديدة محماة، أو بشوك، أو ما شابه ذلك. وإنما فعل بهم ذلك، لأنهم فعلوا بالرعاة مثله، فجازاهم على صنيعه بمثله.
(5) "الحرة" (بفتح الحاء) : أرض ذات حجارة سود نخرات، كأنها أحرقت بالنار. ومدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حرتين.
(6) الأثران: 11808، 11809-"روح بن عباة القيسي"، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 3015، 3355، 3912.
و"هشام بن أبي عبد الله" في الأثر الثاني هو"الدستوائي".
وهذا حديث صحيح، رواه أحمد من طرق في مسنده 3: 163، من طريق معمر، عن قتادة/ و170، من طريق سعيد عن قتادة/ و233، من طريق سعيد أيضا/ و287 من طريق حماد، عن قتادة/ و290 من طريق عفان عن قتادة. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 351) من طريق عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، بمثله. وأشار إليه مسلم في صحيحه 11: 157. وأبو داود في سننه 4: 186، رقم 4368، من طريق هشام، عن قتادة، والنسائي في سننه من طرق 7: 97، والبيهقي في السنن 8: 62.
(7) الأثران: 11808، 11809-"روح بن عباة القيسي"، ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. مضى برقم: 3015، 3355، 3912.
و"هشام بن أبي عبد الله" في الأثر الثاني هو"الدستوائي".
وهذا حديث صحيح، رواه أحمد من طرق في مسنده 3: 163، من طريق معمر، عن قتادة/ و170، من طريق سعيد عن قتادة/ و233، من طريق سعيد أيضا/ و287 من طريق حماد، عن قتادة/ و290 من طريق عفان عن قتادة. ورواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 351) من طريق عبد الأعلى بن حماد، عن يزيد بن زريع، عن سعيد، بمثله. وأشار إليه مسلم في صحيحه 11: 157. وأبو داود في سننه 4: 186، رقم 4368، من طريق هشام، عن قتادة، والنسائي في سننه من طرق 7: 97، والبيهقي في السنن 8: 62.(10/245)
أخبرنا أبو حمزة، عن عبد الكريم= وسئل عن أبوال الإبل= فقال: حدثني سعيد بن جبير عن المحاربين فقال: كان ناس أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: نبايعك على الإسلام! فبايعوه وهم كَذَبة، وليس الإسلامَ يريدون. ثم قالوا: إنا نجتوي المدينة! (1) فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذه اللَّقاح تغدو عليكم وتروح، (2) فاشربوا من أبوالها وألبانها. قال: فبينا هم كذلك، إذ جاء الصريخُ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، (3) فقال: قتلوا الراعي، وساقوا النَّعَم! فأمر نبي الله فنودي في الناس: أنْ"يا خيل الله اركبي"! (4) قال: فركبوا، لا ينتظر فارسٌ فارسًا. قال: فركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم، فلم يزالوا يطلبونهم حتى أدخلوهم مأمنَهم، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" الآية. قال: فكان نفيُهم: أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنَهم وأرضهم، ونفوهم من أرض المسلمين. وقتل نبي الله منهم، وصلب وقَطَع، وَسَمل الأعين. قال: فما مثَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلُ ولا بعدُ. قال: ونهَى عن المُثْلة، وقال: لا تمثِّلوا بشيء. قال: فكان أنس بن مالك يقول ذلك، غير أنه قال: أحرقهم بالنار بعد ما قتلهم. (5)
* * *
__________
(1) "اجتوى الأرض والبلد": إذا كره المقام فيه، وإن كانت موافقة له في بدنه. ويقال: "الاجتواء": أن لا تستمرئ الطعام بالأرض والشراب، غير أنك إذ أحببت المقام بها ولم يوافقك طعامها، فأنت"مستوبل"، ولست بمجتو. ويقال في شرح حديث العرنيين: أصابهم"الجوى"، وهو المرض وداء الجوف إذا تطاول.
(2) "اللقاح" (بكسر اللام) جمع"لقحة" (بكسر فسكون) ، وهي ذوات الألبان من النوق.
(3) "الصريخ" و"الصارخ": المستغيث. وقوله: "صرخ إلى رسول الله"، كأنه يعني: انتهى باستغاثته إلى رسول الله. وهو تعبير قلما تظفر به في المراجع فقيده.
(4) قال ابن الأثير: "هذا على حذف المضاف، أراد: يا فرسان خيل الله اركبي، وهذا من أحسن المحازات وألطفها"، وهي في التنزيل: "وأجلب عليهم بخيلك ورجلك"، أي بفرسانك ورجالتك.
(5) الأثر: 11810-"أبو حمزة"، هو"ميمون، أبو حمزة الأعور القصاب"، ضعيف جدا، مضى برقم: 6190.
و"عبد الكريم"، هو"عبد الكريم بن مالك الجزري: " أبو سعيد، ثقة، روى له الجماعة، مضى برقم: 892.(10/246)
قال: وبعضهم يقول: هم ناس من بني سليم، ومنهم من عرينة، وناس من بَجيلة
[ذكر من قال ذلك] :
11811 - حدثني محمد بن خلف قال، حدثنا الحسن بن حماد، عن عمرو بن هاشم، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن إبراهيم، عن جرير قال: قَدِم على النبي صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة، حفاةً مضرورين، (1) فأمر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2) فلما صَحُّوا واشتدُّوا، قتلوا رِعاءَ اللقاح، (3) ثم خرجوا باللِّقاح عامدين بها إلى أرض قومهم. قال جرير: فبعثني رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نفر من المسلمين حتى أدركناهم بعد ما أشرَفُوا على بلاد قومهم، فقدِمنا بهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقطع أيديهم وأرجلَهم من خلاف، وسملَ أعينهم، وجعلوا يقولون:"الماء"! ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"النار"! حتى هلكوا. قال: وكره الله عز وجلَ سَمْل الأعين، فأنزل هذه الآية:"إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله" إلى آخر الآية. (4)
__________
(1) "المضرور" و"الضرير": المريض المهزول الذي أصابه الضر.
(2) يعني بقوله: "فأمر بهم"، يعني: أمر ان يمرضوا ويعتني بأمرهم.
(3) "الرعاء" و"الرعاة" جمع"راع".
(4) الأثر: 11811-"محمد بن خلف بن عمار العسقلاني"، شيخ الطبري، مضى برقم: 126، 6534.
و"الحسن بن حماد بن كسيب الحضرمي"، وهو"سجادة". روي عن حفص بن غياث ويحيى بن سعيد الأموي، وأبي خالد الأحمر، وأبي مالك الجنبي، ووكيع، وغيرهم. روى عنه أبو داود، وابن ماجه وغيرهم. ثقة. قال أحمد: "صاحب سنة، ما بلغني عنه إلا خيرًا". توفى سنة 241. وكان في المطبوعة: "الحسن بن هناد"، خطأ، صوابه في المخطوطة. وتفسير ابن كثير.
و"عمرو بن هاشم"، هو"أبو مالك الجنبي"، صدوق يخطئ، لينوه. مضى برقم: 1530
و"موسى عبيدة بن نشيط الربذي" ضعيف نمرة، قال أحمد: "لا تحل الرواية عندي عن موسى بن عبيدة". مضى برقم: 1875، 3291، 8361، 11134= وكان في المطبوعة والمخطوطة: "موسى بن عبيد"، وهو خطأ، صوابه من تفسير ابن كثير.
وأما "محمد بن إبراهيم"، فكأنه"محمد بن إبراهيم بن الحارث بن خالد التيمي"، رأى سعد بن أبي وقاص، وأبا سعيد الخدري، وأرسل عن ابن عمر وابن عباس. فلا أدري أسمع من جرير بن عبد الله، أم لا. وجرير مات سنة 51.
وهذا الخبر ضعيف جدا، وهو أيضا لا يصح، لأن جرير بن عبد الله البجلي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم في العام الذي توفى فيه، وخبر العرنيين كان في شوال سنة ست، في رواية الواقدي (ابن سعد2/1/67) ، وكان أمير السرية كرز بن جابر الفهري. وذلك قبل وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول سنة 11 من الهجرة، بأعوام.
وهذا الخبر، ذكره الحافظ ابن حجر، في ترجمة"جرير بن عبد الله البجلي"، وضعفه جدا. أما ابن كثير، فذكره في تفسيره 3: 139، وقال: "هذا حديث غريب، وفي إسناده الربذي، وهو ضعيف. وفي إسناده فائدة: وهو ذكر أمير هذه السرية. وهو جرير بن عبد الله البجلي. وتقدم في صحيح مسلم أن هذه السرية كانوا عشرين فارسًا من الأنصار. وأما قوله: فكره الله سمل الأعين، فإنه منكر. وقد تقدم في صحيح مسلم أنهم سملوا أعين الرعاء، فكان ما فعل بهم قصاصًا، والله أعلم".
والعجب لابن كثير، يظن فائدة فيما لا فائدة فيه، فإن أمير هذه السرية، كان، ولا شك، كرز ابن جابر الفهري، ولم يرو أحد أن أميرها كان جرير بن عبد الله البجلي، إلا في هذا الخبر المنكر.(10/247)
11812 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن لهيعة، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن، عن عروة بن الزبير= ح، وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، وسعيد بن عبد الرحمن وابن سمعان، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: أغار ناس من عرينة على لِقَاح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاستاقوها وقتلوا غلامًا له فيها، فبعث في آثارهم، فأخِذوا، فقطع أيديهم وأرجلهم وَسَمل أعينهم. (1)
__________
(1) الأثر: 11812-"أبو الأسود"، "محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي"، هو"يتيم عروة" ثقة. سلف برقم: 2891، 11510.
"يحيى بن عبد الله بن سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب"، ثقة، مستقيم الحديث. مترجم في التهذيب.
و"سعيد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حميل الجمحي"، قاضي بغداد. ثقة، قال أحمد: "ليس به بأس، وحديثه مقارب". وقال ابن أبي عدي: "له غرائب حسان، وأرجو أنها مستقيمة، وإنما يهم في الشيء بعد الشيء، فيرفع موقوفًا، ويصل مرسلا، لا عن تعمد". مترجم في التهذيب.
و"ابن سمعان"، هو"عبد الله بن سليمان بن سمعان المخزومي"، وهو ضعيف كذاب. سئل مالك عنه فقال: "كذاب". وقال هشام بن عروة (الذي روى عنه هذا الأثر هنا) : "حدث عني بأحاديث، والله ما حدثته بها، ولقد كذب علي". وقد أجمعوا على أنه لا يكتب حديثه، كما قال النسائي.
قال ابن عدي: "أروى الناس عنه ابن وهب، والضعف على حديثه ورواياته بين". أما ابن وهب الراوي عنه هنا، فقد سأله عنه أحمد بن صالح فقال: "ما كان مالك يقول في ابن سمعان؟ "، قال: "لا يقبل قول بعضهم في بعض".
وهذا الخبر الذي رواه الطبري بهذا الإسناد، صحيح، إلا ما كان من ضعف ابن سمعان وتركه، ولذلك رواه النسائي في سننه 7: 99، 100، فساق إسناد الطبري ولكنه أغفل ذكر ابن سمعان فقال: "أخبرنا أحمد بن عمرو بن السرح قال، أنبأنا ابن وهب قال. وأخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم وسعيد بن عبد الرحمن، وذكر آخر، عن هشام بن عروة، عن عروة بن الزبير"، فنكر ذكر"ابن سمعان"، لأنه متروك عنده.
وهذا الخبر روي بأسانيد صحاح أخرى مرفوعا إلى عائشة. انظر السنن للنسائي 7: 99.(10/248)