9089 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني جرير بن حازم: أن سليمان بن مهران حدّثه، عن إبراهيم بن يزيد، عن همام بن الحارث: أن النعمان بن عبد الله بن مقرّن، سأل عبد الله بن مسعود فقال: أَمَتي زنت؟ فقال: اجلدها خمسين جلدة. قال: إنها لم تُحصِن! فقال ابنُ مسعود: إحصانُها إسلامها.
9090 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم: أن النعمان بن مقرّن سأل ابن مسعود عن أَمةٍ زنتْ وليس لها زوج، فقال: إسلامها إحصانها. (1)
9091 - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم: أن النعمان قال: قلت لابن مسعود: أَمتي زنت؟ قال: اجلدها. قلت: فإنها لم تُحصن! قال: إحصانها إسلامها.
9092 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن علقمة قال، كان عبد الله يقول: إحصانها إسلامها.
9093 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه تلا هذه الآية:"فإذا أحصن" قال، يقول: إذا أسلمن.
9094 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن
__________
(1) الأثران 9089 -9090 - في الإسناد الأول: "إبراهيم بن يزيد" هو: إبراهيم النخعي. و"همام بن الحارث النخعي"، ثقة، كان من العباد، وكان لا ينام إلا قاعدًا. روى عن ابن مسعود.
وذكر في الإسناد الأول: "النعمان بن عبد الله بن مقرن"، هكذا في المخطوطة والمطبوعة، ولم أجد لهذا الاسم ذكرًا في الكتب، وسيأتي في الأثر الذي يليه: "النعمان بن مقرن"، وقد اختلف في"النعمان بن مقرن" فقيل: "النعمان بن عمرو بن مقرن"، وقيل هما رجلان، وذلك مفصل في كتب الرجال، ولم يذكر أحد منهم"النعمان بن عبد الله بن مقرن".
هذا، وقد روى هذا الأثر، البيهقي في السنن الكبرى 8: 243، وزاد الأمر إشكالا، فرواه من حديث إبراهيم النخعي، عن همام بن الحارث، عن عمرو بن شرحييل: أن معقل بن مقرن أتى عبد الله بن مسعود = ولم أستطع أن أقطع بشيء في هذا الاضطراب.(8/200)
أشعث، عن الشعبي قال، قال عبد الله: الأمة إحصانها إسلامها.
9095 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، مغيرة، أخبرنا عن إبراهيم أنه كان يقول:"فإذا أحصن"، يقول: إذا أسلمن.
9096 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن أشعث، عن الشعبي قال، الإحصان الإسلام.
9097 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن برد بن سنان، عن الزهري قال: جلد عمر رضي الله عنه ولائد أبكارًا من ولائد الإمارة في الزنا. (1)
9098 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإذا أحصنّ"، يقول: إذا أسلمن.
9099 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن سالم والقاسم قالا إحصانها إسلامها وعفافها في قوله:"فإذا أحصن".
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"فإذا أحصن"، فإذا تزوّجن.
*ذكر من قال ذلك:
9100 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فإذا أحصن"، يعني: إذا تزوّجن حرًّا.
9101 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال،
__________
(1) الأثر: 9097 -"برد بن سنان الشامي، مولى قريش" صاحب مكحول. روى عن عطاء بن أبي رباح، والزهري، ونافع مولى ابن عمر، وغيرهم. كان صدوقًا في الحديث. مترجم في التهذيب.
وقوله: "من ولائد الإمارة"، في المخطوطة كتب"الإمارة" في الهامش، وكان قد ضرب على الكلمة في صلب الكلام. ولعله يعني: ولائد من السبي.(8/201)
أخبرنا حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) . يقول: إذا تزوجن.
9102 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عكرمة: أن ابن عباس كان يقرأ:"فإذا أحصن"، يقول: تزوجن.
9103 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثا، عن مجاهد قال: إحصان الأمة أن ينكحها الحرّ، وإحصان العبد أن ينكح الحرّة.
9104 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة: أنه سمع سعيد بن جبير يقول: لا تُضرب الأمةُ إذا زنتْ، ما لم تتزوّج.
9105 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: عن الحسن في قوله:"فإذا أحصن". قال: أحصنتهن البُعُولة.
9106 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإذا أحصن"، قال: أحصنتهن البعولة.
9107 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عياض بن عبد الله، عن أبي الزناد: أن الشعبي أخبره، أن ابن عباس أخبره: أنه أصاب جاريةً له قد كانت زَنتْ، وقال: أحصنتها. (1)
* * *
قال أبو جعفر وهذا التأويل على قراءة من قرأ: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بضم"الألف"، وعلى تأويل من قرأ: (فَإِذَا أُحْصِنَّ) بفتحها. وقد بينا الصّواب من القول والقراءة في ذلك عندنا. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "قال: حصنتها".
(2) انظر ما سلف: 195، 196 / ثم: 199.(8/202)
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فإن أتين بفاحشة"، فإن أتت فتياتكم - وهنّ إماؤكم - بعد ما أحصَنّ بإسلام، أو أحْصِنّ بنكاح (1) ="بفاحشة"، وهي الزنا (2) ="فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب"، يقول: فعليهن نصف ما على الحرائر من الحدّ، إذا هنّ زَنين قبل الإحصان بالأزواج.
* * *
و"العذاب" الذي ذكره الله تبارك وتعالى في هذا الموضع، هو الحدّ، وذلك النصف الذي جعله الله عذابًا لمن أتى بالفاحشة من الإماء إذا هن أحصن: خمسون جلدة، ونَفي ستة أشهر، وذلك نصف عام. لأنّ الواجب على الحرة إذا هي أتت بفاحشة قبل الإحصان بالزوج، جلد مئة ونفي حَوْلٍ. فالنصف من ذلك خمسون جلدة، ونفي نصف سنة. وذلك الذي جعله الله عذابًا للإماء المحصنات إذا هن أتين بفاحشة، كما:-
9108 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فعليهن نصف ما على المحصنات من العذاب"........... (3)
__________
(1) انظر تفسير"أتى بالفاحشة" فيما سلف: 73، 81.
(2) انظر تفسير"الفاحشة" فيما سلف: 3: 303 / 5: 571 / 7: 218 / 8: 73، 115، 116.
(3) الأثر: 9108 - هذا الأثر مبتور في المخطوطة والمطبوعة، وإن كان قد ساقه كأنه غير مبتور، فلذلك وضعت هذه النقط للدلالة على الخرم. ولم أجده في مكان آخر.(8/203)
9109 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فإن أتين بفاحشة فعليهن نصفُ ما على المحصنات من العذاب"، خمسون جلدةً، ولا نَفي ولا رَجمَ.
* * *
فإن قال قائل: وكيف [قيل] (1) "فعليهن نصفُ ما على المحصنات من العذاب"؟. وهل يكون الجلدُ على أحد؟
قيل: إن معنى ذلك: فلازمُ أبدانهنّ أن تجلد نصف ما يَلزم أبدان المحصنات، كما يقال:"عليّ صلاةُ يوم"، بمعنى: لازم عليّ أن أصلي صلاة يوم (2) = و"عليّ الحج والصيام"، مثل ذلك. وكذلك:"عليه الحدّ"، بمعنى لازم له إمكان نفسه من الحدّ ليقام عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا الذي أبَحْتُ = أيها الناس، (3) من نكاح فتياتكم المؤمنات لمن لا يستطيع منكم طَوْلا لنكاح المحصنات المؤمنات = أبحته لمن خشي العنت منكم، دون غيره ممن لا يخشى العنت.
* * *
واختلف أهل التأويل في هذا الموضع.
فقال بعضهم: هو الزنا.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الزيادة بين القوسين، لا بد منها، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة.
(2) في المخطوطة: "لازم إلى أن أصلي"، والصواب ما في المطبوعة.
(3) انظر تفسير"ذلك" بمعنى"هذا" فيما سلف 1: 225-227 / 3: 335 / 6: 466.(8/204)
9110 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد قوله:"لمن خشي العنت منكم"، قال: الزنا.
9111 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن العوام، عمن حدثه، عن ابن عباس أنه قال: ما ازْلَحَفَّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا. (1)
9112 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: العنتُ الزنا.
9113 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبيد بن يحيى قال، حدثنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: العنت الزنا.
9114 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قال: ما ازْلَحَفَّ ناكح الأمة عن الزنا إلا قليلا"ذلك لمن خشي العنتَ منكم".
9115 - حدثنا أبو سلمة قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير نحوه. (2)
9116 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"ذلك لمن خشي العنت منكم"، قال: الزنا.
9117 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي حماد قال، حدثنا فضيل، عن عطية العوفي مثله.
__________
(1) الأثر: 9111 - ذكر هذا الأثر صاحب اللسان في (زحلف) و (زلحف) ، وقال في: "ازحلف" إنه على القلب من"ازلحف" على وزن"اقشعر" وقراءتهما بسكون الزاي، وفتح اللام والحاء، والفاء المشددة. وقوله: "ازلحف" أي: تنحى وتباعد، شيئًا قليلا. وتمام الأثر في اللسان: "لأن الله عز وجل يقول: وأن تصبروا خير لكم". وانظر الأثر التالي رقم: 9114.
(2) الأثر: 9115 -"أبو سلمة"، لم أعرف من يكون في شيوخ أبي جعفر.(8/205)
9118 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لمن خشي العنت منكم"، قال: الزنا.
119 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبيدة، عن الشعبي = وجويبر، عن الضحاك = قالا العنت الزنا.
9120 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية:"ذلك لمن خشي العنت منكم"، قال: العنت الزنا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: العقوبة التي تُعْنِته، وهي الحدّ.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله:"ذلك لمن خشي العنت منكم"، ذلك لمن خاف منكم ضررًا في دينه وَبَدنِه.
* * *
قال أبو جعفر: وذلك أن"العنت" هو ما ضرّ الرجل. يقال منه:"قد عَنِتَ فلان فهو يَعْنَتُ عَنتًا"، إذا أتى ما يَضرّه في دين أو دنيا، ومنه قول الله تبارك وتعالى: (وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ) [سورة آل عمران: 118] . ويقال:"قد أعنتني فلان فهو يُعنِتني"، إذا نالني بمضرة. وقد قيل:"العنت"، الهلاك. (1)
* * *
=فالذين وجهوا تأويل ذلك إلى الزنا، قالوا: الزنا ضَرَرٌ في الدين، وهو من العنت.
=والذين وجّهوه إلي الإثم، قالوا: الآثام كلها ضرر في الدين، وهي من العنت.
= والذين وجهوه إلى العقوبة التي تعنته في بدنه من الحدّ، فإنهم قالوا: الحد مضرة على بدن المحدود في دنياه، وهو من العنت.
__________
(1) انظر تفسير العنت فيما سلف 4: 360 / 7: 140.(8/206)
وقد عمّ الله بقوله:"لمن خشي العنت منكم"، جميعَ معاني العنت. ويجمع جميعَ ذلك الزّنا، لأنه يوجب العقوبةَ على صاحبه في الدنيا بما يُعنت بدنه، ويكتسب به إثمًا ومضرّة في دينه ودنياه. وقد اتفق أهلُ التأويل الذي هم أهله، على أن ذلك معناه. فهو وإن كان في عينه لذةً وقضاءَ شهوة، فإنه بأدائه إلى العنت، منسوبٌ إليه موصوف به، إن كان للعنت سببًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"وأنْ تصبروا"، أيها الناس، عن نكاح الإماء ="خير لكم" ="والله غفور" لكم نكاحَ الإماء أنْ تنكحوهن على ما أحلّ لكم وأذن لكم به، وما سلف منكم في ذلك، إن أصلحتم أمورَ أنفسكم فيما بينكم وبين الله ="رحيم" بكم، إذ أذن لكم في نكاحهن عند الافتقار وعدم الطول للحرّة.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9121 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: عن نكاح الأمة.
9122 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا،
__________
(1) في المطبوعة: "أن كان للعنت"، وهو صواب، ولكن أثبت ما في المخطوطة.(8/207)
عن مجاهد:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: عن نكاح الإماء.
9123 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأن تصبروا خير لكم"، يقول: وأن تصبرَ ولا تنكح الأمة فيكون ولدك مملوكين، فهو خيرٌ لك.
9124 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تصبروا خير لكم"، يقول: وأن تصبروا عن نكاح الإماء، خيرٌ لكم، وهو حلّ.
9125 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:"وأن تصبروا خير لكم"، يقول: وأن تصبروا عن نكاحهن = يعني نكاح الإماء= خير لكم.
9126 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: أن تصبروا عن نكاح الإماء، خير لكم.
9127 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: أن تصبروا عن نكاح الأمة خيرٌ لكم.
9128 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وأن تصبروا خير لكم"، قال: وأن تصبروا عن الأمة، خير لكم.
* * *
و"أن" في قوله:"وأن تصبروا" في موضع رفع ب"خيرٌ"، بمعنى: والصبرُ عن نكاح الإماء خيرٌ لكم.
* * *(8/208)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26)
القول في تأويل قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يريد الله ليبين لكم"، حلاله وحرامَه ="وَيهديكم سُنن الذين من قبلكم"، يقول: وليسددكم (1) ="سُنن الذين من قبلكم"، يعني: سُبل من قبلكم من أهل الإيمان بالله وأنبيائه، ومناهجهم فيما حرّم عليكم من نكاح الأمهات والبنات والأخوات وسائر ما حرم عليكم في الآيتين اللتين بَيَّن فيهما ما حرّم من النساء (2) ="ويتوب عليكم"، يقول: يريد الله أن يرجع بكم إلى طاعته في ذلك، مما كنتم عليه من معصيته في فعلكم ذلك قبلَ الإسلام، وقبل أن يوحي ما أوحىَ إلى نبيه من ذلك ="عليكم"، ليتجاوز لكم بتوبتكم عما سلف منكم من قبيح ذلك قبل إنابتكم وتوبتكم ="والله عليم"، يقول: والله ذو علم بما يصلح عباده في أدْيانهم ودنياهم وغير ذلك من أمورهم، وبما يأتون ويذَرون مما أحل أو حرم عليهم، حافظ ذلك كله عليهم ="حكيم" بتدبيره فيهم، في تصريفهم فيما صرّفهم فيه. (3)
* * *
واختلف أهل العربية في معنى قوله:"يريد الله ليبين لكم".
فقال بعضهم: معنى ذلك: يريد الله هذا من أجل أن يبين لكم. وقال: ذلك كما قال: (وَأُمِرْتُ لأعْدِلَ بَيْنَكُمُ) [سورة الشورى: 15] بكسر"اللام"، لأن معناه: أمرت بهذا من أجل ذلك.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"السنة" فيما سلف 7: 230، 231، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 124.
(3) انظر تفسير سائر ألفاظ الآية فيما سلف، في فهارس اللغة.(8/209)
وقال آخرون: معنى ذلك: يريد الله أنْ يُبين لكم ويهديكم سُنن الذين من قبلكم. وقالوا: من شأن العرب التعقيبُ بين"كي" و"لام كي" و"أن"، ووضْعُ كل واحدة منهن موضع كلِّ واحدة من أختها معَ"أردت" و"أمرت". فيقولون:"أمرتكَ أن تذهب، ولتذهب"، و"أردت أن تذهب ولتذهب"، كما قال الله جل ثناؤه: (وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [سورة الأنعام: 71] ، وقال في موضع آخر: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ) [سورة الأنعام: 14] ، (1) وكما قال: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ) [سورة الصف: 8] ، ثم قال في موضع آخر، (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا) [سورة التوبة: 32] . واعتلوا في توجيههم"أن" مع"أمرت" و"أردت" إلى معنى"كي"، وتوجيه"كي" مع ذلك إلى معنى"أن"، لطلب"أردت" و"أمرت" الاستقبال، وأنها لا يصلح معها الماضي، (2) لا يقال:"أمرتك أن قمت"، ولا"أردت أن قمت". قالوا: فلما كانت"أن" قد تكون مع الماضي في غير"أردت" و"أمرت"، وَكَّدُوا لها معنى الاستقبال بما لا يكون معه ماض من الأفعال بحال، (3) من"كي" و"اللام" التي في معنى"كي". قالوا: وكذلك جمعت العرب بينهن أحيانًا في الحرف الواحد، فقال قائلهم في الجمع: (4)
أَرَدْتَ لِكَيْمَا أَنْ تَطِيرَ بِقِرْبَتِي ... فَتَتْرُكَهَا شَنًّا بِبَيْدَاءَ بَلَقْعِ (5)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وأمرت أن أكون"، وهو سهو من الناسخ، وأثبت نص التلاوة.
(2) في المطبوعة: "وأيهما"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وكأنها خطأ مطبعي.
(3) في المطبوعة: "ذكروا لها معنى الاستقبال ... "، وهو كلام لا معنى له، صوابه ما أثبته من المخطوطة، والظاهر أن الناشر استنكر عبارة أبي جعفر فغيرها. وعبارة الفراء في معاني القرآن: "استوثقوا لمعنى الاستقبال".
(4) لا يعرف قائله.
(5) معاني القرآن للفراء 1: 262، الإنصاف: 242، الخزانة 3: 585، والعيني (هامش الخزانة) 4: 405، وغيرها، كما قال صاحب الخزانة: "وهذا بيت قلما خلا منه كتاب نحوي".
"الشن": الخلق البالي: و"البيداء": المفازة المهلكة، و"البلقع": الأرض القفر التي لا شيء بها. يقول: إنما أردت بذلك هلاكي وضياعي في قفرة مهلكة.(8/210)
فجمع بينهن، لاتفاق معانيهن واختلاف ألفاظهن، كما قال الآخر: (1)
قَدْ يَكْسِبُ المَالَ الهِدَانُ الجَافِي ... بِغَيْرِ لا عَصْفٍ وَلا اصْطِرَافِ (2)
فجمع بين"غير" و"لا"، توكيدًا للنفي. قالوا: إنما يجوز أن يجعل"أن" مكان"كي"، و"كي" مكان"أن"، في الأماكن التي لا يَصْحب جالبَ ذلك ماض من الأفعال أو غير المستقبل. فأما ما صحبه ماض من الأفعال وغير المستقبل، فلا يجوز ذلك. لا يجوز عندهم أن يقال:"طننت ليقوم"، ولا"أظن ليقوم"، بمعنى: أظن أن يقوم = لأنّ ["أنْ"] ، (3) التي تدخل مع الظن
__________
(1) ينسب إلى العجاج، وإلى رؤبة، وليس في ديوانه، وانظر التعليق التالي.
(2) ديوان العجاج: 40، 82، معاني القرآن للفراء 1: 262، الإنصاف: 242. واللسان (صرف) (عصف) (هدن) ، والبيت التالي، هو الوارد في شعر العجاج: قَالَ الَّذِي جَمَّعْتَ لِي صَوَافِي ... مِنْ غَيْرِ لا عَصْفٍ وَلا اصْطِرَافِ
وهو من قصيدة يعاتب فيها ولده رؤبة، فرد عليه ولده رؤبة بقصيدة في ديوانه: 99. فظاهر أن هذا هو سبب الخلط في نسبة هذا الشعر، والصواب أنه للعجاج، لأنه من معنى عتابه ولده حين كبر وأرعش، وظن أن ابنه طمع في ماله ورجا هلاكه، وختم قصيدته بقوله: لَيْسَ كَذَاكُمْ وَلَدُ الأَشْرَافِ ... أَعْجَلَنِي المَوْتَ وَلَمْ يُكًافِ
سَوْفَ يُجَازيك مَلِيكٌ وَافِ ... بِالأَخْذِ إنْ جَازَاكَ، أَوْ يُعافِي
و"الهدان": الجبان، أو الوخم الثقيل النوام الذي لا يبكر في حاجة. و"عصف يعصف" و"اعتصف": طلب وكسب واحتال. و"العصف": الكسب والاحتيال. و"صرفت الرجل في أمري، فتصرف واصطرف": أي احتال في طلب الكسب.
(3) الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من السياق، ومن معاني القرآن للفراء.(8/211)
تكون مع الماضي من الفعل، يقال:"أظن أن قد قام زيد"، ومع المستقبل، ومع الأسماء. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي، قولُ من قال: إن"اللام" في قوله:"يريد الله ليبين لكم"، بمعنى: يريد الله أنْ يبين لكم، لما ذكرتُ من علة من قال إنّ ذلك كذلك.
* * *
__________
(1) ومثالهما عند الفراء 1: 263 ما نصه"ومع المستقبل، فتقول: أظن أن سيقوم زيد = ومع الأسماء فتقول: أظن أنك قائم"
وهذا الذي مضى هو مختصر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 261-263.(8/212)
وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا (27) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: والله يريد أن يراجع بكم طاعته والإنابة إليه، ليعفوَ لكم عما سلف من آثامكم، ويتجاوز لكم عما كان منكم في جاهليتكم، من استحلالكم ما هو حرَامٌ عليكم من نكاح حلائل آبائكم وأبنائكم وغير ذلك مما كنتم تستحلونه وتأتونه، مما كان غير جائز لكم إتيانه من معاصي الله =="ويريد الذين يتبعون الشهوات"، يقول: ويريد الذين يطلبون لذّات الدنيا وشهوات أنفسهم فيها ="أن تميلوا" عن أمر الله تبارك وتعالى، فتجوروا عنه بإتيانكم ما حرّم عليكم وركوبكم معاصيه ="ميلا عظيمًا"، جورًا وعدولا عنه شديدًا.
* * *(8/212)
واختلف أهل التأويل في الذين وصفهم الله بأنهم"يتبعون الشهوات".
فقال بعضهم: هم الزناة.
*ذكر من قال ذلك:
9129 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، قال: الزّنا ="أن تميلوا ميلا عظيمًا"، قال: يريدون أن تزنوا.
9130 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيمًا"، أن تكونوا مثلهم، تزنون كما يزنون.
9131 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، قال: الزنا ="أن تميلوا ميلا عظيمًا"، قال: يزني أهلُ الإسلام كما يزنون. قال: هي كهيئة: (وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ) [سورة القلم: 9] .
9132 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، قال: الزنا ="أن تميلوا"، قال: أن تزنوا.
* * *
وقال آخرون، بل هم اليهودُ والنصارَى.
*ذكر من قال ذلك:
9133 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، قال: هم اليهود والنصارى ="أن تميلوا ميلا عظيمًا".
* * *(8/213)
وقال آخرون: بل هم اليهودُ خاصة، وكانت إرادتهم من المسلمين اتّباعَ شهواتهم في نكاح الأخوات من الأب. وذلك أنهم يحلون نكاحَهنّ، فقال الله تبارك وتعالى للمؤمنين: ويريدُ الذين يحلِّلون نكاح الأخوات من الأب، أن تميلوا عن الحق فتستحلّوهن كما استحلوا.
* * *
وقال آخرون. معنى ذلك: كل متبع شهوةً في دينه لغير الذي أبيح له.
*ذكر من قال ذلك:
9134 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"ويريد الذين يتبعون الشهوات" الآية، قال: يريد أهل الباطل وأهل الشهوات في دينهم، أن تميلوا في دينكم ميلا عظيمًا، تتبعون أمرَ دينهم، وتتركون أمرَ الله وأمرَ دينكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معنى ذلك: ويريد الذين يتبعون شهوات أنفسهم من أهل الباطل وطلاب الزنا ونكاح الأخوات من الآباء، وغير ذلك مما حرمه الله ="أن تميلوا" عن الحق، (1) وعما أذن الله لكم فيه، فتجورُوا عن طاعته إلى معصيته، وتكونوا أمثالهم في اتباع شهوات أنفسكم فيما حرم الله، وترك طاعته ="ميلا عظيمًا".
وإنما قلنا، ذلك أولى بالصواب، لأن الله عز وجل عمّ بقوله:"ويريد الذين يتبعون الشهوات"، فوصفهم باتباع شهوات أنفسهم المذمومة، وعمهم بوصفهم بذلك، من غير وصفهم باتّباع بعض الشهوات المذمومة. فإذ كان ذلك كذلك، فأولى المعاني بالآية ما دلّ عليه ظاهرها، دون باطنها الذي لا شاهد عليه من أصل
__________
(1) كان في المخطوطة والمطبوعة: "أن تميلوا ميلا عظيما عن الحق ... "، ولكني استظهرت من ذكره في آخر الفقرة: "ميلا عظيما"، أن قوله هنا"ميلا عظيما" سبق قلم من الناسخ، جرت تتمة الآية على لسانه فأثبتها، ولو صح ذلك، لكانت هذه الأخيرة في آخر الفقرة لا مكان لها.(8/214)
يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
أو قياس. وإذ كان ذلك كذلك كان داخلا في"الذين يتبعون الشهوات" اليهود، والنصارى، والزناة، وكل متبع باطلا. لأن كل متَّبع ما نهاه الله عنه، فمتبع شهوة نفسه. فإذ كان ذلك بتأويل الآية أولى، وجبتُ صحة ما اخترنا من القول في تأويل ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا (28) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يريد الله أن يخفف عنكم"، يريد الله أن يُيسر عليكم، (1) بإذنه لكم في نكاح الفتيات المؤمنات إذا لم تستطيعوا طولا لحرة ="وخلق الإنسان ضعيفًا"، يقول: يسَّر ذلك عليكم إذا كنتم غيرَ مستطيعي الطوْل للحرائر، لأنكم خُلِقتم ضعفاء عجزةً عن ترك جماع النساء، قليلي الصبر عنه، فأذن لكم في نكاح فتياتكم المؤمنات عند خوفكم العَنَت على أنفسكم، ولم تجدُوا طولا لحرة، لئلا تزنوا، لقلّة صبركم على ترك جماع النساء.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9135 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يريد الله أن يخفف عنكم" في نكاح الأمة، وفي كل شيء فيه يُسر.
9136 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير"التخفيف" فيما سلف 6: 577.(8/215)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29)
سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه:"وخلق الإنسان ضعيفًا"، قال: في أمر الجماع.
9137 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه:"وخلق الإنسان ضعيفًا"، قال: في أمر النساء.
9138 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"وخلق الإنسان ضعيفًا"، قال: في أمور النساء. ليس يكون الإنسان في شيء أضعفَ منه في النساء.
9139 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يريد الله أن يخفف عنكم"، قال: رخّص لكم في نكاح هؤلاء الإماء، حين اضطُرّوا إليهن ="وخلق الإنسان ضعيفًا"، قال: لو لم يرخِّص له فيها، لم يكن إلا الأمرُ الأول، إذا لم يجد حرّة.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "يا أيها الذين آمنوا"، صدّقوا الله ورسوله ="لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"، يقول: لا يأكل بعضكم أموالَ بعض بما حرّمَ عليه، من الربا والقمار وغير ذلك من الأمور التي نهاكم الله عنها (2) ="إلا أن تكون تجارةً". كما:-
9140 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) انظر تفسير"أكل الأموال بالباطل" فيما سلف 3: 548، 549 / 7: 528، 578(8/216)
أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"، أما"أكلهم أموالهم بينهم بالباطل"، فبالرّبا والقمار والبخس والظلم (1) ="إلا أن تكون تجارة"، ليربح في الدرهم ألفًا إن استطاع.
9141 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن الفضل أبو النعمان قال، حدثنا خالد الطحان، قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله تعالى:"لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل"، قال: الرجل يشتري السلعة فيردّها ويردّ معها درهمًا. (2)
9142 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس = في الرجل يشتري من الرجل الثوبَ فيقول:"إن رضيته أخذته وإلا رددته ورددت معه درهمًا"، قال: هو الذي قال الله:"لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل".
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية بالنهي عن أن يأكل بعضهم طعامَ بعض إلا بشراء. فأما قِرًى، فإنه كان محظورًا بهذه الآية، حتى نسخ ذلك بقوله في"سورة النور": (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) الآية [سورة النور: 61] .
__________
(1) في المطبوعة: "نهى عن أكلهم أموالهم بينهم بالباطل وبالربا ... "، ولا أدري لم غير ما في المخطوطة!! وهو مطابق لما في الدر المنثور 2: 143.
(2) الأثر: 9141 -"محمد بن الفضل أبو النعمان"، هو"عارم"، سلفت ترجمته برقم: 3387.
وكان في المخطوطة: "محمد بن المفضل". وأما المطبوعة، فقد أساء الناشر غاية الإساءة، وخالف الأمانة، فكتب"أحمد بن المفضل"، وحذف"أبو النعمان"، وهذا أسوأ ما يكون من ترك الأمانة. وأما "خالد الطحان"، فهو: "خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي" سلفت ترجمته برقم: 4433، 5434.(8/217)
*ذكر من قال ذلك:
9143 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا في قوله:"لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارةً عن تراض منكم" الآية، فكان الرجل يتحرّج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية، فنسخ ذلك بالآية التي في"سورة النور"، فقال: (لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ) إلى قوله: (جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا) (1) فكان الرجل الغنيّ يدعو الرجلَ من أهله إلى الطعام، فيقول:"إني لأتَجَنَّح"! = و"التجنح" التحرّج (2) = ويقول:"المساكين أحق به مني"! (3) فأحل من ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأحلّ طعامَ أهل الكتاب. (4)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب في ذلك، قولُ السدي. وذلك أن الله تعالى ذكره حرّم أكل أموالنا بيننا بالباطل، ولا خلاف بين المسلمين أنّ أكل ذلك حرامٌ علينا، فإنّ الله لم يحلَّ قط أكلَ الأموال بالباطل.
وإذْ كان ذلك كذلك، فلا معنى لقول من قال:"كان ذلك نهيًا عن
__________
(1) من أعجب العجب، أن تكون آية سورة النور قد ذكرت قبل أسطر على الصحة، ثم تتفق المخطوطة والمطبوعة على أن تسوق الآية على الخطأ، فيكتب: "ليس عليكم جناح أن تأكلوا من بيوتكم ... " وهذا من السهو الشديد، أعاذنا الله وإياك من مثله، والله وحده المستعان.
(2) "التجنح": التحرج، هذا معنى جيد عريق في العربية، لم تثبته كتب اللغة، فأثبته هناك.
(3) في المطبوعة: "أحق مني به"، على التأخير، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) كأن هذا الأثر فيه بعض النقص، وقد اختصره السيوطي في الدر المنثور 2: 143، 144، اختصارًا شديدًا.(8/218)
أكل الرجل طعامَ أخيه قرًى [على وجه ما أذن له] ، ثم نُسخ ذلك، (1) لنقل علماء الأمّة جميعًا وجُهًّالها: أن قرَى الضيف وإطعام الطعام كان من حميد أفعال أهل الشرك والإسلام التي حَمِدَ الله أهلها عليها وَندبهم إليها، وأن الله لم يحرّم ذلك في عصر من العصور، بل نَدَب الله عباده وحثهم عليه.
وإذ كان ذلك كذلك، فهو من معنى الأكل بالباطل خارج، ومن أن يكون ناسخًا أو منسوخًا بمعزل. لأن النسخَ إنما يكون لمنسوخ، ولم يثبت النهي عنه، فيجوز أن يكون منسوخًا بالإباحة.
وإذ كان ذلك كذلك، صحّ القول الذي قلناه: من أنّ الباطل الذي نهى الله عن أكل الأموال به، هو ما وصفنا مما حرمه على عباده في تنزيله أوْ على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم - وشذّ ما خالفه. (2)
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم".
فقرأها بعضهم: (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً) رفعًا، بمعنى: إلا أن توجد تجارة، أو: تقع تجارة، عن تراض منكم، فيحل لكم أكلها حينئذ بذلك المعنى. ومذهب من قرأ ذلك على هذا الوجه:"ألا أن تكون" تامةً ههنا، (3) لا حاجة بها إلى خَبر، على ما وصفت. وبهذه القراءة قرأ أكثر أهل الحجاز وأهل البصرة.
* * *
وقرأ ذلك آخرون، وهم عامة قرأة الكوفيين: (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً) ، نصبًا، بمعنى: إلا أن تكونَ الأموال التي تأكلونها بينكم، تجارةً عن تراض
__________
(1) هذه العبارة التي بين القوسين، محرفة لا شك في تحريفها، ولم أجد لها وجهًا أرتضيه، فوضعتها بين القوسين، ولو أسقطها مسقط من الكلام لاستقام على صحة.
(2) قوله: "وشذ ما خالفه" معطوف على قوله: "صح القول الذي قلناه".
(3) في المطبوعة: " ... على هذا الوجه أن تكون تامة ... "، ورددتها إلى ما كان في المخطوطة، فهي صحيحة في سياقه.(8/219)
منكم، فيحل لكم هنالك أكلها. فتكون"الأموال" مضمرة في قوله:"إلا أن تكون"، و"التجارة" منصوبة على الخبر. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وكلتا القراءتين عندنا صوابٌ جائزةٌ القراءةُ بهما، لاستفاضتهما في قرأة الأمصار، مع تقارب معانيهما. غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن قراءة ذلك بالنصب، أعجبُ إليّ من قراءته بالرفع، لقوة النصب من وجهين:
أحدهما: أن في"تكون" ذكر من الأموال. والآخر: أنه لو لم يجعل فيها ذكر منها، ثم أفردت بـ "التجارة"، وهي نكرة، كان فصيحًا في كلام العرب النصبُ، إذ كانت مبنيةً على اسم وخبر. فإذا لم يظهر معها إلا نكرة واحدة، نصبوا ورفعوا، كما قال الشاعر:
إِذَا كَانَ طَعْنًا بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا (2)
قال أبو جعفر: ففي هذه الآية إبانةٌ من الله تعالى ذكره عن تكذيب قول الجهلة من المتصوِّفة المنكرين طلبَ الأقوات بالتجارات والصناعات، والله تعالى يقول:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"، اكتسابًا منا ذلك بها، (3) كما:-
9144 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
__________
(1) انظر تفصيل القول في هاتين القراءتين، في نظيرة هذه الآية من سورة البقرة: 282 في 6: 80-82، وإن اختلف وجه التأويل في الآيتين، كما يظهر من مراجعة ذلك في آية سورة البقرة.
(2) سلف البيت بتمامه في 6: 80، ولم أشر إلى مكانه هنا في الموضع السالف، لأني لم أقف عليه أثناء تخريج شعر التفسير، لإدماجه في صلب الكلام.
(3) في المطبوعة: "اكتسابًا أحل ذلك لها"، غير ما في المخطوطة، إذ لم يحسن قراءته. وهو كما أثبته، إلا أن الناسخ أخطأ فكتب"لها"، والصواب: "بها"، أي: بالتجارات والصناعات.(8/220)
قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم"، قال: التجارةُ رزقٌ من رزق الله، وحلالٌ من حلال الله، لمن طلبها بصدقها وبرِّها. وقد كنا نحدَّث: أن التاجرَ الأمين الصدوقَ مع السبعة في ظلّ العرش يوم القيامة. (1) .
* * *
وأما قوله:"عن تراض"، فإنّ معناه كما:-
9145 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى:"عن تراض منكم"، في تجارة أو بيع، أو عطاءٍ يعطيه أحدٌ أحدًا.
9146 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"عن تراض منكم" في تجارة، أو بيع، أو عطاء يعطيه أحدٌ أحدًا.
9147 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن القاسم، عن سليمان الجعفي، عن أبيه، عن ميمون بن مهران قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: البيعُ عن تراضٍ، والخيارُ بعد الصفقة، ولا يحلّ لمسلم أن يغشّ مسلمًا. (2)
__________
(1) يعني الحديث الصحيح: "سَبْعَةٌ يِظلُّهُم الله في ظِلّه يومَ لا ظِلّ إلا ظِلُّهُ: إمَام عادلٌ، وشابٌّ نَشَأَ في عبادة الله، ورجُلٌ قلبه مُعَلَّقٌ بالمسجِد إذَا خَرَجَ مِنْه حَتَّى يَعُودَ إليه، ورجلان تَحابَّا في الله فاجتمعَا على ذلك وافترقَا، ورجُلٌ ذكر الله خاليًا ففاضتْ عيناهُ، ورجُلٌ دَعَتْهُ امرأة ذات مَنْصِبٍ وجَمالٍ فقال: إنّي أخاف الله رَبَّ العالَمين، ورجُلٌ تصدَّق بصدقةٍ، فأخفَاها حتى لا تَعْلَم شِماله ما تنفِقُ يمينُه". رواه الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه: 345.
(2) الأثر: 9147 - هذا حديث مرسل، خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 413 والسيوطي في الدر المنثور 2: 144، ولم ينسبه لغير ابن جرير.(8/221)
9148 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج. قال: قلت لعطاء: المماسحة، بيعٌ هي؟ (1) قال: لا حتى يخيِّره، التخييرُ بعد ما يجبُ البيعُ، إن شاء أخذ، وإن شاء ترك.
* * *
واختلف أهل العلم في معنى"التراضي" في التجارة. فقال بعضهم: هو أن يُخير كل واحد من المتبايعين بعد عقدهما البيعَ بينهما فيما تبايعا فيه، من إمضاء البيع أو نقضه، أو يتفرّقا عن مجلسهما الذي تواجبا فيه البيعَ بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي تعاقداه بينهما قبل التفاسخ.
*ذكر من قال ذلك:
9149 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن محمد بن سيرين، عن شريح قال: اختصم رجلان باع أحدهما من الآخر بُرْنُسًا، فقال: إني بعتُ من هذا برنسًا، فاسترضيته فلم يُرضني!! فقال: أرضه كما أرضاك. قال: إني قد أعطيته دراهم ولم يرضَ! قال: أرضه كما أرضاك. قال: قد أرضيته فلم يرض! فقال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرَّقا. (2)
9150 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي، عن شريح قال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرّقا. (3)
9151 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن شريح مثله.
__________
(1) "تماسح الرجلان": إذا تبايعا فتصافقا، ومسح أحدهما على يد صاحبه، وذلك من صور بيعهم في الجاهلية.
(2) "البيع" (بفتح الباء وتشديد الياء المكسورة) ، البائع أو المشتري، والبيعان: المتبايعان.
(3) الأثر: 9150 -"عبد الله بن أبي السفر الهمداني الثوري"، واسم"أبي السفر": سعيد بن يحمد. وروى عبد الله عن أبيه، وعن الشعبي وغيرهما. ثقة، ليس بكثير الحديث. مترجم في التهذيب.(8/222)
9152 - حدثنا ابن المثنى قال حدثنا محمد قال، حدثنا شعبة، عن جابر قال، حدثني أبو الضحى، عن شريح أنه قال: البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا = قال قال أبو الضحى: كان شريح يحدِّث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
9153 - وحدثني الحسين بن يزيد الطحان قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام، عن رجل، عن أبي حوشب، عن ميمون قال: اشتريت من ابن سيرين سابريًّا، فسَام عليَّ سَوْمَه، فقلت: أحسن! فقال: إما أن تأخذ وإما أن تدع. فأخذت منه، فلما وزنتُ الثمن وَضَع الدراهم فقال: اختر، إما الدراهم، وإما المتاع. فاخترت المتاع فأخذته. (2)
9154 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يقولُ في البيعين: إنهما بالخيار ما لم يتفرقا، فإذا تصادرًا فقد وجب البيع. (3)
9155 - حدثنا محمد بن إسماعيل الأحمسي قال، حدثنا محمد بن عبيد قال، حدثنا سفيان بن دينار، عن ظبية قال: كنت في السوق وعلي رضي الله عنه في السوق، فجاءت جارية إلى بَيِّع فاكهة بدرهم، فقالت: أعطني هذا. فأعطاها إياه، فقالت: لا أريده، أعطني درهمي! فأبى، فأخذه منه علي فأعطاها إياه. (4)
__________
(1) حديث: "البيعان بالخيار ... "، حديث صحيح رواه البخاري ومسلم وغيرهما، وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5: 268-272.
(2) الأثر: 9153 -"الحسين بن يزيد الطحان"، وقد مضى قبل بنسبته"السبيعي"، انظر ما سلف رقم: 2892، 7863. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"الحسن بن يزيد" وهو خطأ.
وأما "أبو حوشب"، فلم أجد من الرواة من هذا كنيته، وفي الإسناد تصحيف لا شك فيه.
(3) "تصادرا" انصرف هذا، وانصرف الآخر، يقال: "صدر الرجل فهو صادر"، رجع أو انصرف.
(4) الأثر: 9155 -"محمد بن إسماعيل الأحمسي" مضت ترجمته برقم: 405، 718."محمد بن عبيد الطنافسي" مضت ترجمته برقم: 405.
و"ظبية"، هكذا اجتهدت قراءتها من المخطوطة، ولم أعرف من تكون؟ وكان في المطبوعة: "طيسلة" أخطأ قراءة المخطوطة خطأ عظيما. ولم أجد هذا الأثر في مكان آخر.(8/223)
9156 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي: أنه أُتِىَ في رجل اشترى من رجل برذَوْنًا ووَجبَ له، ثم إنّ المبتاع رَدّه قبل أن يتفرّقا، فقضى أنه قد وَجبَ عليه، فشهدَ عنده أبو الضحى: أنّ شريحًا قضى في مثله أن يردَّه على صاحبه. فرجع الشعبي إلى قضاء شُريح.
9157- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن شريح، أنه كان يقول في البيعين: إذا ادّعى المشتري، أنه قد أوجبَ له البيعَ، وقال البائع: لم أُوجب له = قال: شاهدان عدلان أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير، وإلا فيمين البائع: أنكما [ما] افترقتما عن بيع ولا تخاير. (1)
9158 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد. قال: كان شريح يقول: شاهدان ذوا عدل أنكما افترقتما عن تراض بعد بيع وتخاير، وإلا فيمينه بالله: ما تفرَّقتما عن تراض بعد بيع أو تخاير.
9159 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح أنه كان يقول: شاهدان ذوا عدل أنهما تفرّقا عن تراض بعد بيع أو تخاير.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة، ما:-
9160 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله قال، أخبرني نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل بَيِّعين فلا بيع بينهما حتى يتفرّقا، إلا أن يكونَ خيارًا. (2)
__________
(1) الزيادة ما بين القوسين لا بد منهما للسياق، وانظر الأثر الذي يليه.
(2) الحديث: 9160 - يحيى بن سعيد: هو القطان. عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم العمري. ووقع في المطبوعة (والمخطوطة) "عبد الله" بالتكبير. وهو أخو"عبيد الله". وهو محتمل أن يكون كذلك. ولكني أرى الصواب"عبيد الله" بالتصغير، أولا: لأن الحديث معروف من روايته. وثانيًا: لأن الحافظ المزي لم يذكر في تهذيب الكمال رواية ليحيى القطان عن"عبد الله"، لا في ترجمة يحيى، ولا في ترجمة"عبد الله". وهو من عادته أن يتتبع ذلك ويستقصيه استقصاء تامًا.
والحديث رواه أحمد في المسند: 5158، عن يحيى - وهو القطان، عن عبيد الله، به، نحوه.
ورواه أحمد أيضًا: 6193، عن الفضل بن دكين، عن الثوري، عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. ورواه البخاري 4: 280 (فتح) ، من رواية عبد الله بن دينار، عن ابن عمر. وكذلك رواه مسلم 1: 447، من هذا الوجه.
ورواه أحمد أيضًا: 4566، بنحوه، عن ابن عيينة، عن عبد الله بن دينار.
وسيأتي أيضًا: 9164، من رواية أيوب، عن نافع، بمعناه.
وقد خرجناه في مواضع كثيرة في المسند. وهو حديث معروف مشهور.(8/224)
9161 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مروان بن معاوية قال، حدثني يحيى بن أيوب قال، كان أبو زرعة إذا بايع رجلا يقول له: خيِّرني! ثم يقول: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يفترق إلا عن رضى". (1)
9162 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن أبي قلابة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل البقيع! فسمعوا صوتَه، ثم قال: يا أهل البقيع! فاشْرأبًّوا ينظرون، حتى عرفوا أنه صوته، ثم قال: يا أهل البقيع! لا يتفرقنّ بيِّعان إلا عن رضى. (2)
__________
(1) الحديث: 9161 - يحيى بن أيوب بن أبي زرعة بن عمرو بن جرير البجلي: ثقة. قال ابن معين: "ليس به بأس". ونقل بعضهم عن ابن معين تضعيفه، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 260، فلم يذكر فيه جرحًا، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 137.
وهو يروي هنا عن جده"أبي زرعة بن عمرو بن جرير" - وهو تابعي ثقة.
والحديث رواه أبو داود: 3485، عن محمد بن حاتم الجرجرائي، عن مروان، وهو ابن معاوية الفزاري - بهذا الإسناد.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 271، من طريق أبي داود. وذكره السيوطي 1: 144 ولم ينسبه لغير الطبري.
(2) الحديث: 9162 - هذا إسناد مرسل، لأن أبا قلابة تابعي. فلا أدري أهو هكذا في الطبري، أم كان موصولا فسقط اسم الصحابي من الناسخين؟
فقد رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 271، من طريق الحسن بن مكرم، عن علي بن عاصم، عن خالد الحذاء، عن أبي قلابة، عن أنس، بنحوه. وهذا إسناد جيد.
ولكن السيوطي ذكر رواية الطبري هذه 1: 144، عن أبي قلابة، مرسلا.(8/225)
9163- حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا أبو داود الطيالسي قال، حدثنا سليمان بن معاذ قال، حدثنا سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع رجلا ثم قال له: اختر. فقال: قد اخترت. فقال: هكذا البيع. (1)
* * *
قالوا: فالتجارة عن تراض، هو ما كان على ما بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم من تخيير كل واحد من المشتري والبائع في إمضاء البيع فيما يتبايعانه بينهما = أو نقضه بعد عقد البيع بينهما وقبل الافتراق = أو ما تفرقا عنه بأبدانهما عن تراض منهما بعد مُواجبة البيع فيه عن مجلسهما. فما كان بخلاف ذلك، فليس من التجارة التي كانت بينهما عن تراض منهما.
* * *
وقال آخرون: بل التراضي في التجارة، تُواجب عقد البيع فيما تبايعه المتبايعان بينهما عن رضى من كل واحد منهما: ما مُلِّك عليه صاحبه وَملِّك صاحبه عليه، افترقا عن مجلسهما ذلك أو لم يفترقا، تخايرا في المجلس أو لم يتخايرا فيه بعد عقده.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة: أنّ البيع إنما هو بالقول، كما أن النكاح بالقول، ولا خلاف بين أهل العلم في الإجبار في النكاح لأحد المتناكحين على صاحبه، افترقا أو لم يفترقا عن مجلسهما الذي جرى ذلك فيه. قالوا: فكذلك حكم البيع. وتأولوا قولّ النبي صلى الله عليه وسلم:"البَيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا"، على أنه ما لم
__________
(1) الحديث: 9163 - سليمان بن معاذ: هو سليمان بن قرم - بفتح القاف وسكون الراء - بن معاذ، وهو ثقة، فيما رجحنا في شرح المسند: 5753.
والحديث هو من رواية الطيالسي. وهو في مسنده: 2675.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 270، من طريق الطيالسي.
وفي المستدرك للحاكم 2: 14، حديث لابن عمر وابن عباس - معًا - مرفوعًا، في معنى الخيار بين البيعين. وهو شاهد قوي لمعنى هذا الحديث.(8/226)
يتفرّقا بالقول. وممن قال هذه المقالة مالك بن أنس، وأبو حنيفة، وأبو يوسف، ومحمد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا، قولُ من قال: إن التجارة التي هي عن تراض بين المتبايعين، ما تفرّق المتبايعان عن المجلس الذي تواجبَا فيه بينهما عُقدة البيع بأبدانهما، عن تراض منهما بالعقد الذي جرى بينهما، وعن تخيير كل واحد منهما صاحبه = لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما:-
9164 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب = وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب = عن نافع، عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"البيعان بالخيار ما لم يتفرقا أو يكون بيعَ خيار" = وربما قال:"أو يقول أحدهما للآخر اختر". (1)
* * *
=فإذ كان ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحًا، فليس يخلو قول أحد المتبايعين لصاحبه:"اختر"، من أن يكون قبل عقد البيع، أو معه، أو بعده.
__________
(1) الحديث: 9164 - هذا إسناد من أصح الأسانيد: "أيوب، عن نافع، عن ابن عمر".
وقد رواه الطبري هنا بإسنادين إلى أيوب: من طريق ابن علية، ومن طريق عبد الوهاب، وهو ابن عبد المجيد الثقفي.
وقد رواه مالك في الموطأ، ص: 671، بنحوه - عن نافع عن ابن عمر: سلسلة الذهب.
ورواه أحمد في المسند: 4484، عن إسماعيل - وهو ابن علية - عن أيوب، به.
ورواه البخاري 4: 274 (فتح) ، من طريق حماد بن زيد، عن أيوب.
ورواه مسلم 1: 447، من رواية مالك، ومن رواية عبيد الله، ومن رواية أيوب - وغيرهم - عن نافع. ورواه البيهقي 5: 268-269، بأسانيد فيها كثيرة.(8/227)
=فإن يكن قبله، فذلك الخَلْف من الكلام الذي لا معنى له، (1) لأنه لم يملك قبل عقد البيع أحدُ المتبايعين على صاحبه ما لم يكن له مالكًا، فيكون لتخييره صاحبه فيما مَلك عليه وجه مفهوم (2) = ولا فيهما من يجهلُ أنه بالخيار في تمليك صاحبه ما هو لهُ غير مالك بعوَض يعتاضُه منه، فيقال له:"أنت بالخيار فيما تريدُ أن تحدثه من بيع أو شراء".
= أو يكون - إذْ بطل هذا المعنى (3) - تخيير كلّ واحد منهما صاحبه مع عقد البيع. ومعنى التخيير في تلك الحال، نظيرُ معنى التخيير قبلها. لأنها حالة لم يَزُل فيها عن أحدهما ما كان مالكه قبل ذلك إلى صاحبه، فيكون للتخيير وجه مفهوم.
= أو يكون ذلك بعد عقد البيع، إذْ فَسد هذان المعنيان. (4)
وإذْ كان ذلك كذلك، صحّ أن المعنى الآخر من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم - أعني قوله:"ما لم يتفرقا" - إنما هو التفرّق بعد عقد البيع، كما كان التخيير بعده. وإذْ صحّ ذلك، فسد قولُ من زعم أن معنى ذلك إنما هو التفرق بالقول الذي به يكون البيع. وإذ فسد ذلك، صحّ ما قلنا من أن التخيير والافتراق إنما هما معنيان بهما يكون تمام البيع بعد عقده، وصحّ تأويل من قال: معنى قوله:"إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم": إلا أن يكون أكلكم الأموال التي يأكلها بعضكم لبعض، عن مِلْك منكم عمن مَلكتموها عليه، بتجارة تبايعتموها بينكم، وافترقتم عنها عن تراض منكم بعد عقد البيع بينكم بأبدانكم، أو تخيير بعضكم بعضًا. (5)
* * *
__________
(1) "الخلف" (بفتح الخاء وسكون اللام) : هو الكلام الرديء الخطأ، يقال: "هذا خلف من القول"، وفي المثل: "سكت ألفًا، ونطق خلفًا"، للذي يطيل الصمت، فإذا تكلم تكلم بالخطأ.
(2) في المطبوعة: "فيما يملك عليه"، والصواب من المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "إن بطل ... " والأجود ما أثبت.
(4) في المطبوعة: "إذا فسد ... "، والصواب"إذ" كما في المخطوطة.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "أو يخير بعضكم ... "، ورجحت ما أثبت.(8/228)
القول في تأويل قوله: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولا تقتلوا أنفسكم"، ولا يقتل بعضكم بعضًا، وأنتم أهل ملة واحدة، ودعوة واحدة، ودين واحد. فجعل جل ثناؤه أهل الإسلام كلهم بعضَهم من بعض. وجعل القاتل منهم قتيلا = في قتله إياه منهم = بمنزلة قَتله نفسه، إذ كان القاتلُ والمقتول أهلَ يد واحدة على من خالف مِلَّتَهُما. (1)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9165 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تقتلوا أنفسكم"، يقول: أهل ملتكم.
9166 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح:"ولا تقتلوا أنفسكم"، قال: قتل بعضكم بعضًا.
* * *
وأما قوله جل ثناؤه:"إن الله كان بكم رحيمًا"، فإنه يعني: إن الله تبارك وتعالى لم يزل"رحيمًا" بخلقه، (2) ومن رحمته بكم كفُّ بعضكم عن قتل بعض، أيها المؤمنون، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها، وحظْرِ أكل مال بعضكم على بعض بالباطل، إلا عن تجارة يملك بها عليه برضاه وطيب نفسه، لولا ذلك هلكتمْ وأهلك بعضكم بعضًا قتلا وسلبًا وغصبًا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"أنفسكم" في مثل هذا المعنى 2: 301 / 6: 501 / 7: 454، 455.
(2) انظر تفسير: "كان" في مثل هذا فيما سلف 7: 523 / 8: 51، 88، 98(8/229)
وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"ومن يفعل ذلك عدوانًا".
فقال بعضهم: معنى ذلك: ومن يقتل نفسه، بمعنى: ومن يقتل أخاه المؤمن ="عدوانًا وظلمًا فسوف نُصليه نارًا".
*ذكر من قال ذلك:
9167 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: أرأيتَ قوله:"ومن يفعل ذلكُ عدْوانًا وظلمًا فسوف نُصليه نارًا"، في كل ذلك، أو في قوله:"ولا تقتلوا أنفسكم"؟ قال: بل في قوله:"ولا تقتلوا أنفسكم".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يفعل ما حرَّمته عليه من أول هذه السورة إلى قوله:"ومن يفعل ذلك" = من نكاح من حَرّمت نكاحه، وتعدِّي حدوده، وأكل أموال الأيتام ظلمًا، وقتل النفس المحرّم قتلها ظلمًا بغير حق.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ومن يأكل مالَ أخيه المسلم ظلمًا بغير طيب نفس منه، وَقَتل أخاه المؤمن ظلمًا، فسوف نصليه نارًا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: معناه: ومن يفعل ما حرّم الله عليه، من قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا) إلى قوله:"ومن يفعل ذلك"، من نكاح المحرمات، وعضل المحرَّم(8/230)
عضلُها من النساء، وأكل المال بالباطل، وقتل المحرّم قتله من المؤمنين= لأنّ كلّ ذلك مما وعد الله عليه أهلَه العقوبة.
* * *
فإن قال قائل: فما منعك أن تجعل قوله:"ذلك"، معنيّا به جميع ما أوعدَ الله عليه العقوبة من أول السورة؟
قيل: منعني ذلك (1) أن كلّ فصْل من ذلك قد قُرِن بالوعيد، إلى قوله: (أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) ، (2) ولا ذكر للعقوبة من بعد ذلك على ما حرّم الله في الآي التي بعده إلى قوله:"فسوف نصليه نارًا". فكان قوله:"ومن يفعل ذلك"، معنيًّا به ما قلنا، مما لم يُقرَن بالوعيد، مع إجماع الجميع على أنّ الله تعالى قد توعد على كل ذلك = (3) أولى من أن يكون معنيًّا به ما سلف فيه الوعيد بالنهي مقرونًا قبل ذلك. (4)
* * *
وأما قوله:"عدْوانًا"، فإنه يعني به تجاوزًا لما أباح الله له، إلى ما حرمه عليه ="وُظلمًا"، يعني: فعلا منه ذلك بغير ما أذن الله به، وركوبًا منه ما قد نهاه الله عنه (5) . وقوله:"فسوف نُصليه نارًا"، يقول: فسوف نُورده نارًا يصلَى بها فيحترق فيها (6) ="وكان ذلك على الله يسيرًا"، يعني: وكان إصلاءُ فاعل ذلك النارَ وإحراقه بها، على الله سَهْلا يسيرًا، لأنه لا يقدر على الامتناع على ربه مما أراد به من سوء. وإنما يصعب الوفاءُ بالوعيد لمن توعده، على من كان
__________
(1) في المطبوعة: "منع ذلك"، والصواب من المخطوطة.
(2) آخر الآية الثامنة عشرة من سورة النساء.
(3) قوله: "أولى" خبر"كان" في قوله: "فكان قوله ... "
(4) هذه حجة واضحة، وبرهان على حسن فهم أبي جعفر لمعاني القرآن ومقاصده. ونهج صحيح في ربط آيات الكتاب المبين، قل أن تظفر بمثله في غير هذا التفسير.
(5) انظر تفسير"العدوان" و"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة"عدا" و"ظلم".
(6) انظر تفسير"الإصلاء" فيما سلف: 27-29.(8/231)
إذا حاول الوفاءَ به قَدَر المتوعَّد من الامتناع منه. فأما من كان في قبضة مُوعِده، فيسيرٌ عليه إمضاءُ حكمه فيه، والوفاءُ له بوعيده، غيرُ عسير عليه أمرٌ أراده به. (1)
* * *
__________
(1) عند هذا الموضع، انتهى الجزء السادس من مخطوطتنا، وفي آخرها ما نصه: "نجز الجزء السادسُ من الكتاب، بحمد الله تعالى وعونِه وحُسْنِ توفيقه. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
يتلوه في الجزء السابع إن شاء الله تعالى:
القول في تأويل قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا}
"وكان الفراغُ منه في بعض شهور سنة خمس عشرة وسبعمئة، أحسَنَ اللهُ تَقَضِّيها وخاتمتها، في خير وعافية بمنّه وكرمِهِ. غفر الله لِصاحبه ولكاتبه ولمؤلّفه ولجميع المسلمين. الحمد لله ربّ العالمين". ثم كتب كاتب تحته بخط مغربي، ما نصه:
"طالعه الفقير إليه سبحانه، محمد بن محمود بن محمد بن حسين الجزائري الحنفي، عفى عنهم بمنّه، وأتمه بتاريخ ثاني شهر ربيع الأول من سنة تسع وثلاثين واثني عشر مئة. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله" وهذا الشيخ الجزائري الذي كتب هذه الخاتمة، هو الذي مضت له تعليقة على مكان من التفسير، أثبتها في مكانها في الجزء الخامس: 514، تعليق: 2.
ثم بدأ الجزء السابع من مخطوطتنا، وأوله: بسم الله الرحمن الرحيم رب أعن(8/232)
إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
القول في تأويل قوله: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا (31) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الكبائر" التي وعد الله جل ثناؤه عبادَه باجتنابها تكفيرَ سائر سيئاتهم عنهم.
فقال بعضهم: الكبائر التي قال الله تبارك وتعالى:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم"، هي ما تقدَّم الله إلى عباده بالنهي عنه من أول"سورة النساء" إلى رأس الثلاثين منها.
*ذكر من قال ذلك:
9168 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله قال: الكبائر، من أول"سورة النساء" إلى ثلاثين منها.
9169 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله بمثله.
9170 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج، قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم، عن ابن مسعود مثله.
9171 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم قال، حدثني علقمة، عن عبد الله قال: الكبائر، من أول"سورة النساء"(8/233)
إلى قوله:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه".
9172 - حدثنا الرفاعي قال، حدثنا أبو معاوية وأبو خالد، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: الكبائر، من أول"سورة النساء" إلى قوله:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه".
9173 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق قال: سئل عبد الله عن الكبائر، قال: ما بين فاتحة"سورة النساء" إلى رأس الثلاثين.
9174 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد عن إبراهيم، عن ابن مسعود قال: الكبائر، ما بين فاتحة"سورة النساء" إلى ثلاثين آية منها:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه".
9175 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله أنه قال: الكبائر، من أول"سورة النساء" إلى الثلاثين منها:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه".
9176 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن إبراهيم قال: كانوا يرون أن الكبائر فيما بين أول هذه السورة"سورة النساء"، إلى هذا الموضع:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه".
9177 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة، عن عاصم بن أبي النجود، عن زرّ بن حبيش، عن ابن مسعود قال: الكبائر، من أول"سورة النساء" إلى ثلاثين آية منها. ثم تلا"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مُدْخلا كريمًا".
9178 - حدثني المثنى قال، حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مسعر، عن عاصم بن أبي النجود، عن زر بن حبيش قال، قال عبد الله: الكبائر ما بين أول"سورة النساء" إلى رأس الثلاثين. (1)
* * *
__________
(1) الآثار: 9168 -9178 - هذه الآثار أثر واحد بأسانيد كثيرة، أخرجه الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 4، وقال: "رواه البزار، ورجاله رجال الصحيح".(8/234)
وقال آخرون:"الكبائر سبع".
*ذكر من قال ذلك:
9179 - حدثني تميم بن المنتصر قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه قال: إني لفي هذا المسجد، مسجد الكوفة، وعليٌّ يخطب الناسَ على المنبر، (1) فقال:"يا أيها الناس، إن الكبائر سبعٌ"، فأصاخ الناس، فأعادها ثلاث مرّات ثم قال: ألا تسألوني عنها؟ قالوا: يا أمير المؤمنين، ما هي؟ قال:"الإشراك بالله، وقتلُ النفس التي حرّم الله، وقذفُ المحصَنة، وأكلُ مال اليتيم، وأكلُ الرّبا، والفرارُ يوم الزحف، والتعرُّب بعد الهجرة". فقلت لأبي: يا أبهْ، ما التعرّب بعد الهجرة؟ (2) كيف لحق ههنا؟ (3) فقال: يا بنيّ، وما أعظم من أن يهاجر الرجل، حتى إذا وقع سَهمه في الفيء ووَجب عليه الجهاد، خلع ذلك من عنقه، فرجع أعرابيًّا كما كان!!. (4)
9180 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص سلام بن سليم، عن ابن إسحاق، عن عبيد بن عمير قال: الكبائر سبع، ليس منهن
__________
(1) في المطبوعة وابن كثير: "علي رضي الله عنه" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة وابن كثير: "يا أبت"، وهما سواء. و"التعرب": الرجوع إلى سكنى البادية كالأعراب، يقال: "تعرب بعد هجرته"، أي: صار أعرابيًا.
(3) في المخطوطة: "كيف نحن ههنا"، وهي مضطربة الكتابة، فتركت ما في المطبوعة على حاله لموافقته ما في تفسير ابن كثير.
(4) الأثر: 9179 -"محمد بن سهل بن أبي حثمة الأنصاري"، روى عن أبيه وعمه. مترجم في الكبير 1 / 1 / 107، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 277، وتعجيل المنفعة: 365. لم يذكر فيه البخاري جرحًا، وذكره ابن حبان في الثقات.
وهذا الأثر أشار إليه البخاري في التاريخ الكبير في ترجمته، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 422، فذكر ما رواه ابن مردويه من رواية ابن لهيعة، عن زياد بن أبي حبيب، عن محمد بن سهل بن أبي حثمة، عن أبيه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول"، وساق الخبر مرفوعًا. ثم قال: "وفي إسناده نظر، ورفعه غلط فاحش، والصواب ما رواه ابن جرير"، وساق الخبر.(8/235)
كبيرة إلا وفيها آية من كتاب الله: الإشراك بالله منهن: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ) [سورة الحج: 31] و (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا) [سورة النساء: 10] ، و (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) [سورة البقرة: 275] ، و (الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) [سورة النور: 23] ، والفرار من الزحف: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلا تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ) [سورة الأنفال: 15] ، والتعرب بعد الهجرة: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) [سورة محمد: 25] ، وقتل النفس.
9181 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن ابن إسحاق، عن عبيد بن عمير الليثي قال: الكبائر سبع: الإشراك بالله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) ، وقتل النفس: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ) الآية، [سورة النساء: 93] ، وأكل الربا: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) الآية، وأكل أموال اليتامى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) الآية، وقذف المحصنة: (إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ) الآية، والفرار من الزحف: (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ) الآية، [سورة الأنفال: 16] والمرتدُّ أعرابيًا بعد هجرته: (إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى) الآية. (1)
__________
(1) الأثر: 9180، 9181 - في الأثر الأول، "محمد بن عبيد بن محمد بن واقد المحاربي"، أبو جعفر النحاس الكوفي، شيخ الطبري، روى عنه أبو داود والنسائي والترمذي وأبو حاتم وغيرهم. قال النسائي: "لا بأس به"، وذكره ابن حبان في الثقات. وقد مضت روايته عنه في مواضع كثيرة: 1952، 3167، 3366، 4292، 8756.
و"أبو الأحوص، سلام بن سليم"، مضت ترجمته برقم: 2058، 3167، 6170، 7216.
و"ابن إسحاق" هو"محمد بن إسحاق"، مضت ترجمته مرارًا.
و"عبيد بن عمير بن قتادة بن سعيد الليثي"، روى عن أبيه، وله صحبة، وعمر، وعلي، وأبي بن كعب، وأبي موسى، وأبي هريرة. تابعي ثقة من كبار التابعين. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة هنا: "عبيدة بن عمير"، وهو خطأ، والصواب ما في المخطوطة.
وانظر الأثر الآتي رقم: 9189، والتعليق عليه.(8/236)
9182 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد قال: سألت عبيدة عن الكبائر فقال: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله بغير حقها، وفرارٌ يومَ الزحف، وأكل مال اليتيم بغير حقه، وأكل الربا، والبهتان. قال: ويقولون: أعرابية بعد هجرة = قال ابن عون: فقلت لمحمد: فالسحر؟ قال: إن البهتان يجمع شرًّا كثيرًا.
9183- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا منصور وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة أنه قال: الكبائر: الإشراك، وقتل النفس الحرام، وأكل الربا، وقذف المحصنة، وأكل مال اليتيم، والفرارُ من الزحف، والمرتدّ أعرابيًّا بعد هجرته.
9184 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة بنحوه.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة ما:-
9185 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، أخبرني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد بن أبي هلال، عن نعيم المُجْمِر قال: أخبرني صهيب مولى العُتْواريّ: أنه سمع من أبي هريرة وأبي سعيد الخدري يقولان: خطبنا رسول(8/237)
الله صلى الله عليه وسلم يومًا فقال: والذي نفسي بيده = ثلاث مرات = ثم أكبَّ، فأكبَّ كل رجل، منا يبكي، (1) لا يدري على ماذا حلف، ثم رفع رأسه وفي وجهه البِشر، فكان أحبَّ إلينا من حُمْر النَّعم، (2) فقال: ما من عبد يصلي الصلوات الخمس، ويصوم رَمضان، ويخرج الزكاة، ويجتنب الكبائر السبعَ، إلا فتحت له أبواب الجنة، ثم قيل: ادخل بسلام". (3)
9186 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: الكبائر سبع: قتل النفس، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، ورمي المحصنة، وشهادة الزور، وعقوق الوالدين، والفرار يوم الزحف.
* * *
__________
(1) أكب الرجل إكبابًا: نكس رأسه ونظر إلى الأرض.
(2) "النعم": الإبل والشاء وأشاههما، وأراد به الإبل هاهنا. و"حمر النعم": خير الإبل وأصبرها على الهواجر، والعرب تقول: "خير الإبل حمرها وصهبها"، وهي التي لم يخالط حمرتها شيء.
(3) الحديث: 9185 - هذا إسناد صحيح.
خالد: هو ابن يزيد المصري. مضى توثيقه: 5465. نعيم بن عبد الله المجمر - بضم الميم الأولى وكسر الثانية بينهما جيم ساكنة - المدني، مولى آل عمر بن الخطاب: تابعي ثقة معروف. أخرج له الجماعة. صهيب مولى العتواري: تابعي مدني ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2 / 2 / 317. وابن أبي حاتم 2 / 1 / 444.
و"العتواري": بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة. نسبته إلى"عتوارة"، بطن من كنانة، كما قال ابن الأثير. ووقع في مطبوعة ابن كثير في هذا الحديث"الصواري"! وهو تصحيف مطبعي سخيف. والحديث رواه البخاري في الكبير - في ترجمة صهيب - موجزًا كعادته، من طريق الليث، وهو ابن سعد، بهذا الإسناد.
ورواه النسائي 1: 332، من طريق شعيب، عن الليث، به.
وذكره ابن كثير 2: 415، عن هذا الموضع. وقال: "وهكذا رواه النسائي، والحاكم في مستدركه، من حديث الليث بن سعد، به. ورواه الحاكم أيضًا، وابن حبان في صحيحه - من حديث عبد الله بن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال، به. ثم قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه".
وذكره السيوطي 2: 145، وزاد نسبته لابن ماجه، وابن خزيمة، والبيهقي في سننه.(8/238)
وقال آخرون هي تسع.
*ذكر من قال ذلك:
9187 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا زياد بن مخراق، عن طيسلة بن مياس قال: كنت مع النَّجَدات، فأصبت ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر! فلقيت ابن عمر فقلت: أصبتُ ذنوبًا لا أراها إلا من الكبائر! (1) قال: وما هي؟ قلت: أصبت كذا وكذا. (2) قال: ليس من الكبائر = قال: لشيء لم يسمِّه طيسلة (3) = قال: هي تسع، وسأعدُّهن عليك: الإشراك بالله، وقتل النَّسَمة بغير حِلِّها، والفرار من الزحف، وقذفُ المحصنة، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم ظلمًا، وإلحادٌ في المسجد الحرام، والذي يستسحر، (4) وبكاء الوالدين
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "إني أصيب ذنوبا"، "أصيب" في المواضع الثلاثة في المخطوطة وفي الأول من المخطوطة: "أصبت"، وأنا أرجح أن هذه هي الصواب، فأجريت عليها المواضع الثلاثة، فجعلتها"أصبت"، فإنها أوفق لمعنى الخبر، وهي موافقة لما في ابن كثير.
(2) أسقط في المطبوعة من هذا الموضع قوله: "أصبت"، فأثبتها في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "أشيء لم يسمعه طيسلة"، والصواب المحض في المخطوطة. يعني أن هذا الذنب، أو هذه الذنوب، لم يسمها، ولم يذكرها طيسلة، وهي ليست من الكبائر.
(4) في المطبوعة والأدب المفرد للبخاري وابن كثير: "والذي يستسخر" بالخاء، وإنما معنى"يستسخر"، أن يسخر ويستهزئ، وليس ذلك من الكبائر، ولم أجده مذكورًا في خبر من الأخبار.
وفي المخطوطة والدر المنثور 2: 146"يستسحر"، وهي غير منقوطة الحاء، وقراءتها بالحاء المهملة هو الصواب المحض فيما أرجح، وإن كان"استسحر، يستسحر" غير مذكور في شيء من كتب اللغة التي تحت أيدينا اليوم. وأنا أرجح أنه صواب، لأن المذكور في الآثار والأحاديث أنه من الكبائر هو"السحر"، وبناء"استسحر" من"السحر" صحيح في الاشتقاق، صحيح في معناه، وأرجح أن معناه: طلبك من الساحر أن يعمل لك بالسحر، أو أن تطلب منه علم السحر. وهذا موافق لما جاء في حديث طيسلة الذي يلي هذا الأثر وفيه: "والسحر". وهذا وقد جاء في بعض الآثار: "وتعلم السحر" (ابن كثير 2: 418) ، وجاء في خبر ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيمن يغفر له: "ولم يكن ساحرًا يتبع السحرة" (مجمع الزوائد 1: 104) ، وغيرها.
وصحته من جهة الاشتقاق، أنهم قالوا في"الطرق"، وهو الضرب بالحصا، وهو نوع من الكهانة: "استطرق": طلب من الكاهن أن يطرق له الحصى، وأن ينظر له فيه. وأشباه ذلك كثير لا معنى لاستقصائه ههنا.(8/239)
من العقوق = قال زياد: وقال طيسلة: لما رأى ابن عمر فَرَقِي قال (1) أتخاف النار أن تدخلها؟ قلت: نعم! قال: وتحب أن تدخل الجنة؟ قلت: نعم! قال: أحيٌّ والداك؟ قلت: عندي أمي. قال: فوالله لئن أنت ألَنْت لها الكلام، وأطعمتها الطعامَ، لتدخلنّ الجنة ما اجتَنَبْتَ الموجِبات. (2)
9188 - حدثنا سليمان بن ثابت الخراز الواسطي قال، أخبرنا سلم بن سلام قال، أخبرنا أيوب بن عتبة، عن طيسلة بن علي النهدي قال: أتيت ابن عمر وهو في ظلّ أراكٍ يوم عرفة، وهو يصب الماء على رأسه ووجهه، قال قلت: أخبرني عن الكبائر؟ قال: هي تسع. قلت: ما هن؟ قال: الإشراك بالله، وقذف المحصنة = قال قلت: قبل القتل؟ قال: نعم، ورَغْمًا = وقتل النفس المؤمنة، والفرار من الزحف، والسحر، وأكلُ الربا، وأكل مال اليتيم، وعقوق
__________
(1) الفرق: شدة الفزع والخوف.
(2) الحديث: 9187 - هذا إسناد صحيح.
زياد بن مخراق المزني البصري: ثقة، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب. وترجمه البخاري في الكبير 2 / 2 / 339، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 545.
طيسلة بن مياس، وسيأتي في الإسناد التالي"طيسلة بن علي النهدي" - وهما واحد. أبوه اسمه"علي"، ولقبه"مياس". وقد جزم البخاري في الكبير 2 / 2 / 368 بأنهما واحد، وذكر أن صواب نسبته"البهدلي"، وقال: "وبهدلة من بني سعد - و"النهدي، لا يصح". وكذلك جزم ابن أبي حاتم 2 / 1 / 501 بأنهما واحد، وبأنه"البهدلي" ويقال: السلمي. وروى عن يحيى بن معين، قال: "طيسلة بن علي البهدلي اليمامي: ثقة".
والحديث رواه البخاري في الأدب المفرد، ص: 4، عن مسدد، عن إسماعيل بن إبراهيم - وهو ابن علية - بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير 2: 417، عن هذا الموضع.
وذكره السيوطي 2: 146 مختصرًا، وفي متنه تحريف. وزاد نسبته لابن راهويه، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والقاضي إسماعيل في أحكام القرآن.
وقوله: "مع النجدات": هم قوم من الخوارج، من الحرورية، ينسبون إلى"نجدة بن عامر الحروي الحنفي"، رجل منهم، يقال: "هؤلاء النجدات" قاله في اللسان. وكان في المطبوعة"الحدثان"! وهو تصحيف صرف. ورسمت في المخطوطة دون نقط بما يقارب لفظ"النجدات". وثبت على الصواب في الأدب المفرد والمخطوطة الأزهرية من تفسير ابن كثير.(8/240)
الوالدين المسلمين، وإلحادٌ بالبيت الحرام، (1) قبلتِكم أحياء وأمواتًا. (2)
9189 - حدثنا سليمان بن ثابت الخراز قال، أخبرنا سلم بن سلام قال، أخبرنا أيوب بن عتبة، عن يحيى، عن عبيد بن عمير، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثله = إلا أنه قال: بدأ بالقتل قبل القذف. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "والإلحاد" بالتعريف، وفي المخطوطة: "والحلا". وظاهر أن الناسخ شبك الدال في الألف من عند مثنى الدال بقلم واحد في الخط. وانظر مثله في الأثر السالف.
(2) الحديث: 9188 - وهذا إسناد آخر للحديث السابق، بنحوه.
سليمان بن ثابت الخراز الواسطي - شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة. وثبت في ابن كثير"الجحدري" بدل"الخراز"!
سلم بن سلام: هو أبو المسيب الواسطي. مترجم في التهذيب 4: 131، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 268، ولم يذكر فيه جرحًا.
أيوب بن عتبة، أبو يحيى قاضي اليمامة: ضعيف، ضعفه أحمد، والبخاري، وغيرهما.
وهذا الحديث ذكره ابن كثير 2: 417، عن هذا الموضع. ثم ذكر أنه رواه علي بن الجعد، عن أيوب بن عتبة - وساقه مطولا - وقال: "وهكذا رواه الحسن بن موسى الأشيب، عن أيوب بن عتبة اليمامي، وفيه ضعف".
وأشار الحافظ في التهذيب 5: 36-37، في ترجمة طيسلة، إلى أنه"أخرجه البغوي في الجعديات، عن علي بن الجعد، عن أيوب بن عتبة، عن طيسلة بن علي. وأخرجه الخطيب في الكفاية، والخرائطي في مساوئ الأخلاق، والبرديجي في الأسماء المفردة -: من طريق أخرى، عن أيوب بن عتبة، عن طيسلة بن مياس".
ولكن أيوب بن عتبة لم ينفرد به عن طيسلة. فقد رواه عنه أيضًا عكرمة بن عمار العجلي، وهو ثقة:
فأشار إليه البخاري - كعادته - إشارة موجزة، في ترجمة طيسلة 2 / 2 / 368، قال: "وقال النضر بن محمد: حدثنا عكرمة بن عمار، حدثني طيسلة بن علي البهدلي، سمع ابن عمر. وقال وكيع، عن عكرمة: طيسلة بن علي النهدي، أن ابن عمر كان ينزل الأراك يوم عرفة". وهذه قطعة من هذا الحديث.
وهذه القطعة رواها أبو داود في (مسائل الإمام أحمد) ، ص: 118، "حدثنا أحمد، قال حدثنا وكيع، عن عكرمة بن عمار، عن طيسلة بن علي: أن ابن عمر نزل الأراك يوم عرفة".
وقد قصر السيوطي جدًا، حيث ذكر هذا الحديث 2: 146، ولم ينسبه لغير"علي بن الجعد في الجعديات".
(3) الحديث: 9189 - يحيى: هو ابن أبي كثير. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة"يحيى بن عبيد بن عمير"! بتحريف"عن" إلى"بن". وهو تصحيف من الناسخين. ثم قد سقط من الإسناد هنا"عبد الحميد بن سنان" بين"يحيى بن أبي كثير" و"عبيد بن عمير". وليس هذا من الناسخين، بل هو خطأ من أيوب بن عتبة.
عبيد بن عمير الليثي: تابعي معروف من كبار التابعين. مضى مرارًا.
أبوه"عمير بن قتادة الليثي": صحابي، شهد الفتح وحجة الوداع.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 1: 59، مطولا، من طريق حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الحميد بن سنان، عن عبيد بن عمير، عن أبيه. وقال الحاكم: "قد احتجا [يعني الشيخين] برواة هذا الحديث، غير عبد الحميد بن سنان. فأما عمير بن قتادة فإنه صحابي. وابنه عبيد متفق على إخراجه والاحتجاج به". وتعقبه الذهبي في مختصره بأنهما لم يحتجا بعبد الحميد"لجهالته، ووثقه ابن حبان".
ثم رواه الحاكم مرة أخرى 4: 259-260، من طريق حرب بن شداد أيضًا - مطولا. ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". وهنا وافقه الذهبي على تصحيحه، ولم يتعقبه بشيء.
وقد رواه الحافظ المزي في تهذيب الكمال، ص: 769 (مخطوط مصور) مطولا، بإسنادين، من طريق حرب بن شداد، عن يحيى.
ورواه أبو داود: 2875، من طريق حرب بن شداد، ولم يذكر لفظه كله.
ورواه ابن عبد البر في الاستيعاب، في ترجمة عمير بن قتادة، ص: 439 بإسناده من طريق أبي داود. وساق لفظه، ولكنه موجز من روايتي الحاكم. ورواه النسائي 2: 165، مختصرًا، من طريق حرب بن شداد. ولكن فيه"هن سبع" بدل"تسع". وذكره ابن كثير 2: 416، عن رواية الحاكم الأولى. ثم قال: "وقد أخرجه أبو داود، والنسائي، مختصرًا ... وكذا رواه ابن أبي حاتم، من حديثه مبسوطًا. ثم قال الحاكم: رجاله كلهم محتج بهم في الصحيحين، إلا عبد الحميد بن سنان. قلت: وهو حجازي لا يعرف إلا بهذا الحديث، وقد ذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري: في حديثه نظر".
ثم أشار ابن كثير إلى رواية الطبري هذه. ثم قال: "ولم يذكر في الإسناد عبد الحميد بن سنان". وهذا يدل على أن حذف"عبد الحميد بن سنان" من الإسناد - ليس خطأ من الناسخين، إنما هو من تخليط أيوب بن عتبة.
وعبد الحميد بن سنان: ترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 / 13، ولم يذكر فيه جرحًا. فهذا توثيق منه له. والحديث ذكره السيوطي 2: 146، وزاد نسبته للطبراني، وابن مردويه.(8/241)
وقال آخرون: هي أربع.
*ذكر من قال ذلك:
9190 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عنبسة، عن مطرف، عن وبرة، عن ابن مسعود قال: الكبائر: الإشراك بالله، والقنوط(8/242)
من رحمة الله، والإياس من رَوْح الله، والأمن من مكر الله.
9191 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مطرف، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن أبي الطفيل، قال، قال عبد الله بن مسعود: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، والإياسُ من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله.
9192 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن وبرة بن عبد الرحمن قال، قال عبد الله: إن الكبائر: الشرك بالله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله، والإياس من رَوْح الله.
9193 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرفًا، عن وبرة، عن أبي الطفيل قال، قال عبد الله: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من رَوْح الله، والأمن من مكر الله.
9194 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبد الله قال، أخبرنا شيبان، عن الأعمش، عن وبرة، عن أبي الطفيل قال: سمعت ابن مسعود يقول: أكبر الكبائر: الإشراك بالله.
9195 - حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا عبد الله قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن وبرة، عن أبي الطفيل، عن عبد الله بنحوه:
9196 - حدثني ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك، عن أبي الطفيل، عن عبد الله قال: الكبائر أربع: الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والإياس من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله. (1)
__________
(1) الأثر: 9196 -"عبد الملك" هو عبد الملك بن سعيد بن حبان بن أبجر، ويعرف بابن أبجر. كان ثقة ثبتًا في الحديث صاحب سنة. يروي عن أبي الطفيل عامر بن واثلة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبد الملك بن أبي الطفيل" وهو خطأ ظاهر.(8/243)
9197 - وبه قال، حدثنا شعبة، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن عبد الله بمثله.
9198 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن القاسم بن أبي بزة، عن أبي الطفيل، عن عبد الله بن مسعود بنحوه.
9199 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي الطفيل، عن ابن مسعود قال: الكبائرُ أربع: الإشراك بالله، وقتل النفس التي حرم الله، والأمن لمكر الله، والإياسُ من رَوْح الله.
9200 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن فُرات القزاز، عن أبي الطفيل، عن عبد الله قال: الكبائر: القنوط من رحمة الله، والإياس من رَوح الله، والأمن لمكر الله، والشرك بالله. (1)
* * *
وقال آخرون: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.
*ذكر من قال ذلك:
9201 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن منصور، عن ابن سيرين، عن ابن عباس قال: ذكرت عنده الكبائر فقال: كل ما نهى الله عنه فهو كبيرة.
9202 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن محمد قال: أنبئت أن ابن عباس كان يقول: كل ما نهى الله عنه
__________
(1) الآثار: 9190 - 9200 -"فرات القزاز" في الأثر الأخير، هو: "فرات بن أبي عبد الرحمن القزاز التميمي". روى عن أبي الطفيل وغيره، وروى عنه ابنه الحسن بن الفرات، وشعبة والمسعودي وغيرهم. ثقة. مترجم في التهذيب. وهذا الخبر عن ابن مسعود، قد ساقه الطبري من طرق كثيرة، ذكر واحدًا منها ابن كثير في تفسيره 2: 422، وقال: "ثم رواه من عدة طرق، عن أبي الطفيل، عن ابن مسعود، وهو صحيح إليه بلا شك". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 147، ونسبه أيضًا لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني، وابن أبي الدنيا في التوبة.
وخرجه ابن كثير أيضًا في تفسيره 2: 421، 422، من حديث ابن عباس مرفوعًا وقال: "في إسناده نظر، والأشبه أن يكون موقوفًا".(8/244)
كبيرة = وقد ذُكرت الطَّرْفة، قال: هي النظرة.
9203 - حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه، عن طاوس قال، قال رجل لعبد الله بن عباس: أخبرني بالكبائر السبع. قال، فقال ابن عباس: هي أكثر من سبع وسبع = (1) فما أدري كم قالها من مرة.
9204 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، (2) عن طاوس قال: ذكروا عند ابن عباس الكبائر فقالوا: هي سبع. قال: هي أكثر من سبع وَسبع! قال سليمان: فلا أدري كم قالها من مرّة.
9205 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر وابن أبي عدي، عن عوف قال: قام أبو العالية الرّياحي على حَلْقةٍ أنا فيها فقال: إن ناسًا يقولون:"الكبائر سبع"، وقد خفت أن تكون الكبائر سبعين أو يزدن على ذلك.
9206 - حدثنا علي قال، حدثنا الوليد قال، سمعت أبا عمرو يخبر، عن الزهري، عن ابن عباس: أنه سئل عن الكبائر: أسبع هي؟ قال: هي إلى السبعين أقرب.
9207 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن سعيد بن جبير، أن رجلا قال لابن عباس: كم الكبائر؟ أسبع هي؟ قال: إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار.
9208 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن طاوس قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أرأيت الكبائرَ السبع التي ذكرهن الله؟ ما هن؟ قال: هن إلى السبعين أدنى منها إلى سبع.
__________
(1) في المخطوطة وابن كثير 2: 425: "من سبع وسبع"، وفي المطبوعة: "من سبع وتسع"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر الأثر رقم: 9204.
(2) في المطبوعة: "سليمان التميمي"، خطأ، صوابه من المخطوطة.(8/245)
9209 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: قيل لابن عباس: الكبائر سبع؟ قال: هي إلى السبعين أقرب.
9210 - حدثنا أحمد بن حازم قال، أخبرنا أبو نعيم قال، حدثنا عبد الله بن سعدان، عن أبي الوليد قال: سألت ابن عباس عن الكبائر، قال: كل شيء عُصيِ الله فيه فهو كبيرة. (1)
* * *
وقال آخرون: هي ثلاث.
*ذكر من قال ذلك:
9211 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن مسعود قال: الكبائر ثلاث: اليأسُ من رَوْح الله، والقنوط من رحمة الله، والأمن من مكر الله. (2)
* * *
وقال آخرون: كل موجِبة، وكل ما أوعد الله أهلَه عليه النار، فكبيرة.
*ذكر من قال ذلك:
9212 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه"، قال:"الكبائر"، كل ذنب ختمه الله بنار، أو غضب، أو لعْنة، أو عذاب.
9213 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا
__________
(1) الأثر: 9210 -"عبد الله بن سعدان" لم أعرفه ولم أجده = و"أبو الوليد"، كذلك لم أجده. وأخشى أن يكون فيهما تحريف أو سقط. وأما في ابن كثير 2: 425، فقد كتب"عبد الله بن معدان"، ولم أجده أيضًا.
(2) الأثر: 9211 - انظر الآثار السالفة عن ابن مسعود من 9190 - 9200.(8/246)
هشام بن حسان، عن محمد بن واسع قال، قال سعيد بن جبير: كل موجبة في القرآن كبيرة.
9214 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن محمد بن مِهْزَم الشعاب، عن محمد بن واسع الأزدي، عن سعيد بن جبير قال: كل ذنب نسبه الله إلى النار، فهو من الكبائر. (1)
9215 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن سالم: أنه سمع الحسن يقول: كل موجبة في القرآن كبيرة.
9216 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه"، قال: الموجبات.
9217 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9218 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك قال: الكبائر: كل موجبة أوجبَ الله لأهلها النار. وكل عمل يقام به الحدُّ، فهو من الكبائر.
* * *
قال أبو جعفر: والذي نقول به في ذلك، ما ثبتَ به الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك ما:-
9219 - حدثنا به أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا محمد بن جعفر قال،
__________
(1) الأثر: 9214 -"محمد بن مهزم الشعاب"، ويقال"الرمام" لأنه كان يرم القصاع ويشعبها. وثقه ابن معين وابن حبان، وقال أبو حاتم: "ليس به بأس". مترجم في الكبير 1 / 1 / 230، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 102، وتعجيل المنفعة: 379. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "مهرم"
وأما "مهزم" (بكسر الميم وسكون الهاء وفتح الزاي) فقال المعلق على التاريخ الكبير: "هكذا شكله في (قط) ، وهكذا ضبط عبد الغني في المؤتلف: 421، وغيره. وشكله في (كو) كمعلم".
وهذا الأثر أخرجه البخاري في ترجمته في التاريخ الكبير.(8/247)
حدثنا شعبة قال، حدثني عبيد الله بن أبي بكر قال: سمعت أنس بن مالك قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر = أو: سئل عن الكبائر = فقال: الشرك بالله، وقتل النفس، وعقوقُ الوالدين. فقال: ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قال: قول الزور = أو قال: شهادة الزور = قال شعبة: وأكبر ظني أنه قال: شهادة الزور. (1)
9220 - حدثنا يحيى بن حبيب بن عربي قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا شعبة قال، أخبرنا عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم في الكبائر قال:"الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتلُ النفس، وقول الزور.
9221 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن كثير قال، حدثنا شعبة، عن عبيد الله بن أبي بكر، عن أنس قال: ذكروا الكبائرَ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس. ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قولُ الزور.
9222 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،
__________
(1) الحديث: 9219 - عبيد الله بن أبي بكر بن أنس بن مالك: تابعي ثقة. يروي عن جده، ويروي أيضًا عن أبيه عن جده. و"عبيد الله" - بالتصغير. ووقع في ابن كثير في نقل هذا الحديث"عبد الله"؛ وهو خطأ صرف.
والحديث رواه أحمد في المسند: 12363 (3: 131 حلبي) عن محمد بن جعفر، بهذا الإسناد.
ورواه البخاري 10: 345-346 (فتح) . ومسلم 1: 37- كلاهما من طريق محمد بن جعفر، به.
ورواه البخاري أيضًا 5: 192 (فتح) ، من طريق وهب بن جرير، وعبد الملك بن إبراهيم، كلاهما عن شعبة، به.
وذكره ابن كثير 2: 418، عن رواية المسند. ثم نسبه للصحيحين.
وذكره السيوطي 2: 146-147، وزاد نسبته لعبد بن حميد، والترمذي، والنسائي، وابن أبي حاتم.
وسيأتي عقبة، بإسنادين - بنحوه - من طريق شعبة.(8/248)
عن فراس، عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أكبر الكبائر: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين = أو: قتلُ النفس، شعبة الشاكّ = واليمينُ الغَمُوس.
9223 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا شيبان، عن فراس، عن الشعبي، عن عبد الله بن عمرو قال: جاء أعرابيٌّ إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: ما الكبائر؟ قال: الشرك بالله. قال: ثم مَهْ؟ = قال: وعقوق الوالدين. قال: ثم مَهْ؟ قال: واليمين الغَموس = قلت للشعبي: ما اليمين الغَمُوس؟ قال: الذي يقتطع مالَ امرئ مسلم بيمينه وهو فيها كاذب. (1)
9224 - حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي السري محمد بن المتوكل العسقلاني قال، حدثنا يحيى بن سعد، عن خالد بن معدان، عن أبي رُهْم، عن أبي أيوب الأنصاري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أقام الصلاة،
__________
(1) الحديثان: 9222، 9223 - هما إسنادان لحديث واحد، بمعناه.
و"فراس" - بكسر الفاء وتخفيف الراء: هو ابن يحيى الهمداني الخارفي. وهو ثقة، أخرج له الجماعة.
عبيد الله بن موسى، في الإسناد الثاني: هو العبسي الحافظ. مضت ترجمته: 2092. ووقع في المطبوعة"عبد الله" بالتكبير، وهو خطأ.
وشيخه"شيبان": هو النحوي أبو معاوية، وهو ابن عبد الرحمن. مضت ترجمته: 2340.
والحديث رواه أحمد في المسند: 6884، عن محمد بن جعفر، عن شعبة - كالإسناد الأول هنا.
ورواه البخاري 12: 170 (فتح) ، عن محمد بن بشار، عن محمد بن جعفر، به.
ورواه أيضًا 11: 482-483، من طريق النضر بن شميل، عن شعبة.
والرواية الثانية هنا - رواية عبيد الله بن موسى - أشار إليها الحافظ في الفتح 11: 483 من رواية ابن حبان في صحيحه.
والحديث رواه أيضًا الترمذي 4: 87-88، والنسائي 2: 165، 254، وأبو نعيم في الحلية 7: 202. وذكره ابن كثير 2: 419، من رواية المسند. ونسبه للبخاري، والترمذي، والنسائي.
وذكره السيوطي 1: 147، ونسبه لهؤلاء، ولأحمد، والطبري.(8/249)
وأتى الزكاة، وصام رمضان، واجتنب الكبائر، فله الجنة. قيل: وما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، والفرار يوم الزحف. (1)
9225 - حدثني عباس بن أبي طالب قال، حدثنا سعد بن عبد الحميد بن جعفر، عن ابن أبي جعفر، عن ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن عبد الله بن سلمان الأغر، عن أبيه أبي عبد الله سلمان الأغر قال، قال أبو أيوب
__________
(1) الحديث: 9224 - ابن أبي السرى، محمد بن المتوكل بن عبد الرحمن، الحافظ العسقلاني: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مات سنة 238. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 105، وتذكرة الحفاظ 2: 53-54.
يحيى بن سعيد: هو العطار الأنصاري الحمصي، مضت ترجمته في: 5753. وكان في المطبوعة بدله"محمد بن سعد"، وهو تحريف على اليقين. وما أثبتنا هو الذي في المخطوطة، على أن كلمة"يحيى" فيها غير واضحة تمامًا. وكان من المحتمل هنا أن يكون الاسم"بحير بن سعد"، لأنه روى هذا الحديث - كما سيأتي. ولكني لم أجد ذكرًا لبحير بن سعد في شيوخ ابن أبي السرى، الذين حصرهم الحفاظ المزي في تهذيب الكمال، كعادته. ولكنه ذكر في شيوخه"يحيى بن سعيد العطار".
خالد بن معدان الكلاعي: مضى في: 2070.
أبو رهم - بضم الراء وسكون الهاء - أحزاب بن أسيد السمعي: تابعي قديم ثقة. وذكره بعضهم في الصحابة. والراجح الأول.
والحديث رواه أحمد في المسند 5: 413 (حلبي) ، عن المقرئ، عن حيوة بن شريح: "حدثنا بقية، حدثني بحير بن سعد، عن خالد بن معدان ... " - فذكره.
ثم رواه 5: 413-414، عن زكريا بن عدي، أخبرنا بقية، عن بحير، عن خالد بن معدان ... ".
وبقية: هو ابن الوليد. وهو ثقة، وتكلم فيه من تكلم بأنه يدلس، ولكنه صرح بالتحديث في الإسناد الأول عند أحمد. فزالت شبهة التدليس.
و"بحير بن سعد الحمصي": ثقة. وثقه أحمد، وابن سعد، وغيرهما. و"بحير": بفتح الباء الموحدة وكسر الحاء المهملة وآخره راء. وأبوه"سعد": بفتح السين وسكون العين. وقد ثبت على الصواب في تهذيب الكمال للمزي (مخطوط مصور) ، والكبير للبخاري 1 / 2 / 137-138، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 412، والمشتبه للذهبي، والمسند، وغير ذلك. ورسم في تهذيب التهذيب والتقريب والخلاصة"سعيد". وهو خطأ لا شك فيه.
والحديث نقله ابن كثير 2: 417-418، عن الرواية الثانية للمسند. ووقع فيه"يحيى بن سعيد" بدل"بحير بن سعد"! وهو خطأ ناسخ أو طابع، ثم نسبه أيضًا للنسائي.
وذكره السيوطي 2: 146، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن حبان، والحاكم"وصححه".
وسيأتي عقب هذا بإسناد آخر، من وجه آخر.(8/250)
خالد بن أيوب الأنصاري عقبيٌّ بدريٌّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يعبد الله لا يشرك به شيئًا، ويقيم الصلاةَ، ويؤتي الزكاة، ويصوم رمضان، ويجتنب الكبائر، إلا دخل الجنة. فسألوه: ما الكبائر؟ قال: الإشراك بالله، والفرار من الزحف، وقتل النفس. (1)
9226- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثنا عباد بن عباد، عن جعفر بن الزبير، عن القاسم، عن أبي أمامة: أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكروا الكبائر وهو متكئ، فقالوا: الشرك بالله، وأكل مال اليتيم، وفرارٌ من الزحف، وقذف المحصنة، وعقوق الوالدين، وقول الزور، والغُلول، والسحر، وأكل الربا: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فأين تجعلون: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) ؟ إلى آخر الآية، [سورة آل عمران: 77] . (2)
__________
(1) الحديث: 9225 - وهذا إسناد آخر من وجه آخر للحديث السابق.
عباس بن أبي طالب: مضت ترجمته في: 880. سعد بن عبد الحميد بن جعفر الأنصاري: مضت ترجمته في: 3959. وقد رجحنا توثيقه هناك. ووقع في المطبوعة (والمخطوطة) "سعد بن عبد الحميد عن جعفر"! وهو خطأ. وضعت كلمة"عن" بدل"بن".
وقوله"عن ابن أبي جعفر": هكذا ثبت هنا، فإن يكن صوابًا يكن"عبد الله بن أبي جعفر الرازي"، الماضية ترجمته في: 7030. ولكني أرجح أنه مزيد في الإسناد تخليطًا من الناسخين. فإن"سعد بن عبد الحميد" معروف بالرواية عن ابن أبي الزناد.
وابن أبي الزناد: هو"عبد الرحمن بن أبي الزناد". مضت ترجمته في: 1694.
"عبد الله بن سلمان الأغر": هكذا ثبت هنا"عبد الله" بالتكبير. وهو ثقة يروي عن أبيه. ولكني أرجح أن يكون صوابه"عبيد الله" بالتصغير. فإنهم لم يذكروا رواية لموسى بن عقبة عن"عبد الله". وإنما عرف بالرواية عن أخيه"عبيد الله".
و"عبيد الله بن سلمان الأغر": ثقة معروف، يروي عنه مالك، وموسى بن عقبة، وغيرهما.
أبوه"سلمان الأغر، أبو عبد الله المدني": تابعي ثقة معروف، أخرج له الجماعة.
والحديث سبق تخريجه. أما من هذا الوجه - من رواية سلمان الأغر عن أبي أيوب -: فلم أجده في غير هذا الموضع.
(2) الحديث: 9226 - هذا إسناد ضعيف منهار.
جعفر بن الزبير الدمشقي: ضعيف جدًا. روى عن القاسم عن أبي أمامة نسخة موضوعة، كما بينا فيما مضى: 1939.
والحديث نقله ابن كثير 2: 423 عن هذا الموضع. وذكره السيوطي 2: 147، ولم ينسبه لغير الطبري. وذكر أنه"بسند حسن"! وهو في هذا مخطئ. فما هو إلا إسناد ضعيف لا تقوم له قائمة.(8/251)
9227 - حدثنا عبيد الله بن محمد الفريابي قال، حدثنا سفيان، عن أبي معاوية، عن أبي عمرو الشيباني، عن عبد الله قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم: ما الكبائر؟ قال: أن تدعو لله نِدًّا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أجل أن مأكلٍ معك، أو تزني بحليلة جارك. وقرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ) [سورة الفرقان: 68] . (1)
9228 - حدثني هذا الحديث عبد الله بن محمد الزهري فقال، حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو معاوية النخعي = وكان على السجن = سمعه من أبي عمرو، عن عبد الله بن مسعود: سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: أيّ العمل شر؟ قال: أن تجعل لله ندًّا وهو خلقك، وأن تقتل ولدك من أن يأكل معك، أو تزني بجارتك. وقرأ علي: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى ما قيل في تأويل"الكبائر" بالصحة، ما صحَّ به الخبر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون ما قاله غيره، وإن كان كل
__________
(1) الحديث: 9227 - عبيد الله بن محمد الفريابي - شيخ الطبري - مضت ترجمته في رقم: 17، وسيأتي، ص: 254، س: 3، أن الطبري يرى أنه غلط في هذا الحديث. يريد غلطًا في المعنى! ولكنا لا نوافقه على ذلك. فمعنى هذا الحديث والذي بعده واحد. وإنما هو اختلاف في اللفظ.
"سفيان": هو ابن عيينة.
وانظر الإسناد التالي لهذا.
(2) الحديث: 9228 - عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن المسور بن مخرمة الزهري - شيخ الطبري: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 163.
أبو معاوية النخعي - في هذا الإسناد والذي قبله: هو عمرو بن عبد الله بن وهب. وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التهذيب، وترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 / 243-244.
أبو عمر الشيباني: هو سعد بن إياس، التابعي الكبير. مضت ترجمته في: 5524.
والحديث سيأتي في الطبري، عند تفسير الآية: 71 من سورة الفرقان (19: 26 بولاق) ، عن عبد الله بن محمد الفريابي، عن سفيان، بهذا الإسناد، ثم رواه هناك بأسانيد أخر.
ورواه أحمد في المسند، من رواية أبي وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله - وهو ابن مسعود - مرارًا بأسانيد: 3612، 4102، 4131 - 4134، 4411، 4423.
وكذلك رواه البخاري مرارًا، منها 8: 124، 12: 101-103، و 13: 413 (فتح) .
وكذلك رواه مسلم 1: 36-37.
وفي بعض الروايات عندهم زيادة"عمرو بن شرحبيل" في الإسناد، بين أبي وائل وابن مسعود والظاهر عندي أن أبا وائل سمعه من ابن مسعود، ومن عمرو بن شرحبيل عن ابن مسعود، فحدث به على الوجهين. ويكون من المزيد في متصل الأسانيد. وفصل الحافظ القول في ذلك في 12: 101-103.
وذكره ابن كثير 6: 194-195، من إحدى روايات المسند، وإحدى روايات الطبري الآتية.
وذكره السيوطي 5: 77، وزاد نسبته للفريابي، وعبد بن حميد، والترمذي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.(8/252)
قائل فيها قولا من الذين ذكرنا أقوالهم، قد اجتهد وبالغ في نفسه، ولقوله في الصحة مذهبٌ. فالكبائر إذن: الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس المحرّم قتلها، وقول الزور = وقد يدخل في"قول الزور"، شهادة الزور = وقذف المحصنة، واليمين الغموسُ، والسحر = ويدخل في قتل النفس المحرَّم قتلها، قتل الرجل ولده من أجل أن يطعم معه = والفرارُ من الزحف، والزنا بحليلة الجار.
وإذْ كان ذلك كذلك، صحَّ كل خبر رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في معنى الكبائر، وكان بعضه مصدِّقًا بعضًا. وذلك أن الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"هي سبع" يكون معنى قوله حينئذ:"هي سبع" على التفصيل = ويكون معنى قوله في الخبر الذي روي عنه أنه قال:"هي الإشراك بالله، وقتل النفس، وعقوق الوالدين، وقول الزور" على الإجمال،(8/253)
إذ كان قوله:"وقول الزور" يحتمل معاني شتى، وأن يجمعَ جميعَ ذلك"قول الزور".
وأما خبر ابن مسعود الذي حدثني به الفريابي على ما ذكرت، فإنه عندي غلط من عبيد الله بن محمد، لأن الأخبار المتظاهرة من الأوجه الصحاح عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، (1) بنحو الرواية التي رواها الزهري عن ابن عيينة. ولم يقل أحد منهم في حديثه عن ابن مسعود،"أن النبي صلى الله عليه وسلم: سئل عن الكبائر"، فنقلهم ما نقلوا من ذلك عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم، أولى بالصحة من نقل الفريابي.
* * *
قال أبو جعفر: فمن اجتنب الكبائر التي وعد الله مجتنبَها تكفيرَ ما عداها من سيئاته، وإدخاله مُدخلا كريمًا، وأدَّى فرائضه التي فرضها الله عليه، وجد الله لما وعده من وعدٍ منجزًا، وعلى الوفاء له ثابتًا. (2)
* * *
وأما قوله:"نكفر عنكم سيئاتكم"، فإنه يعني به: نكفر عنكم، أيها المؤمنون، باجتنابكم كبائر ما ينهاكم عنه ربكم، صغائر سيئاتكم (3) = يعني: صغائر ذنوبكم، كما:-
9229 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"نكفر عنكم سيئاتكم"، الصغائر. (4)
9230 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن الحسن: أن ناسًا لقوا عبد الله بن عمرو بمصر، فقالوا: نرى أشياء من كتاب
__________
(1) في المطبوعة: "من الأوجه الصحيحة"، ولا أدري لم غير ما كان في المخطوطة!!
(2) في المطبوعة: "وعلى الوفاء به دائبا" حرف ما في المخطوطة وكان فيها"وعلى الوفاء له دائبا" غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها إن شاء الله.
(3) انظر تفسير"التكفير" فيما سلف: 7: 482، 490 = وتفسير"السيئات" فيما سلف 2: 281-283 / 7: 482، 490.
(4) الأثر: 9229 - في المطبوعة والمخطوطة"محمد بن الحسن"، والصواب ما أثبت، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه: 9133.(8/254)
الله، أمرَ أن يُعمل بها، لا يُعمل بها، (1) فأردنا أن نلقَى أمير المؤمنين في ذلك؟ فقدم وقدموا معه، فلقيه عمر رضي الله عنه فقال: متى قدمت؟ قال: منذ كذا وكذا. قال: أبإذن قدمت؟ قال: فلا أدري كيف ردّ عليه، فقال: يا أمير المؤمنين، إنّ ناسًا لقوني بمصر فقالوا:"إنا نرى أشياءَ من كتاب الله تبارك وتعالى، أمر أن يعمل بها ولا يعمل بها"، فأحبُّوا أن يلقوك في ذلك. فقال: اجمعهم لي. قال: فجمعتهم له = قال ابن عون: أظنه قال: في بَهْوٍ (2) = فأخذ أدناهم رجلا فقال: أنشدكم بالله وبحق الإسلام عليك، أقرأت القرآن كله؟ قال: نعم. قال، فهل أحصيته في نفسك؟ (3) قال، اللهم لا! = قال: ولو قال:"نعم" لخصَمَه (4) = قال: فهل أحصيته في بصرك؟ هل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ (5) قال: ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم، فقال: ثكلتْ عمر أمُّه! أتكلِّفونه أن يقيمَ الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات. قال: وتلا"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلا كريمًا". هل علم أهل المدينة = أو قال هل علم أحدٌ = بما قَدِمتم؟ قالوا، لا! قال: لو علموا لوعَظْت بكم. (6)
9231 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا زياد بن مخراق، عن معاوية بن قرة قال: أتينا أنس بن مالك، فكان فيما حدثنا قال: لم نر مثل الذي بلغنا عن ربنا، ثم لم نخرج له عن كل أهل ومال! (7) ثم سكت هنيهة، ثم قال: والله لقد كلفنا ربنا أهون من ذلك! لقد تجاوز لنا عما دون الكبائر! فما لنا ولها؟ ثم تلا"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الآية. (8)
9232- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه" الآية، إنما وعد الله المغفرة لمن اجتنبَ الكبائر. وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال:" اجتنبوا الكبائر، وسدّدوا، وأبشروا".
9233 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن ابن مسعود قال: في خمس آيات من"سورة النساء": لَهُنَّ أحب إليَّ من الدنيا جميعًا: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ) وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا) [سورة النساء: 40] ، وقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ
__________
(1) في المخطوطة: "أمر أن يعمل بها لا نعمل بها" بالنون في الثانية، وما في المطبوعة وابن كثير هو الصواب، لأنه جاءوا في شكاة عاملهم في مصر، كما هو ظاهر من آخر الأثر.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "في نهر"، والصواب من تفسير ابن كثير. و"البهو": البيت المقدم أمام البيوت. وكل هواء أو فجوة، فهو عند العرب"بهو".
(3) "أحصى الشيء": أحاط به وحفظه، يعني: هل استوفيتم القيام بكل أمر به في ذلك وحفظتموه وضبطتم العمل به، ومنه قوله تعالى: "عَلَم أنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ"
أي: أن تطيقوا القيام به.
(4) "خاصمت الرجل فخصمته": أي غلبته بالحجة.
(5) "الأثر": ما تتركه في الأرض من ثقل خطاك عليها، وأراد به هنا: السعي في الأرض. كالذي في قوله تعالى: "ونكتب ما قدموا وآثارهم"، أي خطاهم حيث سعوا في الأرض.
(6) الأثر: 9230- خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 423، 424، والسيوطي في الدر المنثور 2: 145، وقال ابن كثير: "إسناد صحيح ومتن حسن، وإن كانت رواية الحسن عن عمر، وفيها انقطاع، إلا أن مثل هذا اشتهر، فتكفي شهرته". وقال السيوطي: "أخرج ابن جرير بسند حسن".
وقوله: "لوعظت بكم"، أي: لأنزلت بكم من العقوبة، ما يكون عظة لغيركم من الناس. وذلك أنهم جاءوا في شكاة عاملهم على مصر، وتشددوا ولم ييسروا، وأرادوا أن يسير في الناس بما لا يطيقون هم في أنفسهم من الإحاطة بكل أعمال الإسلام، وما أمرهم الله به. وذلك من الفتن الكبيرة. ولم يريدوا ظاهر الإسلام وأحكامه، وإنما أرادوا بعض ما أدب الله به خلقه. وعمر أجل من أن يتهاون في أحكام الإسلام. وإنما قلت هذا وشرحته، مخافة أن يحتج به محتج من ذوي السلطان والجبروت، في إباحة ترك أحكام الله غير معمول بها، كما هو أمر الطغاة والجبابرة من الحاكمين في زماننا هذا.
(7) ليس في المخطوطة"ثم"، وتركتها لأنها في الدر المنثور، وتفسير ابن كثير.
(8) الأثر: 9231- ابن كثير 2: 425، والدر المنثور، 2: 145، ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد.(8/255)
لِمَنْ يَشَاءُ) [سورة النساء: 48، 116] ، وقوله: (وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا) [سورة النساء: 110] ، وقوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [سورة النساء: 152] . (1)
9234 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو النضر، عن صالح المرّي، عن قتادة، عن ابن عباس قال: ثمانِ آيات نزلت في"سورة النساء"، هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، أولاهن: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة النساء: 26] ، والثانية: (وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلا عَظِيمًا) [سورة النساء: 27] ، والثالثة: (يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنْسَانُ ضَعِيفًا) [سورة النساء: 28] ، = ثم ذكر مثل قول ابن مسعود سواء، وزاد فيه: ثم أقبل يفسرها في آخر الآية: وكان الله للذين عملوا الذنوب غفورًا رحيمًا. (2)
وأما قوله:"وندخلكم مدخلا كريمًا"، فإن القرأة اختلفت في قراءته. فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض الكوفيين: (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا)
__________
(1) الأثر: 9233 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 145، ونسبه أيضًا لأبي عبيد القاسم بن سلام، وسعيد بن منصور في فضائله، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والطبراني، والحاكم، والبيهقي في الشعب.
(2) الأثر: 9234 -"أبو النضر"، كأنه: "إسحاق بن إبراهيم بن يزيد الدمشقي الفراديسي"، من شيوخ البخاري وأبي زرعة، أدركه ولم يكتب عنه، ولد سنة 141، وتوفي سنة 227، ثقة. مترجم في التهذيب، وقد مضى في رقم: 8788.
"وصالح المري"، هو: صالح بن بشير بن وداع المري"، القاص. روى عن الحسن، وابن سيرين، وقتادة، وغيرهم. كان رجلا صالحًا، ولكنه يروي أحاديث مناكير تنكرها الأئمة عليه. وهو متروك الحديث. مات سنة 172، أو سنة 176، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 274.(8/257)
بفتح"الميم"، وكذلك الذي في"الحج": (لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلا يَرْضَوْنَهُ) [سورة الحج: 59] ، فمعنى:"وندخلكم مَدخلا"، فيدخلون دُخُولا كريمًا. وقد يحتمل على مذهب من قرأ هذه القراءة، أن يكون المعنى في"المدخل": المكان والموضع. لأن العرب رُبما فتحت"الميم" من ذلك بهذا المعنى، كما قال الراجز: (1)
بِمَصْبَح الْحَمْدِ وَحَيْثُ نُمْسٍي (2)
وقد أنشدني بعضهم سماعًا من العرب: (3)
الْحَمْدُ لِلِه مَمْسَانَا ومَصْبَحَنَا ... بِالْخَيْرِ صَبَّحَنَا رَبِّي وَمَسَّانَا (4)
وأنشدني آخر غيره:
الْحَمْدُ لِلِه مُمْسَانا وَمُصْبَحَنَا
لأنه من"أصبح""وأمسى". وكذلك تفعل العرب فيما كان من الفعل بناؤه على أربعة، تضم ميمه في مثل هذا فتقول:"دحرجته أدحرجه مُدحرجًا، فهو مُدحرَج". (5) ثم تحمل ما جاء على"أفعل يُفعل" على ذلك. (6) لأن"يُفعِل"، من"يُدْخِل"، وإن كان على أربعة، فإن أصله أن يكون على"يؤفعل"،"يؤدخل" و"يؤخرج"، فهو نظير"يدحرج". (7)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 264، اللسان (صبح) .
(3) هو أمية بن أبي الصلت.
(4) ديوانه: 62، معاني القرآن للفراء 1: 264، الخزانة 1: 120، اللسان (مسى) ، وهو فاتحة هذه القصيدة.
(5) في المخطوطة: "دحرجته فهو مدحرج"، وبينهما بياض بقدر كلمات، فزاد في المطبوعة: "مدحرجًا"، وزدت"أدحرجه"، لأن السياق فيما يلي يقتضي ذكرها.
(6) في المطبوعة: "فعل يفعل"، والصواب من المخطوطة.
(7) انظر معاني القرآن للفراء 1: 293، 294.(8/258)
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين والبصريين:"مُدْخَلا" بضم"الميم"، يعني: وندخلكم إدخالا كريمًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب، قراءة من قرأ ذلك: (وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا) بضم"الميم"، لما وصفنا، من أن ما كان من الفعل بناؤه على أربعة في"فَعَل"، (1) فالمصدر منه"مُفْعَل". وأن"أدخل" و"دحرج""فَعَل" منه على أربعة. (2) ف"المُدخل" مصدره أولى من"مَفعل"، مع أن ذلك أفصح في كلام العرب في مصادر ما جاء على"أفعل"، كما يقال:"أقام بمكان فطاب له المُقام"، إذ أريد به الإقامة = و"قام في موضعه فهو في مَقام واسع"، كما قال جل ثناؤه: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ) [سورة الدخان: 51] ، من"قام يقوم". ولو أريد به"الإقامة" لقرئ:"إن المتقين في مُقام أمين" كما قرئ: (وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ) [سورة الإسراء: 80] ، بمعنى"الإدخال" و"الإخراج". ولم يبلغنا عن أحد أنه قرأ:"مَدخل صدق"، ولا"مَخْرج صدق" بفتح"الميم".
* * *
وأما"المدخل الكريم"، فهو: الطيب الحسن، المكرَّم بنفي الآفات والعاهات عنه، وبارتفاع الهموم والأحزان ودخول الكدر في عيش من دَخله، فلذلك سماه الله كريمًا، كما:-
9235 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال،
__________
(1) يعني بقوله: "فعل" هنا في الموضعين، الفعل الماضي، ولا يعني الوزن الصرفي.
(2) يعني بقوله: "فعل" هنا، الفعل الماضي، ولا يعني الوزن الصرفي.(8/259)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
حدثنا أسباط، عن السدي:"وندخلكم مدخلا كريمًا"، قال:"الكريم"، هو الحسن في الجنة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تشتهوا ما فضل الله به بعضكم على بعض. (2)
* * *
وذكر أن ذلك نزل في نساءٍ تمنين منازلَ الرجال، وأن يكون لهم ما لهم، فنهى الله عباده عن الأماني الباطلة، وأمرهم أن يسألوه من فضله، إذ كانت الأمانيّ تورِث أهلها الحسد والبغي بغير الحق. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 9235- في المطبوعة: "محمد بن الحسن"، وهو خطأ، وانظر التعليق على الأثر السالف رقم: 9229.
(2) انظر تفسير"التمني" فيما سلف 2: 366.
(3) ولكن هذا باب من القول والتشهي، قد لج فيه أهل هذا الزمان، وخلطوا في فهمه خلطًا لا خلاص منه إلا بصدق النية، وبالفهم الصحيح لطبيعة هذا البشر، وبالفصل بين ما هو أمان باطلة لا أصل لها من ضرورة، وبالخروج من ربقة التقليد للأمم الغالبة، وبالتحرر من أسر الاجتماع الفاسد الذي يضطرب بالأمم اليوم اضطرابًا شديدًا. ولكن أهل ملتنا، هداهم الله وأصلح شئونهم، قد انساقوا في طريق الضلالة، وخلطوا بين ما هو إصلاح لما فسد من أمورهم بالهمة والعقل والحكمة، وبين ما هو إفساد في صورة إصلاح. وقد غلا القوم وكثرت داعيتهم من ذوي الأحقاد، الذين قاموا على صحافة زمانهم، حتى تبلبلت الألسنة، ومرجت العقول، وانزلق كثير من الناس مع هؤلاء الدعاة، حتى صرنا نجد من أهل العلم، ممن ينتسب إلى الدين، من يقول في ذلك مقالة يبرأ منها كل ذي دين. وفرق بين أن تحيي أمة رجالا ونساء حياة صحيحة سليمة من الآفات والعاهات والجهالات، وبين أن تسقط الأمة كل حاجز بين الرجال والنساء، ويصبح الأمر كله أمر أمان باطلة، تورث أهلها الحسد والبغي بغير الحق، كما قال أبو جعفر لله دره، ولله بلاؤه. فاللهم اهدنا سواء السبيل، في زمان خانت الألسنة فيه عقولها! وليحذر الذين يخالفون عن أمر الله، وعن قضائه فيهم، أن تصيبهم قارعة تذهب بما بقي من آثارهم في هذه الأرض، كما ذهبت بالذين من قبلهم.(8/260)
ذكر الأخبار بما ذكرنا:
9236 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل، قال حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله، لا نعطَي الميراث، ولا نغزو في سبيل الله فنُقتل؟ فنزلت:"ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض". (1)
9237 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: يا رسول الله: تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت:"ولا تتمنوا ما فضَّل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيبٌ مما اكتَسَبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن"، ونزلت: (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ) [سورة الأحزاب: 35] .
9238 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تتمنَّوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، يقول: لا يتمنى الرجل يقول:"ليت أنّ لي مالَ فلان وأهلَه"! فنهى الله سبحانه عن ذلك، ولكن ليسأل الله من فضله.
9239 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، قال: قول النساء:"ليتنا رجالا فنغزو ونبلُغ ما يبلغ الرجال"! (2)
__________
(1) الحديث: 9236 - سفيان في هذا الإسناد: يجوز أن يكون الثوري، وأن يكون ابن عيينة. فمؤمل يروي عنهما، وكلاهما روى هذا الحديث: الثوري في الرواية عقب هذه: 9237، وابن عيينة في الرواية: 9241.
وسيأتي تخريج الحديث في: 9241.
(2) في المطبوعة: "ليتنا رجال" بالرفع، وهو الوجه السائر، أما المخطوطة، فقد كتب"رجالا"، وضبطها بالقلم ضبطًا، ولذلك أثبتها كما هي في المخطوطة، و"ليت" تنصب الاسم وترفع الخبر، وبعض النحويين ينصب الاسمين جميعًا، وأنشدوا: يا لَيْتَ أَيَامَ الصَّبَا رَوَاجِعَا
وحكى بعض النحويين: أن بعض العرب يستعمل"ليت"، بمنزلة"وجدت"، فيعديها إلى مفعولين، ويجريها مجرى الأفعال، فيقول: "ليت زيدًا شاخصًا". فرواية الخبر بالنصب، صواب كما ترى، لا معنى لتغييره. ولا يحمل هذا على الخطأ من الناسخ، فالظاهر أن أبا جعفر أتى بالخبر التالي وفيه: "ليتنا رجال"، لينبه على هذه الرواية بالنصب. وانظر ص 264، تعليق: 1.(8/261)
9240 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، قولُ النساء يتمنين:"ليتنا رجال فنغزو"! ثم ذكر مثل حديث محمد بن عمرو.
9241 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة: أيْ رسول الله، أتغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصفُ الميراث؟ فنزلت:"ولا تتمنوا ما فضل الله". (1)
__________
(1) الحديث: 9241- هو في تفسير عبد الرزاق، ص: 41 (مخطوط مصور) ، بهذا الإسناد. وقد سبق بإسنادين آخرين: 9236، 9237.
ورواه أحمد في المسند 6: 322 (حلبي) ، عن سفيان، وهو ابن عيينة، بهذا الإسناد.
ورواه الترمذي 4: 88، عن ابن أبي عمر، عن سفيان. وفيه: "عن مجاهد، عن أم سلمة: أنها قالت: يغزو الرجال ... "، إلخ.
ورواه الحاكم 2: 305-306، من طريق قبيصة بن عقبة، عن سفيان - وهو الثوري - عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: "عن أم سلمة: أنها قالت ... ". ورواه الواحدي في أسباب النزول، ص 110، من طريق قتيبة، عن ابن عيينة - كرواية عبد الرازق هنا، وأحمد في المسند.
فاختلفت صيغة الرواية عن مجاهد. ففي بعضها: "عن مجاهد، قال: قالت أم سلمة". وفي بعضها: "عن مجاهد عن أم سلمة: أنها قالت".
فالصيغة الأولى ظاهرها الإرسال، لأن معناها أن مجاهدًا يحكي من قبل نفسه ما قالته أم سلمة للنبي صلى الله عليه وسلم، فيكون مرسلا، لأنه لم يدرك ذلك.
والصيغة الثانية ظاهرها الاتصال، لأن معناها أن مجاهدًا يذكر هذا رواية عن أم سلمة. ثم يختلفون أيضًا في وصله دون حجة.
فقد قال الترمذي - بعد روايته"عن مجاهد عن أم سلمة"-: "هذا حديث مرسل. ورواه بعضهم عن ابن أبي نجيح عن مجاهد، مرسلا: أن أم سلمة قالت كذا وكذا".
وقال الحالكم - بعد روايته"عن مجاهد عن أم سلمة"-: "هذا حديث على شرط الشيخين، إن كان سمع مجاهد من أم سلمة". ووافقه الذهبي على تصحيحه، وأعرض عن تعليله فلم يشر إليه.
وعندي - بما أرى من السياق والقرائن - أن الروايتين بمعنى واحد، وإنما هو اختلا، في اللفظ من تصرف الرواة. وكلها بمعنى"مجاهد عن أم سلمة". فقد ثبت اللفظان من رواية ابن عيينة. وكذا قد ثبتا في رواية الثوري، هنا في: 9237، وفي رواية الحاكم. وقد نقل ابن كثير 2: 428، عن ابن أبي حاتم أنه قال: "وروى يحيى القطان ووكيع بن الجراح، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن أم سلمة، قالت: قلت: يا رسول الله".
وأما حكم الترمذي في روايته من طريق ابن عيينة -بأنه حديث مرسل، فإنه جزم بلا دليل.
ومجاهد أدرك أم سلمة يقينًا وعاصرها، فإنه ولد سنة 21، وأم سلمة ماتت بعد سنة 60 على اليقين.
والمعاصرة - من الراوي الثقة - تحمل على الاتصال، إلا أن يكون الراوي مدلسًا. ولم يزعم أحد أن مجاهدًا مدلس، إلا كلمة قالها القطب الحلبي في شرح البخاري، حكاها عنه الحافظ في التهذيب 10: 44، ثم عقب عليها بقوله: "ولم أر من نسبه إلى التدليس". وقال الحافظ أيضًا في الفتح 6: 194، ردًا على من زعم أن مجاهدًا لم يسمع من عبد الله بن عمرو -: "لكن سماع مجاهد بن عبد الله من عمرو ثابت، وليس بمدلس".
فثبت عندنا اتصال الحديث وصحته. والحمد لله. والحديث ذكره ابن كثير 2: 428، من رواية المسند، ثم أشار إلى روايات الترمذي، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن جرير، والحاكم.
وذكره السيوطي 2: 149، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وسعيد بن منصور، وابن المنذر.(8/262)
9242 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن شيخ من أهل مكة قوله:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، قال: كان النساء يقلن:"ليتنا رجال فنجاهد كما يجاهد الرجال، ونغزو في سبيل الله"! فقال الله:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض".
9243 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: تتمنى مالَ فلان ومال فلان! وما يدريك؟ لعل هلاكَه في ذلك المال!
9244 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة ومجاهد: أنهما قالا نزلت في أم سلمة ابنة أبي أمية بن المغيرة. (1)
__________
(1) الأثر: 9244 - ابن كثير 2: 429، والدر المنثور 2: 149، ولم ينسبه لغير ابن جرير.(8/263)
9245 - وبه قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء قال: هو الإنسان، يقول:"وددت أن لي مال فلان"! قال:"واسألوا الله من فضله"، وقول النساء:"ليت أنا رجالا فنغزو ونبلغ ما يبلغ الرجال"! (1)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يتمنَّ بعضكم ما خصّ الله بعضًا من منازل الفضل.
*ذكر من قال ذلك:
9246 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، فإن الرجال قالوا:"نريد أن يكون لنا من الأجر الضعفُ على أجر النساء، كما لنا في السهام سهمان، فنريد أن يكون لنا في الأجر أجران". وقالت النساء:"نريد أن يكون لنا أجرٌ مثل أجر الرجال، فإنا لا نستطيع أن نقاتل، ولو كتب علينا القتال لقاتلنا"! فأنزل الله تعالى الآية، وقال لهم: سلوا الله من فضله، يرزقكم الأعمال، وهو خير لكم.
9247 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد قال: نُهيتم عن الأمانيّ، ودُللتم على ما هو خير منه:"واسألوا الله من فضله".
9248 - حدثني المثنى قال، حدثنا عارم قال، حدثنا حماد بن زيد،
__________
(1) في المطبوعة: "ليتنا رجال فنغزو"، على الوجه السائر، ولكني أثبت ما في المخطوطة، ولم أغيره، وهو صواب عند النحاة، فإنهم يقولون: إن من بعض لغات العرب أن تنصب"أن" الاسم والخبر جميعًا، قال بذلك أبو عبيد القاسم بن سلام والفراء وابن السيد وابن الطراوة. واستشهدوا بقول الشاعر إذَا الْتَفَّ جِنْحُ اللَّيْلِ، فَلْتَأْتِ، وَلْتَكُنْ ... خُطَاكَ خِفَافًا إنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا
وانظر التعليق السالف ص: 261، تعليق: 2.(8/264)
عن أيوب قال: كان محمد إذا سمع الرجل يتمنى في الدنيا قال: قد نهاكم الله عن هذا:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض"، ودلكم على خير منه:"واسألوا الله من فضله".
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على هذا التأويل: ولا تتمنوا، أيها الرجال والنساء، الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ودرجات الخير، وليرض أحدكم بما قسم الله له من نصيب، ولكن سَلُوا الله من فضله.
* * *
القول في تأويل قوله: {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: للرجال نصيب مما اكتسبوا، من الثواب على الطاعة، والعقاب على المعصية ="وللنساء نصيب" من ذلك مثل ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
9249 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض للرجال نصيبٌ مما اكتسبوا وللنساء نصيبٌ مما اكتسبن"، كان أهل الجاهلية لا يورَّثون المرأة شيئًا ولا الصبيَّ شيئًا، وإنما يجعلون الميراث لمن يَحْترف وينفع ويدفع. (1) فلما نَجَزَ للمرأة نصيبها وللصبيّ نصيبه، (2) وجَعل للذكر مثل حظّ الأنثيين، قال النساء:"لو
__________
(1) احترف لعياله، وحرف لعياله: سعى لهم في الكسب وطلب الرزق.
(2) في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 2: 149"لحق"، واللام في المخطوطة مائلة. فرأيت أن"لحق" هنا لا معنى لها، ولم أجدها من قبل في كلام معناه كمعنى هذا الكلام، واجتهدت قراءتها، ورجحت أنها"نجز". يقال: "نجز حاجته": إذا قضاها وعجلها، كأنه قال: فلما عجل للمرأة نصيبها وقضاه.(8/265)
كان جعل أنصباءَنا في الميراث كأنصباء الرجال"! وقال الرجال:"إنا لنرجو أن نفضَّل على النساء بحسناتنا في الآخرة، كما فضلنا عليهن في الميراث"! فأنزل الله:"للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن"، يقول: المرأة تُجزى بحسنتها عشر أمثالها، كما يُجْزى الرجل، قال الله تعالى:"واسألوا الله من فضله".
9250 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثني أبو ليلى قال، سمعت أبا حريز يقول: لما نزل:"للذكر مثل حظ الأنثيين"، قالت النساء: كذلك عليهم نصيبان من الذنوب، كما لهم نصيبان من الميراث! فأنزل الله:"للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن"، يعني الذنوب ="واسألوا الله"، يا معشر النساء ="من فضله". (1)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: للرجال نصيب مما اكتسبوا من ميراث موتاهم، وللنساء نصيب منهم.
*ذكر من قال ذلك:
9251 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"للرجال نصيب مما
__________
(1) الأثر: 9250 -"عبد الرحمن بن أبي حماد" انظر ما سلف عنه برقم: 3109، 4077، 6691، 8431، ورواية المثنى عنه.
و"أبو ليلى" هو: "عبد الله بن ميسرة الكوفي"، ويكنى"أبا إسحاق"، وقد سلفت ترجمته برقم: 6920.
و"أبو حريز" هو: "عبد الله بن الحسين الأزدي" قاضي سجستان. قال ابن حبان في الثقات: "صدوق"، وقال ابن أبي عدي: "عامة ما يرويه لا يتابعه عليه أحد". وقال سعيد بن أبي مريم: "كان صاحب قياس، وليس في الحديث شيء". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "أبو جرير"، وهو خطأ، والمخطوطة غير منقوطة.(8/266)
اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن"، يعني: ما ترك الوالدان والأقربون: يقول: للذكر مثل حظّ الأنثيين.
9252 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أبي إسحاق، عن عكرمة أو غيره في قوله:"للرجال نصيب مما أكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن"، قال: في الميراث، كانوا لا يورِّثون النساء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، قول من قال: معناه: للرجال نصيب من ثواب الله وعقابه مما اكتسبوا فعملوه من خير أو شر، وللنساء نصيب مما اكتسبن من ذلك كما للرجال.
وإنما قلنا إن ذلك أولى بتأويل الآية من قول من قال:"تأويله: للرجال نصيب من الميراث، وللنساء نصيب منه"، لأن الله جل ثناؤه أخبر أن لكل فريق من الرجال والنساء نصيبًا مما اكتسب. وليس الميراث مما اكتسبه الوارث، وإنما هو مال أورثه الله عن ميّته بغير اكتساب، وإنما"الكسب" العمل، و"المكتسب": المحترف. (1) فغير جائز أن يكون معنى الآية = وقد قال الله:"للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن": للرجال نصيبٌ مما ورِثوا، وللنساء نصيب مما ورثن. لأن ذلك لو كان كذلك لقيل:"للرجال نصيب مما لم يكتسبوا، وللنساء نصيب مما لم يكتسبن"!!
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الكسب" و"الاكتساب" فيما سلف 2: 273، 274 / 3: 100، 101، 128، 129 / 4: 449 / 6: 131، 295 / 7: 327، 364.(8/267)
القول في تأويل قوله: {وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واسألوا الله من عونه وتوفيقه للعمل بما يرضيه عنكم من طاعته. ففضله في هذا الموضع: توفيقه ومعونته كما:- (1)
9253 - حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال، حدثنا أبو جعفر النفيلي قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن اشعث، عن سعيد:"واسألوا الله من فضله"، قال: العبادة، ليست من أمر الدنيا.
9254 - حدثنا محمد بن مسلم قال، حدثني أبو جعفر قال، حدثنا موسى، عن ليث قال:"فضله"، العبادة، ليسَ من أمر الدنيا. (2)
9255 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هشام، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"واسألوا الله من فضله"، قال: ليس بعرض الدنيا.
9256 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأسألوا الله من فضله"، يرزقكم الأعمال، وهو خير لكم.
9257 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي قال، حدثنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل لم يسمه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله، فإنه يحب أن يسأل، وإنّ من أفضل العبادة انتظار الفَرَج. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير: "الفضل" فيما سلف 2: 344 / 5: 164، 571 / 6: 516 / 7: 299، 414.
(2) الأثران: 9253، 9254-"محمد بن مسلم الرازي"، هو المعروف بابن واره، واسمه"محمد بن مسلم بن عثمان بن عبد الله"، الحافظ، كان أحد المتقنين الأمناء، قالوا: كان ابن مسلم شيئًا عجبًا. وكان أبو زرعة الرازي لا يقوم لأحد، ولا يجلس أحدًا في مكانه إلا ابن واره. وكان ابن واره فيه بأو شديد وعجب. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 79، وتاريخ بغداد 3: 256.
و"أبو جعفر النفيلي"، هو: "عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل القضاعي"، روى له الأئمة. كان حافظًا، وكان الإمام أحمد إذا رآه يعظمه. مترجم في التهذيب.
(3) الأثر: 9257 -"حكيم بن جبير الأسدي"، تكلموا فيه، قال أحمد: "ضعيف الحديث مضطرب"، وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث، منكر الحديث، له رأي غير محمود، نسأل الله السلامة، غال في التشيع".
وهذا الأثر رواه الترمذي في كتاب الدعوات: 514 من طريق: بشر بن معاذ العقدي، عن حماد بن واقد، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله بن مسعود، ثم قال الترمذي: "هكذا روى حماد بن واقد هذا الحديث، وحماد بن واقد ليس بالحافظ. وروى أبو نعيم هذا الحديث عن إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن رجل، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحديث أبي نعيم أشبه أن يكون أصح". وقال ابن كثير في تفسيره 2: 430، ونقل ما قاله الترمذي: "وكذا رواه ابن مردويه من حديث وكيع عن إسرائيل. ثم رواه من حديث قيس بن الربيع، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سلوا الله من فضله، فإن الله يحب أن يسأل، وإن أحب عباد الله إلى الله الذي يحب الفرج".(8/268)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الله كان بما يصلح عباده - فيما قسم لهم من خير، ورفع بعضهم فوق بعض في الدين والدنيا، وبغير ذلك من قضائه وأحكامه فيهم ="عليما"، يقول: ذا علم. فلا تتمنوا (1) غير الذي قضى لكم، ولكن عليكم بطاعته، والتسليم لأمره، والرضى بقضائه، ومسألته من فضله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأقْرَبُونَ}
يعني جل ثناؤه بقوله:"ولكلّ جعلنا موالي"، ولكلكم، أيها الناس ="جعلنا موالي"، يقول: ورثة من بني عمه وإخوته وسائر عصبته غيرهم.
* * *
والعرب تسمي ابن العم"المولى"، ومنه قول الشاعر: (2)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "ولا تتمنوا"، والجيد ما أثبت.
(2) لم أعرف قائله.(8/269)
وَمَوْلًى رَمَيْنَا حَوْلَهُ وَهُوَ مُدْغِلٌ ... بِأَعْرَاضِنَا وَالْمُنْدِيَاتِ سَرُوعُ (1)
يعني بذلك: وابن عم رمينا حوله، ومنه قول الفضل بن العباس:
مَهْلا بَنِي عَمِّنَا مَهْلا مَوَالِينَا ... لا تُظْهِرُنَّ لَنَا مَا كانَ مَدْفُونَا (2)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9258 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال، حدثنا إدريس قال، حدثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ولكل جعلنا موالي"، قال: ورثة.
9259 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان"، قال: الموالي، العصبة، يعني = الورثة.
9260 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"ولكل جعلنا موالي"، قال: الموالي، العصبة.
__________
(1) لم أجد البيت في مكان، وهو في المخطوطة. بأعواضنا والممديات سروع
و"رجل مدغل": ذو خب مفسد بين الناس. و"المنديات"، المخزيات، وأنا بعد ذلك في شك شديد من"بأعراضنا" و"سروع"، فتركت البيت على حاله حتى أجده، أو ألتمس له وجهًا صحيحًا. وقوله: "رمينا حوله"، أي ناضلنا عنه، ودافعنا ورامينا من حوله من يراميه.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 125، والكامل 2: 279 والمؤتلف والمختلف، ومعجم الشعراء: 35، 310، والحماسة 1: 121، والصداقة والصديق: 139، واللسان (ولى) وغيرها. وراويتهم. لا تَنْبِشُوا بَيْنَنَا مَا كانَ مَدْفُونَا
وهي أجود الروايتين وأحقهما بمعنى الشعر، وفي اللسان رواية أخرى لا تقوم.(8/270)
9261 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد قوله:"ولكل جعلنا موالي"، قال: هم الأولياء.
9262 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولكل جعلنا موالي"، يقول: عصبة.
9263 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولكل جعلنا موالي"، قال: الموالي: أولياء الأب، أو الأخ، (1) أو ابن الأخ، أو غيرهما من العصبة.
9264 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولكل جعلنا موالي"، أما"موالي"، فهم أهل الميراث.
9265 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكل جعلنا موالي"، قال: الموالي: العصبة. هم كانوا في الجاهلية الموالي، فلما دخلت العجم على العرب لم يجدوا لهم اسمًا، فقال الله تبارك وتعالى: (فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) [سورة الأحزاب: 5] ، فسموا:"الموالي"، قال: و"المولى" اليوم موليان: مَوْلى يرث ويورث، فهؤلاء ذوو الأرحام - وموَّلى يورَث ولا يرِث، فهؤلاء العَتَاقة. (2) وقال: ألا ترون قول زكريا: (وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي) [سورة مريم: 5] ؟ فالموالي ههنا الورثة.
* * *
ويعني بقوله:"مما ترك الوالدان والأقربون"، مما تركه والده وأقرباؤه من الميراث.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "الأب الأخ" بإسقاط "أو"، والصواب من المخطوطة.
(2) يقال: "هو مولى عتاقة"، هو الذي أعتق من الرق، و"العتاقة" (بفتح العين) مصدر مثل"العتق" (بكسر فسكون) و"عتاق" (بفتح العين) . وقوله: "فهؤلاء العتاقة"، يعني: فهؤلاء موالي العتاقة، فإن لا يكن قد سقط من الناسخ"موالي"، فهو مصدر وصف به، بمعنى فهؤلاء المعتقون.(8/271)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: ولكلكم، أيها الناس، جعلنا عَصبة يرثون به مما ترك والده وأقرباؤه من ميراثهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ}
(1)
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعضهم: (وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) ، بمعنى: والذين عقدت أيمانكم الحلفَ بينكم وبينهم. وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (والذين عاقدت أيمانكم) ، بمعنى: والذين عاقدت أيمانكم وأيمانهم الحلفَ بينكم وبينهم.
* * *
قال أبو جعفر: والذي نقول به في ذلك: إنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة أمصار المسلمين بمعنى واحد.
* * *
وفي دلالة قوله:"أيمانكم" على أنها أيمان العاقدين والمعقود عليهم الحلف، مستغنىَّ عن الدلالة على ذلك بقراءة قوله:"عقدت"،"عاقدت". وذلك أن الذين قرأوا ذلك:"عاقدت"، قالوا: لا يكون عَقْد الحلف إلا من فريقين، ولا بد لنا من دلالة في الكلام على أن ذلك كذلك. وأغفلوا موضعَ دلالة قوله:"أيمانكم"، على أن معنى ذلك أيمانكم وأيمانُ المعقود عليهم، وأن العقد إنما هو صفة للأيمان دون
__________
(1) لم يذكر في المخطوطة والمطبوعة: "فآتوهم نصيبهم" في هذا الموضع، ولا فيما بعده، فأثبتها في مكانها، لأنه فسرها بعد في هذا الموضع.(8/272)
العاقدين الحلف، حتى زعم بعضهم أن ذلك إذا قرئ:"عقدت أيمانكم"، فالكلام محتاج إلى ضمير صفة تقَى الكلام، (1) حتى يكون الكلام معناه: والذين عقدت لهم أيمانكم = ذهابًا منه عن الوجه الذي قلنا في ذلك، من أن الأيمان معنيٌّ بها أيمان الفريقين.
* * *
وأما"عاقدت أيمانكم"، فإنه في تأويل: عاقدت أيمانُ هؤلاء أيمانَ هؤلاء، الحلفَ.
فهما متقاربان في المعنى، وإن كانت قراءة من قرأ ذلك:"عقدت أيمانكم" بغير"ألف"، أصح معنى من قراءة من قرأه:"عاقدت"، للذي ذكرنا من الدلالة المُغنية في صفة الأيمان بالعقد، (2) على أنها أيمان الفريقين = من الدلالة على ذلك بغيره. (3)
* * *
وأما معنى قوله:"عقدت أيمانكم"، فإنه: وَصَلت وشَدّت وَوكَّدت =
__________
(1) في المطبوعة: "إلى ضمير صلة في الكلام"، وهو خلط لا معنى له. وأثبت ما في المخطوطة، وقوله: "ضمير"، أي: إضمار، وقد سلف مثل ذلك 1: 427، تعليق: 1 / 2: 107، تعليق: 1. وأما قوله: "صفة" فقد سلف مرارًا أن"الصفة" هي حرف الجر، و"حروف الصفات"، هي حروف الجر (انظر 6: 329، تعليق: 6، والمراجع هناك) ، والمعنى: إضمار حرف جر.
وأما قوله: "تقى الكلام" فهذا لفظ غم على معناه، وهو في المخطوطة كما أثبته، ولعله أراد أن حرف الجر المتعلق بقوله: "عقدت" يقي الجملة من فساد المعنى. ولعل ذلك من قديم عبارتهم، وإن كنت لا أحققه، وفوق كل ذي علم عليم.
(2) في المطبوعة: "من الدلالة على المعنى - في صفة الأيمان بالعقد" وهو باطل المعنى، وفي المخطوطة: "من الدلالة على المعنية في صفة الأيمان بالعقد"، والذي لا شك فيه زيادة"على" في هذه العبارة، وأن قراءتها"المغنية". وانظر التعليق التالي.
(3) تداخلت مراجع حروف الجر في هذه الجملة، وأحببت أن ألين سياقها، فهو يقول: "للذي ذكرنا من الدلالة المغنية في صفة الأيمان بالعقد ... من الدلالة على ذلك بغيره"، فقوله: "من الدلالة" متعلق بقوله: "المغنية"، يعني أن صفة الأيمان بالعقد، دلالة على أنها أيمان الفريقين، وأن هذه الدلالة مغنية من الدلالة على ذلك المعنى بدلالة غيرها.(8/273)
"أيمانكم"، يعني: مواثيقكم التي واثق بعضهم بعضًا (1) ="فآتوهم نصيبهم".
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"النصيب" الذي أمر الله أهل الحلف أن يؤتي بعضهم بعضًا في الإسلام. (2)
فقال بعضهم: هو نصيبه من الميراث، لأنهم في الجاهلية كانوا يتوارثون، فأوجب الله في الإسلام من بعضهم لبعض بذلك الحلف، وبمثله في الإسلام، من الموارثة مثل الذي كان لهم في الجاهلية. ثم نسخ ذلك بما فرض من الفرائض لذوي الأرحام والقرابات.
*ذكر من قال ذلك:
9266 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسن بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري في قوله:"والذين عاقدتْ أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدًا"، (3) قال: كان الرجل يحالف الرجل ليس بينهما نسبٌ، فيرث أحدهما الآخر، فنسخ الله ذلك في"الأنفال" فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة الأنفال: 75] . (4)
9267 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قول الله:"والذين عاقدت أيمانكم"،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "واثق بعضهم بعضًا"، والسياق يقتضي أن تكون: "بعضكم"، كما أثبتها.
(2) انظر تفسير"النصيب" فيما سلف 4: 206 / 6: 288.
(3) ستأتي القراءة مرة"عاقدت" ومرة"عقدت" في الآثار التالية، فتركتها كما هي في المخطوطة والمطبوعة، فإن اختلفتا، أثبت ما في المخطوطة، دون إشارة إلى ذلك من فعلي.
(4) أثبت تمام الآية في المخطوطة.(8/274)
قال: كان الرجل يعاقد الرجل فيرثه، وعاقد أبو بكر رضي الله عنه مولىً فورثه.
9268 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، فكان الرجل يعاقد الرجل: أيُّهما مات ورثه الآخر. فأنزل الله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا) [سورة الأحزاب: 6] ، يقول: إلا أن يوصوا لأوليائهم الذين عاقدوا وصيةً، فهو لهم جائز من ثلث مال الميت. وذلك هو المعروف.
9269 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم إن الله كان على كل شيء شهيدًا"، كان الرجل يعاقد الرجل في الجاهلية فيقول:"دمي دمُك، وهَدَمي هَدَمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك". (1) فجعل له السدس من جميع المال في الإسلام، ثم يقسم أهل الميرات ميراثهم. فنسخ ذلك بعد في"سورة الأنفال" فقال الله: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [سورة الأنفال: 6] .
9270 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
__________
(1) قولهم: "دمي دمك"، أي: إن قتلني إنسان طلبت بدمي كما تطلب دم وليك وأخيك. و"الهدم" (بسكون الدال وتحريكها) ، فإذا سكنت الدال، فمعناه: من هدم لي عزًا وشرفًا فقد هدمه منك، أو: من أهدر دمي فقد أهدر دمك = أو: ما عفوت أنا عنه من الدم، فعليك أن تعفو عنه. وأما "الهدم" (بفتح الدال) : فأصله: الشيء الذي انهدم، وهو قريب المعنى من الأول، ويقال: هو القبر، أي: أقبر حيث تقبر. يريدون: لا تفارقني ولا أفارقك في الحياة والممات.
وقولهم: "تطلب بي وأطلب بك"، أي: تطلب الثأر بي، إذا أصابني مكروه، وأفعل ذلك بك. و"الباء" هنا بمعنى: السبب، أي بسببي ومن جراء ما أصابني. وهذه الكلمات كلها توثيق في العهد، وعقد لازم يوجب على الرجلين أن يتعاونا في الخير والشر، لا يفارق أحدهما صاحبه في المحنة والبلاء.(8/275)
معمر، عن قتادة:"والذين عاقدت أيمانكم"، قال: كان الرجل في الجاهلية يعاقد الرجل فيقول:"دمي دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك". (1) فلما جاء الإسلام بقي منهم ناس، فأمروا أن يؤتوهم نصيبهم من الميراث، وهو السدس، ثم نسخ ذلك بالميراث، فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ) .
9271 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة يقول، في قوله:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، وذلك أن الرجل كان يعاقد الرجلَ في الجاهلية فيقول:"هدمي هدمك ودمي دمك، وترثني وأرثك، وتطلب بي وأطلب بك"، (2) فجعل له السدس من جميع المال، ثم يقتسم أهل الميراث ميراثهم. فنسخ ذلك بعد في"الأنفال" فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) ، فصارت المواريث لذوي الأرحام.
9272 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة قال: هذا حِلْفٌ كان في الجاهلية، كان الرجل يقول للرجل:"ترثني وأرثك، وتنصرني وأنصرك، وتَعْقِل عني وأعقل عنك". (3)
9273 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، (4) سمعت الضحاك يقول في قوله:"والذين عاقدت أيمانكم"، كان الرجل يتبع الرجل فيعاقده:"إن مِتُّ، فلك مثل ما يرث بعض ولدي"! وهذا منسوخ.
__________
(1) انظر التعليق السالف.
(2) انظر التعليق السالف.
(3) "العقل" (بفتح فسكون) : الدية."عقل القتيل عقلا": أدى ديته. و"عقل عنه": أدى جنايته، وذلك إذا لزمته دية فأعطاها عنه.
(4) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ كثر في هذه المطبوعة، نبهت عليه مرارًا، والصواب من المخطوطة، وهو إسناد دائر في التفسير، وسأصححه منذ اليوم ثم لا أشير إليه ثانية.(8/276)
9274 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، فإن الرجل في الجاهلية قد كان يلحق به الرجل فيكون تابعه، فإذا مات الرجل صار لأهله وأقاربه الميراث، وبقي تابعه ليس له شيء، فأنزل الله:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، فكان يعطى من ميراثه، فأنزل الله بعد ذلك: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) .
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في الذين آخى بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، فكان بعضهم يرث بعضًا بتلك المؤاخاة، ثم نسخ الله ذلك بالفرائض، وبقوله:"ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون".
*ذكر من قال ذلك:
9275 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال، حدثنا إدريس بن يزيد قال، حدثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، قال: كان المهاجرون حين قَدِموا المدينة، يرث المهاجريٌّ الأنصاريَّ دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم. فلما نزلت هذه الآية:"ولكل جعلنا موالي"، نسخت. (1)
__________
(1) الأثر: 9275 - أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 8: 186) مطولا، وفرقه الطبري، فروى بعضه هنا، وروى سائره برقم: 9277، قال الحافظ ابن حجر: "إدريس، هو ابن يزيد الأودي (بفتح الألف وسكون الواو) والد عبد الله بن إدريس الفقيه الكوفي، ثقة عندهم، وما له في البخاري سوى هذا الحديث. ووقع في رواية الطبري عن أبي كريب، عن أبي أسامة: حدثنا إدريس بن يزيد"، وقد وقع في رواية البخاري نقص، سقط منه"فآتوهم نصيبهم" مع أن قوله: "من النصر" متعلق بقوله: "فآتوهم نصيبهم" لا بقوله: "عاقدت"، وهو وجه الكلام، واستدركه الحافظ في الفتح من رواية الطبري هذه.(8/277)
9276 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والذين عاقدت أيمانكم"، الذين عقد رسول الله صلى الله عليه وسلم ="فآتوهم نصيبهم"، إذا لم يأت رحمٌ تحول بينهم. قال: وهو لا يكون اليوم، إنما كان في نفر آخىَ بينهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وانقطع ذلك. ولا يكون هذا لأحدٍ إلا للنبي صلى الله عليه وسلم، كان آخى بين المهاجرين والأنصار، واليوم لا يؤاخَى بين أحد.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في أهل العقد بالحلف، ولكنهم أمروا أن يؤتي بعضهم بعضًا أنصباءهم من النصرة والنصيحة وما أشبه ذلك، دون الميراث.
*ذكر من قال ذلك:
9277 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال، حدثنا إدريس الأودي قال، حدثنا طلحة بن مصرف، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم" من النصر والنصيحة والرِّفادة، ويوصي لهم، وقد ذهبَ الميراث. (1)
9278 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"والذين عقدت أيمانكم". قال: كان حلفٌ في الجاهلية، (2) فأمرُوا في الإسلام أن يعطوهم نصيبهم من العقل والمشورة
__________
(1) الأثر: 9277 - هو تمام الأثر السالف رقم: 9275، وقد سلف التعليق عليه. وقد كان في المخطوطة: "وقد الميراث" بينهما بياض، أتمته المطبوعة على الصواب من رواية البخاري. وفي البخاري زيادة: "وقد ذهب الميراث، ويوصى له".
و"الرفادة" (بكسر الراء) : الإعانة بالعطية والصلة، ومنه"الرفادة" التي كانت قريش تترافد بها في الجاهلية، يخرج كل إنسان مالا بقدر طاقته، فيجمعون من ذلك مالا عظيما أيام الموسم، فيشترون به للحاج الجزر والطعام والزبيب، فلا يزالون يطعمون الناس حتى تنقضي أيام الحج. وكانت الرفادة والسقاية لبني هاشم.
(2) "كان" هنا تامة، لا اسم لها ولا خبر.(8/278)
والنصرة، (1) ولا ميراث.
9279 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم" من العوْن والنصر والحِلف.
9280 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد في قوله الله:"والذين عاقدت أيمانكم"، قال: كان هذا حلفًا في الجاهلية، فلما كان الإسلام، أمروا أن يؤتوهم نصيبهم من النصر والولاء والمشورة، ولا ميراث.
9281 - حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، قال ابن جريج:"والذين عاقدت أيمانكم"، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول: هو الحلف:"عقدت أيمانكم". قال:"فآتوهم نصيبهم"، قال: النصر.
9282 - حدثني زكريا بن يحيى قال، حدثنا حجاج، قال، ابن جريج، أخبرني عطاء قال: هو الحلف. قال:"فآتوهم نصيبهم"، قال: العقل والنصر.
9283 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"والذين عاقدت أيمانكم"، قال: لهم نصيبهم من النصر والرِّفادة والعقل. (2)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "من العقل والنصرة والمشورة"، ولكن المخطوطة وضعت حرف"م" على كل من"النصرة والمشورة" بمعنى تقديم الثاني على الأول. ففعلت ذلك.
و"العقل": الدية، كما سلف شرحها قريبًا ص: 276، تعليق: 2.
(2) الأثر: 9283 - في المطبوعة: "محمد بن محمد بن عمرو"، وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة، ومع ذلك فهو إسناد كثير الدوران في التفسير، أقربه: 9239.
وانظر تفسير"العقل"، و"الرفادة" فيما سلف قريبًا من التعليقات.(8/279)
9284 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
9285 - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"والذين عاقدت أيمانكم"، قال: هم الحلفاء.
9286- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا عباد بن العوام، عن خصيف، عن عكرمة مثله.
9287 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، أما"عقدت أيمانكم"، فالحلفُ، كالرجل في الجاهلية ينزل في القوم فيحالفونه على أنه منهم، يواسونه بأنفسهم، (1) فإذا كان لهم حق أو قتال كان مثلهم، وإذا كان له حق أو نصرة خذلوه. فلما جاء الإسلام سألوا عنه، وأبى اللهُ إلا أن يشدّده. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لم يزد الإسلام الحُلفاء إلا شدة".
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنون أبناءَ غيرهم في الجاهلية، فأمروا في الإسلام أنْ يوصوا لهم عند الموت وصيةً. (2)
*ذكر من قال ذلك:
9288 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال، حدثني سعيد بن المسيَّب: أن الله قال:"ولكل جعلنا موالي مما ترك الوالدان والأقربون والذين عاقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، قال سعيد بن المسيب: إنما نزلت هذه الآية في الذين كانوا يتبنَّون
__________
(1) "آساه بنفسه وواساه بنفسه"، جعله"أسوة له". أي: مثلا له. ومنها"المواساة"، وهي المشاركة والمساهمة في المعاش والرزق.
(2) في المطبوعة: "فأمروا بالإسلام" وهي سقيمة، صوابها من المخطوطة.(8/280)
رجالا غير أبنائهم ويورِّثونهم، فأنزل الله فيهم، فجعل لهم نصيبًا في الوصية، وردّ الميراث إلى الموالي في ذي الرحم والعصبة، (1) وأبى الله للمدَّعَيْن ميراثًا ممن ادّعاهم وتبنّاهم، ولكنّ الله جعل لهم نصيبًا في الوصية.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"والذين عقدت أيمانكم"، قولُ من قال:"والذين عقدت أيمانكم على المحالفة، وهم الحلفاء". وذلك أنه معلوم عند جميع أهل العلم بأيام العرب وأخبارها، أنّ عقد الحلف بينها كان يكون بالأيمان والعهود والمواثيق، على نحو ما قد ذكرنا من الرواية في ذلك.
فإذ كان الله جل ثناؤه إنما وصف الذين عقدت أيمانهم ما عقدوه بها بينهم، دون من لم تعقد عقدًا بينهم أيمانهم (2) = وكانت مؤاخاة النبي صلى الله عليه وسلم بين من آخى بينه وبينه من المهاجرين والأنصار، لم تكن بينهم بأيمانهم، وكذلك التبني = (3) كان معلومًا أن الصواب من القول في ذلك قولُ من قال:"هو الحلف"، دون غيره، لما وصفناه من العلة.
* * *
وأما قوله:"فآتوهم نصيبهم"، فإن أولى التأويلين به، ما عليه الجميع مجمعون من حكمه الثابت، وذلك إيتاءُ أهل الحلف الذي كان في الجاهلية دون الإسلام، بعضِهم بعضًا أنصباءَهم من النصرة والنصيحة والرأي، دون الميراث. وذلك لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية، فلم يزدْهُ الإسلام إلا شدة".
9289 - حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن شريك، عن
__________
(1) في المطبوعة: "في ذوي الرحم"، وهي صواب، والذي أثبته من المخطوطة صواب أيضًا.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "دون من لم يعقد عقد ما بينهم أيمانهم"، وصواب قراءتها ما أثبت. ثم قوله بعد: "وكانت مؤاخاة النبي ... " معطوف على قوله: "فإذ كان الله ... ".
(3) قوله: "كان معلومًا"، جواب قوله: "فإذ كان الله ... " وما عطف عليه.(8/281)
سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (1)
9290 - وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل بن يونس، عن محمد بن عبد الرحمن مولى آل طلحة، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حلف في الإسلام، وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة. وما يسرني أنّ لي حُمَر النعم، وأنى نقضتُ الحلف الذي كان في دار الندوة. (2)
9291 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم الضبيّ: أن قيس بن عاصم سألَ النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف فقال: لا حلف في الإسلام، ولكن تمسكوا بحلف الجاهلية.
__________
(1) الحديث: 9289 - إسناده صحيح.
ورواه أحمد في المسند: 2911، 3046، من طريق شريك، بهذا الإسناد مختصرًا، ليس فيه قوله"لا حلف في الإسلام". وهذه الزيادة ثابتة فيه في رواية أبي يعلى. فقد ذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 173. كاملا وقال: "رواه أبو يعلى، وأحمد باختصار. ورجالهما رجال الصحيح".
وذكره ابن كثير 2: 431-432، عن هذا الموضع من الطبري.
وذكره السيوطي 2: 151، مختصرًا كرواية المسند. وقصر في تخريجه جدًا، إذ لم ينسبه لغير عبد بن حميد.
(2) الحديث: 9290 - وهذا إسناد آخر، من وجه آخر - لحديث ابن عباس، بلفظ أطول من الذي قبله.
وهو إسناد صحيح.
محمد بن عبد الرحمن بن عبيد، مولى آل طلحة: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التهذيب. والكبير للبخاري 1 / 1 / 146، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 318.
والزيادة التي هنا -"وما يسرني أن لي حمر النعم"- ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد، حديثًا مستقلا، 8: 172، وقال: "رواه الطبراني. وفيه مرزوق بن المرزبان، ولم أعرفه، وبقية رجاله رجال الصحيح".
وليس إسناد الطبراني أمامي، حتى أستطيع أن أقول فيه. ولكن إسناد الطبري هنا خلا من ذاك الرجل، فصح الحديث من هذا الوجه.
وذكره ابن كثير 2: 432، عن هذا الموضع، ولم يزد.
"حمر النعم" انظر تفسيرها فيما سلف رقم: 9185.(8/282)
9292 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن أبيه، عن شعبة بن التوأم، عن قيس بن عاصم: أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الحلف، قال فقال: ما كان من حلف في الجاهلية فتمسكوا به، ولا حلف في الإسلام. (1)
9293 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن داود بن أبي عبد الله، عن ابن جُدْعان، عن جدّته، عن أمّ سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام، وما كان من حلف في الجاهلية لم يزده الإسلام إلا شدّة". (2)
__________
(1) الحديثان: 9291، 9292 - مغيرة: هو ابن مقسم الضبي، مضى في: 3349. أبوه: "مقسم الضبي": مترجم في التعجيل، ص: 409 ترجمة موجزة، وأنه ذكره ابن حبان في الثقات. وهو تابعي، روى عن النعمان بن بشير. وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 33. وابن أبي حاتم 4 / 1 / 414-415. ولم يذاكرا فيه جرحًا.
شعبة بن التوأم الضبي، ويقال"التميمي": تابعي ثقة. مترجم في التعجيل، ص: 177-178، والإصابة 3: 230، والكبير 2 / 2 / 244، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 368.
والحديث رواه الطيالسي: 1084، عن جرير بن عبد الحميد، عن مغيرة، أي بأول الإسنادين هنا.
ورواه أحمد في المسند 5: 61 (حلبي) عن هشيم، عن مغيرة. أي بثانيهما.
ونقله ابن كثير 2: 432، عن ثانيهما. ثم أشار إلى رواية أحمد. ثم نقله ثانيًا، ص 433، من رواية المسند.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 172. وقال: "رواه أحمد". ثم لم يزد!
وأشار إليه ابن أبي حاتم في ترجمة"شعبة بن التوأم"، فقال: "روى عن قيس بن عاصم، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: لا حلف في الإسلام".
(2) الحديث: 9293 - داود بن أبي عبد الله، مولى بني هاشم: ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، كما في التهذيب. وترجمه ابن أبي حاتم 1 / 2 / 417، فلم يذكر فيه جرحًا.
ابن جدعان: المشهور بذلك عند أهل هذا الشأن، هو"علي بن زيد بن جدعان". وقد روى الترمذي 4: 25، بهذا الإسناد: "أبو كريب ... " - حديث"المستشار مؤتمن".
فظن الحافظ ابن عساكر - في كتاب الأطراف - أنه هو"علي بن زيد". وتعقبه الحافظ المزي في تهذيب الكمال، ص: 817-818 (مخطوط مصور) ، فقال: "وذلك وهم منه. والصواب: جده عبد الرحمن بن محمد بن زيد بن جدعان" - يعني لقوله في الإسناد: "عن ابن جدعان، عن جدته".
وفي تهذيب الكمال، وتهذيب التهذيب، في ترجمة داود، وفي ترجمة"عبد الرحمن" (3: 191، و6: 267 من تهذيب التهذيب) أن البخاري روى في الأدب المفرد حديث"المستشار مؤتمن" - من طريق داود"عن عبد الرحمن بن محمد" هذا. وأن ذاك هو الدليل على أن المراد ب"ابن جدعان" هو"عبد الرحمن بن محمد". والذي رأيته في الأدب المفرد (ص: 29) بهذا الإسناد حديث مطول، ولكن ليس فيه كلمة"المستشار مؤتمن". فالظاهر أنهما يريدان أصل الحديث. ولكن رواية البخاري هي التي كشفت عن الصواب في اسم"ابن جدعان".
وجدة ابن جدعان - هذه - مجهولة، لم يعرف اسمها. وعندي أن جهالتها لا تضر. فالغالب - فيما أرى - أنها صحابية. لأن عبد الرحمن بن محمد تابعي، روى عن عائشة، وعن ابن عمر. فجدته يكلد العارف أن يوقن أنها صحابية، أو مخضرمة على الأقل. والنساء في تلك العصور لم يعرفن باصطناع الروايات. ولذلك قال الذهبي في الميزان (3: 395) : "فصل في النسوة المجهولات. وما علمت في النساء من اتهمت، ولا من تركوها". وقوله هنا"عن جدته" - في المطبوعة"عمن حدثه"! وهو تحريف. وفي مطبوعة ابن كثير 2: 432- حين نقل هذا الحديث عن الطبري -"عن ابن جدعان، حدثه"! وهو تحريف أيضًا. وصوابه، كما أثبتنا"عن جدته". وقد ثبت على الصواب في مخطوطة الأزهر من تفسير ابن كثير (2: 273 نسخة مصورة عندي) .
والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 173. وقال: "رواه أبو يعلى، والطبراني. وفيه جدة ابن أبي مليكة، ولم أعرفها. وبقية رجاله ثقات".
و"جدة ابن أبي مليكة": هي"جدة ابن جدعان"، لأن ابن جدعان - هنا -: هو"عبد الرحمن بن محمد بن زيد بن جدعان". فهو ابن أخي"علي بن زيد بن جدعان"، وقد نسبوا إلى جدهم الأعلى. إذ"علي بن زيد": هو"علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله بن جدعان". وإنما الذي اشتهر عند المحدثين باسم"ابن أبي مليكة" - فهو"عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة زهير ... ". وهو ابن عم"علي بن زيد".(8/283)
9294 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا حسين المعلم = وحدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا حسين المعلم = وحدثنا حاتم بن بكر الضبيّ قال، حدثنا عبد الأعلى، عن حسين المعلم = قال، حدثنا أبي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم فتح مكة: فُوا بحلفٍ، فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة، ولا تُحدثوا حلفًا في الإسلام". (1)
__________
(1) الحديث: 9294 - حاتم بن بكر الضبي - شيخ الطبري: هكذا ثبت هنا اسم أبيه"بكر". وقد مضى في: 3222 بالتصغير"بكير". وبينا هناك أنه ثبت في التقريب والتهذيب"بكر"، وفي الخلاصة"بكير". وها هو ذا الاختلاف وقع في موضعين من الطبري. ثم رجعت إلى النسخة المخطوطة المصورة من تهذيب الكمال، ص: 214، فظهر أن ناسخها أسقط كلمة"بكر" فأثبته"حاتم بن غيلان"، ممنسوبًا إلى جده. وهو سهو من الناسخ يقينًا، لأنه أثبته قبل ترجمة"حاتم بن حريث". ولو كان أصله"حاتم بن غيلان" لأخره إلى موضعه في حرف الغين في آباء من اسمه"حاتم"، فيكون موضعه بعد"حاتم بن العلاء". فبقي الإشكال في اسم أبيه كما هو؟
وهذا الحديث رواه الطبري هنا، مختصرًا، بثلاثة أسانيد: عن"حميد بن مسعدة، عن حسين المعلم". ثم عن"مجاهد بن موسى، عن يزيد بن هارون، عن حسين المعلم". ثم عن"حاتم بن بكر الضبي، عن عبد الأعلى، عن حسين المعلم". ثم يقول حسين المعلم"حدثنا أبي، عن عمرو بن شعيب".
وفي هذه الأسانيد إشكالان:
أولهما: أن"حميد بن مسعدة" مات سنة 244، فمن المحال أن يروى عن"حسين المعلم"، ويقول -كما هنا -"حدثنا حسين المعلم". لأن حسينًا مات سنة 145، فبين وفاتيهما 99 سنة!! والراجح عندي أن يكون الناسخون أسقطوا شيخًا بين حميد وحسين.
وثانيهما: أن"حسينًا المعلم": هو"حسين بن ذكوان". وهو يروي عن عمرو بن شعيب مباشرة. ولو كان هذا وحده لكان هناك احتمال أن يروي عنه أيضًا بواسطة أبيه. ولكن الإشكال في أن"ذكوان" والد"حسين المعلم" ليس له ذكر في دوواين الرجال بشيء من الرواية، ولا ذكر أحد أن ابنه يروي عنه. فأنا أرجح أيضًا أن يكون قوله هنا"حدثنا أبي" زيادة خطأ من الناسخين.
ويؤيد أن زيادة"حدثنا أبي" تخليط من الناسخين - أن ابن كثير حين أشار إلى هذا الإسناد 2: 432، قال: "ثم رواه - يعني الطبري - من حديث حسين المعلم، وعبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، به". فذكر أن حسينًا رواه عن عمرو بن شعيب. ولم يذكر أنه"عن حسين عن أبيه".
وأما الحديث نفسه، فإنه سيأتي معناه، من رواية محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب: 9297، 9298، ومن رواية عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو: 9299. ويأتي تخريجه هناك، إن شاء الله.(8/284)
9295 - حدثنا أبو كريب وعبدة بن عبد الله الصفار قالا حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنا زكريا بن أبي زائدة قال، حدثني سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن جبير بن مطعم: أن النبي صلى الله عليه وسلم. قال: لا حلف في الإسلام، وأيُّما حِلف كان في الجاهلية، فلم يزده الإسلام إلا شدة. (1)
__________
(1) الحديث: 9295 - زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي: ثقة معروف، من شيوخ شعبة والثوري. أخرج له الجماعة.
سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف، قاضي المدينة: ثقة كثير الحديث، وهو ثبت لا شك فيه. أخرج له الجماعة.
أبوه"إبراهيم بن عبد الرحمن": تابعي ثقة، من كبار التابعين. مترجم في التهذيب. والكبير 1 / 1 / 295، وابن سعد 5: 39-40، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 111.
"جبير بن مطعم": صحابي معروف، من قريش، من بني نوفل. قدم المدينة في فداء أسارى بدر. ثم أسلم بعد ذلك.
والحديث رواه أحمد في المسند: 16832ج4 ص83 حلبي، من طريق زكريا، وهو ابن أبي زائدة - بهذا الإسناد.
وكذلك رواه مسلم 2: 270، والبيهقي 6: 262- كلاهما من طريق زكريا.
وذكره ابن كثير 2: 432-433، من رواية المسند. ثم أشار إلى أنه رواه مسلم، وأبو داود، وابن جرير، والنسائي.(8/285)
9296 - حدثنا حميد بن مسعدة ومحمد بن عبد الأعلى قالا حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبد الرحمن بن إسحاق = وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق = عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عوف، أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: شهدت حلف المطيِّبين. وأنا غلام مع عُمومتي، فما أحبّ أن لي حٌمرَ النعم وأني أنْكُثُه = زاد يعقوب في حديثه عن ابن علية. قال: وقال الزهري: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يُصب الإسلام حلفًا إلا زاده شدة. قال: ولا حلفَ في الإسلام. قال: وقد ألَّف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قُريش والأنصار. (1)
__________
(1) الحديث: 9296 - بشر بن المفضل بن لاحق البصري: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق وابن المديني. أخرج له الجماعة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1 / 2 / 84، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 366.
وهذا الحديث رواه الطبري بإسنادين من طريق عبد الرحمن بن إسحاق.
وهو: "عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله العامري". وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وأخرج له مسلم. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1 / 1 / 52، وابن سعد 5: 151-152، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 218.
والحديث رواه أحمد: 1655، عن بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق - بهذا الإسناد.
ثم روى له أوله: 1676، عن إسماعيل، وهو ابن علية، عن عبد الرحمن بن إسحاق.
وكذلك روى البخاري أوله، في الأدب المفرد، ص: 83، من طريق ابن علية. ووقع فيه هناك خطأ مطبعي، يصحح من هذا الموضع.
وهذا الحديث في حقيقته حديثان:
أولهما: حديث متصل، من حديث عبد الرحمن بن عوف.
وثانيهما: حديث مرسل. وهو قول الزهري: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ... " - إلى آخره.
وقد فصلنا القول في ذلك في المسند: 1655.(8/286)
9297 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، قال: لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة عامَ الفتح، قام خطيبًا في الناس فقال:"يا أيها الناس، ما كان من حِلف في الجاهلية فإنّ الإسلام لم يزده إلا شدة، ولا حلف في الإسلام".
9298 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه.
9299 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد قال، حدثنا سليمان بن بلال قال، حدثنا عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (1)
* * *
__________
(1) الأحاديث: 9297-9299، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد. وقد مضى بنحوه: 9294.
يزيد - في الإسناد الأول: هو يزيد بن هارون.
عبد الرحمن - في الإسناد الثالث: هو عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة.
والحديث رواه أحمد في المسند - ضمن حديث مطول: 6692، عن يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق. وأشرنا إلى كثير من أسانيده هناك، وفي الاستدراك: 2832.
ورواه البخاري في الأدب المفرد، ص: 83-84، مختصرًا كما هنا، عن خالد بن مخلد، بالإسناد الأخير هنا.
وذكره ابن كثير 2: 432، عن الرواية: 9298 هنا. ثم أشار إلى الروايتين: 9294، 9299.(8/287)
قال أبو جعفر: فإذ كان ما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحًا = وكانت الآية إذا اختُلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ، (1) غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ - مع اختلاف المختلفين فيه، ولوجُوب حكمها وَنفي النسخ عنه وجه صحيحٌ - (2) إلا بحجة يجب التسليم لها، لما قد بينَّا في غير موضع من كتبنا الدلالةَ على صحةِ القول بذلك (3) = (4) فالواجب أن يكون الصحيح من القول في تأويل قوله:"والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم"، هو ما ذكرنا من التأويل، وهو أن قوله:"عقدت أيمانكم" من الحلف، وقوله:"فآتوهم نصيبهم" من النصرة والمعونة والنصيحة والرأي، على ما أمرَ به من ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأخبار التي ذكرناها عنه = (5) دون قول من قال:"معنى قوله: فآتوهم نصيبهم، من الميراث"، وان ذلك كان حكما ثم نُسخ بقوله:"وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله"، ودونَ ما سِوَى القول الذي قلناه في تأويل ذلك. (6)
وإذْ صَحّ ما قلنا في ذلك، وجب أن تكون الآية محكمة لا منسوخةً. (7)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "منسوخ هي"، خطأ، صوابه ما أثبت.
(2) سياق العبارة: "غير جائز القضاء عليه بأنه منسوخ ... إلا بحجة يجب التسليم لها"، والذي بينهما قيد اعترض به بين طرفي الكلام.
(3) انظر مقالته في: "الناسخ والمنسوخ" فيما سلف: 131، والتعليق 1، والمراجع هناك.
(4) قوله: "فالواجب ... "، جواب قوله آنفًا: "فإذ كان ما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحًصا".
(5) السياق: "فالواجب أن يكون الصحيح من القول ... هو ما ذكرنا من التأويل ... دون قول من قال".
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "دون ما سوى القول" بلا واو عاطفة، والصواب إثبات"واو العطف"، عطفًا على قوله آنفًا: "دون قول من قال".
(7) أشكل على ابن كثير هذا الموضع من كلام الطبري فرواه عنه ثم قال: "وفيه نظر، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة، ومنه ما كان على الإرث، كما حكاه غير واحد من السلف وكما قال ابن عباس: كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه، حتى نسخ ذلك. فكيف يقول: إن هذه الآية محكمة غير منسوخة، والله أعلم".
وهذا الذي تعجب منه ابن كثير، قد بينه الطبري، وأقام عليه كل مذهبه، في كل ناسخ ومنسوخ، وقد كرره مرات كثيرة في تفسيره، وقد أعاده هنا عند ذكر الناسخ والمنسوخ فقال: إن الآية إذا اختلف في حكمها منسوخ هو أم غير منسوخ، واختلف المختلفون في حكمها، وكان لنفي النسخ عنها وإثبات أنها محكمة وجه صحيح، لم يجز لأحد أن يقضي بأن حكمها منسوخ، إلا بحجة يجب التسليم لها. وقد بين أبو جعفر مرارًا أن الحجة التي يجب التسليم لها هي: ظاهر القرآن، والخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما تأويل ابن عباس أو غيره من الأئمة، فليس حجة في إثبات النسخ في آية، لتأويلها على أنها محكمة وجه صحيح.
فالعجب لابن كثير، حين عجب من أبي جعفر في تأويله وبيانه. ولو أنصف لنقض حجة الطبري في مقالته من الناسخ والمنسوخ، لا أن يحتج عليه ويتعجب منه، لحجة هي منقوضة عند الطبري، قد أفاض في نقضها مرارًا في كتابه هذا، وفي غيرها من كتبه كما قال، رحم الله أبا جعفر، وغفر الله لابن كثير.(8/288)
القول في تأويل قوله: {إٍنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فآتوا الذين عقدت أيمانكم نصيبهم من النصرة والنصيحة والرأي، فإن الله شاهد على ما تفعلون من ذلك، وعلى غيره من أفعالكم، مُرَاعٍ لكل ذلك، حافظٌ، حتى يجازي جميعَكم على جميع ذلك جزاءه، أما المحسنَ منكم المتبع أمري وطاعتي فبالحسنى، وأما المسيءَ منكم المخالفَ أمري ونهيي فبالسوأى. ومعنى قوله:"شَهيدا"، ذو شهادة على ذلك. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الشهيد" فيما سلف 1: 376-378 / 3: 97. 145 / 6: 60، 75 / 7: 243(8/289)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
القول في تأويل قوله: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "الرجال قوّامون على النساء"، الرجال أهل قيام على نسائهم، في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم ="بما فضّل الله بعضهم على بعض"، يعني: بما فضّل الله به الرجال على أزواجهم: من سَوْقهم إليهنّ مهورهن، وإنفاقهم عليهنّ أموالهم، وكفايتهم إياهن مُؤَنهنّ. وذلك تفضيل الله تبارك وتعالى إياهم عليهنّ، ولذلك صارُوا قوّامًا عليهن، نافذي الأمر عليهن فيما جعل الله إليهم من أمورهن.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9300 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"الرجال قوّامون على النساء"، يعني: أمرَاء، عليها أن تطيعه فيما أمرَها الله به من طاعته، وطاعته: أن تكون محسنةً إلى أهله، حافظةً لماله. وفضَّله عليها بنفقته وسعيه.
9301 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض"، يقول: الرجل قائمٌ على المرأة، يأمرها بطاعة الله، فَإن أبت فله أن يضربها ضربًا غير مبرِّح، وله عليها الفضل بنفقته وسعيه.
9302 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت.(8/290)
أسباط، عن السدي:"الرجال قوامون على النساء"، قال: يأخذون على أيديهن ويُؤدّبونهن. (1)
9303 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول:"بما فضل الله بعضهم على بعض"، قال: بتفضيل الله الرجال على النساء.
* * *
وذُكر أنّ هذه الآية نزلت في رجل لطم امرأته، فخوصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، فقضَى لها بالقصاص.
ذكر الخبر بذلك:
9304 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا الحسن: أنّ رجلا لطمَ امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يُقِصّها منه، فأنزل الله:"الرجالُ قوّامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم"، فدعاه النبيّ صلى الله عليه وسلم فتلاها عليه، وقال: أردتُ أمرًا وأراد الله غيرَه.
9305 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الرجال قوامون على النساء بما فضّل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم"، ذكر لنا أن رجلا لطم امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه.
9306 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"الرّجال قوّامون على النساء"، قال: صك رجل امرأته، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأراد أن يُقِيدَها منه، فأنزل الله:"الرجال قوامون على النساء".
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ويؤدبوهن"، وهو سهو من الناسخ، وفي هامش المخطوطة حرف"ط" دلالة على الخطأ، أو كأنه كان هكذا في الأصل الذي نقله عنه، خطأ أيضًا.(8/291)
9307 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن جرير بن حازم، عن الحسن: أنّ رجلا من الأنصار لطم امرأته، فجاءت تلتمس القصاص، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم بينهما القصاص، فنزلت: (وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ) [سورة طه: 114] ، ونزلت:"الرجال قوّامون على النساء بما فضّل الله بعضَهم على بعض". (1)
9308 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لطم رجلٌ امرأته، فأراد النبيّ صلى الله عليه وسلم القصاص. فبيناهم كذلك، نزلت الآية.
9309 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"الرجال قوامون على النساء"، فإن رجلا من الأنصار كان بينه وبين امرأته كلامٌ فلطمها، فانطلق أهلها، فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأخبرهم:"الرجال قوامون على النساء" الآية.
* * *
وكان الزهري يقول: ليس بين الرجل وامرأته قصاص فيما دون النفس.
9310 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، سمعت الزهري يقول: لو أن رجلا شَجَّ امرأته أو جَرحها، لم يكن عليه في ذلك قَوَدٌ، وكان عليه العَقل، إلا أن يعدُوَ عليها فيقتلها، فيقتل بها. (2)
* * *
وأما قوله:"وبما أنفقوا من أموالهم"، فإنه يعني: وبما ساقوا إليهن من
__________
(1) "سورة طه" سورة مكية باتفاق، فيقول الحسن إنها نزلت في شأن المرأة الأنصارية وذلك بالمدينة ولا ريب، قول فيه نظر.
(2) "القود": القصاص. و"العقل" الدية وما أشبهها.
هذا، وبحسب امرئ مسلم أن يحفظ من صحيح حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما رواه البخاري ومسلم: "أيضرب أحدكم امرأته، ثم يجامعها في آخر اليوم"، وما رواه ابن ماجه: "خياركم خياركم لنسائهم".(8/292)
صداق، وأنفقوا عليهن من نفقة، كما:-
9311 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: فضله عليها بنفقته وسعيه.
9312 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك مثله.
9313 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول:"وبما أنفقوا من أموالهم"، بما ساقوا من المهر.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا: الرجال قوامون على نسائهم، بتفضيل الله إياهم عليهن، وبإنفاقهم عليهنّ من أموالهم.
* * *
و"ما" التي في قوله:"بما فضل الله"، والتي في قوله:"وبما أنفقوا"، في معنى المصدر.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فالصالحات"، المستقيمات الدين، العاملات بالخير، (1) كما:-
9314 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا عبد الله بن المبارك قال، سمعت سفيان يقول:"فالصالحات"، يعملن بالخير.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف 3: 91 / 6: 380 / 7: 130.(8/293)
وقوله:"قانتات"، يعني: مطيعات لله ولأزواجهن، كما:-
9315 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قانتات"، قال: مطيعات.
9316 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قانتات"، قال: مطيعات.
9317 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله. (1)
9318 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"قانتات"، مطيعات.
9319 - حدثنا الحسن بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قانتات"، أي: مطيعات لله ولأزواجهن.
9320 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال:"مطيعات".
9321 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"القانتات"، المطيعات.
9322 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله:"قانتات"، قال: مطيعات لأزواجهن.
وقد بينا معنى"القنوت" فيما مضى، وأنه الطاعة، ودللنا على صحة ذلك من الشواهد بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 9317 - هذا الأثر زدته من المخطوطة وقد حذفته المطبوعة، وقد أحسن في حذفه لأنه تكرار لا معنى له للذي قبله، ولكني أثبته هنا مخافة أن يكون الناسخ قد تجاوز بصره، فوضع الإسناد مرة أخرى كما هو، ويكون في الإسناد خلاف أخطأه نظره.
(2) انظر ما سلف 2: 538، 539 / 5: 228--237 / 6: 264، 401.(8/294)
وأما قوله:"حافظات للغيب"، فإنه يعني: حافظات لأنفسهن عند غيبة أزواجهن عنهن، في فروجهن وأموالهم، وللواجب عليهن من حق الله في ذلك وغيره، كما:-
9323 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"حافظات للغيب"، يقول: حافظات لما استودعهن الله من حقه، وحافظات لغيب أزواجهن.
9324 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"حافظات للغيب بما حفظ الله"، يقول: تحفظ على زوجها مالَه وفرجَها حتى يرجع، كما أمرَها الله.
9325 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء ما قوله:"حافظات للغيب"، قال: حافظات للزوج.
9326 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: سألت عطاء عن"حافظات للغيب"، قال: حافظات للأزواج.
9327 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول:"حافظات للغيب"، حافظات لأزواجهن، لما غاب من شأنهن.
9328 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا أبو معشر قال، حدثنا سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خيرُ النساء امرأةٌ إذا نظرتَ إليها سرَّتك، وإذا أمرَتها أطاعتك، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك. قال: ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الرجال قوامون على النساء" الآية. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 9328 - في المطبوعة والمخطوطة: "سعيد عن أبي سعيد المقبري"، وهو خطأ ظاهر، كما سيتبين لك من تخريجه؛ أخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده: 306 من حديث أبي معشر، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، وذكر ابن كثير في تفسيره 2: 436، أن ابن أبي حاتم"رواه عن يونس بن حبيب، عن أبي داود الطيالسي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن سعيد المقبري، به سواء". فإن يكن ذلك كذلك، فقد أخطأ ابن أبي حاتم في روايته عن أبي داود، فالثابت في مسنده أنه من حديثه عن أبي معشر، ولعله وهم، فإن الآثار التي قبله مباشرة، رواها أبو داود من طريق ابن أبي ذئب عن سعيد بن أبي سعيد المقبري.
وهذا الأثر نسبه السيوطي في الدر المنثور 2: 151، لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والحاكم، والبيهقي في سننه. والذي وجدته في المستدرك للحاكم 2: 161، من طريق ابن عجلان، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة، بمعناه بغير هذا اللفظ، مختصرًا، وقال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ولم أعرف مكانه في سنن البيهقي.(8/295)
قال أبو جعفر: وهذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدُلّ على صحة ما قلنا في تأويل ذلك، وأن معناه: صالحاتٌ في أديانهن، مطيعاتٌ لأزواجهن، حافظات لهم في أنفسهنّ وأموالهم.
* * *
وأما قوله:"بما حفظ الله"، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة القرأة في جميع أمصار الإسلام: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) ، برفع اسم"الله"، على معنى: بحفظ الله إياهن إذ صيَّرهن كذلك، كما:-
9329 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج سألت عطاء عن قوله:"بما حفظ الله"، قال يقول: حفظهن الله.
9330 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول في قوله:"بما حفظ الله"، قال: بحفظ الله إياها، أنه جعلها كذلك.
* * *
وقرأ ذلك أبو جعفر يَزيد بن القَعْقاع المدني (1) (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) يعني:
__________
(1) "أبو جعفر: يزيد بن القعقاع المدني المخزومي" مولى عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي، أحد القراء العشرة، تابعي مشهور كبير القدر، أتوا به إلى أم سلمة أم المؤمنين، وهو صغير، فمسحت على رأسه ودعت له بالبركة، وصلى بابن عمر. كان إمام أهل المدينة في القراءة فسمي"القارئ" قال ابن معين: "كان ثقة قليل الحديث". طبقات القراء 2: 382-384.(8/296)
بحفظهنّ الله في طاعته وأداء حقه بما أمرهن من حفظ غَيب أزواجهن، كقول الرجل للرجل:"ما حَفِظتَ اللهَ في كذا وكذا"، بمعنى: ما راقبته ولا حِفْتَهُ. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصوابُ من القراءة في ذلك ما جاءت به قرأة المسلمين من القراءة مجيئًا يقطع عذرَ من بَلغه ويُثبّتُ عليهُ حجته، دون ما انفرد به أبو جعفر فشذّ عنهم. وتلك القراءة ترفع اسم"الله" تبارك وتعالى: (بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) ، مع صحة ذلك في العربية وكلام العرب، وقُبح نصبه في العربية، لخروجه عن المعروف من منطق العرب.
وذلك أن العربَ لا تحذف الفاعلَ مع المصادر، من أجل أنّ الفاعل إذا حذف معها لم يكن للفعل صاحبٌ معروف.
* * *
وفي الكلام متروك استغني بدلالة الظاهر من الكلام عليه من ذكره، ومعناه: فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، فاحسِنوا إليهن وأصلحوا.
* * *
وكذلك هو فيما ذكر في قراءة ابن مسعود.
9331 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد قال، حدثنا عيسى الأعمى، عن طلحة بن مصرف قال: في قراءة عبد الله: (فالصالحات قانتات للغيب بما حفظ الله فأصلحوا إليهن واللاتي تخافون نشوزهن) .
9332 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل. قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) ، فأحسنوا إليهنّ.
__________
(1) في المخطوطة: "راقبته ولا خفته"، وفي المطبوعة: "راقبته ولاحظته" وصواب قراءة المخطوطة ما أثبت، بزيادة"ما" قبل"راقبته"، وقوله: "ولا خفته" من الخوف.(8/297)
9333 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله"، فأصلِحوا إليهن.
9334 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله"، يعني: إذا كن هكذا، فأصلحوا إليهنّ.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ} (1)
اختلف أهلُ التأويل في معنى قوله:"واللاتي تخافونُ نشوزهن".
فقال بعضهم: معناه: واللاتي تعلمون نشوزهن. ووجه صرف"الخوف"، في هذا الموضع، إلى"العلم"، في قول هؤلاء، نظيرُ صرف"الظن" إلى"العلم"، لتقارب معنييهما، إذ كان"الظن"، شكًّا، وكان"الخوفُ" مقرونًا برَجاء، وكانا جميعًا من فعل المرء بقلبه (2) كما قال الشاعر: (3)
وَلا تَدْفِنَنَّي فِي الْفَلاةِ فَإِنَّني ... أَخَافُ إذَا مَا مِتُّّ أَنْ لا أَذُوقُهَا (4)
معناه: فإنني أعلم، وكما قال الآخر: (5)
__________
(1) لم يذكر في المخطوطة والمطبوعة: "فعظوهن"، مع أنه فسرها بعد، ولم يفردها عن هذا الموضع.
(2) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف 3: 550، 551.
(3) هو أبو محجن الثقفي.
(4) سلف البيت وتخريجه في 3: 551، وأزيد هنا، معاني القرآن للفراء 1: 146، 265، مع اختلاف يسير في الرواية، ونسيت هناك أن أرده إلى هذا الموضع، فألحق ذلك بمكانه هناك.
(5) هو أبو الغول الطهوي.(8/298)
أَتَانِي كَلامٌ عَنْ نُصَيْبٍ يَقُوُلُهُ ... وَمَا خِفْتُ، يَا سَلامُ أَنَّكَ عَائِبي (1)
بمعنى: وما ظننتُ.
* * *
وقال جماعة من أهل التأويل: معنى"الخوف" في هذا الموضع: الخوف الذي هو خلاف"الرجاء". قالوا: معنى ذلك: إذا رأيتم منهن ما تخافون أن ينشزن عليكم، من نظر إلى ما لا ينبغي لهن أن ينظرن إليه، ويَدخُلن ويخرجن، واسترْبتم بأمرهن، فعِظُوهن واهجروهنّ. وممن قال ذلك محمد بن كعب. (2)
* * *
وأما قوله:"نشوزهن"، فإنه يعني: استعلاءَهن على أزواجهن، وارتفاعهن عن فُرُشهم بالمعصية منهن، والخلاف عليهم فيما لزمهنّ طاعتهم فيه، بغضًا منهن وإعراضًا عنهم.
* * *
وأصل"النشوز" الارتفاع. ومنه قيل للمكان المرتفع من الأرض:"نَشْز" و"نَشَاز". (3)
="فعظوهن"، يقول: ذكّروهن الله، وخوِّفوهن وعيدَه، في ركوبها ما حرّم الله عليها من معصية زوجها فيما أوجب عليها طاعته فيه. (4)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال:"النشوز"، البغضُ ومعصيةُ الزوج.
9335 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا
__________
(1) سلف تخريجه وشرحه فيما مضى 3: 550، وأزيد هنا معاني القرآن للفراء 1: 146، 265. وكان في المطبوعة هنا"أنك عاتبي"، وهو خطأ فاسد، وهو في المخطوطة غير منقوط.
(2) سيأتي خبر محمد بن كعب القرظي، برقم: 9342.
(3) انظر تفسير"النشوز"، و"النشز" فيما سلف 5: 475، 476.
(4) انظر تفسير"الوعظ" فيما سلف 2: 180، 181 / 6: 14 / 7: 233.(8/299)
أسباط، عن السدي:"واللاتي تخافون نشوزهن"، قال: بغضهن.
9336 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واللاتي تخافون نشوزهن"، قال: التي تخاف معصيتها. قال:"النشوز"، معصيته وخِلافه.
9337 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"واللاتي تخافون نشوزهن"، تلك المرأة تنشز، (1) وتستخفّ بحق زوجها ولا تطيع أمره. (2)
9338 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا روح قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء:"النشوز"، أن تحبَّ فراقَه، والرجلُ كذلك.
* * *
ذكر الرواية عمن قال ما قلنا في قوله:"فعظوهن".
9339 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فعظوهن"، يعني: عظوهن بكتاب الله. قال: أمره الله إذا نشزت أن يعظَها ويذكّرها الله، ويعظِّم حقّه عليها. (3)
9340 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن"، قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها يقول لها:"اتقي الله وارجعي إلى فراشك"! فإن أطاعته، فلا سبيلَ له عليها.
9341 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "قيل المرأة تنشز"، وهو كلام فاسد جدًا، والصواب من الدر المنثور 2: 154، 155، والسنن الكبرى 7: 303.
(2) الأثر: 9337 - رواه البيهقي في السنن 7: 303، من طريق عثمان بن سعيد، عن عبد الله بن صالح، بمثله مطولا، وسيروي الطبري جزءًا منه برقم: 9339 ثم رقم: 9356.
(3) الأثر: 9339 - سنن البيهقي 3: 303، وانظر التعليق على الأثر: 9337.(8/300)
عن يونس، عن الحسن قال: إذا نشزت المرأة على زوجها فليعظْها بلسانه. يقول: يأمرها بتقوى الله وطاعته.
9342 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: إذا رأى الرجل خِفّةً في بَصرها، (1) ومدخلَها ومخرجَها. قال يقول لها بلسانه:"قد رأيت منك كذا وكذا، فانتَهِي"! فإن أعْتَبت، فلا سبيل له عليها. وإن أبت، هَجر مَضجعها. (2)
9343 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فعظوهن"، قال: إذا نشزت المرأة عن فراش زوجها، فإنه يقول لها:"اتقي الله وارجعي".
9344 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء:"فعظوهن"، قال: بالكلام.
9345 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله:"فعظوهن"، قال: بالألسنة.
9346 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير:"فعظوهن" قال: عظُوهن باللسان. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إذا رأى الرجل تقصيرها في حقه"، وعلق عليه بقوله: "في بعض النسخ: إذا رأى الرجل خفة في بصرها، وفي مدخلها ومخرجها"، والذي في بعض النسخ، هو الذي في مخطوطتنا، مع حذف"في" قبل"وفي مدخلها"، وهذا هو الصواب المحض، والذي في المطبوعة لا شك في أنه تصرف قبيح من ناسخ. وذلك أن أبا جعفر ذكر هذا آنفًا ص: 299س: 5: "إذا رأيتم منهن ما تخافون أن ينشزن، من نظر إلى ما لا ينبغي لهن أن ينظرن إليه"، ونسبه إلى محمد بن كعب القرظي، وهذا هو معنى"وخفة في بصرها"، أي: أنها تطمح ببصرها إلى غيره من الرجال.
(2) الأثر: 9342 - سيأتي آخره برقم: 9364. وقوله: "ومدخلها ومخرجها" بالنصب فيهما عطفًا على قوله: "خفة"، وهي مفعول"رأى". وقوله: "أعتبت"، من قولك: "أعتبني فلان"، إذا ترك ما كنت تجد عليه من أجله، ورجع إلى ما أرضاك عنه، بعد إسخاطه إياك عليه.
(3) الأثر: 9346 -"عمرو بن أبي قيس الرازي"، مضت ترجمته برقم: 8611.(8/301)
القول في تأويل قوله: {وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: فعظوهن في نشوزهن عليكم، أيها الأزواج، فإن أبينَ مراجعة الحقّ في ذلك والواجب عليهن لكم، فاهجروهن بترك جماعهنَ في مضاجعتكم إياهن.
*ذكر من قال ذلك:
9347 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فعظوهن واهجروهن في المضاجع"، يعني: عظوهن، فإن أطعنكم، وإلا فاهجروهنّ.
9348 - حدثني محمد بن مسعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"واهجروهن في المضاجع"، يعني بالهجران: أن يكون الرجل وامرأته على فراش واحد لا يجامعها.
9349 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: الهجر هجرُ الجماع.
9350 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"تخافون نشوزهن"، فإن على زوجها أن يعظها، فإن لم تقبل فليهجرها في المضجع. يقول: يرقدُ عندها ويولِّيها ظهره ويطؤُها ولا يكلمها = هكذا في كتابي:"ويطؤها ولا يكلِّمها". (1)
__________
(1) قوله: "هكذا في كتابي" من كلام أبي جعفر الطبري، وهذه دقة متناهية، وأمانة بالغة، مع مخافة فساد المعنى من وجوه، ولكنه أثبته كما وجده في كتابه، مخافة أن يكون عنى أن الهجر هجر الكلام وحده، لا هجر الوطء وإن كان الراجح خلاف ذلك، وإلا لضمه إلى القول التالي، وذكره مع الآثار التي في معناه هناك.(8/302)
9351 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قال: يضاجعها، ويهجر كلامها، ويولِّيها ظهره.
9352 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"واهجروهن في المضاجع"، قال: لا يجامعها.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: واهجروا كلامَهن في تركهن مضاجعتكم، (1) حتى يرجعن إلى مضاجعتكم.
*ذكر من قال ذلك:
9353 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، أنها لا تترك في الكلام، ولكن الهِجران في أمر المضجع.
9354- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير:"واهجروهن في المضاجع"، يقول: حتى يأتين مضاجعكم. (2)
9355 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير:"واهجروهن في المضاجع"، في الجماع.
9356 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"واهجروهن في المضاجع"، قال: يعظها فإن هي قبلت، وإلا هجرها في المضجع، ولا يكلمها
__________
(1) في المطبوعة: "واهجروهن واهجروا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 9354 - هذا الأثر مكرر في المخطوطة بنصه مرة أخرى.(8/303)
من غير أن يَذَر نكاحها، وذلك عليها شديدٌ. (1)
9357 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا شريك، عن خصيف، عن عكرمة:"واهجروهن في المضاجع"، الكلامَ والحديثَ.
* * *
[وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تقربوهن في فرشهن، حتى يرجعن إلى ما تحبّون] . (2)
*ذكر من قال ذلك:
9358 - حدثني الحسن بن زُرَيق الطهوي قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قال: لا تضاجعوهن. (3)
9359 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: الهجران أن لا يضاجعها.
9360 - وبه قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر وإبراهيم قالا الهجران في المضجع، أن لا يضاجعها على فراش.
9361 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي أنهما قالا في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قالا يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يحبّ.
9362 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 9357 - هذا تتمة الأثر السالف رقم: 9337، فانظر التعليق عليه هناك.
(2) ما بين القوسين، ساقط من المخطوطة والمطبوعة، واستظهرته من معاني الآثار التالية، وهو القول الثالث من الأقوال الأربعة في تفسير الآية.
(3) الأثر: 9358 -"الحسن بن زريق الطهوي الكوفي". روى عن سفيان بن عيينة، وأبي بكر بن عياش، وجماعة. قال العقيلي: "يحدث عن ابن عيينة بحديث ليس له أصل من حديث ابن عيينة" يعني حديث أنس: "يا أبا عمير، ما فعل النغير". فاعتدل له ابن عدي فقال: "لم أر له أنكر منه، فما أدري: وهم فيه، أو أخطأ، أو تعمد، وبقية أحاديثه مستقيمة". مترجم في لسان الميزان 2: 207، 208، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 15.(8/304)
شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي أنهما كانا يقولان:"واهجروهن في المضاجع"، قالا يهجرُها في المضجع.
9363 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك قال، حدثنا شريك، عن خصيف، عن مقسم:"واهجروهن في المضاجع"، قال: هجرها في مضجعها: أن لا يقرب فراشَها.
9364 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال:"واهجروهن في المضاجع"، قال: يعظها بلسانه، فإن أعتبت فلا سبيل له عليها، وإن أبتْ هجر مضجعها. (1)
9365 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"فعظوهن واهجروهن"، قالا إذا خاف نشوزَها وعظها. فإن قبلتْ، وإلا هجر مضجعها.
9366 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"واهجروهن في المضاجع"، قال: تبدأ يا ابن آدم، فتعظها، فإن أبت عليك فاهجرها = يعني به: فراشَها.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قولوا لهن من القول هُجْرًا في تركهنّ مضاجعتكم.
*ذكر من قال ذلك:
9367 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن رجل، عن أبي صالح، عن ابن عباس في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قال: يهجرها بلسانه، ويُغْلظ لها بالقول، ولا يدع جماعها.
9368 - وبه قال، أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن عكرمة قال: إنما
__________
(1) الأثر: 9364 - هو بعض الأثر السالف رقم: 9342.(8/305)
الهجران بالمنطق: أنْ يغلظ لها، وليس بالجماع.
9369 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن أبي الضحى في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قال: يهجر بالقول، ولا يهجر مضاجعتها حتى ترجع إلى ما يريد.
9370 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد، عن رجل عن الحسن قال: لا يهجرها إلا في المبيت، في المضجع. ليس له أن يهجر في كلام ولا شيء إلا في الفراش.
9371 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني يعلى، عن سفيان في قوله:"واهجروهن في المضاجع"، قال: في مجامعتها، ولكن يقول لها:"تعالَىْ، وافعلي"، كلامًا فيه غلظة. فإذا فعلتْ ذلك، فلا يكلِّفْها أن تحبه، فإن قلبها ليس في يديها.
* * *
قال أبو جعفر: ولا معنى ل"الهجر" في كلام العرب إلا على أحد ثلاثة أوجه.
أحدها:"هجر الرجل كلام الرجل وحديثه"، وذلك رفضه وتركه، يقال منه:"هَجر فلان أهله يهجرُها هجرًا وهجرانًا".
والآخر: الإكثار من الكلام بترديد كهيئة كلام الهازئ، يقال منه:"هجر فلانٌ في كلامه يَهْجُر هَجْرًا"، إذا هذَى ومدّد الكلمة (1) ="وما زالت تلك هِجِّيراه، وإهْجِيرَاه"، ومنه قول ذي الرمة:
رَمَى فَأَخْطَأَ، وَالأقْدَارُ غَالِبَةٌ ... فَانْصَعْنَ وَالْوَيْلُ هِجِّيرَاهُ وَالْحَرَبُ (2)
__________
(1) هذا التفسير لمعنى"الهجر"، وهذه الصفة قلما تصيبها في كتب اللغة، فأثبتها هناك.
(2) ديوانه: 16، والبيت من قصيدته الناصعة، وهو من الأبيات التي وصف فيها حمر الوحش، وصائدها من قبيلة جلان، جاءت الحمر ظماء إلى الماء، وتخفى لها الصائد قد أعد سهامه، فلما وردت الحمر حين دعاها خرير الماء المنسكب، ولم تكد تشرب منه نغبًا تكسر ما تلقى من حرارة العطش، حتى رماها الصائد فأخطأها، على مهارته وحذقه، فإن قدر الله غالب كل مقتدر ="فانصعن" أي: تفرقن هاربات، وبقي الصائد دائبًا يدعو على نفسه بالويل والحرب. و"هجيراه" دأبه، ألح إلحاحًا على ذلك لما أخفق. و"الحرب" نهب مال الإنسان وتركه لا شيء له، يدعو على نفسه بذلك من الغيظ.(8/306)
والثالث:"هَجَر البعير"، إذا ربطه صاحبه بـ "الهِجَار"، وهو حبل يُربط في حَقْويها ورُسغها، (1) ومنه قول امرئ القيس:
رَأَتْ هَلَكًا بِنِجَافِ الْغَبِيطِ ... فَكَادَتْ تَجُدُّ لِذَاكَ الْهِجَارَا (2)
فأما القول الذي فيه الغلظة والأذى، فإنما هو"الإهجار"، ويقال منه:"أهجر فلان في منطقه" = إذا قال"الهُجْر"، (3) وهو الفحش من الكلام ="يُهْجر إهجارًا وهُجرًا".
* * *
فإذ كان لا وجه لـ "الهَجْر" في الكلام إلا أحد المعاني الثلاثة (4) = وكانت المرأة المخوف نشوزُها، إنما أمر زوجها بوعظها لتنيب إلى طاعته فيما يجب عليها له من موافاته عند دعائه إياها إلى فراشه = فغير جائز أن تكون عظته لذلك حتى تفيء المرأة إلى أمر الله وطاعة زوجها في ذلك، (5) ثم يكون الزوج مأمورًا
__________
(1) الحقوان، واحدهما حقو (بفتح فسكون) : الخاصرتان.
(2) ديوانه: 93، معجم ما استعجم: 991، واللسان (هلك) ثاني بيتين، قالهما في ناقته، والأول: أَرَى نَاقَةَ الْقَيْسِ قَدْ أَصْبَحَتْ ... عَلَى الأيْنِ ذَاتَ هِبَابٍ نَوَارَا
"القيس" يعني نفسه. و"الأين" شدة التعب. و"الهباب": النشاط: و"النوار"، النفور من شدة بأسها وقوتها. و"الهلك" (بفتحتين) : ما بين أعلى الجبل وأسفله، أو المهواة بين الجبلين، أو الشق الذاهب في الأرض. و"الغبيط" صحراء متسعة لبني يربوع، وسطها منخفض وطرفها مرتفع، كهيئة الغبيط = وهو الرحل اللطيف = وذكره امرؤ القيس في كثير من شعره. و"النجاف" جمع"نجف" جمع"نجفة": وهي أرض مستطيلة مرتفعة لا يعلوها الماء، تكون في بطن الوادي شبه جدار ليس بالعريض. وقوله"تجد" أي: تقطع حبل الهجار = وهو حبل يشد في رسغها = وذلك نفورًا من المهواة التي أفزعتها.
(3) "الهجر" هنا بضم الهاء وسكون الجيم.
(4) يعني"الهجر" بفتح الهاء وسكون الجيم.
(5) في المطبوعة: "ثم تصير"، وفي المخطوطة مثله، إلا أنه كتب"تصير" بقلم مضطرب، والظاهر أن الناسخ لم يستطع قراءة الكلمة على وجهها فاضطرب قلمه. والصواب المحض"تفيء" أي ترجع، وأما "ثم" فهو سهو منه، بل هي"حتى" كما أثبتها، وهي حق السياق.(8/307)
بهجرها في الأمر الذي كانت عظته إياها عليه.
وإذ كان ذلك كذلك، بطلَ قولُ من قال:"معنى قوله:"واهجروهن في المضاجع، واهجروا جماعهن".
= أو يكون - إذ بطل هذا المعنى - بمعنى (1) واهجروا كلامهن بسبب هجرهنّ مضاجعكم. وذلك أيضًا لا وجه له مفهومٌ. لأن الله تعالى ذكره قد أخبر على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم: أنه لا يَحِل لمسلم أن يهجر أخاه فَوْقَ ثلاث. (2) على أن ذلك لو كان حلالا لم يكن لهجرها في الكلام معنًى مفهوم. لأنها إذا كانت عنه منصرفةً وعليه ناشزًا، فمن سُرورها أن لا يكلمها ولا يَرَاها ولا تراه، فكيف يُؤْمر الرجل = في حال بُغض امرأته إياه، وانصرافها عنه = بترك ما في تركه سُرُورها، من ترك جماعها ومحادثتها وتكليمها؟ (3) وهو يؤمر بضربها لترتدع عما هي عليه من ترك طاعته، إذا دعاها إلى فراشه، وغير ذلك مما يلزمها طاعته فيه. (4) =
__________
(1) في المطبوعة: "فمعنى: واهجروا ... " والفاء هنا خطأ لا شك فيه، ولكن ناسخ المخطوطة كتب"لمعنى" باء، ثم وضع نقطة النون على الباء، فأساء الناشر قراءتها.
(2) هو من حديث أنس بن مالك، رواه البخاري (الفتح 10: 413) : "عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تَبَاغَضُوا، ولا تَحاسدُوا، ولا تَدابَرُوا، وكونوا عِبَاد اللهِ إخوانًا، ولا يحلُّ لامرئ مُسْلِمٍ أنْ يهجُرَ أَخاهُ فوق ثلاثٍ".
وحديث أبي أيوب الأنصاري: "لا يحِلُّ لرجُل أن يهجُرَ أخاهُ فَوقَ ثلاثٍ، يلتقيانِ، فيُعْرض هذا ويُعرِض هذا، وخيرُهما الذي يبدأ بالسَّلام"، (الفتح 10: 413) .
(3) في المطبوعة: "مجاذبتها"، واخترت قراءتها كما أثبتها، وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(4) هذه الحجة جيدة جدًا، إذا اقتصر المرء على صورة واحدة من صور النشوز، وعلة واحدة هي التي ذكرها أبو جعفر. ولكن للنشوز صور عديدة، وعلله مختلفات، وهذه الآية أدب عام يعمل به المرء المسلم عند حاجته إليه عند مخافة النشوز أو معرفته ومعرفة أسبابه. وسترى أن أبا جعفر قد أسقط جميع الأقوال، ليفضي إلى تأويله الذي ذهب إليه، وسنذكر رد أبي بكر بن العربي عليه في تعليق يأتي في آخر مقالة أبي جعفر.(8/308)
أو يكون - إذ فسد هذان الوجهان - يكون معناه (1) واهجروا في قولكم لهنّ، بمعنى: ردّدوا عليهن كلامكم إذا كلمتموهن، بالتغليظ لهن. فإن كان ذلك معناه، فلا وجه لإعمال"الهجر" في كناية أسماء النساء الناشزات = أعني في"الهاء والنون" من قوله:"واهجروهن". لأنه إذا أريد به ذلك المعنى، كان الفعل غير واقع، (2) إنما يقال:"هَجَر فلان في كلامه" ولا يقال:"هجر فلان فلانًا".
فإذ كان في كلّ هذه المعاني ما ذكرنا من الخلل اللاحق، فأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يكون قوله:"واهجروهن"، موجَّهًا معناه إلى معنى الرّبط بالهجار، على ما ذكرنا من قيل العرب للبعير إذا ربطه صاحبه بحبل على ما وصفنا:"هَجَره فهو يهجره هجْرًا".
* * *
وإذا كان ذلك معناه كان تأويل الكلام: واللاتي تخافون نشوزَهن فعظوهن في نشوزهن عليكم. فإن اتعظن فلا سبيل لكم عليهنّ، وإن أبين الأوْبة من نشوزهن فاستوثقوا منهنّ رباطًا في مضاجعهن = يعني: في منازلهن وبُيوتهن التي يضطجعن فيها ويُضاجعن فيها أزواجهنّ، كما:-
9372 - حدثني عباس بن أبي طالب قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن شبل قال، سمعت أبا قزعة يحدث، عن عمرو بن دينار، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه: أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: يطعمها، ويكسوها، ولا يضرب الوجه، ولا يقبِّح، ولا يهجر إلا في البيت. (3)
__________
(1) تكرار"يكون" هنا في هذا السياق عربي جيد.
(2) "الفعل الواقع" هو الفعل المتعدي، وانظر فهرس المصطلحات فيما سلف.
(3) الحديث: 9372 - عباس بن أبي طالب: هو"عباس بن جعفر بن عبد الله". مضت ترجمته في: 880. شبل: هو ابن عباد المكي القارئ. مضى في: 280.
أبو قزعة - بفتح القاف والزاي والعين: هو سويد بن جحير بن بيان. مضت ترجمته في: 8281، 8283.
وقوله هنا: "يحدث عن عمرو بن دينار" - الراجح عندي أنه خطأ ناسخ في زيادة حرف"عن". وأن يكون صوابه"يحدث عمرو بن دينار". أي: أن شبل بن عباد سمع الحديث من أبي قزعة وهو يحدث به عمرو بن دينار. لأن الحديث معروف من حديث أبي قزعة عن حكيم بن معاوية، ليس بينهما واسطة. وأبو قزعة وعمرو بن دينار من طبقة واحدة، فقد يحدث أحدهما عن الآخر. ولكن الواقع هنا - فيما أرى - أن الحديث عن أبي قزعة عن حكيم مباشرة.
ثم استيقنت أن ما استظهرت هو الصواب. فإن هذا الحديث قطعة من حديث مطول، رواه أحمد في المسند 4: 446-447 (حلبي) ، عن عبد الله بن الحارث، وعن يحيى بن أبي بكير - كلاهما عن شبل بن عباد، قال: "سمعت أبا قزعة يحدث عمرو بن دينار، يحدث عن حكيم بن معاوية البهزي ... "- إلى آخره. فوقع في مطبوعة المسند"يحدث عن عمرو بن دينار"، بزيادة"عن"، كما في نسخة الطبري هنا. ولكن ثبت في مخطوطة الرياض - من المسند - (ج3 ص1074) ، على الصواب الذي ذكرنا، بحذف كلمة"عن". وهو الصواب إن شاء الله.
حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري: مضت ترجمته وترجمة أبيه في: 873.
والحديث يأتي تمام تخريجه في الرواية الثالثة: 9374.(8/309)
9373 - حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي قزعة، عن حكيم بن معاوية، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نَحوه. (1)
9374 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا بهز بن حكيم، عن جده قال، قلت: يا رسول الله، نساؤنا، ما نأتي منها وما نذر؟ قال: حرثُك، فأت حرثك أنَّى شئت، غير أن لا تضرب الوجهَ، ولا تقبِّح، ولا تَهجر إلا في البيت، وأطعم إذا طَعِمت، واكْس إذا اكتسيتَ، كيفَ وقد أفضى بعضكم إلا بعض؟ إلا بما حَلّ عليها. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 9373 - الحسن بن عرفة العبدي البغدادي، شيخ الطبري ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 31-32، وتاريخ بغداد 7: 394-396. مات سنة 257 وقد جاوز 110 سنين.
والحديث رواه أحمد 4: 447 (حلبي) ، عن يزيد بن هارون، عن شعبة، بهذا الإسناد.
(2) الحديث: 9374 - حبان - بكسر الحاء - بن موسى بن سوار السلمي: ثقة من شيوخ البخاري ومسلم. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 1 / 84، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 271.
وهذا الحديث هو تكرار للحديثين قبله، مطولا. وقد جاء بالأسانيد الصحاح بأطول من هذا أيضًا. ورواه عن حكيم بن معاوية ابناه: بهز وسعيد، وغيرهما. فرواه أحمد في المسند، مطولا ومختصرًا، 4: 446، 447، مرارًا، و5: 3، 5 (حلبي) .
ورواه أبو داود: 2142-2144.
ورواه ابن ماجه: 1850، من طريق يزيد بن هارون، كالرواية التي قبل هذه.
ورواه البيهقي 7: 295، 305، مطولا ومختصرًا. وقال المنذري: 2057، من تهذيب السنن: "اختلف الأئمة في الاحتجاج بهذه النسخة، فمنهم من احتج بها، ومنهم من أبى ذلك. وخرج الترمذي منها شيئًا وصححه". يريد نسخة"بهز بن حكيم عن أبيه عن جده". والحق أنها صحيحة إذا صح الإسناد إلى بهز. وذكره ابن كثير 2: 437 - مختصرًا - دون إسناد، ونسبه للسنن والمسند.
وقوله: "إلا بما حل عليها" - وفي رواية المسند (ج5 ص5) : "إلا بما حل عليهن" - يعني: إلا بما حل لكم عليهن من الضرب الذي أذن الله به لكم إذا خفتم نشوزهن. وهو الذي نص الله عليه في هذه الآية الكريمة: (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن) . ولا يتجاوز في ذلك الحد الذي أذن الله به: (فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا) .(8/310)
وبنحو الذي قلنا في تأويل ذلك قال عدّة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9375 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن الحسن قال: إذا نشزت المرأة على زوجها فليعظها بلسانه، فإن قبلت فذاك، وإلا ضَربها ضربًا غير مبرّح. فإن رجعت، فذاك، وإلا فقد حَلّ له أن يأخذ منها ويُخَلِّيها.
9376 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس في قوله:"واهجروهن في المضاجع واضربوهن"، قال: يفعل بها ذاك، ويضربها حتى تطيعه في المضاجع، فإذا أطاعته في المضجع، فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته.
9377 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا يحيى بن بشر: أنه سمع عكرمة يقول في قوله:"واهجروهن في المضاجع واضربوهن" ضربًا غير مبرح، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اضربوهن(8/311)
إذا عصينكم في المعروف ضربًا غير مبرّح. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فكلّ هؤلاء الذين ذكرنا قولهم: لم يوجبوا للهجر معنى غير الضرب. ولم يوجبوا هجرًا = إذا كان هيئة من الهيئات التي تكون بها المضروبة عند الضرب، (2) مع دلالة الخبر الذي رواه عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أمر بضربهن إذا عصين أزواجهن في المعروف، من غير أمر منه أزواجهن بهجرهن = (3) لما وصفنا من العلة.
قال أبو جعفر: فإن ظنّ ظانٌّ أن الذي قلنا في تأويل الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه عكرمة، ليس كما قلنا، وصحّ أن تركَ النبي صلى الله عليه وسلم أمرَ الرجل بهجر زوجته إذا عصته في المعروف وأمره بضربها قبل الهجر، لو كان دليلا على صحة ما قلنا من أنّ معنى"الهجر" هو ما بيناه = لوجب أن يكون لا معنى لأمر الله زوجَها أن يَعِظها إذا هي نشزت، إذ كان لا ذِكر للعظة في خبر عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم =
= (4) فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أن قوله صلى الله عليه وسلم:"إذا عصينكم في المعروف"، دلالة بينة أنه لم يٌبح للرجل ضرب زوجته، إلا بعد عظتها من نشوزها. وذلك أنه لا تكون لهُ عاصية، إلا وقد تقدّم منه لها أمرٌ أو عِظَة بالمعروف على ما أمرَ الله به. (5)
* * *
__________
(1) الأثر: 9377 - الخبر الذي رواه عكرمة، واحتج به الطبري بعد، خبر مرسل. خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 155، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(2) يعني بقوله: "إذ كان هيئة من الهيئات ... "، أن المرأة المضروبة لا تضرب إلا لأنها هجرت فراش زوجها، فالهجر حالة من حالاتها التي تكون عليها حين تضرب.
(3) السياق: "ولم يوجبوا هجرًا ... لما وصفنا من العلة"، وفصل بينهما بالسبب الذي من أجله لم يوجبوا الهجر.
(4) قوله: "فإن الأمر في ذلك ... " جواب قوله في أول الفقرة السالفة: "فإن ظن ظان"، وفصلت هذه الثانية فقرة مستقلة، لأنها كالجواب، ولئلا تختلط معاني الكلام.
(5) تأويل الطبري في هذا الموضع لمعنى"الهجر"، وأنه الشد بالهجار، والاستثياق منهن رباطًا في منازلهن وبيوتهن التي يضطجعن فيها ويضاجعن فيها أزواجهن = تأويل مستغرب جدًا، شذ به عن كل تأويل تأوله المتقدمون. وقد استدرك عليه العلماء بعده، فمن أجود من قال في ذلك أبو بكر بن العربي في كتابه أحكام القرآن 1: 175 قال: "يا لها هفوة من عالم بالقرآن والسنة!! وإني لأعجبكم من ذلك: أن الذي جرأه على هذا التأويل، ولم يرد أن يصرح بأنه أخذه منه، وهو حديث غريب، رواه ابن وهب عن مالك: أن أسماء بنت أبي بكر الصديق امرأة الزبير بن العوام ... " ثم ذكر قصة ضرب الزبير أسماء وضرتها، وأنه عقد شعر واحدة بالأخرى، وارتفاع أسماء إلى أبي بكر، ونصيحة أبي بكر لها أن تصبر، لأن الزبير رجل صالح، وعسى أن يكون زوجها في الجنة = ثم قال ابن العربي: "فرأى الربط والعقد مع احتمال اللفظ، مع فعل الزبير، فأقدم على هذا التفسير لذلك. وعجبًا له، مع تبحره في العلوم وفي لغة العرب، كيف بعد عليه صواب القول، وحاد عن سداد النظر"!!
واستخراج أبي بكر ضمير الطبري، إذ ذكر الخبر الذي جرأه على هذا التفسير، ليس يعجبني، ولو كان الطبري أراده لذكره كعادته. ولكني أظن أبا جعفر قد تورط في هذا التأويل، للعلل التي قدم ذكرها بعد كلامه في تفسير"الهجر"، وأنه لو كان الكلام"فاهجروهن في المضاجع"، ولم يقل سبحانه قبله"فعظوهن"، لما احتاج أبو جعفر إلى هذا التأويل. وإذن فالذي دعاه إلى هذا التأويل هو تتابع الكلامين"فعظوهن" و"اهجروهن في المضاجع"، ثم إنه أيضًا لم يجد مساغًا للجمع بين معنى"النشوز"، ومعنى"الهجر"، كما قلت في ص: 308 تعليق: 4. ولاستيفاء القول في ذلك مكان غير هذا المكان.(8/312)
القول في تأويل قوله: {وَاضْرِبُوهُنَّ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فعظوهن، أيها الرجال، في نشوزهن، فإن أبينَ الإياب إلى ما يلزمهن لكم، فشدّوهن وثاقًا في منازلهن، واضربوهن ليؤبن إلى الواجب عليهن من طاعته الله في اللازم لهنّ من حقوقكم.
* * *
وقال أهل التأويل: صفة الضرب التي أباح الله لزوج الناشز أن يضربها: الضربُ غيرُ المبرِّح.
*ذكر من قال ذلك:
9378 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء،(8/313)
عن سعيد بن جبير:"واضربوهن"، قال: ضربًا غير مبرح.
9379 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، أخبرنا أبو حمزة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير مثله.
9380 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: الضرب غير مبرّح. (1)
9381 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"واضربوهن"، قال: ضربًا غير مبرح.
9382 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"واهجروهن في المضاجع واضربوهن"، قال: تهجرها في المضجع، فإن أقبلت، وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضربًا غير مبرح، ولا تكسر لها عظمًا. فإن أقبلت، وإلا فقد حَلّ لك منها الفدية.
9383 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"واضربوهن"، قال: ضربًا غير مبرح.
9384 - وبه قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال: قلت لعطاء:"واضربوهن"؟ قال: ضربًا غير مبرح.
9385 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"واهجروهن في المضاجع واضربوهن"، قال: تهجرها في المضجع. فإن أبت عليك، فاضربها ضربًا غير مبرح = أي: غير شائن.
9386 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء قال: قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرّح؟ قال: السواك وشبهه، يضربها به.
__________
(1) في المطبوعة: "غير المبرح" وأثبت ما في المخطوطة.(8/314)
9387 - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري قال، حدثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء قال، قلت لابن عباس: ما الضرب غير المبرح؟ قال: بالسواك ونحوه.
9388 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته:"ضربًا غير مبرح"، قال: السواك ونحوه. (1)
9389 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تهجروا النساء إلا في المضاجع، واضربوهن ضربًا غير مبرح = يقول: غير مؤثّر.
9390 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عطاء:"واضربوهن"، قال: ضربًا غير مبرح.
9391 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا يحيى بن بشر، عن عكرمة مثله.
9392 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"واضربوهن"، قال: إن أقبلت في الهجران، وإلا ضربها ضربًا غير مبرح.
9393 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب قال: تهجر مضجعها ما رأيتَ أن تنزع. (2) فإن لم تنزع، ضربها ضربًا غير مبرح.
9394 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن:"واضربوهن"، قال: ضربًا غير مبرح.
__________
(1) يعني خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، وقد مضى ذلك برقم: 8905، فراجع التخريج هناك.
(2) "تنزع" أي: تقلع عن نشوزها وتتركه.(8/315)
9395 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا عبد الوارث بن سعيد، عن رجل، عن الحسن قال: ضربًا غير مبرح، غير مؤثر.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أطعنكم، أيها الناس، نساؤكم اللاتي تخافون نشوزهن عند وعظكم إياهن، فلا تهجروهن في المضاجع. فإن لم يطعنكم، فاهجروهن في المضاجع واضربوهن. فإن راجعنَ طاعتكم عند ذلك وفِئْنَ إلى الواجب عليهن، فلا تطلبوا طريقًا إلى أذاهن ومكروههن، ولا تلتمسوا سبيلا إلى ما لا يحل لكم من أبدانهن وأموالهن بالعلل. وذلك أن يقول أحدكم لإحداهن وهي له مطيعة:"إنك لست تحبّيني، وأنت لي مبغضة"، فيضربها على ذلك أو يُؤذيها. فقال الله تعالى للرجال:"فإن أطعنكم" أي: على بغضهنّ لكم فلا تجنَّوا عليهن، ولا تكلفوهن محبتكم، فإنّ ذلك ليس بأيديهن، فتضربوهن أو تؤذوهن عليه.
* * *
ومعنى قوله:"فلا تبغوا"، لا تلتمسوا ولا تطلبوا، من قول القائل:"بغَيتُ الضالة"، إذا التمستها، (1) ومنه قول الشاعر في صفة الموت: (2)
بَغَاكَ وَمَا تَبْغِيِهِ، حَتَّى وَجَدْتَهُ ... كَأَنَّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ أَمْسِ مَوْعِدَا (3)
__________
(1) انظر تفسير: "بغي" فيما سلف 3: 508 / 4: 163 / 6: 196، 564، 570 / 7: 53.
(2) هو سحيم عبد بني الحسحاس.
(3) مضى البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 4: 163 / 7: 53.(8/316)
بمعنى: طلبك وما تطلبه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9396 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"، قال: إذا أطاعتك فلا تتجنَّ عليها العلل.
9397 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس قال، إذا أطاعته، فليس له عليها سبيل إذا ضاجعته.
9398 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قوله:"فلا تبغوا عليهن سبيلا"، قال: العلل.
9399 - وقال أخبرنا عبد الرزاق قال: قال الثوري في قوله:"فإن أطعنكم" قال: إن أتت الفراش وهي تبغضه.
9400 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى، عن سفيان قال: إذا فعلت ذلك لا يكلفها أن تحبه، لأن قلبها ليس في يديها.
9401 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: إن أطاعته فضاجعته، فإن الله يقول:"فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهنّ سبيلا".
9402 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا"، يقول: فإن أطاعتك، فلا تبغ عليها العلل.
* * *(8/317)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34) }
قال أبو جعفر يقول: إن الله ذو علوّ على كل شيء، فلا تبغوا، أيها الناس، على أزواجكم = إذا أطعنكم فيما ألزمهن الله لكم من حق = سبيلا لعلوِّ أيديكم على أيديهن، فإنّ الله أعلى منكم ومن كل شيء عليكم، منكم عليهن (1) = وأكبر منكم ومن كل شيء، وأنتم في يده وقبضته، فاتقوا الله أن تظلموهن وتبغوا عليهن سبيلا. وهن لكم مطيعات، فينتصر لهن منكم ربُّكم الذي هو أعلى منكم ومن كل شيء، وأكبر منكم ومن كل شيء. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"وإن خفتم شقاق بينهما"، وإن علمتم أيها الناس (3) ="شقاق بينهما"، وذلك مشاقة كل واحد منهما صاحبه، وهو إتيانه ما يشق عليه من الأمور. فأما من المرأة، فالنشوز وتركها أداء حق الله
__________
(1) في المطبوعة: "فإن الله أعلى منكم ومن كل شيء، وأعلى منكم عليهن"، وفي المخطوطة: " ... ، عليهم منكم عليهن"، فأراد الناشر تصحيحه فأفسده، والصواب"عليكم، منكم عليهن" وقوله: "عليكم" من سياق فإن الله أعلى منكم ومن كل شيء عليكم".
(2) انظر تفسير: "العلي" فيما سلف 5: 405.
(3) انظر تفسير"الخوف" بمعنى العلم فيما سلف قريبًا ص: 298، تعليق: 2، والمراجع هناك.(8/318)
عليها الذي ألزمها الله لزوجها. وأما من الزوج، فتركُه إمساكها بالمعروف أو تسريحها بإحسان.
* * *
و"الشقاق" مصدر من قول القائل:"شاقَّ فلان فلانًا" = إذا أتى كل واحد منهما إلى صاحبه ما يشق عليه من الأمور ="فهو يُشاقُّه مشاقَّة وشقاقًا"، وذلك قد يكون عداوة، (1) كما:-
9403 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وإن خفتم شقاق بينهما"، قال: إن ضربها فأبت أن ترجع وشاقَّته = يقول: عادته.
* * *
وإنما أضيف"الشقاق" إلى"البين"، لأن"البين" قد يكون اسمًا، كما قال جل ثناؤه: (لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ) [سورة الأنعام: 94] ، في قراءة من قرأ ذلك. (2)
* * *
وأما قوله:"فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، فإن أهل التأويل اختلفوا في المخاطبين بهذه الآية: مَنِ المأمور ببعثة الحكمين؟ (3)
فقال بعضهم: المأمور بذلك: السلطانُ الذي يرفع ذلك إليه.
*ذكر من قال ذلك:
9404 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير: أنه قال في المختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها. فإن انتهت، وإلا ضربها. فإن انتهت، وإلا رفع أمرَها إلى السلطان، فيبعث حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فيقول الحكم الذي من أهلها:"يفعل بها
__________
(1) انظر تفسير"الشقاق" فيما سلف 3: 115، 116، 336.
(2) هذه القراءة برفع"بينكم"، بمعنى: وصلكم الذي يصل بينكم.
(3) في المطبوعة: "ببعثه الحكمين"، وهو خطأ في قراءة المخطوطة، وهي غير منقوطة.(8/319)
كذا"، ويقول الحكم الذي من أهله:"تفعل به كذا". فأيهما كان الظالم ردَّه السلطان وأخذ فوق يديه، وإن كانت ناشزًا أمره أن يَخْلع.
9405 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، قال: بل ذلك إلى السلطان.
* * *
وقال آخرون: بل المأمور بذلك: الرجل والمرأة.
*ذكر من قال ذلك:
9406 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، إن ضربها. فإن رجعت، فإنه ليس له عليها سبيل. فإن أبت أن ترجع وشاقّته، فليبعث حكمًا من أهله، وتبعث حكمًا من أهلها.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما يُبعث له الحكمان، وما الذي يجوز للحكمين من الحكم بينهما، وكيف وَجْهُ بَعْثهِما بينهما؟
فقال بعضهم: يبعثهما الزوجان بتوكيل منهما إياهما بالنظر بينهما. وليس لهما أن يعملا شيئًا في أمرهما إلا ما وكَّلاهما به، أو وكله كل واحد منهما بما إليه، فيعملان بما وكلهما به مَن وكلهما من الرجل والمرأة فيما يجوز توكيلهما فيه، أو توكيل من وُكل منهما في ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
9407 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة قال: جاء رجل وامرأته بينهما شقاقٌ إلى علي رضي الله عنه، مع كل واحد منهما فِئام من الناس، (1) فقال علي رضي الله عنه: ابعثوا حكمًا
__________
(1) "الفئام": الجماعة الكثيرة.(8/320)
من أهله وحكمًا من أهلها. ثم قال للحكمين: تدرِيان ما عليكما؟ عليكما إن رأيتما أن تجمعا أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرِّقا أن تفرقا، (1) قالت المرأة: رضيت بكتاب الله، بما عليَّ فيه ولي. قال الرجل: أما الفرقة فلا. فقال علي رضي الله عنه: كذبتَ والله، لا تنقلب حتى تقرَّ بمثل الذي أقرَّت به. (2)
9408 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا هشام بن حسان وعبد الله بن عون، عن محمد: أن عليَّا رضي الله عنه أتاه رجل وامرأته، ومع كل واحد منهما فئام من الناس. فأمرهما علي رضي الله عنه أن يبعثا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، لينظرا. فلما دنا منه الحكمان، قال لهما علي رضي الله عنه: أتدريان ما لكما؟ لكما إن رأيتما أن تفرّقا فرقتما، وإن رأيتما أن تجمعا جمعتما = قال هشام في حديثه: فقالت المرأة: رضيت بكتاب الله لي وعليّ، فقال الرجل: أما الفرقة فلا! فقال عليّ: كذبتَ والله، حتى ترضى مثل ما رضيت به = وقال ابن عون في حديثه: كذبتَ والله، لا تبرَحُ حتى ترضى بمثل ما رضيت به. (3)
9409 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا منصور وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة قال: شهدت عليًّا رضي الله عنه، فذكر مثله. (4)
9410 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط،
__________
(1) في المخطوطة: "فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، إن رأيتما أن تجمعا، وإن رأيتما أن تفرقا أن تفرقا"، سقط من الكلام ما ثبت في المخطوطة، وهو نص ما في المراجع التي سأذكرها بعد.
(2) الأثر: 9407 - رواه الشافعي في الأم 5: 177 من طريق عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، عن أيوب بن أبي تميمة، بمثله سواء. وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 305، 306. وقال الشافعي: "حديث علي ثابت عندنا".
(3) الأثران: 9408، 9409 - أخرجه البيهقي في السنن 7: 306، مختصرًا.
(4) الأثران: 9408، 9409 - أخرجه البيهقي في السنن 7: 306، مختصرًا.(8/321)
عن السدي قال: إذا هجرها في المضجع وضربها، فأبت أن ترجع وشاقّته، فليبعث حكمًا من أهله وتبعث حكمًا من أهلها. تقول المرأة لحكمها:"قد وليتك أمري، فإن أمرتني أن أرجعَ رجعت، وإن فرَّقت تفرقنا"، وتخبره بأمرها إن كانت تريد نفقة أو كرهت شيئًا من الأشياء، وتأمره أن يرفع ذلك عنها وترجع، أو تخبره أنها لا تريد الطلاق، ويبعث الرجل حكمًا من أهله يوليه أمره، ويخبره يقول له حاجته: إن كان يريدها أو لا يريد أن يطلقها، أعطاها ما سألت وزادها في النفقة، وإلا قال له:"خذ لي منها ما لها علي، وطلقها"، فيوليه أمره، فإن شاء طلق، وإن شاء أمسك. ثم يجتمع الحكمان، فيخبر كل واحد منهما ما يريد لصاحبه، ويجهد كل واحد منهما ما يريد لصاحبه. فإن اتفق الحكمان على شيء فهو جائز، إن طلَّقا وإن أمسكا. فهو قول الله:"فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما". فإن بعثت المرأة حكمًا وأبى الرجل أن يبعث، فإنه لا يقربها حتى يبعث حكمًا.
* * *
وقال آخرون: إن الذي يبعث الحكمين هو السلطان، غير أنه إنما يبعثهما ليعرفا الظالم من المظلوم منهما، ليحملهما على الواجب لكل واحد منهما قِبَل صاحبه، لا التفريق بينهما.
*ذكر من قال ذلك:
9411 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن = وهو قول قتادة = أنهما قالا إنما يبعث الحكمان ليصلحا ويشهدا على الظالم بظلمه. وأما الفرقة، فليست في أيديهما ولم يملَّكا ذلك = يعني:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها".
9412 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا(8/322)
من أهلها"، الآية، إنما يبعث الحكمان ليصلحا. فإن أعياهما أن يصلحا، شهدا على الظالم بظلمه، وليس بأيديهما فرقة، ولا يملَّكان ذلك.
9413 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد قال: وسألت عن الحكمين، (1) قال: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها، فما حكم الحكمان من شيء فهو جائزٌ، يقول الله تبارك وتعالى:"إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما". قال: يخلو حكم الرجل بالزوج، وحكم المرأة بالمرأة، فيقول كل واحد منهما لصاحبه:"اصدقني ما في نفسك". فإذا صَدق كل واحد منهما صاحبه، اجتمع الحكمان، وأخذ كل واحد منهما على صاحبه ميثاقًا:"لتصدقني الذي قال لك صاحبك، ولأصدقنك الذي قال لي صاحبي"، فذاك حين أرادا الإصلاح، يوفق الله بينهما. فإذا فعلا ذلك، اطَّلع كل واحد منهما على ما أفضى به صاحبه إليه، فيعرفان عند ذلك من الظالم والناشز منهما، فأتيا عليه فحكما عليه. فإن كانت المرأة قالا"أنت الظالمة العاصية، لا ينفق عليك حتى ترجعي إلى الحق وتطيعي الله فيه". وإن كان الرجل هو الظالم قالا"أنت الظالم المضارّ، لا تدخل لها بيتًا حتى تنفق عليها وترجع إلى الحق والعدل". فإن أبت ذلك كانت هي الظالمةَ العاصيةَ، (2) وأخذ منها ما لها، وهو له حلال طيب. وإن كان هو الظالمَ المسيءَ إليها المضارَّ لها طلقها، ولم يحلّ له من مالها شيء. فإن أمسكها، أمسكها بما أمر الله، وأنفق عليها وأحسن إليها. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "سألت عن الحكمين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب، فالظاهر أنه بعض خبر، لا بدء خبر، وانظر التعليق رقم: 3.
(2) في المطبوعة: "وترجع إلى الحق والعدل، فإن كانت هي الظالمة العاصية أخذ ... "، وفسد الكلام: وفي المخطوطة: "وترجع إلى الحق والعدل ما دامت ذلك كانت هي الظالمة العاصية وأخذ ... "، وهو تحريف من الناسخ، وصواب قراءتها"فإن أبت ذلك" كما أثبتها. والصواب أيضًا إثبات الواو في"وأخذ"، لا حذفها، كما في المطبوعة.
(3) الأثر: 9413 -"قيس بن سعد المكي" مولى نافع بن علقمة، روى عن طاوس، وعطاء، ومجاهد، وسعيد بن جبير. ثقة. مترجم في التهذيب.
وكان هذا الإسناد في المطبوعة: "قال حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن قيس بن سعد"، وكان في المخطوطة مثله، إلا أن وضع بعد"شبل" إلى أعلى: "لا" وبعد"مجاهد" إلى أعلى"إلى"، وذلك من إشاراتهم إلى حذف ما بينهما، استغنوا بذلك عن الضرب عليه بالقلم. فلم يعرف الناشر قاعدتهم في الكتابة والحذوف، فأثبت ما حقه الحذف. و"قيس بن سعد" كما ترى يروي عن مجاهد، وليس مجاهد ممن يروي عنه. وهذا الخبر، كأنه مما سأل عنه قيس بن سعد مجاهدًا أو عطاء، كما مر في بعض أسانيده السالفة، التي غاب عني مكانها اليوم.(8/323)
9414 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب القرظي قال: كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه يبعث الحكمين، حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها. فيقول الحكم من أهلها:"يا فلان، ما تنقِم من زوجتك"؟ فيقول:"أنقِم منها كذا وكذا". قال فيقول:"أفرأيت إن نزعَت عما تكره إلى ما تحب، هل أنت مُتقي الله فيها، ومعاشرها بالذي يحق عليك في نفقتها وكسوتها"؟ فإذا قال:"نعم"، قال الحكم من أهله:"يا فلانة ما تنقمين من زوجك فلان"؟ فيقول مثل ذلك، فإن قالت:"نعم"، جمع بينهما. قال: وقال علي رضي الله عنه: الحكمان، بهما يجمع الله وبهما يفرِّق.
9415 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن: الحكمان يحكمان في الاجتماع، ولا يحكمان في الفُرقة.
9416 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن"، وهي المرأة التي تنشز على زوجها، فلزوجها أن يخلعها حين يأمر الحكمان بذلك، وهو بعد ما تقول لزوحها:"والله لا أُبرُّ لك قسمًا ولآذنَنَّ في بيتك بغير أمرك"! ويقول السلطان:"لا نجيز لك خلعًا" = حتى تقول المرأة لزوجها:"والله لا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم لك صلاة"! فعند ذلك يقول السلطان:"اخلع المرأة"!(8/324)
9417 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن"، قال: تعظها، فإن أبت وغَلبت، فاهجرها في مضجعها. فإن غلبت هذا أيضًا، فاضربها. فإن غلبت هذا أيضًا، بُعث حكم من أهله وحكم من أهلها. فإن غلبت هذا أيضًا وأرادت غيره، فإنَّ أبِي قال = أو: كان أبي يقول (1) = ليس بيد الحكمين من الفرقة شيء، إن رأيا الظلم من ناحية الزوج قالا"أنت يا فلان ظالم، انزع"! فإن أبى، رفعا ذلك إلى السلطان. ليس إلى الحكمين من الفراق شيء.
* * *
وقال آخرون: بل إنما يبعث الحكمين السلطانُ، على أن حكمهما ماضٍ على الزوجين في الجمع والتفريق.
*ذكر من قال ذلك:
9418 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، فهذا الرجل والمرأة، إذا تفاسد الذي بينهما، فأمر الله سبحانه أن يبعثوا رجلا صالحًا من أهل الرجل، ومثله من أهل المرأة، فينظران أيهما المسيء. فإن كان الرجل هو المسيء، حَجَبوا عنه امرأته وقَصَروه على النفقة، (2) وإن كانت المرأة هي المسيئة، قصروها على زوجها، ومنعوها النفقة. فإن اجتمع رأيهما على أن يفرّقا أو يجمعا، فأمرهما جائز. فإن رأيا
__________
(1) في المطبوعة: "فإن أبي كان يقول"، وفي المخطوطة: "فإن أبي قال وكان أبي يقول" والصواب ما في المخطوطة، إلا قوله"وكان أبي يقول"، فصوابه"أو: كان أبي يقول"، وقائل هذه الجملة هو: عبد الله بن زيد أسلم = وأبوه هو: زيد بن أسلم.
(2) "قصره على الشيء" حبسه عليه، وألزمه إياه، إجبارًا وقهرًا، وفي الحديث: "لتقصرنه على الحق قصرًا"، أي: قهرًا وغلبة، وهو من"القسر"، وأبدلت السين صادًا، وهما يتبادلان في كثير من الكلام.(8/325)
أن يجمعا، فرضي أحد الزوجين وكره ذلك الآخر، ثم ماتَ أحدهما، فإنّ الذي رضي يَرِث الذي كره، ولا يرث الكارهُ الراضيَ، وذلك قوله:"إن يريدا إصلاحًا"، قال: هما الحكمان ="يوفق الله بينهما".
9419 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا عوف، عن محمد بن سيرين: أن الحكم من أهلها والحكم من أهله، يفرِّقان ويجمعان إذا رأيا ذلك ="فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها".
9420 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سألت سعيد بن جبير عن الحكمين فقال: لم أولد إذ ذاك! (1) فقلت: إنما أعني حَكم الشقاق. قال: يقبلان على الذي جاء التداري من عنده. (2) فإن فعل، وإلا أقبلا على الآخر. فإن فعل، وإلا حكما. فما حكما من شيء فهو جائز.
9421 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر في قوله:"فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، قال: ما قضى الحكمان من شيء فهو جائز.
9422 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن داود،
__________
(1) ذهب سعيد بن جبير حين سأله عمرو بن مرة عن"الحكمين"، إلى أنه عنى الحكمين في أمر علي ومعاوية رضي الله عنهما، واجتماعهما بدومة الجندل سنة 37 من الهجرة. فلذلك قال: "لم أولد إذ ذاك"، لأن سعيد بن جبير رحمه الله قتله الحجاج سنة 95، وهو ابن تسع وأربعين سنة، كأنه ولد سنة 46 من الهجرة، بعد التحكيم. وروي أن سعيد بن جبير دعا ابنه حين دعي ليقتل، فجعل ابنه يبكي، فقال: ما يبكيك؟ ما بقاء أبيك بعد سبع وخمسين سنة؟ = فكأنه ولد - على هذه الرواية سنة 38 من الهجرة، وذلك أيضًا بعد تحكيم الحكمين.
(2) في المطبوعة: "الذي جاء الأذى من عنده" لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة. وهو من"التدارؤ"، ترك همزه، "تدارأ الرجلان"، أي تشاغبا وخالف أحدهما صاحبه. وفي قول بعض الحكماء: "لا تتعلموا العلم لثلاث، ولا تتركوه لثلاث: لا تتعلموه للتداري، ولا للتماري، ولا للتباهي = ولا تدعوه رغبة عنه، ولا رضًا بالجهل، ولا استحياء من الفعل له". وعنى بقوله: "التداري" هنا الخصومة والتداعي. وانظر الأثر التالي رقم: 9428.(8/326)
عن إبراهيم قال: ما حكما من شيء فهو جائز. إن فرّقا بينهما بثلاث تطليقات أو تطليقتين، فهو جائز. وإن فرقا بتطليقة فهو جائز. وإن حكما عليه بجزاء بهذا من ماله، (1) فهو جائز: فإن أصلحا فهو جائز. وإن وضَعا من شيء فهو جائز.
9423 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا أبو جعفر، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، قال: ما صنع الحكمان من شيء فهو جائز عليهما. إن طلقا ثلاثا فهو جائز عليهما. وإن طلقا واحدة وطلقاها على جُعْل، فهو جائز، (2) وما صنعا من شيء فهو جائز.
9424 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال: إن شاء الحكمان أن يفرقا فرّقا. وإن شاءا أن يجمعا جمعَا.
9425 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم، عن حصين، عن الشعبي: أن امرأة نشزت على زوجها، فاختصموا إلى شريح، فقال شريح: ابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها. فنظر الحكمان في أمرهما، فرأيا أن يفرِّقا بينهما، فكره ذلك الرجل، فقال شريح: ففيم كانا اليوم؟ وأجاز قولهما. (3)
9426 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن عكرمة بن خالد، عن ابن عباس قال: بعثت
__________
(1) في المطبوعة: "بهذا من ماله"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وليس لها معنى هنا. ورجحت أن صوابها"بجزاء"، لأنه سيأتي في الأثر التالي: "أو طلقاها على جعل" و"الجعل" (بضم فسكون) ، وهو المال المعطى على شيء، أجرًا كان أو غيره. و"الجزاء" البدل، فكأنه يعطي لها بدلا مما لقيت من إساءته، وعقوبة للمسيء.
(2) انظر التعليق السالف.
(3) الأثر: 9425 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 306.(8/327)
أنا ومعاوية حكمين = قال معمر: بلغني أن عثمان رضي الله عنه بعثهما، وقال لهما: إن رأيتما أن تجمعا جمعتما، وإن رأيتما أن تفرِّقا فرقتما. (1)
9427 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا ابن جريج قال، حدثني ابن أبي مليكة: أن عقيل بن أبي طالب تزوج فاطمة ابنة عتبة، فكان بينهما كلام. فجاءت عثمان فذكرت ذلك له، فأرسل ابن عباس ومعاوية، فقال ابن عباس: لأفرقنَّ بينهما! وقال معاوية: ما كنت لأفرّق بين شيخين من بني عبد مناف! فأتياهما وقد اصطلحا. (2) .
9428 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، يكونان عَدْلين عليهما وشاهدين. وذلك إذا تدارأ الرجل والمرأة وتنازعا إلى السلطان، (3) جعل عليهما حكمين: حكمًا من أهل الرجل، وحكمًا من أهل المرأة، يكونان أمينين عليهما جميعًا، وينظران مِن أيهما يكون الفساد. فإن كان من قبل المرأة، أجبرت على طاعة زوجها، وأمِرَ أن يتقي الله ويحسن صحبتها، وينفق عليها بقدر ما آتاه الله، إمساكٌ بمعروف أو تسريح بإحسان. وإن كانت الإساءة من قبل الرجل، أُمر بالإحسان إليها، فإن لم يفعل قيل له:"أعطها حقها وخَلِّ سبيلها". وإنما يلي ذلك منهما السلطان.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله:"فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، أن الله خاطب المسلمين بذلك، وأمرهم ببعثة الحكمين عند خوف الشِّقاق بين الزوجين للنظر في أمرهما، ولم يخصص بالأمر بذلك بعضهم دون بعض.
__________
(1) الأثر: 9426 - أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 306
(2) الأثر: 9427 - رواه الشافعي في الأم 5: 177، 178 من طريق مسلم بن خالد، عن ابن جريج، وخرجه البيهقي في السنن 7: 306.
(3) انظر تفسير"تدارأ" فيما سلف ص: 326، تعليق: 2.(8/328)
وقد أجمع الجميع على أن بعثة الحكمين في ذلك ليست لغير الزوجين، وغير السلطان الذي هو سائس أمر المسلمين، أو من أقامه في ذلك مقام نفسه.
واختلفوا في الزوجين والسلطان، ومن المأمورُ بالبعثة في ذلك: الزوجان، أو السلطان؟ (1) ولا دلالة في الآية تدل على أن الأمر بذلك مخصوص به أحد الزوجين، ولا أثر به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمة فيه مختلفة.
وإذْ كان الأمر على ما وصفنا، فأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أن يكون مخصوصًا من الآية ما أجمع الجميع على أنه مخصوص منها. (2) وإذْ كان ذلك كذلك، فالواجب أن يكون الزوجان والسلطان ممن قد شمله حكم الآية، والأمر بقوله:"فابعثوا حكمًا من أهله وحكمًا من أهلها"، إذْ كان مختلفًا بينهما: هل هما معنيِّان بالأمر بذلك أم لا؟ = وكان ظاهر الآية قد عمهما = فالواجبُ من القول، إذ كان صحيحًا ما وصفنا، صحيحًا أن يقال (3) إن بعث الزوجان كل واحد منهما حكمًا من قبله لينظر في أمرهما، وكان كل واحد منهما قد بعثه من قبله في ذلك، لما لَه على صاحبه ولصاحبه عليه، (4) فتوكيله بذلك من وكِّل جائز له وعليه.
وإن وكَّله ببعض ولم يوكله بالجميع، كان ما فعله الحكم مما وكله به صاحبه ماضيًا جائزًا على ما وكله به. وذلك أن يوكله أحدهما بما له دون ما عليه.
وإن لم يوكل كل واحد من الزوجين بما له وعليه، (5) أو بما له، أو بما عليه،
__________
(1) في المخطوطة: "الزوجين أو السلطان"، وهو خطأ ظاهر.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "من أجمع الجميع"، وهو خطأ ظاهر، وفساد، والصواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة حذف"صحيحًا" هذه الثانية، مع أنها مستقيمة لا ضير منها.
(4) في المطبوعة: "وكان لكل واحد منهما ممن بعثه من قبله في ذلك طاقة على صاحبه ولصاحبه عليه"، وهو كلام لا يستقيم البتة. وفي المخطوطة: "وكان كل واحد منهما من بعثه من قبله في ذلك لماقه على صاحبه، ولصاحبه عليه"، وظاهر أن قوله"من بعثه" هي: "قد بعثه" وأما قوله: "في ذلك لماقه" فإني رجحت أن صوابها"في ذلك لما له"، وكأنه عنى أنه قد أرسله مملكًا في جميع أمره، في جميع ماله على صاحبه، ولصاحبه عليه. واستأنست في ذلك بالجزء التالي من هذا الكلام.
(5) في المطبوعة: "أو لم يوكل واحد من الزوجين" مكان ما في المخطوطة: "وإن لم يوكل" وهو تصرف معيب، فإنه أفسد الكلام، وزادها خلطًا على خلط.(8/329)
إلا الحكمين كليهما، (1) [لم يجز] إلا ما اجتمعا عليه، دون ما انفرد به أحدهما. (2)
وإن لم يوكلهما واحد منهما بشيء، وإنما بعثاهما للنظر بينهما، ليعرفا الظالم من المظلوم منهما، (3) ليشهدا عليهما عند السلطان إن احتاجا إلى شهادتهما = لم يكن لهما أن يُحدثا بينهما شيئًا غير ذلك من طلاق، أو أخذ مال، أو غير ذلك، ولم يلزم الزوجين ولا واحدًا منهما شيء من ذلك. (4)
* * *
فإن قال قائل: وما معنى الحكمين، إذ كان الأمر على ما وصفت؟
قيل: قد اختلف في ذلك.
فقال بعضهم: معنى"الحكم"، النظرُ العدلُ، كما قال الضحاك بن مزاحم في الخبر الذي ذكرناه، الذي:-
9429 - حدثنا به يحيى بن أبي طالب، عن يزيد، عن جويبر عنه: لا أنتما قاضيان تقضيان بينهما=
* * *
=على السبيل التي بيَّنَّا من قوله. (5)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أنهما القاضيان، يقضيان بينهما ما فوَّض إليهما الزوجان.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فليس للحكمين ... " مكان ما في المطبوعة: "إلا الحكمين"، وزاد الكلام اضطرابًا.
(2) الذي بين القوسين، ظاهر جدًا أنه سقط من الناسخ، هو أو ما في معناه. وبهذا استقامت هذه العبارة التي اقتضت من الجهد ما كنا في غنى عنه، لو صحح الناسخ كتابته.
(3) في المطبوعة، حذف قوله: "بينهما".
(4) في المخطوطة: "لم يلزم" بحذف الواو، والصواب ما في المطبوعة.
(5) قوله: "على السبيل التي بينا من قوله"، هذا من كلام الطبري، تعليقًا على سائر كلامه السالف. وعنى بذلك قول الضحاك الذي ذكره آنفًا برقم: 9428. ولو ترك هذا السياق بغير فواصل، لما استطاع أن يفهمه إلا المصابر على المشقات.(8/330)
قال أبو جعفر: وأي الأمرين كان، فليس لهما، ولا لواحد منهما، الحكم بينهما بالفرقة، ولا بأخذ مال إلا برضى المحكوم عليه بذلك، وإلا ما لزم من حق لأحد الزوجين على الآخر في حكم الله، وذلك ما لزم الرجلَ لزوجته من النفقة والإمساك بمعروف، إن كان هو الظالم لها.
فأما غير ذلك، فليس ذلك لهما، ولا لأحد من الناس غيرهما، لا السلطان ولا غيره. وذلك أن الزوج إن كان هو الظالمَ للمرأة، فللإمام السبيلُ إلى أخذه بما يجب لها عليه من حق. وإن كانت المرأة هي الظالمةَ زوجها الناشزةَ عليه، فقد أباح الله له أخذَ الفدية منها، وجعل إليه طلاقها، على ما قد بيناه في"سورة البقرة". (1)
وإذْ كان الأمرُ كذلك، لم يكن لأحدٍ الفرقةُ بين رجل وامرأة بغير رضى الزوج، ولا أخذُ مال من المرأة بغير رضاها بإعطائه، إلا بحجة يجب التسليم لها من أصل أو قياس.
وإن بعث الحكمين السلطانُ، فلا يجوز لهما أن يحكما بين الزوجين بفرقة إلا بتوكيل الزوج إياهما بذلك، (2) ولا لهما أن يحكما بأخذ مال من المرأة إلا برضى المرأة. يدل على ذلك ما قد بيناه قبلُ من فعل علي بن أبي طالب رضي الله عنه بذلك، والقائلين بقوله. (3) ولكن لهما أن يصلحا بين الزوجين، ويتعرفا الظالم منهما من المظلوم، ليشهدا عليه إن احتاج المظلوم منهما إلى شهادتهما.
وإنما قلنا:"ليس لهما التفريق"، للعلة التي ذكرناها آنفًا. وإنما يبعث السلطانُ الحكمين إذا بعثهما، إذا ارتفع إليه الزوجان، فشكا كل واحد منهما صاحبه، وأشكلَ عليه المحقّ منهما من المبطل. لأنه إذا لم يشكل المحق من المبطل، فلا وجه لبعثه الحكمين في أمر قد عرف الحكم فيه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 4: 549-583.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ولا يجوز لهما" بالواو، والصواب بالفاء.
(3) انظر الآثار السالفة من 9407-9409.(8/331)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
القول في تأويل قوله: {إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إن يريدا إصلاحًا"، إن يرد الحكمان إصلاحًا بين الرجل والمرأة = أعني: بين الزوجين المخوف شقاقُ بينهما = يقول:"يوفق الله" بين الحكمين فيتفقا على الإصلاح بينهما. وذلك إذا صدق كل واحد منهما فيما أفضى إليه: مَنْ بُعِثَ للنظر في أمر الزوجين.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9430 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي هاشم، عن مجاهد في قوله:"إن يريدا إصلاحًا"، قال: أمَا إنه ليس بالرجل والمرأة، ولكنه الحكمان.
9431 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد بن جبير:"إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما"، قال: هما الحكمان، إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما.
9432 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما"، وذلك الحكمان، وكذلك كل مصلح يوفقه الله للحق والصواب.
9433 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما"، يعني بذلك الحكمين.
9434 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن(8/332)
سعيد بن جبير:"إن يريدا إصلاحًا"، قال: إن يرد الحكمان إصلاحًا أصلحا.
9435 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي هاشم، عن مجاهد:"إن يريدا إصلاحًا يوفق الله بينهما"، يوفق الله بين الحكمين.
9436 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك قوله:"إن يريدا إصلاحًا"، قال: هما الحكمان إذا نصحا المرأةَ والرجلَ جميعًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"إنّ الله كان عليمًا"، بما أراد الحكمان من إصلاح بين الزوجين وغيره ="خبيرًا"، بذلك وبغيره من أمورهما وأمور غيرهما، (1) لا يخفى عليه شيء منه، حافظ عليهم، حتى يجازي كلا منهم جزاءه، بالإحسان إحسانًا، وبالإساءة غفرانًا أو عقابًا.
* * *
القول في تأويل قوله جل ذكره: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وذِلُّوا لله بالطاعة، واخضعوا له بها، وأفردوه بالربوبية، وأخلصوا له الخضوع والذلة، بالانتهاء إلى أمره، والانزجار
__________
(1) انظر تفسير"الخبير" فيما سلف 1: 496 / 5: 94، 586.(8/333)
عن نهيه، ولا تجعلوا له في الربوبية والعبادة شريكًا تعظمونه تعظيمكم إياه. (1)
="وبالوالدين إحسانًا"، يقول: وأمركم بالوالدين إحسانًا = يعني برًّا بهما = ولذلك نصب"الإحسان"، لأنه أمر منه جل ثناؤه بلزوم الإحسان إلى الوالدين، على وجه الإغراء. (2)
* * *
وقد قال بعضهم: معناه:"واستوصوا بالوالدين إحسانًا"، وهو قريب المعنى مما قلناه.
* * *
وأما قوله:"وبذي القربى"، فإنه يعني: وأمرَ أيضًا بذي القربى = وهم ذوو قرابة أحدنا من قبل أبيه أو أمه، ممن قربت منه قرابته برحمه من أحد الطرفين (3) إحسانًا بصلة رحمه.
* * *
وأما قوله:"واليتامى"، فإنهم جمع"يتيم"، وهو الطفل الذي قد مات والده وهلك. (4)
* * *
="والمساكين" وهو جمع"مسكين"، وهو الذي قد ركبه ذل الفاقة والحاجة، فتمسكن لذلك. (5)
* * *
يقول تعالى ذكره: استوصوا بهؤلاء إحسانًا إليهم، وتعطفوا عليهم، والزموا وصيتي في الإحسان إليهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"عبد" فيما سلف 1: 160، 161، 362 / 3: 120، 317 / 6: 488.
(2) انظر تفسير"وبالوالدين إحسانًا" فيما سلف 2: 290-292.
(3) انظر تفسير"ذي القربى" فيما سلف 2: 292 / 3: 344.
(4) انظر تفسير"اليتامى" فيما سلف 2: 292 / 3: 345 / 4: 295 / 7: 524، 541.
(5) انظر تفسير"المساكين" فيما سلف 2: 137، 293 / 3: 345 / 4: 295 / 7: 116.(8/334)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
القول في تأويل قوله: {وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار ذي القرابة والرحم منك.
*ذكر من قال ذلك:
9437 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والجار ذي القربى"، يعني: الذي بينك وبينه قرابة.
9438 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والجار ذي القربى"، يعني: ذا الرَّحم.
9439 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"والجار ذي القربى"، قال: جارك، هو ذو قرابتك.
9440 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله:"والجار ذي القربى"، قالا القرابة.
9441 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والجار ذي القربى"، قال: جارك الذي بينك وبينه قرابة.
9442 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والجار ذي القربى"، جارك ذو القرابة.
9443 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والجار ذي القربى"، إذا كان له جار له رحم، فله حقَّان اثنان: حق القرابة، وحق الجار.(8/335)
9444 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والجار ذي القربى"، قال: الجار ذو القربى، ذو قرابتك.
* * *
وقال آخرون: بل هو جارُ ذي قرابتك.
*ذكر من قال ذلك:
9445 - حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن ميمون بن مهران في قوله:"والجار ذي القربى" قال: الرجل يتوسل إليك بجوار ذي قرابتك.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول قولٌ مخالفٌ المعروفَ من كلام العرب. وذلك أن الموصوف بأنه"ذو القرابة" في قوله:"والجار ذي القربى"،"الجار" دون غيره. فجعله قائل هذه المقالة جار ذي القرابة. ولو كان معنى الكلام كما قال ميمون بن مهران لقيل:"وجار ذي القربى"، ولم يُقَل:"والجار ذي القربى". فكان يكون حينئذ = إذا أضيف"الجار" إلى"ذي القرابة" = الوصية ببرّ جار ذي القرابة، (1) دون الجار ذي القربى. وأما و"الجار" بالألف واللام، فغير جائز أن يكوى"ذي القربى" إلا من صفة"الجار". وإذا كان ذلك كذلك، كانت الوصية من الله في قوله:"والجار ذي القربى" ببرّ الجار ذي القربى، (2) دون جار ذي القرابة. وكان بينًا خطأ ما قال ميمون بن مهران في ذلك.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "الوصية بين جار ذي القرابة"، وهو كلام لا معنى له، وهو تصحيف وتحريف، صوابه ما أثبت.
(2) في المخطوطة والمطبوعة هنا أيضًا: "بين الجار ذي القربى"، وهو خطأ وتصحيف كما أسلفت.(8/336)
وقال آخرون: معنى ذلك: والجار ذي القربى منكم بالإسلام.
*ذكر من قال ذلك:
9446 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا سفيان عن أبي إسحاق، عن نَوْف الشامي:"والجار ذي القربى"، المسلم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا أيضًا مما لا معنى له. وذلك أن تأويل كتاب الله تبارك وتعالى، غير جائز صرفه إلا إلى الأغلب من كلام العرب الذين نزل بلسانهم القرآن، المعروفِ فيهم، (2) دون الأنكر الذي لا تتعارفه، إلا أن يقوم بخلاف ذلك حجة يجب التسليم لها. وإذا كان ذلك كذلك = وكان معلومًا أن المتعارف من كلام العرب إذا قيل:"فلان ذو قرابة"، إنما يعني به: إنه قريب الرحم منه، دون القرب بالدين = كان صرفه إلى القرابة بالرحم، أولى من صرفه إلى القرب بالدين.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالْجَارِ الْجُنُبِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: والجار البعيد الذي لا قرابة بينك وبينه.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 9446 -"نوف الشامي"، هو: نوف بن فضالة الحميري البكالي، مضت ترجمته برقم: 3965، وسيأتي في رقم: 9456.
(2) "المعروف" بالكسر، صفة لقوله: "إلى الأغلب". وفي المطبوعة: "المعروف وفيهم"، وهو خطأ في الطباعة ولا شك.(8/337)
9447 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والجار الجنب"، الذي ليس بينك وبينه قرابة.
9448 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والجار الجنب"، يعني: الجار من قوم جنب.
9449 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والجار الجنب"، الذي ليس بينهما قرابة، وهو جار، فله حق الجوار.
9450 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والجار الجنب"، الجار الغريب يكون من القوم.
9451 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والجار الجنب"، جارك من قوم آخرين.
9452 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والجار الجنب"، جارك لا قرابة بينك وبينه، البعيد في النسب وهو جار.
9453 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله:"والجار الجنب"، قال: المجانب.
9454 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والجار الجنب"، الذي ليس بينك وبينه رَحمٌ ولا قرابة. (1)
__________
(1) في المطبوعة: " ... وجه ولا قرابة"، وهو لا معنى له، والصواب من المخطوطة.(8/338)
9455 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"والجار الجنب"، قال: من قوم آخرين.
* * *
وقال آخرون: هو الجار المشرك.
*ذكر من قال ذلك:
9456 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن نوف الشامي:"والجار الجنب"، قال: اليهوديّ والنصرانيّ. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال:"معنى، الجنب، في هذا الموضع: الغريبُ البعيد، مسلمًا كان أو مشركًا، يهوديًا كان أو نصرانيًا"، لما بينا قبل من أن"الجار ذي القربى"، هو الجار ذو القرابة والرحم. والواجب أن يكون"الجار ذو الجنابة"، الجار البعيد، ليكون ذلك وصية بجميع أصناف الجيران قريبهم وبعيدهم.
* * *
وبعد، فإن"الجُنب"، في كلام العرب: البعيد، كما قال أعشى بني قيس:
أَتَيْتُ حُرَيْثًا زَائِرًا عَنْ جَنَابَةٍ ... فَكانَ حُرَيْثٌ فِي عَطَائِي جَامِدَا (2)
__________
(1) الأثر: 9456 -"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، مضت ترجمته برقم: 5796، وهو يروي عن سفيان الثوري، وعن شيبان بن عبد الرحمن التميمي. وقد جاء في هذا الإسناد في المطبوعة"شيبان، عن أبي إسحاق"، وكذلك هو في المخطوطة، ولكنه كتب"شيبان" كتابة سيئة، كتابة شاك في قراءتها. وقد سلف في الإسناد رقم: 9446 قريبًا"سفيان، عن أبي إسحاق" واضحة جدًا في المخطوطة، فرجحتها لذلك، وأثبتها هنا. وانظر التعليق على الأثر: 9446.
(2) ديوانه: 49، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 126، الكامل 2: 26، وسيأتي في التفسير 20: 26 (بولاق) من قصيدة هجا فيها الحارث بن وعلة بن مجالد بن زبان الرقاشي، وكان جاء يسأله فقال له: "ولا كرامة!! ألست القائل: أَلا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي حُرَيْثًا ... مُغَلْغَلَةً? أَحَانَ أَمِ ادَّرَانَا?
تهجوني وتصغرني، ثم تسألني!! = فكان مما قال له بعد البيت السالف، فأوجعه: لَعَمْرُكَ مَا أَشْبَهْتَ وَعْلَةَ فَي النَّدَى ... شَمَائِلَهُ، وَلا أَباهُ المُجَالِدَا
إذَا زَارَهُ يَوْمًا صَدِيقٌ، كأنَّما ... يَرَى أُسُدًا فِي بَيْتِهِ وَأَسَاوِدَا
في شعر كثير، و"حريث" تصغير"الحارث"، تصغير ترخيم، وقياسه"حويرث". ورجل"جامد الكف، وجماد الكف": بخيل لا تلين صفاته. وكان في المطبوعة هنا: "جاهدا" وهو خطأ، وفي الموضع الآخر من التفسير: "جاحدا" وهو خطأ أيضًا. وروى هنا: في عطائي"، وروايته في التفسير 20: 26"عن عطائي" وهي المطابقة لرواية المراجع السالفة جميعًا، ولا بأس بها.(8/339)
يعني بقوله:"عن جنابة"، عن بعد وغُربة. ومنه، قيل:"اجتنب فلان فلانًا"، إذا بعد منه ="وتجنّبه"، و"جنَّبه خيره"، إذا منعه إياه. (1) ومنه قيل للجنب:"جُنُب"، لاعتزاله الصلاة حتى يغتسل.
فمعنى ذلك: والجار المجانب للقرابة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنيّ بذلك.
فقال بعضهم: هو رفيق الرجل في سَفره.
*ذكر من قال ذلك:
9457 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
__________
(1) في المطبوعة: "وتجنبه خيره"، أسقط: "وجنبه" بين الكلامين، ففسد السياق، والصواب من المخطوطة.(8/340)
معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والصاحب بالجنب"، الرفيق.
9458 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن أبي بكير قال: سمعت سعيد بن جبير يقول:"والصاحب بالجنب"، الرفيق في السفر. (1)
9459 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"والصاحب بالجنب"، صاحبك في السفر.
9460 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والصاحب بالجنب"، وهو الرفيق في السفر.
9461 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والصاحب بالجنب"، الرفيق في السفر، منزله منزلك، وطعامه طعامك، ومسيره مسيرك.
9462 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد:"والصاحب بالجنب"، قالا الرفيق في السفر.
9463 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن علي وعبد الله قالا"الصاحب بالجنب"، الرفيق الصالح.
__________
(1) الأثر: 9458 -"أبو بكير التيمي"، مؤذن لتيم، واسمه"مرزوق". روى عن سعيد بن جبير، وعكرمة، ومجاهد. وروى عنه ليث بن أبي سليم، وإسرائيل، وسفيان الثوري، وشريك. مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "أبو بكر" وهو خطأ، صوابه ما أثبت من المخطوطة. وسيأتي على الصواب في رقم: 9467، 9468.(8/341)
9464 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني سليم، عن مجاهد قال:"الصاحب بالجنب"، رفيقك في السفر، الذي يأتيك ويده مع يدك.
9465 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، قراءة على ابن جريج قال، أخبرنا سليم: أنه سمع مجاهدًا يقول:"والصاحب بالجنب"، فذكر مثله.
9466 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والصاحب بالجنب"، الصاحب في السفر.
9467 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو دكين قال، حدثنا سفيان، عن أبي بكير، عن سعيد بن جبير،"والصاحب بالجنب"، الرفيق الصالح.
9468 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن سعيد بن جبير مثله.
9469 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والصاحب بالجنب"، قال: الرفيق في السفر.
9470 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله.
* * *
وقال آخرون: بل هو امرأة الرجل التي تكون معه إلى جنبه.
*ذكر من قال ذلك:
9471- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر = أو القاسم = عن علي وعبد الله رضوان الله عليهما:"والصاحب بالجنب"، قالا هي المرأة. (1)
__________
(1) قوله: "رضوان الله عليهما"، زيادة من المخطوطة.(8/342)
9472 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن بعض أصحابه، عن جابر، عن علي وعبد الله مثله.
9473 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والصاحب بالجنب"، يعني: الذي معك في منزلك.
9474 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن هلال، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى: أنه قال في هذه الآية:"والصاحب بالجنب"، قال: هي المرأة.
9475 - حدثنا ابن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم:"والصاحب بالجنب"، قال: المرأة.
9476 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال الثوري، قال أبو الهيثم، عن إبراهيم: هي المرأة.
9477 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم مثله.
9478 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو معاوية، عن محمد بن سوقة، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم مثله.
9479 - حدثني عمرو بن بَيْذَق قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن محمد بن سوقة، عن أبي الهيثم، عن إبراهيم مثله. (1)
* * *
وقال آخرون: هو الذي يلزمك ويصحبك رَجاء نفعك.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 9479 -"عمرو بن بيذق" (بالذال المعجمة) هكذا في المخطوطة، شيخ الطبري، لم أعرف له ترجمة، وقد روى عنه في كتاب تاريخ الصحابة والتابعين، الملحق بالتاريخ ص: 86، وكتبه هناك"عمرو بين بيدق" بالدال المهملة، وكأن الأول أصح.(8/343)
9480 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"الصاحب بالجنب"، الملازم = وقال أيضًا: رفيقك الذي يرافقك.
9481 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد:"والصاحب بالجنب"، الذي يلصق بك، وهو إلى جنبك، ويكون معك إلى جنبك رجاءَ خيرك ونفعك.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي: أن معنى:"الصاحب بالجنب"، الصاحب إلى الجنب، كما يقال:"فلان بجَنب فلان، وإلى جنبه"، وهو من قولهم:"جَنَب فلانٌ فلانًا فهو يجنُبُه جَنْبًا"، إذا كان لجنبه. (1) ومن ذلك:"جَنَب الخيل"، إذا قاد بعضها إلى جنب بعض. وقد يدخل في هذا: الرفيقُ في السفر، والمرأة، والمنقطع إلى الرجل الذي يلازمه رجاءَ نفعه، لأن كلهم بجنب الذي هو معه وقريبٌ منه. وقد أوصى الله تعالى بجميعهم، لوجوب حق الصاحب على المصحوب، وقد:-
9482 - حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك، عن فلان بن عبد الله، عن الثقة عنده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان معه رجل من أصحابه وهما على راحلتين، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وسلم في غَيْضِة طرفاء، (2) فقطع قَصِيلين، أحدهما معوجٌّ، والآخر معتدل، (3) فخرج بهما،
__________
(1) هذا النص من تفسير اللغة، قلما تجده في كتاب من كتب اللغة.
(2) "الغيضة"، مكان يجتمع فيه الماء ويفيض، فينبت فيه الشجر ويلتف، والجمع"غياض". و"الطرفاء" من شجر العضاء، وهدبه مثل هدب الأثل، وليس له خشب، إنما يخرج عصيًا سمحة في السماء، وقد تتحمض به الإبل، إذا لم تجد حمضًا غيره.
(3) في المطبوعة: "فصيلين" بالفاء، ولا معنى لها، وفي المخطوطة: "فصيلين" غير منقوطة، وفي الدر المنثور: "فصلين" وليس لها معنى. و"القصيل" بالقاف: ما اقتصل (أي: اقتطع) من الزرع أخضر، ومنه: "القصيل" وهو الذي تعلف به الدواب. يقال: "قصل الدابة"، أي: علفها القصيل.(8/344)
فأعطى صاحبه المعتدل، وأخذ لنفسه المعوج، فقال الرجل: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، أنت أحق بالمعتدل مني! فقال:"كلا يا فلان، إن كل صاحب يصحب صاحبًا، مسئول عن صحابته ولو ساعة من نهار. (1)
9483 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة قال، حدثني شرحبيل بن شريك، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ، عن عبد الله بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن خير الأصحاب عند الله تبارك وتعالى، خيرهم لصاحبه. وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فإذ كان"الصاحب بالجنب"، محتملا معناه ما ذكرناه: (3) من أن يكون داخلا فيه كل من جَنَب رجلا بصحبةٍ في سفر، (4) أو نكاح، أو انقطاع إليه واتصال به = (5) ولم يكن الله جل ثناؤه خصّ بعضَهم مما احتمله ظاهر التنزيل
__________
(1) الأثر: 9482 -"سهل بن موسى الرازي" انظر ما كتبت عنه برقم: 4319، وقبله رقم: 180. وأما "ابن أبي فديك" فهو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك، مضت ترجمته برقم: 4319. وهذا الأثر على إرساله ضعيف، لجهالة من روى عنهم ابن أبي فديك. ولم أجده إلا في الدر المنثور 2: 159، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(2) الأثر: 9483 - رواه أحمد في مسنده رقم: 6566 من طريق عبد الله بن يزيد، عن حيوة وابن لهيعة، بمثله، والحاكم في المستدرك 4: 164، والترمذي: 3: 129، من طريق عبد الله بن المبارك، كرواية الطبري. قال أخي السيد أحمد: "إسناده صحيح".
و"أبو عبد الرحمن الحبلي"، هو: عبد الله بن يزيد المعافري، مضت ترجمته برقم: 6657.
(3) في المطبوعة: "وإن كان الصاحب بالجنب معناه ما ذكرناه"، أسقط"محتملا"، لأنها كتبت في المخطوطة"متصلا" مختلطة الكتابة، فلم يحسن قراءتها فحذفها، مع أن الكلام لا يستقيم إلا بها. أما ما كان في المطبوعة والمخطوطة من قوله: "وإن كان"، فهو خطأ محض لا تستقيم به الجملة، صوابه ما أثبت: "فإذ كان".
(4) في المطبوعة: "يصحبه في سفر"، وهو خطأ معرق يختل به سياق الكلام. وهو في المخطوطة غير منقوط، وصواب قراءته ما أثبت.
(5) قوله: "ولم يكن الله" معطوف على قوله: "فإذ كان الصاحب".(8/345)
= (1) فالصواب أن يقال: جميعهم معنيّون بذلك، وكلهم قد أوصى الله بالإحسان إليه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَابْنِ السَّبِيلِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم:"ابن السبيل"، هو المسافر الذي يجتاز مارًا.
*ذكر من قال ذلك:
9484 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة = وابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وابن السبيل"، هو الذي يمر عليك وهو مسافر.
9484م - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وقتادة مثله.
9485 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وابن السبيل"، قال: هو المارُّ عليك، وإن كان في الأصل غنيًّا.
* * *
وقال آخرون: هو الضيف.
*ذكر من قال ذلك:
9486 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
__________
(1) قوله"فالصواب"، جواب قوله: "فإذ كان الصاحب ... فالصواب أن يقال".
(2) في المطبوعة: "وبكلهم قد أوصى ... "، لم يحسن قراءة المخطوطة، والصواب ما أثبت.(8/346)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وابن السبيل"، قال: الضيف، له حق في السفر والحضر.
9487 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وابن السبيل"، وهو الضيف.
9488 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك:"وابن السبيل"، قال: الضيف.
9489 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن"ابن السبيل"، هو صاحب الطريق = و"السبيل": هو الطريق، وابنه: صاحبه الضاربُ فيه (1) = فله الحق على من مرّ به محتاجًا منقطَعًا به، إذا كان سفره في غير معصية الله، أن يعينه إن احتاج إلى معونة، ويضيفه إن احتاج إلى ضيافة، وأن يحمله إن احتاج إلى حُمْلان. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والذين ملكتموهم من أرقائكم = فأضاف"الملك" إلى"اليمين"، كما يقال:"تكلم فوك"، و"مشَتْ رجلك"، و"بطشت يدك"، بمعنى: تكلمتَ، ومشيتَ، وبطشتَ. غير أن ما وصف به كل
__________
(1) انظر تفسير"ابن السبيل" فيما سلف 3: 345-347 / 4: 295 = وتفسير"السبيل" في 2: 497، وسائر فهارس اللغة.
(2) "الحملان" (بضم الحاء وسكون الميم) : ما يحمل عليه من الدواب.(8/347)
عضو من ذلك، فإنما أضيف إليه ما وُصف به (1) لأنه بذلك يكون، في المتعارف في الناس، دون سائر جوارح الجسد. فكان معلومًا = بوصف ذلك العضو بما وصف به من ذلك = المعنى المراد من الكلام. فكذلك قوله:"وما ملكت أيمانكم"، لأن مماليك أحدنا تحت يديه، (2) إنما يَطعم ما تُناوله أيماننا، ويكتسي ما تكسوه، (3) وتصرِّفه فيما أحبَّ صرفه فيه بها. فأضيف ملكهم إلى"الأيمان" لذلك.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9490 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما ملكت أيمانكم"، ممّا خوّلك الله. كل هذا أوصى الله به.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما يعني مجاهد بقوله:"كل هذا أوصى الله به"، الوالدين، وذا القربى، واليتامى، والمساكين، والجار ذا القربى، والجار الجنب، والصاحب بالجنب، وابن السبيل. فأوصى ربنا جل جلاله بجميع هؤلاء عبادَه إحسانًا إليهم، وأمر خلقه بالمحافظة على وصيته فيهم. فحقٌّ على عباده حفظ وصية الله فيهم، ثم حفظ وصية رسوله صلى الله عليه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ما وصفت به" في الموضعين، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يده"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "ونكسي ما يكسوه"، وهو خطأ صوابه من المخطوطة، وأفعال هذه الجملة إلى آخرها غير منقوطة في المخطوطة، فأساء ناشر المطبوعة وضع النقط عليها، فاختل معناها، فقد كان فيها: " ... نطعم ... ونكسي ... ونصرفه"، والصواب ما أثبت.(8/348)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالا فَخُورًا (36) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إن الله لا يحبّ من كان مختالا"، إن الله لا يحب من كان ذا خُيَلاء.
و"المختال:"المفتعل"، من قولك:"خال الرجل فهو يخول خَوْلا وخَالا"، (1) ومنه قول الشاعر: (2)
فَإنْ كُنْتَ سَيِّدَنَا سُدْتَنَا ... وإنْ كُنْتَ لِلْخَالِ فَاذْهَبْ فَخُلْ (3)
ومنه قول العجاج:
وَالْخَالُ ثَوْبٌ مِنْ ثِيَابِ الْجُهَّالْ (4)
__________
(1) هذا أحد وجهي الكلام، والآخر: "خال يخال خيلا وخالا"، بالياء، ورجحه بعضهم لأنه من"الخيلاء".
(2) هو أنس بن مساحق العبدي، رجل من عبد القيس.
(3) حماسة أبي تمام 1: 133، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 127، واللسان (خيل) . وقبل البيت: أَلا أبْلِغَا خُلَّتِي رَاشِدًا ... قَدِيمًا، وصِنْوِي إذَا ما تَصِلْ
بِأَنَّ الدَّقِيقَ يَهِيجُ الْجَلِيلَ ... وَأَنَّ الْعَزِيزَ لإذا سَاءَ ذَلْ
وَأَنَّ الْحَزَامَةَ أَنْ تَصْرِفُوا ... لِحَيٍّ سِوَانَا صُدُورَ الأسَلْ
وتقول في البيت"فخل" بضم الخاء وبفتحها، أي: اذهب فاختل ما شاءت لك الخيلاء.
(4) وَالدَّهْرُ فِيهِ غَفْلَةٌ لِلْغُفَّالْ ... وَالْمَرْءُ يُبْلِيهِ بَلاء السِّرْبالْ
كَرُّ الَّليَالِي وَاخْتِلافُ الأحْوَالْ
وكان في المطبوعة: "ثياب الجمال"، وهو تصحيف، صوابه في المخطوطة.(8/349)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37)
وأما"الفخور"، فهو المفتخر على عباد الله بما أنعم الله عليه من آلائه، وبسط له من فضله، ولا يحمده على ما أتاه من طَوْله، ولكنه به مختال مستكبر، وعلى غيره به مُسْتطيل مفتخر. كما:-
9491 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إن الله لا يحب من كان مختالا"، قال: متكبرًا، ="فخورا"، قال: يعدّ ما أُعطي، وهو لا يشكر الله.
9492 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد أبي رجاء الهرويّ قال: لا تجد سيِّئ الملِكة إلا وجدته مختالا فخورًا. (1) وتلا"وما ملكت أيمانكم إن الله لا يحب من كان مختالا فخورًا" = ولا عاقًّا إلا وجدته جبارًا شقيًا. وتلا (وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا) [سورة مريم: 32]
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يحب المختال الفخور، الذي يبخل ويأمر الناسَ بالبخل.
= فـ"الذين" يحتمل أن يكون في موضع رفع، ردًّا على ما في قوله:"فخورًا"، من ذِكرٍ = (2) ويحتمل أن يكون نصبًا على النعت ل"مَنْ".
__________
(1) "الملكة" (بفتح الميم واللام) و (بكسر الميم وسكون اللام) ، وهو الذي يسيء إذا ملك شيئًا، فتجبر وتغطرس، وفي الحديث: "لا يدخل الجنة سيئ الملكة"، وهو الذي يسيء إلى مماليكه أو إلى ما يقع تحت سلطانه.
(2) في المطبوعة: "من ذم"، ولا معنى له البتة. والصواب من المخطوطة، والمراد بقوله: "ذكر"، الضمير، وقد رد هذا الوجه أبو حيان في تفسيره 3: 247، ولم ينسبه للطبري.(8/350)
و"البخل" في كلام العرب: منع الرجل سائله ما لديه وعنده ما فضل عنه، (1) كما:-
9493 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، قال: البخل أن يبخل الإنسان بما في يديه ="والشح": أن يشٍح على ما في أيدي الناس. قال: يحبّ أن يكون له ما في أيدي الناس بالحِلِّ والحرام، لا يقنع.
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"ويأمرون الناس بالبخل".
* * *
فقرأته عامة قرأة أهل الكوفة:"بِالْبَخَلِ" بفتح"الباء" و"الخاء".
وقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعض البصريين بضم"الباء":"بِالْبُخْلِ".
قال أبو جعفر: وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحد، وقراءتان معروفتان غير مختلفتي المعنى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب في قراءته.
* * *
وقد قيل إن الله جل ثناؤه عنى بقوله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، الذين كتموا اسمَ محمد صلى الله عليه وسلم وصفته من اليهود ولم يبينوه للناس، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
*ذكر من قال ذلك:
9494 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن الحضرمي:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "من فضل عنه"، وكأن الصواب المحض ما أثبت. وتفسير"البخل" هذا قلما تصيبه في كتب اللغة.(8/351)
الله من فضله"، قال: هم اليهود، بخلوا بما عندهم من العلم وكَتَموا ذلك.
9495 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل" إلى قوله:"وكان الله بهم عليما"، ما بين ذلك في يهود.
9496 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9497 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، وهم أعداءُ الله أهلُ الكتاب، بخلوا بحقّ الله عليهم، وكتموا الإسلام ومحمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
9498 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، فهم اليهود ="ويكتمون ما آتاهم الله من فضله"، اسمَ محمدٍ صلى الله عليه وسلم = (1) وأما:"يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، يبخلون باسم محمد صلى الله عليه وسلم، ويأمرُ بعضهم بعضًا بكتمانه.
9499 - حدثنا محمد بن مسلم الرازي قال، حدثني أبو جعفر الرازي قال، حدثنا يحيى، عن عارم، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، في قوله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، قال: هذا للعلم، ليس للدنيا منه شيء.
9500 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل"، قال: هؤلاء يهود. وقرأ:"ويكتمون ما آتاهم الله من فضله"، قال: يبخلون بما آتاهم الله من الرزق،
__________
(1) في المطبوعة: "أو: يبخلون ... "، وأثبت ما في المخطوطة.(8/352)
ويكتمون ما آتاهم الله من الكتب. إذا سئلوا عن الشيء وما أنزل الله كتموه. وقرأ: (أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا) [سورة النساء: 53] من بخلهم.
9501 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان كَرْدَم بن زيد، حليفُ كعب بن الأشرف، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، وبَحْريّ بن عمرو، وحُيَيّ بن أخطب، ورفاعة بن زيد بن التابوت، يأتون رجالا من الأنصار، = وكانوا يخالطونهم، ينتصحون لهم = من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقولون لهم: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر في ذهابها، ولا تسارعوا في النفقة، فإنكم لا تدرون ما يكون! فأنزل الله فيهم:"الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ويكتمون ما آتاهم الله من فضله"، أي: من النبوة، (1) التي فيها تصديق ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ="وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا"، إلى قوله:"وكان الله بهم عليمًا". (2)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على التأويل الأول: والله لا يحبّ ذوي الخُيلاء
__________
(1) في ابن هشام: "أي: من التوراة"، وهي أجود الروايتين، إن لم تكن هذه التي هنا من سهو الناسخ. ولكني خشيت أن يكون لها وجه، فتركتها.
(2) الأثر: 9501 - رواه ابن هشام عن ابن إسحاق في سيرته 2: 208، 209، وهو تابع الآثار التي آخرها: 8338 فيما مضى قديمًا.
أما "كردم بن زيد" فإنه في سيرة ابن هشام: "كردم بن قيس"، وهو المذكور في سيرة ابن هشام 2: 160، أيضًا أنه حليف كعب بن الأشرف، من بني النضير. أما "كردم بن زيد" في رواية الطبري عن ابن إسحاق، فقد ذكره ابن هشام في سيرته 2: 162، وعده من بني قريظة. هذا، والذين ذكرهم في هذا الأثر من اليهود منسوبون في سيرة ابن هشام، وهذه نسبتهم: "كردم بن قيس" و"حيي بن أخطب" من بني النضير = و"كردم بن زيد"، وأسامة بن حبيب، ونافع بن أبي نافع، من بني قريظة = وبحري بن عمرو، ورفاعة بن زيد بن التابوت، من بني قينقاع.(8/353)
والفخر، الذين يبخلون بتبيين ما أمرهم الله بتبيينه للناس، من اسم محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته التي أنزلها في كتبه على أنبيائه، وهم به عالمون = ويأمرون الناس الذين يعلمون ذلك مثل علمهم، بكتمان ما أمرهم الله بتبيينه له، ويكتمون ما آتاهم الله من علم ذلك ومعرفته مَنْ حرّم الله عليه كتمانه إيّاه.
* * *
وأما على تأويل ابن عباس وابن زيد:"إن الله لا يحب من كان مختالا فخورًا"، الذين يبخلون على الناس بفضل ما رزقهم الله من أموالهم، ثم سائر تأويلهما وتأويل غيرهما سواء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، ما قاله الذين قالوا: إن الله وصف هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في هذه الآية، بالبخل بتعريف من جهل أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم أنه حقّ، وأنّ محمدًا لله نبيّ مبعوث، وغير ذلك من الحق الذي كان الله تعالى ذكره قد بيّنه فيما أوحى إلى أنبيائه من كتبه. فبخل بتبيينه للناس هؤلاء، وأمروا من كانت حاَله حالَهم في معرفتهم به: أن يكتموه من جَهِل ذلك، ولا يبيِّنوه للناس.
وإنما قلنا: هذا القول أولى بتأويل الآية، لأن الله جل ثناؤه وصفهم بأنهم يأمرون الناس بالبخل، ولم يبلغنا عن أمة من الأمم أنها كانت تأمرُ الناس بالبخل ديانةً ولا تخلُّقًا، بل ترى ذلك قبيحًا وتذمَّ فاعله؛ (1) وَتمتدح - وإن هي تخلَّقَت بالبخل واستعملته في أنفسها - بالسخاء والجود، (2) وتعدُّه من مكارم
__________
(1) في المطبوعة: "ويذم فاعله" بالياء، وهو خطأ في قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة، واستتبع هذا الخطأ من ناشر المطبوعة أن يغير ما كان في المخطوطة، إذا اختلطت معاني الكلام عليه، كما سترى.
(2) في المطبوعة: "ولا يمتدح ... فالسخاء، تعده ... "، لما أخطأ في قراءة الكلمة السالفة، غير ما في المخطوطة كل التغيير زاد"لا" في"ويمتدح"، وجعل"بالسخاء""فالسخاء"، وجعل"وتعده"، "تعده" بحذف الواو = أراد أن تستقيم العبارة ففسدت فسادًا مطلقًا بلا قيد ولا شرط!!
هذا، وسياق الجملة: "بل ترى ذلك قبيحًا وتذم فاعله، وتمتدح ... بالسخاء والجود، وتعده من مكارم الأخلاق"، وأتى بقوله: "وإن هي تخلقت بالبخل، واستعملته في أنفسها"، اعتراضًا.(8/354)
الأفعال وتحثُّ عليه. ولذلك قلنا: إنّ بخلهم الذي وصفهم الله به، إنما كان بخلا بالعلم الذي كان الله آتاهموه فبخلوا بتبيينه للناس وكتموه، دون البخل بالأموال = إلا أن يكون معنى ذلك: الذين يبخلون بأموالهم التي ينفقونها في حقوق الله وُسُبله، ويأمرون الناس من أهل الإسلام بترك النفقة في ذلك. فيكون بخلهم بأموالهم، وأمرهم الناس بالبخل، بهذا المعنى (1) - على ذكرنا من الرواية عن ابن عباس - فيكون لذلك وجه مفهومٌ في وصفهم بالبخل وأمرِهم به.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) }
قال أبو جعفر: يعني: بذلك جل ثناؤه:"وأعتدنا"، وجعلنا للجاحدين نعمة الله التي أنعم بها عليهم، (2) من المعرفة بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم، المكذبين به بعد علمهم به، الكاتمين نعته وصفته مَنْ أمرَهم الله ببيانه له من الناس ="عذابًا مهينًا"، يعني: العقابَ المذلّ مَن عُذِّب بخلوده فيه، (3) عَتادًا له في آخرته، إذا قَدِم على ربه وَجدَه، بما سلف منه من جحوده فرضَ الله الذي فرضَه عليه. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة"فهذا المعنى"، والصواب ما أثبته، وسياقه: فيكون بخلهم بأموالهم ... بهذا المعنى ...
(2) انظر تفسير: "أعتدنا" فيما سلف 8: 103.
(3) انظر تفسير: "المهين" فيما سلف 2: 347، 348 / 7: 423 / 8: 72.
(4) في المطبوعة: "وآخذه بما سلف ... " والصواب ما في المخطوطة، فإن أول هذه الجملة"إذا قدم على ربه، وجد ... "، وهو تفسير"العتاد".(8/355)
وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38)
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأعتدنا للكافرين بالله من اليهود الذين وصف الله صِفَتهم، عذابًا مهينًا ="والذين ينفقون أموالهم رئاءَ الناس."
* * *
و"الذين" في موضع خفضٍ، عطفًا على"الكافرين".
* * *
وقوله:"رئاء الناس"، يعني: ينفقه مُراءاة الناس، في غير طاعة الله أو غير سبيله، ولكن في سبيل الشيطان (1) ="ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر"، يقول: ولا يصدقون بوحدانية الله، ولا بالمَعَاد إليه يوم القيامة (2) - الذي فيه جزاء الأعمال - أنه كائن. (3)
* * *
وقد قال مجاهد (4) إن هذا من صفة اليهود! وهو بصفة أهل النفاق الذين كانوا أهلَ شرك، (5) فأظهروا الإسلام تقيةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلِ الإيمان به، وهم على كفرهم مقيمون = (6) أشبه منه بصفة اليهود. لأن اليهود كانت توحِّد الله وتصدّق بالبعث والمعاد. وإنما كان كفرُها، تكذيبَها بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"رئاء" فيما سلف 5: 521، 522.
(2) في المطبوعة: "ولا بالميعاد".
(3) قوله: "أنه كائن"، سياقه"ولا يصدقون بالمعاد ... أنه كائن".
(4) يعني في الأثر رقم: 9495.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "وهو صفة أهل النفاق"، وهو لا يستقيم، كما سترى في التعليق التالي.
(6) السياق: "وهو بصفة أهل النفاق ... أشبه منه بصفة اليهود"، فصح التصحيح السالف. أما ناشر المطبوعة، فإنه لما رأى الكلام غير مستقيم، كتب: "أشبه منهم بصفة اليهود"، فزاد الكلام فسادًا.(8/356)
وبعدُ، ففي فصل الله بين صفة الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، وصفة الفريق الآخر الذين وصفهم في الآية قبلها، وأخبر أنّ لهم عذابًا مهينًا = بـ "الواو" الفاصلة بينهم = (1) ما ينبئ عن أنهما صفتان من نوعين من الناس مختلفي المعاني، وإن كان جميعهم أهلَ كفر بالله. (2) ولو كانت الصفتان كلتاهما صفة نوع من الناس، لقيل إن شاء الله:"وأعتدنا للكافرين عذابًا مهينًا"،"الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس"، ولكن فصل بينهم بـ "الواو" لما وصفنا.
* * *
فإن ظن ظان أن دخول"الواو" غير مستنكر في عطف صفة على صفة لموصوف واحد في كلام العرب = فإنّ ذلك، (3) وإن كان كذلك، فإن الأفصح في كلام العرب إذا أريد ذلك، ترك إدخال"الواو". وإذا أريد بالثاني وصفٌ آخر غير الأوّل، إدخال"الواو". (4) وتوجيه كلام الله إلى الأفصح الأشهر من كلام مَنْ نزل بلسانه كتابُه، أولى بنا من توجيهه إلى الأنكر من كلامهم.
* * *
__________
(1) السياق: ففي فصل الله ... بالواو الفاصلة بينهم، ما ينبئ".
(2) في المطبوعة: "وإن كان جمعهم"، وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة، وهي غير منقوطة.
(3) في المطبوعة: "في كلام العرب. قيل ذلك وإن كان كذلك"، والذي دعا ناشر المخطوطة إلى ذلك أن الناسخ كتب"العربفان" وصل"باء""العرب"، بفاء"فإن"، فاجتهد المصحح.
(4) في المطبوعة: "أدخل الواو"، والصواب من المخطوطة.(8/357)
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكُنْ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يكن الشيطان له خليلا وصاحبًا، يعمل بطاعته، ويتبع أمره، ويترك أمرَ الله في إنفاقه ماله رئاء الناس في غير طاعته، وجحوده وحدانية الله والبعث بعد الممات ="فساء قرينًا"، يقول: فساء الشيطان قرينًا.
* * *
وإنما نصب"القرين"، لأن في"ساء" ذكرًا من الشيطان، كما قال جل ثناؤه: (بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلا) [سورة الكهف: 50] ، وكذلك تفعل العرب في"ساء" ونظائرها (1) = ومنه قول عدي بن زيد:
عَنِ الْمَرْءِ لا تَسْأَلْ، وأبْصِرْ قَرِينَهُ ... فَإنَّ الْقَرِينَ بِالمُقَارِنِ مُقْتَدِ (2)
يريد: بـ "القرين"، الصّاحبَ والصديق.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في"ساء" 8: 138، تعليق: 8، ومعاني القرآن للفراء 1: 267-269، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 127.
(2) ديوانه، في شعراء الجاهلية: 466، ومجموعة المعاني: 14، وغيرهما كثير. وقد أثبت البيت كما رواه أبو جعفر، وكما جاء في المخطوطة، أما ناشر المطبوعة فقد غيره، وأثبت ما درج عليه من الرواية: عَنِ الْمَرْءِ لا تَسأَل وسَلْ عَنْ قَرِينِه ... فَكُلُّ قَرِينٍ بِالْمُقَارن يَقْتَدِي
وهو سوء تصرف لا شك فيه.(8/358)
وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)
القول في تأويل قوله: {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأيّ شيء على هؤلاء الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ="لو آمنوا بالله واليوم الآخر"، لو صدّقوا بأن الله واحدٌ لا شريك له، وأخلصوا له التوحيد، وأيقنوا بالبعث بعد الممات، وصدّقوا بأن الله مُجازيهم بأعمالهم يوم القيامة ="وأنفقوا مما رزقهم الله"، يقول: وأدّوا زكاة أموالهم التي رَزَقهم الله وأعطاهموها، طيبةً بها أنفسهم، ولم ينفقوها رئاء الناس، التماس الذكر والفخر عند أهل الكفر بالله، والمحمدة بالباطل عند الناس ="وكان الله"، بهؤلاء الذين وصَف صفتهم أنهم ينفقون أموالهم رئاء الناس نفاقًا، وهم بالله واليوم الآخر مكذّبون ="عليمًا"، يقول: ذا علم بهم وبأعمالهم، (1) وما يقصدون ويريدون بإنفاقهم ما ينفقون من أموالهم، وأنهم يريدون بذلك الرَياء والسُّمعة والمحمدة في الناس، وهو حافظ عليهم أعمالهم، لا يخفَى عليه شيء منها، حتى يجازيهم بها جزاءهم عند مَعادهم إليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وماذا عليهم لو آمنوا بالله واليوم
__________
(1) في المخطوطة: "ذو علم" بالرفع، ولا بأس به.(8/359)
الآخر وأنفقوا مما رزقهم الله"، فَإن الله لا يبخس أحدًا من خلقه أنفق في سبيله مما رزقه، من ثواب نفقته في الدنيا، ولا من أجرها يوم القيامة ="مثقال ذَرّة"، أي: ما يزنها ويكون على قدر ثِقَلها في الوزن، ولكنه يجازيه به ويُثيبه عليه، كما:-
9502 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: أنه تلا"إن الله لا يظلم مثقال ذرّة وإن تَك حسنةً يضاعفها"، قال: لأنْ تفضُل حسناتي في سيئاتي بمثقال ذرّة، أحبُّ إليّ من الدنيا وما فيها. (1)
9503 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان بعض أهل العلم يقول: لأنْ تفضُل حسناتي على سيئاتي ما يزن ذَرّة أحب إليّ من أن تكون لي الدنيا جميعًا.
* * *
وأما"الذرة" فإنه ذكر عن ابن عباس أنه قال فيها، كما:-
9504 - حدثني إسحاق بن وهب الواسطيّ قال، حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا شبيب بن بشر، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"مثقال ذرة"، قال: رأس نَملة حَمراء. (2)
* * *
= قال أبو جعفر: قال لي إسحاق بن وهب: قال يزيد بن هارون: زعموا أن هذه
__________
(1) غفرانك اللهم! إن ناشر المطبوعة يسيء إساءات لا عداد لها في تحريف الكلام، وتصرفه على غير أصل من فهم أو أمانة، فلم يحسن قراءة المخطوطة كما أثبتها، فجعل ما فيها لغوًا وكتب مكانه"لأن تفضل حسناتي ما يزن ذرة، أحب إلي من الدنيا وما فيها". ولا أدري، ما كان أغناه عن مثل هذا العمل المنكر!
(2) الأثر: 9504 -"إسحاق بن وهب بن زياد العلاف" أبو يعقوب الواسطي. روى عنه البخاري، وابن ماجه، وأبو زرعة، وأبو حاتم. مترجم في التهذيب.
و"أبو عاصم" هو: الضحاك بن مخلد. مضى مرارًا.
و"شيب بن بشر" روى عن أنس، وعكرمة، ثقة لين الحديث، يخطئ كثيرًا. مترجم في التهذيب.(8/360)
الذرّة الحمراء، ليس لها وزن. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك صحّت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
9505 - حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا أبو داود قال، حدثنا عمران، عن قتادة، عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله لا يظلم المؤمن حسنةً، يُثابُ عليها الرزق في الدنيا، ويجزَى بها في الآخرة. وأما الكافر فيُطعم بها في الدنيا، فإذا كان يومُ القيامة لم تكن له حسنةً. (2)
حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا هشام بن سعد قال، أخبرنا زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: والذي نَفسي بيده، ما أحدكم بأشدّ مُناشَدَةً في الحق يراه مصيبًا له، من المؤمنين في إخوانهم إذا رأوا أن قد خَلصُوا من النار، يقولون:"أي ربنا، إخواننا، كانوا يصلّون معنا، ويصومون معنا، ويحجون معنا، ويجاهدون معنا، قد أخذتهم النار"! فيقول الله لهم:"اذهبوا، فمن عرفتم صورته فأخرجوه"! ويحرِّم صورتهم على النار، فيجدون الرجل قد أخذته النار إلى أنصاف ساقيه، وإلى ركبتيه، وإلى حَقْويه، فيخرجون منها بشرًا كثيرًا، ثم يعودون فيتكلمون، فيقول:"اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال قيراط خير فأخرجوه"! فيخرجون منها بشرًا كثيرًا. ثم
__________
(1) في المطبوعة: "إن هذه الدودة الحمراء"، وهو خطأ محض، وفي المخطوطة: "إن هذه الدود الحمراء"، وهو تحريف.
(2) الحديث: 9505 - أبو داود: هو الطيالسي.
"عمران": هو ابن داور القطان.
والحديث في مسند الطيالسي: 2011، بهذا الإسناد.
ورواه الإمام أحمد في المسند، من طريق همام، عن قتادة: 12264، 12291، 14063 (ج3 ص123، 125، 283 حلبي) .
وكذلك رواه مسلم 2: 344-345، من طريق همام. ثم رواه من طرق أخر.
وذكره ابن كثير 2: 450، من رواية الطيالسي.
وذكره السيوطي 2: 163، ونسبه لهؤلاء.(8/361)
يعودون فيتكلمون، فلا يزال يقولُ لهم ذلك حتى يقول:"اذهبوا، فمن وجدتم في قلبه مثقال ذَرّة فأخرجوه" = فكان أبو سعيد إذا حدَّث بهذا الحديث قال: إن لم تصدقوا، فاقرأوا:"إنّ الله لا يظلم مثقال ذَرّة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا" = فيقولون:"رَبنا لم نَذرْ فيها خيرًا". (1)
9507 - وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدريّ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (2)
* * *
وقال آخرون في ذلك، بما:-
9508 - حدثني به المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا صدقة بن أبي سهل قال، حدثنا أبو عمرو، عن زاذان قال: أتيت ابن مسعود فقال:
__________
(1) الحديث: 9506 - جعفر بن عون بن عمرو بن حريث، المخزومي الكوفي: ثقة. أخرج له الجماعة.
والحديث قطعة من حديث طويل في الشفاعة. رواه الأئمة في الدواوين من أوجه كثيرة، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري:
فرواه الطيالسي: 2179، عن خارجة بن مصعب، عن زيد.
ورواه أحمد في المسند: 11144 (3: 16-17 حلبي) ، من طريق عبد الرحمن بن إسحاق، عن زيد.
ورواه أيضًا: 11922 (3: 94-95 حلبي) ، من طريق معمر، عن زيد.
ورواه مسلم 1: 66-67، من طريق حفص بن ميسرة، عن زيد.
ثم رواه - ولم يذكر لفظه - من طريق جعفر بن عون، عن هشام بن سعد. وهي الطريق التي رواها الطبري هنا.
وستأتي الإشارة إلى رواية البخاري، في الحديث التالي.
(2) الحديث: 9507 -"الليث": هو ابن سعد. خالد بن يزيد: هو الجمحي المصري."ابن أبي هلال": هو سعيد بن أبي هلال المصري.
والحديث مكرر ما قبله.
ورواه البخاري 13: 358-361 (فتح) ، من طريق الليث بن سعد، بهذا الإسناد. وذكر ابن كثير 2: 449 قطعة منه، نسبها للصحيحين.(8/362)
إذا كان يومُ القيامة، جمع الله الأولين والآخرين، ثم نادى مناد من عند الله:"ألا من كان يطلب مظلمةً فليجئ إلى حقه فليأخذه"! قال: فيفرح والله المرءُ أن يَذُوب له الحقّ على والده، أو ولده، أو زوجته، فيأخذ منه، وإن كان صغيرًا (1) = ومصداق ذلك في كتاب الله تبارك وتعالى: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) [سورة المؤمنون: 101] = فيقال له:"ائت هؤلاء حقوقهم" = أي: أعطهم حقوقهم = فيقول:"أي رب، من أين وقد ذهبت الدنيا"؟ فيقول الله لملائكته:"أي ملائكتي، انظروا في أعماله الصّالحة، وأعطوهم منها"! فإن بقي مثقال ذَرّة من حسنة قالت الملائكة؛ وهو أعلم بذلك منها:"يا ربنا، أعطينا كل ذي حق حقه، وبقي له مثقال ذرة من حسنة" فيقول للملائكة: ضعِّفوها لعبدي، وأدخلوه بفضل رحمتي الجنة" = ومصداق ذلك في كتاب الله:"إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، أي: الجنة، يعطيها. وإن فنيت حسناته وبقيت سيئاته، قالت الملائكة، وهو أعلم بذلك:"إلهنا، فنيت حسناته وبقي سيئاته، وبقي طالبون كثيرٌ"! فيقول الله:"ضعِّفوا عليها من أوزارهم، واكتبوا له كتابًا إلى النار" (2) قال صدقة: أو صكًّا إلى جهنم، شك صَدَقة أيتهما قال. (3)
9509 - وحدثت عن محمد بن عبيد، عن هارون بن عنترة، عن عبد الله بن السائب قال: سمعت زاذان يقول: قال عبد الله بن مسعود: يؤخذ بيد العبد والأمة يومَ القيامة، فينادي منادٍ على رؤوس الأولين والآخرين:"هذا فلان بن فلان، من كان له حق فليأت إلى حقه"، فتفرح المرأة أنْ يَذُوب لها الحق على أبيها، أو على ابنها، أو على أخيها، أو على زوجها، (4) ثم قرأ ابن مسعود: (فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ) [سورة المؤمنون: 101] ، فيغفر الله تبارك وتعالى من حقه ما شاء، ولا يغفر من حقوق الناس شيئًا، فينصبُ للناس فيقول:"ائتوا إلى الناس حقوقهم"! فيقول:"رب فنيت الدنيا، من أين أوتيهم حقوقهم؟ فيقول:"خذوا من أعماله الصالحة، فأعطوا كل ذي حقّ حقه بقدر مَظْلمته". فإن كان وليًّا لله، ففضل له مثقال ذرّة، ضاعفها له حتى يُدخله بها الجنة = ثمّ قرأ علينا:"إنّ الله لا يظلم مثقال ذرة" = وإن كان عبدًا شقيًّا، قال الملك:"رب فنيت حسناته، وبقي طالبون كثير"! فيقول:"خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته، ثم صُكُّوا له صكًّا إلى النار". (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فيفرح والله الصبي"، وفي المخطوطة: "فيفرح والله الصر أن يذوب"، وصواب قراءتها"المرء" كما أثبتها من المراجع المذكورة بعد.
"ذاب لي على فلان من الحق كذا، يذوب"، أي ثبت له ووجب.
(2) في المطبوعة: "ضعوا عليها من أوزارهم"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر الأثر التالي.
(3) الحديث: 9508 - صدقة بن أبي سهل: مترجم في التعجيل، ص: 185-186. والكبير 2 / 2 / 298، برقم: 2891، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 434-435، برقم: 1907. ولم يذكرا فيه جرحًا، فهو ثقة.
وشيخه"أبو عمرو": لم أعرف من هو؟ ففي هذه الكنية كثرة.
"زاذان": هو الكندي الضرير. وهو تابعي ثقة معروف.
وانظر الإسناد التالي لهذا.
(4) انظر تفسير"يذوب"، فيما سلف ص: 363، تعليق رقم: 1.
(5) الحديث: 9509 - هو تكرار للذي قبله بنحوه. ولكن الطبري جاء في أوله بصيغة التجهيل: "حدثت عن محمد بن عبيد". فضاع هذا الإسناد بهذا التجهيل.
ونقله ابن كثير 2: 449-450، عن ابن أبي حاتم: "حدثنا أبو سعيد الأشج، حدثنا عيسى بن يونس، عن هارون بن عنترة ... "، فزال الضعف عن أول الإسناد.
وهارون بن عنترة: مضى توثيقه وترجمته في: 405.
عبد الله بن السائب الكندي، ويقال: الشيباني، الكوفي: ثقة معروف. روى عنه الأعمش والثوري. وأخرج له مسلم.
فهذا الإسناد - عند ابن أبي حاتم - إسناد صحيح.
والحديث أثر موقوف على ابن مسعود. ولكني أراه من المرفوع حكمًا. فإن ما ذكره ابن مسعود مما لا يعرف بالرأي. وما كان ابن مسعود ليقول هذا من عند نفسه: وليس هو ممن ينقل عن أهل الكتاب، ولا يقبل الإسرائيليات.
وقد ذكره ابن كثير - كما قلنا - ثم قال: "ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح" ونقله السيوطي 2: 163، وزاد نسبته لعبد بن حميد.
"الصك": الكتاب. وقوله: "صكوا" فعل من"الصك"، أي: اكتبوا له صكًا، وهذا الفعل، لم تذكره كتب اللغة، وهذا شاهده.(8/363)
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على تأويل عبد الله هذا: إن الله لا يظلم عبدًا وجب له مثقال ذَرّة قِبَل عبد له آخر في مَعاده ويوم لقائه فما فوقه، (1) فيتركه عليه فلا يأخذه للمظلوم من ظالمه، ولكنه يأخذه منه له، ويأخذ من كل ظالم لكل مظلوم تَبِعَتَهُ قِبَله (2) ="وإن تك حسنة يضاعفها"، يقول: وإن تُوجد له حسنة يضاعفها، بمعنى: يضاعف له ثوابها وأجرها ="ويُؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، يقول: ويعطه من عنده أجرًا عظيمًا،"والأجر العظيم" (3) الجنة، على ما قاله عبد الله.
* * *
ولكلا التأويلين وجه مفهوم = أعني التأويل الذي قاله ابن مسعود، والذي قاله قتادة = وإنما اخترنا التأويل الأول، لموافقته الأثرَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع دلالة ظاهر التنزيل على صحته، إذ كان في سياق الآية التي قبلها، التي حث الله فيها على النفقة في طاعته، وذمِّ النفقة في طاعة الشيطان. ثم وَصَل ذلك بما وعدَ المنافقين في طاعته بقوله:"إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا".
واختلفت القرأة في قراءة قَوله:"وإن تك حسنة". فقرأت ذلك عامة قرأة العراق: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً) بنصب"الحسنة"، بمعنى: وإن تك زنةُ الذرّة حسنةً، يضاعفها.
* * *
__________
(1) السياق: "وجب له مثقال ذرة ... فما فوقه".
(2) "التبعة" (بفتح التاء وكسر الباء) و"التباعة" (بكسر التاء) : ما اتبعت به صاحبك من ظلامة أو حق لك عنده.
(3) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف 2: 148، 512 / 5: 519 / 7: 501(8/365)
وقرأ ذلك عامة قرأة المدينة: (وَإِنْ تَكُ حَسَنَةٌ) ، برفع"الحسنة"، بمعنى: وإن توجد حسنةٌ، على ما ذكرت عن عبد الله بن مسعود من تأويل ذلك. (1)
وأما قوله:"يُضَاعفها"، فإنه جاء بـ "الألف"، ولم يقل:"يُضعِّفها"، لأنه أريد به في قول بعض أهل العربية: (2) يُضاعفها أضعافًا كثيرة، ولو أريد به في قوله (3) يضعِّف ذلك ضِعفين لقيل:"يضعِّفها" بالتشديد.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الذين وعدهم الله بهذه الآية ما وعدهم فيها.
فقال بعضهم: هم جميع أهل الإيمان بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم. واعتلّوا في ذلك بما:-
9510 - حدثنا الفضل بن الصباح قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن مبارك بن فضالة، عن علي بن زيد، عن أبي عثمان النهدي قال: لقيت أبا هريرة فقلت له: إنه بلغني أنك تقول: إن الحسنة لتُضَاعف ألفَ ألف حسنة! قال: وما أعجبك من ذلك؟ فوالله لقد سمعته = يعني النبي صلى الله عليه وسلم = يقول: إن الله ليضاعف الحسنة ألفي ألف حسنة! (4)
وقال آخرون: بل ذلك: المهاجرون خاصة، دون أهل البوادي والأعراب. واعتلوا في ذلك بما:-
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 269.
(2) يعني أبا عبيدة في مجاز القرآن 1: 127 ونصه: "يضاعفها" أضعافًا = و"يضعفها" ضعفين.
(3) يعني: في قول أبي عبيدة.
(4) الحديث: 9510 - رواه أحمد في المسند: 7932، عن يزيد بن هارون، بهذا الإسناد.
وهو حديث صحيح. فصلنا القول في تخريجه في المسند.
وذكره ابن كثير 2: 451، عن رواية المسند، ثم نقله من رواية ابن أبي حاتم بإسنادين.
ثم ذكره مرة أخرى من رواية ابن أبي حاتم، عند تفسير الآية: 38 من سورة التوبة (ج4 ص168 -169) .
وذكره السيوطي 2: 163، وقصر في تخريجه جدًا، فلم ينسبه لغير الطبري. وذكر نحوه قبله، ونسبه لابن أبي شيبة فقط.(8/366)
9511 - حدثني محمد بن هارون أبو نشيط قال، حدثنا يحيى بن أبي بكير قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي، عن عبد الله بن عمير قال: نزلت هذه الآية، في الأعراب: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) [سورة الأنعام: 60] قال: فقال رجل: فما للمهاجرين؟ قال، ما هو أعظم من ذلك:"إنّ الله لا يظلم مثقال ذَرّة وإن تَكُ حسنةً يضاعفها ويُؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، وإذا قال الله لشيء:"عظيم"، فهو عظيم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال:"عُنى بهذه الآية المهاجرون دون الأعراب". (2) وذلك أنه غير جائز أن يكون في أخبار الله أو أخبار رسوله صلى الله عليه وسلم شيء يدفع بعضه بعضًا. فإذْ كان صحيحًا وعْدُ الله من جاء من عباده المؤمنين بالحسنة من الجزاء عشرَ أمثالها، وَمنْ جاء بالحسنة منهم أن يضاعفها له = وكان الخبرَان اللذان ذكرناهما عنه صلى الله عليه وسلم صحيحين = كان غيرَ جائز إلا أن يكون أحدُهما مجملا والآخر مفسَّرًا، إذ كانت أخبارُه صلى الله عليه وسلم يصدِّق بعضها بعضًا. وإذ كان ذلك كذلك، صحّ أن خبرَ أبي هريرة معناهُ أنّ الحسنة لَتُضاعف للمهاجرين من أهل الإيمان ألفي ألفُ حسنة، وللأعراب منهم عشر أمثالها، على ما رَوَى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم = وأن قوله: (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا) ، يعني: من جاء بالحسنة من أعراب المؤمنين فله عشر أمثالها، ومن جاء بالحسنة من مهاجريهم
__________
(1) الحديث: 9511 - هذا الإسناد ضعيف، من أجل"عطية العوفي". وقد بينا ضعفه فيما مضى: 305.
وأما شيخ الطبري"محمد بن هارون بن إبراهيم الربعي": فإنه ثقة. مترجم في التهذيب.
والحديث نقله ابن كثير 2: 450، من رواية ابن أبي حاتم، من طريق فضيل بن مرزوق، بهذا الإسناد. ولم يذكر شيئًا في تخريجه، ولا في تعليله.
وذكره السيوطي 2: 162-163، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن المنذر والطبراني.
(2) في المطبوعة: "المهاجرين"، وأثبت ما في المخطوطة.(8/367)
فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41)
يُضاعف له ويؤته الله من لدنه أجرًا = يعني يعطه من عنده ="أجرًا عظيمًا". يعني: عِوَضًا من حسنته عظيمًا، وذلك"العوض العظيم"، الجنة، كما:-
9512 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا صدقة بن أبي سهل قال، حدثنا أبو عمرو، عن زاذان، عن ابن مسعود:"ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، أي: الجنة يعطيها. (1)
9513 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عباد بن أبي صالح، عن سعيد بن جبير قوله:"ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، قال: الأجرُ العظيم، الجنة. (2)
9514 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا"، قال:"أجرًا عظيمًا"، الجنة.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيدًا (41) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الله لا يظلم عباده مثقال ذرّة، فكيف بهم ="إذا جئنا من كل أمة بشهيد"، يعني: بمن يشهد عليها بأعمالها، وتصديقها رسلَها أو تكذيبها ="وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا"، (3) يقول: وجئنا بك،
__________
(1) الأثر: 9512 - هو من الأثر السالف رقم: 9508.
(2) الأثر: 9513 -"عباد بن أبي صالح ذكوان، السمان" هو: "عبد الله بن أبي صالح". قال البخاري في الصغير: "منكر الحديث". وقال ابن معين: "ثقة"، وقال الساجي: "ثقة، إلا أنه روى عن أبيه ما لم يتابع عليه". مترجم في التهذيب.
(3) انظر تفسير"الشهيد" فيما سلف 1: 376-378 / 3: 97، 145 / 6: 60، 75 / ...(8/368)
يا محمد، ="على هؤلاء"، أي: على أمتك ="شهيدًا". يقول شاهدًا، كما:-
9515 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا"، قال: إن النبيين يأتون يوم القيامة، منهم من أسلم معه من قومه الواحدُ والاثنان والعَشَرة، وأقلُّ وأكثر من ذلك، حتى يُؤتى بقوم لوط صلى الله عليه وسلم، لم يؤمن معه إلا ابنتاه، فيقال لهم: هل بلَّغتم ما أرسلتُمْ به؟ فيقولون: نعم. فيقال: من يشهد، فيقولون: أمة محمد صلى الله عليه وسلم! فيقال لهم: اشهدوا، إنّ الرسل أودعوا عندكم شهادة، (1) فبم تشهدون؟ فيقولون: ربنا نَشهد أنهم قد بلغوا = كما شهدوا في الدنيا بالتبليغ. فيقال: من يشهد على ذلك؟ فيقولون: محمد صلى الله عليه وسلم. فيدعى محمد عليه السلام، فيشهدُ أن أمته قد صدَّقوا، وأنّ الرسل قد بلَّغوا، فذلك قوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) [سورة البقرة: 143] .
9516 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قوله:"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد"، قال: رسولها، فيشهد عليها أن قد أبلغهم ما أرسله الله به إليهم ="وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا"، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتَى عليها فاضت عيناه.
9517 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسن، عن يزيد النحوي، عن عكرمة في قوله: (وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) [سورة البروج: 3] ، قال: الشاهد محمد، والمشهود يوم الجمعة. فذلك قوله:"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا".
__________
(1) في المطبوعة: "أتشهدون أن الرسل"، وأثبت ما في المخطوطة.(8/369)
9518 - حدثني عبد الله بن محمد الزهري قال، حدثنا سفيان، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه، عن عبد الله: "فكيف إذا جئنا منْ كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا"، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) . (1)
9519 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا إبراهيم بن أبي الوزير قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن المسعودي، عن القاسم: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن مسعود: اقرأ علي. قال، أقرأ عليك، وعليك أنزل؟ قال: إني أحب أن أسمعه من غيري. قال: فقرأ ابن مسعود"النساء" حتى بلغ:"فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا"، قال: استعبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكفّ ابن مسعود = = قال المسعودي، فحدثني جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"شهيدًا عليهم ما دمت فيهم، فإذا توفيتني كنت أنت الرقيبَ عليهم، وأنتَ على كل شيء شهيد". (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 9518 - سفيان: هو ابن عيينة.
المسعودي -هنا-: هو معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود. وهو ثقة. أخرج له الشيخان. وترجمه البخاري في الكبير 4 / 1 / 390، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 277.
"جعفر بن عمرو بن حريث المخزومي": ثقة. ترجمه البخاري 1 / 2 / 193، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 484.
أبوه"عمرو بن حريث": صحابي.
وهذا الحديث -على صحة إسناده - لم أجده من غير رواية الطبري. وابن كثير لم ينسبه لغيره 2: 453، وكذلك السيوطي 2: 164.
وانظر الحديث الذي بعده.
والآية، تضمين لآية سورة المائدة 117.
(2) الحديث: 9519 - إبراهيم بن أبي الوزير - واسم أبي الوزير: عمر - بن مطرف المكي، مولى بني هاشم: ثقة، وثقه محمد بن بشار وغيره. مترجم في التهذيب، والكبير 1 / 1 / 333، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 114-115.
وهذا الحديث في الحقيقة حديثان:
أولهما: رواية المسعودي - معن بن عبد الرحمن - عن القاسم. والظاهر أن القاسم هذا: هو أخوه"القاسم بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود". وهو تابعي ثقة. ولكنه لم يدرك أن يروي عن جده"عبد الله بن مسعود"، ولم يذكر هنا أنه"عن ابن مسعود" - حتى يكون إسنادًا منقطعًا. فهو حديث مرسل.
ولكن هذا الحديث الأول منهما ثابت صحيح بالأسانيد المتصلة. فقد رواه البخاري 9: 81 (فتح) ، من طريق الأعمش، عن إبراهيم، عن عبيدة، عن عبد الله. وكذلك رواه أحمد في المسند: 3606، 4118، من طريق الأعمش، به. ورواه أحمد أيضًا: 3550، من رواية أبي حيان الأشجعي، عن ابن مسعود، و: 3551، من طريق أبي رزين، عن ابن مسعود.
ونقله ابن كثير في فضائل القرآن، ص: 77، عن البخاري. ثم قال: "وقد رواه الجماعة إلا ابن ماجه، من طرق، عن الأعمش. وله طرق يطول بسطها".
ونقله في التفسير 2: 452-453، عن البخاري أيضًا. ثم قال: "وقد روى من طرق متعددة عن ابن مسعود. فهو مقطوع به. ورواه أحمد من طريق أبي حيان، وأبي رزين، عنه".
ونقله السيوطي 2: 163، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل.
وثانيهما: رواية المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه. وهذا مكرر للحديث السابق: 9518، ولكنه جعله هنا من حديث عمرو بن حريث، لم يذكر فيه روايته عن ابن مسعود. فيكون مرسل صحابي. فهو صحيح بكل حال.
وقد رواه الحاكم في المستدرك 3: 319، من طريق جعفر بن عون، عن المسعودي، عن جعفر بن عمرو بن حريث، عن أبيه - مطولا - بقصة قراءة ابن مسعود هذه الآيات على النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن فيه النص الذي هنا"شهيدًا عليهم ما دمت فيهم ... ". فأصل الحديث صحيح ثابت. ولذلك قال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ونقل السيوطي 2: 163 رواية الحاكم، مختصرة قليلا، ولم ينسبها لغيره.(8/370)
يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
القول في تأويل قوله: {يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يوم نجيء من كلّ أمة بشهيد، ونجيء بك على أمتك يا محمد شهيدًا ="يود الذين كفروا"، يقول: يتمنى الذين جحدوا وحدانية الله وعصوا رسوله، ="لو تُسَوَّى بهم الأرض".. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470 / 5: 542.(8/371)
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز ومكة والمدينة: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ) "بتشديد""السين" و"الواو" وفتح"التاء"، بمعنى: لو تَتَسوّى بهم الأرض، ثم أدغمت"التاء" الثانية في"السين"، يراد به: أنهم يودّون لو صاروا ترابًا فكانوا سواءً هم والأرض.
وقرأ آخرون ذلك: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ) ، بفتح"التاء" وتخفيف"السين". وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة بالمعنى الأول، غير أنهم تركوا تشديد"السين"، واعتلوا بأن العرب لا تكاد تجمع بين تشديدين في حرف واحد.
وقرأ ذلك آخرون: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ) ، بمعنى: لو سوّاهم الله والأرض، فصاروا ترابًا مثلها بتصييره إياهم، كما يفعل ذلك بمن ذكر أنه يفعله به من البهائم.
قال أبو جعفر: وكل هذه القراءات متقاربات المعنى، وبأي ذلك قرأ القارئ فمصيبٌ، لأن من تمنى منهم أن يكون يومئذ ترابًا، إنما يتمنى أن يكون كذلك بتكوين الله إياه كذلك. وكذلك من تمنى أن يكون الله جعله كذلك، فقد تمنى أن يكون ترابًا. على أن الأمر وإن كان كذلك، فأعجبُ القراءة إليّ في ذلك: (لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأرْضُ) ، بفتح"التاء" وتخفيف"السين" كراهية الجمع بين تشديدين في حرف واحد = وللتوفيق في المعنى بين ذلك وبين قوله: (وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا) [سورة النبأ: 40] . فأخبر الله عنهم جل ثناؤه أنهم يتمنون أن كانوا ترابًا، ولم يخبر عنهم أنهم قالوا:"يا ليتني كنت ترابًا". فكذلك قوله:"لو تَسوّى بهم الأرض" فيسوَّوا هم. وهي أعجب إلي، ليوافق ذلك المعنى الذي أخبرَ عنهم(8/372)
بقوله:"يا ليتني كنتُ ترابًا". وأما قوله:"ولا يكتمون الله حديثًا"، فإن أهل التأويل تأوّلوه بمعنى: ولا تكتم الله جوارحُهم حديثًا، وإن جحدتْ ذلك أفواههم.
ذكر من قال ذلك:
9520 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عمرو، عن مطرف، عن. المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: أتى رجلٌ ابن عباس فقال: سمعت الله يقول (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام: 23] ، وقال في آية أخرى:"ولا يكتمون الله حديثًا". فقال ابن عباس: أما قوله:"والله ربنا ما كنا مشركين"، فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهلُ الإسلام قالوا:"تعالوا فلنجحد"! فقالوا:"والله ربنا ما كنا مشركين"! فختم الله على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم، فلا يكتمون الله حديثًا.
9521 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس فقال: أشياءُ تختلفُ علي في القرآن؟ فقال: ما هو؟ أشك في القرآن؟ قال: ليس بالشك، ولكنه اختلاف! قال: فهات ما اختلف عليك. قال: أسمع الله يقول: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام: 23] ، وقال:"ولا يكتمون الله حديثًا"، وقد كتموا! فقال ابن عباس: أما قوله:"ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا والله ربنا ما كنا مشركين"، فإنهم لما رأوا يوم القيامة أن الله يغفر لأهل الإسلام ويغفر الذنوب، ولا يغفر شركًا، ولا يتعاظمه ذنبٌ أن يغفره = جحد المشركون فقالوا:"والله ربنا ما كنا مشركين"، رجاءَ أن يغفر لهم، فختم على أفواههم، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فعند ذلك:"يَودّ الذين كفروا وَعصوُا الرسول لو تسوَّى بهم الأرضُ ولا يكتمون الله حديثًا".(8/373)
9522 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا الزبير، عن الضحاك: أن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال: يا ابن عباس، قول الله تبارك وتعالى:"يومئذ يودّ الذين(8/374)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
كفروا وعصوا الرّسول لو تسوّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا"، وقوله: (وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ) ؟ فقال له ابن عباس: إني أحسبك قمت من عند أصحابك فقلت:"ألقى علي ابن عباس مُتَشابه القرآن"، فإذا رجعت إليهم فأخبرهم أن الله جامع الناس يوم القيامة في بَقيع واحد، (1) فيقول المشركون:"إن الله لا يقبل من أحد شيئًا إلا ممن وحّده"! فيقولون:"تعالوا نَقُل"! (2) فيسألهم فيقولون:"والله رَبنا ما كنا مشركين"، قال: فيختم على أفواههم، ويستنطق جوارحهم، فتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانوا مشركين، فعند ذلك تمنوا لو أن الأرض سُوِّيت بهم ولا يكتمون الله حديثًا.
9523 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يومئذ يود الذين كفروا وعصوُا الرسول لو تسوَّى بهم الأرض ولا يكتمون الله حديثًا"، يعني: أن تسوّى الأرضُ بالجبال والأرضُ، عليهم. (3)
فتأويل الآية على هذا القول الذي حكيناه عن ابن عباس: يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول، لو تسوّى بهم الأرض ولم يكتموا الله حديثًا (4) = كأنهم تمنوا أنهم سوُّوا مع الأرض، وأنهم لم يكونوا كتموا الله حديثًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: يومئذ لا يكتمون الله حديثًا = ويودّون لو تسوّى بهم الأرض. وليس بمنكتم عن الله شيء من حديثهم، لعلمه جل ذكره بجميع حديثهم وأمرهم، فإن همْ كتموه بألسنتهم فجحدوه، (5) لا يخفى عليه شيء منه.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (6) "يا أيها الذين آمنوا"، صدّقوا الله ورسوله ="لا تقربوا الصلاة"، لا تصلوا ="وأنتم سكارى"، وهو جمع"سكران" ="حتى تعلموا ما تقولون"، في صلاتكم فتميّزون فيها ما أمركم الله به أو ندبكم إلى قيله فيها، (7) مما نهاكم عنه وزَجَركم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في"السكر" الذي عناه الله بقوله:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى".
فقال بعضهم: عنى بذلك السّكر من الشراب.
__________
(1) "البقيع": المكان المتسع من الأرض، يكون فيه بعض الشجر.
(2) في المطبوعة: "تعالوا نجحد"، غير ما في المخطوطة، وهو ما أثبته، ولم يستطع أن يعرف لها معنى، وهي صواب، وإن كانت كتب اللغة قد قصرت في إثبات هذا المعنى. وذلك أن"نقل" هنا من"القول" يراد به الكذب أو التعريض به، وقد مر بي ذلك في كتب السيرة مرارًا منها، ما قرأته في سيرة ابن هشام 3: 58، في خبر مقتل كعب الأشرف وقول محمد بن مسلمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا رسول الله، لا بد لنا من أن نقول"! فقال رسول الله: "قولوا ما بدا لكم، فأنتم في حل من ذلك". وهو شبيه المعنى بالكذب.
(3) في المطبوعة: "أن تسوى الأرض بالجبال عليهم" حذف"الأرض" الثانية، والصواب ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "ولا يكتمون الله حديثًا"، وهو خطأ فاحش، والصواب ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "فإنهم إن كتموه بألسنتهم"، وهو خطأ فاحش أيضًا، والصواب ما في المخطوطة.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(7) في المطبوعة: "وتقرأون فيها مما أمركم الله ... " وهو سياق مضطرب جدا، وفي المخطوطة: "وتقرون فيها مما أمركم الله" غير منقوط، وهو مضطرب أيضًا، ورجحت أن صواب قراءتها ما أثبت.(8/375)
ذكر من قال ذلك
9524 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن أبي عبد الرحمن، عن علي: أنه كان هو وعبد الرحمن ورجل آخر شربوا الخمر، فصلى بهم عبد الرحمن فقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) فخلط فيها، فنزلت:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى".
9525 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن حبيب: أن عبد الرحمن بن عوف صنعَ طعامًا وشرابًا، فدعا نفرًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فأكلوا وشربوا حتى ثَمِلوا، فقدّموا عليًّا يصلي بهم المغرب، فقرأ:"قُلْ يَا أَيُّهَا الْكافِرُون أَعْبُد مَا تَعْبُدُون، وَأَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَأَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ لَكُمْ دِيِنكُمْ وَلِيَ دِين"، فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون".
9526 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قبل أن تحرّم الخمر، فقال الله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، الآية.
9527 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قال: نزل هذا وهم يشربون الخمر. فقال: وكان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر.
9528 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي رزين قال: كانوا يشربون بعد ما أنزلت التي في"البقرة"، (1) وبعد التي في"النساء"،
__________
(1) يعني آية سورة البقرة: 219: "يسألونك عن الخمر والميسر".(8/376)
فلما أنزلت التي في"المائدة" تركوها. (1)
9529 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون"، قال: نهوا أن يصلوا وهم سكارى، ثم نسخها تحريمُ الخمر.
9530 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9531 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قال: كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات، ثم نسخ بتحريم الخمر.
9532 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أبي وائل، وأبي رزين وإبراهيم في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى" و (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا) [سورة البقرة: 90] ، وقوله: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) [سورة النحل: 67] ، قالوا: كان هذا قبل أن ينزل تحريم الخمر.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لا تقربوا الصلاة وأنتم سُكارى من النوم.
ذكر من قال ذلك
9533 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قال: ليست لمن يقربها سكران من الشراب، إنما عُنِي بها سكر النوم. (2)
__________
(1) يعني آية سورة المائدة: 90، 91: "يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه".
(2) في المطبوعة: "قال: سكر النوم"، حذف ما بين ذلك، وكان في المخطوطة: "لمن يقربها سكرا إنما عنى بها سكر النوم" بياض بين الكلام، ووضع بهامش المخطوطة حرف"ط" بمعنى الخطأ. وقد اجتهدت قراءتها كما أثبتها.(8/377)
9534 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك:"يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى"، قال: لم يعن بها سكر الخمر، وإنما عنى بها سكر النوم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، تأويل من قال: ذلك نهيٌ من الله المؤمنين عن أن يقربوا الصلاة وهم سكارى من الشراب قبل تحريم الخمر، للأخبار المتظاهرة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن ذلك كذلك، نهيٌ من الله = وأن هذه الآية نزلت فيمن ذكرت أنها نزلت فيه.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك معناه، والسكران في حال زوال عقله، نظيرُ المجنون في حال زوال عقله، وأنت ممن يُحيل تكليف المجانين لفقدهم الفهم لما يُؤمر وينهى؟ (1)
قيل له: إن السكران لو كان في معنى المجنون، لكان غير جائز أمرُه ونهيه. ولكن السكران هو الذي يفهم ما يأتي ويذَر، غير أن الشراب قد أثقل لسانه وأجزاء جسمه وأخدَرها، (2) حتى عجز عن إقامة قراءته في صلاته، وحدودها الواجبة عليه فيها، من غير زوال عقله، فهو بما أمر به ونهى عنه عارف فَهِمٌ، وعن أداء بعضه عاجز بخدَرِ جسمه من الشراب. وأما من صار إلى حدّ لا يعقل ما يأتي ويذر، فذلك منتقل من السكر إلى الخَبل ومعاني المجانين، (3) وليس ذلك
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بما يؤمر ... "، والصواب"لما" كما أثبته.
(2) في المطبوعة: "وأحر جسمه وأخدره" غير ما في المخطوطة لأنه كتب"وأحرا حسمه وأخدرها"، فلم يحسن قراءة"وأجزاء"، فأفسد الكلام.
(3) في المطبوعة: "ومعدود في المجانين"، غير ما في المخطوطة، وكان فيها: "ومعاني المجانين"، فلم يحسن قراءتها، ففعل ما فعل كدأبه.(8/378)
الذي خوطب بقوله:"لا تقربوا الصلاة"، لأن ذلك مجنون، وإنما خوطب به السكران، والسكرانُ ما وصفنا صفته.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا جُنُبًا إِلا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم، معنى ذلك:"لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون" ="ولا تقربوها جنبًا إلا عابري سبيل" = يعني: إلا أن تكون مجتازي طريق، أي: مسافرين ="حتى تغتسلوا". (1)
*ذكر من قال ذلك:
9535 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر = وقال ابن المثنى: في السفر.
9536 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، يقول: لا تقربوا الصلاة وأنتم جُنب إذا وجدتم الماء، فإن لم تجدوا الماء فقد أحللتُ لكم أن تمسَّحوا بالأرض.
9537 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال، عن عباد بن عبد الله = أو: عن زِرّ = عن علي رضي الله عنه:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: إلا أن تكونوا مسافرين فلم تجدوا الماء، (2) فتيمموا. (3)
__________
(1) انظر تفسير: "الجنب" فيما سلف قريبًا ص: 340.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فلا تجدوا الماء"، والصواب ما أثبت.
(3) الأثر: 9537 -"عباد بن عبد الله الأسدي". روى عن علي. وروى عنه المنهال بن عمرو. قال البخاري: "فيه نظر"، وذكره ابن حبان في الثقات، وتكلم فيه أحمد. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر التالي رقم: 9540.(8/379)
9538 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر.
9539 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا هشام، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن ابن عباس بمثله.
9540 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد الله، عن علي رضي الله عنه قال: نزلت في السفر:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"،"وعابر السبيل"، المسافر، إذا لم يجد ماء تيمم.
9541 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا هارون، عن ابن مجاهد، عن أبيه:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر، إذا لم يجد الماءَ فإنه يتيمم، فيدخلُه فيصلي. (1)
9542 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: هو الرجل يكون في السفر، فتصيبه الجنابة فيتيمم ويصلي.
9543 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: مسافرين، لا يجدون ماء فيتيممون صعيدًا طيبًا، لم يجدوا الماء فيغتسلوا. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "فإنه يتيمم فيصلي" حذف"فيدخله"، كأنه لم يعرف ماذا عنى بها فحذفها، وهذا عمل سيئ قبيح. وقوله: "فيدخله" يعني: المسجد.
(2) في المطبوعة: "حتى يجدوا الماء فيغتسلوا"، وفي المخطوطة: "لي يجدوا الماء فيغتسلوا"، وصواب قراءتها ما أثبت.(8/380)
9544 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: مسافرين لا يجدون ماء.
9545 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن مسعر، عن بكير بن الأخنس، عن الحسن بن مسلم في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: إلا أن يكونوا مسافرين، فلم يجدوا الماء فيتيمموا. (1)
9546 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الحكم:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: المسافر تصيبه الجنابة، فلا يجد ماء فيتيمم.
9547 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير = وعن منصور، عن الحكم = في قوله:"إلا عابري سبيل"، قالا المسافر الجنبُ، لا يجد الماء فيتيمم فيصلي.
9548 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، إلا أن يكون مسافرًا.
9549 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن الحكم نحوه.
9550 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير قال: كنا نسمع أنه في السفر.
9551 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: هو المسافر الذي لا يجد الماء، فلا بد
__________
(1) في المطبوعة: "فلا يجدون الماء فيتمموا"، وأثبت ما في المخطوطة، إلا"فلم يجدوا"، فقد كانت فيها"فلا يجدوا".(8/381)
له من أن يتيمم ويصلي، فهو يتيمم ويصلي = قال: كان أبي يقولُ هذا.
* * *
وقال آخرون معنى ذلك، لا تقربوا المصَلَّى للصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون = ولا تقربوه جنبًا حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل = يعني: إلا مجتازين فيه للخروج منه.
فقال أهل هذه المقالة: أقيمت"الصلاة" مقام"المصلَّى" و"المسجد"، إذ كانت صلاة المسلمين في مساجدهم أيّامئذ، لا يتخلَّفون عن التجميع فيها. (1) فكان في النهي عن أن يقربوا الصلاة، كفايةٌ عن ذكر المساجد والمصلَّى الذي يصلون فيه.
*ذكر من قال ذلك:
9552 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن أبيه في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: هو الممرُّ في المسجد. (2)
9553 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن أبي جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، عن ابن يسار، عن ابن عباس:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل":، قال: لا تقرب المسجد إلا أن يكون طريقك فيه، فتمرّ مارًّا ولا تجلس. (3)
9554 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن سعيد في الجنب: يمر في المسجد مجتازًا وهو قائم، لا يجلس وليس بمتوضئ. وتلا هذه الآية:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل".
__________
(1) في المطبوعة: "التجمع فيها"، و"التجميع" هو: شهود صلاة الجماعة، أو إقامة صلاة الجماعة.
(2) الأثر: 9552 -"أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود"، أبوه: عبد الله بن مسعود الصحابي. مضت ترجمته في رقم: 43، 4570، وغيرهما.
(3) في المطبوعة: "فتمر مرًا"، لم يحسن قراءة ما كان في المخطوطة، على سوء كتابتها.(8/382)
9555 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: لا بأس للحائض والجنب أن يمرَّا في المسجد ما لم يجلسا فيه.
9556 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو الزبير قال: كان أحدنا يمر في المسجد وهو جُنب مجتازًا.
9557 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: الجنب يمر في المسجد ولا يقعُد فيه.
9558 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم = قالا جميعًا، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم في قوله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: إذا لم يجد طريقًا إلا المسجد، يمرّ فيه.
9559 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل قال، حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم في هذه الآية:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا"، قال: لا بأس أن يمرّ الجنب في المسجد، إذا لم يكن له طريق غيره.
9560 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
9561 - حدثني المثنى قال، حدثنا [الحماني] قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: الجنب يمرّ في المسجد ولا يجلس فيه. ثم قرأ:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل". (1)
__________
(1) الأثر: 9561 - في المخطوطة: "حدثني المثنى قال حدثنا قال حدثنا شريك"، وهو إسناد ناقص، فجاء في المطبوعة فجعله"حدثني المثنى قال حدثنا شريك"، واستظهرت أن يكون كما أثبته بين القوسين، من الآثار التي تليه، ومن رواية المثنى بمثل هذا الإسناد فيما سلف.(8/383)
9562 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن أبي عبيدة مثله.
9563 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سماك، عن عكرمة مثله.
9564 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى مثله.
9565 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن إسماعيل، عن الحسن قال: لا بأس للحائض والجنب أن يمرّا في المسجد، ولا يقعدَا فيه.
9566 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن سعيد، عن الزهري قال: رُخِّص للجنب أن يمرّ في المسجد.
9567 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب عن قول الله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، أنّ رجالا من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، تصيبهم جنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرًّا إلا في المسجد، فأنزل الله تبارك وتعالى:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل".
9568 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن حماد، عن إبراهيم،"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، قال: لا يجتاز في المسجد، إلا أن لا يجدَ طريقًا غيره.
9569 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن ابن مجاهد، عن أبيه: لا يمر الجنب في المسجد، يتخذُه طريقًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالتأويل لذلك، تأويل من تأوَّله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل، إلا مجتازي طريق فيه. وذلك أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا عَدِم(8/384)
الماء وهو جنب في قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) ، فكان معلومًا بذلك أن قوله (1) "ولا جنبًا إلا عابري سبيل حتى تغتسلوا"، لو كان معنيًّا به المسافر، لم يكن لإعادة ذكره في قوله:"وإن كنتم مرضى أو على سفر" معنى مفهوم، وقد مضى ذكر حكمه قبل ذلك.
* * *
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: يا أيها الذين آمنوا، لا تقربوا المساجد للصلاة مصلِّين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون، ولا تقربوها أيضًا جنبًا حتى تغتسلوا، إلا عابري سبيل.
* * *
و"العابر السبيل": المجتازُه مرًّا وقطعًا. يقال منه:"عبرتُ هذا الطريق فأنا أعبُرُهُ عَبْرا وعبورًا". ومنه قيل:"عبر فلان النهرَ"، إذا قطعه وجازه. ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار:"هي عُبْر أسفار، وعَبْر أسفار"، (2) لقوتها على الأسفار.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وإن كنتم مرضى"، من جرح أو جُدَرِيّ وأنتم جنب، كما:-
9570 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فكان معلوم بذلك"، والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة، حذف"وعبر أسفار" الثانية، كأنه ظنها تكرارًا. وإنما أراد واحدة بضم العين وسكون الباء، والأخرى بفتح العين وسكون الباء = وهناك ثالثة بكسر العين وسكون الباء.(8/385)
المنبِّه الفضل بن سليم، (1) عن الضحاك، عن ابن مسعود قوله:"وإن كنتم مرضى أو على سفر"، قال: المريض الذي قد أُرخص له في التيمم، هو الكسير والجريح. فإذا أصابت الجنابة الكسيرَ اغتسل، (2) والجريح لا يحل جراحته، إلا جراحة لا يخشى عليها. (3)
9571 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، حدثنا إسحاق بن يوسف الأزرق، عن شريك، عن إسماعيل السدي، عن أبي مالك قال، في هذه الآية:"وإن كنتم مرضى أو على سفر"، قال: هي للمريض الذي به الجراحةُ التي يخاف منها أن يغتسل، فلا يغتسل. فرُخِّص له في التيمم.
9572 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن كنتم مرضى"، و"المرض" هو الجراح. والجراحة التي يتخوّف عليه من الماء، (4) إن أصابه ضرَّ صاحبه، فذلك يتيمم صعيدًا طيبًا.
9573 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير في قوله:"وإن كنتم مرضى"، قال: إذا كان به جروح أو قُروح يتيمم. (5)
9574 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم:"وإن كنتم مرضى"، قال: من القروح تكون في الذراعين.
__________
(1) الأثر: 9570 -"أبو المنبه: الفضل بن سليم"، لم أجده، وإنما وجدت"الفضل بن سليم العبدي". روى عن القاسم بن خالد، روى عنه مسلم بن إبراهيم. مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 2 / 63.
(2) في المطبوعة، حذف قوله: "ولم يحل جبائره" كأنه لم يعرف لها معنى!! وهو أشهر من ذلك!
(3) في المخطوطة: "والجرح لا يحل جراحته"، والصواب ما في المطبوعة.
(4) في المخطوطة: "التي يتخوف عليه منه الماء"، وفي المطبوعة: "التي يتخوف عليها من الماء"، والصواب بينهما ما أثبت.
(5) الأثر 9573 -"عزرة بن عبد الرحمن الخزاعي"، مضى برقم: 2752، 2753. وقد كان في المطبوعة: "عروة"، والصواب من المخطوطة، وإن كانت غير منقوطة.(8/386)
9575 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم:"وإن كنتم مرضى"، قال: القروح في الذراعين.
9576 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن جويبر، عن الضحاك قال: صاحب الجراحة التي يتخوّف عليه منها، يتيمم. ثم قرأ:"وإن كنتم مرضى أو على سفر".
9577 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن كنتم مرضى"، و"المرض"، أن يصيب الرجل الجرح والقرح والجدريّ، (1) فيخاف على نفسه من برد الماء وأذاه، يتيمم بالصعيد كما يتيمم المسافر الذي لا يجد الماء.
9578 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن عاصم = يعني الأحول = عن الشعبي: أنه سئل عن [قوله] : المجدور تُصيبه الجنابة؟ قال: ذهب فرسان هذه الآية. (2)
* * *
وقال آخرون في ذلك، ما:-
9579 - حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماءً فتيمموا"، قال: المريضُ الذي لا يجد أحدًا يأتيه بالماء، ولا يقدر عليه، وليس له خادم ولا عون، فإذا لم يستطع أن يتناول الماء، وليس عنده من يأتيه به، ولا يحبو إليه، تيمم وصلَّى إذا
__________
(1) في المطبوعة: "أو القروح أو الجدري"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) هكذا في المخطوطة: "عن قوله: المجدور ... " فأثبتها بين القوسين، لأني في شك منها. وأما قوله: "ذهب فرسان هذه الآية"، فإنه مما أشكل على معناه، وربما رجحت أنه أراد أن الآية نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد، تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم، فيريدون الماء ولا يجدون ممرًا إلا في المسجد، كما مضى في الأثر رقم: 9567. فيكون قوله: "ذهب فرسان هذه الآية"، عن ذلك الشطر من الآية"ولا جنبًا إلا عابري سبيل"، وأنهم هم الأنصار من أصحاب رسول الله، الذين كانت أبوابهم في المسجد، وقد مضوا، لم يبق اليوم منهم أحد. هذا غاية اجتهادي، وفوق كل ذي علم عليم.(8/387)
حلَّت الصلاة = قال: هذا كله قولُ أبي = إذا كان لا يستطيع أن يتناول الماء وليس عنده من يأتيه به، لا يترك الصلاة، وهو أعذَرُ من المسافر.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وإن كنتم جَرْحى أو بكم قروحٌ، أو كسر، أو علّة لا تقدرون معها على الاغتسال من الجنابة، وأنتم مقيمون غيرُ مسافرين، فتيمموا صعيدًا طيبًا.
* * *
وأما قوله:"أو على سفر"، فإنه يعني: أو إن كنتم مسافرين وأنتم أصحّاء جنب، فتيمموا صعيدًا.
* * *
وكذلك تأويل قوله:"أو جاء أحد منكم من الغائط"، يقول: أو جاء أحدٌ منكم من الغائط، قد قضى حاجته وهو مسافر صحيح، فليتيمم صعيدًا أيضًا.
* * *
و"الغائط": ما اتسع من الأودية وتصوَّب. وجعل كناية عن قضاء حاجة الإنسان، لأن العرب كانت تختار قضاءَ حاجتها في الغِيطان، فكثر ذلك منها حتى غلب عليهم ذلك، فقيل لكل من قضى حاجته التي كانت تقضي في الغِيطان، حيثُ قضاها من الأرض:"مُتَغَوِّط" و"جاء فلان من الغائط"، يعني به: قضى حاجته التي كانت تقضى في الغائط من الأرض. (1) .
* * *
وذكر عن مجاهد أنه قال في"الغائط": الوادي.
9580 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو جاء أحد منكم من الغائط"، قال: الغائط، الوادي.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الغائط" فيما سلف 5: 354.(8/388)
القول في تأويل قوله: {أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أو باشرتم النساءَ بأيديكم.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في"اللمس" الذي عناه الله بقوله:"أو لامستم النساء".
فقال بعضهم: عنى بذلك الجماع.
*ذكر من قال ذلك:
9581 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: ذكروا اللمس، فقال ناس من الموالي: ليس بالجماع. وقال ناس من العرب: اللمس الجماع. قال: فأتيت ابن عباس فقلت: إنّ ناسًا من الموالي والعرب اختلفوا في"اللمس"، فقالت الموالي: ليس بالجماع، وقالت العرب: الجماع. قال: من أيّ الفريقين كنت؟ قلت: كنت من الموالي. قال: غُلِب فريق الموالي، إن"المس" و"اللمس"، و"المباشرة"، الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء. (1)
9582 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي قيس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.
9583 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال: سمعت سعيد بن جبير يحدِّث عن ابن عباس: أنه قال:"أو لامستم النساء"، قال: هو الجماع.
9584 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي،
__________
(1) الأثر: 9581 - أخرجه البيهقي في السنن 1: 125، من طريق إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة.(8/389)
عن قتادة، عن سعيد بن جبير قال: اختلفتُ أنا وعطاء وعبيد بن عمير في قوله:"أو لامستم النساء"، فقال عبيد بن عمير: هو الجماع. وقلت أنا وعطاء: هو اللمس. قال: فدخلنا على ابن عباس فسألناه فقال: غُلِب فريقُ الموالي، وأصابت العرب، هو الجماع، ولكن الله يعفُّ ويكني.
9585 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة وسعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وعبيد بن عمير: اختلفوا في الملامسة، فقال سعيد بن جبير وعطاء: الملامسة ما دون الجماع. وقال عبيد: هو النكاح. فخرج عليهم ابن عباس فسألوه، فقال: أخطأ الموليَان وأصَاب العربيّ، الملامسة النكاح، ولكن الله يكني ويعفّ.
9586 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة قال: اجتمع سعيد بن جبير وعطاء وعبيد بن عمير، فذكر نحوه.
9587 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن عثمة قال، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة قال، قال سعيد بن جبير وعطاء في التماس: (1) الغمز باليد. وقال عبيد بن عمير: الجماع. فخرج عليهم ابن عباس فقال: أخطأ الموليان وأصابَ العربيُّ، ولكنه يعفّ ويكني. (2)
9588 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا قال ابن عباس: اللمس، الجماع. (3)
9589 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية وعبد الوهاب، عن خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
__________
(1) هكذا في المطبوعة والمخطوطة، ولعل صوابها: "اللماس" مصدر"لامس ملامسة ولماسًا"، كما سيأتي في الآثار التالية.
(2) الأثر: 9587 - محمد بن عثمة، هو: "محمد بن خالد بن عثمة" مضى برقم: 90، 5314، 5483.
(3) الأثر: 9588 - أخشى أن يكون في هذا الإسناد خرم.(8/390)
9590 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال:"اللمس" و"المس" و"المباشرة"، الجماع، ولكن الله يكني بما شاءَ.
9591 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال: الملامسة الجماع، ولكن الله كريم يكني عما شاء.
9592 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس مثله.
9593 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن جعفر بن أبي وحشية، عن سعيد بن جبير قال: اختلفت العرب والموالي في"الملامسة" على باب ابن عباس، قالت العرب: الجماع. وقالت الموالي: باليد. قال: فخرج ابن عباس فقال: غُلِب فريق الموالي، الملامسة الجماع.
9594 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن رجل، عن سعيد بن جبير قال: كنا على باب ابن عباس، فذكر نحوه.
9595 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير قال: قعد قوم على باب ابن عباس، فذكر نحوه.
9596 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"أو لامستم النساء"، الملامسة هو النكاح.
9597 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن عبد الملك بن ميسرة، عن سعيد بن جبير قال: اجتمعت الموالي والعرب في المسجد، وابن عباس في الصُّفَّة، فاجتمعت الموالي على أنّ"اللمس" دون الجماع،(8/391)
واجتمعت العرب على أنه الجماع. فقال ابن عباس: من أيّ الفريقين أنت؟ قلت: من الموالي. قال: غُلِبت.
9598 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: اللمس، الجماع.
9598م = وبه عن سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس مثله.
9599 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد، عن ابن عباس قال: هو الجماع.
9600 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك، عن زهير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
9601 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن داود، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أو لامستم النساء"، قال: الجماع.
9602 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أشعث، عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه قال: الجماع.
9603 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبد الأعلى، عن يونس، عن الحسن قال: الجماع.
9604 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك، عن خصيف قال: سألت مجاهدًا فقال ذلك.
9605 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة والحسن قالا غشيان النساء.
* * *
وقال آخرون: عنى الله بذلك كلَّ لمسٍ، بيدٍ كان أو بغيرها من أعضاء جسد الإنسان = وأوجبوا الوضوءَ على من مسَّ بشيء من جسده شيئًا من جسدها مفضيًا إليه.(8/392)
*ذكر من قال ذلك:
9606 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مخارق، عن طارق بن شهاب، عن عبد الله أنه قال، شيئًا هذا معناه: الملامسة ما دون الجماع.
9607 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن هلال، عن أبي عبيدة، عن عبد الله = أو: عن أبي عبيدة، منصورٌ الذي شك = قال: القبلة، من المس.
9608 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مخارق، عن طارق، عن عبد الله قال: اللمس، ما دون الجماع.
9609 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم قال، قال ابن مسعود: اللمس، ما دون الجماع.
9610 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: القبلةُ، من اللمس.
9611 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل = عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود قال: القبلة، من اللمس، وفيها الوضوء.
9612 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي عبيدة، عن عبد الله بن مسعود مثله.
9613 - حدثنا أحمد بن عبدة الضبي قال: أخبرنا سليم بن أخضر قال، أخبرنا ابن عون، عن محمد قال: سألت عبيدة عن قوله:"أو لامستم النساء"، قال: فأشار بيده هكذا = وحكاه سليم = وأراناه أبو عبد الله، فضم أصابعه. (1)
__________
(1) الأثر: 9613 -"سليم بن أخضر البصري". روى عن ابن عون، قال ابن سعد: "كان ألزمهم لابن عون. وكان ثقة". مترجم في التهذيب."وأبو عبد الله"، هو: "أحمد بن عبدة الضبي" مضى برقم: 5502.(8/393)
9614 - حدثني يعقوب وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية، عن سلمة بن علقمة، عن محمد قال: سألت عبيدة عن قوله:"أو لامستم النساء"، قال بيده، فطَبِنْتُ ما عَنىَ، فلم أسأله. (1)
9615 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال: ذكروا عند محمد مسَّ الفرج، وأظنهم ذكروا ما قال ابن عمر في ذلك، فقال محمد: قلت لعبيدة: قوله:"أو لامستم النساء"، فقال بيده. قال ابن عون بيده، كأنه يتناوَل شيئًا يقبض عليه. (2)
9616 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا خالد، عن محمد قال، قال عبيدة: اللمس باليد.
9616م - قال [يعقوب] ، حدثنا ابن علية، عن هشام، عن محمد قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"أو لامستم النساء"، فقال بيده، وضم أصابعه، حتى عرفت الذي أراد.
9617 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عبيد الله بن عمر، عن نافع: أن ابن عمر كان يتوضأ من قُبْلة المرأة، ويرى فيها الوضوء، ويقول: هي من اللِّماس. (3)
9618 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن
__________
(1) قوله: "قال بيده"، أي: أومأ بيده وأشار. وقوله: "فطبنت ما عنى"، أي: فطنت له وفهمته. يقال: "طبن الشيء يطبن طبنا = وطبن له" أي: فظن له. و"رجل طبن": فطن حاذق عالم بكل شيء. وفي المطبوعة: "فظننت ما عنى"، ليست بشيء. وهي في المخطوطة، سيئة النقط. والصواب ما أثبته، وسيأتي في الأثر رقم: 9616: "حتى عرفت الذي أراد"، فهو المعرفة، لا الظن كما ترى، وكذلك الأثر رقم: 9626.
(2) "قال" في هذا الأثر، في الموضعين، بمعنى الإيماء والإشارة، كما أسلفت في التعليق السالف.
(3) "اللماس" (بكسر اللام) مصدر"لامسه ملامسة ولماسًا".(8/394)
إسماعيل، عن عامر قال: الملامسة ما دون الجماع.
9619 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا مُحِلّ بن محرز، عن إبراهيم قال: اللمس من شهوة ينقض الوضوء. (1) .
9620 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا شعبة، عن الحكم وحماد أنهما قالا اللمس، ما دون الجماع.
9621 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عطاء قال: الملامسة، ما دون الجماع.
9622 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن أشعث، عن الشعبي، عن أصحاب عبد الله، عن عبد الله قال: الملامسة، ما دون الجماع.
9623 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن عامر، عن عبد الله قال: الملامسة، ما دون الجماع.
9624 - قال حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مثله.
9624م - حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مثله.
9625 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم قال، قال عبد الله = الملامسة، ما دون الجماع. ثم قرأ:"أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء".
9626 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن هشام، عن ابن سيرين قال: سألت عبيدة عن:"أو لامستم النساء"، فقال بيده هكذا، فعرفت ما يعني.
__________
(1) الأثر: 9619 -"محل بن محرز الضبي الكوفي الأعور". روى عن أبي وائل: وإبراهيم النخعي، والشعبي. أدخله البخاري في الضعفاء، فقال ابن أبي حاتم: "سمعت أبي قال: يحول من هناك". قال يحيى القطان: "كان وسطا، ولم يكن بذاك". وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
و"محل" بضم
الميم، وكسر الحاء، واللام مشددة.(8/395)
9627 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبيه = وحسن بن صالح، عن منصور = عن هلال بن يساف، عن أبي عبيدة قال: القبلة من اللمس.
9628 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن زهير، عن خصيف، عن أبي عبيدة: القبلة والشيء. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب، قولُ من قال:"عنى الله بقوله:"أو لامستم النساء"، الجماع دون غيره من معاني اللمس"، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قبّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ.
9629 - حدثني بذلك إسماعيل بن موسى السدي قال، أخبرنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل، ثم يصلِّي ولا يتوضأ. (2)
9630 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قبَّل بعض نسائه، ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ. قلت: من هي إلا أنت؟ فضحكت. (3)
__________
(1) قوله: "والشيء"، هكذا هي في المطبوعة، وفي المخطوطة"السي" غير منقوطة، وأخشى أن يكون صوابها"والمس".
(2) الحديثان: 9639 - 9630 - عروة، في هذين الإسنادين: هو عروة بن الزبير، ابن أخت عائشة، على اليقين، خلافًا لمن زعم أنه"عروة المزني"، من اجل كلمة قالها الثوري: "ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني"! فإنه إن لم يحدثه عن عروة بن الزبير، فقد حدث غيره عنه.
والحديث رواه أحمد في المسند 6: 210 (حلبي) ، عن وكيع - بالإسناد الثاني هنا - وفيه صراحة"عن عروة بن الزبير". وكذلك جاء التصريح بأنه"عروة بن الزبير"، في رواية ابن ماجه: 502، من طريق وكيع. فارتفع كل شك وكل إشكال.
وكلمة الثوري رواها أبو داود في سننه، عقب الحديث: 180، بصيغة التمريض: "روى عن الثوري". ثم نقضها هو نفسه، فقال: "وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - حديثًا صحيحًا".
والحديث رواه أيضًا أبو داود: 179، والترمذي: 86 (بشرحنا) - كلاهما من طريق وكيع، به. وفيهما"عن عروة" فقط، كما هنا.
وقد أطال العلماء الكلام في تعليل هذا الحديث، وخالفهم آخرون، فأثبتوا صحته"عن عروة بن الزبير". وهو الصواب. وفصلنا القول فيه في شرحنا للترمذي 1: 133-142. وأثبتنا صحته، وترجيح القول بأن"الملامسة" في هذه الآية هي الجماع، وأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. ولم نر حاجة لتكرار ذلك والإطالة به هنا.
وانظر السنن الكبرى للبيهقي، ورد ابن التركماني عليه 1: 123-127، وابن كثير 2: 465-466.
(3) الحديثان: 9639 - 9630 - عروة، في هذين الإسنادين: هو عروة بن الزبير، ابن أخت عائشة، على اليقين، خلافًا لمن زعم أنه"عروة المزني"، من اجل كلمة قالها الثوري: "ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني"! فإنه إن لم يحدثه عن عروة بن الزبير، فقد حدث غيره عنه.
والحديث رواه أحمد في المسند 6: 210 (حلبي) ، عن وكيع - بالإسناد الثاني هنا - وفيه صراحة"عن عروة بن الزبير". وكذلك جاء التصريح بأنه"عروة بن الزبير"، في رواية ابن ماجه: 502، من طريق وكيع. فارتفع كل شك وكل إشكال.
وكلمة الثوري رواها أبو داود في سننه، عقب الحديث: 180، بصيغة التمريض: "روى عن الثوري". ثم نقضها هو نفسه، فقال: "وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة - حديثًا صحيحًا".
والحديث رواه أيضًا أبو داود: 179، والترمذي: 86 (بشرحنا) - كلاهما من طريق وكيع، به. وفيهما"عن عروة" فقط، كما هنا.
وقد أطال العلماء الكلام في تعليل هذا الحديث، وخالفهم آخرون، فأثبتوا صحته"عن عروة بن الزبير". وهو الصواب. وفصلنا القول فيه في شرحنا للترمذي 1: 133-142. وأثبتنا صحته، وترجيح القول بأن"الملامسة" في هذه الآية هي الجماع، وأن لمس المرأة لا ينقض الوضوء. ولم نر حاجة لتكرار ذلك والإطالة به هنا.
وانظر السنن الكبرى للبيهقي، ورد ابن التركماني عليه 1: 123-127، وابن كثير 2: 465-466.(8/396)
9631 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن غياث، عن حجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقبَّل ثم يصلي ولا يتوضأ. (1)
9632 - حدثنا أبو زيد عمر بن شبة قال، حدثنا شهاب بن عباد قال، حدثنا مندل، عن ليث، عن عطاء، عن عائشة = وعن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة = قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينال مني القبلةَ بعد الوضوء، ثم لا يعيد الوضوء (2)
__________
(1) الحديث: 9631 - حجاج: هو ابن أرطاة.
زينب السهمية: هي بنت محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص. فهي عمة عمرو بن شعيب. وذكرها ابن حبان في الثقات. وزعم الدارقطني أنها مجهولة!
والحديث في هذه الرواية مرسل، لأن زينب السهمية تابعية، لا صحابية.
وقد رواه أحمد في المسند موصولا 6: 62 (حلبي) ، عن محمد بن فضيل، عن الحجاج، عن عمرو بن شعيب، عن زينب السهمية، عن عائشة. فارتفع الإرسال.
وكذلك رواه ابن ماجه: 503، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن محمد بن فضيل، به، موصولا.
وأعله بعض الحفاظ بأن الحجاج بن أرطاة مدلس، وأنه رواه هنا بقوله: "عن عمرو بن شعيب"، لم يصرح بالتحديث.
(2) الحديث: 9632 - هذا الحديث يرويه الطبري هنا من وجهين:
فيرويه عن عمر بن شبة، عن شهاب بن عباد، عن مندل. ثم يرويه مندل عن ليث، عن عطاء، عن عائشة - ويرويه مندل أيضًا عن أبي روق، عن إبراهيم التيمي، عن عائشة.
عمر بن شبة أبو زيد: مضت ترجمته في: 6310. شهاب بن عباد العبدي الكوفي أبو عمر: ثقة من شيوخ البخاري ومسلم. قال ابن عدي: "كان من خيار الناس". مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 236، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 363. ووقع اسمه محرفًا في المخطوطة والمطبوعة"سهاد بن عباد"! ولا يوجد راو بهذا الاسم. ووقع أيضًا محرفًا تحريفًا آخر في ابن كثير 2: 466"هشام بن عباد"! نقلا عن هذا الموضع من الطبري. وثبت على الصواب في المخطوطة الأزهرية من تفسير ابن كثير (2: 301 نسخة مصورة عندي) .
مندل - بفتح الميم والدال بينهما نون ساكنة -: هو ابن علي العنزي، بفتح النون، الكوفي. وهو مختلف فيه بين التوثيق والتضعيف. والراجح - عندي - أنه حسن الحديث. وهو مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 73، وابن سعد 6: 265، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 434-435.
ليث: هو ابن أبي سليم.
عطاء: هو ابن أبي رباح.
وأبو روق: هو عطية بن الحارث الهمداني. مضى توثيقه في: 137.
والحديث من الوجه الأول: رواية"عطاء عن عائشة" - رواه أيضًا البزار في مسنده، من طريق محمد بن موسى بن أعين، عن أبيه، عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن عائشة، به. نقله ابن التركماني في الجوهر النقي 1: 125 (مع السنن الكبرى) ، والزيلعي في نصب الراية 1: 74 (طبعة مصر) . وهذا إسناد صحيح، ولا علة له.
وقد رواه الدارقطني، ص: 50، من طريق عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن عائشة. وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكن الدارقطني حاول إعلاله بعلة غير قادحة. فذكر أن الثوري رواه عن عبد الكريم، عن عطاء، فقط، من قوله = يعني: من كلام عطاء. وقال: "وهو الصواب"! وهذه علة متهافتة. فالوصل والرفع زيادتان من ثقة، فهما مقبولتان.
تنبيه: وقع في الجوهر النقي في هذا الحديث"عن عبد الكريم، عن عائشة"، دون ذكر"عن عطاء". وهو خطأ مطبعي لا شك فيه. بدلالة نقل الزيلعي، وبأن باقي الكلام في الجوهر النقي يدل على أنه"عن عطاء عن عائشة" - يقينا.
والحديث من الوجه الثاني: رواية إبراهيم التيمي، عن عائشة - رواه أحمد في المسند 6: 210 (حلبي) ، عن وكيع، عن سفيان - وهو الثوري - عن أبي روق، به.
وكذلك رواه أبو داود: 178، والنسائي 1: 39، والدارقطني، ص 50، 51، والبيهقي 1: 126-127، كلهم من طريق الثوري، عن أبي روق، به. وقال أبو داود: "هو مرسل. إبراهيم التيمي لم يسمع من عائشة شيئًا". وقال النسائي: "ليس في هذا الباب حديث أحسن من هذا الحديث وإن كان مرسلا". وأشار إليه الترمذي 1: 138 (بشرحنا) ، وقال: "وهذا لا يصح أيضًا. ولا نعرف لإبراهيم التيمي سماعًا عن عائشة".
وهذا الحديث قد روي موصولا أيضًا، من رواية إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن عائشة. وقد بينت ذلك مفصلا في شرح الترمذي.
ثم للحديث إسناد آخر صحيح عن عائشة:
فرواه الدارقطني، ص: 49، من طريق سعيد بن بشير، عن منصور، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة. ونقله عنه الزيلعي وابن التركماني.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 247، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط. وفيه سعيد بن بشير: وثقه شعبة وغيره، وضعفه يحيى وجماعة". و"سعيد بن بشير" رجحنا توثيقه في: 5439.(8/397)
9633 - حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثني(8/398)
يزيد بن سنان، عن عبد الرحمن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أم سلمة: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبِّلها وهو صائم، ثم لا يفطر، ولا يحدث وضوءًا. (1)
= ففي صحة الخبر فيما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الدلالةُ الواضحة على أنّ"اللمس" في هذا الموضع، لمس الجماع، لا جميع معاني اللمس، كما قال الشاعر:
وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَا هَمِيسَا ... إنْ تَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا (2)
يعني بذلك: ننك لماسًا. (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 9633 - هذا الحديث ليس في شيء من الكتب الستة. ولم أجده في مسند أحمد أيضًا.
ونقله ابن كثير 2: 466، عن الطبري، ولم ينسبه لغيره.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 247، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط. وفيه يزيد بن سنان الرهاوي: ضعفه أحمد ويحيى وابن المديني، ووثقه البخاري وأبو حاتم، وثبته مروان بن معاوية. وبقية رجاله موثقون". ويزيد هنا، مختلف فيه كما قال الهيثمي. والراجح عندنا توثيقه. وهو مترجم في التهذيب، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 337، فلم يذكر فيه جرحًا، ولم يذكره في الضعفاء، وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 266.
(2) مضى تخريجه في 4: 126، تعليق: 1.
(3) قوله: "لماسًا" أي، ملامسة. وكأنه جعل"اللميس" مصدرًا من"اللمس"، مثل"المسيس" مصدرًا من"المس". وهو قول غريب لم أجده عند غيره. بل أكثرهم يقول: "لميس: اسم امرأة"، ومعنى"امرأة لميس": هي المرأة اللينة الملمس.(8/399)
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أصابتهم جنابة، وفيهم جراح. (1)
9634 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن جابر، عن حماد، عن إبراهيم، في المريض لا يستطيع الغُسل من الجنابة، أو الحائض، قال: يجزيهم التيمم. وقال: أصاب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جراحة ففشت فيهم، (2) ثم ابتلوا بالجنابة، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت:"وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط"، الآية كلها.
* * *
وقال آخرون: نزلت في قوم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أعوَزَهم الماء فلم يجدوه في سفر لهم.
*ذكر من قال ذلك:
9635 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن عائشة أنها قالت: كنت في مَسِير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى إذا كنا بذات الجيش ضلَّ عِقدي، (3) فأخبرت بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر بالتماسه، فالتُمِس فلم يوجد، فأناخ النبي صلى الله عليه وسلم وأناخ الناس، فباتوا ليلتهم تلك، فقال الناس: حبست عائشة النبي صلى الله عليه وسلم! قالت: فجاء إليّ أبو بكر ورأس النبي صلى الله عليه
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وهم جراح"، و"جريح" جمعه"جرحى"، لا يجمع على"جراح"، ولم أجد من نص عليه، أو على شذوذ على القياس. ورجحت أن الناسخ كتب"وهم" مكان"وفيهم" فأثبتها كذلك.
(2) في المطبوعة"ونال أصحاب رسول الله ... " مكان: "وقال: أصاب أصحاب رسول الله"، كأنه أخطأ قراءة المخطوطة.
(3) "ضل الشيء": إذا ضاع.(8/400)
وسلم في حجري وهو نائم، فجعلَ يَهمِزُني ويَقْرصني ويقول (1) من أجل عقدك حبست النبيَّ صلى الله عليه وسلم! قالت: فلا أتحرك مخافة أن يستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أوجعني، فلا أدري كيف أصنع! فلما رآني لا أُحير إليه، انطلق. (2) فلما استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وأراد الصلاة فلم يجد ماء، قالت: فأنزل الله تعالى آية التيمم. قالت: فقال ابن حضير: ما هذا بأول بركتكم يا آل أبي بكر! (3)
9636 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في سفر، ففقدت عائشة قلادة لها، فأمر الناس بالنزول، فنزلوا وليس معهم ماء. فأتى أبو بكر على عائشة فقال لها: شَقَقت على الناس! = وقال أيوب بيده، يصف أنه قرصها (4) = قال: وَنزلت آية التيمم، ووُجدت القلادة في مُناخ البعير، فقال الناس: ما رأينا قط امرأة أعظم بركة منها! (5)
__________
(1) همز صاحبه: غمزه بيده ولمزه ونخسه.
(2) يقال: "أحار عليه جوابه، وأحار له جوابًا، فهو يحير"، إذا رد عليه. ويقال: "ما أحار بكلمة"، و"ما أحار إلى جوابًا". أي ما رد جوابًا. وقولها: "لا أحير إليه"، أي: ما أجيبه ولا أكمله.
وكان في المطبوعة: " لا أجير" بالجيم، وهو خطأ. والصواب ما أثبت من المخطوطة.
(3) الحديث: 9635 - عبيد الله بن عمر: هو العمري، أحد الفقهاء السبعة.
وهذا الحديث ظاهره الإرسال. لأنه - هنا - من رواية عبد الرحمن بن القاسم عن عائشة. وعبد الرحمن لم يدرك أن يسمع من عمة أبيه عائشة.
وسيأتي بنحوه: 9641، من رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة - متصلا. ونخرجه هناك، إن شاء الله.
(4) قوله: "قال بيده" أي أومأ وأشار، كما سلف مرارًا.
(5) الحديث: 9636 - وهذا أيضًا مرسل، لأن ابن أبي مليكة حكى القصة دون أن يذكر من حدثه. وهو تابعي.
وسيأتي نحو معناه: 9639، من رواية ابن أبي مليكة، عن ذكوان حاجب عائشة.
وسيأتي أيضًا: 9642، من رواية ابن أبي مليكة، عن قصة ابن عباس وعائشة، دون واسطة ذكوان.(8/401)
9637 - حدثني محمد بن عبد الله الهلالي قال، حدثني عمران بن محمد الحداد قال، حدثني الربيع بن بدر قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن رجل منا، من بَلَعْرَج، (1) يقال له الأسلع قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم وأرحَلُ له، فقال لي ذات ليلة: يا أسلع، قم فارحلْ لي. قلت: يا رسول الله، أصابتني جنابة! فسكت ساعة، ثم دعاني وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد، ووصف لنا ضربتين. (2)
__________
(1) "بلعرج" يعني: بني الأعرج، كما يقولون في"بني العنبر""بلعنبر"، وكان حقه أن يكون"بلأعرج"، (بفتح الباء وسكون اللام وفتح الهمزة) ، ولكنه عاد فسهل الهمزة، وألقى حركتها على اللام، فصارت مفتوحة الباء واللام ساكنة العين. و"بنو الأعرج" هم: بنو الأعرج بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم. واسم"الأعرج": الحارث، قطعت رجله، كما ذكر أبو عبيدة في النقائض: 1025.
(2) الحديث: 9637 - محمد بن عبد الله الهلالي - شيخ الطبري - مضى في: 1275، 6180.
عمران بن محمد الحداد: لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع.
الربيع بن بدر بن عمرو بن جراد السعدي الأعرجي، ولقبه"عليلة": ضعيف مجمع على ضعفه.
أبوه"بدر"، وجده"عمرو بن جراد": فيهما جهالة. فلم يرو عنهما غير الربيع بن بدر، وهو ضعيف كما قلنا.
والحديث رواه الطبري عقب هذا، من طريق عمرو بن خالد، عن الربيع، به، نحوه.
ورواه ابن سعد في الطبقات 7 / 1 / 45، في ترجمة"الأسلع"، عن مسلم بن إبراهيم، عن الربيع بن بدر. ووقع عنوان الترجمة فيه هكذا"ميمون بن سنباذ الأسلع". وهو تخليط من الطابع. فإن"ميمون بن سنباذ" غير"الأسلع" وإنما هي عنوان مستقل، دون ترجمة، كما يقع في ابن سعد كثيرًا، ثم"الأسلع" عنوان ترجمة أخرى.
ورواه الدارقطني، ص: 66، والطحاوي في معاني الآثار 1: 67-68، والبيهقي في السنن الكبرى 1: 208- كلهم من طريق الربيع بن بدر. وقال البيهقي: "الربيع بن بدر ضعيف، إلا أنه غير منفرد به".
ونقله الزيلعي في نصب الراية 1: 153، ونقل كلام البيهقي، وتعقبه بأن هذا لا يكفي في الاحتجاج به حتى يعلم الوجه الآخر ودرجته. وكذلك تعقبه ابن التركماني في الجوهر النقي.
والوجه الآخر الذي أشار إليه البيهقي - نقله ابن كثير 2: 472-473، من رواية ابن مردويه، من طريق العباس بن أبي سرية، "حدثني الهيثم بن رزيق المالكي، من بني مالك بن كعب بن سعد، وعاش مائة وسبعة عشر سنة، عن أبيه، عن الأسلع بن شريك ... " - فذكر الحديث، بنحوه.
و"العباس بن أبي سرية": لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة.
و"الهيثم بن رزيق": ترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 83-84، ولم يذكر فيه جرحًا، وأشار إلى هذه الرواية. وله ترجمة موجزة في لسان الميزان 6: 206، ولم يذكر أنه يروي عن أبيه. و"رزيق": بتقديم الراء، كما في المشتبه، ص: 221، والمخطوطة الأزهرية من ابن كثير 2: 307. ووقع مغلوطًا في المراجع التي نشير إليها.
وأبوه"رزيق": ترجمه ابن أبي حاتم 1 / 2 / 504 (في باب الراء) .
وقد رواه أيضًا الطبراني في الكبير، من هذا الوجه. ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 261-262، وقال: "وفيه الهيثم بن رزيق. قال بعضهم: لا يتابع على حديثه".
وذكر الهيثمي أيضًا رواية الربيع بن بدر، بلفظين 1: 262، ونسبهما للطبراني في الكبير، وأعلمهما بضعف الربيع.
وذكر الحافظ ابن حجر هذه الروايات في الإصابة 1: 34-35، في ترجمة"الأسلع". وفيها فوائد كثيرة.(8/402)
9638 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا عمرو بن خالد قال، حدثني الربيع بن بدر قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن رجل منا يقال له الأسلع، قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم = فذكر مثله إلا أنه قال: فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا (1) = أو قال: ساعةً، الشك من عمرو = قال: وأتاه جبريل عليه السلام بآية الصعيد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قم يا أسلع فتيمم. قال: فتيممت ثم رحَلت له. قال: فسرنا حتى مررنا بماء، فقال: يا أسلع، مَسَّ = أو: أمِسّ = بهذا جلدك. قال: وأراني التيمم، كما أراه أبوه: ضربة للوجه، وضربة لليدين والمرفقين. (2)
9639 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن بُغيل قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم قال، حدثني عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة: أنه حدثه ذكوان أبو عمرو، حاجبُ عائشة: أن ابن عباس دخل عليها في مرضها فقال: أبشري، كنت أحبَّ نساء رسول الله صلى
__________
(1) قوله: "شيئًا"، أي قليلا، وقد فسر في هذا الخبر، "ساعة" وقد أسلفت شرح ذلك بشواهده، وأنه من نوادر اللغة التي أغفلتها المعاجم في 6: 448، تعليق: 2.
(2) في المطبوعة: "إلى المرفقين"، وأثبت ما في المخطوطة.(8/403)
الله عليه وسلم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن رَسول الله صلى الله عليه وسلم يحبُّ إلا طيبًا، وسقطت قلادتك ليلة الأبْوَاء، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم يلتقطها حتى أصبح في المنزل، فأصبح الناس ليس معهم ماء، فأنزل الله:"تيمموا صعيدًا طيبًا"، فكان ذلك من سببك، وما أذن الله لهذه الأمة من الرخصة. (1)
9640 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا ابن نمير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة: أنها استعارت من أسماء قلادة فهلكت، (2) فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالا في طلبها، فوجدوها. وأدركتهم الصلاة وليس معهم ماء، فصلوا بغير وضوء. فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله آية التيمم. فقال أسيد بن حضير لعائشة: جزاك الله خيرًا، فوالله ما نزل بك أمر
__________
(1) الحديث: 9639 - حفص ين بغيل الهمداني المرهبي الكوفي: مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 170، ولم يذكر فيه جرحًا، فهو ثقة. و"بغيل": بضم الباء الموحدة وفتح الغين المعجمة. ووقع في المطبوعة"نفيل". وهو تصحيف. وفي المخطوطة غير منقوط.
عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة: هو التابعي المعروف. وقد مضت ترجمته في: 6605، ووقع في المطبوعة"عبد الله بن عبيد الله عن ابن أبي مليكة"! جعل راويين. وهو خطأ صرف، فليس في شيوخ عبد الله بن عثمان بن خثيم، ولا في تلاميذ ابن أبي مليكة - من يسمى"عبد الله بن عبيد"، بالاستقصاء التام الذي في تهذيب الكمال (مخطوط مصور) . وابن خثيم يروي عن ابن أبي مليكة مباشرة.
ثم هذا الحديث - بعينه - معروف من روايته عنه، كما سيأتي.
ذكوان أبو عمرو المدني، حاجب عائشة ومولاها: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 1 / 238، وابن سعد 5: 218، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 451.
والحديث قطعة من حديث طويل، رواه أحمد في المسند: 2496، عن معاوية بن عمرو، عن زائدة، عن ابن خثيم، عن ابن أبي مليكة، عن ذكوان.
ثم رواه أيضًا: 3262، بمعناه، عن عبد الرازق، عن معمر، عن ابن خثيم.
وسيأتي مختصرًا، بنحوه، من طريق ابن عيينة: 9642.
وكان استئذان ابن عباس على عائشة، حين كانت تموت. ولذلك قال لها ابن عباس حينذاك: "أبشري، ما بينك وبين أن تلقي محمدًا صلى الله عليه وسلم والأحبة، إلا أن تخرج الروح من الجسد". رضي الله عنها وأرضاها.
وقوله: "وما أذن الله لهذه الأمة من الرخصة" - هذا هو الصواب الثابت في المطبوعة، وهو الموافق لرواية المسند 2496. ويؤيده ما في الرواية الأخرى منه: 3262: "فكان في ذلك رخصة للناس عامة في سببك". ووقع في المخطوطة هنا"لهذه الآية". وهو خطأ لا معنى له.
(2) قوله: "هلكت"، أي انقطعت وضاعت وضلت.(8/404)
تكرهينه إلا جعل الله لك وللمسلمين فيه خيرًا! (1)
9641 - حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن عبد الرحمن بن القاسم حدثه، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت: سقطت قلادة لي بالبَيداء، ونحن داخلون إلى المدينة، فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل. فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في حِجْري راقد، أقبل أبي فلكزني لَكْزة ثم قال: حبست الناس! ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ وحَضرت الصبح، فالتمس الماء فلم يوجد، ونزلت:"يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة" الآية. قال أسيد بن حضيرك لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر! ما أنتم إلا بركة! (2)
9642 - حدثني الحسن بن شبيب قال، حدثنا ابن عيينة قال، حدثنا عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الله بن أبي مليكة قال: دخل ابن عباس على عائشة فقال: كنتِ أعظم المسلمين بركة على المسلمين! سقطت قلادتك بالأبواء، فأنزل الله فيك آية التيمم! (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 9640 - رواه أحمد في المسند 6: 57 (حلبي) ، عن ابن نمير بهذا الإسناد.
وكذلك رواه البخاري 1: 373 (فتح) ، من طريق ابن نمير.
ورواه مسلم 1: 109-110، وأبو داود: 317، وابن ماجه: 568، والبيهقي في السنن الكبرى 1: 214- من طرق، عن هشام بن عروة، نحوه.
ونقله ابن كثير 2: 471، عن رواية المسند.
وانظر الحديث التالي لهذا.
(2) الحديث: 9641 - مضى معناه بإسناد منقطع: 9635، من رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن عائشة. وأما هذا فمتصل، يرويه عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة.
وقد رواه مالك في الموطأ، ص: 53 - 54، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة.
وكذلك رواه أحمد في المسند 6: 179 (حلبي) ، والبخاري 1: 365-368 (فتح) . ومسلم 1: 109، والنسائي 1: 59 - كلهم من طريق مالك.
ونقله ابن كثير 2: 471-472، عن رواية البخاري.
(3) الحديث: 9642 - الحسن بن شبيب بن راشد بن مطر، أبو علي المؤدب، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم ترجمة موجزة 1 / 2 / 18، وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 7: 328، والحافظ في لسان الميزان 2: 213-214. وقال ابن عدي: "حدث عن الثقات بالبواطيل، ووصل أحاديث هي مرسلة". وقال الدارقطني: "يعتبر به، وليس بالقوي".
وهذا الحديث عن هذا الشيخ فيه غلط يقينًا ولعله من تخليطه!! فإنه يرويه عن ابن عيينة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم - مباشرة، بالتصريح بالسماع. وهذا - في ذاته - ممكن، لأن ابن عيينة سمع من ابن خثيم. ولكن هذا الحديث بعينه ليس كذلك:
فقد رواه أحمد في المسند: 1905، بأطول مما هنا - عن سفيان، وهو ابن عيينة: "عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم". فأثبت الواسطة بين ابن عيينة وابن خثيم. ولا نستسيغ أن نوازن بين الإمام أحمد وهذا الشيخ"الحسن بن شبيب".
وقد رواه - بنحوه - البخاري 8: 371-372، وابن سعد في الطبقات 8: 51، كلاهما من طريق عمر بن سعيد بن أبي حسين، عن ابن أبي مليكة.
وفي هذه الروايات الثلاث، كما في رواية الطبري هنا: أنه من حكاية ابن أبي مليكة للقصة، دون أن يذكر أنه أخبره بها"ذكوان حاجب عائشة"، كما مضى في الرواية: 9639.
والراجح عندي أن تكون هذه الروايات مرسلة، وأن ابن أبي مليكة لم يشهد احتضار عائشة ودخول ابن عباس عليها، وأنه سمع ذلك من مولاها ذكوان. ولكن حاول الحافظ في الفتح التكلف في احتمال أن يكون شهد ذلك. وهو تكلف بعيد.(8/405)
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"أو لامستم النساء".
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة وبعض البصريين والكوفيين: (أَوْ لامَسْتُمُ) بمعنى: أو لمستم نساءكم ولَمَسْنَكم.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (أو لمستم النساء) بمعنى: أو لمستم، أنتم أيها الرجال، نساءكم. وهما قراءتان متقاربتا المعنى. لأنه لا يكون الرجل لامسًا امرأته إلا وهي لامِستُه. فـ "اللمس" في ذلك يدل على معنى"اللِّماس"، و"اللماس" على معنى"اللمس" من كل واحد منهما صاحبه. فبأي القراءتين قرأ ذلك القارئ فمصيب، لاتفاق معنييهما.
* * *(8/406)
القول في تأويل قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فلم تجدوا ماء"،"أو لمستم النساء، فطلبتم الماء لتتطَّهروا به فلم تجدوه بثمن ولا غير ثمن ="فتيمموا" يقول: فتعمَّدوا.
* * *
= وهو:"تفعَّلوا" من قول القائل:"تيممت كذا" = إذا قصدته وتعمدته ="فأنا أتيمّمه"، وقد يقال منه:"يَمَّمه فلان فهو يُيممه"، و"أمّمته أنا" و"أمَمْته" خفيفة، و"تيممت وتأمَّمت"، ولم يسمع فيها"يَمَمْت" خفيفة. (1) ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
تَيَمَّمْتَ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ ... مِنَ الأرْضِ مِنْ مَهْمَةٍ ذِي شَزَنْ (2)
يعني بقوله:"تيمَّمت"، تعمدت وقصدت. (3)
* * *
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله:"فَأُمُّوا صَعِيدًا".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9643 - حدثني عبد الله بن محمد قال، حدثنا عبدان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول في قوله:"فتيمموا صعيدًا طيبًا"، قال: تحرَّوا وتعمَّدوا صعيدًا طيبًا. (4)
* * *
__________
(1) بل روى ذلك اللحياني فقال: "أمو، ويموا".
(2) سلف البيت وشرحه وتخريجه في 5: 558.
(3) انظر تفسير: "تيمم" فيما سلف 5: 558، 559.
(4) الأثر: 9643 -"عبد الله بن محمد" هو: "عبد الله بن محمد بن يزيد، أبو محمد الحنفي" و"عبدان"، هو: "عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد الأزدي".
مضت ترجمتهما برقم: 5000، ومضى هذا الإسناد نفسه برقم: 5009، 6198، 6200، وانظر الإسناد التالي: 9648، 9676.(8/407)
وأما"الصعيد"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيه.
فقال بعضهم: هو الأرض الملساء التي لا نَبات فيها ولا غِرَاس.
*ذكر من قال ذلك:
9644 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"صعيدًا طيبًا"، قال: التي ليس فيها شجر ولا نبات.
* * *
وقال آخرون: بل هو الأرض المستوية.
*ذكر من قال ذلك:
9645 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"الصعيد"، المستوي.
* * *
وقال آخرون: بل"الصعيد"، التراب.
*ذكر من قال ذلك:
9646 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمرو بن قيس الملائي قال: الصعيد، التراب. (1)
* * *
وقال آخرون:"الصعيد"، وجه الأرض.
* * *
وقال آخرون: بل هو وجه الأرض ذاتِ التراب والغُبَار.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب قول من قال:"هو وجه الأرض الخالية من النبات والغُروس والبناء، المستوية"، ومنه قول ذي الرمة:
__________
(1) الأثر: 9646 -"الحكم بن بشير بن سلمان"، مضت ترجمته برقم: 1497، 6171. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "الحكم بن بشر"، وهو خطأ.
"عمرو بن قيس الملائي" مضت ترجمته: 886، 6171.(8/408)
كَأنَّهُ بِالضُّحَى تَرْمِي الصَّعِيدَ بِهِ ... دَبَّابَةٌ في عِظَامِ الرَّأسِ خُرْطُومُ (1)
يعني: تضرب به وجه الأرض.
* * *
وأما قوله:"طيبًا"، فإنه يعني به: طاهرًا من الأقذار والنجاسات. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"طيبًا".
فقال بعضهم: حلالا.
*ذكر من قال ذلك:
9647 - حدثني عبد الله بن محمد قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول في قوله:"صعيدًا طيبًا" قال، قال بعضهم: حلالا.
* * *
وقال بعضهم بما:-
9648 - حدثني عبد الله قال، حدثنا عبدان قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قراءة، قال: قلت لعطاء:"فتيمموا صعيدًا طيبًا"، قال: طيّب ما حولك. (3) قلت: مكان جَرْدٌ غير بَطِح، (4) أيجزئ عني؟ قال: نعم. (5)
* * *
__________
(1) ديوانه: 571، من قصيدته المحكمة المشهورة. والبيت من أبياته في ذكر ظبية أودعت ولدها الصغير بين أشجار، فإذا ارتفعت شمس الضحى نال منه التعب، فانطرح على الأرض، كأنه سكران أثقله النعاس. وقوله: "دبابة": تدب في أوصال شاربها، يعني الخمر. وكان في المطبوعة: "وما به"، وهو خطأ. و"خرطوم"، صفة للخمر السريعة الإسكار، تأخذ شاربها حتى يشمخ بخرطومه - أي: أنفه - من شدة السكر وغلبته.
(2) انظر تفسير"طيب" فيما سلف 3: 301 / 5: 555 / 7: 424.
(3) في المطبوعة: "الطيب ما حولك"، وكان مثلها في المخطوطة، إلا أنه ضرب على الألف واللام.
(4) قوله: "جرد" (بفتح فسكون) : وهي الأرض الفضاء لا نبت فيها، وكأنه عنى أنها كانت ذات نبات ثم جردها الشتاء والقحط. وقوله: "بطح" على وزن"فرح" وهو الرمل في البطحاء، وهو"الأبطح"، أيضًا، وهو أرض ترابها سهل لين فيه دقاق الحصى. وكان في المطبوعة: "غير أبطح"، ولكني أثبت ما في المخطوطة.
(5) الأثر: 9648 - انظر التعليق على الإسناد السالف رقم: 9643.(8/409)
ومعنى الكلام: فإن لم تجدوا ماء، أيها الناس، وكنتم مرضى، أو على سفر، أو جاء أحد منكم من الغائط، أو لمستم النساء، فأردتم أن تصلّوا ="فتيمموا"، يقول: فتعمدوا وجه الأرض الطاهرة ="فامسحوا بوجوهكم وأيديكم".
* * *
القول في تأويل قوله: {فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فامسحوا منه بوجوهكم وأيديكم، ولكنه ترك ذكر"منه"، اكتفاء بدلالة الكلام عليه.
* * *
و"المسح منه بالوجه"، أن يضرب المتيمم بيديه على وجه الأرض الطاهر، أو ما قام مقامه، فيمسَح بما علق من الغُبار وجهه. فإن كان الذي علق به من الغُبار كثيرًا فنفخ عن يديه أو نفضه، فهو جائز. وإن لم يعلَق بيديه من الغبار شيء وقد ضرب بيديه أو إحداهما الصعيد، ثم مسح بهما أو بها وجهه، أجزأه ذلك، لإجماع جميع الحجَّة على أن المتيمم لو ضرب بيديه الصعيد = وهو أرض رمل = فلم يعلق بيديه منها شيء فتيمم به، أن ذلك مجزئَه، لم يخالف ذلك من يجوز أن يُعْتَدّ خلافًا. (1) فلما كان ذلك إجماعًا منهم، كان معلومًا أن الذي يراد به من ضَرْب الصعيد باليدين، مباشرةُ الصعيد بهما، بالمعنى الذي أمرً الله بمباشرته بهما، لا لأخْذِ ترابٍ منه.
* * *
وأما"المسح باليدين"، فإن أهل التأويل اختلفوا في الحدِّ الذي أمر الله بمسحه من اليدين.
__________
(1) في المطبوعة: "أن يعتد بخلافه"، غير ما في المخطوطة، وهو معرق في الصواب. وقوله: "يعتد خلافًا" أي: يحسب خلافا. وأقام"خلافًا" المصدر، صفة مثل"عدل"، ومعناه: الذي يعد خلافه خلافًا.(8/410)
فقال بعضهم: حدّ ذلك الكفّان إلى الزَّندين، وليس على المتيمم مسح ما وراء ذلك من الساعدين.
*ذكر من قال ذلك:
9649 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن أبي مالك قال: تيمّم عمّارٌ فضرب بيديه إلى التراب ضربةً واحدة، ثم مسح بيديه واحدة على الأخرى، ثم مسح وجهه، ثم ضرب بيديه أخرى، فجعل يلوي يَدَه على الأخرى، ولم يمسح الذراع. (1)
9650 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن أبي خالد قال: رأيت الشعبي وصفَ لنا التيمم: فضرب بيديه إلى الأرض ضربة، ثم نفضهما ومسح وجهه، ثم ضرب أخرى، فجعل يلوي كفَّيه إحداهما على الأخرى. ولم يذكر أنه مسح الذراع.
9651 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن أبي مالك قال: وضع عمار بن ياسر كفيه في التراب، ثم رفعهما فنفخهما، فمسح وجهه وكفيه، ثم قال: هكذا التيمم.
9652 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا سلام مولى حفص قال، سمعت عكرمة يقول: التيمم ضربتان: ضربة للوجه، وضربة للكفين.
9653 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن سعيد وابن جابر: أن مكحولا كان يقول: التيمم ضربة للوجه والكفين إلى الكوع = ويتأوّل مكحول القرآن في ذلك: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [سورة المائدة: 6] ، وقوله في التيمم:"فامسحوا بوجوهكم وأيديكم"، ولم يستثن فيه كما استثنى في الوضوء"إلى المرافق" = قال مكحول: قال الله
__________
(1) الأثر: 9649 - رواه بغير هذا اللفظ، البيهقي في السنن الكبرى 1: 210، وانظر الأثر الآتي رقم: 9651.(8/411)
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) [سورة المائدة: 38] ، فإنما تقطع يد السارق من مَفصِل الكوع.
9654 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا بشر بن بكر التنيسي، عن ابن جابر: أنه رأى مكحولا يتيمم، يضرب بيديه على الصعيد، ثم يمسح بهما وجهه وكفيه بواحدةٍ.
9655 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: التيمم ضربة للوجه والكفين.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة من الأثر، ما:
9656 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة ومحمد بن بشر، عن ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن عمار بن ياسر: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التيمم، فقال: مرة للكفين والوجه (1) = وفي حديث ابن بشر: أن عمارًا سأل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن التيمم. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "على الوجه"، والصواب ما في المخطوطة.
(2) الحديث: 9656 - سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، مولى خزاعة: تابعي ثقة. أخرج له الجماعة.
أبوه: عبد الرحمن بن أبزى، له صحبة، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم معه.
والحديث رواه أحمد في المسند 4: 263 (حلبي) ، عن عفان، عن أبان، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن عبد الرحمن، بهذا الإسناد، نحوه.
فزاد في الإسناد"عن عزرة" بين قتادة وسعيد.
وعزرة: هو ابن عبد الرحمن بن زراة الخزاعي. مضت ترجمته في: 2752، 2753.
وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى، ص: 67، من طريق عفان، عن أبان.
وكذلك رواه أبو داود: 327، والترمذي: 144 بشرحنا - كلاهما من طريق يزيد بن زريع، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، به.
وقال الترمذي: "حديث عمار حديث حسن صحيح. وقد روى عن عمار من غير وجه".
وكذلك رواه البيهقي 1: 210، من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد بن أبي عروبة.
ثم قال البيهقي: "وكذلك رواه جماعة عن ابن أبي عروبة. ورواه عيسى بن يونس، عن ابن أبي عروبة - دون ذكر عزرة في إسناده. وكذلك رواه أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، واختلف عليه في ذكر عزرة في إسناده.
ورواه الدارمي 1: 190، عن عفان - وهو الشيخ الذي رواه عنه أحمد بن حنبل، عن أبان بن يزيد العطار، عن قتادة، عن سعيد بن عبد الرحمن - بدون ذكر عزرة في الإسناد.
أفيكون هذا من الاختلاف على"أبان" الذي أشار إليه البيهقي؟ قد يكون. ولكني أراه بعيدًا، لأن هذا إنما هو في النسخة المطبوعة من الدارمي، وهي مملوءة بالغلط والتحريف، لا يعتمد عليها. وقد ثبت ذكر"عن عزرة" في مخطوطة عتيقة صحيحة بدار الكتب، من كتاب الدارمي. فهي العمدة في ذلك - إلى أن شيخ الدارمي هو شيخ أحمد. وقد رواه عنه بزيادة"عن عزرة"، كما ذكرنا آنفًا.
وأيا ما كان فالإسناد صحيح، لأن قتادة يروي أيضًا عن سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى مباشرة. ولكن الذين زادوا"عزرة" في الإسناد أكثر وأحفظ ممن لم يذكره. وإن صح الإسنادان، فلعله يكون من المزيد في متصل الأسانيد.
ولكن متن الحديث هنا محرف"مرة بالكفين على الوجه"! وهذا لا معنى له. وصوابه في المخطوطة: "مرة للوجه والكفين". وهو الموافق لمعنى الحديث في الروايات الأخر. ولفظ المسند: "ضربة للوجه والكفين" أيضًا.
والحديث ذكره ابن كثير 2: 469، عن رواية المسند. ووقع فيه (مخطوطًا ومطبوعًا) "عروة" بدل"عزرة". وهو تحريف من الناسخين.(8/412)
9657 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد بن سعيد القرشي، عن شعبة، عن الحكم، عن ابن أبزى، قال: جاء رجل إلى عمر فقال: إنّي أجنبت فلم أجد الماء! فقال عمر: لا تصل. فقال له عمار: أما تذكر أنّا في مسيرٍ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأجنبت أنا وأنت، فأما أنت فلم تصل، وأما أنا فتمعَّكت في التراب وصلَّيت، (1) فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له، فقال:"إنما كان يكفيك"، وضرَب كفّيه الأرض، ونفخ فيهما، ومسح وجهه وكفيه مرة واحدة؟ (2)
__________
(1) "تمعك في التراب": تمرغ فيه.
(2) الحديث: 9657 - عبيد بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص، القرشي الأموي: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وهو أخو"يحيى بن سعيد الحافظ".
الحكم: هو ابن عتيبة الكندي.
ابن أبزى: هو سعيد بن عبد الرحمن، المترجم في الحديث الذي قبل هذا.
والحديث على ظاهر الإسناد الذي هنا - يكون منقطعًا، فإنه يكون من رواية سعيد بن عبد الرحمن بن أبزى للحادثة في عهد عمر، وهو لم يدرك ذلك يقينًا، لأنه من صغار التابعين. وهو إنما يروي هذا عن أبيه.
فلا أدري أوقعت هذه الرواية للطبري هكذا، أم هو تخليط من الناسخين.
وأما الحديث في ذاته فهو صحيح من هذا الوجه:
فقد رواه أحمد في المسند 4: 265 (حلبي) ، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن ذر -وهو ابن عبد الله المرهبي الهمداني - عن ابن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه: "أن رجلا أتى عمر ... "، إلخ.
وكذلك رواه الطيالسي، عن شعبة، بنحوه: 638.
وكذلك رواه البخاري 1: 375-377، بأسانيد من طريق شعبة.
وكذلك رواه مسلم 1: 110، وأبو داود: 324-326، والنسائي 1: 59-60، و60-61، وابن ماجه: 569، والبيهقي في السنن الكبرى 1: 209-210، بأسانيد - كلهم من طريق شعبة، به نحوه.
ففي كل هذه الأسانيد أنه من رواية سعيد عن أبيه. أما زيادة"ذر بن عبد الله المرهبي" في الإسناد بين الحكم وسعيد. فإنه ثبت عند الشيخين - البخاري ومسلم - تصريح الحكم بأنه سمعه من"ابن عبد الرحمن بن أبي أبزى عن أبيه، مثل حديث ذر". فقد سمعه عن سعيد بالواسطة، ثم سمعه منه مباشرة.
وسيأتي حديثان آخران لعمار في شأن التيمم: 9670، 9672.(8/413)
وقالوا: أمر الله في التيمم بمسح الوجه واليدين، فما مسح من وجهه ويديه في التيمم أجزأه، إلا أن يمنع من ذلك ما يجب التسليم له من أصل أو قياس.
* * *
وقال آخرون: حدُّ المسح الذي أمر الله به في التيمم، أن يمسح جميع الوجه واليدين إلى المرفقين.
*ذكر من قال ذلك:
9658 - حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوراث بن سعيد قال، حدثنا أيوب عن نافع: أن ابن عمر تيمم بمربد النعم، (1) فضرب ضربة فمسح وجهه، وضرب ضربة فمسح يديه إلى المرفقين.
9659 - حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال: سمعت عبيد الله،
__________
(1) "المربد" (بكسر فسكون) : المكان تحبس فيه الإبل والغنم. و"مربد النعم" بالمدينة.(8/414)
عن نافع، عن عبد الله أنه قال: التيمم مسحتان، يضرب الرجل بيديه الأرض يمسح بهما وجهه، ثم يضرب بهما مرة أخرى فيمسح يديه إلى المرفقين. (1)
9660 - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن عبيد الله قال، أخبرني نافع، عن ابن عمر في التيمم قال: ضربة للوجه، وضربة للكفين إلى المرفقين.
9661 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: كان يقول في المسح في التيمم: إلى المرفقين. (2)
9662 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال: سألت الحسن عن التيمم، فضرب بيديه على الأرض فمسح بهما وجهه، وضرب بيديه فمسح بهما ذراعيه ظاهرَهما وباطنهما.
9663 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أنه قال في هذه الآية: (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) [سورة المائدة: 6] ، وقال في هذه الآية (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) (3) [سورة المائدة: 6] ، قال: أمر أن يمسح في التيمم، ما أمر أن يغسل في الوضوء، وأبطل ما أمر أن يمسح في الوضوء: الرأس والرجلان.
9664 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية = وحدثنا ابن المثنى قال، حدثني محمد بن أبي عدي = جميعًا، عن داود، عن الشعبي في التيمم قال:
__________
(1) في المخطوطة: "ثم يمسح بهما مرة أخرى"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) الآثار: 9658 -9661 - انظر ما أخرجه البيهقي في سننه 1: 207 من أثر ابن عمر.
(3) هذه الآية من سورة المائدة، وفيها"منه"، أما آية سورة النساء التي نحن فيها، فليس فيها"منه"، ولكن ثبت في المخطوطة"منه"، فرددتها إلى آية المائدة.(8/415)
ضربة للوجه، ولليدين إلى المرفقين. (1)
9665 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: أمر بالتيمم، فيما أمر بالغسل.
9666 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال: سألت سالم بن عبد الله عن التيمم، فضرب بيديه على الأرض ضربة فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه على الأرض ضربة أخرى، فمسح بهما يديه إلى المرفقين.
9667 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، وأخبرنا حبيب بن الشهيد، عن الحسن: أنه سئل عن التيمم فقال: ضربة يمسح بها وجهه، ثم ضربة أخرى يمسح بها يديه إلى المرفقين.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة: أن التيمم بدلٌ من الوضوء، وعلى المتيمم أن يبلغ بالتراب من وجهه ويديه ما كان عليه أن يبلغه بالماء منهما في الوضوء. (2) واعتلوا من الأثر بما:-
9668 - حدثني به موسى بن سهلٍ الرملي قال، حدثنا نعيم بن حماد قال، حدثنا خارجة بن مصعب، عن عبد الله بن عطاء، عن موسى بن عقبة، عن الأعرج، عن أبي جهيم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يبول، فسلَّمت عليه، فلم يرد عليَّ. فلما فرغ قام إلى حائط فضرب بيديه عليه، فمسح بهما وجهه، ثم ضرب بيديه إلى الحائط فمسح بهما يديه إلى المرفقين، ثم ردَّ عليَّ السلام. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "وضربة لليدين"، زاد"ضربة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "على المتيمم" بإسقاط الواو، وأثبتها من المخطوطة.
(3) الحديث: 9668 - نعيم بن حماد بن معاوية، الخزاعي الفارضي: ثقة من شيوخ البخاري، تكلم فيه بعضهم بما لا يقدح. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 2 / 100، وابن سعد 7 / 2 / 205-206، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 463-464، وتاريخ بغداد 13: 306-314.
خارجة بن مصعب بن خارجة الخراساني: مختلف فيه جدًا. والأكثر على تضعيفه. ولكن أعدل كلمة فيه كلمة الحاكم في المستدرك 1: 499، قال: "خارجة لم ينقم عليه إلا روايته عن المجهولين، وإذا روى عن الثقات الأثبات فروايته مقبولة".
عبد الله بن عطاء: إن لم يكن الطائفي المكي فلا أدري من هو؟ وأخشى أن يكون من المجهولين الذين يروي عنهم نعيم بن حماد.
الأعرج: هو عبد الرحمن بن هرمز، التابعي الثقة المشهور. وما رأيت له رواية عن أبي جهيم، وما إخاله أدركه. وهو يروي هذا الحديث عن"عمير مولى ابن عباس" عن أبي جهيم، كما سيأتي.
فلا أدري أسقط هذا من نسخ الطبري، أم هو هكذا في هذه الرواية؟ فيكون من غلط نعيم بن حماد، أو من غلط شيخه عبد الله بن عطاء!
وقد نقله ابن كثير 2: 468-469، كما ثبت هنا. فإن كان خطأ في النسخ، كان خطأ قديمًا.
أبو جهيم - بالتصغير - بن الحارث بن الصمة الأنصاري: صحابي معروف.
والحديث في أصله ثابت صحيح، بغير إسناد الطبري هذا الذي لا يكاد يقوم!
فرواه البخاري 1: 374-375 (فتح) : "حدثنا يحيى بن بكير، قال: حدثنا الليث [هو ابن سعد] ، عن جعفر بن ربيعة، عن الأعرج، سمعت عميرًا مولى ابن عباس، قال: أقبلت أنا وعبد الله بن يسار مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، حتى دخلنا على أبي جهيم بن الحارث بن الصمة الأنصاري، فقال أبو جهيم: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من نحو بئر جمل، فسلم عليه، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى أقبل على الجدار، فمسح بوجهه ويديه، ثم رد عليه السلام".
فهذه هي الرواية الصحيحة. أما ما هنا من زيادة"إلى المرفقين" - فهي زيادة ضعيفة الإسناد كما ترى. وقد أشار الحافظ إلى روايتين أخريين فيهما: "فمسح بوجهه وذراعيه"، وضعفهما بضعف رواتهما، وقال"والثابت في حديث أبي جهيم بلفظ: يديه، لا ذراعيه".
وانظر السنن الكبرى للبيهقي 1: 205.
ورواه أيضًا أبو داود: 329، والنسائي 1: 59 -كلاهما من طريق الليث بن سعد، به.
وذكره مسلم في صحيحه 1: 110-111 تعليقًا، قال: "وروى الليث بن سعد"- إلخ. ويظهر أنه لم يكن متوثقا منه. فوقع فيه وهم في موضعين: "عبد الرحمن بن يسار"، بدل"عبد الله بن يسار". و"أبو جهم" بالتكبير، بدل"أبو جهيم". وقد نص الحافظ في الفتح على وهمه في الموضعين.
ورواه أيضًا أحمد في المسند: 17614 (ج4 ص169 حلبي) ، عن حسن بن موسى، عن ابن لهيعة: "حدثنا عن الرحمن الأعرج"، فذكر الحديث، كرواية البخاري.
ووقع للحافظ ابن حجر وهم شديد في هذه الرواية، في الإصابة 7: 35، في ترجمة أبي جهيم، فقال: "ورواه ابن لهيعة، عن عبد الله بن يسار، عن أبي جهيم! أخرجه أحمد"! ورواية أحمد ليست كما قال. بل هي كروايات البخاري وأبي داود والنسائي، اللاتي ذكرهن من قبل.(8/416)
وقال آخرون: الحدّ الذي أمر الله أن يبلغ بالتراب إليه في التيمم: الآباط.(8/417)
*ذكر من قال ذلك:
9669 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن البرقي قال، حدثني عمرو بن أبي سلمة التنيسي، عن الأوزاعي، عن الزهري قال: التيمم إلى الآباط.
وعلة من قال ذلك: أن الله أمر بمسح اليد في التيمم، كما أمر بمسح الوجه. وقد أجمعوا أن عليه أن يمسح جميع الوجه، فكذلك عليه جميع اليد، ومن طرف الكفّ إلى الإبط"يدٌ". واعتلوا من الخبر بما:-
9670 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا صيفي بن ربعي، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبي اليقظان قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهلك عقد لعائشة، (1) فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أضاء الصبح، فتغيَّظ أبو بكر على عائشة، فنزلت عليه الرخصة، المسح بالصعيد. فدخل أبو بكر فقال لها: إنك لمباركة! نزل فيك رخصة! فضربنا بأيدينا: ضربة لوجوهنا، (2) وضربة بأيدينا إلى المناكب والآباط. (3)
* * *
__________
(1) "هلك العقد" انقطع فضاع.
(2) في المطبوعة: "لوجهنا" بالإفراد، والصواب من المخطوطة.
(3) الحديث: 9670 - صيفي بن ربعي الأنصاري: ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. وترجمه ابن أبي حاتم 2 / 1 / 448، وروى عن أبيه، قال: "صالح الحديث، ما أرى بحديثه بأسًا". ووقعت ترجمته في مطبوعة ابن أبي حاتم في ترجمتين برقمين، اتباعًا لإحدى نسخه المخطوطة. ووهم مصححه الفاضل في ترجيحها على المخطوطة الأخرى التي جعلت فيه ترجمة واحدة.
أبو اليقظان: هو عمار بن ياسر. وهذه كنيته.
والحديث رواه الطيالسي في مسنده: 637، عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد، مطولا.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 1: 208، من طريق الطيالسي.
ورواه أحمد في المسند 4: 320 (حلبي) ، عن حجاج، عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه: 565، من طريق الليث بن سعد، عن الزهري، بهذا الإسناد.
والحديث من هذا الوجه بهذا الإسناد - منقطع، لأن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود لم يدرك عمار بن يسار، وروايته عنه مرسلة.
وقد ثبت أن عبيد الله سمعه من أبيه من عمار، وسمعه من ابن عباس عن عمار. فاتصل إسناده من هذين الوجهين:
قال البيهقي - بعد روايته -: "وكذلك رواه معمر بن راشد، ويونس بن يزيد الأيلي، والليث بن سعد، وابن أخي الزهري، وجعفر بن برقان - عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عمار".
ثم رواه - بنحوه - من طريق مالك، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة"أنه أخبره عن أبيه، عن عمار بن ياسر".
وقال أبو داود - بعد الحديث: 320، الذي سنذكره بعد - قال: "وقال مالك: عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار. وكذلك قال أبو أويس، عن الزهري".
ورواه ابن ماجه: 566، من طريق سفيان بن عيينة، عن عمرو، وهو ابن دينار، عن الزهري: "عن عبيد الله بن عبد الله، عن أبيه، عن عمار بن ياسر" - مختصرًا.
وأما من رواية عبيد الله عن ابن عباس: فرواه أحمد في المسند 4: 263-264، من طريق صالح - وهو ابن كيسان - عن الزهري: "حدثني عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار بن ياسر" - فذكره مطولا.
وكذلك رواه البيهقي 1: 208-209، من طريق أحمد في المسند.
وذكره ابن كثير 2: 472، من رواية المسند.
وكذلك رواه أبو داود: 320، والنسائي 1: 60 -كلاهما من طريق صالح، عن الزهري، به - بذكر ابن عباس في الإسناد.
وقال الطيالسي - بعد الحديث: 637، الذي ذكرناه آنفًا -: "روى هذا الحديث محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، عن عمار".
وكذلك نص أبو داود في السنن، والبيهقي - بعد روايتهما الحديث من طريق صالح - على أن ابن إسحاق رواه عن الزهري، وذكر فيه"عن ابن عباس".
وأياما كان: فالحديث صحيح. ولسنا نرى هذا اضطرابًا، بل هي طرق متعددة ثابتة، لا تكون واحدة منها علة لغيرها.(8/418)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الحدّ الذي لا يجزئ المتيمم أن يقصِّر عنه في مسحه بالتراب من يديه: الكفان إلى الزّندين، لإجماع الجميع على أن التقصير عن ذلك غير جائز. ثم هو فيما جاوز ذلك مخيّر، إن شاء بلغ بمسحه المرفقين، وإن شاء الآباط. والعلة التي من أجلها جعلناه مخيرًا فيما جاوز الكفين: أن الله لم يحدَّ في مسح ذلك بالتراب في التيمم حدًّا لا يجوز التقصير عنه. فما مسح المتيمم من يديه أجزأه، إلا ما أُجمع عليه، أو قامت الحجة بأنه لا يجزئه التقصير عنه. وقد أجمع الجميعُ على أن التقصير عن الكفين غير(8/419)
مجزئ، فخرج ذلك بالسنة، (1) وما عدا ذلك فمختلف فيه. وإذا كان مختلفًا فيه، وكان الماسح بكفيه داخلا في عموم الآية = كان خارجًا مما لزمه من فرض ذلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في الجنب، هل هو ممن دخل في رخصة التيمم إذا لم يجد الماء أم لا؟
فقال جماعة من أهل التأويل من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين: حكم الجنب فيما لزمه من التيمم إذا لم يجد الماء، حكم من جاء من الغائط وسائر من أحدَث ممن جُعل التيمم له طهورًا لصلاته. وقد ذكرت قول بعض من تأوّل قول الله:"أو لامستم النساء"، أو جامعتموهن، وتركنا ذكر الباقين لكثرة من قال ذلك.
* * *
واعتلَّ قائلو هذه المقالة، بأن للجنب التيمم إذا لم يجد الماء في سفره، بإجماع الحجة على ذلك نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم، الذي يقطع العذر ويزيل الشك.
* * *
وقال جماعة من المتقدمين: لا يجزئ الجنب غيرُ الاغتسال بالماء، وليس له أن يصلي بالتيمم، والتيمم لا يطهره. قالوا: وإنما جعل التيمم رخصة لغير الجنب. وتأولوا قول الله:"ولا جنبًا إلا عابري سبيل". قالوا: وقد نهى الله الجنب أن يقرب مصَلَّى المسلمين إلا مجتازًا فيه حتى يغتسل، ولم يرخِّص له بالتيمم.
قالوا: وتأويل قوله:"أو لامستم النساء" أو لامستموهن باليد، دون الفرج، ودون الجماع.
قالوا: فلم نجد الله رخص للجنب في التيمم، بل أمره بالغسل، وأن لا يقرب الصلاة إلا مغتسلا. قالوا: والتيمم لا يطهِّره لصلاته.
*ذكر من قال ذلك:
9671 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا أبو معاوية، عن
__________
(1) في المطبوعة: "فخرج ذلك بالسنة"، وأثبت ما في المخطوطة.(8/420)
الأعمش، عن شقيق قال: كنت مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى الأشعري، فقال أبو موسى: يا أبا عبد الرحمن، أرأيت رجلا أجنبَ فلم يجد الماء شهرًا، أيتيمم؟ فقال عبد الله: لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرًا. فقال أبو موسى: فكيف تصنعون بهذه الآية في"سورة المائدة": (فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) [سورة المائدة: 6] ؟ فقال عبد الله: إن رُخّص لهم في هذا، لأوشكوا إذا بَرَد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد! فقال له أبو موسى: إنما كرهتم هذا لهذا! قال: نعم! قال أبو موسى: ألم تسمع قول عمار لعمر:"بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم في حاجة، فأجنبت فلم أجد الماء، فتمرَّغت في الصعيد كما تَمَرَّغ الدابة. قال: فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنما يكفيك أن تصنع هكذا = وضرب بكفيه ضربة واحدة، ومسح بهما وجهه، ومسح كفيه"؟ قال عبد الله: ألم تر عُمرَ لم يقنع لقول عمار؟ (1)
9672 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة، عن أبي مالك، وعن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، قال: كنا عند عمر بن الخطاب رحمه الله، (2) فأتاه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، إنا
__________
(1) الحديث: 9671 - أبو السائب: هو سلم بن جنادة، مضت ترجمته في: 48 شقيق: هو ابن سلمة، أبو وائل الأسدي، التابعي الكبير المخضرم.
والحديث رواه أحمد في المسند 4: 264-265 (حلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش بهذا الإسناد.
وكذلك رواه البخاري 1: 386 (فتح) ، ومسلم 1: 110، وأبو داود: 321: والنسائي 1: 61- كلهم من طريق أبي معاوية عن الأعمش.
ورواه أحمد أيضًا 4: 265، من طريق عبد الواحد، وهو ابن زياد العبدي، عن الأعمش، به، بنحوه.
ونقله ابن كثير 2: 269 عن هذه الرواية من المسند.
وكذلك رواه مسلم 1: 110، من طريق عبد الواحد.
ورواه البيهقي 1: 211، من طريق يعلى بن عبيد، عن الأعمش. ثم قال: "أخرجه البخاري ومسلم، من أوجه عن الأعمش. وأشار البخاري إلى رواية يعلى بن عبيد، وهو أثبتهم سياقة للحديث". وإشارة البخاري هي فيه 1: 387، عقب رواية أبي معاوية.
(2) في المطبوعة: "رضي الله عنه"، وأثبت ما في المخطوطة.(8/421)
نمكث الشهر والشهرين لا نجد الماء! فقال عمر: أمّا أنا، فلو لم أجد الماء لم أكن لأصلِّي حتى أجد الماء. قال عمار بن ياسر: أتذكر يا أمير المؤمنين، حيث كنا بمكان كذا وكذا، ونحن نرعي الإبل، فتعلم أنّا أجنبنا =؟ قال: نعم! = فأما أنا فتمرغت في التراب، فأتينا النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن كان الصعيد لكَافيك! وضرب بكفَيه الأرض، ثم نفخ فيهما، ثم مسح وجهه وبعضَ ذراعيه؟ فقال: اتق الله يا عمار! فقال: يا أمير المؤمنين، إن شئت لم أذكره! فقال: لا ولكن نُوَلِّيك من ذلك ما تولَّيت. (1)
9673 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: سمعت إبراهيم في دُكان مسلم الأعور، فقلت: أرأيت إن لم تجد الماء وأنت جنب؟ قال: لا أصلي. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الجنب ممن أمره الله بالتيمم إذا لم يجد الماء، والصلاةِ (3) بقوله:"أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدًا طيبًا". وقد بينا ثَمَّ أن معنى"الملامسة"، في هذا الموضع: الجماع، بنقل الحجة التي لا يجوزُ الخطأ فيما نقلته مجمعةً عليه، ولا السهو ولا التواطؤ والتشاعر، (4) بأن حكم الجنب في ذلك حكم سائر من أحدث فلزمه التطهر لصلاته = مع ما قد روي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأخبار التي قد ذكرنا بعضها، وتركنا ذكر كثير منها، استغناءً بما ذكرنا منها عما لم نذكر، وكراهة منا إطالة الكتاب باستقصاء جميعه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فلم تجدوا ماء فتيمموا"، وهل ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه طلب الماء، (5) أم ذلك أمر منه بالتيمم كلما لزمه الطلب وهو محدِثَ حدثًا يجب عليه منه الوضوء بالماء، لو كان للماء واجدًا؟
فقال بعضهم: ذلك أمر من الله بالتيمم كلما لزمه فرضُ الطلب بعد الطلب، محدثًا كان أو غير محدث.
*ذكر من قال ذلك:
9674 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن الحجاج، عن أبي إسحاق،
__________
(1) الحديث: 9672 - عبد الرحمن: هو ابن مهدي.
سفيان: هو الثوري.
سلمة: هو ابن كهيل. مضت ترجمته في 439، 2435.
أبو مالك: هو غزوان الغفاري، وهو تابعي معروف، مضى مرارًا.
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 94 وهو أخو"سعيد بن عبد الرحمن" المترجم في: 9656، 9657.
ووقع في الطبري هنا من الناسخين يقينًا، إذ سقط منه مخطوطًا ومطبوعًا [عن عبد الرحمن بن أبزى] . فصار ظاهر الإسناد أن عبد الله بن عبد الرحمن هو الذي كان عند عمر وحكى القصة! وما كان هذا قط، لأن عبد الله لم يدرك ذلك، وليست له رواية إلا عن أبيه. ولا يحتمل السياق هنا أن يكون هذا اختلاف رواية.
ثم مما يقطع بذلك أن النسائي روى هذا الحديث 1: 60، عن محمد بن بشار - شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد نفسه، وفيه: [عن عبد الرحمن بن أبزى] ، التي زدناها هنا.
وكذلك رواه أحمد في المسند 4: 319 (حلبي) ، عن عبد الرحمن بن مهدي - شيخ شيخ الطبري هنا، بهذا -الإسناد. وفيه هذه الزيادة. ولكن وقع في مطبوعة المسند خطأ مطبعي"عن أبي ثابت" بدل"عن أبي مالك"، وصححناه من مخطوطة المسند التي عندنا.
فالحديث يرويه سلمة بن كهيل، عن شيخين، هما: أبو مالك، وعبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى - كلاهما عن عبد الرحمن بن أبي أبزى.
وقد أشار البيهقي 1: 209-210 إلى روايات لسلمة بن كهيل في هذا الحديث، زعمها اضطرابًا من سلمة، ولكن الظاهر أنها اختلاف روايات من الرواة عنه.
وقوله - في متن الحديث -"قال: نعم. فأما أنا فتمرغت ... " - هذا هو الثابت أيضًا في رواية النسائي. وفي طبعة مصر"أما أنا" بدون الفاء. وهو سياق صحيح، على تقدير حذف"قال" بعد قوله"نعم". لظهور أن قوله"فأما أنا" من كلام عمار بن ياسر، لا من كلام عمر. ومثل هذا كثير. ولفظ المسند في هذا الموضع: "قال: نعم، قال: فإني تمرغت في التراب".
(2) الأثر: 9673 -"مسلم الأعور"، هو"مسلم بن كيسان الضبي"، ضعيف يتكلمون فيه، ولكن ليس له مدخل في هذا الأثر. و"إبراهيم" هو النخعي.
(3) قوله: "والصلاة" مجرورًا عطفًا على"أمره الله بالتيمم ... والصلاة".
(4) "التشاعر"، التعالم والتواطؤ. وقد سلفت هذه الكلمة في 6: 127، تعليق: 2 = و155، تعليق: 1. وكان في المطبوعة: "والتضافر"، غيرها إذ لم يفهمها.
(5) في المطبوعة: "هل ذلك أمر" بحذف الواو، وأثبت ما في المخطوطة.(8/422)
عن الحارث، عن علي رضي الله عنه أنه كان يقول: التيمم لكل صلاة.
9675 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا الحجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي مثله.
9676 - حدثني عبد الله بن محمد قال، حدثنا عبدان المروزي قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا عبد الوراث قال، أخبرنا عامر الأحول، عن نافع: أنه حدثه عن ابن عمر مثل ذلك. (1)
9677 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، أخبرنا مجالد، عن الشعبي قال: لا يصلى بالتيمم إلا صلاة واحدة.
9678 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد، عن قتادة قال: يتيمم لكل صلاة = ويتأوّل هذه الآية:"فلم تجدوا ماء".
9679 - قال أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا الفريابي، عن الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد وعبد الكريم بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن قالوا: التيمم لكل صلاة. (2)
9680 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا عمران القطان، عن قتادة، عن النخعي قال: يتيمم لكل صلاة.
* * *
وقال أخرون: بل ذلك أمرٌ من الله بالتيمم بعد طلب الماء مَنْ لزمه فرض الطلب إذا كان محدثًا. فأما من لم يكن أحدث بعد تطهره بالتراب، فلزمه فرض الطلب، فليس عليه تجديد تيممه، وله أن يصلي بتيممه الأول.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 9676 - انظر التعليق على الأثر: 9643.
(2) الأثر: 9679 -"يحيى بن سعيد بن قيس الأنصاري" القاضي، روى عن أنس. و"عبد الكريم بن أبي المخارق"، الفقيه روى عن أنس.
"وربيعة بن أبي عبد الرحمن التيمي"، وهو: ربيعة الرأي، صاحب الفتوى بالمدينة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "وعبد الكريم بن ربيعة بن أبي عبد الرحمن"، وهو خطأ، ولا يستقيم مع السياق أيضًا.(8/424)
9681 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن يونس، عن الحسن قال: التيمم بمنزلة الوضوء.
9682 - حدثنا إسماعيل بن موسى السدي قال، حدثنا عمر بن شاكر، عن الحسن قال: يصلي المتيمم بتيممه ما لم يحدث، فإن وجد الماء فليتوضأ. (1)
9683 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا هشام، عن الحسن قال: كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم يحدث. وكذلك التيمم.
9684 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا هشام، عن الحسن قال: كان الرجل يصلي الصلوات كلها بوضوء واحد.
9685 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن قال: يصلي الصلوات بالتيمم ما لم يحدث.
9686 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب، عن ابن جريج، عن عطاء قال: التيمم بمنزلة الوضوء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال:"يتيمم المصلي لكل صلاة لزمه طلب الماء للتطهر لها فرضًا"، لأن الله جل ثناؤه أمر كل قائم إلى الصلاة بالتطهر بالماء، فإن لم يجد الماء فالتيمم. ثم أخرج القائمَ إلى الصلاة من كان قد تقدم من قيامه إليها الوضوء بالماء (2) = سنةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم، (3) إلا أن يكون قد أحدث حدثًا ينقض طهارته، فيسقط فرض الوضوء عنه بالسنة. وأما القائم إليها وقد تقدم قيامه إليها بالتيمم لصلاة قبلها، ففرض التيمم له لازم بظاهر التنزيل، بعد طلبه الماء إذا أعوزه.
* * *
__________
(1) الأثر: 9682 -"عمر بن شاكر البصري". يروي عن أنس المناكير. روى عنه إسماعيل بن موسى السدي الفزاري. مترجم في التهذيب.
(2) في المطبوعة: "قد تقدم قيامه إليها"، بحذف"من"، وهي صواب في مكانها، كما في المخطوطة.
(3) قوله: "سنة رسول الله" مرفوع، فاعل قوله: "ثم أخرج القائم ... سنة رسول الله".(8/425)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لم يزل (1) ="عفوا"، عن ذنوب عباده، (2) وتركه العقوبة على كثير منها ما لم يشركوا به، كما عفا لكم، (3) أيها المؤمنون، عن قيامكم إلى الصلاة التي فرضها عليكم في مساجدكم وأنتم سكارى ="غفورًا"، يقول: فلم يزل يستر عليهم ذنوبهم بتركه معاجلتهم العذابَ على خطاياهم، كما ستر عليكم، أيها المؤمنون، بتركه معاجلتكم على صلاتكم في مساجدكم سكارى. يقول: فلا تعودوا لمثلها، فينالكم بعودكم لما قد نهيتكم عنه من ذلك، مُنَكِّلَة. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قوله جل ثناؤه:"ألم تر إلى الذين". فقال قوم: معناه: ألم تخبر؟
* * *
وقال آخرون: معناه ألم تعلم؟ (5)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"كان" بمعنى: لم يزل، فيما سلف 7: 523 / 8: 51، 88، 98، 229.
(2) انظر تفسير"العفو" فيما سلف 7: 215، 327.
(3) في المطبوعة: "كما عفا عنكم"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة.
(4) قوله: "منكلة" (بضم الميم وفتح النون وتشديد الكاف مكسورة) من التنكيل: وهو إنزال العقاب الشديد، إذا رآه غير نكل عنه وحذره. ولو قرئت: "منكلة"، (بفتح الميم وسكون النون واللام المفتوحة) ، لكانت صوابًا، ومثلها: "المنكل" وهو النكال أيضًا.
(5) انظر تفسير"ألم تر" فيما سلف 3: 160 / 5: 429، 430 / 6: 288 = ومعاني القرآن للفراء 1: 270.(8/426)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: ألم تر بقلبك، يا محمد، علمًا (1) "إلى الذين أوتوا نصيبًا". وذلك أن"الخبر" و"العلم" لا يجليان رؤية، ولكنه رؤية القلب بالعلم. فذلك كما قلنا فيه. (2)
* * *
وأما تأويل قوله:"إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، فإنه يعني: إلى الذين أعطوا حظَّا من كتاب الله فعلموه (3)
وذكر أن الله عنى بذلك طائفة من اليهود الذين كانوا حوالَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
9687 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل"، فهم أعداء الله اليهود، اشتروا الضلالة.
9688 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" إلى قوله:"يحرفون الكلم عن مواضعه"، قال: نزلت في رفاعة بن زيد بن السائب اليهودي. (4)
9689 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق
__________
(1) في المخطوطة: "ألم تر بعلمك"، وهو خطأ، صوابه ما في المبطوعة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "لذلك"، وصواب السياق ما أثبت.
(3) انظر تفسير"الإيتاء" في فهارس اللغة = وتفسير"النصيب" فيما سلف 4: 206 / 6: 288 / 8: 274.
(4) هكذا في المخطوطة أيضًا"رفاعة بن زيد بن السائب"، وسترى أنه: " ... بن زيد بن التابوت" في الأثر التالي، وأسماء يهود مشكلة، فلم أستطع أن أقطع بخطئها، فلعل"السائب" اسم جده، ولقبه"التابوت".(8/427)
قال، (1) حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رفاعة بن زيد بن التابوت من عظمائهم - يعني من عظماء اليهود = إذا كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم لوى لسانه وقال:"راعنا سمعَك، يا محمد حتى نفهمك"! ثم طعن في الإسلام وعابه، فأنزل الله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة" إلى قوله:"فلا يؤمنون إلا قليلا" (2)
9690 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (3) بإسناده، عن ابن عباس، مثله.
* * *
__________
(1) كان في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي إسحاق"، وهو خطأ فاحش.
(2) الأثر: 9689 - سيرة ابن هشام 2: 209، وهو تال للأثر السالف رقم: 9501.
(3) في المطبوعة وحدها: "عن أبي إسحاق"، والمخطوطة صواب هنا.(8/428)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45)
القول في تأويل قوله: {يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يشترون الضلالة"، اليهود الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب، يختارون الضلالة = وذلك: الأخذ على غير طريق الحقّ، وركوبُ غير سبيل الرشد والصواب، مع العلم منهم بقصد السبيل ومنهج الحق. (1) وإنما عنى الله بوصفهم باشترائهم الضلالة: مقامهم على التكذيب بمحمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم الإيمان به، وهم عالمون أنّ السبيل الحقَّ الإيمانُ به،
__________
(1) انظر تفسير"الاشتراء" فيما سلف 1: 312-315 / 2: 340-342، 455 / 3: 328 / 6: 527 = وتفسير"الضلالة" 1: 195، 313 / 2: 495، 496 / 6: 66، 500، 584 / 7: 369.(8/428)
وتصديقه بما قد وجدوا من صفته في كتبهم التي عندهم.
* * *
وأما قوله:"ويريدون أن تضلوا السبيل"، يعني بذلك تعالى ذكره: ويريد هؤلاء اليهود الذين وصَفهم جل ثناؤه بأنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب =" أن تضلوا" أنتم، يا معشر أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، المصدقين به =" أن تضلوا السبيل"، يقول: أن تزولوا عن قصد الطريق ومَحَجَّة الحق، فتكذبوا بمحمد، وتكونوا ضلالا مثلهم.
وهذا من الله تعالى ذكره تحذيرٌ منه عبادَه المؤمنين، أن يستنصحوا أحدًا من أعداء الإسلام في شيء من أمر دينهم، أو أن يسمعوا شيئًا من طعنهم في الحق.
* * *
ثم أخبر الله جلّ ثناؤه عن عداوة هؤلاء اليهود الذين نهى المؤمنين أن يستنصحوهم في دينهم إياهم، فقال جل ثناؤه: ="والله أعلم بأعدائكم"، يعني بذلك تعالى ذكره: والله أعلم منكم بعداوَة هؤلاء اليهود لكم، أيها المؤمنون. يقول: فانتهوا إلى طاعتي فيما نهيتكم عنه من استنصاحهم في دينكم، (1) فإني أعلم بما هم عليه لكم من الغشِّ والعداوة والحسد، وأنهم إنما يبغونكم الغوائل، ويطلبون أن تضلوا عن محجة الحق فتهلكوا.
* * *
وأما قوله:"وكفى بالله وليًّا وكفى بالله نصيرًا"، فإنه يقول: فبالله، أيها المؤمنون، فثقوا، وعليه فتوكلوا، وإليه فارغبوا، دون غيره، يكفكم مهمَّكم، وينصركم على أعدائكم ="وكفى بالله وليًّا"، يقول: وكفاكم وحسْبكم بالله ربكم وليًّا يليكم ويلي أموركم بالحياطة لكم، والحراسة من أن يستفزّكم أعداؤكم عن دينكم، أو يصدّوكم
__________
(1) في المخطوطة: "مما نهيتكم عنه"، وفي المطبوعة: "عما نهيتكم عنه"، والصواب ما أثبت.(8/429)
مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
عن اتباع نبيكم (1)
"وكفى بالله نصيرًا"، يقول: وحسبكم بالله ناصرًا لكم على أعدائكم وأعداء دينكم، وعلى من بغاكم الغوائل، وبغى دينكم العَوَج. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ}
قال أبو جعفر: ولقوله جل ثناؤه:"من الذين هادوا يحرفون الكلم"، وجهان من التأويل.
أحدهما: أن يكون معناه:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" ="من الذين هادوا يحرفون الكلم"، فيكون قوله:"من الذين هادوا" من صلة"الذين". وإلى هذا القول كانت عامة أهلِ العربية من أهل الكوفة يوجِّهون قوله:"من الذين هادوا يحرِّفون". (3)
* * *
والآخر منهما: أن يكون معناه: من الذين هادوا من يُحرِّف الكلم عن مواضعه، فتكون"مَن" محذوفة من الكلام، اكتفاء بدلالة قوله:"من الذين هادوا"، عليها. وذلك أن"مِن" لو ذكرت في الكلام كانت بعضًا ل"مَن"، فاكتفى بدلالة"مِنْ"، عليها. والعرب تقول:"منا من يقول ذلك، ومِنا لا يقوله"، (4) بمعنى: منا
__________
(1) انظر تفسير: "الولي" فيما سلف 2: 489، 564 / 5: 424 / 6: 142، 313، 497.
(2) انظر تفسير"النصير" فيما سلف 2: 489، 564 / 5: 581 / 6: 443، 449.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 271.
(4) في المطبوعة: "والعرب تقول: منا من يقول ذلك" بزيادة"من" وهو خطأ، والصواب من معاني القرآن للفراء. أما المخطوطة فكان فيها: "والعرب تقول ذلك ومثالا لا يقوله" وهو من عبث الناسخ وإسقاطه.(8/430)
من يقول ذاك، ومنا من لا يقوله = فتحذف"مَن" اكتفاء بدلالة"مِنْ" عليه، كما قال ذو الرمة:
فَظَلُّوا، وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ ... وَآخَرُ يَثْنِي دَمْعَةَ العَيْنِ بِالهَمْلِ (1)
يعني: ومنهم مَن دمعه، وكما قال الله تبارك وتعالى: (وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ) [سورة الصافات: 164] . وإلى هذا المعنى كانت عامة أهل العربية من أهل البصرة يوجِّهون تأويل قوله:"من الذين هادوا يحرفون الكلم"، غير أنهم كانوا يقولون: المضمر في ذلك"القوم"، كأن معناه عندهم: من الذين هادوا قوم يحرِّفون الكلم، ويقولون: نظير قول النابغة:
كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ (2)
يعني: كأنك جمل من جمال أقيش.
فأما نحويو الكوفة فينكرون أن يكون المضمر مع"مِن" إلا"مَن" أو ما أشبهها. (3)
* * *
__________
(1) ديوانه 485، وقبله: مع اختلاف الرواية: بَكَيْتُ عَلَى مَيٍّ بِهَا إذْ عَرَفْتُهَا ... وَهِجْتُ الْهَوَى حَتَّى بَكَى القَوْمُ مِنْ أَجْلِي
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ غَالِبٌ لَهُ ... وَآخَرُ يَثْنِي عَبْرَةَ العَيْنِ بالهَمْلِ
وَهَلْ هَمَلانُ الْعَيْنِ رَاجِعُ مَا مَضَى ... مِنَ الوَجْدِ، أوْ مُدْنِيكِ يَا مَيُّ مِنْ أَهْلِي
وكان في المطبوعة: "يذري دمعة العين بالمهل" وهو خطأ، وتغيير من الطابع، وفي المخطوطة"يثني" كما في الديوان.
وقوله: "يثني دمعة العين"، أي يرد هملانها. وقوله: "بالهمل" متعلق بقوله"دمعة" ووضع"دمعة" هنا مصدرًا لقوله: "دمعت عينه دمعًا ودمعانًا ودموعًا"، وزاده هو"دمعة" على وزن"رحمة" في المصادر = وكذلك في رواية"عبرة"، كلاهما مصدر، ولم تثبته كتب اللغة. يقول: وآخر يرد إرسال العين دمعها منهملا، يعني: لولا ذلك لسالت دموعه غزارًا.
(2) مضى تخريجه فيما سلف 1: 179، تعليق: 2، ونسيت هناك أن أرده إلى هذا المكان، فأثبته.
(3) انظر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 271.(8/431)
قال أبو جعفر: والقول الذي هو أولى بالصواب عندي في ذلك: قول من قال: قوله:"من الذين هادوا"، من صلة"الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، لأن الخبرين جميعًا والصفتين، من صفة نوع واحد من الناس، وهم اليهود الذين وصفَ الله صفتهم في قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب". وبذلك جاء تأويلُ أهل التأويل، فلا حاجة بالكلام = إذ كان الأمر كذلك = إلى أن يكون فيه متروك.
* * *
وأما تأويل قوله:"يُحَرِّفون الكلِمَ عن مواضعه"، (1) فإنه يقول: يبدِّلون معناها ويغيِّرونها عن تأويله.
* * *
و"الكلم" جماع"كلمة".
* * *
وكان مجاهد يقول: عنى بـ "الكلم"، التوراة.
9691 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يحرفون الكلم عن مواضعه"، تبديل اليهود التوراة.
9692 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وأما قوله:"عن مواضعه"، فإنه يعني: عن أماكنه ووجوهه التي هي وجوهه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"التحريف" فيما سلف 2: 248، 249.(8/432)
القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا}
يعني بذلك جل ثناؤه: من الذين هادوا يقولون: سمعنا، يا محمد، قولك، وعصينا أمرك، كما:-
9693 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"سمعنا وعصينا"، قال: قالت اليهود: سمعنا ما نقول ولا نطيعك.
9694 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9695 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9696 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"سمعنا وعصينا"، قالوا: قد سمعنا، ولكن لا نطيعك.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه عن اليهود الذين كانوا حوالَيْ مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عصره: أنهم كانوا يسبّون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويؤذونه بالقبيح من القول، ويقولون له: اسمع منا غير مسمع، كقول القائل للرجل يَسُبُّه:"اسمع، لا أسمعَك الله"، كما:-
9697 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واسمع غير مسمع"، قال: هذا قول أهل الكتاب يهود، كهيئة ما يقول الإنسان:(8/433)
"اسمع لا سمعت"، أذًى لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وشتمًا له واستهزاءً.
9698 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس:"واسمع غير مسمع" قال: يقولون لك:"واسمع لا سمعت".
وقد روي عن مجاهد والحسن: أنهما كانا يتأوّلان في ذلك بمعنى: واسمع غير مقبول منك.
= ولو كان ذلك معناه لقيل:"واسمع غير مسموع"، ولكن معناه: واسمع لا تسمع، ولكن قال الله تعالى ذكره:"ليًّا بألسنتهم وطعنًا في الدين"، فوصفهم بتحريف الكلام بألسنتهم، والطعن في الدين بسبِّ النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأما القول الذي ذكرته عن مجاهد:"واسمع غير مسمع"، يقول: غير مقبول ما تقول، فهو كما:-
9699 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"واسمع غير مسمع"، قال: غير مُسْتمع - قال ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"واسمع غير مسمع"، غير مقبول ما تقول.
9700 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9701 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"واسمع غير مسمع"، قال: كما تقول اسمع غير مَسْموع منك.
9702 - وحدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،(8/434)
عن السدي قال: كان ناس منهم يقولون:"واسمع غير مسمع"، كقولك: اسمع غير صاغِرٍ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"وراعنا"، أي: راعنا سمعك، افهم عنّا وأفهمنا. وقد بينا تأويل ذلك في"سورة البقرة" بأدلته، بما فيه الكفاية عن إعادته. (2)
* * *
ثم أخبر الله جل ثناؤه عنهم أنهم يقولون ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"ليًّا بألسنتهم"، يعني تحريكًا منهم بألسنتهم بتحريف منهم لمعناه إلى المكروه من معنييه، (3) واستخفافًا منهم بحق النبي صلى الله عليه وسلم، وطعنًا في الدين، كما:-
9703 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال قتادة: كانت اليهود يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم:"راعنا سمعك"! يستهزئون بذلك، فكانت اليهود قبيحة أن يقال: (4) "راعنا سمعك" ="ليًّا بألسنتهم" والليّ: تحريكهم ألسنتهم بذلك ="وطعنًا في الدين".
9704 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"راعنا ليًّا بألسنتهم"، كان
__________
(1) في المطبوعة: "غير صاغ"، والصواب من المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 2: 459-467.
(3) انظر تفسير"اللي" و"اللي بالألسنة" فيما سلف 6: 535-537.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "فكان في اليهود قبيحة فقال"، وهو كلام لا يستقيم البتة، وصوابه الذي لا شك فيه ما أثبت، وانظر كونها كلمة قبيحة لليهود في 2: 460.(8/435)
الرجل من المشركين يقول:"أرعني سمعك"! يلوي بذلك لسانه، يعني: يحرِّف معناه.
9705 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أييه، عن ابن عباس:"من الذين هادوا يحرّفون الكلم عن مواضعه"، إلى"وطعنًا في الدين"، فإنهم كانوا يستهزئون، ويلوون ألسنتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، ويطعنون في الدين.
9706 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وراعنا ليا بألسنتهم وطعنًا في الدين"، قال:"راعنا"، طعنهم في الدين، وليهم بألسنتهم ليبطلوه، ويكذبوه. قال: و"الرَّاعن"، الخطأ من الكلام. (1)
9707 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر قال، حدثنا أبو روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"ليا بألسنتهم"، قال: تحريفًا بالكذب.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أن هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم، قالوا لنبي الله:"سمعنا يا محمد قولك، وأطعنا أمرك، وقبلنا ما جئتنا به من عند الله، واسمع منا، وانظرنا ما نقول، وانتظرنا نفهم عنك ما تقول لنا" ="لكان خيرًا لهم وأقوم"، يقول: لكان ذلك خيرًا لهم عند الله ="وأقوم"، يقول: وأعدل وأصوبَ في القول.
* * *
__________
(1) انظر القول في"الراعن" فيما سلف 2: 465، 466.(8/436)
وهو من"الاستقامة" من قول الله: (وَأَقْوَمُ قِيلا) [سورة المزمل: 6] ، بمعنى: وأصوبُ قيلا (1) كما:-
9708 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولو أنهم قالوا سمعنا وأطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرًا لهم"، قال: يقولون اسمع منا، فإنا قد سمعنا وأطعنا، وانظرنا فلا تعجل علينا.
9709 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد قوله:"وانظُرنا"، قال: اسمع منا.
9710 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"وانظرنا"، قال: أفهمنا.
9711 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،"وانظرنا"، قال: أفهمنا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله مجاهد وعكرمة، من توجيههما معنى:"وانظرنا" إلى:"اسمع منا" = وتوجيه مجاهد ذلك إلى"أفهمنا" = فما لا نعرف في كلام العرب، (2) إلا أن يكون أراد بذلك من توجيهه إلى"أفهمنا"، انتظرنا نفهم ما تقول = أو: انتظرنا نقل حتى تسمع منا = فيكون ذلك معنًى مفهومًا، وإن كان غير تأويلٍ للكلمة ولا تفسير لها. (3) ولا نعرف:"انظرنا" في كلام العرب، (4) إلا بمعنى: انتظرنا وانظر إلينا = فأما"انظرنا" بمعنى: انتظرنا، فمنه قول الحطيئة:
وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ لَوْ أَنَّ دِرَّتَكُمْ ... يَوْمًا يَجِيء بها مَسْحِي وَإِبْسَاسِي (5)
__________
(1) انظر تفسر"أقوم" فيما سلف 6: 77، 78.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ما لا نعرف" بغير فاء، ولكني زدتها لأنها أعرق في العربية وأقوم للسياق.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "غير تأويل الكلمة" والصواب ما أثبت.
(4) في المطبوعة: "فلا نعرف" بالفاء، والأجود ما في المخطوطة، كما أثبته.
(5) ديوانه: 52، والكامل 1: 351، وهذا خطأ لا شك فيه في رواية البيت، وأثبته على حاله، لأنه دلالة على عجلة أبي جعفر أحيانًا في كتابة تفسيره، ودليل على حفظه الشعر، ولولا ذلك لم يخلط هذا الخلط فإن هذه القصيدة، هي التي هجا بها الزبرقان بن بدر، ومدح بغيض ابن عامر، والتي شكاه من أجلها الزبرقان إلى عمر بن الخطاب فحبسه، يقول للزبرقان لما غضب حين استضافه بغيض: مَا كانَ ذَنْبُ بَغِيض لا أَبَا لَكُمُ ... فِي بَائِسٍ جَاءَ يَحْدُو آخِرَ الناسِ
لَقَدْ مَرَيْتُكُمُ لَوْ أَنَّ دِرَّتكُمْ ... يَوْمًا يجِيءُ بِهَا مَسْحِي وَإبْسَاسِي
وَقَدْ مَدَحْتُكُمْ عَمْدًا لأُرْشِدَكُمْ ... كَيْمَا يَكُونَ لَكُمْ مَتْحٍي وَإمْرَاسِي
ثم يليه بيت الشاهد الذي كان ينبغي أن يذكره هنا أبو جعفر، كما ذكره فيما سلف في تفسير"انظرنا" من سورة البقرة 2: 467، 468 وقد شرحته هناك. ولولا أن أثبت حال أبي جعفر في كتابه، لألغيت البيت المذكور في المتن، ولوضعت هذا البيت: وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ أَعْشَاءَ صَادِرَةٍ ... لِلْخِمْسِ طَالَ بِهَا حَوْزِي وَتَنْسَاسِي
وقوله: "لقد مريتكم" من قولهم: "مري الناقة يمريها مريًا": إذا مسح ضرعها لتدر. و"الدرة": الدفعة من اللبن و"المسح" مسح الضرع للحلب. و"الإبساس": هو صوت الراعي، يلينه لناقته عند الحلب لتسكن ويسهل حلبها. يقول: لقد ترفقت لكم، أستخرج خيركم بالمديح الرقيق والقول اللين، فلم ألمق خيرًا، ولم تجودوا به.
وكان في المخطوطة: "يجيء به" وهو خطأ.(8/437)
وأما"انظرنا"، بمعنى: انظر إلينا، فمنه قول عبد الله بن قيس الرقيات:
ظَاهِرَاتُ الجَمالِ وَالحُسْنِ يَنْظُرْنَ ... كَمَا يَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّبَاءُ (1)
__________
(1) ديوانه: 171، من قصيدته التي فخر فيها بقريش، ومدح مصعب بن الزبير، وذكر نساء عبد شمس بن عبد مناف فقال: وَحِسَانٌ مِثْلُ الدُّمَي عَبْشَمِيَّاتٌ ... عَلَيْهِن بَهْجَةٌ وَحَيَاءُ
لا يَبِعْنَ العِيَابَ في مَوْسِمٍ النَّاسِ ... إذَا طَافَ بِالعِيابِ النِّسَاءُ
ظَاهِرَاتُ الجَمَالِ والسَّرْو........ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و"السرو": الشرف وكرم المحتد. وهي أجود الروايتين، وقوله: "كما ينظر الأراك الظباء"، من حسن التشبيه، ودقة الملاحظة للعلاقة بين الشرف والسؤدد. وما يكون للمرء من شمائل وسمت وهيأة. ويعني أنهن قد ينصبن أجيادهن، كأنهن ظباء تعطو الأراك لتناله. وذلك أظهر لجمال أجيادهن، وحركتهن. والجيد فيه دلالة من دلائل الخلق لا يخطئها بصير.(8/438)
بمعنى: كما ينظر إلى الأراك الظباء. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمْ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلا قَلِيلا (46) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ولكن الله تبارك وتعالى أخْزَى هؤلاء اليهود الذين وصف صفتهم في هذه الآية، فأقصاهم وأبعدهم من الرشد واتباع الحق (2) ="بكفرهم"، يعني: بجحودهم نبوّة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربهم من الهدى والبينات ="فلا يؤمنون إلا قليلا"، يقول: فلا يصدقون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند ربهم، ولا يقرُّون بنبوته ="إلا قليلا"، يقول: لا يصدقون بالحق الذي جئتهم به، يا محمد، إلا إيمانًا قليلا كما:-
9712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فلا يومنون إلا قليلا"، قال: لا يؤمنون هم إلا قليلا.
قال أبو جعفر: وقد بيّنا وجه ذلك بعلله في"سورة البقرة". (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير نظيرة هذه الكلمة من آية البقرة: "وقولوا انظرنا" 2: 467 - 469.
(2) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 2: 328 / 3: 254، 261 / 6: 577.
(3) يعني تفسير قوله تعالى"فقليلا ما يؤمنون" 2: 329 - 331.(8/439)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47)
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب"، اليهود من بني إسرائيل، الذين كانوا حوالَيْ مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الله لهم: يا أيها الذين أنزل إليهم الكتاب فأعطوا العلم به ="آمنوا" يقول: صدِّقوا بما نزلنا إلى محمد من الفرقان ="مصدقًا لما معكم"، يعني: محقِّقًا للذي معكم من التوراة التي أنزلتها إلى موسى بن عمران ="من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها".
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم:"طمسه إياها": محوه آثارها حتى تصير كالأقْفَاء.
وقال آخرون: معنى ذلك أن نطمس أبصارها فنصيّرها عمياء، ولكن الخبر خرج بذكر"الوجه"، والمراد به بصره ="فنردّها على أدبارها"، فنجعل أبصارَها من قبل أقفائها.
*ذكر من قال ذلك:
9713 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثنا عمي قال حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا" إلى قوله:"من قبل أن نطمس وجوهًا"، وطمسها: أن تعمى ="فنردها على أدبارها"، يقول: أن نجعل وجوههم من قبل أقفِيتهم، فيمشون القهقرى، ونجعل لأحدهم عينين في قفاه.(8/440)
9714 - حدثني أبو العالية إسماعيل بن الهيثم العبْدي قال، حدثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله:"من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، قال: نجعلها في أقفائها، فتمشي على أعقابها القهقرى. (1)
9715 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية، بنحوه = إلا أنه قال: طمْسُها: أن يردَّها على أقفائها.
9716 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"فنردها على أدبارها"، قال: نحوِّل وجوهها قِبَل ظهورها.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك (2) من قبل أن نعمي قومًا عن الحق ="فنردها على أدبارها"، في الضلالة والكفر.
*ذكر من قال ذلك:
9717 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"، فنردها عن الصراط، عن الحق (3) ="فنردها على أدبارها"، قال: في الضلالة.
9718 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أن نطمس وجوهًا" عن صراط الحق ="فنردها على أدبارها"، في الضلالة.
9719 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
__________
(1) الأثر: 9714 -"أبو العالية، إسماعيل بن الهيثم العبدي"، لم نجده، وانظر ما سلف رقم: 9365، 9366.
و"أبو قتيبة" هو: سلم بن قتيبة، مضت ترجمته برقم: 1899، 1924، 9365.
(2) في المطبوعة، أسقط: "بل".
(3) في المطبوعة: "عن الصراط الحق"، أسقط"عن" الثانية.(8/441)
9720 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، الحسن:"نطمس وجوهًا"، يقول: نطمسها عن الحق ="فنردها على أدبارها"، على ضلالتها.
9721 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله:"كما لعنّا أصحاب السبت"، قال: نزلت في مالك بن الصَّيِّف، ورفاعة بن زيد بن التابوت، من بني قينقاع. أما"أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، يقول: فنعميها عن الحق ونُرجعها كفارًا.
9722 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"، يعني: أن نردهم عن الهدى والبصيرة، فقد ردَّهم على أدبارهم، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: من قبل أن نمحو آثارهم من وجوههم التي هم بها، وناحيتهم التي هم بها ="فنردها على أدبارها"، من حيث جاءوا منه بَديًّا من الشام. (1)
*ذكر من قال ذلك:
9723 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"، قال: كان أبي يقول: إلى الشأم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"من قبل أن نطمس وجوهًا"، فنمحو أثارها
__________
(1) في المطبوعة: "بدءًا من الشام"، وأثبت في المخطوطة، وكلتاهما صواب. و"بديًا"، في بدء أمرهم. وتفسير"الوجوه" هنا: النواحي.(8/442)
ونسوِّيها ="فنردها على أدبارها"، بأن نجعل الوجوه منابتَ الشَّعر، كما وجوه القردة منابت للشعر، لأن شعور بني آدم في أدبار وجوههم. فقالوا: إذا أنبت الشعر في وجوههم، فقد ردَّها على أدبارها، بتصييره إياها كالأقفاء وأدبار الوجوه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معنى قوله:"من قبل أن نطمس وجوها"، من قبل أن نطمس أبصارَها ونمحو آثارها فنسوّيها كالأقفاء ="فنردها على أدبارها"، فنجعل أبصارها في أدبارها، يعني بذلك: فنجعل الوجوه في أدبار الوجوه، فيكون معناه: فنحوّل الوجوه أقْفاءً والأقفَاء وجوهًا، فيمشون القهقرى، كما قال ابن عباس وعطية ومن قال ذلك.
* * *
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب: لأن الله جل ثناؤه خاطب بهذه الآية اليهودَ الذين وصف صفتهم بقوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يشترون الضلالة"، ثم حذرهم جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب أمنوا بما نزلنا مصدِّقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها" الآية، بأسَه وسطوته وتعجيل عَقابه لهم، (2) إن هم لم يؤمنوا بما أمرهم بالإيمان به. ولا شك أنهم كانوا لما أمرهم بالإيمان به يومئذ كفارًا.
* * *
وإذْ كان ذلك كذلك، فبيّنٌ فساد قول من قال: تأويل ذلك: أن نعمِيها عن الحق فنردها في الضلالة. فما وجْه ردِّ من هو في الضلالة فيها؟! وإنما يرد في الشيء من كان خارجًا منه. فأما من هو فيه، فلا وجه لأن يقال:"نرده فيه".
* * *
وإذْ كان ذلك كذلك، وكان صحيحًا أنّ الله قد تهدَّد للذين ذكرهم في هذه
__________
(1) هو الفراء في معاني القرآن 1: 272.
(2) السياق: ثم حذرهم ... بأسه وسطوته ...(8/443)
الآية بردّه وجوهَهم على أدبارهم = كان بيّنًا فساد تأويل من قال: معنى ذلك: يهددهم بردِّهم في ضلالتهم.
* * *
وأما الذين قالوا: معنى ذلك: من قبل أن نجعل الوجوه منابتَ الشعر كهيئة وجوه القردة، فقولٌ لقول أهل التأويل مخالف. وكفى بخروجه عن قول أهل العلم من الصحابة والتابعين فمن بعدهم من الخالفين، على خطئه شاهدًا.
* * *
وأما قول من قال: معناه: من قبل أن نطمس وجوههم التي هم فيها، فنردّهم إلى الشأم من مساكنهم بالحجاز ونجدٍ، فإنه = وإن كان قولا له وجه = مما يدل عليه ظاهر التنزيل بعيد. (1) وذلك أن المعروف من"الوجوه" في كلام العرب، التي هي خلاف"الأقفاء"، وكتاب الله يُوَجَّه تأويله إلى الأغلب في كلام مَن نزل بلسانه، حتى يدلّ على أنه معنيٌّ به غير ذلك من الوجوه، الذي يجب التسليم له. (2)
* * *
وأما"الطمس"، فهو العُفُوّ والدثور في استواء. منه يقال:"طمست أعلام الطريق تطمِسُ طُموسًا"، إذا دثرت وتعفَّت، فاندفنت واستوت بالأرض، كما قال كعب بن زهير:
مِنْ كُلِّ نَضَّاحَةِ الذِّفْرَى إذَا عَرقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأعْلام مَجْهُولُ (3)
يعني:"طامس الأعلام"، دائر الأعلام مندفنها. ومن ذلك قيل للأعمى الذي
__________
(1) في المطبوعة: "كما يدل عليه"، وفيه خطأ، وفي المخطوطة: "كما يدل على" وفيه خطآن. والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "من الوجوه التي ذكرت، دليل يجب التسليم له"، زاد فيما كان في المخطوطة لتستقيم الجملة، وكان فيها: "من الوجوه التي يجب التسليم له" والأمر أهون من ذلك، أخطأ فكتب"التي" مكان"الذي"، وهو حق السياق.
(3) سلف البيت وتخريجه في 4: 424، تعليق: 4.(8/444)
قد تعفَّى غَرُّ ما بين جفني عينيه فدثر: (1) "أعمى مطموس، وطمْيس"، كما قال الله جل ثناؤه: (وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ) [سورة يس: 66] .
* * *
= قال أبو جعفر:"الغَرُّ"، الشقّ الذي بين الجفنين. (2)
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر كما وصفت من تأويل الآية، فهل كان ما توعَّدهم به؟ (3)
قيل: لم يكن، لأنه آمن منهم جماعة، منهم: عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سعية، وأسد بن سعية، (4) وأسد بن عبيد، ومُخَيْرِق، (5) وجماعة غيرهم، فدفع عنهم بإيمانهم.
ومما يبين عن أن هذه الآية نزلت في اليهود الذين ذكرنا صفتهم، ما:-
9724 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير= وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة = جميعًا، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد
__________
(1) في المطبوعة: "الذي قد تعفى ما بين جفني ... " حذف"غر"، لأنه لم يحسن قراءتها، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وانظر شرح أبي جعفر لكلمة"غر"، والتعليق عليه بعد.
(2) في المطبوعة: (العراسق الذي بين الخفين) ، واستدرك عليه الناشر الأول، وكتب فيه خلطًا شديدًا، نقله عنه آخرون!! وأما المخطوطة التي لم يحسن الناشر قراءتها فكان فيها: العرالسق الذي بين الخفين" كله غير منقوط، وصوابه قراءته ما أثبت. وأصل ذلك أن"الغر" (بفتح الغين وتشديد الراء) هو الشق في الأرض. و"الغر" أيضًا: الكسر يكون في الثوب، والغضون في الجلد، وهو مكاسر الجلد، ومنه قليل: "اطو الثوب على غره" أي على كسره. وقد جاءت هذه الكلمة في تفسير أبي جعفر 23: 17، 18 مصحفة بالزاي: "والطمس على العين هو أن لا يكون بين جفني العين (غز) ، وذلك هو الشق الذي بين الجفنين". وانظر شرح ابن إسحاق في سيرته 2: 210: "المطموس العين: الذي ليس بين جفنيه شق".
فتبين من هذا صحة قراءتنا وصوابها، وخلط من لا يحسن أن يخلط، فضلا عن أن يصيب!!
(3) "كان" هنا تامة، بمعنى: وقع وحدث.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "أسد بن سعية" وعند ابن إسحاق: "أسيد بن سعية" (بفتح الألف وكسر السين) . والاختلاف في اسمه واسم أبيه كثير.
(5) لم أجد"مخيرق" في غير هذا الموضع، وهو في سائر الكتب وفي ترجمته"مخيريق"، والاختلاف في أسماء بني إسرائيل كثير. فتركته على حاله هنا، لأنه هكذا ثبت في المخطوطة.(8/445)
مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: كلَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم رؤساء من أحبار يهود: منهم عبد الله بن صوريا، وكعب بن أسد فقال لهم: يا معشر يهود، اتقوا الله وأسلموا! فوالله إنكم لتعلمون أن الذي جئتكم به لحقٌّ! (1) فقالوا: ما نعرف ذلك يا محمد! وجحدوا ما عرفوا، وأصرّوا على الكفر، فأنزل الله فيهم:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها"، الآية (2)
9725 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن عيسى بن المغيرة قال: تذاكرنا عند إبراهيم إسلامَ كعبٍ، (3) فقال: أسلم كعب في زمان عمر، أقبل وهو يريد بيت المقدس، فمرّ على المدينة، فخرج إليه عمر فقال: يا كعب، أسلم! قال: ألستم تقرأون في كتابكم: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا) [سورة الجمعة: 5] ؟ وأنا قد حملت التوراة! قال: فتركه. ثم خرج حتى انتهى إلى حمص، قال: فسمع رجلا من أهلها حزينًا وهو يقول:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوها فنردها على أدبارها"، الآية. فقال كعب: يا رب آمنت، يا رب أسلمت! مخافة أن تصيبه الآية، ثم رجع فأتى أهله باليمن، ثم جاء بهم مسلمين.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "الذي حكم به لحق"، وفي هامش النسخة بخط عتيق: "الصواب: بعثت"، وأخطأ من كتب، فالصواب ما في المطبوعة، وهو نص سيرة ابن هشام.
(2) الأثر 9724 - سيرة ابن هشام 2: 209، وهو تابع الأثر السالف: 9689، 9690.
(3) يعني"كعب الأحبار".(8/446)
القول في تأويل قوله: {أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا (47) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أو نلعنهم"، أو نلعنكم فنخزيكم ونجعلكم قردة ="كما لعنا أصحاب السبت"، يقول: كما أخزينا الذين اعتدوا في السبت من أسلافكم. (1) قيل ذلك على وجه الخطاب في قوله:"آمنوا بما نزلنا مصدقا لما معكم"، كما قال: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا) [سورة يونس: 22] . (2)
وقد يحتمل أن يكون معناه:"من قبل أن نطمس وجوها فنردَّها على أدبارها"، أو نلعن أصحاب الوجوه = فجعل"الهاء والميم" في قوله:"أو نلعنهم"، من ذكر أصحاب الوجوه، إذ كان في الكلام دلالة على ذلك:
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9726 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله:"أو نلعنهم كما لعنّا أصحاب السبت"، أي: نحوّلهم قردة.
9727 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن:"أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، يقول: أو نجعلهم قردة.
9728 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف قريبًا ص: 439، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر ما سلف 1: 154 / 3: 304، 305 / 6: 238، 464، ومواضع أخرى كثيرة فيما سلف.(8/447)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
أسباط، عن السدي:"أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، أو نجعلهم قردة.
9729 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت"، قال: هم يهود جميعًا، نلعن هؤلاء كما لعنّا الذين لعنّا منهم من أصحاب السبت. (1)
* * *
وأما قوله:"وكان أمر الله مفعولا"، فإنه يعني: وكان جميع ما أمر الله أن يكون، كائنًا مخلوقًا موجودًا، لا يمتنع عليه خلق شيء شاء خَلْقه. و"الأمر" في هذا الموضع: المأمور = سمي"أمر الله"، لأنه عن أمره كان وبأمره.
والمعنى: وكان ما أمر الله مفعولا.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم" = وإن الله لا يغفر أن يشرك به، فإن الله لا يغفر الشرك به والكفر، ويغفر ما دون ذلك الشرك لمن يشاء من أهل الذنوب والآثام.
* * *
وإذ كان ذلك معنى الكلام، فإن قوله:"أن يشرك به"، في موضع نصب بوقوع"يغفر" عليها (2) = وإن شئت بفقد الخافض الذي كان يخفضها لو كان ظاهرًا. وذلك أن يوجَّه معناه إلى: إن الله لا يغفر أن يشرك به، على تأويل الجزاء،
__________
(1) انظر خبر"أصحاب السبت" فيما سلف 2: 166 - 175.
(2) "الوقوع" تعدى الفعل إلى مفعول، كما سلف مرارًا كثيرة.(8/448)
كأنه قيل: إن الله لا يغفر ذنبًا مع شرك، أو عن شرك. (1)
وعلى هذا التأويل يتوجه أن تكون"أن" في موضع خفض في قول بعض أهل العربية. (2)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت في أقوام ارتابوا في أمر المشركين حين نزلت: (قُلْ يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [سورة الزمر: 53] .
ذكر الخبر بذلك:
9730 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، حدثني مُجَبَّر، عن عبد الله بن عمر: أنه قال: لما نزلت: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الآية، قام رجل فقال: والشرك، يا نبيَّ الله. فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إنّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما". (3)
__________
(1) في معاني القرآن للفراء 1: 272: "مع شرك، ولا عن شرك"، والصواب في التفسير.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 272 فهذه مقالته.
(3) الحديث: 9730 - ابن أبي جعفر: هو عبد الله بن أبي جعفر الرازي: مضت ترجمته وترجمة أبيه في: 7030.
الربيع: هو ابن أنس البكري. مضت ترجمته في: 5480.
مجبر - بضم الميم وفتح الجيم وتشديد الباء الموحدة المفتوحة، بوزن"محمد"-: هو ابن أخي عبد الله بن عمر. و"مجبر" لقبه، واسمه: "عبد الرحمن بن عبد الرحمن الأصغر بن عمر بن الخطاب". ذكره المصعب في نسب قريش، ص: 356، وابن حزم في جمهرة الأنساب، ص: 146، والمشتبه للذهبي، ص: 462. مترجم في التعجيل، ص: 392 - 393، وله ذكر فيه أيضًا في ترجمة ابنه"عبد الرحمن" ص: 256 - 257.
وله رواية في المسند: 1402، عن عثمان وطلحة. وأظنها رواية منقطعة، فإن طبقته أصغر من أن يدركهما.
وله ذكر في الموطأ ص: 397: "مالك، عن نافع، عن عبد الله بن عمر: أنه لقي رجلا من أهله يقال له المجبر، قد أفاض ولم يحلق ولم يقصر، جهل ذلك، فأمره عبد الله أن يرجع، فيحلق أو يقصر، ثم يرجع إلى البيت فيفيض".
ولم أجد له ترجمة غير ذلك. فهذا تابعي عرف شخصه، ولم يذكر بجرح، فأقل حالاته أن يكون حديثه حسنًا.
والحديث نقله ابن كثير 2: 481، عن هذا الموضع. ثم قال: "وقد رواه ابن مردويه من طرق عن ابن عمر".
وذكره السيوطي 1: 169، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم.
وسيأتي عقب هذا بإسناد ضعيف، لإبهام شيخ الطبري.(8/449)
9731 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن الله لا يغفر أن يشرك له ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، قال: أخبرني مُجَبَّر، عن عبد الله بن عمر أنه قال: لما نزلت هذه الآية: (يَاعِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) الآية، قام رجل فقال: والشرك يا نبي الله. فكره ذلك النبي، فقال:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء".
9732 - حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا الهيثم بن جَمّاز قال، حدثنا بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عمر قال: كنا معشر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نَشُك في قاتلِ النفس، وآكل مال اليتيم، وشاهد الزور، وقاطع الرَّحم، حتى نزلت هذه الآية:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، فأمسكنا عن الشهادة. (1)
وقد أبانت هذه الآية أنّ كل صاحب كبيرة ففي مشيئة الله، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقبه عليه، ما لم تكن كبيرة شركًا بالله.
* * *
__________
(1) الحديث: 9732 - آدم: هو ابن أبي إياس العسقلاني. مضت ترجمته في: 187، الهيثم بن جماز البكاء، الحنفي البصري القاضي: ضعيف، ضعفه أحمد، وابن معين، والنسائي، وغيرهم. مترجم في لسان الميزان 6: 204 - 205، والكبير للبخاري 4 / 2 / 216. وابن أبي حاتم 4 / 2 / 81، والضعفاء للنسائي، ص: 30.
و"جماز": بفتح الجيم وتشديد الميم وآخره زاي. ووقع في المخطوطة والمطبوعة"حماد"، وهو تصحيف. وكذلك وقع مصحفًا في التهذيب 11: 100، عند ذكره بترجمة"الهيثم بن أبي الهيثم".
بكر بن عبد الله المزني: تابعي ثقة معروف، أخرج له الجماعة.
والحديث ذكره السيوطي 2: 169، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، والبزار.
ومعناه ثابت عن ابن عمر من روايات أخر:
ففي الدر المنثور 2: 169"أخرج ابن الضريس، وأبو يعلى، وابن المنذر، وابن عدي - بسند صحيح، عن ابن عمر، قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر حتى سمعنا من نبينا صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، وقال: إني ادخرت دعوتي، شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي، فأمسكنا عن كثير مما كان في أنفسنا، ثم نطقنا بعد ورجونا". وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 7: 5، وقال: "رواه أبو يعلى، ورجاله رجال الصحيح، غير حرب بن سريج، وهو ثقة".
وفي مجمع الزوائد 10: 210 - 211"عن ابن عمر، قال: كنا نمسك عن الاستغفار لأهل الكبائر، حتى سمعنا نبينا صلى الله عليه وسلم يقول (إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) ، وقال: أخرت شفاعتي لأهل الكبائر يوم القيامة. رواه البزار، وإسناده جيد". وهو نحو الذي قبله.
وفيه أيضًا روايات بهذا المعنى عن ابن عمر 10: 193.
هذا، وكان في المخطوطة: "لا نشك في المؤمن، وآكل مال اليتيم": بينهما بياض وقبل"المؤمن" في أعلاه حرف"ط"، وهذا دال على أن النسخة التي نقل عنها كانت غير واضحة فأثبتنا ما جاء في الروايات الأخر.(8/450)
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ومن يشرك بالله" في عبادته غيره من خلقه ="فقد افترى إثما عظيما"، يقول: فقد اختلق إثما عظيمًا. (1) وإنما جعله الله تعالى ذكره"مفتريًا"، لأنه قال زورًا وإفكًا بجحوده وحدانية الله، وإقراره بأن لله شريكًا من خلقه وصاحبة أو ولدًا. فقائل ذلك مُفترٍ. وكذلك كل كاذب، فهو مفترٍ في كذبه مختلقٌ له.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"افترى" فيما سلف 6: 292.(8/451)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49)
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر، يا محمد بقلبك، (1) الذين يزكون أنفسهم من اليهود فيبرِّئونها من الذنوب ويطهرونها. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل، في المعنى الذي كانت اليهود تُزَكي به أنفسها.
فقال بعضهم: كانت تزكيتهم أنفسَهم، قولهم:"نحن أبناء الله وأحباؤه".
*ذكر من قال ذلك:
9733 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء ولا يُظلمون فتيلا"، وهم أعداء الله اليهود، زكوا أنفسهم بأمر لم يبلغوه، فقالوا:"نحن أبناء الله وأحِبّاؤه". وقالوا:"لا ذنوب لنا".
9734 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال: هم اليهود والنصارى، قالوا:"نحن أبناء الله وأحباؤه". وقالوا:"لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى".
9735 - وحدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك قال: قالت يهود:"ليست لنا ذنوب إلا كذنوب أولادنا يوم يولدون! فإن كانت لهم ذنوب فإنّ لنا ذنوبًا! فإنما نحن
__________
(1) انظر تفسير"ألم تر" فيما سلف قريبًا: 426، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"التزكية" فيما سلف: 369، تعليق: 2، والمراجع هناك.(8/452)
مثلهم"! قال الله تعالى ذكره: (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا)
9736 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال: قال أهل الكتاب:"لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى"، وقالوا:"نحن أبناء الله وأحباؤه"، وقالوا:"نحن على الذي يحب الله". فقال تبارك وتعالى:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء"، حين زعموا أنهم يدخلون الجنة، وأنهم أبناء الله وأحباؤه وأهل طاعته.
9737 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل لله يزكي من يشاء ولا يظلمون فتيلا"، نزلت في اليهود، قالوا:"إنا نعلم أبناءنا التوراة صغارًا، فلا تكون لهم ذنوب، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا، ما عملنا بالنهار كُفَّر عنا بالليل".
* * *
وقال آخرون: بل كانت تزكيتهم أنفسَهم، تقديمهم أطفالهم لإمامتهم في صلاتهم، زعمًا منهم أنهم لا ذنوب لهم.
*ذكر من قال ذلك:
9738 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يزكون أنفسهم"، قال: يهود، كانوا يقدمون صبيانهم في الصلاة فيؤمُّونهم، يزعمون أنهم لا ذنوب لهم. فتلك التزكية.
9739 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9740 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الأعرج، عن مجاهد قال: كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في(8/453)
الدعاء والصلاة يؤمُّونهم، ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم، فتلك تزكية = قال ابن جريج: هم اليهود والنصارى.
9741 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حصين، عن أبي مالك في قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال: نزلت في اليهود، كانوا يقدمون صبيانهم يقولون:"ليست لهم ذنوب".
9742 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي مكين، عن عكرمة في قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال، كان أهل الكتاب يقدمون الغلمان الذين لم يبلغوا الحِنْث يصلُّون بهم، يقولون:"ليس لهم ذنوب"! فأنزل الله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، الآية. (1)
* * *
وقال آخرون: بل تزكيتهم أنفسهم، كانت قولهم:"إن أبناءنا سيشفعون لنا ويزكوننا".
*ذكر من قال ذلك:
9743 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، وذلك أن اليهود قالوا:"إن أبناءنا قد تُوُفُّوا، وهم لنا قربة عند الله، وسيشفعون ويزكوننا"! فقال الله لمحمد:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" إلى"ولا يظلمون فتيلا".
* * *
وقال آخرون: بل ذلك كان منهم، تزكية من بعضهم لبعض.
*ذكر من قال ذلك:
9744 - حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال، حدثنا أبي، عن أبيه،
__________
(1) الأثر: 9742 -"أبو مكين" هو: نوح بن ربيعة الأنصاري، مولاهم. مترجم في التهذيب.(8/454)
عن الأعمش، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال: قال عبد الله: إن الرجل ليغدو بدينه، ثم يرجع وما معه منه شيء! يلقى الرجل ليس يملك له نفعًا ولا ضرًا، فيقول:"والله إنك لذَيْتَ وذَيْتَ"، ولعله أن يرجع ولم يَحْلَ من حاجته بشيء، (1) وقد أسخط الله عليه. ثم قرأ:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم" الآية. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من قال: معنى"تزكية القوم"، الذين وصفهم الله بأنهم يزكون أنفسهم، وَصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا، وأنهم لله أبناء وأحبّاء، كما أخبر الله عنهم أنهم كانوا يقولونه. لأن ذلك هو أظهر معانيه، لإخبار الله عنهم أنهم إنما كانوا يزكون أنفسهم دون غيرها.
* * *
وأما الذين قالوا: معنى ذلك:"تقديمهم أطفالهم للصلاة"، فتأويل لا تدرك صحته إلا بخبر حجة يوجب العلم.
* * *
وأما قوله جل ثناؤه:"بل الله يزكي من يشاء"، فإنه تكذيب من الله المزكِّين أنفسهم من اليهود والنصارى، المبرِّئيها من الذنوب. يقول الله لهم: ما الأمر كما
__________
(1) في المطبوعة: "ويجعله أن يرجع"، وهو خطأ لا شك فيه، والصواب في المخطوطة. وقوله: "لم يحل من حاجة بشيء"، أي لم يظفر منها بشيء، ولم يصب شيئًا مما ابتغى، وهو لا يستعمل إلا مع النفي والجحد بهذا المعنى.
وقوله: "ذيت وذيت" من ألفاظ الكنايات، بمعنى: "كيت وكيت".
(2) الأثر: 9744 -"يحيى بن إبراهيم بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود المسعودي" سلفت ترجمته برقم: 5379.
و"قيس بن مسلم الجدلي العدواني" روى عن طارق بن شهاب، وروى عنه الأعمش، وسفيان الثوري وآخرون. قال أحمد"ثقة في الحديث، كان مرجئًا" وقال أحمد عن سفيان: "يقولون: ما رفع رأسه إلى السماء منذ كذا وكذا تعظيمًا لله".
و"طارق بن شهاب الأحمسي"، روى عنه الأربعة. ورأى طارق النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه مرسلا، وروى عن الخلفاء الأربعة، وبلال، وحذيفة، وخالد بن الوليد.(8/455)
زعمتم أنه لا ذنوب لكم ولا خطايا، وأنكم برآء مما يكرهه الله، ولكنكم أهل فِرْية وكذب على الله، وليس المزكَّي من زكى نفسه، ولكنه الذي يزكيه الله، والله يزكي من يشاء من خلقه فيطهره ويبرِّئه من الذنوب، بتوفيقه لاجتناب ما يكرهه من معاصيه، إلى ما يرضاه من طاعته.
* * *
وإنما قلنا إنّ ذلك كذلك، لقوله جل ثناؤه:"انظر كيف يفترون على الله الكذب"، وأخبر أنهم يفترون على الله الكذب بدعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الله قد طهرهم من الذنوب.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا (49) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا يظلم الله هؤلاء الذين أخبر عنهم أنهم يزكون أنفسهم ولا غيرهم من خلقه، فيبخسهم في تركه تزكيتهم، وتزكية من ترك تزكيته، وفي تزكية من زكى من خلقه = شيئًا من حقوقهم، ولا يضع شيئًا في غير موضعه، ولكنه يزكي من يشاء من خلقه، فيوفِّقه، ويخذل من يشاء من أهل معاصيه. كل ذلك إليه وبيده، وهو في كل ذلك غير ظالم أحدًا = ممن زكاه أو لم يزكه = فتيلا.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الفتيل".
فقال بعضهم: هو ما خرج من بين الإصبعين والكفين من الوسخ، إذا فتلتَ إحداهما بالأخرى.
*ذكر من قال ذلك:
9745 - حدثني سليمان بن عبد الجبار [قال، حدثنا محمد بن الصلت](8/456)
قال، حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الفتيل ما خرج من بين إصبعيك. (1) 9746 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق الهمداني، عن التيمي قال: سألت ابن عباس عن قوله:"ولا يظلمون فتيلا"، قال: ما فتلت بين إصبعيك.
9747 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن درهم أبي العلاء قال، سمعت أبا العالية، عن ابن عباس:"ولا يظلمون فتيلا"، قال: الفتيل، هو الذي يخرج من بين إصبعي الرجل. (2)
9748 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا يظلمون فتيلا"، والفتيل، هو أن تدلُك إصبعيك، (3) فما خرج بينهما فهو ذلك.
9749 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين،
__________
(1) الأثر: 9745 -"سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط" مضى برقم: 5994 = وكذلك مضت ترجمة: "محمد بن الصلت"، وترجمة"أبي كدينة: يحيى بن المهلب". هذا وقد كان الإسناد مخرومًا فيما رجحت، سقط منه ذكر"محمد بن الصلت" كما مضى في 5994، 7964، وكما سيأتي الإسناد نفسه برقم: 9799، ولأن سليمان بن عبد الجبار، لم يلحق"أبا كدينة".
و"قابوس" هو: قابوس بن أبي ظبيان الجنبي، روى عن أبيه حصين بن جندب. وهو ضعيف، لا يحتج به، كما قال ابن سعد. قال ابن حبان: "كان رديء الحفظ، ينفرد عن أبيه بما لا أصل له".
وأبوه: "حصين بن جندب الجنبي، أبو ظبيان. روى عن عمر، وعلي، وابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر وغيرهم من الصحابة والتابعين، وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 9747 -"يزيد بن درهم، أبي العلاء العجمي"، أخو: محمد بن درهم، روى عن أنس بن مالك، والحسن، وهذا هو يروي أيضًا عن أبي العالية، ولم يذكروه. روى عنه وكيع، وعبد الصمد بن عبد الوارث. قال الفلاس: "ثقة"، وقال ابن معين: "ليس بشيء". وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يخطئ كثيرًا". مترجم في ابن أبي حاتم 4 / 2 / 260، ولسان الميزان 6: 286. وانظر الأثر التالي: 9811، والتعليق عليه.
هذا، وكان في المطبوعة: "زيد بن درهم: ... "، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة"تدلك بين إصبعيك"، زاد"بين" وليست في المخطوطة.(8/457)
عن أبي مالك في قوله:"ولا يظلمون فتيلا"، قال: الفتيل: الوَسخ الذي يخرج من بين الكفين.
9750 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: الفتيل، ما فتلت به يديك، فخرج وَسَخ.
9751 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"ولا يظلمون فتيلا"، قال: ما تدلكه في يديك فيخرج بينهما.
* * *
وأناس يقولون: الذي يكون في بَطن النواة.
*ذكر من قال ذلك:
9752 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فتيلا"، قال: الذي في بطن النواة.
9753 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: الفتيل، الذي في بطن النواة.
9754 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني طلحة بن عمرو: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول، فذكر مثله.
9755 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول: الفتيل، الذي في شِقّ النواة.
9756 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن سعيد قال، حدثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد قال: الفتيل، في النَّوى.
9757 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا(8/458)
معمر، عن قتادة في قوله:"ولا يظلمون فتيلا"، قال: الفتيل الذي في شِقّ النواة.
9758 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: الفتيل، شق النواة.
9759 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الفتيل، الذي في بطن النواة.
9760 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الفتيل، الذي يكون في شِقّ النواة.
9761 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يظلمون فتيلا"، فتيل النواة.
9762 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن عطية قال: الفتيل، الذي في بطن النواة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الفتيل"، المفتول، صرف من"مفعول" إلى"فعيل" كما قيل:"صريع" و"دهين" من"مصروع" و"مدهون".
وإذ كان ذلك كذلك = وكان الله جل ثناؤه إنما قصد بقوله:"ولا يظلمون فتيلا"، الخبرَ عن أنه لا يظلم عبادَه أقلَّ الأشياء التي لا خطر لها، فكيف بما له خطر؟ = وكان الوسخ الذي يخرج من بين إصبعي الرجل أو من بين كفيه إذا فتل إحداهما على الأخرى، كالذي هو في شق النواة وبطنها، وما أشبه ذلك من
__________
(1) الأثر: 9762 -"أبو عامر" هو أبو عامر العقدي، عبد الملك بن عمرو، مضت ترجمته برقم: 4143.
و"قرة" هو قرة بن خالد السدوسي، روى عن أبي رجاء العطاردي، وابن سيرين، والحسن. وروى عنه شعبة، ويحيى بن سعيد القطان، وأبو داود الطيالسي، وغيرهم. مترجم في التهذيب و"عطية" هو: عطية بن سعد بن جنادة العوفي. مترجم في رقم: 305.(8/459)
انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50)
الأشياء التي هي مفتولة، مما لا خطر له، ولا قيمة = فواجبٌ أن يكون كل ذلك داخلا في معنى"الفتيل"، إلا أن يخرج شيئًا من ذلك ما يجب التسليم له، مما دل عليه ظاهر التنزيل.
* * *
القول في تأويل قوله: {انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: انظر، يا محمد، كيف يفتري هؤلاء الذين يزكون أنفسهم من أهل الكتاب = القائلون:"نحن أبناء الله وأحباؤه"، وأنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى، الزاعمون أنه لا ذنوب لهم = الكذبَ والزور من القول، فيختلقونه على الله ="وكفى به"، يقول: وحسبهم بقيلهم ذلك الكذبَ والزورَ على الله ="إثمًا مبينًا"، يعني أنه يبين كذبهم لسامعيه، ويوضح لهم أنهم أفَكَةٌ فجرة، (1) كما:-
9763 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم"، قال: هم اليهود والنصارى ="انظر كيف يفترون على الله الكذب" (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"ألم تر"، فيما سلف قريبًا: 452، تعليق: 1، والمراجع هناك = وتفسير"النصيب" فيما سلف: 427، تعليق: 3، والمراجع هناك.(8/460)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51)
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر بقلبك، يا محمد، إلى الذين أُعطوا حظًّا من كتاب الله فعلموه ="يؤمنون بالجبت والطاغوت"، يعني: يصدِّقون بالجبت والطاغوت، ويكفرون بالله، وهم يعلمون أن الإيمان بهما كفر، والتصديقَ بهما شرك.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الجبت" و"الطاغوت".
فقال بعضهم: هما صنمان كان المشركون يعبدونهما من دون الله.
*ذكر من قال ذلك:
9764 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني أيوب، عن عكرمة أنه قال:"الجبت" و"الطاغوت"، صنمان.
* * *
وقال آخرون:"الجبت" الأصنام، و"الطاغوت" تراجمة الأصنام. (1)
*ذكر من قال ذلك:
9765 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت"،"الجبت" الأصنام، و"الطاغوت"، الذين يكونون بين أيدي الأصنام يعبّرون عنها الكذبَ ليضلوا الناس.
* * *
وزعم رجال أنّ"الجبت"، الكاهن، و"الطاغوت"، رجل من اليهود يدعى
__________
(1) يعني بقوله: "تراجمة الأصنام"، الكهان، تنطق على ألسنة الأصنام، كأنها تقول للناس بلسانهم، ما قالته تلك بألسنتها.(8/461)
كعب بن الأشرف، وكان سيِّد اليهود.
* * *
وقال آخرون:"الجبت"، السحر، و"الطاغوت"، الشيطان.
*ذكر من قال ذلك:
9766 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد قال: قال عمر رحمه الله:"الجبت" السحر، و"الطاغوت" الشيطان. (1)
9767 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد العبسي، عن عمر مثله. (2)
9768 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد قال:"الجبت" السحر، و"الطاغوت" الشيطان.
9769 - حدثني يعقوب قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا زكريا، عن الشعبي قال:"الجبت"، السحر، و"الطاغوت"، الشيطان.
9770 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"يؤمنون بالجبت والطاغوت"، قال:"الجبت" السحر، و"الطاغوت"، الشيطان في صورة إنسان يتحاكمون إليه، وهو صاحب أمرهم.
9771 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد قال:"الجبت" السحر، و"الطاغوت"، الشيطان والكاهن.
* * *
__________
(1) الأثر: 9766 -"حسان بن فائد العبسي"، مضى برقم: 5834، وكان في المطبوعة في هذا الأثر والذي يليه: "حسان بن قائد العنسي". ومضى هذا الإسناد برقم: 5835.
(2) الأثر: 9767 - مضى برقم: 5834.(8/462)
وقال آخرون:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"، الشيطان.
*ذكر من قال ذلك:
9772 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان أبي يقول:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"، الشيطان.
* * *
وقال آخرون:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"، الكاهن.
*ذكر من قال ذلك:
9773 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"الجبت والطاغوت"، قال:"الجبت" الساحر، بلسان الحبشة، و"الطاغوت" الكاهن.
9774 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن رفيع قال:"الجبت"، الساحر، و"الطاغوت"، الكاهن.
9775 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي العالية أنه قال:"الطاغوت" الساحر، و"الجبت" الكاهن.
9776 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن داود، عن أبي العالية، في قوله:"الجبت والطاغوت"، قال: أحدهما السحر، والآخر الشيطان.
* * *
وقال آخرون:"الجبت" الشيطان، و"الطاغوت" الكاهن.
*ذكر من قال ذلك:
9777 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يؤمنون بالجبت والطاغوت"، كنا نحدَّث أن الجبت شيطان، والطاغوت الكاهن.(8/463)
9778 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
9779 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"الجبت" الشيطان، و"الطاغوت" الكاهن.
* * *
وقال آخرون:"الجبت" الكاهن، و"الطاغوت" الساحر. (1)
*ذكر من قال ذلك:
9780 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن سعيد بن جبير قال:"الجبت" الكاهن، و"الطاغوت" الساحر.
9781 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا عوف، عن محمد قال في الجبت والطاغوت، قال:"الجبت" الكاهن، والآخر الساحر.
* * *
وقال آخرون:"الجبت" حيي بن أخطب، و"الطاغوت"، كعب بن الأشرف.
*ذكر من قال ذلك:
9782 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"يؤمنون بالجبت والطاغوت"،"الطاغوت": كعب بن الأشرف، و"الجبت": حيي بن أخطب.
9783 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قال:"الجبت": حيي بن أخطب، و"الطاغوت": كعب بن الأشرف.
9784 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "والطاغوت الشيطان"، وصواب السياق ما أثبت.(8/464)
جويبر، عن الضحاك في قوله:"الجبت والطاغوت"، قال:"الجبت": حيي بن أخطب، و"الطاغوت": كعب بن الأشرف.
* * *
وقال آخرون:"الجبت" كعب بن الأشرف، و"الطاغوت" الشيطان.
*ذكر من قال ذلك:
9785 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قال:"الجبت": كعب بن الأشرف، و"الطاغوت": الشيطان، كان في صورة إنسان.
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل:"يؤمنون بالجبت والطاغوت"، أن يقال: يصدِّقون بمعبودَين من دون الله، يعبدونهما من دون الله، ويتخذونهما إلهين.
وذلك أن"الجبت" و"الطاغوت": اسمان لكل معظَّم بعبادةٍ من دون الله، أو طاعة، أو خضوع له، كائنًا ما كان ذلك المعظَّم، من حجر أو إنسان أو شيطان. وإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأصنام التي كانت الجاهلية تعبدها، كانت معظمة بالعبادة من دون الله = فقد كانت جُبوتًا وطواغيت. وكذلك الشياطين التي كانت الكفار تطيعها في معصية الله، وكذلك الساحر والكاهن اللذان كان مقبولا منهما ما قالا في أهل الشرك بالله. وكذلك حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف، لأنهما كانا مطاعين في أهل ملّتهما من اليهود في معصية الله والكفر به وبرسوله، فكانا جبتين وطاغوتين.
* * *
وقد بينت الأصل الذي منه قيل للطاغوت:"طاغوت"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 5: 419، وسائر الآثار في"الطاغوت" من رقم: 5834 - 5845.(8/465)
القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا (51) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويقولون للذين جحدوا وحدانية الله ورسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم =:"هؤلاء"، يعني بذلك: هؤلاء الذين وصفهم الله بالكفر ="أهدى"، يعني: أقوم وأعدل ="من الذين آمنوا"، يعني: من الذين صدَّقوا الله ورسوله وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم ="سبيلا"، يعني: طريقًا.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما ذلك مَثَلٌ. ومعنى الكلام: أن الله وصف الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود = بتعظيمهم غير الله بالعبادة والإذعان له بالطاعة = في الكفر بالله ورسوله ومعصيتهما، بأنهم قالوا: (1) إن أهل الكفر بالله أولى بالحق من أهل الإيمان به، وأن دين أهل التكذيب لله ولرسوله، أعدل وأصوبُ من دين أهل التصديق لله ولرسوله. وذكر أن ذلك من صفة كعب بن الأشرف، وأنه قائل ذلك.
ذكر الآثار الواردة بما قلنا:
9786 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما قدم كعب بن الأشرف مكة، قالت له قريش: أنت حَبْر أهل المدينة وسيدهم؟ (2) قال: نعم. قالوا: ألا ترى إلى هذا
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وأنهم قالوا" بالواو، والواو متصلة بالألف في المخطوطة، والصواب ما أثبته، وقوله: "بأنهم" متعلق بقوله: "إن الله وصف ... ".
(2) في المطبوعة: "خير أهل المدينة"، وفي المخطوطة"حبر"، وإن كانت غير منقوطة في كثير من المواضع. ووقع في لسان العرب مادة (صنبر) : "خير" وفي مادة (بتر) : "حبر"، فأثبتها ورجحتها، لأنهم إنما سألوه عن شأن الدين، والحبر: العالم من أهل الكتاب، فهو المسئول عن مثل ما سألوه عنه من أمر خير الدينين.(8/466)
الصُّنبور المنبتر من قومه، (1) يزعم أنه خير منا، ونحن أهل الحجيج وأهل السِّدانة وأهل السِّقاية؟ قال: أنتم خير منه. قال: فأنزلت: (إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) [سورة الكوثر: 3] ، وأنزلت:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت" إلى قوله:"فلن تجد له نصيرًا".
9787 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة في هذه الآية:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" ثم ذكر نحوه.
9788 - وحدثني إسحاق بن شاهين قال، أخبرنا خالد الواسطي، عن داود، عن عكرمة قال: قدم كعب بن الأشرف مكة، فقال له المشركون: احكم بيننا، وبين هذا الصنبور الأبتر، فأنت سيدنا وسيد قومك! فقال كعب: أنتم والله خيرٌ منه! فأنزل الله تبارك وتعالى:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، إلى آخر الآية. (2)
9789 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة: أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين من كفار قريش، فاستجاشهم على النبي صلى الله عليه وسلم، (3) وأمرهم أن
__________
(1) "الصنبور": سفعات تنبت في جذع النخلة، غير مستأرضة في الأرض. ثم قالوا للرجل الفرد الضعيف الذليل الذي لا أهل له ولا عقب ولا ناصر"صنبور". فأراد هؤلاء الكفار من قريش أن محمدًا صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي، صنبور نبت في جذع نخلة، فإذا قلع انقطع: فكذلك هو إذا مات، فلا عقب له. وكذبوا، ونصر الله رسوله وقطع دابر الكافرين.
و"المنبتر" و"الأبتر": المنقطع الذي لا عقب له.
(2) الأثر: 9788 -"إسحاق بن شاهين الواسطي"، مضى برقم: 8211، ولم نجد له ترجمة. و "خالد الواسطي"، هو: خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي" مضى برقم: 7211.
(3) "استجاش القوم": طلب منهم أن يجيشوا جيشًا.(8/467)
يغزوه، وقال: إنا معكم نقاتله. فقالوا: إنكم أهل كتاب، وهو صاحب كتاب، ولا نأمن أن يكون هذا مكرًا منكم! فإن أردت أن نخرج معك، فاسجد لهذين الصنمين وآمن بهما. ففعل. ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء، (1) ونسقي اللبن على الماء، ونصل الرحم، ونقري الضيف، ونطوف بهذا البيت، ومحمد قطع رحمه، وخرج من بلده؟ قال: بل أنتم خير وأهدى! فنزلت فيه:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا".
9790 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال: لما كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم واليهود من بني النضير ما كان، (2) حين أتاهم يستعينهم في دية العامريَّين، فهمّوا به وبأصحابه، (3) فأطلع الله رسوله على ما هموا به من ذلك. ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فهرب كعب بن الأشرف حتى أتى مكة، فعاهدهم على محمد، فقال له أبو سفيان: يا أبا سعد، إنكم قوم تقرؤون الكتابَ وتعلمون، ونحن قوم لا نعلم! فأخبرنا، ديننا خير أم دين محمد؟ قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم. فقال أبو سفيان: نحن قوم ننحر الكوماء، ونسقي الحجيج الماء، ونقري الضيف، ونعمر بيت ربنا، ونعبد آلهتنا التي كان يعبد آباؤنا، ومحمد يأمرنا أن نترك هذا ونتبعه! قال: دينكم خير من دين محمد، فاثبتوا عليه، ألا ترون أنّ محمدًا يزعم
__________
(1) "الكوماء": هي الناقة المشرقة السنام العاليته، وهذه خير النوق وأسمنها وأعزها عليهم، والجمع"كوم".
(2) في المطبوعة: "واليهود بني النضير"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) ذلك في سنة أربع من الهجرة، فأرادوا أن يغدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وتمالأوا على أن يلقوا عليه حجرًا من فوق جدار البيت الذي كان رسول الله جالسًا إلى جنبه، فأطلعه الله على ذلك من أمرهم، فقام وخرج راجعًا إلى المدينة، ثم أمر بالتهيؤ لحرب بني النضير، فحاصرهم، وأجلاهم، وفيهم نزلت"سورة الحشر" بأسرها. انظر سيرة ابن هشام 3: 199 - 213.(8/468)
أنه بُعِث بالتواضع، وهو ينكح من النساء ما شاء! وما نعلم مُلْكًا أعظم من ملك النساء!! (1) فذلك حين يقول:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا".
9791 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: نزلت في كعب بن الأشرف وكفار قريش، قال: كفار قريش أهدى من محمد! "عليه السلام" = قال ابن جريج: قدم كعب بن الأشرف، فجاءته قريش فسألته عن محمد، فصغَّر أمره ويسَّره، وأخبرهم أنه ضالٌّ. قال: ثم قالوا له: ننشدك الله، نحن أهدى أم هو؟ فإنك قد علمت أنا ننحر الكُوم، ونسقي الحجيج، ونعمر البيت، ونطعم ما هبَّت الريح؟ (2) قال: أنتم أهدى.
* * *
وقال آخرون: بل هذه الصفة، صفة جماعة من اليهود، منهم: حُيَيّ بن أخطب، وهم الذين قالوا للمشركين ما أخبر الله عنهم أنهم قالوه لهم.
ذكر الأخبار بذلك:
9792 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن قاله قال، أخبرني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الذين حَزَّبوا الأحزاب من قريش وغطفان وبني قريظة: حيي بن أخطب، وسلام بن أبي الحقيق أبو رافع، (3) والربيع بن الربيع بن أبي الحقيق، (4)
__________
(1) لم تزل هذه مقالة كل طاعن على رسول الله من المستشرقين وأذنابهم في كل أرض، والكفر كله ملة واحدة، والذي يلقى على ألسنتهم، هو الذي ألقى على لسان هذا اليهودي الفاجر، عدو الله وعدو رسوله.
(2) قوله: "نطعم ما هبت الريح"، يراد به معنى الدوام. ولو أرادوا به زمن الشتاء في القحط، لكان صوابًا.
(3) في المطبوعة: "وأبو رافع" بزيادة الواو، وهو خطأ: "أبو رافع" كنية سلام ابن أبي الحقيق. والصواب من المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.
(4) في المطبوعة: "والربيع بن أبي الحقيق" أسقط"بن الربيع"، والصواب من المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.(8/469)
وأبو عمار، (1) ووَحْوَح بن عامر، وهوذة بن قيس = فأما وحوح وأبو عمار وهوذة، (2) فمن بني وائل، وكان سائرهم من بني النضير = فلما قدموا على قريش قالوا: هؤلاء أحبار يهود وأهل العلم بالكتب الأوَل، فاسألوهم: أدينكم خير أم دين محمد؟ فسألوهم، فقالوا: بل دينكم خير من دينه، وأنتم أهدى منه وممن اتبعه! فأنزل الله فيهم:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت"، إلى قوله:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا". (3)
9793 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت"، الآية، قال: ذُكر لنا أن هذه الآية أنزلت في كعب بن الأشرف، وحيي بن أخطب، ورجلين من اليهود من بني النضير، لقيا قريشًا بمَوْسم، (4) فقال لهم المشركون: أنحن أهدى أم محمد وأصحابه؟ فإنا أهل السِّدانة والسقاية، وأهل الحرم؟ فقالا لا بل أنتم أهدى من محمد وأصحابه! وهما يعلمان أنهما كاذبان، إنما حملهما على ذلك حَسَد محمد وأصحابه.
* * *
وقال آخرون: بل هذه صفة حيي بن أخطب وحده، وإياه عنى بقوله:"ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا".
*ذكر من قال ذلك:
9794 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" إلى آخر الآية، قال: جاء حيي بن
__________
(1) "أبو عمار" في المطبوعة في الموضعين"أبو عامر"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.
(2) "أبو عمار" في المطبوعة في الموضعين"أبو عامر"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وهو مطابق لما في سيرة ابن هشام.
(3) الأثر: 9792 - سيرة ابن هشام 2: 210، وهو تابع الآثار التي آخرها رقم: 9724.
(4) الموسم: مجتمع الناس، في سوق أو في حج أو غيرهما.(8/470)
أخطب إلى المشركين فقالوا: يا حيي، إنكم أصحاب كتب، فنحن خير أم محمد وأصحابه؟ فقال: نحن وأنتم خير منهم! فذلك قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" إلى قوله:"ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في ذلك، قولُ من قال: إن ذلك خبر من الله جل ثناؤه عن جماعة من أهل الكتاب من اليهود. وجائز أن تكون كانت الجماعةَ الذين سماهم ابن عباس في الخبر الذي رواه محمد بن أبي محمد عن عكرمة أو سعيد، = أو يكون حُيَيًّا وآخر معه، (1) إما كعبًا، وإما غيره.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أن يكون"، وهو خطأ لا ريب فيه، صوابه ما أثبت.(8/471)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أولئك"، هؤلاء الذين وصف صفتهم أنهم أوتوا نصيبًا من الكتاب وهم يؤمنون بالجبت والطاغوت، هم"الذين لعنهم الله"، يقول: أخزاهم الله فأبعدهم من رحمته، بإيمانهم بالجبت والطاغوت، وكفرهم بالله ورسوله عنادًا منهم لله ولرسوله، وبقولهم للذين كفروا:"هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا" ="ومن يلعن الله"، يقول: ومن يخزه الله فيبعده من رحمته ="فلن تجد له نصيرًا"، يقول: فلن تجد له، يا محمد، ناصرًا ينصره من عقوبة الله ولعنته التي تحلّ به، فيدفع ذلك عنه، كما:-
9795 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن(8/471)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53)
قتادة قال: قال كعب بن الأشرف وحيي بن أخطب ما قالا = يعني من قولهما:"هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا" = وهما يعلمان أنهما كاذبان، فأنزل الله:"أولئك الذين لعنهم الله ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرًا". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أم لهم نصيب من الملك"، أم لهم حظ من الملك، يقول: ليس لهم حظ من الملك، (2) كما:-
9796 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أم لهم نصيب من الملك"، يقول: لو كان لهم نصيب من الملك، إذًا لم يؤتوا محمدًا نقيرًا.
9797 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: قال الله:"أم لهم نصيب من الملك"، قال: فليس لهم نصيب من الملك، [لم يؤتوا الناس نقيرًا] ="فإذا لا يؤتون الناس نقيرًا"، (3) ولو كان لهم نصيب وحظ من الملك، لم يكونوا إذًا يعطون الناس نقيرًا، من بُخْلهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى:"النقير".
فقال بعضهم: هو النقطة التي في ظهر النواة.
__________
(1) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف: 439، تعليق: 2، والمراجع هناك = وتفسير"النصير" فيما سلف: 430، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"النصيب" فيما سلف: 460، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة حذف جملة"لم يؤتوا الناس نقيرًا" كلها، وهي في الحقيقة جملة قلقة، فأثبتها كما هي بين قوسين.(8/472)
*ذكر من قال ذلك:
9798 - حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"نقيرًا"، يقول: النقطة التي في ظهر النواة.
9799 - حدثني سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا محمد بن الصلت قال، حدثنا أبو كدينة، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: النقير الذي في ظهر النواة. (1)
9800 - حدثني جعفر بن محمد الكوفي المروزي قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: النقير وَسط النواة. (2)
9801 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا"،"النقير" نقيرُ النواة: وَسطها.
9802 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أم لهم نصيب من الملك فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا"، يقول: لو كان لهم نصيب من الملك، إذًا لم يؤتوا محمدًا نقيرًا = و"النقير"، النكتة التي في وَسَط النواة.
9803 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني طلحة بن عمرو: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول: النقير الذي في ظَهر النواة.
__________
(1) الأثر: 9799 - انظر التعليق على الأثر رقم: 9745.
(2) الأثر: 9800 -"جعفر بن محمد الكوفي المروزي"، لم أعرف من هو، ولكني رأيت أبا جعفر روى عنه في التاريخ 5: 18، دون ذكر"المروزي"، و"جعفر بن محمد" كثير، ولكن لم أجد هذه النسب التي ذكرها الطبري. و"عبيد الله" لم أعرفه.(8/473)
9804 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال:"النقير"، النقرة التي تكون في ظهر النواة.
9805 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك قال:"النقير"، الذي في ظهر النواة.
* * *
وقال آخرون:"النقير"، الحبة التي تكون في وَسَط النواة.
*ذكر من قال ذلك:
9806 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"نقيرًا"، قال:"النقير"، حبة النواة التي في وَسَطها.
9807 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإذًا لا يؤتون الناس نقيرًا"، قال: النقير، حبة النواة التي في وسطها.
9808 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان بن سعيد، عن منصور، عن مجاهد قال:"النقير"، في النوى.
9809 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول:"النقير"، نقير النواة الذي في وسطها.
9810 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"النقير"، نقير النواة الذي يكون في وَسط النواة.
* * *(8/474)
وقال آخرون: معنى ذلك: نَقْرُ الرجل الشيء بَطَرف أصابعه.
*ذكر من قال ذلك:
9811 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن درهم أبي العلاء قال، سمعت أبا العالية: ووضع ابن عباس طرف الإبهام على ظهر السبابة، ثم رفعهما وقال: هذا النقير. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال، إن الله وصف هؤلاء الفرْقة من أهل الكتاب بالبخل باليسير من الشيء الذي لا خطر له، ولو كانوا ملوكًا وأهلَ قدرة على الأشياء الجليلة الأقدار. فإذْ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بمعنى"النقير"، أن يكون أصغرَ ما يكون من النُّقر. وإذا كان ذلك أولى به، فالنقرة التي في ظهر النواة من صغار النُّقر، وقد يدخل في ذلك كل ما شَاكلها من النُّقر. ورفع قوله:"لا يؤتون الناس"، ولم ينصبْ بـ "إذَنْ"، ومن حكمها أن تنصب الأفعال المستقبلة إذا ابتدئ الكلام بها، لأن معها"فاء". ومن حكمها إذا دخل فيها بعضُ حروف العطف، أن توجه إلى الابتداء بها مرة، وإلى النقل عنها إلى غيرها أخرى. وهذا الموضع مما أريد بـ "الفاء" فيه، النقل عن"إذَنْ" إلى ما بعدها، وأن يكون معنى الكلام: أم لهم نصيب، فلا يؤتون الناس نقيرًا إذَنْ. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 9811 -"يزيد بن درهم، أبي العلاء" مضى برقم: 9747 في مثل هذا الإسناد، وقد علقت عليه هناك. وكان في المطبوعة هنا أيضًا"زيد بن درهم"، وقد بينت خطأ ذلك هناك. أما المخطوطة هنا، فكان فيها: "عن ابن در بن درهم" سيئة الكتابة، متصلة الراءين، غير منقوطة.
(2) القول في"إذن" استوفاه الفراء في معاني القرآن 1: 273، 274.(8/475)
أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54)
القول في تأويل قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أم يحسدون الناس"، أم يحسد هؤلاء الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب من اليهود، كما:-
9812 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أم يحسدون الناس"، قال: يهود.
9813 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9814 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة مثله.
* * *
وأما قوله:"الناس"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عَنَى الله به.
فقال بعضهم: عنى الله بذلك محمدًا صلى الله عليه وسلم خاصةً.
*ذكر من قال ذلك:
9815 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال، أخبرنا هشيم، عن خالد، عن عكرمة في قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، قال:"الناس" في هذا الموضع، النبيّ صلى الله عليه وسلم خاصةً.
9816 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.(8/476)
9817 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس مثله.
9818 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، قال:"الناس"، محمدًا صلى الله عليه وسلم.
9819 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول، فذكر نحوه.
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله به العرب.
*ذكر من قال ذلك:
9820 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، أولئك اليهود، حسدوا هذا الحيَّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنّ الله عاتب اليهودَ الذين وصف صفتهم في هذه الآيات، فقال لهم في قيلهم للمشركين من عبدة الأوثان إنهم أهدى من محمد وأصحابه سبيلا على علم منهم بأنهم في قيلهم ما قالوا من ذلك كذَبة =: أتحسدون محمدًا وأصحابه على ما آتاهم الله من فضله. (1)
* * *
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأن ما قبل قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، مضى بذّم القائلين من اليهود للذين كفروا:"هؤلاء أهدىَ من الذين آمنوا سبيلا"، فإلحاق قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، بذمهم على ذلك، وتقريظ الذين آمنوا الذين قيل فيهم ما قيل = أشبهُ
__________
(1) في المطبوعة: "أم يحسدون"، والصواب من المخطوطة.(8/477)
وأولى، ما لم تأت دلالة على انصراف معناه عن معنى ذلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل"الفضل" الذي أخبر الله أنه آتى الذين ذكرهم في قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله". (1) فقال بعضهم: ذلك"الفضل" هو النبوّة.
*ذكر من قال ذلك:
9821 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، حسدوا هذا الحيَّ من العرب على ما آتاهم الله من فضله. بعث الله منهم نبيًا، فحسدوهم على ذلك.
9822 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"على ما آتاهم الله من فضله"، قال: النبوة.
وقال آخرون: بل ذلك"الفضل" الذي ذكر الله أنه آتاهموه، هو إباحته ما أباح لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم من النساء، ينكح منهن ما شاء بغير عدد. قالوا: وإنما يعني: بـ "الناس"، محمدًا صلى الله عليه وسلم، على ما ذكرتُ قبل.
*ذكر من قال ذلك:
9823 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله" الآية، وذلك أن أهل الكتاب قالوا:"زعم محمد أنه أوتي ما أوتي في تواضع، وله تسع نسوة، ليس همه إلا النكاح! فأيّ ملك أفضَلُ من هذا"! فقال الله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله".
9824 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا
__________
(1) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف في فهارس اللغة.(8/478)
أسباط، عن السدي:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، يعني: محمدًا، أن ينكح ما شَاء من النساء.
9825 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله"، وذلك أن اليهود قالوا:"ما شأن محمد أُعطي النبوّة كما يزعم، وهو جائع عارٍ، وليس له هم إلا نكاحُ النساء؟ " فحسدوه على تزويج الأزواج، وأحل الله لمحمد أن ينكح منهن ما شاء أن ينكح. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، قولُ قتادة وابن جريج الذي ذكرناه قبل: أن معنى"الفضل" في هذا الموضع: النبوّة التي فضل الله بها محمدًا، وشرّف بها العرب، إذ آتاها رجلا منهم دون غيرهم = لما ذكرنا من أن دلالة ظاهر هذه الآية، تدلّ على أنها تقريظٌ للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رحمة الله عليهم، (2) على ما قد بينا قبل. وليس النكاح وتزويجُ النساء = وإن كان من فضْل الله جل ثناؤهُ الذي آتاه عباده = بتقريظ لهم ومدح.
* * *
__________
(1) الأثر: 9825 - في المخطوطة والمطبوعة: "حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت الضحاك يقول"، أسقط من الإسناد ما أثبته. وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 9819.
وقد أسلفت أن مقالة اليهود هذه، قد تلقفها من بعدهم أهل الضغن على محمد رسول الله، ولا يزالون يبثونها في كتبهم، وقد تعلق بها أشياعهم من أهل الضلالة المتعبدين لسادتهم من المستشرقين في زماننا هذا.
(2) في المطبوعة: "رضي الله عنهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد فعلت ذلك مرارًا دون أن أنبه عليه في بعض المواضع.(8/479)
القول في تأويل قوله: {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أم يحسد هؤلاء اليهود = الذين وصف صفتهم في هذه الآيات = الناسَ على ما آتاهم الله من فضله، من أجل أنهم ليسوا منهم؟ فكيف لا يحسدون آل إبراهيم، فقد آتيناهم الكتاب = ويعني بقوله:"فقد آتينا آل إبراهيم"، فقد أعطينا آل إبراهيم، يعني: أهله وأتباعه على دينه (1) "الكتاب"، يعني كتاب الله الذي أوحاه إليهم، وذلك كصحف إبراهيم وموسى والزّبور، وسائر ما آتاهم من الكتب.
* * *
= وأما"الحكمة"، فما أوحى إليهم مما لم يكن كتابًا مقروءًا (2) "وآتيناهم ملكًا عظيمًا".
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الملك العظيم" الذي عناه الله في هذه الآية. (3)
فقال بعضهم: هو النبوّة.
*ذكر من قال ذلك:
9826 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"أم يحسدون الناس"، قال: يهود ="على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب"، وليسوا منهم ="والحكمة وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، قال: النبوّة.
__________
(1) انظر تفسير"آل" فيما سلف 2: 37 / 3: 222، تعليق: 1 / 6: 326.
(2) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 7: 369، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148 - 150 / 2: 488 / 5: 312، 314، 371 / 6: 299، 300.(8/480)
9827 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله = إلا أنه قال:"ملكًا"، النبوّة.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك تحليلُ النساء. قالوا: وإنما عنى الله بذلك: أم يحسدون محمدًا على ما أحلّ الله له من النساء، فقد أحل الله مثل الذي أحله له منهن، لداود وسليمان وغيرهم من الأنبياء، فكيف لم يحسدوهم على ذلك، وحسدوا محمدًا عليه السلام؟
*ذكر من قال ذلك:
9828 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فقد آتينا آل إبراهيم"، سليمان وداود ="الحكمة"، يعني: النبوة ="وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، في النساء، فما باله حَلّ لأولئك وهم أنبياء: أن ينكح داود تسعًا وتسعين امرأة، وينكح سليمان مئة، ولا يحل لمحمد أن ينكح كما نكحوا؟
* * *
وقال آخرون: بل معنى قوله:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، الذي آتى سليمان بن داود.
*ذكر من قال ذلك:
9829 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا". يعني ملكَ سليمان.
* * *
وقال آخرون: بل كانوا أُيِّدوا بالملائكة.
*ذكر من قال ذلك:
9830 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا(8/481)
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن همام بن الحارث:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا"، قال: أُيِّدوا بالملائكة والجنود.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية = وهي قوله:"وآتيناهم ملكًا عظيمًا" = القولُ الذي رُوي عن ابن عباس أنه قال:"يعني ملك سليمان". لأن ذلك هو المعروف في كلام العرب، دون الذي قال إنه ملك النبوّة، ودون قول من قال: إنه تحليلُ النساء والملك عليهن. (1) لأن كلام الله الذي خوطب به العرب، غيرُ جائز توجيهه إلا إلى المعروف المستعمل فيهم من معانيه، إلا أن تأتي دلالةٌ أو تقوم حُجة على أن ذلك بخلاف ذلك، يجبُ التسليم لها.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن الذين أوتوا الكتاب = من يهود بني إسرائيل، الذين قال لهم جل ثناؤه:"آمنوا بما نزلنا مصدقًا لما معكم من قبل أن نطمس وجوهًا فنردها على أدبارها" ="مَنْ آمن به"، يقول: من صدَّق بما أنزلنا على محمد صلى الله عليه وسلم مصدّقًا لما معهم ="ومنهم من صدّ عنه"، ومنهم من أعرَض عن التصديق به، (2) كما:-
9831 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمنهم من آمن به"، قال: بما أنزل على محمد من يهود ="ومنهم من صدّ عنه".
__________
(1) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148 - 150 / 2: 488 / 5: 312، 314، 371 / 6: 299، 300.
(2) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 4: 300 / 7: 53.(8/482)
9832 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دلالة على أن الذين صدّوا عما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم، من يهود بني إسرائيل الذين كانوا حوالَيْ مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما رَفعَ عنهم وعيدَ الله الذي توعِّدهم به في قوله: (آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا) في الدنيا، (1) وأخرت عقوبتهم إلى يوم القيامة، لإيمان من آمن منهم، وأن الوعيدَ لهم من الله بتعجيل العقوبة في الدنيا، إنما كان على مقام جميعهم على الكفر بما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فلما آمن بَعضُهم، خرجوا من الوعيد الذي توعَّده في عاجل الدنيا، وأخرت عقوبةُ المقيمين على التكذيب إلى الآخرة، فقال لهم: كفاكم بجهنم سعيرًا. (2)
* * *
ويعني بقوله:"وكفى بجهنم سعيرًا"، وحسبكم، أيها المكذبون بما أنزلت على محمد نبيي ورسولي ="بجهنم سعيرًا"، يعني: بنار جهنم، تُسعَر عليكم = أي: تُوقدُ عليكم.
* * *
= وقيل:"سعيرًا"، أصله"مسعورًا"، من"سُعِرت تُسعَر فهي مسعورة"، كما قال الله: (وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) [سورة التكوير: 12] ، ولكنها صرفت إلى"فعيل"، كما قيل:"كف خضيب"، و"لحية دهين"، بمعنى: مخضوبة ومدهونة - و"السعير"، الوقود. (3)
* * *
__________
(1) هي الآية السالفة من"سورة النساء" رقم: 47.
(2) انظر ما سلف ص: 445س: 4 وما بعده.
(3) انظر تفسير"السعير" فيما سلف: 30.(8/483)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}
قال أبو جعفر: هذا وعيد من الله جل ثناؤه للذين أقاموا على تكذيبهم بما أنزل الله على محمد من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر الكفار، وبرسوله. يقول الله لهم: إن الذين جحدوا ما أنزلتُ على رسولي محمد صلى الله عليه وسلم، من آياتي = يعني: من آيات تنزيله، ووَحي كتابه، وهي دلالاته وحججه على صدق محمد صلى الله عليه وسلم = فلم يصدقوا به من يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر أهل الكفر به ="سوف نصليهم نارًا"، يقول: سوف ننضجهم في نارٍ يُصلون فيها = أي يشوون فيها (1) ="كلما نضجت جلودهم"، يقول: كلما انشوت بها جلودهم فاحترقت ="بدلناهم جلودًا غيرها"، يعني: غير الجلود التي قد نضجت فانشوت، كما:-
9833 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن ثوير، عن ابن عمر:"كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها"، قال: إذا احترقت جلودهم بدّلناهم جلودًا بيضًا أمثالَ القراطيس. (2)
9834 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الذين كفروا بآياتنا سوف نصليهم نارًا كلما نضجت جلودهم
__________
(1) انظر تفسير"الإصلاء" فيما سلف: 27 - 29، 231.
(2) الأثر: 9833 -"ثوير"، هو: ثوير بن أبي فاختة سعيد بن علاقة الهاشمي. مضت ترجمته برقم: 3212، 5414. وفي المطبوعة: "نوير"، وفي المخطوطة غير منقوط.
في المطبوعة: "جلودًا بيضاء"، وهو خطأ، والصواب في المخطوطة.
و"القراطيس" جمع"قرطاس": وهو الصحيفة البيضاء التي يكتب فيها.(8/484)
بدلناهم جلودًا غيرَها"، يقول: كلما احترقت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرَها.
9835 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كلما نضجت جلودهم"، قال: سمعنا أنه مكتوب في الكتاب الأول: جلدُ أحدهم أربعون ذراعًا، (1) وسِنُّه سبعون ذراعًا، وبطنه لو وضع فيه جبل وَسِعه. (2) فإذا أكلت النار جلودهم بُدّلوا جلودًا غيرها.
9836 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قال: بلغني عن الحسن:"كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها"، قال: ننضجهم في اليوم سبعين ألف مرة.
9837 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو عبيدة الحداد، عن هشام بن حسان، عن الحسن قوله:"كلما نضجت جلودهم بدلناهم غيرها"، قال: تنضج النار كل يوم سبعين ألف جلد. قال: وغلظ جلد الكافر أربعون ذراعًا، والله أعلم بأيِّ ذراع! (3) .
* * *
قال أبو جعفر: فإن سأل سائل فقال: وما معنى قوله جل ثناؤه:"كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها"؟ وهل يجوز أن يبدّلوا جلودًا غير جلودهم التي كانت لهم في الدنيا، فيعذَّبوا فيها؟ فإن جاز ذلك عندك، فأجز أن يُبدَّلوا أجسامًا وأرواحًا غير أجسامهم وأرواحهم التي كانت لهم في الدنيا فتعذّب! وإن أجزت ذلك، لزمك أن يكون المعذبون في الآخرة بالنار، غيرُ الذين أوعدهم الله العقابَ على كفرهم به ومعصيتهم إياه، وأن يكون الكفار قد ارتفعَ عنهم العذاب!!
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أن جلده ... "، وأثبت ما في المخطوطة. وعنى بذلك غلظ الجلد، كما سيأتي في رقم: 9837.
(2) في المطبوعة: "لوسعه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر: 9837 -"أبو عبيدة الحداد"، هو: عبد الواحد بن واصل السدوسي. مضت ترجمته برقم: 8284.
و"هشام بن حسان القردوسي" مضى برقم: 2827.(8/485)
قيل: إن الناس اختلفوا في معنى ذلك.
فقال بعضهم: العذاب إنما يصل إلى الإنسان الذي هو غير الجلد واللحم، (1) وإنما يحرق الجلد ليصل إلى الإنسان ألم العذاب. وأما الجلد واللحم، فلا يألمان. قالوا: فسواء أعيد على الكافر جلدهُ الذي كان له في الدنيا أو جلدٌ غيره، إذ كانت الجلود غير آلمة ولا معذَّبة، وإنما الآلمةُ المعذبةُ: النفسُ التي تُحِس الألم، ويصل إليها الوجع. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فغير مستحيل أن يُخْلق لكل كافر في النار في كل لحظة وساعة من الجلود ما لا يحصى عدده، ويحرق ذلك عليه، ليصل إلى نفسه ألم العذاب، إذ كانت الجلود لا تألَمُ.
* * *
وقال آخرون: بل الجلودُ تألم، واللحمُ وسائرُ أجزاء جِرْم بني آدم. وإذا أحرق جلدهُ أو غيره من أجزاء جسده، وصل ألم ذلك إلى جميعه. قالوا: ومعنى قوله:"كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودًا غيرها": بدلناهم جلودًا غير محترقة. وذلك أنها تعاد جديدة، والأولى كانت قد احترقتْ، فأعيدت غير محترقة، فلذلك قيل:"غيرها"، لأنها غير الجلود التي كانت لهم في الدنيا، التي عصوا الله وهى لهم. قالوا: وذلك نظيرُ قول العرب للصّائغ إذا استصاغته خاتمًا من خاتم مَصُوغ، (2) بتحويله عن صياغته التي هُو بها، إلى صياغة أخرى:"صُغْ لي من هذا الخاتم خاتمًا غيره"، فيكسره ويصوغ له منه خاتمًا غيره، والخاتم المصوغ بالصّياغة الثانية هو الأول، ولكنه لما أعيد بعد كسره خاتمًا قيل:"هو غيره". قالوا: فكذلك معنى قوله:"كلما نضجت جلودهم بدّلناهم جلودًا غيرها"، لما
__________
(1) في المخطوطة: "الذي هو الجلد واللحم"، وهو لا يستقيم، وأصاب ناشر المطبوعة الأولى في زيادة"غير".
(2) "استصاغه خاتما": طلب إليه أن يصوغ له خاتمًا. وهذه صيغة لم تذكرها كتب اللغة، وهي عربية معرقة، وقياس صحيح.(8/486)
احترقت الجلود ثم أعيدت جديدة بعد الاحتراق، (1) قيل:"هي غيرها"، على ذلك المعنى.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"كلما نضجت جلودهم"، (2) سرابيلهم، بدلناهم سرابيل من قَطِران غيرها. فجعلت السرابيل [من] القطران لهم جلودًا، (3) كما يقال للشيء الخاص بالإنسان:"هو جِلدة ما بين عينيه ووجهه"، لخصُوصه به. قالوا: فكذلك سرابيل القطران التي قال الله في كتابه: (سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ) [سورة إبراهيم: 50] ، لما صارت لهم لباسًا لا تفارق أجسامهم، جعلت لهم جلودًا، فقيل: كلما اشتعل القَطِران في أجسامهم واحترق، بدلوا سرابيل من قطران آخر. قالوا: وأما جلود أهل الكفر من أهل النار، فإنها لا تحترق، (4) لأن في احتراقها = إلى حال إعادتها = فناءَها، (5) وفي فنائها رَاحتها. قالوا: وقد أخبر الله تعالى ذكره عنها: أنهم لا يموتون ولا يخفف عنهم من عذابها. قالوا: وجلود الكفار أحد أجسامهم، ولو جاز أن يحترق منها شيء فيفنى ثم يعاد بعد الفناء في النار، جاز ذلك في جميع أجزائها. وإذا جاز ذلك، وجب أن يكون جائزًا عليهم الفناء، ثم الإعادة والموت، ثم الإحياء، وقد أخبر الله عنهم أنهم لا يموتون. قالوا: وفي خبره عنهم أنهم لا يموتون، دليل واضح أنه لا يموت شيء من أجزاء أجسامهم، والجلود أحدُ تلك الأجزاء.
* * *
وأما معنى قوله:"ليذوقوا العذاب"، فإنه يقول: فعلنا ذلك بهم، ليجدوا ألم العذاب وكربه وشدته، بما كانوا في الدنيا يكذّبون آيات الله ويجحدونها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "الاحتراق"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وقال آخرون: معنى ذلك"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) الزيادة التي بين القوسين، لا غنى عنها.
(4) في المطبوعة: "لا تحرق" والجيد ما في المخطوطة كما أثبته.
(5) يعني: أنها عندئذ تفنى حتى تعاد مرة أخرى، وفناؤه يوجب فترة يخف فيها عنهم العذاب. وهذا باطل كما سترى في الحجج التالية.(8/487)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) }
قال أبو جعفر: يقول: إن الله لم يزل (1) ="عزيزًا" في انتقامه ممن انتقم منه من خلقه، لا يقدر على الامتناع منه أحد أرادَه بضرّ، ولا الانتصار منه أحدٌ أحلّ به عقوبة ="حكيمًا" في تدبيره وقضائه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلا ظَلِيلا (57) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"والذين آمنوا وعملوا الصالحات"، والذين آمنوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وصدّقوا بما أنزل الله على محمد مصدّقًا لما معهم من يهود بني إسرائيل وسائر الأمم غيرهم ="وعملوا الصالحات"، يقول: وأدّوا ما أمرهم الله به من فرائضه، واجتنبوا ما حرّم الله عليهم من معاصيه، وذلك هو"الصالح" من أعمالهم ="سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار"، يقول: سوف يدخلهم الله يوم القيامة ="جنات"، يعني: بساتين (3) ="تجري من تحتها الأنهار"، يقول: تجري من تحت تلك الجنات الأنهار ="خالدين فيها أبدًا"، يقول: باقين فيها أبدًا بغير نهاية ولا انقطاع، دائمًا ذلك لهم فيها أبدًا ="لهم فيها أزواج"، يقول: لهم في تلك الجنات التي وصف صفتها ="أزواج
__________
(1) انظر تفسير"كان" بمعنى: لم يزل فيما سلف: 426، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"عزيز" و"حكيم" في فهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"جنة" فيما سلف: 7: 494، تعليق: 4، والمراجع هناك.(8/488)
مطهرة"، يعني: بريئات من الأدناس والرَّيْب والحيض والغائط والبول والحَبَل والبُصاق، وسائر ما يكون في نساء أهل الدنيا. وقد ذكرنا ما في ذلك من الآثار فيما مضى قبل، وأغنى ذلك عن إعادتها. (1)
* * *
وأما قوله:"وندخلهم ظِلا ظليلا"، فإنه يقول: وندخلهم ظلا كَنينًا، كما قال جل ثناؤه: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ) [سورة الواقعة: 30] ، وكما:-
9838 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن = وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر = قالا جميعًا، حدثنا شعبة قال، سمعت أبا الضحاك يحدّث، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: إنّ في الجنة لشجرةً يسيرُ الراكب في ظلّها مئة عام لا يقطعها، شجرةُ الخلد. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 395 - 397 / 6: 261، 262.
(2) الحديث: 9838 - عبد الرحمن: هو ابن مهدي.
أبو الضحاك البصري: تابعي، لم يعرف إلا بهذا الحديث، ولم يرو عنه أحد غير شعبة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 395.
والحديث رواه أحمد في المسند: 9870، عن محمد بن جعفر وحجاج، و: 9951، عن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي - ثلاثتهم عن شعبة. (المسند 2: 455، 462 حلبي) .
وذكر الحافظ في المزي في تهذيب الكمال (مخطوط مصور) أنه رواه ابن ماجه في التفسير.
ونقله ابن كثير 2: 490، عن هذا الموضع من الطبري.
وأصل الحديث ثابت عن أبي هريرة، من أوجه كثيرة، في المسند والصحيحين وغيرهما، دون زيادة"شجرة الخلد". انظر المسند: 7490. وقد أشرنا لكثير من طرقه هناك.(8/489)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ}
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عُني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عني بها ولاة أمور المسلمين.
*ذكر من قال ذلك:
9839 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا أبو أسامة، عن أبي مكين، عن زيد بن أسلم قال: نزلت هذه الآية:"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، في ولاة الأمر. (1)
9840 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ليث، عن شهر قال: نزلت في الأمراء خاصة"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".
9841 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا إسماعيل، عن مصعب بن سعد قال، قال علي رضي الله عنه كلماتٍ أصاب فيهن:"حقٌّ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله، وأن يؤدِّيَ الأمانة، وإذا فعل ذلك، فحقّ على الناس أن يسمعوا، وأن يُطيعوا، وأن يجيبوا إذا دُعوا". (2)
9842 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل عن مصعب بن سعد، عن علي بنحوه.
__________
(1) الأثر: 9839 -"أبو أسامة" هو: حماد بن أسامة بن زيد القرشي، مضى برقم: 5265. و"أبو مكين" هو: نوح بن ربيعة، مضى برقم: 9742.
(2) الأثر: 9841 -"مصعب بن سعد بن أبي وقاص الزهري". روى عن أبيه، وعلي، وطلحة، وعكرمة ابن أبي جهل، وغيرهم، تابعي ثقة، قال ابن سعد: "كان ثقة كثير الحديث". مترجم في التهذيب.(8/490)
9843 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا موسى بن عمير، عن مكحول في قول الله:"وأولي الأمر منكم"، قال: هم أهلُ الآية التي قبلها:"إن الله يأمرُكم أن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها"، إلى آخر الآية.
9844 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا ابن زيد قال، قال أبي: هم الوُلاة، أمرهم أن يؤدّوا الأمانات إلى أهلها.
وقال آخرون: أمر السلطان بذلك: أن يعِظوا النساء. (1)
*ذكر من قال ذلك:
9845 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن الله يأمرُكم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، قال: يعني السلطان، يعظون النساء. (2)
* * *
وقال آخرون: الذي خوطب بذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم في مفتاح الكعبة، أمر برَدّها على عثمان بن طلحة.
*ذكر من قال ذلك:
9846 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، قال: نزلت في عُثمان بن طلحة بن أبي طلحة، قَبض منه النبي صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة، ودخل به البيت يوم الفتح، (3) فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدعا عثمان
__________
(1) في المطبوعة: "أن يعطوا الناس"، غير ما في المخطوطة، وهو الذي أثبته، ولكنه كان في المخطوطة غير منقوط، فلم يحسن قراءته، فكتب ما لا معنى له. والمقصود بذلك أن على الأمراء أن يعظوا النساء في النشوز وغيره، حتى يردوهن إلى أزواجهن. وهو القول المنسوب إلى ابن عباس في كتب التفسير.
(2) في المطبوعة: "يعظون الناس"، وهو خطأ، وانظر التعليق السالف.
(3) في المطبوعة: "مفاتيح الكعبة، ودخل بها البيت"، وكان في المخطوطة: "مفاتيح الكعبة ودخل به البيت"، ورد اللفظ مفردًا"المفتاح" في هذا الأثر والذي يليه، وكذلك نقله ابن كثير في تفسيره 2: 492"مفتاح الكعبة" بالإفراد، فصححت نص المخطوطة، كما في ابن كثير.(8/491)
فدفع إليه المفتاح. قال: وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتلو هذه الآية: فداهُ أبي وأمي! (1) ما سمعته يَتلوها قبل ذلك!
9847 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا الزنجي بن خالد، عن الزهري قال: دفعه إليه وقال: أعينوه. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قولُ من قال: هو خطاب من الله ولاةَ أمور المسلمين بأداء الأمانة إلى من وَلُوا أمره في فيئهم وحقوقهم، وما ائتمنوا عليه من أمورهم، بالعدل بينهم في القضية، والقَسْم بينهم بالسوية. يدل على ذلك ما وَعظ به الرعية (3) في: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) ، فأمرهم بطاعتهم، وأوصى الرّاعي بالرعية، وأوصى الرعية بالطاعة، كما:-
9848 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) قال: قال أبي: هم السلاطين. وقرأ ابن زيد: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ) [سورة آل عمران: 26] ، وإنما نقول: هم العلماء الذي يُطيفون على
__________
(1) في المطبوعة: "فداؤه أبي وأمي"، وأثبت ما في المخطوطة وابن كثير.
(2) الأثر: 9847 -"الزنجي بن خالد" هو: مسلم بن خالد بن فروة، أبو خالد الزنجي، الفقيه المكي. وإنما سموه"الزنجي" قالوا: لأنه كان شديد السواد. وقالوا: لأنه كان أشقر كالبصلة. وقالوا: كان أبيض مشربًا بحمرة، وإنما سمى"الزنجي" لمحبته التمر. قالت له جاريته: "ما أنت إلا زنجي"، لأكل التمر، فبقي عليه هذا اللقب.
ومن الزنجي تعلم الشافعي الفقه قبل أن يلقى مالكًا. ولكنهم تكلموا في حديثه، فقال البخاري: "منكر الحديث، يكتب حديثه ولا يحتج به". وذكروا عللا في ضعف حديثه وهو صدوق. مترجم في التهذيب.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فدل على ذلك ما وعظ به الرعية"، وهو كلام فاسد جدًا، أخل بحجة الطبري، والصواب ما أثبت.(8/492)
السلطان، (1) ألا ترى أنه أمرهم فبدأ بهم، بالولاة فقال (2) "إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"؟ و"الأمانات"، هي الفيء الذي استأمنهم على جمعه وقَسْمه، والصدقات التي استأمنهم على جمعها وقسمها ="وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل" الآية كلها. فأمر بهذا الولاة. ثم أقبل علينا نحن فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ) .
* * *
وأما الذي قال ابن جريج من أنّ هذه الآية نزلت في عثمان بن طلحة، فإنه جائز أن تكون نزلت فيه، وأريد به كل مؤتمن على أمانة، فدخلَ فيه ولاة أمور المسلمين، وكلّ مؤتمن على أمانة في دين أو دنيا. ولذلك قال من قال: عُني به قضاءُ الدين، وردّ حقوق الناس، كالذي:-
9849 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إنّ الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، فإنه لم يرخص لموسِر ولا معسر أن يُمسكها.
9850 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها"، عن الحسن: أن
__________
(1) حذف ناشر المطبوعة هذه الجملة إذ لم يفهمها، وجعل سياق الكلام هكذا: " ... ممن تشاء، ألا ترى أنه أمر فقال: إن الله يأمركم"، وهذا فساد شديد، وهجر للأمانة، وعبث بكلام أهل التاويل. وقائل هذا الكلام هو ابن زيد، بعد أن ذكر تأويل أبيه زيد بن أسلم.
وقوله: "يطيفون على السلطان" هم الذين يقاربونه ويدنيهم في مجالسه ويستشيرهم. من قوله: "طاف بالشيء وطاف عليه= وأطاف به وأطاف عليه": دار حوله.
(2) في المطبوعة: "أنه أمر فقال ... " كما ذكرت في التعليق السالف. وسياق عبارته أنه أمر العلماء بالولاة - فبدأ بهم، أي: بالعلماء. والعلماء هم الذين يفتون الولاة في قسمة الفيء والصدقات، لأنهم هم أهل العلم بها. فهذا خطاب للعلماء الذين ائتمنوا على الدين. ثم قال للولاة: "وإذا حكمتم بين الناس"، كما ترى في سياق الأثر.(8/493)
نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا = إذ كان الأمر على ما وصفنا =: إن الله يأمركم، يا معشر ولاة أمور المسلمين، أن تؤدوا ما ائتمنتكم عليه رعيّتكم من فَيْئهم وحقوقهم وأموالهم وصدقاتهم إليهم، على ما أمركم الله بأداء كل شيء من ذلك إلى من هو له، بعد أن تصير في أيديكم، لا تظلموها أهلها، ولا تستأثروا بشيء منها، ولا تضعوا شيئًا منها في غير موضعه، ولا تأخذوها إلا ممن أذن الله لكم بأخذها منه قبل أن تصيرَ في أيديكم = ويأمركم إذا حكمتم بين رعيتكم أن تحكموا بينهم بالعدل والإنصاف، وذلك حكمُ الله الذي أنزله في كتابه، وبيّنه على لسان رسوله، لا تعدُوا ذلك فتجورُوا عليهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر ولاة أمور المسلمين، إن الله نعم الشيء يَعظكم به، ونعمت العظة يعظكم بها في أمره إياكم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وأن تحكموا بين الناس بالعدل (2)
* * *
="إن الله كان سميعًا"، يقول: إن الله لم يزل سميعًا بما تقولون وتنطقون، وهو سميع لذلك منكم إذا حكمتم
__________
(1) الأثر: 9850 - قال ابن كثير في تفسيره 2: 490"وفي حديث الحسن، عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أد الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". رواه الإمام أحمد، وأهل السنن".
(2) انظر تفسير"نعما" فيما سلف 5: 582.(8/494)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
بين الناس ولما تُحاورونهم به (1) "بصيرًا" بما تفعلون فيما ائتمنتم عليه من حقوق رعيتكم وأموالهم، (2) وما تقضون به بينهم من أحكامكم: بعدل تحكمون أو جَوْر، لا يخفى عليه شيء من ذلك، حافظٌ ذلك كلَّه، حتى يجازي محسنكم بإحسانه، ومسيئكم بإساءته، أو يعفو بفضله.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأمْرِ مِنْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله ربكم فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه، وأطيعوا رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن في طاعتكم إياه لربكم طاعة، وذلك أنكم تطيعونه لأمر الله إياكم بطاعته، كما:-
9851 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أطاعني فقد أطاع الله، ومن أطاع أميري فقد أطاعني، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني. (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول".
__________
(1) في المطبوعة: "ولم تجاوزوهم به"، ولا معنى لها البتة، والصواب ما في المخطوطة، ولكنه لم يفهم ما أراد، فحرفه وغيره.
(2) في المطبوعة: "فيما ائتمنتكم عليه"، غير ما في المخطوطة لغير شيء.
(3) الحديث: 9851 - ورواه أحمد في المسند مرارًا، من طرق مختلفة، منها: 7330، 7428، 7643. ورواه الشيخان وغيرهما، كما فصلنا هناك.
وذكره ابن كثير 2: 497، بقوله: "وفي الحديث المتفق على صحته". وهو كما قال.(8/495)
فقال بعضهم: ذلك أمرٌ من الله باتباع سنته.
*ذكر من قال ذلك:
9852 - حدثنا المثنى قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، قال: طاعة الرسول، اتباع سُنته.
9853 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يعلى بن عبيد، عن عبد الملك، عن عطاء:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، قال: طاعة الرسول، اتباع الكتاب والسنة.
9854 - وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك، عن عطاء مثله.
* * *
وقال آخرون: ذلك أمرٌ من الله بطاعة الرّسول في حياته.
*ذكر من قال ذلك:
9855 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول"، إن كان حيًّا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: هو أمرٌ من الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمرَ ونهى، وبعد وفاته باتباع سنته. (1) وذلك أن الله عمّ بالأمر بطاعته، ولم يخصص بذلك في حال دون حال، (2) فهو على العموم حتى يخصّ ذلك ما يجبُ التسليم له.
* * *
واختلف أهل التأويل في"أولي الأمر" الذين أمر الله عبادَه بطاعتهم في هذه الآية.
__________
(1) في المطبوعة: "في اتباع سنته"، وكان في المخطوطة"في باتباع سنتنا"، وضرب على"في".
(2) في المطبوعة: "لم يخصص ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.(8/496)
فقال بعضهم: هم الأمراء.
*ذكر من قال ذلك:
9856 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: هم الأمراء. (1)
9857 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال، حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال:"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، نزلت في رجل بعثه النبي صلى الله عليه وسلم على سرية. (2)
9858 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبيد الله بن مسلم بن هرمز، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن حُذافة بن قيس السهمي، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في السرية. (3)
__________
(1) الحديث: 9856 - هذا موقوف على أبي هريرة. وإسناده صحيح. ومعناه صحيح.
وقد ذكره الحافظ في الفتح 8: 191، وقال: "أخرجه الطبري بإسناد صحيح".
(2) الحديث: 9857 - يعلى بن مسلم بن هرمز البصري المكي: ثقة، أخرج له الشيخان. ووثقه ابن معين وأبو زرعة. مترجم في التهذيب. والكبير للبخاري 4 / 2 / 417، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 302. وهو أخو"عبد الله بن مسلم" الآتي في الإسناد بعده - كما رجحه البخاري وغيره.
والحديث رواه أحمد في المسند: 3124، عن حجاج، وهو ابن محمد، بهذا الإسناد. وفيه تسمية الرجل، أنه"عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي السهمي".
وكذلك رواه البخاري 8: 190 - 191، عن صدقة بن الفضل، عن حجاج بن محمد، به.
وذكره ابن كثير 2: 494، عن رواية البخاري، ثم قال: "وهكذا أخرجه بقية الجماعة إلا ابن ماجه، من حديث حجاج بن محمد الأعور، به. وقال الترمذي: حديث حسن غريب، ولا نعرفه إلا من حديث ابن جريج".
وقصة عبد الله بن حذافة رواها أحمد في المسند: 11662 (ج3 ص67 حلبي) ، من حديث أبي سعيد الخدري. روى معناها أيضًا من حديث علي بن أبي طالب: 622.
(3) الحديث: 9858 - عبد الله بن مسلم بن هرمز: هو أخو يعلى الذي في الحديث السابق - على الراجح. وعبد الله هذا: فيه ضعف، مع أن الثوري يروي عنه، والثوري لا يروي إلا عن ثقة. فالظاهر أن ضعفه من قبل حفظه. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 164 - 165.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة هنا"عبيد الله"، بدل"عبد الله" وهو خطأ واضح.
والحديث بمعنى الذي قبله.(8/497)
9859 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث قال: سأل مسلمةُ ميمونَ بن مهران عن قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: أصحاب السرايا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
9860 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال. قال أبي: هم السلاطين. قال وقال ابن زيد في قوله:"وأولي الأمر منكم"، قال أبي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الطاعةَ الطاعة، وفي الطاعة بلاء. وقال: ولو شاء الله لجعل الأمر في الأنبياء (1) = يعني: لقد جعلت [الأمر] إليهم والأنبياء معهم، (2) ألا ترى حين حكموا في قتل يحيى بن ز كريا؟
9861 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سريَّة عليها خالد بن الوليد، وفيها عمار بن ياسر، فساروا قِبَل القوم الذين يريدون، فلما بلغوا قريبًا منهم عرَّسوا، (3) وأتاهم ذو العُيَيْنَتين فأخبرهم، (4) فأصبحوا قد هربوا، (5) غير رجل أمر أهله فجمعوا
__________
(1) في المطبوعة: "ولو شاء الله لجعل"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يعني: لقد جعل إليهم الأنبياء معهم"، وهو مستقيم، ولكنه كان في المخطوطة: "لقد جعلت إليهم الأنبياء معهم"، فاستظهرت سقوط"الأمر"، فوضعته بين قوسين.
(3) "عرس القوم تعريسًا": إذا نزلوا في السفر من آخر الليل، يقعون وقعة للاستراحة، ثم ينيخون وينامون نومة خفيفة، ثم يثورون مع انفجار الصبح سائرين.
(4) "ذو العيينتين" و"ذو العوينتين"، و"ذو العينين": الجاسوس.
(5) في المطبوعة وابن كثير 2: 496"وقد هربوا"، وأثبت ما في المخطوطة.(8/498)
متاعهم، (1) ثم أقبل يمشي في ظلمة الليل حتى أتى عسكر خالد، فسأل عن عمار بن ياسر، فأتاه فقال: يا أبا اليقظان، إني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا عبده ورسوله، وإنّ قومي لما سمعوا بكم هربوا، وإني بقيت، فهل إسلامي نافعي غدًا، وإلا هربت؟ قال عمار: بل هو ينفعك، فأقم. فأقام، فلما أصبحوا أغار خالد فلم يجد أحدًا غير الرجل، فأخذه وأخذ ماله. فبلغ عمارًا الخبر، فأتى خالدًا، فقال: خلِّ عن الرجل، فإنه قد أسلم، وهو في أمان مني. فقال خالد: وفيم أنت تجير؟ فاستبَّا وارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم: فأجاز أمان عمار، ونهاه أن يجير الثانية على أمير. فاستبَّا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال خالد: يا رسول الله، أتترك هذا العبد الأجدع يسبني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا خالد، لا تسبَّ عمارًا، فإنه من سب عمارًا سبه الله، ومن أبغض عمارًا أبغضه الله، ومن لعن عمارًا لعنه الله. فغضب عمار فقام، فتبعه خالد حتى أخذ بثوبه فاعتذر إليه، فرضي عنه، فأنزل الله تعالى قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". (2)
* * *
وقال آخرون: هم أهل العلم والفقه.
*ذكر من قال ذلك:
9862 - حدثني سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن صالح، عن عبد الله بن محمد بن عقيل، عن جابر بن عبد الله..... (3)
__________
(1) في المخطوطة: "غير رجال من أهله"، وهو فاسد، وأثبت ما في المطبوعة وتفسير ابن كثير.
(2) الأثر: 9861 - أخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 497، ثم قال: "وهكذا رواه ابن أبي حاتم من طريق، عن السدي مرسلا. ورواه ابن مردويه من رواية الحكم بن ظهير، عن السدي، عن أبي صالح، عن ابن عباس، فذكر بنحوه. والله أعلم".
(3) الأثر: 9862 - كان هذا الأثر والذي يليه متصلين، " ... عن جابر بن عبد الله قال حدثنا جابر بن نوح" وهو خطأ وفساد لا شك فيه. وكأن هذا الأثر كان: "حدثني بذلك سفيان بن وكيع ... " = أو: "عن جابر بن عبد الله قال: هم أهل العلم والفقه". أو ما شابه ذلك. ولكني وضعت النقط دلالة على الخزم.(8/499)
9863 -.... قال، حدثنا جابر بن نوح، عن الأعمش، عن مجاهد في قوله: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: أولي الفقه منكم. (1)
9864 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث، عن مجاهد في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: أولي الفقه والعلم.
9865 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح:"وأولي الأمر منكم"، قال: أولي الفقه في الدين والعقل.
9866 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9867 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، يعني: أهل الفقه والدين.
9868 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن مجاهد:"وأولي الأمر منكم"، قال: أهل العلم.
9869 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء بن السائب في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: أولي العلم والفقه.
__________
(1) الأثر: 9863 - كأن صواب هذا الإسناد: "حدثني أبو كريب، قال حدثنا جابر بن نوح"، فإن أبا كريب هو يروي عن جابر بن نوح، كما سلف مرارًا، أقربها رقم: 9842، ولكني تركته على حاله، ووضعت مكان ذلك نقطًا.(8/500)
9870 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن عطاء:"وأولي الأمر منكم"، قال: الفقهاء والعلماء.
9871 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"وأولي الأمر منكم"، قال: هم العلماء.
9872 - قال، وأخبرنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"وأولي الأمر منكم"، قال: هم أهل الفقه والعلم.
9873 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"وأولي الأمر منكم"، قال: هم أهل العلم، ألا ترى أنه يقول: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [سورة النساء: 83] ؟
* * *
وقال آخرون: هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
9874 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: كان مجاهد يقول: أصحاب محمد = قال: وربما قال: أولي العقل والفقه ودين الله. (1)
* * *
وقال آخرون: هم أبو بكر وعمر رحمهما الله. (2)
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "أولي الفضل"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "رضي الله عنهما".(8/501)
9875 - حدثنا أحمد بن عمرو البصري قال، حدثنا حفص بن عمر العدني قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم"، قال: أبو بكر وعمر. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: هم الأمراء والولاة = لصحة الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بطاعة الأئمة والولاة فيما كان [لله] طاعةً، وللمسلمين مصلحة، (2) كالذي:-
9876 - حدثني علي بن مسلم الطوسي قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثني عبد الله بن محمد بن عروة، عن هشام بن عروة، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: سيليكم بعدي ولاة، فيليكم البَرُّ ببِرِّه، والفاجر بفجوره، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق، وصلُّوا وراءهم. فإن أحسنوا فلكم ولهم، وإن أساؤوا فلكم وعليهم. (3)
__________
(1) الأثر: 9875 -"أحمد بن عمرو البصري"، لم أجده في كتب التراجم، وظننت أنه"أحمد بن عمرو بن عبد الخالق" البزار، أبو بكر العتكي البصري، من أهل البصرة، قال الخطيب: "كان ثقة حافظًا، صنف المسند، وتكلم على الأحاديث، وبنى عللها، وقدم بغداد وحدث بها" ومات بالرملة سنة 291، فهو خليق أن يكون رآه أبو جعفر وروى عنه في بغداد أو في الرملة. مترجم في تاريخ بغداد 4: 334.
و"حفص بن عمر العدني" مضت ترجمته برقم: 6796.
(2) الزيادة بين القوسين، أراها زيادة لا غنى عنها.
(3) الحديث: 9876 - ابن أبي فديك: هو محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك المدني. وهو ثقة معروف، من شيوخ الشافعي وأحمد. أخرج له الجماعة.
عبد الله بن محمد بن عروة: هو عبد الله بن محمد بن يحيى بن عروة بن الزبير المدني. قال أبو حاتم: "هو متروك الحديث، ضعيف الحديث جدًا". وقال ابن حبان: "يروى الموضوعات عن الثقات". مترجم في لسان الميزان 3: 331 - 332، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 158.
فهذا حديث ضعيف جدًا، لم نجده إلا في هذا الموضع.
وقد نقله ابن كثير 2: 495، والسيوطي 2: 177- ولم ينسباه لغير الطبري.(8/502)
9877 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى، عن عبيد الله قال، أخبرني نافع، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: على المرء المسلم، الطاعةُ فيما أحب وكره، إلا أن يؤمر بمعصية؛ فمن أمر بمعصية فلا طاعة. (1)
9878 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني خالد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2)
= فإذ كان معلومًا أنه لا طاعة واجبة لأحد غير الله أو رسوله أو إمام عادل، وكان الله قد أمر بقوله:"أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم" بطاعة ذَوِي أمرنا = كان معلومًا أن الذين أمرَ بطاعتهم تعالى ذكره من ذوي أمرنا، هم الأئمة ومن ولَّوْه المسلمين، (3) دون غيرهم من الناس، وإن كان فرضًا القبول من كل من أمر بترك معصية الله ودعا إلى طاعة الله، وأنه لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه، إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعيّة، فإن على من أمروه بذلك طاعتهم، وكذلك في كل ما لم يكن لله معصية.
__________
(1) الحديثان: 9877، 9878 - يحيى في الإسناد الأول: هو ابن سعيد القطان.
وخالد - في الإسناد الثاني: هو ابن الحارث الهجيمي البصري. مضت ترجمته في: 7818.
عبيد الله - في الإسنادين: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، العمري.
ووقع في المطبوعة، في الإسنادين: "يحيى بن عبيد الله"، "خالد بن عبيد الله"! وهو خطأ واضح، صوابه من المخطوطة.
والحديث رواه أحمد في المسند: 4668، عن يحيى، وهو القطان، بمثل الإسناد الأول هنا.
ورواه أيضًا: 6278، عن ابن نمير، عن عبيد الله، به.
وقد شرحناه شرحًا وافيًا، وخرجناه - في الموضع الأول.
وذكره ابن كثير 2: 494، من رواية أبي داود - من طريق يحيى القطان. ثم نسبه للشيخين من طريق يحيى.
وقصر السيوطي جدًا، إذ ذكره 2: 177، ونسبه لابن أبي شيبة، وابن جرير - فقط! وهو في المسند والصحيحين وغيرهما.
(2) الحديثان: 9877، 9878 - يحيى في الإسناد الأول: هو ابن سعيد القطان.
وخالد - في الإسناد الثاني: هو ابن الحارث الهجيمي البصري. مضت ترجمته في: 7818.
عبيد الله - في الإسنادين: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، العمري.
ووقع في المطبوعة، في الإسنادين: "يحيى بن عبيد الله"، "خالد بن عبيد الله"! وهو خطأ واضح، صوابه من المخطوطة.
والحديث رواه أحمد في المسند: 4668، عن يحيى، وهو القطان، بمثل الإسناد الأول هنا.
ورواه أيضًا: 6278، عن ابن نمير، عن عبيد الله، به.
وقد شرحناه شرحًا وافيًا، وخرجناه - في الموضع الأول.
وذكره ابن كثير 2: 494، من رواية أبي داود - من طريق يحيى القطان. ثم نسبه للشيخين من طريق يحيى.
وقصر السيوطي جدًا، إذ ذكره 2: 177، ونسبه لابن أبي شيبة، وابن جرير - فقط! وهو في المسند والصحيحين وغيرهما.
(3) في المطبوعة: "ومن ولاه المسلمون"، وأثبت ما في المخطوطة، ولم يرد أبو جعفر معنى ما كان في المطبوعة، بل أراد: ومن ولاه الأئمة أمور المسلمين.(8/503)
وإذ كان ذلك كذلك، كان معلومًا بذلك صحة ما اخترنا من التأويل دون غيره.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن اختلفتم، أيها المؤمنون، في شيء من أمر دينكم: أنتم فيما بينكم، أو أنتم وولاة أمركم، فاشتجرتم فيه (1) ="فردوه إلى الله"، يعني بذلك: فارتادوا معرفة حكم ذلك الذي اشتجرتم = أنتم بينكم، أو أنتم وأولو أمركم = فيه من عند الله، يعني بذلك: من كتاب الله، فاتبعوا ما وجدتم = وأما قوله:"والرسول"، فإنه يقول: فإن لم تجدوا إلى علم ذلك في كتاب الله سبيلا فارتادوا معرفة ذلك أيضًا من عند الرسول إن كان حيًا، وإن كان ميتًا فمن سنته ="إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر"، يقول: افعلوا ذلك إن كنتم تصدقون بالله ="واليوم الآخر"، يعني: بالمعاد الذي فيه الثواب والعقاب، فإنكم إن فعلتم ما أمرتم به من ذلك. فلكم من الله الجزيل من الثواب، وإن لم تفعلوا ذلك فلكم الأليم من العقاب.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9879 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث، عن مجاهد في قوله:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، قال: فإن تنازع العلماء ردّوه إلى الله والرسول. قال يقول: فردّوه إلى كتاب الله وسنة رسوله.
__________
(1) انظر تفسير"تنازع" فيما سلف 7: 289.(8/504)
ثم قرأ مجاهد هذه الآية: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) [سورة النساء: 83] .
9880 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"فردوه إلى الله والرسول"، قال: كتاب، الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم:
9881 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"فردوه إلى الله والرسول"، قال: إلى الله"، إلى كتابه = وإلى"الرسول"، إلى سنة نبيه.
9882 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، قال: سأل مسلمةُ ميمونَ بن مهران عن قوله:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، قال:"الله"، كتابه، و"رسوله" سنته، فكأنما ألقمه حجرًا.
9883 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، أخبرنا جعفر بن مروان، عن ميمون بن مهران:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، قال: الرد إلى الله، الردّ إلى كتابه = والرد إلى رسوله إن كان حيًا، فإن قبضه الله إليه فالردّ إلى السنة.
9884 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، يقول: ردوه إلى كتاب الله وسنة رسوله ="إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر".
9885 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول"، إن كان الرسول حيًا = و"إلى الله" قال: إلى كتابه.
* * *(8/505)
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا (59) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ذلك"، فردُّ ما تنازعتم فيه من شيء إلى الله والرسول، ="خير" لكم عند الله في معادكم، وأصلح لكم في دنياكم، لأن ذلك يدعوكم إلى الألفة، وترك التنازع والفرقة ="وأحسن تأويلا"، يعني: وأحمد مَوْئلا ومغبّة، وأجمل عاقبة.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن"التأويل""التفعيل" من"تأوّل"، وأنّ قول القائل:"تأوّل"،"تفعّل"، من قولهم:"آل هذا الأمر إلى كذا"، أي: رجع = بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9886 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأحسن تأويلا"، قال: حسن جزاء.
9887 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9888 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ذلك خير وأحسن تأويلا"، يقول: ذلك أحسنُ ثوابًا، وخير عاقبةً.
9889 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأحسن تأويلا" قال: عاقبة.
__________
(1) انظر ما سلف 6: 204 - 206.(8/506)
9890 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ذلك خير وأحسن تأويلا"، قال: وأحسن عاقبة = قال: و"التأويل"، التصديق.
* * *(8/507)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60)
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالا بَعِيدًا (60) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ألم تر"، يا محمد، بقلبك، فتعلم = إلى الذين يزعمون أنهم صدقوا بما أنزل إليك من الكتاب، وإلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قلبك من الكتب، يريدون أن يتحاكموا في خصومتهم إلى الطاغوت = يعني إلى: من يعظمونه، ويصدرون عن قوله، ويرضون بحكمه من دون حكم الله، (1) ="وقد أمروا أن يكفروا به"، يقول: وقد أمرهم الله أن يكذبوا بما جاءهم به الطاغوتُ الذي يتحاكون إليه، فتركوا أمرَ الله واتبعوا أمر الشيطان ="ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا"، يعني: أن الشيطان يريد أن يصدَّ هؤلاء المتحاكمين إلى الطاغوت عن سبيل الحق والهدى، فيضلهم عنها ضلالا بعيدًا = يعني: فيجور بهم عنها جورًا شديدًا (2) .
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل من المنافقين دعا رجلا من اليهود في خصومة كانت بينهما إلى بعض الكهَّان، ليحكم بينهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهُرهم.
__________
(1) انظر تفسير"الطاغوت" فيما سلف 5: 416 - 419 / 8: 461 - 465.
(2) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف: 8: 428، تعليق: 4، والمراجع هناك.(8/507)
*ذكر من قال ذلك:
9891 - حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، قال: كان بين رجل من اليهود ورجل من المنافقين خصومة، فكان المنافق يدعو إلى اليهود، لأنه يعلم أنهم يقبلون الرشوة، وكان اليهودي يدعو إلى المسلمين، لأنه يعلم أنهم لا يقبلون الرشوة. فاصطلحا أن يتحاكما إلى كاهن من جُهَيْنة، فأنزل الله فيه هذه الآية:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" حتى بلغ"ويسلموا تسليمًا".
9892 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، فذكر نحوه = وزاد فيه: فأنزل الله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، يعني المنافقين ="وما أنزل من قبلك"، يعني اليهود ="يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، يقول: إلى الكاهن ="وقد أمروا أن يكفروا به"، أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه، أن يكفر بالكاهن.
9893 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: كانت بين رجل ممن يزعم أنه مسلم، وبين رجل من اليهود، خصومة، فقال اليهودي: أحاكمك إلى أهل دينك = أو قال: إلى النبي = لأنه قد علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يأخذ الرشوة في الحكم، فاختلفا، فاتفقا على أن يأتيا كاهنًا في جهينة، قال: فنزلت:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، يعنى: الذي من الأنصار ="وما أنزل من قبلك"، يعني: اليهوديّ (1) "يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، إلى الكاهن ="وقد أمروا
__________
(1) في المخطوطة: "اليهود".(8/508)
أن يكفروا به"، يعني: أمر هذا في كتابه، وأمر هذا في كتابه. وتلا"ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدًا"، وقرأ:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" إلى"ويسلموا تسليما".
9894 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال: زعم حضرميٌّ أن رجلا من اليهود كان قد أسلم، فكانت بينه وبين رجل من اليهود مدارأة في حق، (1) فقال اليهودي له: انطلق إلى نبي الله. فعرف أنه سيقضي عليه. قال: فأبى، فانطلقا إلى رجل من الكهان فتحاكما إليه. قال الله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل
__________
(1) المدرأة: المدافعة والخصومة.(8/509)
من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت".
9895 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، الآية، حتى بلغ"ضلالا بعيدًا"، ذُكر لنا أن هذه الآية نزلت في رجلين: رجل من الأنصار يقال له"بشر"، وفي رجل من اليهود، في مدارأة كانت بينهما في حق، فتدارءا بينهما، فتنافرا إلى كاهن بالمدينة يحكم بينهما، وتركا نبي الله صلى الله عليه وسلم. فعاب الله عز وجل ذلك = وذُكر لنا أن اليهودي كان يدعوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهما، وقد علم أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم لن يجور عليه. فجعل الأنصاري يأبى عليه وهو يزعم أنه مسلم، ويدعوه إلى الكاهن، فأنزل الله تبارك وتعالى ما تسمعون، فعابَ ذلك على الذي يزعم أنه مسلم، وعلى اليهودي الذي هو من أهل الكتاب، فقال:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" إلى قوله:"صدودًا".
9896 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، قال: كان ناس من اليهود قد أسلموا ونافق بعضهم. وكانت قُرَيظة والنَّضير في الجاهلية، إذا قُتِل الرجل من بني النضير قتلته بنو قريظة، قتلوا به منهم. فإذا قُتِل الرجل من بني قريظة قتلته النضير، أعطوْا ديتَه ستين وَسْقًا من تمر. (1) فلما أسلم ناس من بني قريظة والنضير، قتل رجلٌ من بني النضير رجلا من بني قريظة، فتحاكموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النضيري: يا رسول الله، إنا كنا نعطيهم في الجاهلية الدية، فنحن نعطيهم اليوم ذلك. فقالت قريظة: لا ولكنا إخوانكم في النسب والدين، ودماؤنا مثل دمائكم، ولكنكم كنتم تغلبوننا في الجاهلية، فقد جاء الله بالإسلام! فأنزل الله يُعَيِّرهم بما فعلوا فقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [سورة المائدة: 54] ، فعيَّرهم، ثم ذكر قول النضيري:"كنا نعطيهم في الجاهلية ستين وسقًا، ونقتل منهم ولا يقتلونا"، فقال (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ) [سورة المائدة: 50] . وأخذ النضيري فقتله بصاحبه، فتفاخرت النضير وقريظة، فقالت النضير: نحن أكرم منكم! وقالت قريظة: نحن أكرم منكم! ودخلوا المدينة إلى أبي بُرْدة، (2) الكاهن الأسلمي، فقال المنافق من قريظة والنضير: انطلقوا إلى أبي بردَة ينفِّر بيننا! (3)
__________
(1) "الوسق" مكيلة معلومة في زمانهم، كانت تبلغ حمل بعير.
(2) في المطبوعة: "أبو برزة الأسلمي" وهو خطأ محض، والصواب ما كان في المخطوطة، فإن أبا برزة الأسلمي - نضلة بن عبيد - فهو صحابي جليل، و"برزة" بفتح الباء بعدها راء ساكنة بعدها زاي. وأما "أبو بردة" فهو بالباء المضمومة بعدها راء ساكنة بعدها دال.
وذكر الثعلبي في تفسيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أبا بردة الأسلمي إلى الإسلام، فأبى، ثم كلمه ابناه في ذلك، فأجاب إليه وأسلم. وقال الحافظ ابن حجر: "وعند الطبراني بسند جيد عن ابن عباس قال: كان أبو بردة الأسلمي كاهنًا يقضي بين اليهود، فذكر القصة في نزول قوله تعالى: ألم تر إلى الذين يزعمون ... " الإصابة في ترجمته. وذكر الهيثمي خبر ابن عباس في مجمع الزوائد 7: 6، وفيه أيضًا"أبو برزة الأسلمي"، وهو خطأ، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح". وكذلك رواه ابن كثير في تفسيره 2: 500 وفيه أيضًا"أبو برزة" وهو خطأ.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا"أبو برزة"، وانظر التعليق السالف. ويقال: "نفر الحاكم أحد المتخاصمين على صاحبه تنفيرًا": أي قضى عليه بالغلبة. وهو من"المنافرة" وذلك أن يتفاخر الرجلان كل واحد منهما على صاحبه، ثم يحكما بينهما رجلا، يغلب أحدهما على الآخر.(8/510)
وقال المسلمون من قريظة والنضير: لا بل النبي صلى الله عليه وسلم يُنفِّر بيننا، فتعالوا إليه! فأبى المنافقون، وانطلقوا إلى أبي بردة فسألوه، (1) فقال: أعظِموا اللُّقمة = يقول: أعظِموا الخَطَر (2) = فقالوا: لك عشرة أوساق. قال: لا بل مئة وسْق، ديتي، (3) فإني أخاف أن أنفِّر النضير فتقتلني قريظة، أو أنفِّر قريظة فتقتلني النضير! فأبوا أن يعطوه فوق عشرة أوساق، وأبى أن يحكم بينهم، فأنزل الله عز وجل:"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت" = وهو أبو بردة (4) ="وقد أمروا أن يكفروا به" إلى قوله:"ويسلموا تسليما".
* * *
وقال آخرون:"الطاغوت"، في هذا الموضع، هو كعب بن الأشرف.
*ذكر من قال ذلك:
9897 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به"، و"الطاغوت" رجل من اليهود كان يقال له: كعب بن الأشرف، وكانوا إذا ما دعوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول ليحكم بينهم قالوا، بل نحاكمكم إلى كعب! فذلك قوله:"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، الآية.
9798 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، قال: تنازع رجلٌ من المنافقين ورجلٌ من
__________
(1) في المطبوعة هنا مرة ثالثة: "أبو برزة".
(2) "الخطر" هو المال الذي يجعل رهنًا بين المتراهنين، وأراد به الجعل الذي يدفعه كل واحد من المتنافرين إلى الحكم. وسماه"اللقمة" مجازًا، وهذا كله لم تقيده كتب اللغة، ولم أجده في أخبار المنافرات. فيستفاد من هذا الخبر. أن الحكم في المنافرة كانوا يجعلون له جعلا يأخذه بعد استماعه للمنافرة، وبعد الحكم.
(3) "أوساق" جمع"وسق" ومضى تفسيره"الوسق" فيما سلف ص: 510، تعليق: 1.
(4) في المطبوعة هنا مرة رابعة"أبو برزة".(8/511)
اليهود، فقال المنافق: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف. وقال اليهودي: اذهب بنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فقال الله تبارك وتعالى:"ألم تر إلى الذين يزعمون" الآية، والتي تليها فيهم أيضًا. (1)
9899 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، فذكر مثله = إلا أنه قال: وقال اليهودي: اذهب بنا إلى محمد.
9900 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك" إلى قوله:"ضلالا بعيدًا"، قال: كان رجلان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بينهما خصومة، أحدهم مؤمن والآخر منافق، فدعاه المؤمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف، فأنزل الله: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا) .
9901 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، قال: تنازع رجل من المؤمنين ورجل من اليهود، فقال اليهودي: اذهب بنا إلى كعب بن الأشرف. وقال المؤمن: اذهب بنا إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم. فقال الله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" إلى قوله:"صدودًا" = قال ابن جريج:"يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، قال: القرآن ="وما أنزل من قبلك"، قال: التوراة. قال:
__________
(1) في المخطوطة: "الآية التي تليها منهم فيهما أيضًا"، ولا أدري ما هو، وما في المطبوعة أقرب إلى الصواب.(8/512)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61)
يكون بين المسلم والمنافق الحق، فيدعوه المسلم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم ليحاكمه إليه، فيأبى المنافق ويدعوه إلى الطاغوت = قال ابن جريج: قال مجاهد:"الطاغوت"، كعب بن الأشرف.
9902 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت"، هو كعب بن الأشرف.
* * *
وقد بينا معنى:"الطاغوت" في غير هذا الموضع، فكرهنا إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ألم تر، يا محمد، إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك من المنافقين، وإلى الذي يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل من قبلك من أهل الكتاب، يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت ="وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله"، يعني بذلك:"وإذا قيل لهم تعالوا"، هلُمُّوا إلى حكم الله الذي أنزله في كتابه، وإلى الرسول ليحكم بيننا (2) ="رأيت المنافقين يصدون عنك"، يعني بذلك: يمتنعون من المصير إليك لتحكم بينهم، ويمنعون من المصير إليك كذلك غيرهم ="صدودًا". (3)
* * *
وقال ابن جريج في ذلك بما:-
__________
(1) انظر ما سلف: 507 والتعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف 6: 474، 483، 485.
(3) انظر تفسير"الصد" فيما سلف 4: 300 / 7: 53 / 8: 482.(8/513)
فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)
9903 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول"، قال: دعا المسلمُ المنافقَ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم، قال:"رأيت المنافقين يصدون عنك صدودًا".
* * *
= وأما على تأويل قول من جعل الدَّاعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم اليهوديّ، والمدعوَّ إليه المنافق، على ما ذكرت من أقوال من قال ذلك في تأويل قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك" = فإنه على ما بيَّنت قبل.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فكيف بهؤلاء الذين يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وهم يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ="إذا أصابتهم مصيبة"، يعني: إذا نزلت بهم نقمة من الله ="بما قدمت أيديهم"، يعني: بذنوبهم التي سلفت منهم، (1) ="ثم جاؤوك يحلفون بالله"، يقول: ثم جاؤوك يحلفون بالله كذبًا وزورًا ="إن أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا". وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين أنهم لا يردعهم عن النفاق العِبر والنِّقم، وأنهم إن تأتهم عقوبة من الله على تحاكمهم إلى الطاغوت لم ينيبوا ولم يتوبوا، (2) ولكنهم يحلفون بالله كذبًا وجرأة على الله: ما أردنا باحتكامنا إليه إلا الإحسان من بعضنا إلى بعض، والصوابَ فيما احتكمنا فيه إليه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"قدمت أيديهم" فيما سلف 2: 368 / 7: 447.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنهم وإن تأتهم"، والأجود حذف الواو.(8/514)
أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلا بَلِيغًا (63) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أولئك"، هؤلاء المنافقون الذين وصفت لك، يا محمد، صفتهم ="يعلم الله ما في قلوبهم" في احتكامهم إلى الطاغوت، وتركهم الاحتكام إليك، وصدودهم عنك = من النفاق والزيغ، (1) وإن حلفوا بالله: ما أردنا إلا إحسانًا وتوفيقًا ="فأعرض عنهم وعظهم"، يقول: فدعهم فلا تعاقبهم في أبدانهم وأجسامهم، ولكن عظهم بتخويفك إياهم بأسَ الله أن يحلّ بهم، وعقوبته أن تنزل بدارهم، وحذِّرهم من مكروهِ ما هم عليه من الشك في أمر الله وأمر رسوله =،"وقل لهم في أنفسهم قولا بليغًا"، يقول: مرهم باتقاء الله والتصديق به وبرسوله ووعده ووعيده.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم نرسل، يا محمد، رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه. يقول تعالى ذكره: فأنت، يا محمد، من الرسل الذين فرضت طاعتهم على من أرسلتُه إليه.
وإنما هذا من الله توبيخ للمحتكمين من المنافقين = الذين كانوا يزعمون أنهم
__________
(1) السياق: "يعلم الله ما في قلوبهم ... من النفاق والزيغ".(8/515)
يؤمنون بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم = فيما اختصموا فيه إلى الطاغوت، صدودًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. يقول لهم تعالى ذكره: ما أرسلتُ رسولا إلا فرضت طاعته على من أرسلته إليه، فمحمد صلى الله عليه وسلم من أولئك الرسل، فمن ترك طاعته والرِّضى بحكمه واحتكم إلى الطاغوت، فقد خالف أمري، وضيَّع فرضي.
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه: أن من أطاع رسله، فإنما يطيعهم بإذنه = يعني: بتقديره ذلك وقضائه السابق في علمه ومشيئته، (1) كما:-
9904 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إلا ليطاع بإذن الله"، واجب لهم أن يطيعهم من شاء الله، ولا يطيعهم أحد إلا بإذن الله.
9905 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9906 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: إنما هذا تعريض من الله تعالى ذكره لهؤلاء المنافقين، بأن تركهم طاعة الله وطاعة رسوله والرضى بحكمه، إنما هو للسابق لهم من خِذْلانه وغلبة الشقاء عليهم، ولولا ذلك لكانوا ممن أذن له في الرضى بحكمه، والمسارعة إلى طاعته.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإذن" فيما سلف 8: 192 تعليق: 2 والمراجع هناك.(8/516)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64)
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أن هؤلاء المنافقين = الذين وصف صفتهم في هاتين الآيتين، الذين إذا دعوا إلى حكم الله وحكم رسوله صدّوا صدودًا =،"إذ ظلموا أنفسهم"، باكتسابهم إياها العظيم من الإثم في احتكامهم إلى الطاغوت، وصدودهم عن كتاب الله وسنة رسوله إذا دعوا إليها ="جاؤوك"، يا محمد، حين فعلو ما فعلوا من مصيرهم إلى الطاغوت راضين بحكمه دون حكمك، جاؤوك تائبين منيبين، فسألوا الله أن يصفح لهم عن عقوبة ذنبهم بتغطيته عليهم، وسأل لهم اللهَ رسولهُ صلى الله عليه وسلم مثل ذلك. وذلك هو معنى قوله:"فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول".
* * *
= وأما قوله:"لوجدوا الله توابًا رحيمًا"، فإنه يقول: لو كانوا فعلوا ذلك فتابوا من ذنبهم ="لوجدوا الله توابًا"، يقول: راجعًا لهم مما يكرهون إلى ما يحبون (1) ="رحيمًا" بهم، في تركه عقوبتهم على ذنبهم الذي تابوا منه.
* * *
وقال مجاهد: عُنِي بذلك اليهوديُّ والمسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.
9907 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ظلموا أنفسهم" إلى قوله:"ويسلموا تسليما"، قال: إن هذا في الرجل اليهودي والرجل المسلم اللذين تحاكما إلى كعب بن الأشرف.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الاستغفار" و"التوبة" فيما سلف من فهارس اللغة.(8/517)
فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
القول في تأويل قوله: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلا" فليس الأمر كما يزعمون: أنهم يؤمنون بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدّون عنك إذا دعوا إليك يا محمد = واستأنف القسم جل ذكره فقال:"وربك"، يا محمد ="لا يؤمنون"، أي: لا يصدقون بي وبك وبما أنزل إليك ="حتى يحكموك فيما شجر بينهم"، يقول: حتى يجعلوك حكمًا بينهم فيما اختلط بينهم من أمورهم، فالتبس عليهم حكمه. يقال:"شجَر يشجُر شُجورًا وشَجْرًا"، و"تشاجر القوم"، إذا اختلفوا في الكلام والأمر،"مشاجرة وشِجارًا".
* * *
="ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت"، يقول: لا يجدوا في أنفسهم ضيقًا مما قضيت. وإنما معناه: ثم لا تحرَج أنفسهم مما قضيت = أي: لا تأثم بإنكارها ما قضيتَ، وشكّها في طاعتك، وأن الذي قضيت به بينهم حقٌّ لا يجوز لهم خلافه، كما:-
9908 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"حرجًا مما قضيت"، قال: شكًّا.
9909 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد في قوله:"حرجًا مما قضيت"، يقول: شكًّا.(8/518)
9910 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9911 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت"، قال: إثمًا ="ويسلموا تسليما"، يقول: ويسلّموا لقضائك وحكمك، إذعانًا منهم بالطاعة، وإقرارًا لك بالنبوة تسليمًا.
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت؟
فقال بعضهم: نزلت في الزبير بن العَوَّام وخصم له من الأنصار، اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور.
ذكر الرواية بذلك:
9912 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس والليث بن سعد، عن ابن شهاب، أن عروة بن الزبير حدَّثه: أن عبد الله بن الزبير حدثه، عن الزبير بن العوام: أنه خاصم رجلا من الأنصار قد شهد بدرًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شِرَاج من الحرّة كانا يسقيان به كَلأهما النخل، (1) فقال الأنصاري: سَرِّح الماء يمرّ! (2) فأبى عليه، فقال يا رسول الله صلى الله عليه وسلم: اسق يا زبير، ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصاري وقال: يا رسول الله، أنْ كان ابن عمتك؟ (3) فتلوّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم،
__________
(1) "الشراج" (بكسر الشين) جمع"شرج" (بفتح فسكون) ، وهو مسيل الماء من الحرة إلى السهل. و"الحرة" موضع معروف بالمدينة، وهي أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنما أحرقت بالنار. و"الكلأ" هو العشب ترعاه الأنعام. وكان في المطبوعة: "كلاهما" بغير همز، وهو خطأ يوهم.
(2) قوله: "سرح الماء"، أي أطلقه، لأن الماء كان يمر على أرض الزبير قبل أرض الأنصاري، فكان يحبسه حتى يسقي أرضه.
(3) قوله: "أن كان ... "، "أن" (بفتح الألف وسكون النون) ، التعليل، يقول أمن أجل أنه ابن عمتك؟ وأم الزبير هي: صفية بنت عبد المطلب، عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.(8/519)
ثم قال: اسق يا زبير، ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدْر، (1) ثم أرسل الماء إلى جارك. واستوعَى رسول الله صلى الله عليه وسلم للزبير حقه = قال أبو جعفر: والصواب:"استوعب" (2) = وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ذلك أشار على الزبير برأي أراد فيه الشفقة له وللأنصاري. فلما أحفظَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم الأنصاريُّ، (3) استوعب للزبير حقه في صريح الحكم = قال فقال الزبير: ما أحسب هذه الآية نزلت إلا في ذلك:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم"، الآية. (4)
9913 - حدثني يعقوب قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري عن عروة، قال: خاصم الزبير رجل من الأنصار في شَرْج من شِراج الحَرَّة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا زبير، أَشْرِب، ثم خلِّ سبيل الماء. فقال الذي من الأنصار من بني أمية: (5) اعدل يا نبيَّ الله، وإن كان ابن عمتك! قال: فتغيَّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى عُرف
__________
(1) "الجدر" (بفتح الجيم وسكون الدال) ، وهي الحواجز التي تحبس الماء.
(2) الظاهر أن قول أبي جعفر: "والصواب: استوعب"، إنما عنى به صواب الرواية في هذا الخبر بهذا الإسناد، ولا أظن أبا جعفر ينكر"استوعى" أن تكون صحيحة، فإن"استوعى" بمعنى: استوعب الحق واستوفاه، عربي صحيح لا شك فيه.
(3) "أحفظه" أغضبه.
(4) الحديث: 9912 - سياق هذا الإسناد ظاهره أنه من حديث"الزبير بن العوام" - لقوله"أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام". ويحتمل أن يكون من حديث"عبد الله بن الزبير" حكاية عن القصة. وقد جاء الحديث بسياقات أخر، بعضها ظاهره أنه من حديث عروة بن الزبير - يحكي القصة، فيكون ظاهره الإرسال. وبعضها ظاهره أنه من رواية عروة عن أبيه الزبير، كما سيأتي:
فرواه ابن أبي حاتم - فيما نقل عنه ابن كثير 2: 503 - بإسناد الطبري هذا: عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، به.
وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى، ص: 453، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، عن ابن وهب.
وكذلك رواه الإسماعيلي، فيما نقله عند الحافظ في الفتح 5: 26.
ورواه النسائي 2: 308 - 309، كرواية الطبري هذه. ولكن عن شيخين: يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين - كلاهما عن ابن وهب، بهذا الإسناد - وعند هؤلاء جميعًا - كما هنا: "أن عبد الله بن الزبير حدثه عن الزبير بن العوام".
ورواه أحمد في المسند: 16185 (ج4 ص4 - 5 حلبي) ، في مسند عبد الله بن الزبير - عن هاشم بن القاسم، عن الليث، عن ابن شهاب، "عن عروة بن الزبير، عن عبد الله بن الزبير، قال: خاصم رجل من الأنصار الزبير"، إلخ.
وبنحو ذلك رواه البخاري 5: 26 - 28، ومسلم 2: 221، وأبو داود: 3637، والترمذي 2: 289 - 290، وابن ماجه: 2480، وابن حبان في صحيحه: 23 (بتحقيقنا) - كلهم من طريق الليث بن سعد، عن الزهري، عن عروة، عن عبد الله بن الزبير، حكاية للقصة. وفي بعض ألفاظهم: "عن عروة: أن عبد الله بن الزبير حدثه". وظاهر هذه الأسانيد أنه من حديث"عبد الله بن الزبير" - حكاية للقصة، ليس فيها التصريح بروايته عن أبيه الزبير بن العوام.
وقال البخاري عقب هذه الرواية: "ليس أحد يذكر: عروة عن عبد الله - إلا الليث فقط".
وقد تعقبه الحافظ ابن حجر برواية"النسائي وغيره" - المطابقة لرواية الطبري هنا وابن الجارود وابن أبي حاتم - أن يونس بن يزيد الأيلي ذكر فيه"عن عبد الله بن الزبير"، كما ذكره الليث. بل زاد ابن وهب في روايته هذه عن يونس والليث: أنه"عن عبد الله بن الزبير، عن أبيه الزبير بن العوام".
ورواه أحمد في المسند: 1419، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن الزهري، قال، "أخبرني عروة بن الزبير: أن الزبير كان يحدث أنه خاصم رجلا من الأنصار" - إلخ.
وكذلك رواه البخاري 5: 227 (فتح) ، عن أبي اليمان، بهذا الإسناد، كرواية أحمد.
فهذه الرواية ظاهرها أن عروة يروي الحديث فيها عن أبيه الزبير بن العوام مباشرة.
وقد نقل ابن كثير 2: 502 - 503 هذه الرواية عن المسند. ثم قال: "هكذا رواه الإمام أحمد، وهو منقطع بين عروة وبين أبيه الزبير، فإنه لم يسمع منه. والذي يقطع به أنه سمعه من أخيه عبد الله".
وقد تعقبته في شرح المسند: 1419 فقلت: إن الحديث حديث الزبير، ولا يبعد أن يكون سمعه منه أبناه عبد الله وعروة، وأن يكون عروة سمعه أيضًا من أخيه عبد الله، أو ثبته عبد الله فيه. وأما ادعاء أن عروة لم يسمع من أبيه فالأدلة تنقضه، فإنه كان مراهقًا أو بالغًا عند مقتل أبيه، كانت سنه 13 سنة. وفي التهذيب 7: 185: "قال مسلم بن الحجاج في كتاب التمييز: حج عروة مع عثمان، وحفظ عن أبيه فمن دونهما من الصحابة".
وأزيد هنا أن البخاري صرح في ترجمة"عروة" في التاريخ الكبير 4 / 1 / 31 بسماعه من أبيه، فقال: "سمع أباه وعائشة وعبد الله بن عمر". وأن الإمام أحمد روى حديثًا آخر قبله: 1418، من طريق هشام بن عروة، "عن عروة، قال: أخبرني أبي الزبير" - وإسناده صحيح، وفيه التصريح بسماع عروة من أبيه، وأن الحافظ في الفتح 5: 26 قال: "وإنما صححه البخاري - مع هذا الاختلاف - اعتمادًا على صحة سماع عروة من أبيه".
ورواه عروة أيضًا من عند نفسه، حكاية للقصة، دون أن يذكر أنه عن اخيه أو عن أبيه - فيكون ظاهره أنه حديث مرسل، كما في الرواية الآتية عقب هذه، وسيأتي باقي الكلام هناك.
(5) في المطبوعة: حذف قوله: "من بني أمية"، كأنه ظن أن"بني أمية" هنا هم القرشيون!! و"بنو أمية" هنا: هم بنو أمية بن زيد بن قيس بن عامر بن مرة بن مالك بن الأوس.(8/520)
أن قد ساءه ما قال، ثم قال: يا زبير، احبس الماء إلى الجدْرِ = أو: إلى الكعبين = ثم خل سبيل الماء. قال: ونزلت:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم". (1)
9914 - حدثني عبد الله بن عمير الرازي قال، حدثنا عبد الله بن الزبير قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا عمرو بن دينار، عن سلمة رجلٍ من ولد أم سلمة، عن أم سلمة: أن الزبير خاصم رجلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقضى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير، فقال الرجل لما قضى للزبير: أن كان ابن عمتك! فأنزل الله:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم
__________
(1) الحديث: 9913 - إسماعيل بن إبراهيم: هو ابن علية.
عبد الرحمن بن إسحاق بن عبد الله بن الحارث بن كنانة: ثقة، وثقه ابن معين والبخاري وغيرهما. وأخرج له مسلم في صحيحه. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 212 - 213.
وهذا الحديث صورته صورة الإرسال، كما أشرنا في الحديث قبله. لأن عروة بن الزبير - وهو تابعي - يحكي القصة، دون أن يذكر روايته إياها عن أبيه أو عن أخيه.
وكذلك رواه يحيى بن آدم في كتاب الخراج، رقم: 337 (بتحقيقنا) ، عن ابن علية، كرواية الطبري هذه.
وبهذه الصورة - صورة الإرسال - رواه البخاري 5: 29 (فتح) ، من طريق معمر، عن الزهري، عن عروة، قال: "خاصم الزبير رجلا". - إلخ. وكذلك رواه مرة أخرى 8: 191، من طريق معمر.
وكذلك رواه 5: 30، من طريق ابن جريج، عن الزهري - على صوره الإرسال.
وأشار الحافظ في الفتح 5: 26 إلى روايات أخر عن الزهري توافق روايتي معمر وابن جريج على روايته بصورة الحديث المرسل.
والراجح عندي أن عروة سمع الحديث من أبيه مع أخيه عبد الله، ولعله لم يتثبت من حفظه تمامًا لصغر سنه، فسمعه مرة أخرى من أخيه. فحدث به على تارات: يذكر أنه عن أخيه عن أبيه. أو يذكر أنه عن أبيه مباشرة. أو يرسل القصة إرسالا دون ذكر واحد منهما لثقته بسماعها واطمئنانه.
ولذلك أخرج البخاري في صحيحه الرواية التي صورتها صورة الإرسال في موضعين، توثيقًا منه لثبوته موصولا. وأريد الحافظ في الفتح 5: 26 صنيع البخاري هذا بقوله: "ثم الحديث ورد في شيء يتعلق بالزبير، فداعية ولده متوفرة على ضبطه".
والحديث - في أصله - ذكره السيوطي 2: 180، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي.(8/522)
لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليمًا". (1)
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في المنافق واليهوديّ اللذين وصف الله صفتهما في قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت".
*ذكر من قال ذلك:
9915 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجًا مما قضيت ويسلموا تسليما"، قال: هذا الرجل اليهوديُّ والرجل المسلم اللذان تحاكما إلى كعب بن الأشرف.
__________
(1) الحديث: 9914 - عبد الله بن عمير الرازي - شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع.
عبد الله بن الزبير بن عيسى الأسدي: هو الحميدي الإمام الثقة المشهور، من شيوخ البخاري. قال أبو حاتم: "هو أثبت الناس في ابن عيينة، وهو رئيس أصحابه، وهو ثقة إمام". مات سنة 219.
سفيان: هو ابن عيينة.
"سلمة رجل من ولد أم سلمة": هو"سلمة بن عبد الله بن عمر بن أبي سلمة". مضت ترجمته في: 8368، 8369.
وهذا الحديث فيه القصة السابقة التي رواها عروة بن الزبير.
وقد أشار إليه الحافظ في الفتح 5: 26، قال: "وقد جاءت هذه القصة من وجه آخر، أخرجها الطبري والطبراني، من حديث أم سلمة".
وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (ج7 ص4) بنحوه. وقال: "رواه الطبراني، وفيه يعقوب بن حميد، وثقه ابن حبان، وضعفه غيره".
وليس"يعقوب بن حميد" في هذا الإسناد - إسناد الطبري - فهو وجه آخر.
وقد ذكره ابن كثير 2: 503 - 504 من كتاب ابن مردويه، من طريق الفضل بن دكين، عن ابن عيينة، بهذا الإسناد. ولكن فيه: "عن رجل من آل أبي سلمة، قال: خاصم الزبير رجلا" - إلخ. فلم يذكر فيه"عن أم سلمة".
وذكره السيوطي 2: 180، وزاد نسبته للحميدي - وهو الوجه الذي في الطبري هنا - وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر.(8/523)
9916 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9917 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي، بنحوه = إلا أنه قال: إلى الكاهن. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول = أعني قول من قال: عني به المحتكمان إلى الطاغوت اللذان وصف الله شأنهما في قوله:"ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك" = أولى بالصواب، لأن قوله:"فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" في سياق قصة الذين ابتدأ الله الخبر عنهم بقوله: (2) "ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك"، ولا دلالة تدل على انقطاع قصتهم، فإلحاق بعض ذلك ببعض = ما"لم تأت دلالة على انقطاعه = أولى.
* * *
فإن ظن ظانٌّ أن في الذي روي عن الزبير وابن الزبير من قصته وقصة الأنصاري في شِراج الحرة، وقولِ من قال في خبرهما:"فنزلت فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم" = ما ينبئ عن انقطاع حكم هذه الآية وقصتها من قصة الآيات قبلها، فإنه غير مستحيل أن تكون الآية نزلت في قصة المحتكمين إلى الطاغوت، (3) ويكون فيها بيان ما احتكم فيه الزبير وصاحبه الأنصاري، إذ كانت الآية دلالة دالة (4) وإذ كان ذلك غير مستحيل، كان إلحاق معنى
__________
(1) وهناك قول آخر ذكر الطبري فيما سلف، دليله في الأثر رقم: 5819، أن الآية نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين، كان له ابنان فتنصرا. وقد بينت آنفًا في 5: 410، تعليق: 4، أن هذا من الأدلة على اختصار أبي جعفر تفسيره هذا.
(2) في المطبوعة: "الذين أسدى الله الخبر عنهم"، وهو كلام خلو من كل معنى، أوقعه فيه أنه لم يحسن قراءة المخطوطة، ولم يعرف قط قاعدة ناسخها، فإنه يكتب"ابتدأ" هكذا: "ابتدى" غير منقوطة.
(3) في المطبوعة: "في حصة المحتكمين"، وهو خطأ في الطباعة.
(4) في المطبوعة: "إذ كانت الآية دالة على ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة وهو صواب.(8/524)
بعض ذلك ببعضٍ، أولى، ما دام الكلام متسقة معانيه على سياق واحد، إلا أن تأتي دلالة على انقطاع بعض ذلك من بعض، فيُعْدَل به عن معنى ما قبله.
* * *
وأما قوله:"ويسلموا"، فإنه منصوب عطفًا، على قوله:"ثم لا يجدوا في أنفسهم" = وقوله:"ثم لا يجدوا في أنفسهم"، نصبٌ عطفًا على قوله:"حتى يحكموك فيما شجر بينهم".
* * *(8/525)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66)
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم"، ولو أنا فرضنا على هؤلاء الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، المحتكمين إلى الطاغوت، أن يقتلوا أنفسهم وأمرناهم بذلك = أو أن يخرجوا من ديارهم مهاجرين منها إلى دار أخرى سواها (1) ="ما فعلوه"، يقول: ما قتلوا أنفسهم بأيديهم، ولا هاجروا من ديارهم فيخرجوا عنها إلى الله ورسوله، طاعة لله ولرسوله ="إلا قليل منهم".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9918 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا
__________
(1) انظر تفسير"كتب" فيما سلف ص: 8: 170، تعليق: 1، والمراجع هناك.(8/525)
أنفسكم"، يهود يعني = أو كلمة تشبهها = والعربَ، (1) كما أمر أصحاب موسى عليه السلام.
9919 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم"، كما أمر أصحاب موسى أن يقتل بعضهم بعضًا بالخناجر، لم يفعلوا إلا قليل منهم.
9920 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم"، افتخر ثابت بن قيس بن شماس ورجل من يهود، فقال اليهودي: والله لقد كتب الله علينا أن اقتلوا أنفسكم، فقتلنا أنفسنا! فقال ثابت: والله لو كُتب علينا أن اقتلوا أنفسكم، لقتلنا أنفسنا! أنزل الله في هذا:"ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا".
9921 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن إسماعيل، عن أبي إسحاق السبيعي قال: لما نزلت:"ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم"، قال رجل: لو أمرنا لفعلنا، والحمد لله الذي عافانا! فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ من أمتي لَرِجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرَّواسي.
* * *
واختلف أهل العربية في وجه الرفع في قوله:"إلا قليل منهم".
فكان بعض نحويي البصرة يزعم أنه رفع"قليل"، لأنه جعل بدلا من الأسماء
__________
(1) في المطبوعة: "هم يهود يعني والعرب". ومثلها في الدر المنثور 2: 181، وهو تصرف من السيوطي، وتبعه الناشر الأول. وذلك أنه شك في معنى"أو كلمة تشبهها" فحذفها، وزاد في أول الكلام"هم". ولكن قوله: "أو كلمة تشبهها" أي: تشبه"يعني" في معناها، كقولك "يريد" أو "أراد".(8/526)
المضمرة في قوله:"ما فعلوه"، لأن الفعل لهم.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: إنما رفع على نية التكرير، كأن معناه: ما فعلوه، ما فعله إلا قليل منهم، كما قال عمرو بن معد يكرب: (1)
وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ، ... لَعمْرُ أَبِيك إلا الفَرْقَدَانِ (2)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: رفع"القليل" بالمعنى الذي دلَّ عليه قوله:"ما فعلوه إلا قليل منهم". وذلك أن معنى الكلام: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعله إلا قليل منهم = فقيل:"ما فعلوه" على الخبر عن الذين مضى ذكرهم في قوله:"ألم تر إلى الذين
__________
(1) وأصح، نسبته إلى حضرمي بن عامر الأسدي، وينسب إلى سوار بن المضرب، وهو خطأ.
(2) سيبويه 1: 371 / مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 131 / البيان والتبيين 1: 228 / حماسة البحتري: 151 / الكامل 2: 298 / المؤتلف والمختلف: 85 / الخزانة 2: 52= 4: 79 / شرح شواهد المغني: 78. هذا ولم أجد أبيات عمرو بن معد يكرب، وأما شعر حضرمي، فقبل البيت، وهو شعر جيد: وَذِي فَجْعٍ عَزَفتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... حِذَارَ الشَّامتين، وَقَدْ شَجَانِي
أَخِي ثِقَةٍ، إذَا مَا اللَّيْلُ أَفْضَى ... إلَيَّ بِمُؤْيِدٍ حُبْلَى كَفَانِي
قَطَعْتُ قَرِينَتِي عَنْهُ فأغْنَى ... غناهُ، فَلَنْ أَراهُ وَلَنْ يَرَانِي
وكُلُّ قَرِينَةٍ قُرِنَتْ بِأُخْرى، ... وَلَوْ ضَنَّتْ بِهَا، سَتَفَرَّقَانِ
وكُلُّ أَخٍ...................... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَكُلُّ إِجَابَتي إِيَّاهُ أَنِّي ... عَطَفْتُ عَلَيْهِ خَوَّار الْعِنَانِ
وقوله: "وذي فجع"، أي: صديق يورث فراقه الفجيعة، ويروى"وذى لطف"، ويروي"وذي فخم"، يعني: ذي كبرياء واستعلاء. و"عزف نفسه عن الشيء": صرفها. و"شجاني": أحزنني. و"المؤيد" الداهية العظيمة."حبلى" تلد شرًا بعد شر. و"القرينة" النفس التي تقارن صاحبها لا تفارقه، حتى يموت. و"خوار العنان" صفة الفرس إذا كان سهل المعطف لينه كثير الجري، يعني، أنه ينصره في الحرب حين يستغيث به.(8/527)
يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك"، ثم استثنى"القليل"، فرفع بالمعنى الذي ذكرنا، إذ كان الفعل منفيًّا عنه.
* * *
وهي في مصاحف أهل الشام: (مَا فَعَلُوهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ) . وإذا قرئ كذلك، فلا مرْزِئَةَ على قارئه في إعرابه، (1) لأنه المعروف في كلام العرب، إذ كان الفعل مشغولا بما فيه كنايةُ مَنْ قد جرى ذكره، (2) ثم استثني منهم القليل.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: ولو أن هؤلاء المنافقين الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك، وهم يتحاكمون إلى الطاغوت، ويصدُّون عنك صدودًا ="فعلوا ما يوعظون به"، يعني: ما يذكّرون به من طاعة الله والانتهاء إلى أمره (3) ="لكان خيرًا لهم"، في عاجل دنياهم، وآجل معادهم ="وأشد تثبيتًا"، وأثبت لهم في أمورهم، وأقوم لهم عليها. (4) وذلك أن المنافق يعمل على شك، فعمله يذهب باطلا وعناؤه يضمحلّ فيصير هباء، وهو بشكه يعمل على وناءٍ وضعف. (5)
__________
(1) "المرزئة" (بفتح الميم، وسكون الراء، وكسر الزاي) ، مثل الرزء، والرزيئة: وهو المصيبة والعناء والضرر والنقص، وكل ما يثقل عليك، عافاك الله. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "فلا مرد به على قارئه"، وهو شيء لا يفهم ولا يقال!!
(2) "الكناية" الضمير، كما سلف مرارًا كثيرة. ثم انظر مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 131.
(3) انظر تفسير"الوعظ"، فيما سلف ص: 299، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير"التثبيت" فيما سلف 5: 354، 531 / 7: 272، 273. ولو قال: "وأقوى لهم عليها"، لكان ذلك أرجح عندي، وكلتاهما صواب.
(5) "الونا" و"الوناء": الفترة والكلال والإعياء والضعف.(8/528)
وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)
ولو عمل على بصيرة، لاكتسب بعمله أجرًا، ولكان له عند الله ذخرًا، وكان على عمله الذي يعمل أقوى، ولنفسه أشدَّ تثبيتًا، لإيمانه بوعد الله على طاعته، وعمله الذي يعمله. ولذلك قال من قال: معنى قوله:"وأشد تثبيتًا"، تصديقًا، كما:-
9922 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لكان خيرًا لهم وأشد تثبيتًا"، قال: تصديقًا.
* * *
= لأنه إذا كان مصدّقًا، كان لنفسه أشد تثبيتًا، ولعزمه فيه أشدّ تصحيحًا. وهو نظير قوله جل ثناؤه: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ) [سورة البقرة: 265] .
وقد أتينا على بيان ذلك في موضعه، بما فيه كفاية من إعادته، (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرًا لهم، لإيتائنا إياهم على فعلهم ما وعِظُوا به من طاعتنا والانتهاء إلى أمرنا ="أجرًا" يعني: جزاء وثوابًا عظيمًا (2) = وأشد تثبيتًا لعزائمهم وآرائهم، وأقوى لهم على أعمالهم، لهدايتنا إياهم صراطًا مستقيمًا = يعني: طريقًا لا اعوجاج فيه، وهو دين الله القويم الذي اختاره لعباده وشرعه لهم، وذلك الإسلام. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير الآية فيما سلف 5: 530 - 534.
(2) انظر تفسيره"الأجر" فيما سلف ص: 365، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170 - 177 / 3: 140، 141 / 6: 441.(8/529)
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
ومعنى قوله:"ولهديناهم"، ولوفَّقناهم للصراط المستقيم. (1)
ثم ذكر جل ثناؤه ما وعد أهل طاعته وطاعة رسوله عليه السلام، من الكرامة الدائمة لديه، والمنازل الرفيعة عنده. فقال: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ) الآية.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ومن يطع الله والرسول" بالتسليم لأمرهما، وإخلاص الرضى بحكمهما، والانتهاء إلى أمرهما، والانزجار عما نهيا عنه من معصية الله، فهو مع الذين أنعم الله عليهم بهدايته والتوفيق لطاعته في الدنيا من أنبيائه، وفي الآخرة إذا دخل الجنة ="والصديقين" وهم جمع"صِدِّيق".
* * *
واختلف في معنى:"الصديقين".
فقال بعضهم:"الصديقون"، تُبَّاع الأنبياء الذين صدّقوهم واتبعوا منهاجهم بعدهم حتى لحقوا بهم. فكأن"الصدِّيق"،"فِعِّيل"، على مذهب قائلي هذه المقالة، من"الصدق"، كما يقال:"رجل سِكّير" من"السُّكر"، إذا كان مدمنًا على ذلك، و"شِرِّيبٌ"، و"خِمِّير".
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الهدي" فيما سلف من فهارس اللغة.(8/530)
وقال آخرون: بل هو"فِعِّيل" من"الصَّدَقة"، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو تأويل من قال ذلك، وهو ما:-
9923 - حدثنا به سفيان بن وكيع قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن موسى بن يعقوب قال، أخبرتني عمتي قريبة بنت عبد الله بن وهب بن زمعة، عن أمها كريمة ابنة المقداد، (1) عن ضباعة بنت الزبير، (2) وكانت تحت المقداد، عن المقداد قال: قلت للنبي صلى الله عليه وسلم: شيء سمعته منك شككت فيه! قال: إذا شكّ أحدكم في الأمر فليسألني عنه. قال قلت: قولك في أزواجك:"إنيّ لأرجو لهن من بعدِيَ الصدِّيقين" قال: من تَعُدُّون الصديقين؟ (3) قلت: أولادنا الذين يهلكون صغارًا. قال: لا ولكن الصدِّيقين هم المصَّدِّقون. (4)
* * *
وهذا خبر، لو كان إسناده صحيحًا، لم نستجز أن نعدوه إلى غيره، ولو كان في إسناده بعض ما فيه.
__________
(1) في المخطوطة"كريمة ابنة المقدام"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المخطوطة: "متاعة بنت الزبير"، خطأ، صوابه في المطبوعة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "من تعنون الصديقين"، وهو خطأ لا معنى له. والصواب ما أثبت من مختصر هذا الأثر في منتخب كنز العمال (هامش المسند) 5: 113.
(4) الحديث: 9923 - سفيان بن وكيع بن الجراح - شيخ الطبري: ضعيف، كما فصلنا في: 142، 143.
موسى بن يعقوب بن عبد الله بن وهب بن زمعة بن الأسود، الزمعي -بسكون الميم - المدني: ثقة، وثقه ابن معين وابن القطان وغيرهما. وضعفه ابن المديني وغيره. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 / 1 / 298، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 167 - ولم يذكرا فيه جرحًا. بل اقتصر ابن أبي حاتم على توثيق ابن معين إياه.
قريبة - بالتصغير - بنت عبد الله بن وهب بن زمعة، عمة موسى بن يعقوب: مترجمة في التهذيب، دون جرحها بشيء.
أمها: "كريمة بنت المقداد بن الأسود": تابعية ثقة. ذكرها ابن حبان في الثقات.
ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب، بنت عم النبي صلى الله عليه وسلم: صحابية معروفة. كانت زوجًا للمقداد بن الأسود. ولها أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، وعن زوجها المقداد.
وهذا الحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 183، مختصرًا، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
ولكنه ذكره في الجامع الكبير، المسمى"جمع الجوامع"، كما يدل عليه ذكره في كتاب"منتخب كنز العمال" للمتقي الهندي، المطبوع بهامش مسند أحمد - طبعة الحلبي - ذكره فيه مختصرًا (ج5 ص113) ، ونسبه للطبراني في الكبير.
وقد أعجزني أن أجده في مجمع الزوائد، لأنه على شرطه. ولست أعرف إذا كانت روايته عند الطبراني من طريق سفيان بن وكيع، أو من طريق راو آخر، فإن يكن من طريق راو غيره، كان الإسناد جيدًا، لأن جرح سفيان بن وكيع لم يكن من قبل صدقه، كما بينا في ترجمته.(8/531)
فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بـ "الصديق"، أن يكون معناه: المصدِّق قوله بفعله. إذ كان"الفعِّيل" في كلام العرب، إنما يأتي، إذا كان مأخوذًا من الفعل، بمعنى المبالغة، إما في المدح، وإما في الذم، ومنه قوله جل ثناؤه في صفة مريم: (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) [سورة المائدة: 75] .
وإذا كان معنى ذلك ما وصفنا، كان داخلا من كان موصوفًا بما قلنا في صفة المتصدقين والمصدقين.
="والشهداء"، وهم جمع"شهيد"، وهو المقتول في سبيل الله، سمي بذلك لقيامه بشهادة الحق في جَنب الله حتى قتل. (1)
* * *
="والصالحين"، وهم جمع"صالح"، وهو كل من صلحت سريرته وعلانيته. (2)
وأما قوله جل ثناؤه:"وحَسُن أولئك رفيقًا"، فإنه يعني: وحسن، هؤلاء الذين نعتهم ووصفهم، (3) رفقاء في الجنة.
* * *
و"الرفيق" في لفظ واحدٍ بمعنى الجميع، (4) كما قال الشاعر: (5)
__________
(1) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف: 368، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف: 293، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر ما كتبته في"حسن" 4: 458، تعليق: 2.
(4) في المطبوعة: "بلفظ الواحد"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) هو جرير.(8/532)
دَعَوْنَ الهَوَى، ثُمَّ ارْتَمَيْنَ قُلُوَبنَا ... بِأَسْهُمِ أَعْدَاءِ، وَهُنَّ صَدِيقُ (1)
بمعنى: وهن صدائق.
* * *
وأما نصب"الرفيق"، فإن أهل العربية مختلفون فيه.
فكان بعض نحويي البصرة يرى أنه منصوب على الحال، ويقول: هو كقول الرجل:"كَرُم زيد رجلا"، ويعدل به عن معنى:"نعم الرجل"، ويقول: إن"نعم" لا تقع إلا على اسم فيه"ألف ولام"، أو على نكرة.
* * *
وكان بعض نحويي الكوفة يرى أنه منصوب على التفسير، (2) وينكر أن يكون حالا ويستشهد على ذلك بأن العرب تقول:"كرم زيدٌ من رجل" و"حسن أولئك من رفقاء"، وأن دخول"مِنْ" دلالة على أن"الرفيق" مفسره. قال: وقد حكي عن العرب:"نَعِمتم رجالا"، فدل على أن ذلك نظير قوله:"وحسنتم رفقاء".
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب، للعلة التي ذكرنا لقائليه.
* * *
__________
(1) ديوانه: 398، وطبقات فحول الشعراء: 351، واللسان (صدق) ، وغيرها كثير. من أبيات ذكر فيهن الحجاج، قبله أبيات حسان، تحفظ: وَبِتُّ أُرَائِي صَاحِبَيَّ تَجَلُّدًا ... وَقَدْ عَلِقَتْنِي مِنْ هَوَاكِ عَلُوقُ
فَكَيْفَ بِهَا? لا الدَّارُ جَامِعَةُ الْهَوَى ... وَلا أنْتَ عَصْرًا عَنْ صِبَاكَ مُفِيقُ
أَتجْمَعُ قَلْبًا بِالْعِرَاقِ فَرِيُقهُ، ... ومِنْهُ بِأَظْلالٍ الأََرَاكِ فَرِيقُ?
كأنْ لَمْ تَرُقْني الرَّائِحَاتُ عَشِيَّةً ... وَلَمْ يُمْسِ فِي أَهْل الْعِرَاقِ وَمِيقُ
أُعَالِجُ بَرْحًا مِنْ هَوَاكِ، وَشَفَّني ... فُؤَادٌ إذَا مَا تُذْكَرِينَ خَفُوقُ
أَوَانِسُ، أَمَّا مَنْ أَرَدْنَ عَنَاءَهُ ... فَعَانِ، وَمَنْ أَطْلَقْنَ فَهُوَ طَلِيقُ
دَعَوْنَ الْهَوَى............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي المطبوعة: "نصبن الهوى"، وهي رواية أخرى، غير التي في المخطوطة والديوان.
(2) "التفسير". التمييز و"المفسر": المميز. كما سلف مرارًا. انظر فهرس المصطلحات.(8/533)
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت، (1) لأن قومًا حزنوا على فقد رسول الله صلى الله عليه وسلم حذرًا أن لا يروه في الآخرة.
ذكر الرواية بذلك:
9924 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل من الأنصار إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محزون، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا فلان، مالي أراك محزونًا؟ قال: يا نبي الله، شيء فكرت فيه! فقال: ما هو؟ قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر في وجهك ونجالسك، غدًا ترفع مع النبيين فلا نصل إليك! فلم يردّ النبي صلى الله عليه وسلم شيئًا. فأتاه جبريل عليه السلام بهذه الآية:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا". قال: فبعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم فبشره.
9925 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق قال: قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، ما ينبغي لنا أن نفارقك في الدنيا، فإنك لو قَدْ مِتَّ رُفِعت فوقنا فلم نرك! فأنزل الله:"ومن يطع الله والرسول"، الآية.
9926 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين"، ذكر لنا أن رجالا قالوا: هذا نبي الله نراه في الدنيا، فأما في الآخرة فيرفع فلا نراه! فأنزل الله:"ومن يطع الله والرسول" إلى قوله:"رفيقًا".
9927 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم" الآية، قال: قال ناس من الأنصار: يا رسول الله، إذا أدخلك الله الجنة فكنت
__________
(1) في المخطوطة: "وقد ذكرنا أن ... "، والصواب ما في المطبوعة.(8/534)
في أعلاها، ونحن نشتاق إليك، فكيف نصنع؟ فأنزل الله"ومن يطع الله والرسول".
9928 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن يطع الله والرسول"، الآية، قال: إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا: قد علمنا أن النبي صلى الله عليه وسلم له فضله على من آمن به في درجات الجنة، (1) ممن اتبعه وصدقه، فكيف لهم إذا اجتمعوا في الجنة أن يرى بعضهم بعضًا؟ فأنزل الله في ذلك. يقال: (2) إن الأعلَين ينحدرون إلى من هم أسفل منهم فيجتمعون في رياضها، فيذكرون ما أنعم الله عليهم ويثنون عليه، وينزل لهم أهل الدرجات فيسعون عليهم بما يشتهون وما يدعون به، فهم في رَوْضه يحبرون ويتنعَّمون فيه. (3) .
* * *
وأما قوله:"ذلك الفضل من الله"، فإنه يقول: كون من أطاع الله والرسول مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ="الفضل من الله"، يقول: ذلك عطاء الله إياهم وفضله عليهم، لا باستيجابهم ذلك لسابقة سبقت لهم. (4)
* * *
فإن قال قائل: أو ليس بالطاعة وصلوا إلى ما وصلوا إليه من فضله؟
قيل له: إنهم لم يطيعوه في الدنيا إلا بفضله الذي تفضل به عليهم، فهداهم به لطاعته، فكل ذلك فضل منه تعالى ذكره.
* * *
وقوله:"وكفى بالله عليما"، يقول: وحسب العباد بالله الذي خلقهم ="عليما"
__________
(1) في المطبوعة: "له فضل على من آمن"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فقال"، والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "في روضة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 344 / 5: 164، 571 / 6: 518 / 7: 299، 414 / 8: 268.(8/535)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71)
بطاعة المطيع منهم ومعصية العاصي، فإنه لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولكنه يحصيه عليهم ويحفظه، حتى يجازي جميعهم، جزاء المحسنين منهم بالإحسان، والمسيئين منهم بالإساءة، (1) ويعفو عمن شاء من أهل التوحيد.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (2) "يا أيها الذين آمنوا"، صدَّقوا الله ورسوله ="خذوا حذركم"، خذوا جُنَّتكم وأسلحتكم التي تتقون بها من عدوكم لغزوهم وحربهم ="فانفروا إليهم ثُبات".
* * *
= وهي جمع"ثبة"، و"الثبة"، العصبة.
= ومعنى الكلام: فانفروا إلى عدوكم جماعة بعد جماعة متسلحين.
= ومن"الثبة" قول زهير:
وَقَدْ أَغْدُوا عَلَى ثُبَةٍ كِرَامٍ ... نَشَاوَى وَاجِدِينَ لِمَا نَشَاء (3)
__________
(1) في المطبوعة: "فيجزي المحسن منهم بالإحسان، والمسيء منهم بالإساءة" وفي المخطوطة: "جزاء المحسنين منهم بالإحسان، والمسيء منهم بالإساءة"، وأثبت ما في المخطوطة، وأثبت صواب السياق على ما يقتضيه صدر الكلام.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك ... " والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) ديوانه: 72، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 132، واللساق (ثبا) و (نشا) ، وغيرها. من أبيات وصف فيها الشرب، قد بلغت منهم النشوة، وهم في ترف من يومهم، لا يفتقدون شيئًا ثم يقول: لَهُمْ رَاحٌ، وَرَاوُوقٌ، ومِسْكٌ ... تُعَلُّ بِهِ جُلُودُهُمُ، ومَاءُ
أُمَشِّي بَيْنَ قَتْلَى قَدْ أُصِيَبتْ ... نُفُوسُهُمُ، ولَمْ تَقْطُرَ دماءُ
يَجُرُّونَ الْبُرُودَ وَقَدْ تَمَشَّتْ ... حُمَيَّا الْكَأْسِ فِيهِمْ والغِنَاءُ(8/536)
وقد تجمع"الثبة" على"ثُبِين". (1) .
* * *
="أو انفروا جميعًا"، يقول: أو انفروا جميعًا مع نبيكم صلى الله عليه وسلم لقتالهم.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9929 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"خذوا حذركم فانفروا ثبات"، يقول: عصبًا، يعني سَرايَا متفرقين ="أو انفروا جميعًا"، يعني: كلكم.
9930 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فانفروا ثبات"، قال: فرقًا، قليلا قليلا.
9931 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فانفروا ثبات"، قال:"الثبات" الفرق.
9932 - حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
9933 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فانفروا ثبات"، فهي العصبة، وهي الثبة ="أو انفروا جميعًا"، مع النبي صلى الله عليه وسلم.
9934 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فانفروا ثبات"، يعني: عصبًا متفرِّقين.
* * *
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 132.(8/537)
وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72)
القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) }
قال أبو جعفر: وهذا نعت من الله تعالى ذكره للمنافقين، نعتهم لنبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه ووصفهم بصفتهم فقال:"وإن منكم"، أيها المؤمنون، يعني: من عِدَادكم وقومكم، ومن يتشَّبه بكم، ويظهر أنه من أهل دعوتكم ومِلَّتكم، وهو منافق يبطِّئ من أطاعه منكم عن جهاد عدوكم وقتالهم إذا أنتم نفرتم إليهم ="فإن أصابتكم مصيبة"، (1) يقول: فإن أصابتكم هزيمة، أو نالكم قتل أو جراح من عدوكم ="قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا"، فيصيبني جراح أو ألم أو قتل، وسَرَّه تخلّفه عنكم، شماتة بكم، لأنه من أهل الشك في وعد الله الذي وعد المؤمنين على ما نالهم في سبيله من الأجر والثواب، وفي وعيده. فهو غيرُ راج ثوابًا، ولا خائف عقابًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9935 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن منكم لمن ليبطئن فإن أصابتكم مصيبة" إلى قوله:"فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، ما بين ذلك في المنافقين.
__________
(1) انظر تفسير"إصابة المصيبة" فيما سلف: 514.(8/538)
9936 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
9937 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن منكم لمن ليبطئن" عن الجهاد والغزو في سبيل الله ="فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا"، قال: هذا قول مكذِّب.
9938 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: المنافق يبطِّئ المسلمين عن الجهاد في سبيل الله، قال الله:"فإن أصابتكم مصيبة"، قال: بقتل العدو من المسلمين ="قال قد أنعم الله عليّ إذ لم أكن معهم شهيدًا"، قال: هذا قول الشامت.
9939 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فإن أصابتكم مصيبة"، قال: هزيمةٌ.
* * *
ودخلت"اللام" في قوله:"لمن"، وفتحت، لأنها"اللام" التي تدخل توكيدًا للخبر مع"إنَّ"، كقول القائل:"إنّ في الدار لَمَن يكرمك". وأما"اللام" الثانية التي في"ليبطئن"، فدخلت لجواب القسم، كأن معنى الكلام: وإن منكم أيها القوم لمن والله ليبطئن. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 275، 276.(8/539)
وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73)
القول في تأويل قوله: {وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه:"ولئن أصابكم فضل من الله"، ولئن أظفركم الله بعدوكم فأصبتم منهم غنيمة، ليقولن هذا المبطِّئُ المسلمين عن الجهاد معكم في سبيل الله، المنافقُ ="كأن لم يكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز"، بما أصيب معهم من الغنيمة ="فوزًا عظيمًا".
* * *
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن هؤلاء المنافقين: أنّ شهودهم الحرب مع المسلمين إن شهدوها، لطلب الغنيمة = وإن تخلَّفوا عنها، فللشك الذي في قلوبهم، وأنهم لا يرجون لحضورها ثوابًا، ولا يخافون بالتخلف عنها من الله عقابًا.
* * *
وكان قتادة وابن جريج يقولان: إنما قال من قال من المنافقين إذا كان الظفر للمسلمين:"يا ليتني كنت معهم"، حسدًا منهم لهم.
9940 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا"، قال: قول حاسد.
9941 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ولئن أصابكم فضل من الله"، قال: ظهور المسلمين على عدوهم فأصابوا الغنيمة، ليقولن:"يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا"، قال: قول الحاسد.
* * *(8/540)
فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
القول في تأويل قوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74) }
قال أبو جعفر: وهذا حضٌّ من الله المؤمنين على جهاد عدوه من أهل الكفر به على أحايينهم = غالبين كانوا أو مغلوبين، والتهاونِ بأقوال المنافقين في جهاد من جاهدوا من المشركين، (1) [وأن لهم في] جهادهم إياهم - مغلوبين كانوا أو غالبين - منزلة من الله رفيعة. (2)
* * *
يقول الله لهم جل ثناؤه:"فليقاتل في سبيل الله"، يعني: في دين الله والدعاء إليه، والدخول فيما أمر به أهل الكفر به ="الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة"، يعني: الذين يبيعون حياتهم الدنيا بثواب الآخرة وما وعد الله أهل طاعته فيها. وبيعُهم إياها بها: إنفاقهم أموالهم في طلب رضى الله، لجهاد من أمر بجهاده من أعدائه وأعداء دينه، (3) وبَذْلهم مُهَجهم له في ذلك.
* * *
أخبر جل ثناؤه بما لهم في ذلك إذا فعلوه فقال:"ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: ومن يقاتل - في طلب إقامة دين الله وإعلاء كلمة الله - أعداءَ الله ="فيقتل"، يقول: فيقتله أعداء الله، أو يغلبهم
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة"والتهاون بأحوال المشركين"، والذي يدل عليه سياق التفسير، هو ما أثبت. ويعني بذلك ما يقوله المنافق عند هزيمة المسلمين: "قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدًا"، وقوله إذا كانت الدولة والظفر للمسلمين: "يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا".
وقوله: "والتهاون" عطف على قوله: "وهذا حض من الله المؤمنين على جهاد عدوه".
(2) كان مكان ما بين القوسين في المخطوطة والمطبوعة: "وقع" وهو كلام لا يستقيم البتة، فاستظهرت أن يكون صواب سياقه ما أثبت، أو ما يشبهه من القول.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "كجهاد من أمر بجهاده"، وصواب السياق"لجهاد........" كما أثبتها.(8/541)
فيظفر بهم ="فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: فسوف نعطيه في الآخرة ثوابًا وأجرًا عظيمًا. وليس لما سمى جل ثناؤه"عظيمًا"، مقدار يعرِف مبلغَه عبادُ الله. (1)
* * *
وقد دللنا على أن الأغلب على معنى:"شريت"، في كلام العرب:"بعت"، بما أغنى [عن إعادته] ، (2)
وقد:-
9942 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فليقاتل في سبيل الله الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة"، يقول: يبيعون الحياة الدنيا بالآخرة.
9943 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"يشرون الحياة الدنيا بالآخرة"، فـ "يشري": يبيع، و"يشري": يأخذ = وإن الحمقى باعوا الآخرة بالدنيا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف: 529، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"شرى" و"اشترى" فيما سلف 1: 312- 315 / 2: 340- 342، 455 / 3: 328 / 4: 246 / 6: 527 / 7: 420، 459 / 8: 428
وزدت ما بين القوسين، جريًا على نهج عبارته في مئات من المواضع السالفة، والظاهر أن الناسخ نسى أن يكتبها، لأن"بما أغنى" وقعت في آخر الصفحة، ثم قلب الورقة إلى الصفحة التالية، وكتب"وقد".(8/542)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75)
القول في تأويل قوله: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) }(8/542)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وما لكم" أيها المؤمنون ="لا تقاتلون في سبيل الله"، وفي"المستضعفين"، يقول: عن المستضعفين منكم ="من الرجال والنساء والولدان"، فأما من"الرجال"، فإنهم كانوا قد أسلموا بمكة، فغلبتهم عشائرهم على أنفسهم بالقهر لهم، وآذوهم، ونالوهم بالعذاب والمكاره في أبدانهم ليفتنوهم عن دينهم، فحضَّ الله المؤمنين على استنقاذهم من أيدي من قد غلبهم على أنفسهم من الكفار، فقال لهم: وما شأنكم لا تقاتلون في سبيل الله، وعن مستضعفي أهل دينكم وملتكم الذين قد استضعفهم الكفار فاستذلوهم ابتغاء فتنتهم وصدِّهم عن دينهم؟ "من الرجال والنساء والولدان" = جمع"ولد": وهم الصبيان ="الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، يعني بذلك أن هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان، يقولون في دعائهم ربَّهم بأن ينجييهم من فتنة من قد استضعفهم من المشركين:"يا ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها".
* * *
والعرب تسمي كل مدينة"قرية" = يعني: التي قد ظلمتنا وأنفسَها أهلُها = وهي في هذا الموضع، فيما فسر أهل التأويل،"مكة".
* * *
وخفض"الظالم" لأنه من صفة"الأهل"، وقد عادت"الهاء والألف" اللتان فيه على"القرية"، وكذلك تفعل العرب إذا تقدمت صفة الاسم الذي معه عائد لاسم قبلها، (1) أتبعت إعرابها إعرابَ الاسم الذي قبلها، كأنها صفة له، فتقول:"مررت بالرجلِ الكريمِ أبوه".
* * *
="واجعل لنا من لدنك وليًّا"، يعني: أنهم يقولون أيضًا في دعائهم: يا ربنا، واجعل لنا من عندك وليًّا، يلي أمرنا بالكفاية مما نحن فيه من فتنة أهل الكفر بك =
__________
(1) في المخطوطة: "الذي معه عادر لاسم قبلها"، وهو سهو من الناسخ، صوابه ما في المطبوعة.(8/543)
"واجعل لنا من لدنك نصيرًا"، يقولون: (1) واجعل لنا من عندك من ينصرنا على من ظلمنا من أهل هذه القرية الظالم أهلها، (2) بصدِّهم إيانا عن سبيلك، حتى تظفرنا بهم، وتعلي دينك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9944 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، قال: أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفي المؤمنين، كانوا بمكة.
9945 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان" = الصبيان ="الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، مكة = أمر المؤمنين أن يقاتلوا عن مستضعفين مؤمنين كانوا بمكة.
9946 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، يقول: وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي المستضعفين = وأما"القرية"، فمكة.
9947 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين"، قال: وفي المستضعفين.
__________
(1) انظر تفسير"الولي"، و"النصير"، فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة"من ظلمنا من أهل القرية"، والصواب من المخطوطة.(8/544)
9948 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع محمد بن مسلم بن شهاب يقول،"وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، قال: في سبيل الله وسبيل المستضعفين.
9949 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، قالا خرج رجل من القرية الظالمة إلى القرية الصالحة، فأدركه الموت في الطريق، فنأى بصدره إلى القرية الصالحة، (1) فما تلافاه إلا ذلك (2) = فاحتجَّت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، (3) فأمروا أن يقدُروا أقرب القريتين إليه، فوجدوه أقرب إلى القرية الصالحة بشبْرٍ = وقال بعضهم: قرّب الله إليه القرية الصالحة، فتوفَّته ملائكة الرحمة.
9950 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، هم أناس مسلمون كانوا بمكة، لا يستطيعون أن يخرجوا منها ليهاجروا، فعذرهم الله، فهم أولئك (4) = وقوله:"ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، فهي مكة.
9950م - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:
__________
(1) قوله: "نأى بصدره" أي تباعد به. يعني: تحامل وهو هالك حتى وجه صدره إلى القرية الصالحة، ابتعادًا وإعراضًا عن القرية الظالمة. ومثله: "نأى بجانبه".
(2) قوله: "فما تلافاه إلا ذلك"، أي: فما تداركه وأنقذه من سوء المصير، إلا هذه الإعراضة التي أعرضها عن القرية الظالمة. وكانت هذه الجملة غير منقوطة في المخطوطة. فآثر ناشر المطبوعة حذفها، لما لم يحسن قراءتها وفهمها.
(3) قوله: "احتجت فيه"، أي: اختصمت فيه الملائكة، وألقى كل خصم بحجته، ولم يرد هذا الوزن بهذا المعنى في كتب اللغة، وهو صحيح عريق، وإنما قالوا: "احتج بالشيء" اتخذه حجة، أما التخاصم والتنازع فقالوا فيه: "تحاج القوم". فهذا من الزيادات الصحيحة على قيد اللغة.
(4) في المطبوعة: "وفيهم قوله"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض.(8/545)
الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
"وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله والمستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين يقولون ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها"، قال: وما لكم لا تفعلون؟ تقاتلون لهؤلاء الضعفاء المساكين الذين يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية الظالم أهلها، فهم ليس لهم قوة، فما لكم لا تقاتلون حتى يسلم الله هؤلاء ودينهم؟ (1) قال: و"القرية الظالم أهلها"، مكة.
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: الذين صدقوا الله ورسوله، وأيقنوا بموعود الله لأهل الإيمان به ="يقاتلون في سبيل الله"، يقول: في طاعة الله ومنهاج دينه وشريعته التي شرعها لعباده (2) ="والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت"، يقول: والذين جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وما جاءهم به من عند ربهم ="يقاتلون في سبيل الطاغوت"، (3) يعني: في طاعة الشيطان وطريقه ومنهاجه الذي شرعه لأوليائه من أهل الكفر بالله. يقول الله، مقوِّيًا عزم المؤمنين به من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومحرِّضهم على أعدائه وأعداء دينه من أهل الشرك به:"فقاتلوا" أيها المؤمنون، ="أولياء الشيطان"، يعني بذلك: الذين يتولَّونه ويطيعون أمره، في خلاف طاعة الله، والتكذيب به، وينصرونه (4) ="إن كيد الشيطان
__________
(1) في المطبوعة: "حتى يسلم لله"، وأثبت ما في المخطوطة فهو الصواب.
(2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف من فهارس اللغة، مادة (سبل) .
(3) انظر تفسير"الطاغوت" فيما سلف 3: 416- 420 / 8: 461- 465، 507- 513.
(4) انظر تفسير"ولي" فيما سلف من فهارس اللغة.(8/546)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77)
كان ضعيفًا"، يعني بكيده: ما كاد به المؤمنين، (1) من تحزيبه أولياءه من الكفار بالله على رسوله وأوليائه أهل الإيمان به. يقول: فلا تهابوا أولياء الشيطان، فإنما هم حزبه وأنصاره، وحزب الشيطان أهل وَهَن وضعف.
* * *
وإنما وصفهم جل ثناؤه بالضعف، لأنهم لا يقاتلون رجاء ثواب، ولا يتركون القتال خوف عقاب، وإنما يقاتلون حميّة أو حسدًا للمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله. والمؤمنون يقاتل مَن قاتل منهم رجاء العظيم من ثواب الله، ويترك القتال إن تركه على خوف من وعيد الله في تركه، فهو يقاتل على بصيرة بما له عند الله إن قتل، وبما لَه من الغنيمة والظفر إن سلم. والكافر يقاتل على حذر من القتل، وإياس من معاد، فهو ذو ضعف وخوف.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ}
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا قد آمنوا به وصدقوه قبل أن يفرض عليهم الجهاد، وقد فرض عليهم الصلاة والزكاة، وكانوا يسألون الله أن يُفرض عليهم القتال، فلما فرض عليهم القتال شقّ عليهم ذلك، وقالوا ما أخبر الله عنهم في كتابه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الكيد" فيما سلف 7: 156.(8/547)
فتأويل قوله:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم"، ألم تر بقلبك، يا محمد، فتعلم (1) ="إلى الذين قيل لهم"، من أصحابك حين سألوك أن تسأل ربك أن يفرض عليهم القتال ="كفوا أيديكم"، فأمسكوها عن قتال المشركين وحربهم ="وأقيموا الصلاة"، يقول: وأدُّوا الصلاة التي فرضها الله عليكم بحدودها (2) ="وآتوا الزكاة"، يقول: وأعطوا الزكاة أهلها الذين جعلها الله لهم من أموالكم، تطهيرًا لأبدانكم وأموالكم (3) = كرهوا ما أمروا به من كف الأيدي عن قتال المشركين وشق ذلك عليهم ="فلما كتب عليهم القتال"، يقول: فلما فرض عليهم القتال الذي كانوا سألوا أن يفرض عليهم (4) ="إذا فريق منهم"، يعني: جماعة منهم (5) ="يخشون الناس"، يقول: يخافون الناس أن يقاتلوهم ="كخشية الله أو أشد خشية"، أو أشد خوفًا (6) = وقالوا جزعًا من القنال الذي فرض الله عليهم:"لم كتبت علينا القتال"، لم فرضت علينا القتال؟ ركونًا منهم إلى الدنيا، وإيثارًا للدعة فيها والخفض، (7) على مكروه لقاء العدوّ ومشقة حربهم وقتالهم ="لولا أخرتنا"، يخبر عنهم، قالوا: هلا أخرتنا ="إلى أجل قريب"، يعني: إلى أن يموتوا على فُرُشهم وفي منازلهم. (8) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير: "ألم تر" فيما سلف: 426، تعليق: 5، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير: "إقامة الصلاة" فيما سلف من فهارس اللغة (قوم) .
(3) انظر تفسير"إيتاء الزكاة" فيما سلف من فهارس اللغة"أتى""زكا".
(4) انظر تفسير"كتب" فيما سلف 525، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير"فريق" سلف 2: 244، 245، 402 / 3: 549 / 6: 535.
(6) انظر تفسير"الخشية" فيما سلف 1: 599، 560 / 2: 239، 243.
(7) في المطبوعة: "وإيثارًا للدعة فيها والحفظ عن مكروه"، وفي المخطوطة: "والحفظ على مكروه"، وكلاهما خطأ فاسد، والصواب: "والخفض" وهو لين العيش، وأما قوله: "على مكروه لقاء العدو" فهو متعلق بقوله: "وإيثار للدعة ... على مكروه ... ".
(8) انظر تفسير"الأجل" فيما سلف 5: 7 / 6: 43، 76.(8/548)
وبنحو الذي قلنا إنّ هذه الآية نزلت فيه، قال أهل التأويل.
ذكر الآثار بذلك، والرواية عمن قاله.
9951 - حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، سمعت أبي قال، أخبرنا الحسين بن واقد، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن عبد الرحمن بن عوف وأصحابًا له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، كنا في عِزّ ونحن مشركون، فلما آمنا صرنا أذِلة! فقال: إني أمرت بالعفو فلا تقاتلوا. فلما حوَّله الله إلى المدينة، أمر بالقتال فكفوا، فأنزل الله تبارك وتعالى:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم"، الآية (1) .
9952 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم"، عن الناس ="فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم"، نزلت في أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم = قال: ابن جريج وقوله:"وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب"، قال: إلى أن نموت موتًا، هو"الأجل القريب".
9953 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة"، فقرأ حتى بلغ:"إلى أجل قريب"، قال: كان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يومئذ بمكة قبل الهجرة، تسرَّعوا إلى القتال، فقالوا لنبي الله صلى
__________
(1) الأثر: 9951 -"محمد بن علي بن الحسن بن شقيق" مضى برقم: 1591، 2575، 2594.
وأبوه: "علي بن الحسن بن شقيق بن دينار" مضى برقم: 1909.
وكان في المطبوعة: " ... بن الحسين بن شقيق"، وهو خطأ.
وهذا الخبر، رواه الحاكم في المستدرك 2: 307 مع اختلاف في لفظه، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. ورواه البيهقي في السنن 9: 11، ورواه ابن كثير في تفسيره 2: 514، من طريق ابن أبي حاتم، وخرجه في الدر المنثور 2: 184، ونسبه إلى هؤلاء وزاد نسبته إلى النسائي.(8/549)
الله عليه وسلم: ذَرْنا نتَّخذ مَعَاول فنقاتل بها المشركين بمكة! فنهاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال: لم أؤمر بذلك. فلما كانت الهجرة، وأُمر بالقتال، كره القوم ذلك، فصنعوا فيه ما تسمعون، فقال الله تبارك وتعالى: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا) .
9954 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة"، قال: هم قوم أسلموا قبل أن يُفرض عليهم القتال، ولم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال ="فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية" الآية، إلى"إلى أجل قريبٍ" (1) وهو الموت، قال الله: (قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى) .
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه وآيات بعدها، في اليهود.
*ذكر من قال ذلك:
9955 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة" إلى قوله:"لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، ما بين ذلك في اليهود.
9956 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فلما كتب عليهم القتال إذا فريق منهم" إلى قوله:"لم كتبت علينا القتال"، نهى الله تبارك وتعالى هذه الأمة أن يصنعوا صنيعهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "الآية إلى أجل قريب"، والسياق يقتضي"إلى" الثانية.(8/550)
القول في تأويل قوله: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلا (77) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"قل متاع الدنيا قليل"، قل، يا محمد، لهؤلاء القوم الذين قالوا:"ربنا لم كتبت علينا القتال لولا أخرتنا إلى أجل قريب" =: عيشكم في الدنيا وتمتعكم بها قليل، لأنها فانية وما فيها فانٍ (1) ="والآخرة خير"، يعني: ونعيم الآخرة خير، لأنها باقية ونعيمها باق دائم. وإنما قيل:"والآخرة خير"، ومعنى الكلام ما وصفت، من أنه معنيٌّ به نعيمها - لدلالة ذكر"الآخرة" بالذي ذكرت به، على المعنى المراد منه ="لمن اتقى"، يعني: لمن اتقى الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فأطاعه في كل ذلك ="ولا تظلمون فتيلا"، يعني: ولا ينقصكم الله من أجور أعمالكم فتيلا.
* * *
وقد بينا معنى:"الفتيل"، فيما مضى، بما أغنى عن إعادته ههنا. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: = حيثما تكونوا يَنَلكم الموت فتموتوا ="ولو كنتم في بروج مشيَّدة"، يقول: لا تجزعوا من الموت، ولا تهربوا من القتال، وتضعفوا عن لقاء عدوكم، حذرًا على أنفسكم من القتل والموت، فإن الموت
__________
(1) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 / 3: 55 / 5: 262 / 6: 258.
(2) انظر ما سلف: 456 - 460.(8/551)
بإزائكم أين كنتم، وواصلٌ إلى أنفسكم حيث كنتم، ولو تحصَّنتم منه بالحصون المنيعة.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:"ولو كنتم في بروج مشيدة".
فقال بعضهم: يعنى به: قصور مُحصنة.
*ذكر من قال ذلك:
9957 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو كنتم في بروج مشيدة"، يقول: في قصور محصنة.
9958 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا أبو همام قال، حدثنا كثير أبو الفضل، عن مجاهد قال: كان فيمن كان قبلكم امرأة، وكان لها أجيرٌ، فولدت جارية. فقالت لأجيرها: اقتبس لنا نارًا، فخرج فوجد بالباب رجلا فقال له الرجل: ما ولدت هذه المرأة؟ قال: جارية. قال: أما إنّ هذه الجارية لا تموت حتى تبغي بمئة، ويتزوجها أجيرها، (1) ويكون موتها بالعنكبوت. قال: فقال الأجير في نفسه: فأنا أريد هذه بعد أن تفجر بمئة!! فأخذ شفرة فدخل فشق بطن الصبية. وعولجت فبرِئت، فشبَّت، وكانت تبغي، فأتت ساحلا من سواحل البحر، فأقامت عليه تبغي. ولبث الرجل ما شاء الله، ثم قدم ذلك الساحل ومعه مال كثير، فقال لامرأة من أهل الساحل: ابغيني امرأة من أجمل امرأة في القرية أتزوجها! فقالت: ههنا امرأة من أجمل الناس، ولكنها تبغي. قال: ائتيني بها. فأتتها فقالت: قد قدم رجل له مال كثير، وقد قال لي: كذا. فقلت له: كذا. فقالت: إني قد تركت البغاء، ولكن إن أراد تزوَّجته! قال: فتزوجها، فوقعت منه موقعًا. فبينا هو يومًا عندها إذ أخبرها بأمره، فقالت: أنا تلك الجارية! = وأرته الشق في بطنها = وقد كنت
__________
(1) "تبغي" من"البغاء"، "بغت المرأة": فجرت وزنت.(8/552)
أبغي، فما أدري بمئة أو أقل أو أكثر! قال: فإنّه قال لي: يكون موتها بعنكبوت. (1) قال: فبنى لها برجًا بالصحراء وشيده. فبينما هما يومًا في ذلك البرج، إذا عنكبوت في السقف، فقالت: هذا يقتلني؟ لا يقتله أحد غيري! فحركته فسقط، فأتته فوضعت إبهام رجلها عليه فشدَخَتْه، وساحَ سمه بين ظفرها واللحم، فاسودت رجلها فماتت. فنزلت هذه الآية:"أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة". (2)
9959 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولو كنتم في بروج مشيدة"، قال: قصور مشيدة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: قصورٌ بأعيانها في السماء.
*ذكر من قال ذلك:
9960 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"، وهي قصور بيض في سماء الدنيا، مبنية.
9961 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال، أخبرنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله:"أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة"، يقول: ولو كنتم في قصور في السماء. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بالعنكبوت"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 9958 -"كثير أبو الفضل"، هو: كثير بن يسار الطفاوي، أبو الفضل البصري. روى عن الحسن البصري، وثابت البناني وغيرهما. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر أخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 515، من تفسير ابن أبي حاتم، وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 184، ونسبه أيضًا لابن أبي حاتم، وأبي نعيم في الحلية.
(3) الأثر: 9961 -"عبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ"، مضى برقم: 2929، وهذا الإسناد نفسه مضى أيضًا قبله برقم 2919، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا"عبد الرحمن بن سعيد"، كما كان في رقم: 2929، ولكنه سيأتي على الصواب في المخطوطة والمطبوعة بعد قليل رقم: 9962، 9972.(8/553)
واختلف أهل العربية في معنى"المشيدة".
فقال بعض أهل البصرة منهم:"المشيدة"، الطويلة. قال: وأما"المشِيدُ"، بالتخفيف، فإنه المزيَّن. (1)
* * *
وقال آخر منهم نحو ذلك القول، (2) غير أنه قال:"المَشِيد" بالتخفيف المعمول بالشِّيد، و"الشيد" الجِصُّ.
* * *
وقال بعض أهل الكوفة:"المَشيد" و"المُشَيَّد"، أصلهما واحد، غير أن ما شدِّد منه، فإنما يشدد لنفسه، والفعل فيه في جمع، (3) مثل قولهم:"هذه ثياب مصبَّغة"، و"غنم مذبَّحة"، فشدد؛ لأنها جمع يفرَّق فيها الفعل. وكذلك مثله،"قصور مشيدة"، لأن القصور كثيرة تردد فيها التشييد، ولذلك قيل:"بروج مشيدة"، ومنه قوله:"وغَلَّقت الأبواب"، وكما يقال:"كسَّرت العودَ"، إذا جعلته قطعًا، أي: قطعة بعد قطعة. وقد يجوز في ذلك التخفيف، فإذا أفرد من ذلك الواحد، فكان الفعل يتردد فيه ويكثر تردده في جمع منه، جاز التشديد عندهم والتخفيف، فيقال منه:"هذا ثوب مخرَّق" و"جلد مقطع"، لتردد الفعل فيه وكثرته بالقطع والخرق. وإن كان الفعل لا يكثر فيه ولا يتردد، ولم يجيزوه إلا بالتخفيف، وذلك نحو قولهم:"رأيت كبشًا مذبوحًا" ولا يجيزون فيه:"مذَّبحًا"، لأن الذبح لا يتردد فيه تردد التخرُّق في الثوب.
* * *
وقالوا: فلهذا قيل:"قصر مَشِيد"، لأنه واحد، فجعل بمنزلة قولهم:
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 132.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وقال آخرون منهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "فإنما يشدد لتردد الفعل فيه ... " غير ما في المخطوطة، وهو ما أثبته وهو صواب المعنى المطابق للسياق.(8/554)
أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)
"كبش مذبوح". وقالوا: جائز في القصر أن يقال:"قصر مشيَّد" بالتشديد، لتردد البناء فيه والتشييد، ولا يجوز ذلك في"كبش مذبوح"، لما ذكرنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ}
قل أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله"، وإن ينلهم رخاء وظفر وفتح ويصيبوا غنيمة (2) ="يقولوا هذه من عند الله"، يعني: من قبل الله ومن تقديره (3) ="وإن تصبهم سيئة"، يقول: وإن تنلهم شدة من عيش وهزيمة من عدو وجراح وألم، (4) = يقولوا لك يا محمد: ="هذه من عندك"، بخطئك التدبير.
وإنما هذا خبر من الله تعالى ذكره عن الذين قال فيهم لنبيه: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ) .
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9962 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر قالا حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 277.
(2) انظر تفسير"الإصابة" فيما سلف: 514، 538
وانظر تفسير"الحسنة" فيما سلف 4: 203-206.
(3) انظر تفسير"عند" فيما سلف: 2: 500 / 7: 490، 495.
(4) انظر تفسير"سيئة" فيما سلف: 2: 281، 282، / 7: 482، 490 / 8: 254.(8/555)
"وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك"، قال: هذه في السراء والضراء. (1)
9963 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.
9964 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك" فقرأ حتى بلغ:"وأرسلناك للناس رسولا"، قال: إن هذه الآيات نزلت في شأن الحرب. فقرأ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) فقرأ حتى بلغ:"وإن تصبهم سيئة"، يقولوا:"هذه من عند محمد عليه السلام، أساء التدبير وأساء النظر! ما أحسن التدبير ولا النظر".
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"قل كل من عند الله"، قل، يا محمد، لهؤلاء القائلين إذا أصابتهم حسنة:"هذه من عند الله"، وإذا أصابتهم سيئة:"هذه من عندك": = كل ذلك من عند الله، دوني ودون غيري، من عنده الرخاء والشدة، ومنه النصر والظفر، ومن عنده الفَلُّ والهزيمة، (2) كما:-
9965 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن
__________
(1) الأثر: 9962 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 9961.
(2) في المطبوعة: "القتل والهزيمة"، وفي المخطوطة: "العال والهزيمة" غير منقوطة، ورجحت أن صوابها"الفل"، من قولهم: "فل القوم يفلهم فلا.": هزمهم وكسرهم.(8/556)
قتادة:"قل كل من عند الله"، النعم والمصائب.
9966 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"كل من عند الله"، النصر والهزيمة.
9967 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"قل كل من عند الله فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا"، يقول: الحسنة والسيئة من عند الله، أما الحسنة فأنعم بها عليك، وأما السيئة فابتلاك بها.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فمال هؤلاء القوم"، (1) فما شأن هؤلاء القوم الذين إن تصبهم حسنة يقولوا:"هذه من عند الله"، وإن تصبهم سيئة يقولوا:"هذه من عندك" ="لا يكادون يفقهون حديثًا"، يقول: لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به، من أن كل ما أصابهم من خير أو شر، أو ضرّ وشدة ورخاء، فمن عند الله، لا يقدر على ذلك غيره، ولا يصيب أحدًا سيئة إلا بتقديره، ولا ينال رخاءً ونعمة إلا بمشيئته.
وهذا إعلام من الله عبادَه أن مفاتح الأشياء كلها بيده، لا يملك شيئًا منها أحد غيره.
* * *
__________
(1) قال الفراء في معاني القرآن 1: 278: " (فمال) ، كثرت في الكلام حتى توهموا أن اللام متصلة ب"ما"، وأنها حرف في بعضه".(8/557)
مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
القول في تأويل قوله: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، ما يصيبك، يا محمد، من رخاء ونعمة وعافية وسلامة، فمن فضل الله عليك، يتفضل به عليك إحسانًا منه إليك = وأما قوله:"وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، يعني: وما أصابك من شدة ومشقة وأذى ومكروه ="فمن نفسك"، يعني: بذنب استوجبتها به، اكتسبته نفسك، (1) كما:-
9968 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، أما"من نفسك"، فيقول: من ذنبك.
9969 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، عقوبة، يا ابن آدم بذنبك. قال: وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: لا يصيب رجلا خَدْش عود، ولا عَثرة قدم، ولا اختلاج عِرْق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر.
9970 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، يقول:"الحسنة"، ما فتح الله عليه يوم بدر، وما أصابه من الغنيمة والفتح = و"السيئة"، ما أصابه يوم أُحُد، أنْ شُجَّ في وجهه وكسرت رَبَاعيته.
__________
(1) انظر تفسير"الحسنة" فيما سلف: 555، تعليق: 2، والمراجع هناك.
وانظر تفسير"السيئة" فيما سلف: 555، تعليق: 4، والمراجع هناك.(8/558)
9971 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، يقول: بذنبك = ثم قال: كل من عند الله، النعم والمصيبات.
9972 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وابن أبي جعفر قالا حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية قوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، قال: هذه في الحسنات والسيئات. (1)
9973 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله.
9974 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، قال: عقوبةً بذنبك.
9975 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، بذنبك، كما قال لأهل أُحد: (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [سورة آل عمران: 165] ، بذنوبكم.
9976 - حدثني يونس قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله:"وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، قال: بذنبك، وأنا قدّرتها عليك.
9977 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح في قوله:"ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك"، وأنا الذي قدّرتها عليك.
__________
(1) انظر التعليق على الأثرين السالفين: 9961، 9962.(8/559)
9978 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنيه إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه دخول"مِن" في قوله:"ما أصابك من حسنة" و"من سيئة"؟
* * *
قيل: اختلف في ذلك أهل العربية.
فقال بعض نحويي البصرة: أدخلت"من" لأن"من" تحسن مع النفي، مثل:"ما جاءني من أحد". (1) قال: ودخول الخبر بالفاء، لأن"ما" بمنزلة"مَن". (2)
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: أدخلت"مِن" مع"ما"، كما تدخل على"إن" في الجزاء، لأنهما حرفا جزاء. وكذلك، تدخل مع"مَن"، إذا كانت جزاء، فتقول العرب:"مَن يزرك مِن أحد فتكرمه"، كما تقول:"إن يَزُرك من أحد فتكرمه". قال: وأدخلوها مع"ما" و"مَنْ"، ليعلم بدخولها معهما أنهما جزاء. قالوا: وإذا دخلت معهما لم تحذف، لأنها إذا حذفت صار الفعل رافعًا شيئين، وذلك أن"ما" في قوله:"ما أصابك من سيئة" رفع بقوله:"أصابك"، (3) فلو حذفت"مِن"، رفع قوله:"أصابك""السيئةَ"، لأن معناه: إن تصبك سيئة = فلم يجز حذف"مِن" لذلك، لأن الفعل الذي هو على"فعل" أو"يفعل"، لا يرفع شيئين. (4) وجاز ذلك مع"مَن"، لأنها تشتبه بالصفات، (5) وهي في موضع اسم. فأما"إن" فإن"مِن" تدخل معها وتخرج، ولا تخرج مع"أيٍّ"، لأنها تعرب فيبين فيها الإعراب، ودخلت مع"ما"، لأن الإعراب لا يظهر فيها.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2: 126، 127، 442، 470 / 5: 586 / 6: 551.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ودخول الخبر بالفاء لازما بمنزلة من"، وهو كلام لا معنى له البتة، صواب قراءته ما أثبت، ويعني بدخول الفاء في الخبر قوله: "فمن الله" و"فمن نفسك".
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "ما أصابك من حسنة"، والسياق يقتضي ذكر الأخرى كما أثبتها.
(4) "فعل" أو "يفعل"، يعني الماضي والمضارع.
(5) "الصفات"، حروف الجر، كما سلف مرارًا، فراجعه في فهارس المصطلحات.(8/560)
القول في تأويل قوله: {وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وأرسلناك للناس رسولا"، إنما جعلناك، يا محمد، رسولا بيننا وبين الخلق، تبلّغهم ما أرسلناك به من رسالة، وليس عليك غير البلاغ وأداء الرسالة إلى من أرسلت، فإن قبلوا ما أرسلت به فلأنفسهم، وإن ردُّوا فعليها ="وكفى بالله" عليك وعليهم ="شهيدًا"، يقول: حسبك الله تعالى ذكره، شاهدًا عليك في بلاغك ما أمرتك ببلاغه من رسالته ووحيه، (1) وعلى من أرسلت إليه في قبولهم منك ما أرسلت به إليهم، فإنه لا يخفى عليه أمرك وأمرهم، وهو مجازيك ببلاغك ما وعدَك، ومجازيهم ما عملوا من خير وشر، جزاء المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الشهيد" فيما سلف من فهارس اللغة.(8/561)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80)
القول في تأويل قوله: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) }
قال أبو جعفر: وهذا إعذارٌ من الله إلى خلقه في نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى ذكره لهم: من يطع منكم، أيها الناس، محمدًا فقد أطاعني بطاعته إياه، فاسمعوا قوله وأطيعوا أمرَه، فإنه مهما يأمركم به من شيء فمن أمري يأمركم، وما نهاكم عنه من شيء فمن نهيي، فلا يقولنَّ أحدكم:"إنما محمد بشر مثلنا يريد أن يتفضَّل علينا"!
* * *(8/561)
وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
ثم قال جل ثناؤه لنبيه: ومن تولى عن طاعتك، يا محمد، فأعرض عنك، (1) فإنا لم نرسلك عليهم"حفيظًا"، يعني: حافظًا لما يعملون محاسبًا، بل إنما أرسلناك لتبين لهم ما نزل إليهم، وكفى بنا حافظين لأعمالهم ولهم عليها محاسبين.
* * *
ونزلت هذه الآية، فيما ذكر، قبل أن يؤمر بالجهاد، كما:-
9979 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله:"فما أرسلناك عليهم حفيظًا" قال: هذا أول ما بعثه، قال: (إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ) [سورة الشورى: 48] . قال: ثم جاء بعد هذا بأمره بجهادهم والغلظة عليهم حتى يسلموا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله:"ويقولون طاعة"، يعني: الفريق الذي أخبر الله عنهم أنهم لما كتب عليهم القتال خَشُوا الناس كخشية الله أو أشد خشية، يقولون لنبي الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر: أمرك طاعة، ولك منا طاعة فيما تأمرنا به وتنهانا عنه ="وإذا برزوا من عندك"، يقول: فإذا خرجوا من عندك، (2) يا محمد ="بيّت طائفة منهم غير الذي تقول"، يعني بذلك جل ثناؤه: غيَّر جماعة منهم ليلا الذي تقول لهم.
وكل عمل عُمِل ليلا فقد"بُيِّت"، ومن ذلك"بيَّت" العدو، وهو الوقوع
__________
(1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 7: 326، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"برز" فيما سلف 5: 354 / 7: 324.(8/562)
بهم ليلا ومنه قول عبيدة بن همام: (1)
أَتَوْنِي فَلَمْ أَرْضَ مَا بَيَّتُوا، ... وَكَانُوا أَتَوْنِي بِشَيْءٍ نُكُرْ (2)
لأنْكِحَ أَيِّمَهُمْ مُنْذِرًا، ... وَهَلْ يُنْكِحَ الْعَبْدَ حُرٌّ لِحُرْ?! (3)
يعني بقوله:"فلم أرض ما بيتوا"، ليلا أي: ما أبرموه ليلا وعزموا عليه،
ومنه قول النمر بن تولب العُكْليّ:
هَبَّتْ لِتَعْذُلَنِي مِنَ اللَّيْل اسْمَعِ! ... سَفَهًا تُبَيِّتُكِ المَلامَةُ فَاهْجَعِي (4)
__________
(1) عبيدة بن همام، أخو بني العدوية، من بني مالك بن حنظلة، من بني تميم، وظنه ناشر مجاز القرآن لأبي عبيدة"عبيدة بن همام التغلبي"، وكلا، فهذا إسلامي، وذلك جاهلي! واستظهرت من نسب"يعلى بن أمية" في جمهرة الأنساب: 217، وغيرها أنه"عبيدة بن همام بن الحارث بن بكر بن زيد بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم. وخبر هذا الشعر دال على أنه جاهلي، فقد ذكر الجاحظ في الحيوان 4: 376 خبر هذه الأبيات، في خبر للنعمان بن المنذر ومثالبه، وذلك أن أخاه المنذر بن المنذر خطب إلى عبيدة بن همام، فرده أقبح الرد، وذكر الأبيات.
(2) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 133، الحيوان 4: 376، الكامل 2: 35، 106، الأزمنة والأمكنة للمرزوقي 1: 263، ديوان الأسود بن يعفر لنهشلي، أعشى بني نهشل، في ديوان الأعشين: 298، اللسان (نكر) . وروى: "فقد طرقوني بشيء".
"طرقوني": أتوني ليلا. و"نكر" بضمتين، مثل"نكر" بضم فسكون: الأمر المنكر الذي تنكره. والبيت يتممه الذي بعده.
(3) "الأيم" من النساء، التي لا زوج لها، بكرًا كانت أو ثيبًا. و"رجل أيم"، لا زوجة له. و"منذر" يعني: المنذر بن المنذر، أخا النعمان بن المنذر. وقوله: "هل ينكح العبد حر لحر" أي: هل ينكح الحر الذي ولدته الأحرار، عبدًا من العبيد، وذلك تعريض منه بالمنذر وأخيه النعمان، الذي جعل امرأته ظئرًا لبعض ولد كسرى، وسماه كسرى"عبدًا". وقوله: "حر لحر"، أي: حر قد ولدته الأحرار، كما تقول: "هو كريم لكرام، وحر لأحرار"، اللام فيه للنسب، كأنه قال: كريم ينسب إلى آباء كرام، وحر ينسب إلى آباه أحرار. وهذا الذي قلته لا تجده في كتاب، فاحفظه.
وكان في المخطوطة: "لأنكح إليهم منذرًا"، وهو فاسد جدًا كما ترى، وفيها أيضًا: "حر بحر"، والصواب ما أثبت.
(4) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 133، والخزانة 1: 153، والعيني (بهامش الخزانة) 2: 536، وشرح شواهد المغني: 161، وغيرها. وكان في المطبوعة: "بليل اسمع"، وهو خطأ، ومثله في المخطوطة: "بليل اسمع"، ولكني أثبت رواية أبي عبيدة فهي أجود الروايات.
وقوله: "اسمع"، هذا قول امرأته أو أمه التي كانت تلومه على الكرم والسخاء. ويعني بذلك أنها كانت تكثر من مقالة"اسمع، واسمع مني". وقوله: "سفها"، أي باطلا وخفة عقل. وقوله"تبيتك الملامة" ليس من معنى ما أراد الطبري، وإن كان الشراح قد فسروه كذلك. وهو عندي من قولهم: "بات الرجل" إذا سهر، ومنه: "بت أراعي النجوم"، أي سهرت أنظر إليها، فقوله: "تبيتك الملامة"، أي تسهرك ملامتي وعتابي، يقول: سهرك المضني هذا من السفه، فنامى واهجعي، فهو أروح لك!
فاستشهاد أبي عبيدة، والطبري على أثره، بهذا البيت، ليس في تمام موضعه، وإن كان الأمر قريب بعضه من بعض.(8/563)
يقول الله جل ثناؤه:"والله يكتب ما يبيتون"، يعني بذلك جل ثناؤه: والله يكتب ما يغيِّرون من قولك ليلا في كُتب أعمالهم التي تكتبها حَفَظته.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9980 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيَّت طائفة منهم غير الذي تقول"، قال: يغيِّرون ما عهد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم:
9981 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف بن خالد قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"بيّت طائفة منهم غير الذي تقول"، قال: غيَّر أولئك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
9982 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، قال: غيّر أولئك ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
9983 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول والله يكتب ما يبيتون) ، قال: هؤلاء المنافقون الذين يقولون إذا حضروا النبي صلى الله عليه وسلم فأمرهم بأمر قالوا:"طاعة"، فإذا(8/564)
خرجوا من عنده، غيّرت طائفة منهم ما يقول النبي صلى الله عليه وسلم ="والله يكتب ما يبيتون"، يقول: ما يقولون.
9984 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، قال: يغيرون ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.
9985 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ويقولون طاعة فإذا برزوا من عندك بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، وهم ناس كانوا يقولون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمنا بالله ورسوله"، ليأمنوا على دمائهم وأموالهم. وإذا برزوا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، (1) خالفوا إلى غير ما قالوا عنده، فعابهم الله، فقال:"بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، يقول: يغيرون ما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
9986 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"بيت طائفة منهم غير الذي تقول"، هم أهل النفاق.
* * *
وأما رفع"طاعة"، فإنه بالمتروك الذي دلّ عليه الظاهر من القول وهو: أمرُك طاعة، أو: منا طاعة. (2) وأما قوله:"بيت طائفة"، فإن"التاء" من"بيّت" تحرِّكها بالفتح عامة قرأة المدينة والعراق وسائر القرأة، لأنها لام"فَعَّل".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فإذا برزوا" بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 378.(8/565)
وكان بعض قرأة العراق يسكّنها، ثم يدغمها في"الطاء"، لمقاربتها في المخرج (1) .
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك ترك الإدغام، لأنها = أعني"التاء" و"الطاء" = من حرفين مختلفين. وإذا كان كذلك، كان ترك الإدغام أفصح اللغتين عند العرب، واللغة الأخرى جائزةٌ = أعني الإدغام في ذلك = محكيّةٌ.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا (81) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم:"فأعرض"، يا محمد، عن هؤلاء المنافقين الذين يقولون لك فيما تأمرهم:"أمرك طاعة"، (2) فإذا برزوا من عندك خالفوا ما أمرتهم به، وغيَّروه إلى ما نهيتهم عنه، وخلّهم وما هم عليه من الضلالة، وارض لهم بي منتقمًا منهم ="وتوكل" أنت يا محمد ="على الله"، يقول: وفوِّض أنت أمرك إلى الله، وثق به في أمورك، وولِّها إياه (3) ="وكفى بالله وكيلا"، يقول: وكفاك بالله = أي: وحسبك بالله ="وكيلا"، أي: فيما يأمرك، ووليًّا لها، ودافعًا عنك وناصرًا. (4)
* * *
__________
(1) انظر معني القرآن للفراء 1: 379.
(2) انظر تفسير"الإعراض" فيما سلف 2: 298، 299 / 6: 291 / 8: 88.
(3) انظر تفسير"التوكل" فيما سلف: 7: 346.
(4) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف 7: 405.(8/566)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82)
القول في تأويل قوله: {أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا (82) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أفلا يتدبرون القرآن"، أفلا يتدبر المبيتون غير الذي تقول لهم، يا محمد كتاب الله، فيعلموا حجّة الله عليهم في طاعتك واتباع أمرك، وأن الذي أتيتهم به من التنزيل من عند ربهم، لاتِّساق معانيه، وائتلاف أحكامه، وتأييد بعضه بعضًا بالتصديق، وشهادة بعضه لبعض بالتحقيق، فإن ذلك لو كان من عند غير الله لاختلفت أحكامه، وتناقضت معانيه، وأبان بعضه عن فساد بعض، كما:-
9987 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا" أي: قول الله لا يختلف، وهو حق ليس فيه باطل، وإنّ قول الناس يختلف.
9988 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن القرآن لا يكذّب بعضه بعضًا، ولا ينقض بعضه بعضًا، ما جهل الناس من أمرٍ، (1) فإنما هو من تقصير عقولهم وجهالتهم! وقرأ:"ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا". قال: فحقٌّ على المؤمن أن يقول:"كل من عند الله"، ويؤمن بالمتشابه، ولا يضرب بعضه ببعض= وإذا جهل أمرًا ولم يعرف أن يقول: (2) "الذي قال الله حق"، ويعرف أن الله تعالى لم يقل قولا وينقضه، (3) ينبغي
__________
(1) في المطبوعة: "من أمره"، وهو خطأ محض، والصواب ما أثبت من المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا جهل أمرًا" بإسقاط الواو، وهو لا يستقيم. وهو معطوف على قوله: "فحق على المؤمن أن يقول ... ".
(3) في المطبوعة: "وينقض" والصواب من المخطوطة.(8/567)
وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
أن يؤمن بحقيقة ما جاء من الله. (1)
9989 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله:"أفلا يتدبرون القرآن"، قال:"يتدبرون"، النظر فيه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، وإذا جاء هذه الطائفة المبيّتة غير الذي يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم="أمرٌ من الأمن"، فالهاء والميم في قوله:"وإذا جاءهم"، من ذكر الطائفة المبيتة= يقول جل ثناؤه: وإذا جاءهم خبرٌ عن سريةٍ للمسلمين غازية بأنهم قد أمِنوا من عدوهم بغلبتهم إياهم="أو الخوف"، يقول: أو تخوّفهم من عدوهم بإصابة عدوهم منهم="أذاعوا به"، يقول: أفشوه وبثّوه في الناس قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقبل مأتَى سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم (2) = و"الهاء" في قوله:"أذاعوا به"، من ذكر"الأمر". وتأويله أذاعوا بالأمر من الأمن أو الخوف الذي جاءهم.
* * *
يقال منه:"أذاع فلان بهذا الخبر، وأذاعه"، ومنه قول أبي الأسود:
أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأَنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثَقُوبِ (3)
__________
(1) في المطبوعة: "بحقية ما جاء من الله"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "وقبل أمراء سرايا رسول الله" وفي المخطوطة: "وقبل أمانا" وجر مع الميم شبه الراء، فاختلطت الكلمة، ورجحت صواب قراءتها ما أثبت.
(3) ديوانه (في نفائس المخطوطات: 2) : 44، والأغاني 12: 305، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 133، اللسان (ذيع) ، من أبيات قالها أبو الأسود الدؤلي لما خطب امرأة من عبد القيس يقال لها أسماء بنت زياد، فأسر أمرها إلى صديق له، فحدث الصديق ابن عم لها كان يخطبها، فمشى ابن عمها إلى أهلها وسألهم أن يمنعوها من نكاحه، ففعلوا، وضاروها حتى تزوجت ابن عمها، فقال أبو الأسود: أَمِنْتُ امْرءَا فِي السَّرِّ لَمْ يَكُ حَازِمًا ... ولكِنَّهُ فِي النُّصْحِ غَيْرُ مُرِيبِ
أَذَاعَ بِهِ فِي النَّاسِ، حَتَّى كأنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أُوقِدَتْ بِثُقوبِ
وَكُنْتَ مَتَى لَمْ تَرْعَ سِرَّكَ تَلْتَبِسْ ... قَوَارِعُهُ مِنْ مُخْطِئٍ وَمُصِيبِ
فَمَا كُلُّ ذِي نُصْحٍ بِمُؤْتِيكَ نُصْحَهُ ... وَمَا كُلُّ مُؤْتٍ نُصْحَهُ بِلَبِيبِ
وَلكِنْ إِذَا مَا اسْتُجْمِعَا عِنْدَ وَاحِدٍ، ... فَحُقَّ لهُ مِنْ طَاعَةٍ بِنَصِيبِ
وهي أبيات حسان كما ترى، و"الثقوب": ما أثقبت به النار، أي أوقدتها.(8/568)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
9990 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، يقول: سارعوا به وأفشوه.
9991 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، يقول: إذا جاءهم أمر أنهم قد أمنوا من عدوهم، أو أنهم خائفون منهم، أذاعوا بالحديث حتى يبلغ عدوَّهم أمرُهم.
9992 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، يقول: أفشوه وسعَوْا به. (1)
__________
(1) في المطبوعة: "وشنعوا به"، والصواب من المخطوطة."سعى بفلان إلى الوالي"، وشى به إليه، وهذا من مجازه: أي: مشى بالخبر حتى يبلغ العدو، فكأنه وشى بالسرايا إلى عدوهم. وانظر التعليق التالي رقم: 4.(8/569)
9993 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، قال هذا في الأخبار، إذا غزت سريّة من المسلمين تخبَّر الناس بينهم فقالوا (1) "أصاب المسلمون من عدوهم كذا وكذا"،"وأصاب العدو من المسلمين كذا وكذا"، فأفشوه بينهم، من غير أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أخبرهم (2) = قال ابن جريج: قال ابن عباس قوله:"أذاعوا به"، قال: أعلنوه وأفشوه.
9994 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أذاعوا به"، قال: نشروه. قال: والذين أذاعوا به، قوم: إمّا منافقون، وإما آخرون ضعفوا. (3)
9995 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ يقول: أفشوه وسَعَوْا به، (4) وهم أهل النفاق.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولو ردوه"، الأمر الذي نالهم من عدوهم [والمسلمين] ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أولي أمرهم (5) = يعني:
__________
(1) في المطبوعة: إذا غزت سرية من المسلمين خبر الناس عنها" غير ما في المخطوطة إذ لم يفهمه! وقوله: "تخبر الناس بينهم"، أي تساءلوا عن أخبارهم بينهم: يقال: "تخبر الخبر واستخبر"، إذا سأل عن الأخبار ليعرفها.
(2) في المطبوعة: "هو الذي يخبرهم به"، لا أدري لم غير ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "وإما آخرون ضعفاء" وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "وشنعوا به" كما سلف في ص569 تعليق: 1.
(5) قوله: "والمسلمين" هكذا في المخطوطة والمطبوعة، ولم أدر ما هو، فتركته على حاله، ووضعته بين القوسين، وأخشى أن يكون سقط من الكلام شيء. وبحذف ما بين القوسين يستقيم الكلام على وجهه.(8/570)
وإلى أمرائهم = وسكتوا فلم يذيعوا ما جاءهم من الخبر، حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ذو وأمرهم، هم الذين يتولّون الخبر عن ذلك، (1) بعد أن ثبتت عندهم صحته أو بطوله، (2) فيصححوه إن كان صحيحًا، أو يبطلوه إن كان باطلا ="لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، يقول: لعلم حقيقة ذلك الخبر الذي جاءهم به، الذين يبحثون عنه ويستخرجونه ="منهم"، يعني: أولي الأمر ="والهاء""والميم" في قوله:"منهم"، من ذكر أولي الأمر = يقول: لعلم ذلك من أولي الأمر من يستنبطه.
* * *
وكل مستخرج شيئًا كان مستترًا عن أبصار العيون أو عن معارف القلوب، فهو له:"مستنبط"، يقال:"استنبطت الركية"، (3) إذا استخرجت ماءها،"ونَبَطتها أنبطها"، و"النَّبَط"، الماء المستنبط من الأرض، ومنه قول الشاعر: (4)
قَرِيبٌ ثَرَاهُ، ما يَنَالُ عَدُوُّه ... لَهُ نَبَطًا، آبِي الهَوَانِ قَطُوبُ (5)
يعني: ب"النبط"، الماء المستنبط.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "هم الذين يقولون الخبر عن ذلك" وهو كلام مريض، صوابه ما أثبت، وهو تصحيف ناسخ.
(2) في المطبوعة: "ثبتت عندهم" أساء قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة. و"البطول" مصدر"بطل الشيء" ومثله"البطلان".
(3) "الركية": البئر تحفر.
(4) هو كعب بن سعد الغنوي، أو: غريقة بن مسافع العبسي، وانظر تفصيل ذلك في التعليق على الأصمعيات، وتخريج الشعر هناك.
(5) الأصمعيات: 103، وتخريجه هناك. وقوله: "قريب الثرى"، يريدون كرمه وخيره. و"الثرى": التراب الندي، كأنه خصيب الجناب. وقوله: "ما ينال عدوه له نبطًا"، أي لا يرد ماءه عدو، من عزه ومنعته، / إذا حمى أرضًا رهب عدوه بأسه."آبى الهوان" لا يقيم على ذل. و"قطوب": عبوس عند الشر(8/571)
9996 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم"، يقول: ولو سكتوا وردوا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى أولي أمرهم حتى يتكلم هو به ="لعلمه الذين يستنبطونه"، يعني: عن الأخبار، وهم الذين يُنَقِّرون عن الأخبار.
9997 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم"، يقول: إلى علمائهم = (لعلمه الذين يستنبطونه منهم) ، لعلمه الذين يفحصون عنه ويهمّهم ذلك. (1)
9998 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولو ردوه إلى الرسول"، حتى يكون هو الذي يخبرهم ="وإلى أولي الأمر منهم"، الفقه في الدين والعقل. (2)
9999 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم"، العلم (3) ="الذين يستنبطونه منهم"، يتتبعونه ويتحسسونه.
10000 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا ليث، عن مجاهد:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، قال: الذين يسألون عنه ويتحسسونه.
10001 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) في المخطوطة: "يفصحون عنه"، وهو تصحيف، قدم وأخر.
(2) في المطبوعة: "أولى الفقه" زاد"أولى"، والذي في المخطوطة صواب أيضًا، على طريقة قدماء المفسرين في الاختصار، كما سلف آلافًا من المرات.
(3) في المطبوعة: "لعلمه" مكان"العلم"، والذي في المخطوطة صواب، كما سلف في التعليق السابق، وهو طريقتهم في الاختصار، ويعني"أولي العلم".(8/572)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"يستنبطونه"، قال: قولهم:"ما كان"؟ "ماذا سمعتم"؟
10002 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10003 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية:"الذين يستنبطونه"، قال: يتحسسونه.
10004 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، يقول: لعلمه الذين يتحسسونه منهم.
10005 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"يستنبطونه منهم"، قال، يتتبعونه.
10006 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به" حتى بلغ"وإلى أولي الأمر منهم"، قال: الولاة الذين يَلُون في الحرب عليهم، (1) الذين يتفكرون فينظرون لما جاءهم من الخبر: أصدق، أم كذب؟ أباطل فيبطلونه، أو حق فيحقونه؟ قال: وهذا في الحرب، وقرأ:"أذاعوا به"، ولو فعلوا غير هذا: وردوه إلى الله وإلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، الآية.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "الذين يكونون في الحرب عليهم"، لم يحسن قراءة المخطوطة، فغير وبدل.(8/573)
القول في تأويل قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلا قَلِيلا (83) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولولا إنعام الله عليكم، أيها المؤمنون، بفضله وتوفيقه ورحمته، (1) فأنقذكم مما ابتلى به هؤلاء المنافقين = الذين يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمرهم بأمر:"طاعة"، فإذا برزوا من عنده بيت طائفة منهم غير الذي يقول = لكنتم مثلهم، فاتبعتم الشيطان إلا قليلا كما اتبعه هؤلاء الذين وصف صفتهم.
* * *
وخاطب بقوله تعالى ذكره:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان"، الذين خاطبهم بقوله جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا) [سورة النساء: 71] .
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في"القليل"، الذين استثناهم في هذه الآية: من هم؟ ومن أيّ شيء من الصفات استثناهم؟
فقال بعضهم: هم المستنبطون من أولي الأمر، استثناهم من قوله:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، ونفى عنهم أن يعلموا بالاستنباط ما يعلم به غيرهم من المستنبطين من الخبر الوارد عليهم من الأمن أو الخوف. (2)
*ذكر من قال ذلك:
10007 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،
__________
(1) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف: 535، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 279، ويعني أن الاستثناء من"الاستنباط" لا من"الإذاعة".(8/574)
عن قتادة قال: إنما هو:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم" = إلا قليلا منهم ="ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان".
10008 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، يقول: لاتبعتم الشيطان كلّكم = وأما قوله:"إلا قليلا"، فهو كقوله:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، إلا قليلا.
10009 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءة، عن سعيد، عن قتادة:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، قال يقول: لاتبعتم الشيطان كلكم. وأما"إلا قليلا "، فهو كقوله: لعلمه الذين يستنبطونه منهم إلا قليلا.
10010 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج نحوه = يعني نحو قول قتادة = وقال: لعلموه إلا قليلا.
وقال آخرون: بل هم الطائفة الذين وصفهم الله أنهم يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم:"طاعة"، فإذا برزوا من عنده بيتوا غير الذي قالوا. ومعنى الكلام: وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به = إلا قليلا منهم.
*ذكر من قال ذلك:
10011 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، فهو في أول الآية لخبر المنافقين، قال:"وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به"، يعني بـ "القليل"، المؤمنين، [كقوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ(8/575)
عِوَجَا قَيِّمًا) [سورة الكهف: 221] يقول الحمد لله الذي أنزل الكتاب عدلا قيّما، ولم يجعل له عوجًا. (1)
10012 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: هذه الآية مقدَّمة ومؤخرة، إنما هي: أذاعوا به إلا قليلا منهم، ولولا فضل الله عليكم ورحمته لم ينج قليل ولا كثير.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك استثناء من قوله:"لاتبعتم الشيطان". وقالوا: الذين استثنوا هم قوم لم يكونوا همّوا بما كان الآخرون همّوا به من اتباع الشيطان. فعرَّف الله الذين أنقذهم من ذلك موقع نعمته منهم، واستثنى الآخرين الذين لم يكن منهم في ذلك ما كان من الآخرين.
*ذكر من قال ذلك:
10013 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول: في قوله:"ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، قال: هم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، كانوا حدّثوا أنفسهم بأمور من أمور الشيطان، إلا طائفة منهم.
* * *
وقال آخرون معنى ذلك: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان جميعًا.
__________
(1) الأثر: 10011- نص هذا الأثر في المطبوعة: "ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان- فانقطع الكلام، وقوله: "إلا قليلا"، فهو في أول الآية يخبر عن المنافقين، قال: وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به- إلا قليلا. يعني بالقليل المؤمنين كقول الحمد لله ... " إلى آخر الأثر. وهو منقول من الدر المنثور 2: 187. أما في المخطوطة، فهو كمثل الذي أثبته، إلا أنه قال في آخره: "يقول الحمد لله الذي أنزل الكتاب عدلا قيما ... " إلى آخر الكلام.
وقد رجحت أن الذي في المخطوطة من صدر الكلام هو الصواب، وأن آخر الخبر قد سقط منه ذكر نص الآية من سورة الكهف، فأثبتها بين الكلامين.
وقوله: "فهو في أول الآية لخبر المنافقين"، يعني أنه مردود إلى أول الآية في خبرهم. ثم عقب على ذلك بذكر آية سورة الكهف، وبين ما فيها من التقديم والتأخير. وكأن الذي رجحت هو الصواب.(8/576)
قالوا: وقوله:"إلا قليلا"، خرج مخرج الاستثناء في اللفظ، وهو دليل على الجميع والإحاطة، وأنه لولا فضل الله عليهم ورحمته لم ينج أحدٌ من الضلالة، فجعل قوله:"إلا قليلا"، دليلا على الإحاطة، (1) واستشهدوا على ذلك بقول الطرِمّاح بن حكيم، في مدح يزيد بن المهلب:
أَشَمُّ كَثِيرُ يُدِيِّ النَّوَالِ، ... قَلِيلُ المَثَالِبِ وَالقَادِحَةْ (2)
قالوا: فظاهر هذا القول وصف الممدوح بأن فيه المثالب والمعايب، ومعلوم أن معناه أنه لا مثالب فيه ولا معايب. لأن من وصف رجلا بأنّ فيه معايب، وإن وصف الذي فيه من المعايب بالقلة، فإنما ذمَّه ولم يمدحه. ولكن ذلك على ما وصفنا من نفي جميع المعايب عنه. قالوا: فكذلك قوله:"لاتبعتم الشيطان إلا قليلا"، إنما معناه: لاتبعتم جميعكم الشيطان.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك عندي، قولُ من قال: عنى باستثناء"القليل" من"الإذاعة"، وقال: معنى الكلام: وإذا جاءهم أمرٌ من الأمن أو الخوف أذاعوا به إلا قليلا ولو ردوه إلى الرسول.
* * *
وإنما قلنا إن ذلك أولى بالصواب، لأنه لا يخلو القولُ في ذلك من أحد الأقوال التي ذكرنا، وغير جائز أن يكون من قوله:"لاتبعتم الشيطان"، لأن من تفضل الله عليه بفضله ورحمته، فغير جائز أن يكون من تُبَّاع الشيطان.
* * *
__________
(1) انظر ما قاله في معنى"القليل" فيما سلف 2: 331 / 8: 439، وما كتبته في الجزء الأول: 554، تعليق: 1.
(2) ديوانه: 139."الأشم": السيد ذو الأنفة والكبرياء، من"الشمم" وهو ارتفاع في قصبة الأنف، مع استواء أعلاه، وإشراف الأرنبة قليلا. وهو من صفات الكرم والعتق. وقوله"يدي" (بضم الياء وكسر الدال، والياء المشددة) أو (بفتح الياء وكسر الدال وتشديد الياء) ، جمع"يد" الأول جمعها على وزن"فعول"، مثل فلس وفلوس، والثاني جمعها على وزن"فعيل" مثل عبد وعبيد. كأنه قال: كثير أيدي النوال. وفي ديوانه: "يدي" بفتح الياء والدال وهو خطأ. وفي المخطوطة: "برى النوادي"، وهو خطأ لا معنى له. و"المثالب" جمع"مثلبة"، وهي العيوب الجارحة. و"القادحة" يعني بها: العيوب التي تقدح في أصله وخلائقه، سماها بالقادحة، وهي الدودة التي تأكل الأسنان، أو الأشجار، ووضعها اسما للجمع.(8/577)
وغير جائز أن نحمل معاني كتاب الله على غير الأغلب المفهوم بالظاهر من الخطاب في كلام العرب، ولنا إلى حمل ذلك على الأغلب من كلام العرب، سبيل، فنوجِّهه إلى المعنى الذي وجهه إليه القائلون (1) "معنى ذلك: لاتبعتم الشيطان جميعًا"، ثم زعم أن قوله:"إلا قليلا"، دليل على الإحاطة بالجميع. هذا مع خروجه من تأويل أهل التأويل. (2)
* * *
وكذلك لا وجه لتوجيه ذلك إلى الاستثناء من قوله:"لعلمه الذين يستنبطونه منهم"، لأن علم ذلك إذا رُدَّ إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، فبيَّنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولو الأمر منهم بعد وضوحه لهم، استوى في علم ذلك كلّ مستنبطٍ حقيقتَه، (3) فلا وجه لاستثناء بعض المستنبطين منهم، وخصوص بعضهم بعلمه، مع استواء جميعهم في علمه.
وإذْ كان لا قول في ذلك إلا ما قلنا، ودخَل هذه الأقوال الثلاثة ما بيّنا من الخلل، (4) فبيِّنٌ أن الصحيح من القول في ذلك هو الرابع، وهو القول الذي قضينا له بالصواب من الاستثناء من"الإذاعة". (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فتوجيهه إلى المعنى"، كأنه ابتداء كلام، وهو فساد في القول، والصواب ما في المخطوطة. ومن أجل هذا الخطأ في قراءة المخطوطة، زاد الناشر: "لا وجه له" كما سترى في التعليق التالي. وهو عمل غير حسن.
(2) في المطبوعة: " ... من تأويل أهل التأويل، لا وجه له"، فحذفت هذه الكلمة التي زادها الناشر، ليستقيم له قراءة الكلام. وانظر التعليق السالف.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "كل مستنبط حقيقة"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "فدخل"، ولا معنى للفاء هنا، والصواب ما أثبته.
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 279، 280.(8/578)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84)
القول في تأويل قوله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلا (84) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك"، فجاهد، يا محمد، أعداء الله من أهل الشرك به ="في سبيل الله"، يعني: في دينه الذي شرعه لك، وهو الإسلام، وقاتلهم فيه بنفسك. (2)
* * *
فأما قوله:" لا تكلف إلا نفسك" فإنه يعني: لا يكلفك الله فيما فرض عليك من جهاد عدوه وعدوك، إلا ما حمَّلك من ذلك دون ما حمَّل غيرك منه، أي: أنك إنما تُتَّبع بما اكتسبته دون ما اكتسبه غيرك، وإنما عليك ما كُلِّفته دون ما كُلِّفه غيرك. (3)
* * *
ثم قال له:"وحرض المؤمنين"، يعني: وحضهم على قتال من أمرتك بقتالهم معك ="عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا"، يقول: لعل الله أن يكف قتال من كفر بالله وجحد وحدانيته وأنكر رسالتك، عنك وعنهم، ونكايتهم. (4)
* * *
وقد بينا فيما مضى أن"عسى" من الله واجبة، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (5)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، والسياق ما أثبت.
(2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف 8: 3470، 546، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"التكليف" فيما سلف 5: 45.
(4) سياق الكلام"أن يكف ... عنك وعنهم" ثم عطف"ونكايتهم" على قوله: "قتال من كفر بالله".
(5) لم أجد هذا الموضع الذي أشار الطبري، وأخشى أن لا يكون مضى شيء من ذلك، وأنه قد وهم.(8/579)
مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85)
="والله أشد بأسًا وأشد تنكيلا"، يقول: والله أشد نكاية في عدوه، من أهل الكفر به = منهم فيك يا محمد وفي أصحابك، فلا تنكُلَنَّ عن قتالهم، (1) فإني راصِدُهم بالبأس والنكاية والتنكيل والعقوبة، لأوهن كيدهم، وأضعف بأسهم، وأعلي الحق عليهم.
و"التنكيل" مصدر من قول القائل:"نكلت بفلان"، فأنا أنكّل به تنكيلا"، إذا أوجعته عقوبة، (2) كما:-
10014 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وأشد تنكيلا"، أي عقوبة.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، من يَصِرْ، يا محمد، شفعًا لوتر أصحابك، فيشفعهم في جهاد عدوهم وقتالهم في سبيل الله، وهو"الشفاعة الحسنة" (3) ="يكن له نصيب منها"، يقول: يكن له من شفاعته تلك نصيب - وهو الحظ (4) - من ثواب الله وجزيل كرامته ="ومن يشفع شفاعة سيئة، يقول: ومن يشفع وتر أهل الكفر بالله على
__________
(1) "نكل عن الشيء": أحجم وارتد عنه من الفرق. والمعنى: أشد نكاية في عدوه ... من نكاية عدوه فيك يا محمد.
(2) انظر تفسير"النكال" و"التنكيل" فيما سلف 2: 176، 177.
(3) انظر تفسير"الشفاعة" فيما سلف 2: 31، 32 / 5: 382- 384، 395.
(4) انظر تفسير"النصيب" فيما سلف: 472، تعليق: 2، والمراجع هناك.(8/580)
المؤمنين به، فيقاتلهم معهم، وذلك هو"الشفاعة السيئة" ="يكن له كِفل منها".
يعني: بـ "الكفل"، النصيب والحظ من الوزر والإثم. وهو مأخوذ من"كِفل البعير والمركب"، وهو الكساء أو الشيء يهيأ عليه شبيه بالسرج على الدابة. يقال منه:"جاء فلان مكتَفِلا"، إذا جاء على مركب قد وطِّئَ له -على ما بيّنا- لركوبه. (1)
* * *
وقد قيل إنه عنى بقوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها" الآية، شفاعة الناس بعضهم لبعض. وغير مستنكر أن تكون الآية نزلت فيما ذكرنا، ثم عُمَّ بذلك كل شافع بخير أو شر.
* * *
وإنما اخترنا ما قلنا من القول في ذلك، لأنه في سياق الآية التي أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم فيها بحضّ المؤمنين على القتال، فكان ذلك بالوعد لمن أجاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، والوعيد لمن أبى إجابته، أشبه منه من الحثّ على شفاعة الناس بعضهم لبعض، التي لم يجر لها ذكر قبل، ولا لها ذكرٌ بعد.
ذكر من قال ذلك في شفاعة الناس بعضهم لبعض.
10015 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها ومن يشفع شفاعة سيئة"، قال: شفاعة بعض الناس لبعض.
10016 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
10017 - حدثت عن ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن حميد، عن الحسن قال: من يُشَفَّع شفاعة حسنة كان له فيها أجران، ولأن الله يقول:
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 135.(8/581)
"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، ولم يقل"يشفَّع". (1)
10018 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال:"من يشفع شفاعة حسنة"، كتب له أجرها ما جَرَت منفعتها.
10019 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سئل ابن زيد عن قول الله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، قال: الشفاعة الصالحة التي يشفع فيها وعمل بها، هي بينك وبينه، هما فيها شريكان="ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها"، قال: هما شريكان فيها، كما كان أهلها شريكين.
ذكر من قال:"الكفل": النصيب.
10020 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها"، أي حظ منها="ومن يشفع شفاعة سيئة يكن له كفل منها"، و"الكفل" هو الإثم.
10021 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يكن له كفل منها"، أما"الكفل"، فالحظ.
10022 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يكن له كفل منها"، قال: حظ منها، فبئس الحظ.
10023 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:
__________
(1) الأثر: 10016- كان في المطبوعة: "كان له أجرها وإن لم يشفع، لأن الله يقول:.." وهو نص ما في الدر المنثور 2: 187. وأثبت ما في المخطوطة. والظاهر أنه تصرف من السيوطي، وتبعه ناشر المطبوعة الأولى. والصواب ما في المخطوطة، إلا أنه ينبغي أن تقرأ"يشفع" الأولى في قول الحسن مشددة الفاء بالبناء للمجهول. ويعني الحسن: أن الشافع لأخيه إذا استجيبت شفاعته كان له أجران، أجر عن الخير الذي ساقه إلى أخيه، وأجر آخر هو مثل أجر المشفوع إليه في فعله ما فعل من الخير.(8/582)
"الكفل" و"النصيب" واحد. وقرأ: (يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ) [سورة الحديد: 8] .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وكان الله على كل شيء مقيتًا".
فقال بعضهم تأويله: وكان الله على كل شيء حفيظًا وشهيدًا.
*ذكر من قال ذلك:
10024 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وكان الله على كل شيء مقيتًا" يقول: حفيظًا.
10025 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مقيتًا" شهيدًا.
10026 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل اسمه مجاهد، عن مجاهد مثله.
10027 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"مقيتًا" قال: شهيدًا، حسيبًا، حفيظًا.
10028 - حدثني أحمد بن عثمان بن حكيم قال، حدثنا عبد الرحمن بن شريك قال، حدثنا أبي، عن خصيف، عن مجاهد أبي الحجاج:"وكان الله على كل شيء مقيتًا"، قال:"المقيت"، الحسيب.
* * *(8/583)
وقال آخرون: معنى ذلك: القائم على كل شيء بالتدبير.
*ذكر من قال ذلك:
10029 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير:"وكان الله على كل شيء مقيتًا"، قال:"المقيت"، الواصب. (1)
وقال آخرون: هو القدير.
*ذكر من قال ذلك:
10030 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكان الله على كل شيء مقيتًا"، أما"المقيت"، فالقدير.
10031 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وكان الله على كل شيء مقيتًا" قال: على كل شيء قديرًا،"المقيت" القدير.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من هذه الأقوال، قولُ من قال: معنى"المقيت"، القدير. وذلك أن ذلك فيما يُذكر، كذلك بلغة قريش، وينشد للزبير بن عبد المطلب عمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم: (2)
وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ النَّفْسَ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى مَسَاءتِهِ مُقِيتَا (3)
أي: قادرًا. وقد قيل إن منه قول النبي صلى الله عليه وسلم:-
__________
(1) يقال: "وصب الرجل على ماله يصب" (مثل: وعد يعد) : إذا لزمه وأحسن القيام عليه.
(2) لم أجده للزبير، بل وجدته لأبي قيس بن رفاعة، مرفوع القافية في طبقات فحول الشعراء لابن سلام: 243، ومراجعه هناك. ونسبه في الدر المنثور 2: 187، 188 إلى أحيحة ابن الجلاح الأنصاري.
(3) اللسان (قوت) ، وانظر طبقات فحول الشعراء: 242، 243 والتعليق عليه هناك.(8/584)
10032 -"كفى بالمرء إثما أن يُضِيعَ من يُقيت". (1)
في رواية من رواها:"يُقيت"، يعني: من هو تحت يديه وفي سلطانه من أهله وعياله، فيقدّر له قوته. يقال= منه."أقات فلان الشيء يقتيه إقاتة" و"قاته يقوته قياتةً وقُوتًا"، و"القوت" الاسم. وأما"المقيت" في بيت اليهوديّ الذي يقول فيه: (2)
لَيْتَ شِعْرِي، وَأَشْعُرَنَّ إِذَا مَا ... قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ (3) ! أَلِيَ الْفَضْلُ أَمْ عَلَيَّ إذا حُوسِبْتُ? ... إِنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ (4)
= فإن معناه: فإنّي على الحساب موقوف، وهو من غير هذا المعنى. (5)
* * *
__________
(1) الحديث: 10032- رواه أحمد في مسنده، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رقم: 6495، 6819، 6828، 6842، والحاكم في المستدرك 1: 415، وهو حديث صحيح، وروايته"يقوت".
(2) هو السموأل بن عادياء اليهودي.
(3) ديوانه: 13، 14، والأصمعيات: 85، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 135، وطبقات فحول الشعراء للجمحي: 236، 237، اللسان (قوت) وغيرها. وقوله: "ليت شعري": أي ليتني أعلم ما يكون. وقوله: "وأشعرن" استفهام، أي: وهل أشعرن. وقوله: "قربوها منشورة" يعني: صحف أعماله يوم يقوم الناس لرب العالمين. وفي البيت روايات أخر.
(4) يعني بالفضل: الخير والجزاء الحسن والإنعام من الله."أم على": أم على الإثم المستحق للعقوبة.
(5) هذا المعنى الذي قاله أبو جعفر، هو قول أبي عبيدة، وهو أحسن ما قيل في معنى"المقيت" في هذا البيت. وانظر اعتراض المعترضين على البيت، واختلافهم في تفسيره في مادة (قوت) من لسان العرب.(8/585)
وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86)
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا حييتم بتحية"، إذا دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة. (1) ="فحيوا بأحسن منها أو ردُّوها"، يقول: فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم="أو ردوها" يقول: أو ردّوا التحية.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة"التحية" التي هي أحسن مما حُيِّيَ به المُحَّيي، والتي هي مثلها.
فقال بعضهم: التي هي أحسن منها: أن يقول المسلَّم عليه إذا قيل:"السلام عليكم"،:"وعليكم السلام ورحمة الله"، ويزيد على دعاء الداعي له. والرد أن يقول:"السلام عليكم" مثلها. كما قيل له، (2) أو يقول:"وعليكم السلام"، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له. (3)
*ذكر من قال ذلك:
10033 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، يقول: إذا سلم عليك أحد فقل أنت:"وعليك السلام ورحمة الله"، أو تقطع إلى"السلام عليك"، كما قال لك.
10034 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
__________
(1) وذلك لأن معنى"التحية": البقاء والسلامة من الآفات.
(2) في المخطوطة، مكان قوله: "كما قيل له"="قال قيل له"، ولا أدري ما هو، وتصرف الطابع الأول لا بأس به.
(3) في المطبوعة: "فيدعو الداعي له"، والصواب من المخطوطة، ولكن أوقعه في الخطأ، أن الناسخ كتب: "فيدعوا" بالألف بعد الواو.(8/586)
عن ابن جريج، عن عطاء قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، قال: في أهل الإسلام.
10035 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج فيما قرئ عليه، عن عطاء قال: في أهل الإسلام.
10036 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن شريح أنه كان يرد:"السلام عليكم"، كما يسلم عليه.
10037 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون وإسماعيل بن أبي خالد، عن إبراهيم أنه كان يرد:"السلام عليكم ورحمة الله".
10038 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن عطية، عن ابن عمر: أنه كان يرد:"وعليكم".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فحيوا بأحسن منها أهلَ الإسلام، أو ردوها على أهل الكفر.
*ذكر من قال ذلك:
10039 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا حميد بن عبد الرحمن، عن الحسن بن صالح، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: من سلَّم عليك من خلق الله، فاردُدْ عليه وإن كان مجوسيًّا، فإن الله يقول:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها".
10040 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها"، للمسلمين="أو ردوها"، على أهل الكتاب.
10041 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد،(8/587)
عن قتادة في قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها"، للمسلمين=" أو ردوها"، على أهل الكتاب.
10042 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها"، يقول: حيوا أحسن منها، أي: على المسلمين="أو ردوها"، أي: على أهل الكتاب.
10043 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، ابن زيد في قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، قال: قال أبي: حق على كل مسلم حيِّي بتحية أن يحيِّي بأحسن منها، وإذا حياه غير أهل الإسلام، أن يرد عليه مثل ما قال.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، قولُ من قال: ذلك في أهل الإسلام، ووجّه معناه إلى أنه يرد السلام على المسلم إذا حياه تحية أحسن من تحيته أو مثلها. وذلك أن الصِّحاح من الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه واجب على كل مسلم ردُّ تحية كل كافر بأخَسَّ من تحيته. وقد أمر الله بردِّ الأحسن والمثل في هذه الآية، من غير تمييز منه بين المستوجب ردَّ الأحسن من تحيته عليه، والمردودِ عليه مثلها، بدلالة يعلم بها صحة قولُ من قال:"عنى برد الأحسن: المسلم، وبرد المثل: أهل الكفر".
والصواب= إذْ لم يكن في الآية دلالة على صحة ذلك، ولا صحة أثر لازم عن الرسول صلى الله عليه وسلم (1) = أن يكون الخيار في ذلك إلى المسلَّم عليه: بين رد الأحسن، أو المثل، إلا في الموضع الذي خصَّ شيئًا من ذلك سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيكون مسلَّمًا لها. وقد خَصّت السنة أهل الكفر بالنهي عن رد الأحسن
__________
(1) في المطبوعة: "ولا بصحته أثر لازم"، وفي المخطوطة: "ولا بصحة أثر لازم"، وكلتاهما غير مستقيمة، فرجحت أن يكون ما أثبت أقرب إلى حق السياق.(8/588)
من تحيتهم عليهم أو مثلها، إلا بأن يقال:"وعليكم"، فلا ينبغي لأحد أن يتعدَّى ما حدَّ في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأما أهل الإسلام، فإن لمن سلَّم عليه منهم في الردّ من الخيار، ما جعل الله له من ذلك.
وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تأويل ذلك بنحو الذي قلنا، خَبَرٌ. وذلك ما:-
10044 - حدثني موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا عبد الله بن السري الأنطاكي قال، حدثنا هشام بن لاحق، عن عاصم الأحول، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يا رسول الله. فقال: وعليك ورحمة الله. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله. فقال له رسول الله: وعليك ورحمة الله وبركاته. ثم جاء آخر فقال: السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته. فقال له: وعليك. فقال له الرجل: يا نبي الله، بأبي أنت وأمي، أتاك فلان وفلان فسلَّما عليك، فرددتَ عليهما أكثر مما رددت عليّ! فقال: إنك لم تدع لنا شيئًا، قال الله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها"، فرددناها عليك. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 10044- عبد الله بن السري المدائني الأنطاكي: ضعيف، وكان رجلا صالحًا، كما قالوا. وقال أبو نعيم: "يروى المناكير، لا شيء". وقال ابن حبان في كتاب الضعفاء: "روى عن أبي عمران العجائب التي لا يشك أنها موضوعة". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 78. ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث عن هشام بن لاحق، كما سيأتي.
هشام بن لاحق، أبو عثمان المدائني: مختلف فيه، قال أحمد: "يحدث عن عاصم الأحول، وكتبنا عنه أحاديث، لم يكن به بأس، ورفع عن عاصم أحاديث لم ترفع، أسندها هو إلى سلمان". وأنكر عليه شبابة حديثًا. وهذا خلاصة ما في ترجمته عند البخاري في الكبير 4 / 2 / 200- 201، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 69- 70. وفي لسان الميزان أن النسائي قواه، وأن ابن حبان ذكره في الثقات وفي الضعفاء. وقال ابن عدي: "أحاديثه حسان، وأرجو أنه لا بأس به". فيبدو من كل هذا أن الكلام فيه ليس مرجعه الشك في صدقه، بل إلى وهم أو خطأ منه- فالظاهر أنه حسن الحديث.
والحديث ذكره ابن كثير 2: 526- 527، عن هذا الموضع من الطبري. ثم نقل عن ابن أبي حاتم أنه رواه معلقًا من طريق عبد الله بن السري الأنطاكي، بهذا الإسناد، مثله.
ثم قال ابن كثير: "ورواه أبو بكر بن مردويه: حدثنا عبد الباقي بن قانع، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثنا أبي، حدثنا هشام بن لاحق أبو عثمان -فذكر مثله. ولم أره في المسند".
وهو كما قال ابن كثير، ليس في المسند.
ولكن السيوطي ذكره في الدر المنثور 2: 188، وأنه رواه أحمد"في الزهد". وزاد نسبته أيضًا لابن المنذر، والطبراني، وأنه"بسند حسن".
وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 8: 33، وقال: "رواه الطبراني. وفيه هشام بن لاحق، قواه النسائي، وترك أحمد حديثه، وبقية رجاله رجال الصحيح".
وإطلاقه أن أحمد ترك حديث هشام- ليس بجيد، فإن النص الثابت عن أحمد عند البخاري وابن أبي حاتم، لا يدل على ذلك.(8/589)
فإن قال قائل: أفواجب رد التحية على ما أمر الله به في كتابه؟
قيل: نعم، وبه كان يقول جماعة من المتقدمين.
*ذكر من قال ذلك:
10045 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: ما رأيته إلا يوجبه، قوله:"وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها". (1)
10046 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن رجل، عن الحسن قال: السلام: تطوُّع، والرد فريضة.
* * *
__________
(1) أي: يوجب رد السلام.(8/590)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله كان على كل شيء مما تعملون، أيها الناس، من الأعمال، من طاعة ومعصية، حفيظًا عليكم، حتى يجازيكم بها جزاءه، كما:-
10047 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"حسيبًا"، قال: حفيظًا.
10048 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وأصل"الحسيب" في هذا الموضع عندي،"فعيل" من"الحساب" الذي هو في معنى الإحصاء، (1) يقال منه:"حاسبت فلانًا على كذا وكذا"، و"فلان حاسِبُه على كذا"، و"هو حسيبه"، وذلك إذا كان صاحبَ حِسابه.
* * *
وقد زعم بعض أهل البصرة من أهل اللغة: أن معنى"الحسيب" في هذا الموضع، الكافي. يقال منه:"أحسبني الشيء يُحسبني إحسابًا"، بمعنى كفاني، من قولهم:"حسبي كذا وكذا". (2)
وهذا غلط من القول وخطأ. وذلك أنه لا يقال في"أحسبني الشيء"، (3)
__________
(1) انظر تفسير"الحسيب" فيما سلف 7: 596، 597. = وتفسير"الحساب" فيما سلف 4: 207، 274، 275 / 6: 279.
(2) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 135، وانظر ما سلف 7: 596، 597.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "أحسبت"، والصواب"أحسبني" كما دل عليه السياق.(8/591)
"أحسبَ على الشيء، فهو حسيب عليه"، (1) وإنما يقال:"هو حَسْبه وحسيبه"= والله يقول:"إن الله كان على كل شيء حسيبًا".
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أحسبت على الشيء"، والصواب ما أثبت.(8/592)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
القول في تأويل قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الله لا إله إلا هو ليجمعنكم"، المعبود الذي لا تنبغي العبودة إلا له، (1) هو الذي له عبادة كل شيء وطاعة كل طائع. (2)
* * *
وقوله:"ليجمعنكم إلى يوم القيامة"، يقول: ليبعثنَّكم من بعد مماتكم، وليحشرنكم جميعًا إلى موقف الحساب الذي يجازي الناس فيه بأعمالهم، ويقضي فيه بين أهل طاعته ومعصيته، وأهل الإيمان به والكفر (3) ="لا ريب فيه"، (4) يقول: لا شك في حقيقة ما أقول لكم من ذلك وأخبركم من خبري: أنّي جامعكم إلى يوم القيامة بعد مماتكم (5) ="ومن أصدق من الله حديثًا"، يعني بذلك: فاعلموا حقيقة ما أخبركم من الخبر، فإني جامعكم إلى يوم القيامة للجزاء والعرض والحساب والثواب والعقاب يقينًا، فلا تشكوا في صحته ولا تمتروا في حقيقته، (6)
__________
(1) انظر ما كتب عن"العبودة" فيما سلف 6: 271، تعليق: 1 404، تعليق 2 / 549، تعليق: 2 / 565، تعليق: 2.
(2) انظر تفسير"لا إله إلا هو" فيما سلف 6: 149.
(3) انظر تفسير"القيامة" فيما سلف 2: 518.
(4) انظر تفسير"لا ريب فيه" 1: 228، 378 / 6: 221، 294، 295.
(5) في المطبوعة: "أي جامعكم"، أساء قراءة المخطوطة.
(6) في المطبوعة: "في حقيته"، وأثبت ما في المخطوطة.(8/592)
فإن قولي الصدق الذي لا كذب فيه، ووعدي الصدق الذي لا خُلْف له-"ومن أصدق من الله حديثًا"، يقول: وأي ناطق أصدق من الله حديثًا؟ وذلك أن الكاذب إنما يكذب ليجتلب بكذبه إلى نفسه نفعًا، أو يدفع به عنها ضرًّا. والله تعالى ذكره خالق الضر والنفع، فغير جائز أن يكون منه كذب، لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع إلى نفسه أو دفع ضر عنها [داعٍ. وما من أحدٍ لا يدعوه داعٍ إلى اجتلاب نفع إلى نفسه، أو دفع ضر عنها] ، سواه تعالى ذكره، (1) فيجوز أن يكون له في استحالة الكذب منه نظيرًا، [فقال] :"ومن أصدق من الله حديثًا"، وخبرًا.
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين على ما جاء في المطبوعة، لأنه حق الكلام. فإن أبا جعفر قدم الحجة الأولى في الجملة السابقة، للبيان عن استحالة الكذب على الله سبحانه وتعالى. ثم أتبع ذلك بالبيان عن معنى استعمال التفضيل في قوله تعالى: "ومن أصدق من الله حديثًا"، وبين أنه ليس لله سبحانه وتعالى نظير في ذلك.
وكان في المطبوعة، كما أثبته، خلا ما بين القوسين وهو كلام غير مستقيم. أما المخطوطة، فقد كان فيها ما نصه: "لأنه لا يدعوه إلى اجتلاب نفع ولا دفع ضر عن نفسه أو دفع ضر عنها؛ سواه تعالى ذكره، فيجوز أن يكون ... " وهو كلام مختلط دال على إسقاط الناسخ من كلام أبي جعفر. فاجتهدت في وضع هذه الزيادة التي أثبتها، ليستقيم الكلام على وجه يصح. وزدت أيضًا"فقال" بين قوسين، لحاجة الكلام إليها.(8/593)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88)
القول في تأويل قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فما لكم في المنافقين فئتين"، فما شأنكم، أيها المؤمنون، في أهل النفاق فئتين مختلفتين (1) ="والله أركسَهم بما كسبوا"، يعني بذلك: والله رَدّهم إلى أحكام أهل الشرك، في إباحة دمائهم وسَبْي ذراريهم.
* * *
و"الإركاس"، الردُّ، ومنه قول أمية بن أبي الصلت:
فَأُرْكِسُوا فِي حَمِيمِ النَّارِ، إِنَّهُمُ ... كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا الإفْكَ وَالزُّورَا (2)
يقال منه:"أرْكَسهم" و"رَكَسَهم".
* * *
وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله وأبي: (وَاللَّهُ رَكَسَهُمْ) ، بغير"ألف". (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"فئة" فيما سلف 5: 352، 353 / 6: 230.
(2) ديوانه: 36، وليس هذا البيت بنصه هذا في الديوان، بل جاء في شعر من بحر آخر، هو: أُرْكِسُوا فِي جَهَنَّمٍ، أَنَّهُمْ كَانُوا ... عُتَاةً تَقُولُ إفْكًا وَزُورَا
ولم أجده برواية أبي جعفر في مكان آخر.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 281 = ثم انظر تفسير"أركسهم" فيما يلي ص: 15، 16(8/7)
واختلف أهل التأويل في الذين نزلت فيهم هذه الآية.
فقال بعضهم:نزلت في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الذين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وانصرفوا إلى المدينة، وقالوا لرسول الله عليه السلام ولأصحابه: (لَوْ نَعْلَمُ قِتَالا لاتَّبَعْنَاكُمْ) [سورة آل عمران: 167] .
*ذكر من قال ذلك:
10049- حدثني الفضل بن زياد الواسطي قال: حدثنا أبو داود، عن شعبة، عن عدي بن ثابت قال: سمعت عبد الله بن يزيد الأنصاري يحدّث، عن زيد بن ثابت: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى أحد، رجعت طائفة ممن كان معه، فكان أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين، فرقة تقول:"نقتلهم"، وفرقة تقول:"لا". فنزلت هذه الآية:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا" الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة: إنها طَيْبَة، وإنها تَنْفي خَبَثها كما تنفي النار خبثَ الفِضَّة. (1)
10050- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة قال: حدثنا شعبة، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. (2)
10051- حدثني زريق بن السخت قال، حدثنا شبابة، عن عدي بن ثابت، عن عبد الله بن يزيد، عن زيد بن ثابت قال: ذكروا المنافقين عند النبي صلى الله عليه وسلم، فقال فريق:"نقتلهم"، وقال فريق:"لا نقتلهم". فأنزل
__________
(1) الحديث: 10049 - الفضل بن زياد الواسطي: لا أدري من هو؟ والترجمة الوحيدة التي وجدتها بهذا الاسم هي"الفضل بن زياد الطساس البغدادي". وهو من هذه الطبقة. فلعله هو. مترجم في الجرح 3 / 2 / 62. وتاريخ بغداد 12: 360. وله ترجمة غير محررة، في لسان الميزان 4: 441.
أبو داود: هو الطيالسي.
وقد روى الطبري هذا الحديث بثلاثة أسانيد، سيأتي تخريجه في آخرها، إن شاء الله.
(2) الحديث: 10050 - أبو أسامة: هو حماد بن أسامة.(8/8)
الله تبارك وتعالى:"فما لكم في المنافقين فئتين" إلى آخر الآية (1)
وقال آخرون: بل نزلت في اختلاف كان بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين أنهم مسلمون، ثم رجعوا إلى مكة وأظهروا لهم الشرك.
*ذكر من قال ذلك:
10052- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما لكم في المنافقين فئتين"، قال: قوم خرجوا من مكة حتى أتوا المدينة يزعمون أنهم مهاجرون، ثم ارتدوا بعد ذلك، فاستأذنوا
__________
(1) الحديث: 10051 - زريق- بتقديم الزاي - بن السخت، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة ولا ذكرا، إلا في المشتبه للذهبي، ص: 222، قال: "زريق بن السخت، عن إسحاق الأزرق. وهو الصحيح، ويقال بتقديم الراء".
شبابة: هو ابن سوار. مضت ترجمته في: 37.
ويجب أن يكون هنا سقط في الإسناد، بين شبابة وعدي بن ثابت، لأن شبابة بن سوار مات سنة 204 أو 205، أو 206، وهو الذي جزم به البخاري في الصغير، ص: 228. وعدي بن ثابت مات سنة 116، فبينهما 90 سنة. والظاهر أنه سقط من الإسناد هنا [عن شعبة] .
عدي بن ثابت الأنصاري: ثقة معروف. أخرج له الجماعة. وهو ابن بنت عبد الله بن يزيد - شيخه في هذا الإسناد.
عبد الله بن يزيد الخطمي - بفتح الخاء المعجمة وسكون الطاء المهملة: صحابي معروف، شهد الحديبية صغيرا.
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند 5: 184، عن بهز، عن شعبة، كالرواية الأولى هنا المطولة: 10049.
وكذلك رواه البخاري 4: 83، و7: 275، و 8: 193 - من طريق شعبة، به. ورواه مسلم 1: 389 - 390، من طريق شعبة أيضا، ولكنه روى آخره: "إنها طيبة ... " فقط.
وذكره ابن كثير 2: 529، من رواية المسند. ثم قال: "أخرجاه في الصحيحين من طريق شعبة".
وذكره السيوطي 2: 189-190، وزاد نسبته للطيالسي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والترمذي، والنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الدلائل.
وليس في مسند الطيالسي المطبوع، لأنه ناقص كما هو معروف.(8/9)
النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى مكة ليأتوا ببضائع لهم يتّجرون فيها. فاختلف فيهم المؤمنون، فقائل يقول:"هم منافقون"، وقائل يقول:"هم مؤمنون". فبين الله نفاقهم فأمر بقتالهم، فجاؤوا ببضائعهم يريدون المدينة، فلقيهم علي بن عويمر، أو: هلال بن عويمر الأسلمي، (1) وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم حلف= وهو الذي حَصِر صدره أن يقاتل المؤمنين أو يُقاتل قومه، فدفع عنهم= بأنهم يَؤُمُّون هلالا (2) وبينه وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد.
10053- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله بنحوه= غير أنه قال: فبيّن الله نفاقهم، وأمر بقتالهم، فلم يقاتلوا يومئذ، فجاؤوا ببضائعهم يريدون هلالَ بن عويمر الأسلمي، وبينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم حِلْف. (3)
* * *
وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم من أهل الشرك كانوا أظهروا الإسلام بمكة، وكانوا يعينون المشركين على المسلمين.
*ذكر من قال ذلك:
10054- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فما لكم في المنافقين فئتين"، وذلك أن قوما كانوا بمكة قد تكلّموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحابَ محمد"عليه السلام"، فليس علينا منهم بأس! وأن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من
__________
(1) أسقط المطبوعة: "علي بن عويمر، أو: " وساق الخبر"فلقيهم هلال.." وأثبته من المخطوطة. والأثر التالي من رواية أبي جعفر، هو الذي فيه إسقاط علي بن عويمر" من الخبر.
(2) في المطبوعة: "يؤمنون هلالا"، والصواب من المخطوطة والدر المنثور 2: 190
(3) الأثران: 10052، 10053 - انظر الأثر التالي: 10071.(8/10)
المؤمنين: اركبوا إلى الخبثاء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم! وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله = أو كما قالوا =، أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلَّمتم به؟ أمن أجل أنهم لم يهاجروا ويتركوا ديارَهم، تستحلّ دماؤهم وأموالهم لذلك! فكانوا كذلك فئتين، والرسول عليه السلام عندهم لا ينهى واحدا من الفريقين عن شيء، فنزلت:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا أتريدون أن تهدوا من أضل الله"، الآية.
10055- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فما لكم في المنافقين فئتين" الآية،، ذكر لنا أنهما كانا رجلين من قريش كانا مع المشركين بمكة، وكانا قد تكلّما بالإسلام ولم يهاجرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيهما ناس من أصحاب نبي الله وهما مقبلان إلى مكة، فقال بعضهم: إن دماءهما وأموالهما حلال! وقال بعضهم: لا يحلُّ لكم! فتشاجروا فيهما، فأنزل الله في ذلك:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا" حتى بلغ"ولو شاء الله لسلَّطهم عليكم فلقاتلوكم".
10056- حدثنا القاسم قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر بن راشد قال: بلغني أنّ ناسًا من أهل مكة كتبوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد أسلموا، وكان ذلك منهم كذبا، فلقوهم، فاختلف فيهم المسلمون، فقالت طائفة: دماؤهم حلال! وقالت طائفة: دماؤهم حرام! فأنزل الله:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا".
* * *
10057- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فما لكم في المنافقين فئتين"، هم ناس تخلّفوا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، وأقاموا بمكة وأعلنوا الإيمان ولم يهاجروا، فاختلف فيهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتولاهم ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتبرأ من وَلايتهم آخرون،(8/11)
وقالوا: تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يهاجروا! فسماهم الله منافقين، وبرّأ المؤمنين من وَلايتهم، وأمرهم أن لا يتولَّوهم حتى يهاجروا.
* * *
وقال آخرون: بل كان اختلافهم في قوم كانوا بالمدينة، أرادوا الخروج عنها نفاقًا.
* ذكر من قال ذلك:
10058- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا"، قال: كان ناس من المنافقين أرادوا أن يخرجوا من المدينة، فقالوا للمؤمنين: إنّا قد أصابنا أوجاعٌ في المدينة واتَّخَمْناها، (1) فلعلنا أن نخرج إلى الظَّهر حتى نتماثل ثم نرجع، (2) فإنا كنا أصحاب برّيّة. فانطلقوا، واختلف فيهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت طائفة: أعداءٌ لله منافقون! (3) وددنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لنا فقاتلناهم! وقالت طائفة: لا بل إخواننا غَمَّتهم المدينة فاتّخموها، (4)
__________
(1) "اتخمناها"، "افتعل" من"الوخم"، يقال: "أرض وخمة ووخيمة"، وبيئة، لا يوافق المرء سكنها فيجتويها. و"استوخم القوم المدينة": استثقلوها، ولم يوافق هواؤها أبدانهم. والذي ذكرته كتب اللغة بناء"استوخم""استفعل" متعديا من"الوخم"، ولم يذكروا"اتخم""افتعل"، وهو صحيح في قياس العربية. وهذا شاهده.
(2) "الظهر": ما غلظ وارتفع من الأرض، و"البطن": ما لان منها وسهل ورق واطمأن. ومثله"ظاهر الأرض"، فسموا ما بعد عن القرية وارتفع في البرية: "ظهر البلدة وظاهرها".
(3) في المطبوعة: "أعداء الله المنافقون"، وفي المخطوطة: أعداء الله منافقون"، والصواب ما أثبت.
(4) في المطبوعة والدر المنثور 2: 191: "تخمتهم المدينة فاتخموها"، وليس صوابا. وفي المخطوطة: "عمهم المدينة" غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها، من"الغم": وهو الكرب وكل ما يكرهه الإنسان فيورثه الضيق والهم. والدليل على صحة هذه القراءة ما جاء في معاني القرآن 1: 280"ضجروا منها واستوخموها" وانظر ما سلف تعليق: 1، في تفسير"اتخم".(8/12)
فخرجوا إلى الظهر يتنزهون، (1) فإذا بَرَؤوا رجعوا. فقال الله:"فما لكم في المنافقين فئتين"، يقول: ما لكم تكونون فيهم فئتين ="والله أركسهم بما كسبوا".
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر أهل الإفك.
*ذكر من قال ذلك:
10059- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فما لكم في المنافقين فئتين والله أركسهم بما كسبوا"، حتى بلغ"فلا تتّخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"، قال: هذا في شأن ابن أُبيّ حين تكلم في عائشة بما تكلم.
10060- وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: إن هذه الآية حين أنزلت:"فما لكم في المنافقين فئتين"، فقرأ حتى بلغ"فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"، فقال سعد بن معاذ: فإنّي أبرأ إلى الله وإلى رسوله من فئته! = يريد عبد الله بن أبيّ ابن سلول. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوم كانوا ارتدُّوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة.
__________
(1) "يتنزهون" أي: يتباعدون عن الأرض التي استوخموها، حتى يبرأوا. و"التنزه" التباعد عن الأرياف والمياه، حيث لا يكون ماء ولا ندى ولا جمع ناس، وذلك شق البادية، وهو أصح للأبدان.
(2) الأثر: 10059، 10060 - في المطبوعة، ساق هذين الأثرين، أثرا واحدا، فجعله هكذا: "حين تكلم في عائشة بما تكلم، فقال سعد بن معاذ.." وأسقط صدر الأثر: 10060، فرددته إلى الصواب من المخطوطة. والذي أوقع الناشر في هذا، سوء صنيع السيوطي في نقله عن ابن جرير، وذلك في الدر المنثور 2: 191.(8/13)
وإنما قلنا ذلك أولى بالصواب، لأنّ اختلاف أهل التأويل في ذلك إنما هو على قولين: أحدهما: أنهم قوم كانوا من أهل مكة، على ما قد ذكرنا الرواية عنهم.
والآخر: أنهم قوم كانوا من أهل المدينة.
= وفي قول الله تعالى ذكره:"فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا"، أوضح الدّليل على أنهم كانوا من غير أهل المدينة. لأنّ الهجرة كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى داره ومدينته من سائر أرض الكفر. فأما من كان بالمدينة في دار الهجرة مقيمًا من المنافقين وأهل الشرك، فلم يكن عليه فرضُ هجرة، لأنه في دار الهجرة كان وطنُه ومُقامه.
* * *
واختلف أهل العربية في نصب قوله:"فئتين".
فقال بعضهم: هو منصوب على الحال، كما تقول:"ما لَك قائما"، يعني: ما لك في حال القيام. وهذا قول بعض البصريين.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفيين: هو منصوب على فعل"ما لك"، قال: ولا تُبالِ أكان المنصوب في"ما لك" معرفة أو نكرة. (1) . قال: ويجوز في الكلام أن تقول:"ما لك السائرَ معنا"، لأنه كالفعل الذي ينصب بـ"كان" و"أظن" وما أشبههما. قال: وكل موضع صلحت فيه"فعل" و"يفعل" من المنصوب، جاز نصب المعرفة منه والنكرة، كما تنصب"كان" و"أظن"، لأنهن نواقصُ في المعنى، وإن ظننت أنهنّ تَامّاتٍ. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "ولا تبالي كان المنصوب.." وفي المخطوطة: "ولا تبال كان المنصوب" ورجحت قراءتها كما أثبتها، استظهارًا من نص الفراء في معاني القرآن.
(2) هذا مختصر نص الفراء في معاني القرآن 1: 281.(8/14)
وهذا القول أولى بالصواب في ذلك، لأن المطلوب في قول القائل:"ما لك قائمًا"،"القيام"، فهو في مذهب"كان" وأخواتها، و"أظن" وصواحباتها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"والله أركسهم".
فقال بعضهم: معناه: ردَّهم، كما قلنا.
*ذكر من قال ذلك:
10061- حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"والله أركسهم بما كسبوا"، ردَّهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: والله أوْقَعهم.
*ذكر من قال ذلك:
10062- حدثني المثنى قال، حدثني عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"والله أركسهم بما كسبوا"، يقول: أوقعهم.
وقال آخرون: معنى ذلك: أضلهم وأهلكهم.
*ذكر من قال ذلك:
10063- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن قتادة:"والله أركسهم"، قال: أهلكهم.
10064- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة:"والله أركسهم بما كسبوا"، أهلَكَهم بما عملوا.
__________
(1) في المخطوطة: "والظن وصواحباتها"، والصواب ما في المطبوعة.(8/15)
10065- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والله أركسهم بما كسبوا"، أهلكهم.
* * *
وقد أتينا على البيان عن معنى ذلك قبل، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلا (88) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله"أتريدون أن تهدوا من أضل الله"، أتريدون، أيها المؤمنون، أن تهدوا إلى الإسلام فتوفقوا للإقرار به والدخول فيه، من أضله الله عنه= يعني بذلك: من خَذَله الله عنه، فلم يوفقه للإقرار به؟ (2)
وإنما هذا خطاب من الله تعالى ذكره للفئة التي دافعت عن هؤلاء المنافقين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية. يقول لهم جل ثناؤه: أتبغون هداية هؤلاء الذين أضلَّهم الله فخذلهم عن الحق واتباع الإسلام، بمدافعتكم عن قتالهم من أراد قتالَهم من المؤمنين؟ ="ومن يُضلل الله فلن تجد له سبيلا"، يقول: ومَن خذله عن دينه واتباع ما أمره به، من الإقرار به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عنده، فأضلَّه عنه="فلن تجد له"، يا محمد،"سبيلا"، يقول: فلن تجد له طريقًا تهديه فيها إلى إدراك ما خذله الله [عنه] ، (3) ولا منهجًا يصل منه إلى الأمر الذي قد حرمه الوصول إليه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف ص: 7
(2) انظر معنى"هدى"، ومعنى"الضلال" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) هذه الزيادة بين القوسين، يقتضيها السياق اقتضاء. وانظر تفسير"السبيل" فيما سلف. من فهارس اللغة.(8/16)
وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89)
القول في تأويل قوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ودوا لو تكفرون كما كفروا"، تمنَّى هؤلاء المنافقون (1) = الذين أنتم، أيها المؤمنون، فيهم فئتان= أن تكفروا فتجحدوا وحدانية ربكم، وتصديقَ نبيِّكم محمد صلى الله عليه وسلم="كما كفروا"، يقول: كما جحدوا هم ذلك="فتكونون سواء"، يقول: فتكونون كفّارًا مثلهم، وتستوون أنتم وهم في الشرك بالله (2) ="فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله"، يقول (3) حتى يخرجوا من دار الشرك ويفارقوا أهلها الذين هم بالله مشركون، إلى دار الإسلام وأهلها="في سبيل الله"، يعني: في ابتغاء دين الله، وهو سبيله، (4) فيصيروا عند ذلك مثلكم، ويكون لهم حينئذ حكمكم، كما:-
10066- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ودّوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا"، يقول: حتى يصنعوا كما صنعتم= يعني الهجرةَ في سبيل الله.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470 / 5: 542 / 8: 371.
(2) انظر تفسير"سواء" فيما سلف 1: 256 / 2: 495 - 497 / 6: 483، 486، 487 / 7: 118
(3) انظر تفسير"ولي" و"أولياء" فيما سلف: 8: 430، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف: 8: 579، تعليق: 2، والمراجع هناك.(8/17)
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا (89) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أدبر هؤلاء المنافقون عن الإقرار بالله ورسوله، وتولوا عن الهجرة من دار الشرك إلى دار الإسلام ومن الكفر إلى الإسلام (1) ="فخذوهم" أيها المؤمنون="واقتلوهم حيث وجدتموهم"، من بلادهم وغير بلادهم، أين أصبْتموهم من أرض الله ="ولا تتخذوا منهم وليَّا"، يقول: ولا تتخذوا منهم خليلا يواليكم على أموركم، ولا ناصرًا ينصركم على أعدائكم، (2) فإنهم كفار لا يألونكم خبالا وَدُّوا ما عنتُّم.
* * *
وهذا الخبر من الله جل ثناؤه، إبانةٌ عن صحة نِفاق الذين اختلف المؤمنون في أمرهم، وتحذيرٌ لمن دفع عنهم عن المدافعة عنهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10067- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم"، فإن تولوا عن الهجرة ="فخذوهم واقتلوهم".
10068- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم"، يقول: إذا أظهروا كُفرهم، فاقتلوهم حيث وجدتموهم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 8: 562 تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"ولي" فيما سلف ص 17، تعليق: 3= و"نصير" فيما سلف 8: 472 تعليق 1، والمراجع هناك.(8/18)
إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90)
القول في تأويل قوله: {إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، فإن تولىَّ هؤلاء المنافقون الذين اختلفتم فيهم عن الإيمان بالله ورسوله، وأبوا الهجرة فلم يهاجروا في سبيل الله، فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم، سوى من وَصل منهم إلى قوم بينكم وبينهم مُوادعة وعهد وميثاق، (1) فدخلوا فيهم، وصاروا منهم، ورضوا بحكمهم، فإن لمن وصل إليهم فدخل فيهم من أهل الشرك راضيًا بحكمهم في حقن دمائهم بدخوله فيهم: أن لا تسبى نساؤهم وذراريهم، ولا تغنم أموالهم، كما: -
10069- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، يقول: إذا أظهروا كفرهم فاقتلوهم حيث وجدتموهم، فإن أحدٌ منهم دخل في قوم بينكم وبينهم ميثاق، فأجروا عليه مثل ما تجرُون على أهل الذمة.
10070- حدثني يونس، عن ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، يصلون إلى هؤلاء الذين بينكم وبينهم ميثاق من القوم، لهم من الأمان مثل ما لهؤلاء.
10071- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، قال نزلت في هلال بن عويمر الأسلمي، وسراقة بن مالك بن جعشم، وخزيمة بن عامر بن عبد مناف. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف: 8: 127 تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) الأثر: 10071 - انظر الأثرين السالفين: 10052، 10053.(8/19)
وقد زعم بعض أهل العربية، (1) أن معنى قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم"، إلا الذين يتَّصلون في أنسابهم لقوم بينكم وبينهم ميثاق، من قولهم:"اتّصل الرجل"، بمعنى: انتمى وانتسب، كما قال الأعشى في صفة امرأة انتسبت إلى قوم:
إذَا اتَّصَلَتْ قَالَتْ: أَبَكْرَ بنَ وَائِلٍ! ... وَبَكْرٌ سَبَتْهَا وَالأنُوفُ رَوَاغِمُ! (2)
يعني بقوله:"اتصلت"، انتسبت.
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجه لهذا التأويل في هذا الموضع، لأن الانتساب إلى قوم من أهل الموادعة أو العهد، لو كان يوجب للمنتسبين إليهم ما لهم، إذا لم يكن لهم من العهد والأمان ما لهم، لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لِيقاتل قريشًا وهم أنسباءُ السابقين الأوَّلين. ولأهل الإيمان من الحق بإيمانهم، أكثر مما لأهل العهد بعهدهم. وفي قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم مشركي قريش= بتركها الدخول فيما دخل فيه أهل الإيمان منهم، مع قرب أنسابهم من أنساب المؤمنين منهم - الدليلُ الواضح أنّ انتساب من لا عهد له إلى ذي العهد منهم، لم يكن موجبا له من العهد ما لذي العهد من انتسابه.
فإن ظن ذو غفلة أن قتال النبيّ صلى الله عليه وسلم من قاتل من أنسباء المؤمنين من مشركي قريش، إنما كان بعد ما نُسخ قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ناسخ ذلك"براءة"، و"براءة" نزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام. (3)
* * *
__________
(1) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 136، وفي المطبوع من مجاز القرآن تأخير وتقديم لم يمسسه بالتحرير ناشر الكتاب، فليحرر مكانه.
(2) ديوانه: 59، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 136 والناسخ والمنسوخ: 109 واللسان (وصل) ، وغيرهما. وفي اللسان"لبكر بن وائل"، وفسرها"اتصلت": انتسبت. وفسرها شارح شعر الأعشى: إذا دعت، يعني دعت بدعوى الجاهلية، وهو الاعتزاء. وهذا البيت آخر بيت في قصيدة الأعشى تلك. يقول: تدعى إليهم وتنتسب، وهي من إمائهم اللواتي سبين وقد رغمت أنوفهن وأنوف رجالهن الذي كانوا يدافعون عنهن، ثم انهزموا عنهن وتركوهن للسباء.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن أهل التأويل أجمعوا على أن ذلك نسخ قراءة نزلت بعد فتح مكة ودخول قريش في الإسلام"، وهو خطأ لا معنى له، وخلط فاحش. واستظهرت أن ما كتبته هو الصواب وأنه عنى"سورة براءة"، من الناسخ والمنسوخ: 109، ومن تفسير أبي حيان 3: 315، وتفسير القرطبي 5: 308، وقد نسبوه جميعًا إلى الطبري أيضا.(8/20)
القول في تأويل قوله: {أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أو جاءوكم حَصِرَت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم"،"فإن تولوا فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم" ="إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"= أو: إلا الذين جاءوكم منهم قد حصرت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم فدخلوا فيكم.
ويعني بقوله:"حصرت صدورهم"، ضاقت صدورهم عن أن يقاتلوكم أو أن يقاتلوا قومهم.
والعرب تقول لكل من ضاقت نفسه عن شيء من فعل أو كلام:"قد حَصِرَ"، ومنه"الحَصَرُ" في القراءة. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10072- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أو جاءوكم حصرت صدورهم"، يقول: رجعوا فدخلوا فيكم="حصرت صدورهم"، يقول: ضاقت صدورهم="أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم".
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الحصر" فيما سلف 6: 376، 377 وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 136، ومعاني القرآن للفراء 1: 282.(8/21)
وفي قوله:"أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم"، متروكٌ، ترك ذكره لدلالة الكلام عليه. وذلك أن معناه: أو جاءوكم قد حصرت صدورهم، فترك ذكر"قد"، لأن من شأن العرب فعل مثل ذلك: تقول:"أتاني فلان ذَهَب عقله"، بمعنى: قد ذهب عقله. ومسموع منهم:"أصبحت نظرتُ إلى ذات التَّنانير"، بمعنى: قد نظرت. (1) ولإضمار"قد" مع الماضي، جاز وضع الماضي من الأفعال في موضع الحال، لأن"قد" إذا دخلت معه أدْنته من الحال، وأشبهت الأسماء. (2)
* * *
وعلى هذه القراءة= أعني"حَصِرَت"، قراءة القرأة في جميع الأمصار، وبها يقرأ لإجماع الحجة عليها.
* * *
وقد ذكر عن الحسن البصري أنه كان يقرأ ذلك: (أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَةً صُدُورُهُمْ) ، نصبًا، (3) وهي صحيحة في العربية فصيحة، غير أنه غير جائزة القراءة بها عندي، لشذوذها وخروجها عن قراءة قرأة الإسلام.
* * *
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 282. و"ذات التنانير": أرض بين الكوفة وبلاد غطفان، وقال ياقوت في معجمه: "عقبة بحذاء زبالة".
(2) في المطبوعة: "وأشبه الأسماء"، وما في المخطوطة صواب، يعني وأشبهت الأفعال الماضية الأسماء.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 282.(8/22)
القول في تأويل قوله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا (90) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"ولو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم"، ولو شاء الله لسلّط هؤلاء الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق فيدخلون في جوارهم وذمتهم، والذين يجيئونكم قد حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم= عليكم، (1) أيها المؤمنون، فقاتلوكم مع أعدائكم من المشركين، ولكن الله تعالى ذكره كفَّهم عنكم. يقول جل ثناؤه: فأطيعوا الذي أنعم عليكم بكفِّهم عنكم مع سائر ما أنعم به عليكم، فيما أمركم به من الكفِّ عنهم إذا وصلوا إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق، أو جاؤوكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم. ثم قال جل ثناؤه:"فإن اعتزلوكم"، يقول: فإن اعتزلكم هؤلاء الذين أمرتكم بالكف عن قتالهم من المنافقين، بدخولهم في أهل عهدكم، أو مصيرهم إليكم حصرت صدورهم عن قتالكم وقتال قومهم="فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السَّلَم"، يقول: وصالحوكم.
* * *
و"السَّلَم"، هو الاستسلام. (2) وإنما هذا مثلٌ، كما يقول الرجل للرجل:"أعطيتك قِيادي"، و"ألقيت إليك خِطَامي"، إذا استسلم له وانقاد لأمره. فكذلك قوله:"وألقوا إليكم السلم"، إنما هو: ألقوا إليكم قيادَهم واستسلموا لكم، صلحًا منهم لكم وسَلَمًا. ومن"السَّلم" قول الطرمَّاح:
وَذَاكَ أَنَّ تَمِيمًا غَادَرَتْ سَلَمًا ... لِلأسْدِ كُلَّ حَصَانٍ وَعْثَةِ اللِّبَدِ (3)
__________
(1) السياق: ولو شاء الله لسلط هؤلاء ... عليكم".
(2) انظر تفسير"الإسلام" أيضًا فيما سلف من فهارس اللغة"سلم".
(3) ديوانه: 145، من قصيدته التي هجا بها الفرزدق وبيوت بني دارم وبني سعد فقال قبله: وَدَارِمٌ قد قَذَفْنَا مِنْهُمُ مِئَةً ... فِي جَاحِمِ النَّارِ، إِذْ يُلْقَوْنَ فِي الخُدَدِ
يَنْزُونَ بالْمُشْتَوَى مِنْهَا، ويُوقِدُهَا ... عَمْرٌو، وَلَوْلا لُحُومُ الْقَوْمِ لَمْ تَقِدِ
وَذَاكَ أنَّ تَمِيمًا............ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فزعم أن عمرو بن المنذر اللخمي، أحرق بني دارم رهط الفرزدق، قال أبو عبيدة: ولم يكن للطرماح بهذا الحديث علم. يعني حديث يوم أوارة، وهو يوم غزا عمرو بن المنذر بني دارم، فقتل منهم تسعة وتسعين رجلا.
و"الأسد" يعني عمرو بن المنذر ومن معه. و"الحصان" المرأة العفيفة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "كل مصان وعثه اللبد" وهو خطأ لا معنى له. وامرأة"وعثة": كثيرة اللحم، كأن الأصابع تسوخ فيها من كثرة لحمها ولينها."وامرأة وعثه الأرداف"، كذلك. و"اللبد" جمع لبدة (بكسر فسكون) : وهي كساء ملبس يفرش للجلوس عليه. وعنى بذلك أنها وعثة الأرداف، حيث تجلس على اللبد. فسمي الأرداف لبدًا.
يقول: أسلمت تميم نساءها لنا ولجيش عمرو بن المنذر، وفروا عن أعراضهم، لم يلفتهم إليهن ضعفهن عن الدفع عن أنفسهن، وأنساهم الروع كرائم نسائهم ومترفاتهن.(8/23)
يعني بقوله:"سلمًا"، استسلامًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10073- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن أبي جعفر: عن أبيه، عن الربيع:"فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم"، قال: الصلح.
* * *
وأما قوله:"فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، فإنه يقول: إذا استسلم لكم هؤلاء المنافقون الذين وصف صفتهم، صلحًا منهم لكم="فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، أي: فلم يجعل الله لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم طريقًا إلى قتل أو سباء أو غنيمة، بإباحةٍ منه ذلك لكم ولا إذْنٍ، فلا تعرَّضوا لهم في ذلك= إلا سبيل خير
* * *
ثم نسخ الله جميع حكم هذه الآية والتي بعدها بقوله تعالى ذكره:(8/24)
(فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى قوله: (فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة: 5] .
ذكر من قال في ذلك مثل الذي قلنا:
10074- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين، عن يزيد، عن عكرمة والحسن قالا قال: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا إِلا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) إلى قوله: (وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا) وقال في"الممتحنة": (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ، وقال فيها: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) إلى (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [سورة الممتحنة: 8، 9] . فنسخ هؤلاء الآيات الأربعة في شأن المشركين فقال: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَسِيحُوا فِي الأرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ) [سورة التوبة: 1، 2] . فجعل لهم أربعة أشهر يسيحون في الأرض، وأبطل ما كان قبل ذلك. وقال في التي تليها: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) ، ثم نسخ واستثنى فقال: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ) إلى قوله: (ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) [سورة التوبة: 5، 6] .
10075- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فإن اعتزلوكم"، قال: نسختها: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .(8/25)
سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
10076- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة: يقول في قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" إلى قوله:"فما جعل الله لكم عليهم سبيلا"، ثم نسخ ذلك بعد في براءة، وأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقاتل المشركين بقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ) .
10077- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق"، الآية، قال: نسخ هذا كله أجمع، نسخه الجهاد، ضرب لهم أجل أربعة أشهر: إما أن يسلموا، وإما أن يكون الجهاد.
* * *
القول في تأويل قوله: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّمَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا}
قال أبو جعفر: وهؤلاء فريق آخر من المنافقين، كانوا يظهرون الإسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ليأمنوا به عندهم من القتل والسباء وأخذ الأموال وهم كفار، يعلم ذلك منهم قومهم، إذا لقوهم كانوا معهم وعبدوا ما يعبدونه من دون الله، ليأمنوهم على أنفسهم وأموالهم ونسائهم وذراريهم. يقول الله:"كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، يعني: كلما دعاهم [قومهم] إلى الشرك بالله، (1) ارتدُّوا فصاروا مشركين مثلهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذين عنوا بهذه الآية.
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.(8/26)
فقال بعضهم: هم ناس كانوا من أهل مكة أسلموا -على ما وصفهم الله به من التقيَّة- وهم كفار، ليأمنوا على أنفسهم وأموالهم وذراريهم ونسائهم. يقول الله:"كلما ردُّوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، يعني كلما دعاهم [قومهم] إلى الشرك بالله، (1) ارتدوا فصاروا مشركين مثلهم، ليأمنوا عند هؤلاء وهؤلاء.
*ذكر من قال ذلك:
10078- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم"، قال: ناس كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا ههنا وههنا. فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويُصلحوا.
10079- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
10080- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، يقول: كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها. وذلك أن الرجل كان يوجد قد تكلم بالإسلام، فيقرَّب إلى العُود والحجَر وإلى العقرب والخنفساء، فيقول المشركون لذلك المتكلِّم بالإسلام:"قل: هذا ربي"، للخنفساء والعقرب.
* * *
وقال آخرون: بل هم قوم من أهل الشرك كانوا طلبوا الأمان من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليأمنوا عنده وعند أصحابه وعند المشركين.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.(8/27)
10081- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم"، قال: حيٌّ كانوا بتهامة، قالوا:"يا نبيّ الله، لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا"، وأرادوا أن يأمنوا نبيَّ الله ويأمنوا قومهم، فأبى الله ذلك عليهم، فقال:"كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، يقول: كلما عرض لهم بلاء هلكوا فيه.
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في نعيم بن مسعود الأشجعي.
*ذكر من قال ذلك:
10082- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم ذكر نعيم بن مسعود الأشجعي وكان يأمن في المسلمين والمشركين، ينقل الحديث بين النبي صلى الله عليه وسلم والمشركين، فقال:"ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة"، يقول: إلى الشرك.
* * *
وأما تأويل قوله:"كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، فإنه كما:-
10083- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"كلما ردّوا إلى الفتنة أركسوا فيها"، قال: كلما ابتلُوا بها، عَمُوا فيها.
10084- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: كلما عرَض لهم بلاء، هلكوا فيه.
* * *
والقول في ذلك ما قد بينت قبلُ، وذلك أن"الفتنة" في كلام العرب، الاختبار، و"الإركاس" الرجوع. (1) .
* * *
فتأويل الكلام: كلما ردوا إلى الاختبار ليرجعوا إلى الكفر والشرك، رجعوا إليه.
* * *
__________
(1) انظر"تفسير الفتنة" فيما سلف 2: 444 / 3: 565، 566، 570، 571 / 4: 301 / 6: 196، 197= وانظر تفسير"الإركاس" فيما سلف ص: 7، 15، 16.(8/28)
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يعتزلكم، (1) أيها المؤمنون، هؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، وهم كلما دعوا إلى الشرك أجابوا إليه ="ويلقوا إليكم السلم"، ولم يستسلموا إليكم فيعطوكم المقادَ ويصالحوكم، (2) . كما:-
10085- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم"، قال: الصلح.
* * *
="ويكفوا أيديهم"، يقول: ويكفوا أيديهم عن قتالكم، (3) ="فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم"، يقول جل ثناؤه: إن لم يفعلوا، فخذوهم أين أصبتموهم من الأرض ولقيتموهم فيها، (4) فاقتلوهم، فإن دماءهم لكم حينئذ حلال="وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانًا مبينًا"، يقول جل ثناؤه: وهؤلاء الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم، وهم على ما هم عليه من الكفران، ولم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم، (5) جعلنا لكم حجة في قتلهم أينما لقيتموهم، بمقامهم على كفرهم، وتركهم هجرة دار الشرك="مبينًا" يعني: أنها تبين عن استحقاقهم ذلك منكم،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فإن لم يعتزلوكم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) انظر تفسير"ألقوا السلم" فيما سلف ص23، 24.
(3) انظر تفسير"الكف" فيما سلف 8: 548.
(4) انظر تفسير"ثقف" فيما سلف 3: 564.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "لم يعتزلوكم"، بإسقاط الواو، والأصح إثباتها.(8/29)
وإصابتكم الحق في قتلهم. وذلك قوله:"سلطانًا مبينًا"، و"السلطان" هو الحجة، (1) . كما:-
10086- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان، عن رجل، عن عكرمة قال: ما كان في القرآن من"سلطان"، فهو: حجّة.
10087- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"سلطانًا مبينًا" أما"السلطان المبين"، فهو الحجة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"السلطان" فيما سلف 7: 279 = وتفسير"المبين" فيما سلف 8: 124 تعليق: 1، والمراجع هناك.(8/30)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92)
القول في تأويل قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، وما أذن الله لمؤمن ولا أباح له أن يقتل مؤمنًا. يقول: ما كان ذلك له فيما جعل له ربه وأذن له فيه من الأشياء البتة، كما:-
10088- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، يقول: ما كان له ذلك فيما أتاه من ربه، من عهد الله الذي عهد إليه.
* * *
وأما قوله:"إلا خطأ"، فإنه يقول: إلا أن المؤمن قد يقتل المؤمن خطأ،(9/30)
وليس له مما جعل له ربه فأباحه له. وهذا من الاستثناء الذي يُسميه أهل العربية"الاستثناء المنقطع"، كما قال جرير بن عطية:
مِنَ البِيضِ، لَمْ تَظْعَنْ بَعِيدًا، وَلَمْ تَطَأْ ... عَلَى الأرْضِ إِلا رَيْطَ بُرْدٍ مُرَحَّلِ (1)
يعني: ولم تطأ على الأرض إلا أن تطأ ذيل البرد، وليس ذيل البُرْد من الأرض. (2)
ثم أخبر جل ثناؤه عباده بحكم من قُتل من المؤمنين خطأ، فقال:"ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير"، يقول: فعليه تحرير ="رقبة مؤمنة"، في ماله ="ودية مسلمة"، تؤديها عاقلته (3) ="إلى أهله إلا أن يصدقوا"، يقول: إلا أن يصدق أهل القتيل خطأ على من لزمته دية قتيلهم، فيعفوا عنه ويتجاوزوا عن ذنبه، فيسقط عنه.
* * *
وموضع"أن" من قوله:"إلا أن يصدقوا"، نصب، لأن معناه: فعليه ذلك، إلا أن يصدّقوا.
* * *
__________
(1) ديوانه: 457، والنقائض: 706، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 137، من قصيدته التي هجا فيها الفرزدق وآل الزبرقان بن بدر، وهو من أول القصيدة، وقبله: أَمِنْ عَهْدِ ذِي عَهْدٍ تَفِيضُ مَدَامِعِي ... كَأَنَّ قَذَى الْعَيْنَيْنِ مِنْ حَبِّ فُلْفُلِ?
فَإنْ يَرَ سَلْمَى الجِنُّ يَسْتَأْنِسُوا بِهَا، ... وَإِنْ يَرَ سَلْمَى رَاهِبُ الطُّورِ يَنْزِلِ
ورواية الديوان وأبي عبيدة في النقائض: "إِلاَّ نِيرَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ"
و"النير" (بكسر النون) : علم الثوب. و"المرط": إزار خز له علم، ويكون من صوف أيضا. وأما "الريط" فهو جمع"ريطة": وهي الملاءة إذا كانت قطعة واحدة، ولم تكن لفقين، وتكون ثوبًا دقيقًا لينًا. و"المرحل": الموشى، وهو ضرب من البرود، وشيه معين كتعيين جديات الرحل. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "مرجل" بالجيم، وهو خطأ.
(2) هذه مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 136-138.
(3) "العاقلة"،: هم العصبة، وهم القرابة من قبل الأب، الذين يعطون دية قتل الخطأ. من"العقل"، وهي الدية.(9/31)
وذكر أن هذه الآية نزلت في عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي، وكان قد قتل رجلا مسلمًا بعد إسلامه، وهو لا يعلم بإسلامه.
ذكر الآثار بذلك:
10089- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، قال: عياش بن أبي ربيعة، قتل رجلا مؤمنًا كان يعذِّبه مع أبي جهل= وهو أخوه لأمه= فاتّبَع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحسب أن ذلك الرجل كان كما هو. وكان عيّاش هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم مؤمنًا، فجاءه أبو جهل= وهو أخوه لأمه= فقال: إنّ أمك تناشدك رَحِمها وحقَّها أن ترجع إليها= وهي أسماء ابنة مخرِّبة، (1) فأقبل معه، فربطه أبو جهل حتى قدم مكة. فلما رآه الكفار زادهم ذلك كفرًا وافتتانًا، وقالوا: إنّ أبا جهل ليقدِرُ من محمدٍ على ما يشاء ويأخذ أصحابه.
10090- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال في حديثه: فاتبع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل، وعيّاش حَسبه أنه كافر كما هو. (2) وكان عياش هاجر إلى المدينة مؤمنًا، فجاءه أبو جهل= وهو أخوه لأمه- فقال: إن أمك تنشُدك برحمها وحقها إلا رجعت إليها. وقال أيضًا: ويأخذ أصحابه فيربطهم. (3)
10091- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة: "بنت مخرمة"، والصواب من المخطوطة: "مخربة" بالراء المشددة المكسورة، وبالباء. وأسماء من بني نهشل بن دارم، تميمية.
(2) في المطبوعة: "وعياش يحسبه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فيأخذ" بالفاء، وأثبت ما في المخطوطة.(9/32)
ابن جريج، عن مجاهد بنحوه= قال ابن جريج، عن عكرمة قال: كان الحارث ابن يزيد بن أنيسة، (1) = من بني عامر بن لؤي= يعذِّبُ عياشَ بن أبي ربيعة مع أبي جهل. ثم خرج الحارث بن يزيد مهاجرًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه عياش بالحرّة، فعلاه بالسيف حتى سكت، (2) وهو يحسب أنه كافر. ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، ونزلت:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، الآية فقرأها عليه، ثم قال له: قم فحِّررْ.
10092- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، قال: نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي= وكان أخًا لأبي جهل بن هشام، لأمه (3) = وإنه أسلم وهاجر في المهاجرين الأولين قبل قُدُوم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فطلبه أبو جهل والحارث بن هشام، ومعهما رجل من بني عامر بن لؤي. فأتوه بالمدينة، وكان عياش أحبَّ إخوته إلى أمه، فكلَّموه وقالوا:"إنّ أمك قد حلفت أن لا يُظِلَّها بيت حتى تراك، وهي مضطجعة في الشمس، فأتها لتنظر إليك ثم ارجع"! وأعطوه موثقًا من الله لا يَهِيجونه حتى يرجع إلى المدينة، (4) فأعطاه بعض أصحابه بعيرًا له نجيبًا وقال: إن خفت منهم شيئًا، فاقعد على النجيب. فلما أخرجوه من المدينة، أخذوه فأوثقوه، وجَلَده العامريّ، فحلف ليقتلنَّ العامري. فلم يزل محبوسًا بمكة حتى خرج يوم الفتح، فاستقبله العامريّ وقد أسلم، ولا يعلم عيّاش بإسلامه، فضربه فقتله. فأنزل الله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، يقول: وهو لا يعلم أنه مؤمن="ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبه مؤمنة وديةٌ مسلمة إلى أهله إلا أن يصدّقوا"، فيتركوا الدّية.
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية في أبي الدرداء.
*ذكر من قال ذلك:
10093- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، الآية، قال: نزل هذا في رجل قتله أبو الدرداء، نزل هذا كله فيه. (5) كانوا في سرية، فعدَل أبو الدرداء إلى شِعْبٍ يريد حاجة له، فوجد رجلا من القوم في غنم له، فحمل عليه بالسيف فقال: لا إله إلا الله! قال: فضربه، ثم جاء بغنمه إلى القوم. ثم وجد في نفسه شيئًا، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا شققتَ عن قلبه! فقال: ما عَسَيْتُ أجِدُ! (6) هل هو يا رسول الله إلا دمٌ أو ماء؟ قال: فقد أخبرك بلسانه فلم تصدقه؟ قال: كيف بي يا رسول الله؟ قال: فكيف بلا إله إلا الله؟ قال: فكيف بي يا رسول الله؟ قال: فكيف بلا إله إلا الله؟ = حتى تمنَّيتُ أن يكون ذلك مبتدأ إسلامي. قال: ونزل القرآن:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ" حتى بلغ"إلا أن يصدّقوا"، قال: إلا أن يَضَعوها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عرَّف عبادَه بهذه الآية مَا على مَن قتل مؤمنًا خطأ من كفَّارة ودية. وجائز أن تكون الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة وقتيله، وفي أبي الدرداء وصاحبه. وأيّ ذلك كان، فالذي
__________
(1) في المطبوعة: "بن نبيشة"، وفي المخطوطة بهذا الرسم، بغير ألف في أوله، غير منقوطة. والصواب من الإصابة وأسد الغابة وغيرهما.
(2) "سكت" سكن، وانقطعت حركته. وهو مما يزاد من المجاز على نصوص المعاجم.
(3) في المطبوعة: "فكان أخا" أساء قراءة المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "لا يحجزونه"، وهو خطأ وتغيير لما في المخطوطة."هاجه يهيجه": أزعجه ونفره، يريد: لا يؤذونه بما يزعجه أو ينفره.
(5) حذفت المطبوعة قوله: "نزل هذا كله فيه"، ولا أدري لم فعل ذلك!!
(6) قوله: "ما عسيت أجد"، من"عسى"، كأنه قال: ماذا أجد بقتلي إياه وهو مشرك.(9/33)
عَنَى الله تعالى بالآية: تعريفَ عباده ما ذكرنا، وقد عرف ذلك من عَقَل عنه من عباده تنزيلَه، (1) وغير ضائرهم جهلهم بمن نزلت فيه.
* * *
وأما"الرقبة المؤمنة"، فإن أهل العلم مختلفون في صفتها.
فقال بعضهم: لا تكون الرقبة مؤمنة حتى تكون قد اختارت الإيمان بعد بلوغها، وصلَّت وصامت، ولا يستحقّ الطفل هذه الصفة.
*ذكر من قال ذلك:
10094- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي حيان قال: سألت الشعبي عن قوله:"فتحرير رقبة مؤمنة"، قال: قد صلَّت وعرفت الإيمان.
10095- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فتحرير رقبه مؤمنة"، يعني بالمؤمنة، مَن عقل الإيمان وصام وصلّى.
10096- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: ما كان في القرآن من"رقبة مؤمنة"، فلا يجزئ إلا من صام وصلَّى. وما كان في القرآن من"رقبة" ليست"مؤمنة"، فالصبيّ يجزئ.
10097- حدثت عن يزيد بن هارون، عن هشام بن حسان، عن الحسن قال: كل شيء في كتاب الله:"فتحرير رقبة مؤمنة"، فمن صام وصلى وعَقل. وإذا قال:"فتحرير رقبة"، فما شاء.
10098- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: كل شيء في القرآن:"فتحرير رقبه
__________
(1) في المخطوطة: "من عقل عنه عباده وتنزيله"، وهو غير مستقيم، والذي في المطبوعة جيد صحيح.(9/35)
مؤمنة"، فالذي قد صلى. وما لم يكن"مؤمنة"، فتحرير من لم يصلّ.
10099- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فتحرير رقبة مؤمنة"،"والرقبة المؤمنة" عند قتادة من قد صلَّى. وكان يكره أن يعتق في هذا الطفل الذي لم يصلِّ ولم يبلغ ذلك.
10100- حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"فتحرير رقبه مؤمنة"، قال: إذا عقل دينه.
10101- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال في:"فتحرير رقبة مؤمنة"، لا يجزئ فيها صبيٌّ.
10102- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فتحرير رقبة مؤمنة"، يعني بالمؤمنة: من قد عقل الإيمان وصام وصلى. فإن لم يجد رقبة، فصيام شهرين متتابعين، وعليه دية مسلمة إلى أهله إلا أن يصدقوا بها عليه.
* * *
وقال آخرون: إذا كان مولودًا بين أبوين مسلمين فهو مؤمن، وإن كان طفلا.
*ذكر من قال ذلك:
10103- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: كلّ رقبة ولدت في الإسلام، فهي تجزئ.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك، قال من قال: لا يجزئ في قتل الخطأ من الرقاب إلا من قد آمن وهو يعقل الإيمان من بالغي الرجال والنساء، (1) إذا كان ممن كان أبواه على مِلّة من الملل سوى الإسلام، وولد بينهما
__________
(1) في المطبوعة، حذف قوله: "بالغي" وجعلها"من الرجال والنساء"، وكانت في المخطوطة: "تابعي"، وهو خطأ صواب قراءته ما أثبت.(9/36)
وهما كذلك، (1) ثم لم يسلما ولا واحدٌ منهما حتى أعتِق في كفارة الخطأ. وأما من ولد بين أبوين مسلمين، فقد أجمع الجميع من أهل العلم أنه وإن لم يبلغ حدّ الاختيار والتمييز، ولم يدرك الحُلُم، فمحكوم له بحكم أهل الإيمان في الموارثة، والصلاة عليه إن مات، وما يجب عليه إن جَنَى، ويجب له إن جُنِيَ عليه، وفي المناكحة. فإذْ كان ذلك من جميعهم إجماعًا، فواجب أن يكون له من الحكم= فيما يجزئ فيه من كفارة الخطأ إن أعتق فيها= من حكم أهل الإيمان، مثلُ الذي له من حكم الإيمان في سائر المعاني التي ذكرناها وغيرها. ومن أبَى ذلك، عُكِس عليه الأمر فيه، ثم سئل الفرق بين ذلك من أصلٍ أو قياس. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في غيره مثله.
وأما"الدية المسلمة" إلى أهل القتيل، فهي المدفوعة إليهم، على ما وجب لهم، موفَّرة غير منتقصةٍ حقوقُ أهلها منها. (2)
* * *
وذكر عن ابن عباس أنه كان يقول: هي الموفرة.
10104- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"وديه مسلمة إلى أهله"، قال: موفَّرة.
* * *
وأما قوله:"إلا أن يصَّدقوا"، فإنه يعني به: إلا أن يتَصدقوا بالدية على القاتل، أو على عاقِلته، فأدغمت"التاء" من قوله:"يتصدقوا" في"الصاد" فصارتا"صادًا".
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ولد يتيما وهو كذلك"، والمخطوطة غير منقوطة، وهو كلام لا خير فيه ولا معنى له، وصواب قراءته ما أثبت.
(2) انظر تفسير"مسلمة" فيما سلف 2: 184، 213-215.(9/37)
وقد ذكر أن ذلك في قراءه أبي، (إِلا أَنْ يَتَصَدَّقُوا) .
10105- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن الشرود حرف أُبيّ: (إِلا أَنْ يَتَصَدَّقُوا) . (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن"، فإن كان هذا القتيل الذي قتله المؤمن خطأ =،"من قوم عدو لكم"، يعني: من عِدَاد قوم أعداء لكم في الدين مشركين قد نابَذُوكم الحربَ على خلافكم على الإسلام (2) ="وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة"، يقول: فإذا قتل المسلم خطأ رجلا من عِداد المشركين، والمقتول مؤمن، والقاتل يحسب أنه على كفره، فعليه تحرير رقبة مؤمنة.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: معناه: وإن كان المقتول من قوم هم عدو لكم وهو مؤمن= أي: بين أظهرهم لم يهاجر= فقتله مؤمن، فلا دية عليه، وعليه تحرير رقبة مؤمنة.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 10105 -"إسحاق" هو"إسحاق بن إبراهيم بن الضيف" أو "إسحاق بن الضيف"= و"بكر بن الشرود"، مضيا برقم: 8562.
(2) في المطبوعة: "لم يأمنوكم الحرب" وفي المخطوطة: "قد يأمنوكم الحرب" وصواب المعنى يقتضي أن تكون"قد نابذوكم الحرب" كما أثبتها.(9/38)
10106- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن سماك، عن عكرمة والمغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن"، قال: هو الرجل يُسْلم في دار الحرب فيقتل. قال: ليس فيه دية، وفيه الكفَّارة.
10107- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة في قوله:"وإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن"، قال: يعني المقتول يكون مؤمنًا وقومه كفار. قال: فليس له دية، ولكن تحرير رقبة مؤمنة.
10108- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن"، قال: يكون الرجل مؤمنًا وقومه كفار، فلا دية له، ولكن تحرير رقبة مؤمنة.
10109- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن" في دار الكفر، يقول:"فتحرير رقبة مؤمنة"، وليس له دية.
10110- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة"، ولا دية لأهله، من أجْل أنهم كفار، وليس بينهم وبين الله عهدٌ ولا ذِمَّة.
10111- حدثني المثنى قال: حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عطاء بن السائب، عن ابن عباس أنه قال في قول الله:"وإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن" إلى آخر الآية، قال: كان الرجل يسلم ثم يأتي قومه فيقيم فيهم وهم مشركون، فيمرّ بهم الجيش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيقتل فيمن يقتل، فيعتق قاتله رقبة، ولا دية له.(9/39)
10112- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"فإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة"، قال: هذا إذا كان الرجل المسلم من قوم عدوّ لكم= أي: ليس لهم عهد - يقتل خطأ، فإن على من قتله تحريرُ رقبة مؤمنة.
10113- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن"، فإن كان في أهل الحرب وهو مؤمن، فقتله خطأ، فعلى قاتله أن يكفّر بتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين، ولا دية عليه.
10114- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن كان من قوم عدوّ لكم وهو مؤمن"، القتيل مسلم وقومه كفّار، فتحرير رقبه مؤمنة، ولا يؤدِّي إليهم الدية فيتقوّون بها عليكم.
* * *
وقال آخرون: بل عنى به الرجلُ من أهل الحرب يقدَم دار الإسلام فيسلم، ثم يرجع إلى دار الحرب، فإذا مرَّ بهم الجيش من أهل الإسلام هَرَب قومه، وأقام ذلك المسلم منهم فيها، فقتله المسلمون وهم يحسبونه كافرًا.
*ذكر من قال ذلك:
10115- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة"، فهو المؤمن يكون في العدوّ من المشركين، يسمعون بالسريَّة من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، فيفرّون ويثبتُ المؤمن، فيقتل، ففيه تحرير رقبة مؤمنةٍ.
* * *(9/40)
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، وإن كان القتيل الذي قتله المؤمن خطأ="من قوم بينكم" أيها المؤمنون="وبينهم ميثاق"، أي: عهدٌ وذمة، وليسوا أهلَ حرب لكم="فدية مسلّمة إلى أهله"، يقول: فعلى قاتله دية مسلمة إلى أهله، يتحملها عاقلته="وتحرير رقبه مؤمنة"، كفارة لقتله.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة هذا القتيل الذي هو من قوم بيننا وبينهم ميثاق، أهو مؤمن أو كافر؟ (1)
فقال بعضهم: هو كافر، إلا أنه لزمت قاتلَه ديته، لأن له ولقومه عهدًا، فواجب أداءُ دِيته إلى قومه للعهد الذي بينهم وبين المؤمنين، وأنها مال من أموالهم، ولا يحلّ للمؤمنين شيء من أموالهم بغير طِيب أنفسهم.
*ذكر من قال ذلك:
10116- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، يقول: إذا كان كافرًا في ذمتكم فقتل، فعلى قاتله الدية مسلمةً إلى أهله، وتحرير رقبة مؤمنة، أو صيام شهرين متتابعين.
10117- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال، سمعت الزهري يقول: دية الذميّ دية المسلم. قال: وكان يتأول:"وإن
__________
(1) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف ص: 19، تعليق1، والمراجع هناك.(9/41)
كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله".
10118- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن عيسى بن أبي المغيرة، عن الشعبي في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله"، قال: من أهل العهد، وليس بمؤمن.
10119- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن مهدي، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، وليس بمؤمن.
10120- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة"، بقَتْله، أي: بالذي أصاب من أهل ذمته وعَهدِه ="فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين توبة من الله"، الآية.
10121- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله"، يقول: فأدوا إليهم الدية بالميثاق. قال: وأهل الذمة يدخلون في هذا="وتحرير رقبة مؤمنة فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين".
* * *
وقال آخرون: بل هو مؤمن، فعلى قاتله دية يؤدِّيها إلى قومه من المشركين، لأنهم أهل ذمة.
*ذكر من قال ذلك:
10122- حدثني ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة"، قال: هذا الرجل المسلم وقومه مشركون لهم عقدٌ، فتكون ديته لقومه، وميراثه للمسلمين، ويَعْقِل عنه قومه، ولهم دِيَته.(9/42)
10123- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن أبي إسحاق الكوفي، عن جابر بن زيد في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، قال: وهو مؤمن.
10124- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن مهدي، عن حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، قال: كلهم مؤمن. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بتأويل الآية، قولُ من قال: عنى بذلك المقتولَ من أهل العهد. لأن الله أبهم ذلك فقال:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم"، ولم يقل:"وهو مؤمن"، كما قال في القتيل من المؤمنين وأهل الحرب= وعنى المقتولَ منهم وهو مؤمن. (2) فكان في تركه وصفه بالإيمان الذي وصفَ به القتيلين الماضي ذكرهما قبل، الدليل الواضح على صحة ما قلنا في ذلك.
* * *
فإن ظن ظان أنّ في قوله تبارك وتعالى:"فدية مسلمة إلى أهله"، دليلا على أنه من أهل الإيمان، لأن الدية عنده لا تكون إلا لمؤمن= فقد ظن خطأ. وذلك أن دية الذميّ وأهل الإسلام سواء، لإجماع جميعهم على أن ديات عبيدهم الكفار وعبيدِ المؤمنين من أهل الإيمان سواء. فكذلك حكم ديات أحرارهم سواءٌ، مع أن دياتهم لو كانت على ما قال من خالفنا في ذلك، فجعلها على النِّصف من ديات أهل الإيمان أو على الثلث، لم يكن في ذلك دليلٌ على أن المعنيّ بقوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، من أهل الإيمان، لأن دية المؤمنة لا خلافَ
__________
(1) في المطبوعة: "قال: هو كافر"، مكان"كلهم مؤمن"، والذي في المطبوعة مناقض للترجمة، والذي أثبته من المخطوطة مخالف أيضا للترجمة لقوله: "كلهم مؤمن" أي: أنه هو وقومه مؤمنون. إلا أن يكون أراد بقوله: "كلهم" كل قتيل مر ذكره في الآيات السالفة، وهذا هو الأرجح عندي، ولم يعن بقوله: "كلهم" قوم القتيل.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أو عن المؤمن منهم وهو مؤمن"، ولا معنى له، والصواب ما أثبت.(9/43)
بين الجميع= إلا من لا يُعدُّ خلافًا= أنها على النصف من دية المؤمن، وذلك غير مخرجها من أن تكون دية. فكذلك حكم ديات أهل الذمة، لو كانت مقصِّرة عن ديات أهل الإيمان، لم يخرجها ذلك من أن تكون ديات. فكيف والأمر في ذلك بخلافه، ودياتهم وديات المؤمنين سواء؟
* * *
وأما"الميثاق" فإنه العهد والذمة. وقد بينا في غير هذا الموضع أن ذلك كذلك، والأصل الذي منه أخذ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10125- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، يقول: عهد.
10126- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، قال: هو المعاهدة.
10127- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس:"وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق"، عهد.
10128- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي عن إسرائيل عن سماك عن عكرمة مثله.
* * *
فإن قال قائل: وما صفة الخطأ، الذي إذا قتل المؤمن المؤمنَ أو المعاهِدَ لزمته ديتُه والكفارة؟
__________
(1) انظر تفسير"الميثاق" فيما سلف: ص: 19، والتعليق: 1، وص: 41، والتعليق: 1. والمراجع هناك.(9/44)
قيل: هو ما قال النَّخَعيّ في ذلك، وذلك ما:-
10129- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم قال:"الخطأ"، أن يريد الشيء فيصيبَ غيره.
10130- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال:"الخطأ"، أن يرمي الشيء فيصيب إنسانًا وهو لا يريده، فهو خطأ، وهو على العاقِلة. (1)
* * *
فإن قال: فما الدية الواجبة في ذلك؟
قيل: أما في قتل المؤمن، فمائة من الإبل، إن كان من أهل الإبل، على عاقلة قاتله. لا خلاف بين الجميع في ذلك، وإن كان في مبلغ أسنانها اختلافٌ بين أهل العلم. فمنهم من يقول: هي أرباع: خمس وعشرون منها حِقّة، وخمس وعشرون جَذعَةَ، وخمس وعشرون بَنات مَخَاض، وخمس وعشرون بنات لَبُون. (2)
ذكر من قال ذلك.
10131- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علي رضي الله عنه في الخطأ شبه العمد: ثلاثٌ وثلاثون حِقّة، وثلاث وثلاثون جَذَعة، وأربع وثلاثون ثَنِيَّة إلى بازِل عامها. (3) وفي الخطأ: خمس وعشرون حِقّة، وخمس وعشرون جَذَعة، وخمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشر بناتِ لبون.
__________
(1) مضى كثيرًا تفسير"العاقلة"، وهم العصبة الذين يؤدون الدية عن القاتل منهم، من"العقل"، وهو الدية.
(2) البعير إذا استكمل السنة الثالثة ودخل في الرابعة، فهو حينئذ"حق" (بكسر الحاء) ، والأنثى"حقة". فإذا استوفى السنة الرابعة ودخل في الخامسة، فهو حينئذ"جذع" (بفتحتين) والأنثى"جذعة". ثم قبل ذلك يكون البعير فصيلا. فإذا استكمل الفصيل الحول ودخل في الثانية فهو حينئذ"ابن مخاض"، والأنثى"ابنة مخاض" فإذا استكمل السنة الثانية وطعن في الثالثة، فهو حينئذ"ابن لبون"، والأنثى"ابنة لبون"
(3) البعير إذا استكمل السنة الخامسة وطعن في السادسة، فهو حينئذ"ثني"، والأنثى"ثنية". فإذا استكمل السنة الثامنة وطعن في التاسعة وفطر نابه، فهو حينئذ"بازل" والأنثى"بازل" بغير هاء. قال ابن الأعرابي: "ليس قبل الثني اسم يسمى، ولا بعد البازل اسم"يسمى" يعني أنه ليس للبعير إذا دخل في السابعة وطعن في الثامنة اسم يسمى به. وكأن ذلك لأن البازل ربما بزل في السنة الثامنة. وأما "البازل" فهو أقصى أسنان البعير. ثم يقولون بعد"بازل عام" و"بازل عامين"، وكذلك ما زاد.(9/45)
10132- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن فراسٍ والشيباني، عن الشعبي، عن علي بن أبي طالب بمثله.
10133- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عاصم بن ضمرة، عن علي رضي الله عنه بنحوه.
10134- حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار، عن الشعبي، عن علي رضي الله عنه أنه قال في قتل الخطأ: الدية مائة أرباعًا، ثم ذكر مثله.
* * *
وقال آخرون: هي أخماس: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض.
*ذكر من قال ذلك:
10135- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز، عن أبي عبيدة، عن أبيه، عن عبد الله بن مسعود قال: في الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون بنات لبون، وعشرون بني لبون، وعشرون بنات مخاض. (1)
10136- حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث، عن عامر، عن عبد الله بن مسعود في قتل الخطأ: مائة من الإبل أخماسًا:
__________
(1) أنكر اللغويون أن يقال"بنو لبون" جمع"ابن لبون"، وقالوا هي: "بنات لبون" للذكر والأنثى، وهذه الآثار الصحاح دالة على أنه صحيح في اللغة العربية.(9/46)
خُمْس جَذَاع، وخُمْس حِقَاق، (1) وخُمْس بنات لبون، وخمس بنات مَخَاض، وخمس بنو مخاض.
10137- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: الدية أخماس: دية الخطأ: خمس بنات مخاض، وخُمْس بنات لبون، وخُمْس حقِاق، وخُمْس جِذاع، وخُمْس بنو مخاض. (2)
* * *
واعتل قائلو هذه المقالة بحديث=
10138- حدثنا به أبو هشام الرفاعي، (3) قال، حدثنا يحيى بن أبي زائدة وأبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن زيد بن جبير، عن الخشف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود: أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في الدية في الخطأ أخماسًا= قال: أبو هشام، قال ابن أبي زائدة: عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابنة مخاض، وعشرون بني مخاض. (4)
__________
(1) "الحقاق"، و"الجذاع" جمع"حقة" و"جذعة" وقد سلف شرحها في التعليقات قريبًا.
(2) وقوله: "بنو مخاض" مما أنكره اللغويون، لا يقال عندهم في الجمع إلا"بنات مخاض"، و"بنات لبون" ومثله"بنات آوى"، وهذا الأثر وما بعده دال على صحة قولهم: "بنو مخاض".
(3) في المطبوعة: "أبو هشام الرباعي"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، وقد مضت ترجمته مرارًا في الأجزاء السالفة.
(4) الأثر: 10138 -"الخشف بن مالك الطائي"، روى عن أبيه، وعمر، وابن مسعود. روى عنه"زيد بن جبير الجشمي". قال النسائي: "ثقة"، وقال الدارقطني في السنن: "مجهول". وقال الأزدي: "ليس بذاك". مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر أخرجه البيهقي في السنن الكبرى (8: 75-76) من طريقين: طريق سعدان بن نصر، عن أبي معاوية محمد بن خازم عن الحجاج، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل الدية في الخطأ أخماسا. ولم يزد على هذا.
ثم رواه من طريق أبي داود، عن مسدد، عن عبد الواحد، عن الحجاج، عن زيد بن جبير، عن خشف بن مالك، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: في دية الخطأ عشرون حقة، وعشرون جذعة، وعشرون ابنة مخاض، وعشرون ابنة لبون، وعشرون ابن مخاض ذكر= قال أبو داود: هو قول عبد الله - يعني: إنما روي من قول عبد الله موقوفا غير مرفوع.
ثم نقل البيهقي تعليل هذا الحديث عن أبي الحسن الدارقطني فقال: "لا نعلم رواه إلا خشف بن مالك، وهو رجل مجهول، لم يرو عنه إلا زيد بن جبير بن حرمل الجشمي. ولا نعلم أحدًا رواه عن زيد بن جبير إلا حجاج بن أرطاة. والحجاج رجل مشهور بالتدليس، وبأنه يحدث عمن لم يلقه ولم يسمع منه. قال: ورواه جماعة من الثقات عن حجاج فاختلفوا عليه فيه" ثم ساق الروايات عن الحجاج، وأنه جعل في بعضها بني اللبون مكان الحقاق. ثم ذكر أنهم لم يرووا فيه تفسير الأخماس، ثم قال: "فيشبه أن يكون الحجاج ربما كان يفسر الأخماس برأيه بعد فراغه من الحديث، فيتوهم السامع أن ذلك في الحديث، وليس كذلك".
قال البيهقي: "وكيف ما كان، فالحجاج بن أرطاة غير محتج به، وخشف بن مالك مجهول، والصحيح أنه موقوف على عبد الله بن مسعود. والصحيح عن عبد الله أنه جعل أحد أخماسها بني المخاض في الأسانيد التي تقدم ذكرها، لا كما توهم شيخنا أبو الحسن الدارقطني رحمنا الله وإياه. وقد اعتذر من رغب عن قول عبد الله رضي الله عنه في هذا بشيئين: أحدهما ضعف رواية خشف بن مالك عن ابن مسعود بما ذكرنا، وانقطاع رواية من رواه عنه موقوفًا" ثم ساق وجوهها وبين انقطاعها.(9/47)
10139- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى، عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن علقمة، عن عبد الله: أنه قضى بذلك.
* * *
وقال آخرون: هي أرباع، غير أنها ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنت مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور.
*ذكر من قال ذلك:
10140- حدثنا ابن بشار قال، حدثني محمد بن بكر قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عثمان وزيد بن ثابت قالا في الخطأ شبه العمد: أربعون جذعة خَلِفة، (1) وثلاثون حقة، وثلاثون بنات مخاض= وفي الخطأ ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور.
10141- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن
__________
(1) "الخلفة" (بفتح الخاء وكسر اللام وفتح الفاء) : الناقة الحامل، وجمع"خلفة""مخاض"، كما قالوا: "امرأة" و"نسوة". أما من لفظها فيقال: "خلفات وخلائف"، وفي الحديث: "ثلاث آيات يقرؤها أحدكم، خير له من ثلاث خلفات سمان عظام"، وفي حديث هدم الكعبة: "لما هدموها ظهر فيها مثل خلائف الإبل" أي: صخور عظام في أساسها كالنوق الحوامل.(9/48)
قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت: في دية الخطأ: ثلاثون حقة، وثلاثون بنات لبون، وعشرون بنات مخاض، وعشرون بنو لبون ذكور.
10142- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عثمة قال، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن عبد ربه، عن أبي عياض، عن عثمان بن عفان رضي الله عنه= قال وحدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت، مثله. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: أن الجميع مجمعون أن في الخطأ المحض على أهل الإبل: مائة من الإبل.
ثم اختلفوا في مبالغ أسنانها، وأجمعوا على أنه لا يقصَّر بها في الذي وجبت له الأسنان عن أقل ما ذكرنا من أسنانها التي حدَّها الذين ذكرنا اختلافهم فيها، وأنه لا يجاوز بها في الذي وَجبت له عن أعلاها. (2) وإذْ كان ذلك من جميعهم إجماعًا، فالواجب أن يكون مجزيًا من لزمته دية قتل خطأ، أيَّ هذه الأسنان التي
__________
(1) الأثر: 10142-"أبو عثمة"، هو"محمد بن خالد بن عثمة"، وهو معروف بابن عثمة. وقد سلف مثل ذلك في رقم: 5314، ومضت ترجمته في رقم: 90، 91، 5483، ورقم: 9587. وكان في المطبوعة هنا"ابن عثمة" وأثبت ما في المخطوطة، لما مضى في رقم: 5314، وانظر التعليق عليه هناك.
و"عبد ربه" هو: عبد ربه بن أبي يزيد. قال علي بن المديني: "عبد ربه الذي روى عنه قتادة، مجهول، لم يرو عنه غير قتادة". وقال البخاري في التاريخ: "نسبه همام". وقال علي: "عرفه ابن عيينة، قال: كان يبيع الثياب". مترجم في التهذيب.
"أبو عياض" هو المدني، مختلف في اسمه وفي روايته. انظر ترجمته في التهذيب. وهو يروي عن عبد الله بن مسعود، ويروي عنه قتادة. ودل هذا الأثر على أنه يروي أيضًا عن عثمان بن عفان.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنه لا يجاوز بها الذي وجب عن أعلاها"، وهو لا يستقيم، وجعلتها على سياقة التي قبلها فزدت"في" و"له".(9/49)
اختلف المختلفون فيها، (1) أدَّاها إلى من وجبت له. (2) لأن الله تعالى لم يحدَّ ذلك بحدّ لا يجاوز به ولا يقصَّر عنه ولا رسولُه، إلا ما ذكرت من إجماعهم فيما أجمعوا عليه، فإنه ليس للإمام مجاوزة ذلك في الحكم بتقصير ولا زيادة، وله التخيير فيما بين ذلك بما رأى الصلاح فيه للفريقين.
* * *
وإن كانت عاقلة القاتل من أهل الذهب، فإن لورثة القتيل عليهم عندنا ألف دينار. وعليه علماء الأمصار.
* * *
وقال بعضهم: ذلك تقويم من عمر رحمة الله عليه، للإبل على أهل الذهب في عصره. والواجب أن يقَّوم في كل زمان قيمتها، إذا عدم الإبلَ عاقلةُ القاتل، واعتلوا بما:-
10143- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أيوب بن موسى، عن مكحول قال: كانت الدية ترتفع وتنخفض، فتوفّي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي ثمانمئة دينار، فخشي عمر من بعد، فجعلها اثني عشر ألف درهم، وألفَ دينار. (3)
* * *
وأما الذين أوجبوها في كل زمان على أهل الذهب ذهبًا ألف دينار، فقالوا: ذلك فريضة فرضها الله على لسان رسوله، كما فرض الإبل على أهل الإبل. قالوا: وفي إجماع علماء الأمصار في كل عصر وزمان، إلا من شذ عنهم، على أنها لا تزاد على ألف دينار ولا تنقص عنها= أوضحُ الدليل على أنها الواجبة على أهل الذهب، وجوبَ الإبل على أهل الإبل، لأنها لو كانت قيمة لمائة من الإبل، لاختلف ذلك بالزيادة والنقصان لتغير أسعار الإبل.
__________
(1) في المطبوعة: "دية قتل خطأ" وفي المخطوطة: "ديته قتيل خطأ" ورجحت المخطوطة بعد تصحيح"ديته" إلى"دية".
(2) السياق: "أي هذه الأسنان أداها إلى من وجبت له".
(3) انظر السنن الكبرى للبيهقي 8: 76-80.(9/50)
وهذا القول هو الحق في ذلك، لما ذكرنا من إجماع الحجة عليه.
* * *
وأما من الوَرِق على أهل الوَرِق عندنا، فاثنا عشر ألف درهم، (1) وقد بينا العِلل في ذلك في كتابنا (كتابِ لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام) .
* * *
وقال آخرون: إنما على أهل الورق من الورِق عشرة آلاف درهم.
وأما دية المعاهد الذي بيننا وبين قومه ميثاقٌ، فإن أهل العلم اختلفوا في مبلغها.
فقال بعضهم: ديته ودية الحر المسلم سواءٌ.
*ذكر من قال ذلك:
10144- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بشر بن السري، عن إبراهيم بن سعد، عن الزهري: أن أبا بكر وعثمان رضوان الله عليهما، كانا يجعلان دية اليهوديّ والنصرانيّ، إذا كانا معاهدين، كدية المسلم.
10145- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بشر بن السري، عن الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن الحكم بن عيينة: أن ابن مسعود كان يجعل ديةَ أهل الكتاب، إذا كانوا أهل ذمّة، كدية المسلمين.
10146- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن حماد قال: سألني عبد الحميد عن دية أهل الكتاب، فأخبرته أنّ إبراهيم قال: إن ديتهم وديتنا سواء.
10147- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم وداود، عن الشعبي أنهما قالا دية اليهوديّ والنصرانيّ والمجوسيّ مثل دية الحرّ المسلم.
__________
(1) الورق (بفتح فكسر) و"الورق" (بفتح أو كسر ثم سكون) و"الرقة" (بكسر ففتح) : هي الدراهم المضروبة.(9/51)
10148- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كان يقال: دية اليهودي والنصراني والمجوسيّ كدية المسلم، إذا كانت له ذمة.
10149- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء أنهما قالا دية المعاهِد دية المسلم.
10150- حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا المسعودي، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: دية المسلم والمعاهد سواء.
10151- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال: سمعت الزهري يقول: دية الذميّ دية المسلم.
10152- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن أشعث، عن عامر قال: دية الذمي مثل دية المسلم.
10153- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن إبراهيم مثله.
10154- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم مثله. (1)
10155- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر: وبلغه أن الحسن كان يقول:"دية المجوسي ثمانمئة، ودية اليهودي والنصراني أربعة آلاف"، فقال: ديتهم واحدة.
10156- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) الأثر: 10154 - كان هذا الإسناد في المطبوعة والمخطوطة متصلا بالذي بعده هكذا: "عن إبراهيم قال حدثنا عبد الحميد بن بيان"، وهو خطأ، "إبراهيم" هو النخعي، الذي سلف في الآثار السالفة. و"عبد الحميد بن بيان" هو السكري القناد، شيخ أبي جعفر. فرجح عندي أن الناسخ جعل مكان"مثله"، "قال" فرددتها إلى ما يجب.(9/52)
عن قيس بن مسلم، عن الشعبي قال: دية المعاهد والمسلم في كفّارتهما سواء.
10157- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: دية المعاهد والمسلم سواء.
* * *
وقال آخرون: بل ديته على النصف من دية المسلم.
*ذكر من قال ذلك:
10158- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عمرو بن شعيب في دية اليهودي والنصرانيّ، قال: جعلها عمر بن الخطاب رضي الله عنه نصف دية المسلم، ودية المجوسي ثمانمئة. فقلت لعمرو بن شعيب: إن الحسن يقول:"أربعة آلاف"! قال: كان ذلك قبل الغِلْمة (1) وقال: إنما جعل دية المجوسي بمنزلة العبد.
10159- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الله الأشجعي، عن سفيان، عن أبي الزناد، عن عمر بن عبد العزيز قال: دية المعاهد على النصف من دية المسلم.
* * *
وقال آخرون: بل ديته على الثلث من دية المسلم.
*ذكر من قال ذلك:
10160- حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف، عن أبي عثمان= قال: وكان قاضيًا لأهل مَرْو= قال: جعل عمر رضي الله عنه دية اليهودي والنصراني أربعة آلافٍ، أربعة آلافٍ.
10161- حدثنا عمار بن خالد الواسطي قال، حدثنا يحيى بن سعيد
__________
(1) كان في المطبوعة: "لعله كان ذلك قبل" حذف"الغلمة"، وزاد في أول الكلام"لعله"، وهو صنيع سيئ. فأثبت ما في المخطوطة كما هو، ولم أعرف ما أراد، فتركته لمن يعلمه.(9/53)
، عن الأعمش، عن ثابت، عن سعيد بن المسيب قال، قال عمر: دية النصراني أربعةُ آلاف، والمجوسي ثمانمئة.
10162- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة عن ثابت قال: سمعت سعيد بن المسيب يقول: قال عمر: دية أهل الكتاب أربعة آلاف، ودية المجوسي ثمانمئة.
10163- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ثابت، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال، فذكر مثله.
10164- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي المليح: أن رجلا من قومه رمى يهوديًّا أو نصرانيًّا بسهمٍ فقتله، فرفع ذلك إلى عمر بن الخطاب، فأغرمه ديته، أربعةَ آلاف.
10165- وبه عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال، قال عمر: دية اليهوديّ والنصرانيّ أربعة آلاف، أربعة آلاف.
10166- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا بعض أصحابنا، عن سعيد بن المسيب، عن عمر مثله.
10167- قال حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عمر مثله.
10168- قال حدثنا هشيم قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار أنه قال: دية اليهوديّ والنصرانيّ أربعة آلاف، والمجوسي ثمانمئة.
10169- حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء مثله.
10170- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله:"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين"، الصيام لمن لا يجد رقبة، وأما الدية فواجبةٌ لا يبطلها شيء.
* * *(9/54)
القول في تأويل قوله: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين"، فمن لم يجد رقبةً مؤمنة يحرّرها كفارة لخطئه في قتله من قتل من مؤمن أو معاهد، لعُسْرته بثمنها="فصيام شهرين متتابعين"، يقول: فعليه صيام شهرين متتابعين.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم فيه بنحو ما قلنا.
*ذكر من قال ذلك:
10171- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين"، قال: من لم يجد عِتْقًا = أو عتاقة، شك أبو عاصم (1) = في قتل مؤمن خطأ، قال: وأنزلت في عيّاش بن أبي ربيعة، قتل مؤمنًا خطأ.
* * *
وقال آخرون: صوم الشهرين عن الدية والرقبة. قالوا: وتأويل الآية: فمن لم يجد رقبة مؤمنة، ولا دِية يسلمها إلى أهلها، فعليه صوم شهرين متتابعين.
*ذكر من قال ذلك:
10172- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن زكريا، عن الشعبي، عن مسروق: أنه سئل عن الآية التي في"سورة النساء":"فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين": صيام الشهرين عن
__________
(1) "العتاقة" (بفتح العين) مصدر: "عتق العبد يعتق عتقًا وعتاقًا وعتاقة". وانظر"العتاقة"، في التعليق على الأثر السالف رقم: 9265.(9/55)
الرقبة وحدَها، أو عن الدية والرقبة؟ فقال: من لم يجد، فهو عن الدية والرقبة.
10173- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا، عن عامر، عن مسروق بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن الصوم عن الرقبة دون الدية، لأن دية الخطأ على عاقلة القاتل، والكفارة على القاتل، بإجماع الحجّة على ذلك نقلا عن نبيها صلى الله عليه وسلم، (1) فلا يقضي صومُ صائم عما لزم غيرَه في ماله.
* * *
و"المتابعة" صوم الشهرين، وأن لا يقطعه بإفطار بعض أيامه لغير علة حائلة بينه وبين صومه. (2)
* * *
ثم قال جل ثناؤه:"توبةً من الله وكان الله عليمًا حكيما"، يعني: تجاوزًا من الله لكم إلى التيسير عليكم، بتخفيفه عنكم ما خفف عنكم من فرض تحرير الرقبة المؤمنة إذا أعسرتم بها، بإيجابه عليكم صوم شهرين متتابعين="وكان الله عليمًا حكيمًا"، يقول: ولم يزل الله="عليمًا"، بما يصلح عباده فيما يكلفهم من فرائضه وغير ذلك="حكيمًا"، بما يقضي فيهم ويريد. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "عن نبينا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ولا يقطعه" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر تفسير"التوبة"، و"كان"، و"عليم" و"حكيم" في موادها من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.(9/56)
وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
القول في تأويل قوله تعالى {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يقتل مؤمنًا عامدًا قتله، مريدًا إتلاف نفسه="فجزاؤه جهنم"، يقول: فثوابه من قتله إياه (1) ="جهنم"، يعني: عذاب جهنم="خالدًا فيها"، يعني: باقيًا فيها (2) = و"الهاء" و"الألف" في قوله:"فيها" من ذكر"جهنم"="وغضب الله عليه"، يقول: وغضب الله عليه بقتله إياه متعمدًا (3) ="ولعنه" يقول: وأبعده من رحمته وأخزاه (4) ="وأعد له عذابًا عظيمًا"، وذلك ما لا يعلم قدر مبلغه سواه تعالى ذكره.
* * *
واختلف أهل التأويل في صفة القتل الذي يستحق صاحبُه أن يسمى متعمِّدًا، بعد إجماع جميعهم على أنه إذا ضرب رجلٌ رجلا بحدِّ حديد يجرح بحدِّه، أو يَبْضَع ويقطع، (5) فلم يقلع عنه ضربًا به حتى أتلف نفسه، وهو في حال ضربه إياه به قاصدٌ ضربَه: أنه عامدٌ قتلَه. ثم اختلفوا فيما عدا ذلك. فقال بعضهم: لا عمدَ إلا ما كان كذلك على الصفة التي وصفنا.
*ذكر من قال ذلك:
10174- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرنا ابن جريج قال: قال عطاء:"العَمد"، السلاح= أو قال: الحديد= قال: وقال سعيد بن المسيب: هو السلاح.
__________
(1) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف 2: 27، 28، 314 / 6: 576.
(2) انظر تفسير"الخلود" فيما سلف 6: 577، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"غضب الله" فيما سلف 1: 188، 189 / 2: 138، 347 / 7: 116.
(4) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف 2: 328، 329 / 3: 254، 261 / 6: 577 / 8: 439، 471.
(5) "بضع اللحم يبضعه": قطعه.(9/57)
10175- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: العمد ما كان بحديدة، وما كان بدون حديدة، فهو شبه العمد، لا قَوَد فيه.
10176- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: العمد ما كان بحديدة، وشبه العمد ما كان بَخَشبة. وشبه العمد لا يكون إلا في النفس. (1)
10178- حدثني أحمد بن حماد الدولابي قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن طاوس قال: من قتل في عصبيّة، في رمي يكون منهم بحجارة، أو جلد بالسياط، أو ضرب بالعصى، فهو خطأ، ديته دية الخطأ. ومن قتل عمدًا فهو قَوَد يَدِه. (2)
10179- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، ومغيرة، عن الحارث وأصحابه، في الرجل يضرب الرجل فيكون مريضًا حتى يموت، قال: أسأل الشهودَ أنه ضربه، فلم يزل مريضًا من ضربته حتى ماتَ، فإن كان بسلاح فهو قَوَد، وإن كان بغير ذلك فهو شِبْه العمد.
* * *
وقال آخرون: كلّ ما عمد الضارب إتلاف نفس المضروب فهو عمد، إذا كان الذي ضرب به الأغلب منه أنه يقتل. (3)
*ذكر من قال ذلك:
10180- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الرحمن بن يحيى، عن حبان بن أبي جبلة، عن عبيد بن عمير أنه قال: وأي
__________
(1) سقط من الترقيم رقم: 10177.
(2) في المطبوعة: "قود يديه"، وأثبت ما في المخطوطة. وقوله: "قود يده"، أي قود بما جنت يده.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا كان الذي ضرب الأغلب"، والسياق يقتضي إثبات"به" حيث أثبتها.(9/58)
عمد هو أعمد من أن يضرب رجلا بعصا، ثم لا يقلع عنه حتى يموت؟. (1)
10181- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي هاشم، عن إبراهيم قال: إذا خنقه بحبل حتى يموت، أو ضربه بخشبة حتى يموت، فهو القَوَد.
* * *
وعلة من قال:"كل ما عدا الحديد خطأ"، ما:-
10182- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي عازب، عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: كل شيء خطأ إلا السيف، ولكل خطأ أرْش؟ (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 10180 -"حبان بن أبي جبلة القرشي، مولاهم، المصري. روى عن عمرو بن العاص، والعبادلة إلا ابن الزبير، مضت ترجمته برقم: 2195.
أما "عبد الرحمن بن يحيى"، فلم أعرف من هو، وأخشى أن يكون"صوابه" عبد الرحمن بن أنعم، وهو: "عبد الرحمن بن زياد بن أنعم بن ذري بن يحمد الإفريقي"، وسلفت ترجمته برقم 2195، وروايته أيضًا عن"حبان بن أبي جبلة".
(2) الحديث: 10182 - سفيان: هو الثوري.
جابر: هو ابن يزيد الجعفي. وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب، كما بينا في: 2340. أبو عازب: رجل كوفي غير معروف. قيل: اسمه"مسلم بن عمرو"، وقيل: "مسلم بن أراك". لم يرو عنه غير جابر الجعفي -هذا- و"الحارث بن زياد".
و"الحارث بن زياد" -هذا-: لا يعرف أحدًا، فإنه هو مجهول. ترجمه ابن أبي حاتم 1 / 2 / 75. وروى عن أبيه أنه قال: "هو مجهول". ولم يترجم له البخاري.
وأما أبو عازب: فقد ترجم له البخاري في الكبير 4 / 1 / 268، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 190 - كلاهما في اسم"مسلم بن عمرو".
وهو -على الرغم من هذا- لا يزال مجهولا، إذ لم يرو عنه ثقة معروف.
والحديث رواه أحمد في المسند 4: 272 (حلبي) ، عن وكيع، بهذا الإسناد. ولكن بلفظ"لكل شيء خطأ" بزيادة اللام في"كل".
ثم رواه 4: 275 (حلبي) ، عن أحمد بن عبد الملك، عن زهير، عن جابر -وهو الجعفي- به، بلفظ"كل شيء خطأ إلا السيف، وفي كل خطأ أرش".
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 8: 42، بثلاثة أسانيد، من طريق جابر الجعفي ثم رواه بإسناد آخر، من طريق قيس بن الربيع، عن أبي حصين، عن إبراهيم بن بنت النعمان بن بشير، عن النعمان. ثم قال: "مدار هذا الحديث على جابر الجعفي، وقيس بن الربيع، ولا يحتج بهما".
وذكره الزيلعي في نصب الراية 4: 333، من رواية المسند. وأعله بما قاله صاحب التنقيح: "وعلى كل حال فأبو عازب ليس بمعروف". ثم نقل تعليله عن البيهقي في المعرفة بمثل ما أعله به في السنن الكبرى. ولم يعقب عليهما.(9/59)
وعلة من قال:"حكم كلّ ما قتل المضروب به من شيء، حكم السيف، في أنّ من قتل به قتيلُ عمد"، ما:-
10183- حدثنا به ابن بشار قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن أنس بن مالك: أن يهوديًّا قتل جارية على أوضاحٍ لها بين حجرين، فأتى به النبي صلى الله عليه وسلم فقتله بين حجرين. (1)
* * *
قالوا: فأقاد النبي صلى الله عليه وسلم من قاتل بحجر، وذلك غير حديدٍ. قالوا: وكذلك حكم كل من قتل رجلا بشيء الأغلب منه أنه يقتل مثلَ المقتول به، نظيرُ حكم اليهوديِّ القاتلِ الجارية بين الحجرين.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قولُ من قال: كل من ضرب إنسانًا بشيء الأغلب منه أنه يتلفه، فلم يقلع عنه حتى أتلف نفسَه به: أنه قاتل عمدٍ، ما كان المضروب به من شيء (2) للذي ذكرنا من الخبر عن
__________
(1) الحديث: 10183 - هذا مختصر من حديث صحيح متفق عليه.
رواه البخاري 12: 174 -175، 187-188، ومسلم 2: 27 -كلاهما من طريق همام، عن قتادة، عن أنس.
ورواه البخاري أيضًا 12: 176، 180، ومسلم 2: 26-27، من أوجه أخر عن أنس.
وذكره المجد بن تيمية في المنتقى: 3915، وقال: "رواه الجماعة" - يعني الإمام أحمد وأصحاب الكتب الستة.
="الأوضاح" جمع وضح (بفتحتين) ، وهو الدرهم الصحيح. ثم اتخذ حلي من الدراهم الصحاح من الفضة، فقيل لها"أوضاح".
(2) قوله: "ما كان المضروب به من شيء" يعني: أي شيء كان المضروب به.(9/60)
رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأما قوله:"فجزاؤه جهنم خالدًا فيها"، فإن أهل التأويل اختلفوا في معناه. فقال بعضهم معناه: فجزاؤه جهنم إن جازاه.
*ذكر من قال ذلك:
10184- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: هو جزاؤه، وإن شاء تجاوز عنه.
10185- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو النعمان الحكم بن عبد الله قال، حدثنا شعبة، عن يسار، عن أبي صالح:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: جزاؤه جهنم إن جازاه.
* * *
وقال آخرون: عُنِي بذلك رجل بعينه، كان أسلم فارتدّ عن إسلامه، وقتل رجلا مؤمنًا. قالوا: فمعنى الآية: ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا مستحلا قتلَه، فجزاؤه جهنم خالدًا فيها.
*ذكر من قال ذلك:
10186- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة: أن رجلا من الأنصار قتل أخا مقيس بن صُبَابة، فأعطاه النبي صلى الله عليه وسلم الديةَ فقبلها، ثم وثب على قاتل أخيه فقتله= قال ابن جريج: وقال غيره: ضرب النبيّ صلى الله عليه وسلم ديتَه على بني النجار، ثم بعث مقيسًا، وبعث معه رجلا من بني فهر في حاجة للنبي صلى الله عليه وسلم، فاحتمل مقيسٌ الفِهريَّ (1) = وكان أيِّدًا (2) = فضرب به الأرض،
__________
(1) "مقيس الفهري"، والأشهر"السهمي"، وهو واحد، لأنه من بني سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر.
(2) "الأيد" على وزن"سيد" الشديد القوي، من"الأيد" (بفتح فسكون) وهو القوة.(9/61)
ورَضخَ رأسه بين حجرين، ثم ألفى يتغنى:
ثَأَرْتُ بِهِ فِهْرًا، وَحَمَّلْتُ عَقْلَهُ ... سَرَاةَ بَنِي النَّجَّارِ أَرْبَابِ فَارِعِ (1)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أظنّه قد أحدث حدثًا! أما والله لئن كان فعل، لا أومِنه في حِلّ ولا حَرَم ولا سلم ولا حرب! فقتل يوم الفتح= قال ابن جريج: وفيه نزلت هذه الآية:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا"، الآية.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إلا من تاب.
*ذكر من قال ذلك:
10187- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور قال، حدثني سعيد بن جبير= أو: حدثني الحكم، عن سعيد بن جبير= قال: سألت ابن عباس عن قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام، ثم قتل مؤمنًا متعمدًا، فجزاؤه جهنم، ولا توبة
__________
(1) سيرة ابن هشام 3: 305، 306، تاريخ الطبري 3: 66، معجم البلدان (فارع) ، وهو آخر أبيات أربعة هي: شَفَى النَّفْسَ أَنْ قَدْ بَاتَ بِالْقَاعِ مُسْنَدًا ... تُضَرِّجُ ثَوْبَيْهِ دِمَاءُ الأَخَادِعِ
وَكَانَتْ هُمُومُ النَّفْسِ مِنْ قَبْلِ قَتْلِهِ ... تُلِمُّ فَتَحْمِينِي وِطَاءَ الْمَضَاجِعِ
حَلَلْتُ بِهِ وِترِي، وَأَدْرَكْتُ ثُؤْرَتِي ... وَكُنْتُ إِلَى الأَوْثَانِ أَوَّلَ راجِعِ
ثَأَرْتُ بِهِ فِهْرًا............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "قتلت به فهرًا"، وليس صوابًا، إنما قتل قاتل أخيه هشام بن صبابة، قالوا: اسمه"أوس"، لا"فهر". أما "فهر" في قوله: "ثأرت به فهرًا" فإنه يعني أبناء فهر، وهم رهطه، أدرك ثأرهم بقتله الأنصاري. وفي مطبوعة تاريخ الطبري"قهرًا" بالقاف، والصواب بالفاء. و"فارع" أطم بالمدينة لبني النجار، كان لحسان بن ثابت رحمه الله، ذكره في شعره.(9/62)
له = فذكرت ذلك لمجاهد فقال: إلا من نَدم.
* * *
وقال آخرون: ذلك إيجاب من الله الوعيدَ لقاتل المؤمن متعمّدًا، كائنًا من كان القاتل، على ما وصفه في كتابه، ولم يجعل له توبة من فعله. قالوا: فكل قاتل مؤمن عمدًا، فله ما أوعده الله من العذاب والخلود في النار، ولا توبة له. وقالوا: نزلت هذه الآية بعد التي في"سورة الفرقان".
*ذكر من قال ذلك:
10188- حدثنا ابن حميد وابن وكيع قالا حدثنا جرير، عن يحيى الجابر، عن سالم بن أبي الجعد قال: كنا عند ابن عباس بعد ما كُفَّ بصره، فأتاه رجل فناداه: يا عبد الله بن عباس، ما ترى في رجل قتل مؤمنًا متعمدًا؟ فقال:"جزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضبَ الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابًا عظيمًا". قال: أفرأيت إن تاب وآمن وعمِل صالحًا ثم اهتدى؟ قال ابن عباس: ثكلتْه أمه! وأنَّى له التوبة والهدى؟ فوالذي نفسي بيده لقد سمعت نبيَّكم صلى الله عليه وسلم يقول: ثكلته أمه! رجل قتل رجلا متعمدًا جاء يوم القيامة آخذًا بيمينه أو بشماله، تَشْخَبُ أوداجه دمًا، في قُبُل عرش الرحمن، يَلزم قاتلَه بيده الأخرى يقول: سلْ هذا فيم قتلني؟ ووالذي نفس عبد الله بيده، لقد أنزلت هذه الآية، فما نسختها من آية حتى قُبض نبيّكم صلى الله عليه وسلم، وما نزل بعدها من برهان. (1)
__________
(1) الأثر: 10188 -"يحيى الجابر" هو"يحيى بن المجبر"، وهو: يحيى بن عبد الله بن الحارث المجبر التيمي وثقه أخي السيد أحمد في المسند.
ورواه أحمد في المسند رقم: 2142 بطوله، وهو حديث صحيح، من طريق محمد بن جعفر عن شعبة، عن يحيى بن المجبر التيمي. ثم رواه برقم: 2683، ورواه مختصرًا برقم: 1941، 3445 وانظر ابن كثير 2: 537-539.
وقوله: "تشخب أوداجه دما"، أي تسيل دمًا له صوت في خروجه، و"الشخب"، ما يخرج من تحت يد الحالب عند كل غمزة وعصرة لضرع الشاة، ويكون لمخرجه صوت عند الحلب. و"الأوداج" جمع"ودج" (بفتحتين) ، وهي العروق التي تكتنف الحلقوم، وما أحاط بالعنق من العروق التي يقطعها الذابح.
وقوله: "في قبل عرش الرحمن"، "قبل" (بضم فسكون) ، أو (بفتحتين) أو (بضمتين) كل ذلك جائز، وهو الوجه، أو ما يستقبلك من شيء، ويعني به ما بين يدي العرش حيث يستقبله الناظر.(9/63)
10189- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو خالد: عن عمرو بن قيس، عن يحيى بن الحارث التيمي، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا"، فقيل له: وإن تاب وآمن وعمل صالحًا! فقال: وأنَّى له التوبة! (1)
10190- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا موسى بن داود قال، حدثنا همام، عن يحيى، عن رجل، عن سالم قال: كنت جالسًا مع ابن عباس، فسأله رجل فقال: أرأيت رجلا قتل مؤمنًا متعمدًا، أين منزله؟ قال:"جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدّ له عذابًا عظيمًا". قال: أفرأيت إن هو تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى؟ قال: وأنَّى له الهدى، ثكلته أمه؟ والذي نفسي بيده لسمعته يقول= يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم= يجيء يوم القيامة مُعَلِّقًا رأسه بإحدى يديه، إما بيمينه أو بشماله، آخذًا صاحبه بيده الأخرى، تشخَبُ أوداجه حِيَال عرش الرحمن، يقول: يا رب، سلْ عبدك هذا عَلام قتلني؟ فما جاء نبيّ بعد نبيِّكم، ولا نزل كتابٌ بعد كتابكم. (2)
__________
(1) الأثر: 10189 -"أبو خالد" الأحمر، هو سليمان بن حيان الأزدي، مضى برقم: 3956، ورواية سفيان بن وكيع عنه برقم: 2472.
و"عمرو بن قيس الملائي"، مضى مرارًا، وانظر رقم: 3956.
و"يحيى بن الحارث التيمي" هو"يحيى الجابر"، و"يحيى بن عبد الله بن الحارث" نسب إلى جده، ومضى في الأثر السالف.
وهذا الأثر مختصر الذي قبله.
(2) الأثر: 10190 -"موسى بن داود الضبي الطرسوسي"، من شيوخ أحمد وعلي بن المديني. ثقة صاحب حديث، ولي قضاء طرسوس إلى أن مات بها.
و"همام" هو ابن يحيى بن دينار الأزدي، روى عن عطاء وقتادة وابن سيرين. روى عن الثوري، وهو من أقرانه. ثقة.
وهذا الأثر طريق آخر للأثر السالف بمعناه، وجعل بين يحيى الجابر، وسالم بن أبي الجعد"رجلا"، ويحيى قد سمع سالمًا، فلا يضر أن يكون سمعه أيضًا من رجل عن سالم.(9/64)
10191- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا عمار بن رُزيق، عن عمار الدهني، عن سالم بن أبي الجعد، عن ابن عباس: بنحوه= إلا أنه قال في حديثه: فوالله لقد أنزلت على نبيكم، ثم ما نسخها شيء، ولقد سمعته يقول: ويل لقاتل المؤمن، يجيء يوم القيامة آخذًا رأسه بيده= ثم ذكر الحديث نحوه. (1)
10192- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: قال لي عبد الرحمن بن أبزى: سئل ابن عباس عن قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، فقال: لم ينسخها شيء. وقال في هذه الآية: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) [سورة الفرقان: 68] . قال: نزلت في أهل الشرك.
10193- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى أن أسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين، فذكر نحوه. (2)
10194- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور قال، حدثني سعيد بن جبير= أو: حُدّثت عن سعيد بن جبير: أن عبد الرحمن بن أبزى أمَره أن يسأل ابن عباس عن هاتين الآيتين التي في"النساء":
__________
(1) الأثر: 10191 -"عمار بن رزيق الضبي"، أبو الأحوص. روى عن أبي إسحاق السبيعي والأعمش وعطاء بن السائب، وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "عمان بن زريق" بالنون في"عمار" وبتقديم الزاي على الراء، وهو خطأ.
(2) الأثر: 10192، 10193 - رواه مسلم (18: 158) والبخاري (فتح 8: 380) من طريق محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، كالإسناد الثاني.(9/65)
"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم" إلى آخر الآية= والتي في"الفرقان": (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) إلى (وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) ، قال ابن عباس: إذا دخل الرجل في الإسلام وعلم شرائعه وأمره، ثم قتل مؤمنًا متعمدًا، فلا توبة له. وأما التي في"الفرقان"، فإنها لما أنزلت قال المشركون من أهل مكة: فقد عدَلنا بالله، وقتلنا النفس التي حرم الله بغير الحق، وأتينا الفواحش، فما ينفعنا الإسلام! قال فنزلت: (إِلا مَنْ تَابَ) الآية (1)
10195- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: ما نسخها شيء.
10196- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: هي من آخر ما نزلت، ما نسخها شيء.
10197- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة بن النعمان، عن سعيد بن جبير قال: اختلف أهل الكوفة في قتل المؤمن، فدخلت إلى ابن عباس فسألته فقال: لقد نزلت في آخر ما أنزل من القرآن، وما نسخها شيء. (2)
10198- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال: حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إياس معاوية بن قرّة قال، أخبرني شهر بن حوشب قال،
__________
(1) الأثر: 10194 - رواه البخاري (فتح 8: 379) ومسلم (18: 159) . رواه البخاري من طريق سعد بن حفص، عن شيبان، عن منصور. ورواه مسلم من طريق هارون بن عبد الله، عن أبي النضر هاشم بن القاسم الليثي، عن أبي معاوية شيبان.
وأسقطت المخطوطة: "وأتينا الفواحش". وليس فيها كلمة"الآية" في آخر الأثر.
(2) الآثار 10195 - 10197 - هذه الآثار، رواها البخاري في صحيحه (فتح 8 / 379) ومسلم (18: 158) . وقد استقصى الحافظ ابن حجر الكلام فيها في الفتح. وكان في المطبوعة: "لقد نزلت في آخر ما نزل"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/66)
سمعت ابن عباس يقول: نزلت هذه الآية:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم" بعد قوله: (إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا) ، بسنةٍ.
10199- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سلم بن قتيبة قال، حدثنا شعبة، عن معاوية بن قرة، عن ابن عباس قال:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: نزلت بعد (إِلا مَنْ تَابَ) ، بسنة.
10200- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو إياس قال، حدثني من سمع ابن عباس يقول في قاتل المؤمن: نزلت بعد ذلك بسنة. فقلت لأبي إياس: من أخبرك؟ فقال: شهر بن حَوْشب.
10201- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي حصين، عن سعيد، عن ابن عباس في قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا"، قال: ليس لقاتل توبة، إلا أن يستغفر الله.
10202- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا" الآية، قال عطية: وسئل عنها ابن عباس، فزعم أنها نزلت بعد الآية التي في"سورة الفرقان" بثمان سنين، وهو قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) إلى قوله: (غَفُورًا رَحِيمًا) .
10203- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مطرف عن أبي السفر، عن ناجية، عن ابن عباس قال: هما المبهمتان: الشرك والقتل. (1)
10204- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك
__________
(1) يعني بقوله: "المبهمتان"، يعني: الآيتان اللتان لا مخرج منهما، كأنها باب مبهم مصمت، أي: مستغلق لا يفتح، ولا مأتى له. وذلك أن الشرك والقتل، جزاؤه التخليد في نار جهنم، أعاذنا الله منها. ومثله في الحديث: "أربع مبهمات: النذر والنكاح والطلاق والعتاق"، وفسرته رواية أخرى: "أربع مقفلات"، أي: لا مخرج منها، كأنها أبواب مبهمة عليها أقفال. وقد مضى تفسير"المبهم" فيما سلف 8: 143، تعليق: 2، بغير هذا المعنى، فانظره.(9/67)
بالله، وقتل النفس التي حرم الله، لأن الله سبحانه يقول:"فجزاؤه جهنم خالدًا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعدَّ له عذابًا عظيمًا".
10205- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه الكوفيين، عن الشعبي، عن مسروق، عن ابن مسعود في قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم"، قال: إنها لمحكمة، وما تزداد إلا شدة.
10206- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثني هياج بن بسطام، عن محمد بن عمرو، عن موسى بن عقبة، عن أبي الزناد، عن خارجة بن زيد، عن زيد بن ثابت قال: نزلت"سورة النساء" بعد"سورة الفرقان" بستة أشهر. (1)
10207- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: يأتي المقتول يوم القيامة آخذًا رأسه بيمينه وأوداجه تشخَب دمًا، يقول: يا ربِّ، دمي عند فلان! فيؤخذان فيسندان إلى العرش، فما أدري ما يقضى بينهما. ثم نزع بهذه الآية:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم خالدًا فيها" الآية، قال ابن عباس: والذي نفسي بيده، ما نسخها الله جل وعز منذ أنزلها على نبيَّكم عليه السلام. (2)
10208- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة،
__________
(1) الأثر: 10206 -"هياج بن بسطام الهروي"، مضت ترجمته برقم: 9603.
(2) الأثر: 10207 -"ابن البرقي"، هو"أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي" سلف برقم: 22 وكان في المطبوعة"ابن الرقي" وهو خطأ.
و"ابن أبي مريم"، هو"سعيد بن الحكم بن محمد بن سالم الجمحي"، مضى برقم: 22، وغيره من المواضع.
وهذا الأثر ساقط من المخطوطة.(9/68)
عن أبي الزناد قال: سمعت رجلا يحدّث خارجة بن زيد بن ثابت، عن زيد بن ثابت قال، سمعت أباك يقول: نزلت الشديدةُ بعد الهيِّنة بستة أشهر، قوله:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا"، إلى آخر الآية، بعد قوله: (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ) إلى آخر الآية، [سورة الفرقان، 68] .
10209- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن أبي الزناد قال: سمعت رجلا يحدّث خارجة بن زيد قال: سمعت أباك في هذا المكان بمنَى يقول: نزلت الشديدة بعد الهينة= قال: أراه: بستة أشهر، يعني:"ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا" بعد: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ) [سورة النساء: 48، 116] .
10210- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: ما نسخها شيء منذ نزلت، وليس له توبة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، (1) قول من قال: معناه: ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا، فجزاؤه إن جزاه جهنم خالدًا فيها، ولكنه يعفو ويتفضَّل على أهل الإيمان به وبرسوله، (2) فلا يجازيهم بالخلود فيها، ولكنه عز ذكره إما أن يعفو بفضله فلا يدخله النار، وإما أن يدخله إيّاها ثم يخرجه منها بفضل رحمته، لما سلف من وعده عباده المؤمنين بقوله: (يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا) [سورة الزمر: 53] .
* * *
فإن ظن ظان أن القاتل إن وجب أن يكون داخلا في هذه الآية، فقد يجب أن يكون المشرك داخلا فيه، لأن الشرك من الذنوب، فإن الله عز ذكرُه قد أخبر
__________
(1) في المطبوعة: "وأولى القول في ذلك"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يعفو أو يتفضل"، والصواب من المخطوطة.(9/69)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
أنه غير غافرٍ الشركَ لأحدٍ بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) [سورة النساء: 48، 116] ، والقتل دون الشرك. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين صدَّقوا الله وصدَّقوا رسوله فيما جاءهم به من عند ربهم="إذا ضربتم في سبيل الله"، يقول: إذا سرتم مسيرًا لله في جهاد أعدائكم (2) ="فتبينوا"، يقول: فتأنَّوا في قتل من أشكل عليكم أمره، فلم تعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، (3) ولا تعجلوا فتقتلوا من التبس عليكم أمره، ولا تتقدموا على قتل أحد إلا على قتل من علمتموه يقينًا حرْبًا لكم ولله ولرسوله="ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السَّلَم"، (4) يقول: ولا تقولوا لمن استسلم لكم فلم يقاتلكم، مظهرًا لكم أنه من أهل ملتكم ودَعوتكم (5) ="لست
__________
(1) في المخطوطة: "ولا نقبل دون الشرك"، وهو خطأ محض، والصواب ما في المطبوعة.
(2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف ص: 17، تعليق: 4، والمراجع هناك.
(3) في المخطوطة: "فلما تعلموا"، وهو خطأ.
(4) كان في المطبوعة هنا، "السلام"، كقراءتنا اليوم في مصحفنا، والسلام التحية، وهي إحدى القراءتين، ولكن تفسير أبي جعفر بعد، هو تفسير"السلم"، وهو الاستسلام والانقياد، وهي القراءة الأخرى التي اختارها. فكتابتها هنا"السلام" خطأ. لا يصح به المعنى من تفسيره.
(5) انظر تفسير"السلم" فيما سلف ص: 23، 24، 29 ومادة"سلم" من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.(9/70)
مؤمنًا"، فتقتلوه ابتغاء="عرض الحياة الدنيا"، يقول: طلبَ متاعِ الحياة الدنيا، (1) فإن="عند الله مغانم كثيرة"، من رزقه وفواضل نِعَمه، فهي خير لكم إن أطعتم الله فيما أمركم به ونهاكم عنه، فأثابكم بها على طاعتكم إياه، فالتمسوا ذلك من عنده="كذلك كنتم من قبل"، يقول، كما كان هذا الذي ألقى إليكم السلم فقلتم له (2) "لست مؤمنًا" فقتلتموه، كذلك كنتم أنتم من قبل، يعني: من قبل إعزاز الله دينه بتُبَّاعه وأنصاره، تستخفُون بدينكم، كما استخفى هذا الذي قتلتموه وأخذتم ماله، بدينه من قومه أن يُظهره لهم، حذرًا على نفسه منهم. وقد قيل إن معنى قوله:"كذلك كنتم من قبل" كنتم كفارًا مثلهم="فمنَّ الله عليكم"، يقول: فتفضل الله عليكم بإعزاز دينه بأنصاره وكثرة تُبَّاعه. وقد قيل، فمنَّ الله عليكم بالتوبة من قتلكم هذا الذي قتلتموه وأخذتم ماله بعد ما ألقى إليكم السلم (3) ="فتبينوا"، يقول: فلا تعجلوا بقتل من أردتم قتلَه ممن التبس عليكم أمرُ إسلامه، فلعلَّ الله أن يكون قد مَنَّ عليه من الإسلام بمثل الذي منَّ به عليكم، وهداه لمثل الذي هداكم له من الإيمان. (4) ="إن الله كان بما تعملون خبيرًا"، يقول: إن الله كان بقتلكم من تقتلون، وكَفِّكم عمن تكفُّون عن قتله من أعداء الله وأعدائكم، وغير ذلك من أموركم وأمور غيركم="خبيرًا"، يعني: ذا خبرة وعلم به، (5) يحفظه عليكم وعليهم، حتى يجازى جميعكم به يوم القيامة جزاءه، المحسن بإحسانه، والمسيءَ بإساءته. (6)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف 8: 316 تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "ألقى إليكم السلام"، وانظر التعليق السالف ص: 70، رقم: 4.
(3) في المطبوعة: "ألقى إليكم السلام"، وانظر التعليق السالف ص: 70، رقم: 4.
(4) انظر تفسير"من" فيما سلف 7: 369.
(5) انظر تفسير"خبير" فيما سلف من فهارس اللغة.
(6) في المطبوعة: "جزاء المحسن بإحسانه.."، وهو غير مستقيم، والصواب من المخطوطة.(9/71)
وذكر أن هذه الآية نزلت في سبب قتيل قتلته سريّة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما قال:"إنيّ مسلم" = أو بعد ما شهد شهادة الحق= أو بعد ما سلَّم عليهم= لغنيمة كانت معه، أو غير ذلك من ملكه، فأخذوه منه.
ذكر الرواية والآثار في ذلك: (1)
10211- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر قال (2) بعث النبي صلى الله عليه وسلم محلِّم بن جثَّامة مَبْعثًا، فلقيهم عامر بن الأضبط، فحياهم بتحية الإسلام، وكانت بينهم حِنَةٌ في الجاهلية، (3) فرماه محلم بسهم، فقتله. فجاء الخبر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فتكلم فيه عيينة والأقرع، فقال الأقرع: يا رسول الله، سُنَّ اليوم وغيِّر غدًا! (4) فقال عيينة: لا والله، حتى تذوق نساؤه من الثكل ما ذاق نسائي (5) فجاء محلِّم في بُرْدين، (6) فجلس بين يديْ رسول الله ليستغفر له، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لا غفر الله لك! فقام وهو يتلقى دموعه ببُرْديه، فما مضت به سابعة حتى مات، ودفنوه فلفظته الأرض. فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) في المطبوعة: "والآثار بذلك"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "عن نافع أن ابن عمر"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "إحنة في الجاهلية"، وهو صواب، و"الإحنة": الحقد في الصدر. من"أحن" وأما "حنة" كما أثبتها من المخطوطة، فهي من"وحن"، وهي أيضًا الحقد. وقد سلف التعليق على هذه اللفظة، حيث وردت في الأثر رقم 2195، في الجزء الثالث: 152، 153، تعليق: 2. وقد ذكرت هناك إنكار الأصمعي"حنة"، وزعم الأزهري أنها ليست من كلام العرب. وهذا دليل آخر على صواب هذه الكلمة، وأن الذي قاله الأزهري ليس بشيء.
(4) في ابن كثير 2: 546: "سر اليوم وغر غدا" وهو خطأ محض.
(5) في المخطوطة: "حتى تذوق بكاؤه" وهو تحريف من الناسخ، والصواب من السياق ومن تفسير ابن كثير.
(6) في المخطوطة: "في برد"، والصواب من ابن كثير، وكما صححه في المطبوعة من سياق الخبر.(9/72)
فذكروا ذلك له، فقال: إن الأرض تقبل من هو شرٌّ من صاحبكم! ولكن الله جل وعز أراد أن يَعِظكم. ثم طرحوه بين صَدفَيْ جبل، (1) وألقوا عليه من الحجارة، ونزلت:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، الآية (2)
10212- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد ابن عبد الله بن قسيط، (3) عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد قال: بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى إضَمٍ، (4) فخرجت في نَفَرٍ من المسلمين فيهم أبو قتادة الحارث بن رِبْعيّ، ومحلِّم بن جَثَّامة بن قيس الليثي. فخرجنا حتى إذا كنا ببطن إضَم، مرّ بنا عامر بن الأضبط الأشجعي على قَعود له، معه مُتَيِّعٌ له، ووَطْبٌ من لبن. (5) فلما مر بنا سلَّم علينا بتحية الإسلام، فأمسكنا عنه، وحمل عليه محلِّم بن جثَّامة الليثي لشيء كان بينه وبينه فقتله، وأخذ بعيره ومتَيِّعَه. فلما قدِمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرناه الخبر، (6) نزل فينا القرآن:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضَرِبتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لستَ مؤمنًا"، الآية (7)
__________
(1) "الصدف" (بفتحتين) : جانب الجبل الذي يقابلك منه. والصدف: كل شيء مرتفع عظيم كالحائط والجبل.
(2) الأثر: 10211 - في تفسير ابن كثير 2: 546، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 200 مختصرًا.
(3) في المطبوعة: "عن يزيد عن عبد الله بن قسيط"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة وسائر المراجع.
(4) "إضم": واد يشق الحجاز حتى يفرغ في البحر، من عند المدينة، وهو واد لأشجع وجهينة.
(5) "القعود": هو البكر من الإبل، حين يمكن ظهره من الركوب، وذلك منذ تكون له سنتان حتى يدخل في السادسة. و"متيع" تصغير"متاع": وهو السلعة، وأثاث البيت، وما يستمتع به الإنسان من حوائجه أو ماله. و"الوطب": سقاء اللبن.
(6) في المطبوعة: "وأخبرناه" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة.
(7) الأثر: 10212 - هذا الأثر رواه ابن إسحاق في سيرته، سيرة ابن هشام 4: 275، ورواه أحمد في مسنده 6: 11، وابن سعد في الطبقات 4 / 2 / 22 و2 / 1 / 96 (بغير إسناد) ، والطبري في تاريخه 3: 106، وابن عبد البر في الاستيعاب: 285، وابن الأثير في أسد الغابة 3: 77، وابن كثير في تفسيره 2: 545، والحافظ ابن حجر في ترجمة"عبد الله بن أبي حدرد"، والسيوطي في الدر المنثور 2: 199، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، والطبراني، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم والبيهقي، وكلاهما في الدلائل.
وفي إسناد هذا الأثر اضطراب شديد أرجو أن أبلغ في بيانه بعض ما أريد في هذا المكان.
1- وإسناد محمد بن إسحاق في سيرة ابن هشام: "حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد".
2- وإسناد أحمد في مسنده: "حدثنا يعقوب، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق (وفي المطبوعة: عن إسحاق، خطأ صوابه من تفسير ابن كثير) ، حدثني يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد".
3- وإسناد الطبري في تاريخه: "حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد= وقال بعضهم: عن ابن القعقاع= عن أبيه، عن عبد الله بن أبي حدرد".
4- وإسناد ابن سعد في الطبقات: "أخبرنا محمد بن عمر قال، حدثنا عبد الله بن يزيد بن قسيط، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه".
والأسانيد الثلاثة الأولى، وإسناد الطبري في التفسير، جميعها من طريق محمد بن إسحاق، وقد اتفق إسناد أحمد وإسناد ابن إسحاق في سيرة ابن هشام.
وأما إسنادا الطبري فقد خالف ما اتفق عليه أحمد وابن هشام في السيرة، فجاء في التفسير هنا"عن أبي القعقاع" لا"عن القعقاع"، ثم زاد الطبري الأمر إشكالا في التاريخ فقال"عن أبي القعقاع.. عن أبيه، عن عبد الله بن أبي حدرد"، فزاد"عن أبيه"، ولا ذكر لها في تفسيره، ولا في سائر الأسانيد، والظاهر أنه خطأ، وأن صوابه كما في التفسير"عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد".
وأما إسناد ابن سعد، فقد خالف هذا كله فجعل مكان"القعقاع"، أو "أبي القعقاع"، "عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي حدرد"، ولم أجد لعبد الرحمن هذا ذكرًا في كتب تراجم الرجال. وجاء ابن عبد البر في الاستيعاب 2: 452، بما هو أغرب من هذا، فسماه"عبد ربه بن أبي حدرد الأسلمي"، وليس له ذكر في كتاب. ولكني وجدت في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 2 / 228"عبد الرحمن بن أبي حدرد الأسلمي"، سمع أبا هريرة. روى عنه أبو مودود عبد العزيز بن أبي سليمان المديني. ولا أظنه هذا الذي في إسناد ابن سعد. (انظر أيضًا تهذيب التهذيب 6: 160) .
وأما "القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد" فقد ترجم البخاري في الكبير 4 / 1 / 187، لصحابي هو"القعقاع بن أبي حدرد الأسلمي" وامرأته"بقيرة"، وهو كما ذكر الحافظ ابن حجر في الإصابة، أخو"عبد الله بن أبي حدرد" ثم عقب البخاري على هذه الترجمة بقوله: "ويقال: القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد، ولا يصح"، يعني أنه هذا الأخير لا تصح له صحبة، وأنه غير الأول. وكذلك فعل ابن أبي حاتم 3 / 2 / 136، كمثل ما في التاريخ الكبير.
أما الحافظ في تعجيل المنفعة: 344، فقد ترجم للقعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي ووهم في نقله عن البخاري، فظن البخاري قد ترجم له، فذكر في ترجمته ما قال البخاري في ترجمة"القعقاع بن أبي حدرد"، مع أنه صحح ذلك في ترجمة"القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد" في القسم الثالث من الإصابة.
أما ما ذكره الطبري من أنه"أبو القعقاع بن عبد الله بن أبي حدرد" أو "ابن القعقاع"، فلم أجده في مكان آخر، ولكني تركت ما كان في نص إسناده في التفسير"أبو القعقاع"، مع أنه لا ذكر له في الكتب ولا ترجمة، لأنه وافق ما في التاريخ، ولأن ما رواه من قوله: "ويقال: ابن القعقاع"، يستبعد معه كل تحريف أو زيادة من ناسخ أو غيره.
هذا، وقد جاء في إسناد آخر في التاريخ 3: 125 عن ابن إسحاق، عن يعقوب بن عتبة بن المغيرة بن الأخنس بن شريق، عن ابن شهاب الزهري، عن ابن عبد الله بن أبي حدرد الأسلمي، "عن أبيه عبد الله بن أبي حدرد". فلم يذكر اسمه، كما ذكر في الإسناد السالف، كما سيأتي في الإسناد التالي أيضًا: "عن ابن أبي حدرد، عن أبيه".
وهذا اضطراب غريب في إسناده، أردت أن أجمعه في هذا المكان، لأني لم أجد أحدًا استوفى ما فيه، وعسى أن يتوجه لباحث فيه رأي، وكتبه محمود محمد شاكر.(9/73)
10213- حدثني هارون بن إدريس الأصم قال، حدثنا المحاربي عبد الرحمن(9/74)
بن محمد، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن ابن أبي حدرد الأسلمي، عن أبيه بنحوه. (1)
10214- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لحق ناسٌ من المسلمين رجلا في غُنَيْمة له، فقال: السلام عليكم! فقتلوه وأخذوا تلك الغُنَيْمة، فنزلت هذه الآية:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، تلك الغُنَيْمة. (2)
10215- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس بنحوه.
10216- حدثني سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان، عن عمرو، عن
__________
(1) الأثر: 10213 - انظر التعليق على الأثر السالف."هارون بن إدريس الأصم" شيخ الطبري، مضى برقم: 1455.
و"المحاربي""عبد الرحمن بن محمد بن زياد" مضى برقم: 221، 875، 1455.
(2) "الغنيمة" تصغير"غنم"، وهو قطيع من الغنم. وإنما أدخلت التاء في"غنيمة"، لأنه أريد بها القطعة من الغنم. وانظر ما قاله أبو جعفر في دخول هذه التاء فيما سلف 6: 412، 413.(9/75)
عطاء، عن ابن عباس قال: لحق المسلمون رجلا ثم ذكر مثله. (1)
10217- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: مرّ رجل من بني سُلَيم على نفرٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلّم وهو في غنم له، فسلم عليهم، فقالوا: ما سلّم عليكم إلا ليتعوذَ منكم! فَعَمَدوا إليه فقتلوه وأخذوا غنمه، فأتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا" إلى آخر الآية.
10218- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله. (2)
10219- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: كان الرجل يتكلم بالإسلام، ويؤمن بالله والرسول، ويكون في قومه، فإذا جاءت سريَّة محمدٍ صلى الله عليه
__________
(1) الأثر: 10216 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
و"سعيد بن الربيع الرازي" مضى برقم: 3791، 5312.
(2) الأثران: 10217، 10218 - رواه أحمد في مسنده من طريق يحيى بن أبي بكير، وحسين بن محمد، وخلف بن الوليد، ويحيى بن آدم، جميعًا عن إسرائيل. وأرقامه في المسند: 2023، 2462، 2988، وإسناده صحيح. وقال ابن كثير في تفسيره 2: 544: "ورواه ابن جرير من حديث عبيد الله بن موسى، وعبد الرحيم بن سليمان كلاهما عن إسرائيل به. وقال في بعض كتبه غير التفسير: وقد رواه من طريق عبد الرحمن فقط (هكذا في الأصل) . وهذا خبر عندنا صحيح سنده، وقد يجب أن يكون على مذهب الآخرين سقيما، لعلل، منها: أنه لا يعرف له مخرج عن سماك إلا عن هذا الوجه= ومنها: أن عكرمة في روايته عندهم نظر= ومنها: أن الذي نزلت فيه هذه الآية عندهم مختلف فيه، فقال بعضهم: نزلت في محلم بن جثامة. وقال بعضهم: أسامة بن زيد. وقيل غير ذلك. قلت [القائل ابن كثير] : وهذا كلام غريب، وهو مردود من وجوه، أحدها: أنه ثابت عن سماك، حدث به غير واحد من الأئمة الكبار. الثاني: أن عكرمة محتج به في الصحيح. الثالث: أنه مروي من غير هذا الوجه عن ابن عباس.."
وهذا الذي نقله ابن كثير من بعض كتب أبي جعفر، أرجح، بل أقطع، أنه في كتابه تهذيب الآثار، وبيانه هذا الذي نقله ابن كثير، مطابق لنهجه في تهذيب الآثار، ونقلت هذا هنا للفائدة، ولأنه أول نقل رأيته في تفسير ابن كثير عن تهذيب الآثار فيما أرجح.(9/76)
وسلم أخبر بها حيّه= يعني قومه= ففرّوا، وأقام الرجل لا يخافُ المؤمنين من أجل أنه على دينهم، حتى يلقاهم فيلقي إليهم السلام، فيقولُ المؤمنون:"لست مؤمنًا"، وقد ألقى السلام فيقتلونه، فقال الله تبارك وتعالى:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، إلى"تبتغون عرض الحياة الدنيا"، يعني: تقتلونه إرادةَ أن يحلَّ لكم ماله الذي وجدتم معه -وذلك عرضُ الحياة الدنيا- فإن عندي مغانم كثيرة، فالتمسوا من فضل الله. وهو رجل اسمه"مِرْداس"، جَلا قومه هاربين من خيلٍ بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليها رجل من بني لَيْث اسمه"قُليب"، (1) ولم يجلُ معهم، (2) وإذْ لقيهم مرداس فسلم عليهم قتلوه، (3) فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهله بديته، ورد إليهم ماله، ونهى المؤمنين عن مثل ذلك.
10220- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، الآية، قال: وهذا الحديث في شأن مرداس، رجل من غطفان، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم بعث جيشًا عليهم غالب اللَّيثي إلى أهل فَدَك، وبه ناس من غطفان، وكان مرداس منهم، ففرّ أصحابه، فقال مرداس:"إني مؤمن وإنيّ غيرُ مُتّبعكم، فصبَّحته الخيلُ غُدْوة، (4) فلما لقوه سلم عليهم مرداس، فرماه
__________
(1) انظر الاختلاف في اسمه"قليب" بالقاف والباء، أو فليت" بالفاء والتاء، في الإصابة في موضعه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ولم يجامعهم" وظاهر أنه تحريف من الناسخ، صوابه ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "إذا لقيهم مرداس فسلم عليهم فقتلوه" وأثبت ما في المخطوطة إلا أني جعلت"وإذا""وإذ"، لأن السياق يقتضيها.
(4) "صبحتهم الخيل (بفتحتين) وصبحتهم (بتشديد الباء) ": أتتهم صباحًا، وكانت أكثر غاراتهم في الصباح. و"الغدوة" (بضم فسكون) : البكرة، ما بين صلاة الغداة (الفجر) وطلوع الشمس.(9/77)
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقتلوه، (1) وأخذوا ما كان معه من متاع، فأنزل الله جل وعز في شأنه:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا"، لأن تحية المسلمين السلام، بها يتعارفون، وبها يُحَيِّي بعضهم بعضًا. (2)
10221- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة كذلك كنتم من قبل فمنّ الله عليكم فتبينوا"، (3) بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية عليها أسامة بن زيد إلى بني ضَمْرة، فلقوا رجلا منهم يدعى مِرداس بن نهيك، معه غُنَيْمة له وجمل أحمر. فلما رآهم أوى إلى كهف جبل، واتّبعه أسامة. فلما بلغ مرداسٌ الكهفَ، وضع فيه غنمه، ثم أقبل إليهم فقال:"السلام عليكم، أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله". فشدّ عليه أسامة فقتله، من أجل جمله وغُنَيْمته. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث أسامة أحبَّ أن يُثْنَى عليه خيرٌ، ويسأل عنه أصحابَه. فلما رجعوا لم يسألهم عنه، فجعل القوم يحدِّثون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون: يا رسول الله، لو رأيت أسامة ولقيه رجل، فقال الرجل:"لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، فشد عليه فقتله! وهو معرض عنهم. فلما أكثروا عليه، رفع رأسه إلى أسامة فقال: كيفَ أنت ولا إله إلا الله؟ قال: يا رسول الله، إنما قالها متعوذًا، تعوَّذ بها!. فقال
__________
(1) في المخطوطة: "فدعاه" وهو تحريف، صواب ما أثبت. وفي المطبوعة: "فتلقوه"، وهو رديء، خير منه ما في الدر المنثور: "فتلقاه".
(2) الأثر: 10220 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 200، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.
(3) كان في المطبوعة: " ... عرض الحياة الدنيا، الآية، قال: بعث ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وإن كان الناسخ قد غفل فأسقط من الآية في كتابته: "كذلك كنتم من قبل".(9/78)
له رسول الله صلى الله عليه وسلم: هَلا شققت عن قلبه فنظرت إليه؟ قال: يا رسول الله، إنما قلبه بَضْعة من جسده! (1) فأنزل الله عز وجل خبر هذا، وأخبره إنما قتله من أجل جمله وغنمه، فذلك حين يقول:"تبتغون عرض الحياة الدنيا"، فلما بلغ:"فمنَّ الله عليكم"، يقول: فتاب الله عليكم، فحلف أسامةُ أن لا يقاتل رجلا يقول:"لا إله إلا الله"، بعد ذلك الرجل، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
10222- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا"، قال: بلغني أن رجلا من المسلمين أغار على رجل من المشركين فَحَمَل عليه، فقال له المشرك:"إنّي مسلم، أشهد أن لا إله إلا الله"، فقتله المسلم بعد أن قالها. فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، فقال للذي قتله: أقتلته، وقد قال لا إله إلا الله؟ فقال، وهو يعتذر: يا نبي الله، إنما قالها متعوذًا، وليس كذلك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فهلا شققت عن قلبه؟ ثم ماتَ قاتلُ الرجل فقُبر، فلفظته الأرض. فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن يقبروه، ثم لفظته الأرض، حتى فُعل به ذلك ثلاث مرات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الأرض أبتْ أن تقبَله، فألقوه في غارٍ من الغيران= قال معمر: وقال بعضهم: إن الأرض تَقْبَل من هو شرٌّ منه، ولكن الله جعله لكم عِبْرَة.
10223- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق: أن قومًا من المسلمين لقوا رجلا من المشركين في غُنَيْمة له، فقال:"السلام عليكم، إنِّي مؤمن"، فظنوا أنه يتعوّذ بذلك، فقتلوه وأخذوا غُنَيْمته. قال: فأنزل الله جل وعز:"ولا تقولوا لمن
__________
(1) "البضعة" (بفتح فسكون) : القطعة من اللحم.(9/79)
ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، تلك الغُنَيْمة="كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم فتبينوا".
10224- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا ضربتم في سبيل الله فتبينوا"، قال: خرج المقداد بن الأسود في سريّة، بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فمُّروا برجل في غُنَيْمة له، فقال:"إنّي مسلم"، فقتله المقداد. (1) فلما قدموا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت هذه الآية:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، قال: الغنيمة. (2)
10225- حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: نزل ذلك في رجل قتله أبو الدرداء=
= فذكر من قصة أبي الدرداء، نحو القصة التي ذكرت عن أسامة بن زيد، وقد ذكرت في تأويل قوله:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، (3) ثم قال في الخبر:
= ونزل الفرقان:"وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمنًا إلا خطأ"، فقرأ حتى بلغ:"لست مؤمنًا تبتغون عرض الحياة الدنيا"، غنمه التي كانت، عرض الحياة الدنيا ="فعند الله مغانم كثيرة"، خير من تلك الغنم، إلى قوله:"إن الله كان بما تعملون خبيرًا".
__________
(1) في المخطوطة: "فقتله الأسود"، والصواب ما في المطبوعة، أو أن تكون: "فقتله ابن الأسود".
(2) الأثر: 10224-"حبيب بن أبي عمرة" القصاب، بياع القصب، ويقال"اللحام"، أبو عبد الله الحماني. روى عن مجاهد، وسعيد بن جبير، وأم الدرداء. روى عنه الثوري وجماعة. قال ابن سعد: "ثقة قليل الحديث". مترجم في التهذيب.
(3) انظر ما سلف رقم: 10221.(9/80)
10226- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا"، قال: راعي غنم، لقيه نفر من المؤمنين فقتلوه، (1) وأخذوا ما معه، ولم يقبلوا منه:"السلام عليكم، فإني مؤمن".
10227- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنًا"، قال: حرم الله على المؤمنين أن يقولوا لمن شهد أن لا إله إلا الله:"لست مؤمنًا"، كما حرم عليهم الميْتَة، فهو آمن على ماله ودمه، لا تردّوا عليه قوله.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"فَتَبَيَّنُوا".
فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين وبعضُ الكوفيين والبصريين: (فَتَبَيَّنُوا) بالياء والنون، من"التبين" بمعنى، التأني والنظر والكشف عنه حتى يتَّضح. (2)
وقرأ ذلك عُظْم قرأة الكوفيين: (فَتَثَبَّتُوا) ، بمعنى التثبُّت، الذي هو خلاف العَجَلة.
قال أبو جعفر: والقولُ عندنا في ذلك أنهما قراءتان معروفتان مستفيضتان في قرأة المسلمين بمعنى واحد، وإن اختلفت بهما الألفاظ. لأن"المتثبت" متبيّن، و"المتبيِّن" متثبِّت، فبأي القراءتين قرأ القارئ، فمصيبٌ صوابَ القراءة في ذلك.
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلم". (3)
__________
(1) في المخطوطة: "بعثه نفر من المؤمنين"، وهو خطأ، صوابه ما في المطبوعة.
(2) انظر تفسير"التبين" فيما سلف ص: 70.
(3) في المطبوعة: " ... السلام" بالألف، والصواب إثباتها كرسم المصحف هنا، حتى يظهر سياق اختلاف القراءة.(9/81)
فقرأ ذلك عامة قرأة المكيين والمدنيين والكوفيين: (السَّلَمَ) بغير ألف، بمعنى الاستسلام.
* * *
وقرأ بعض الكوفيين والبصريين: (السَّلامَ) بألف، بمعنى التحية.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَمَ) ، بمعنى: من استسلم لكم، مذعنًا لله بالتوحيد، مقرًّا لكم بملَّتكم.
وإنما اخترنا ذلك، لاختلاف الرواية في ذلك: فمن راوٍ رَوى أنه استسلم بأن شهد شهادة الحق وقال:"إنّي مسلم" = ومن راوٍ رَوى أنه قال:"السلام عليكم"، فحياهم تحية الإسلام= ومن راوٍ رَوى أنه كان مسلمًا بإسلامٍ قد تقدم منه قبل قتلهم إياه= وكل هذه المعاني يجمعه"السَّلَم"، لأن المسلم مستسلم، والمحيي بتحية الإسلام مستسلم، والمتشهد شهادة الحق مستسلم لأهل الإسلام، فمعنى"السَّلم" جامع جميع المعاني التي رُويت في أمر المقتول الذي نزلت في شأنه هذه الآية وليس ذلك في"السلام"، (1) لأن"السلام" لا وجه له في هذا الموضع إلا التحية. فلذلك وصفنا"السلم"، بالصواب.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"كذلك كنتم من قبل".
فقال بعضهم: معناه: كما كان هذا الذي قتلتموه بعد ما ألقى إليكم السَّلَم، مستخفيًا في قومه بدينه خوفًا على نفسه منهم، كنتم أنتم مستخفين بأديانكم من قومكم حذرًا على أنفسكم منهم، فمنَّ الله عليكم.
*ذكر من قال ذلك:
10228- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن
__________
(1) في المطبوعة: "وليس كذلك في الإسلام"، والصواب الجيد من المخطوطة.(9/82)
جريج قال، أخبرني عبد الله بن كثير، عن سعيد بن جبير في قوله:"كذلك كنتم من قبل"، تستخفون بإيمانكم، (1) كما استخفى هذا الراعي بإيمانه.
10229- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير:"كذلك كنتم من قبل"، تكتمون إيمانكم في المشركين.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كما كان هذا الذي قتلتموه، بعد ما ألقى إليكم السلم، (2) كافرًا، كنتم كفارًا، فهداه كما هداكم.
*ذكر من قال ذلك:
10230- حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"كذلك كنتم من قبل فمن الله عليكم"، كفارًا مثله="فتبينوا".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الأول، وهو قول من قال: كذلك كنتم تخفون إيمانكم في قومكم من المشركين وأنتم مقيمون بين أظهرهم، كما كان هذا الذي قتلتموه مقيمًا بين أظهر قومه من المشركين مستخفيًا بدينه منهم.
وإنما قلنا:"هذا التأويل أولى بالصواب"، لأن الله عز ذكره إنما عاتب الذين قتلوه من أهل الإيمان بعد إلقائه إليهم السلم ولم يُقَدْ به قاتلوه، (3) للبْس الذي كان دخل في أمره على قاتليه بمقامه بين أظهر قومه من المشركين، وظنِّهم أنه ألقى
__________
(1) في المخطوطة: "مستخفون بإيمانكم"، وما في المطبوعة أجود.
(2) قوله"كافرًا" ليس في المخطوطة، والسياق يقتضيها كما في المطبوعة، وانظر اعتراض أبي جعفر بعد، فهو يوجب إثبات هذه الكلمة في هذا الموضع.
(3) في المطبوعة في هذا الموضع وما يليه"السلام" مكان"السلم"، ولكني أثبت ما في المخطوطة، لأن تفسير أبي جعفر جار على"السلم" لا على"السلام". وقوله: "لم يقد" بالبناء للمجهول من"القود" (بفتح القاف والواو) وهو القصاص، وقتل القاتل بدل القتيل، يقال منه"أقدته به أقيده إقادة".(9/83)
السلم إلى المؤمنين تعوّذًا منهم، ولم يعاتبهم على قتلهم إياه مشركًا فيقال:"كما كان كافرًا كنتم كفارًا"، بل لا وجه لذلك، لأن الله جل ثناؤه لم يعاتب أحدًا من خلقه على قتل محارِبٍ لله ولرسوله من أهل الشرك، بعد إذنه له بقتلِه.
واختلف أيضًا أهل التأويل في تأويل قوله:"فمنّ الله عليكم".
فقال بعضهم: معنى ذلك: فمنّ الله عليكم بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أظهروا الإسلام بعد ما كانوا يكتتمون به من أهل الشرك. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10231- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن سفيان، عن حبيب بن أبي عمرة، عن سعيد بن جبير:"فمن الله عليكم"، فأظهر الإسلام.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن الله عليكم= أيها القاتلون الذي ألقى إليكم السلم (2) طلبَ عرض الحياة الدنيا= بالتوبة من قتلكم إياه.
*ذكر من قال ذلك:
10232- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن الله عليكم"، يقول: تاب الله عليكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بالصواب، التأويل الذي ذكرته عن سعيد بن جبير، لما ذكرنا من الدِّلالة على أن معنى قوله:"كذلك كنتم من قبل"، ما وصفنا قبل. فالواجب أن يكون عَقِيب ذلك:"فمن الله عليكم"،
__________
(1) في المطبوعة: "بعد ما كانوا يكتمونه"، والجيد ما في المخطوطة."يكتتمون به"، يستخفون به.
(2) في المخطوطة: "أيها القاتلو الذي ألقي إليكم السلم"، وهو لا بأس به.(9/84)
فرفع ما كنتم فيه من الخوف من أعدائكم عنكم، بإظهار دينه وإعزاز أهله، حتى أمكنكم إظهار ما كنتم تستخفون به من توحيده وعبادته، حِذَارًا من أهل الشرك. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "حذرًا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء.(9/85)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95)
القول في تأويل قوله: {لا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون"، لا يعتدل المتخلِّفون عن الجهاد في سبيل الله من أهل الإيمان بالله وبرسوله، المؤثرون الدعةَ والخَفْض وَالقُعودَ في منازلهم على مُقاساة حُزُونة الأسفار والسير في الأرض، ومشقة ملاقاة أعداء الله بجهادهم في ذات الله، وقتالهم في طاعة الله، إلا أهل العذر منهم بذَهَاب أبصارهم، وغير ذلك من العِلل التي لا سبيل لأهلها -للضَّرَر الذي بهم- إلى قتالهم وجهادهم في سبيل الله="والمجاهدون في سبيل الله"، ومنهاج دينه، (1) لتكون كلمة الله هي العليا، المستفرغون طاقَتهم في قتال أعداءِ الله وأعداءِ دينهم= بأموالهم، إنفاقًا لها فيما أوهَن كيد أعداء أهل الإيمان بالله - وبأنفسهم، مباشرة بها قتالهم، بما تكون به كلمة الله العالية، وكلمة الذين كفروا السافلة.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"غير أولي الضرر".
* * *
فقرأ ذلك عامة قرأة أهل المدينة ومكة والشأم (غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ) ، نصبًا، بمعنى: إلا أولي الضرر.
وقرأ ذلك عامة قرأة أهل الكوفة والبصرة: (2) (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) برفع"غير"،
__________
(1) انظر تفسير"في سبيل الله" فيما سلف ... ، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "قرأة أهل العراق والكوفة والبصرة"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/85)
على مذهب النّعت"للقاعدين".
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا: (غَيْرَ أُولِي الضَّرَرِ) بنصب"غير"، لأن الأخبار متظاهرة بأن قوله:"غير أولي الضرر"، نزل بعد قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم"، استثناءً من قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون".
* * *
ذكر بعض الأخبار الواردة بذلك:
10233- حدثنا نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبيه، عن أبي إسحاق، عن البراء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ائتوني بالكتف والَّلوح، فكتب (1) "لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون"، وعمرو بن أم مكتوم خلف ظَهره، فقال: هل لي من رُخصة يا رسول الله؟ فنزلت:"غير أولي الضرر". (2)
10234- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي
__________
(1) في المطبوعة"فكتب"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الحديث: 10233 - هذا حديث البراء بن عازب، في شأن نزول قوله تعالى (غير أولي الضرر) - وقد رواه الطبري هنا بسبعة أسانيد. خمسة منها في نسق: 10233 - 10237، ثم: 10248، 10249.
وأبو إسحاق -فيها كلها-: هو أبو إسحاق السبيعي.
فهذا الحديث أولها، "عن نصر بن علي الجهضمي" - رواه الترمذي 3: 19، عن نصر بن علي، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه النسائي 2: 54، عن نصر بن علي.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 40 - بتحقيقنا- عن محمد بن عمر بن يوسف، عن نصر بن علي.
وقوله: "فكتب: لا يستوي" - إلخ: يعني أمر بالكتابة. وهذا هو الثابت في المطبوعة"فكتب" بالفاء. وهو الموافق لما في الترمذي، والنسائي، وابن حبان، وفي المخطوطة"وكتب" بالواو. فأثبتنا الموافق دون المخالف، وإن كان المعنى واحدًا.(9/86)
إسحاق، عن البراء قال: لما نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، جاء ابن أم مكتوم وكان أعمى، فقال: يا رسول الله، كيف وأنا أعمى؟ فما برح حتى نزلت:"غير أولي الضرر". (1)
10235- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب في قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر"، قال: لما نزلت، جاء عمرو ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان ضريرَ البصر، فقال: يا رسول الله، ما تأمرني، فإني ضرير البصر؟ فأنزل الله هذه الآية، فقال: ائتوني بالكتف والدواة، أو: اللوح والدواة. (2)
10236- حدثني إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرَّملي قال، حدثنا عبد الله بن محمد بن المغيرة قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء: أنه لما نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، كلمه ابن أم مكتوم، فأنزلت:"غير أولي الضرر". (3)
__________
(1) الحديث: 10234 - هو تكرار للحديث قبله، على ما في سفيان بن وكيع من ضعف. ولكنه سمع من أبي بكر بن عياش، أبو بكر سمع من أبي إسحاق السبيعي.
والحديث في ذاته صحيح من هذا الوجه:
فقد رواه النسائي 2: 54، عن محمد بن عبيد، عن أبي بكر بن عياش، به.
(2) الحديث: 10235 - سفيان بن وكيع لم ينفرد بروايته عن أبيه عن سفيان الثوري: فقد رواه أحمد في المسند 4: 290، 299 (حلبي) ، عن وكيع، عن الثوري - بهذا الإسناد. وكذلك رواه الترمذي 4: 90-91، عن محمود بن غيلان، عن وكيع، به. وقال: "هذا حديث حسن صحيح. ويقال: عمرو بن أم مكتوم. ويقال: عبد الله بن أم مكتوم. وهو عبد الله بن زائدة. وأم مكتوم: أمه".
(3) الحديث: 10236- إسماعيل بن إسرائيل الدلال الرملي، أبو محمد: ثقة من شيوخ ابن أبي حاتم، ترجمه في 1 / 1 / 158، وقال: "كتبنا عنه، وهو صدوق". ولكن عنده"السلال" بدل"الدلال" - ولم نجد مرجحًا، فأثبتنا ما ثبت هنا في المخطوطة والمطبوعة. ولكن فيه خطأ في المطبوعة: "محمد بن إسماعيل" بزياة"محمد بن" وليست في المخطوطة، فحذفناها. ويؤيد ذلك أن الطبري نفسه روى عنه في التاريخ 2: 273، بهذا الإسناد، عن البراء في عدة أصحاب طالوت، وسماه هناك"إسماعيل بن إسرائيل الرملي". وحديث البراء في عدة أصحاب طالوت، مضى بأسانيد: 5724 - 5729، ولكن ليس فيها هذا الإسناد الذي في التاريخ.
عبد الله بن محمد بن المغيرة الكوفي، سكن مصر: ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 158، وروى عن أبيه، قال: "ليس بالقوي". ولم يذكر أنه يروي عن مسعر، ولكن روايته عنه ثابتة في تهذيب الكمال للحافظ المزي، ص: 1322 (مخطوط مصور) ، في ترجمة مسعر، في الرواة عنه، وكذلك ثبت في ترجمته هو في لسان الميزان 3: 332 - 333 أنه يروي عن مسعر. وفي ترجمته هذه ما يدل على جرحه جرحًا شديدًا، يسقط روايته.
والحديث من رواية مسعر - ثابت صحيح، من غير رواية عبد الله بن محمد بن المغيرة هذا. فرواه مسلم 2: 101، عن أبي كريب، عن ابن بشر، وهو محمد بن بشر بن الفرافصة العبدي الحافظ، عن مسعر، به.(9/87)
10237- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق، أنه سمع البراء يقول في هذه الآية:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، قال: فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم زيدًا فجاء بكتف فكتبها. قال: فشكا إليه ابن أم مكتوم ضَرَارته، فنزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر".
= قال شعبة، وأخبرني سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد في هذه الآية:"لا يستوي القاعدون"، مثل حديث البراء. (1)
__________
(1) الحديث: 10237 - إبو إسحاق: هو السبيعي، كما قلنا آنفًا. ووقع في المطبوعة"عن ابن إسحاق"، وهو خطأ يقينًا. وثبت على الصواب في المخطوطة.
والحديث رواه أحمد في المسند 4: 282 (حلبي) ، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به. ورواه مسلم 2: 100-101، عن محمد بن المثنى (شيخ الطبري هنا) ، وعن محمد بن بشار - كلاهما عن محمد بن جعفر، به.
ورواه أبو داود الطيالسي: 705، عن شعبة، به.
ورواه أحمد أيضا 4: 284، عن عفان و299-300، عن عبد الرحمن (وهو ابن مهدي) - كلاهما عن شعبة.
ورواه البخاري 6: 34 (فتح) ، والدارمي 2: 209 - كلاهما عن أبي الوليد الطيالسي، عن شعبة.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 41 (بتحقيقنا) ، عن أبي خليفة، عن أبي الوليد الطيالسي، به.
ورواه البخاري أيضًا 8: 196 (فتح) ، عن حفص بن عمر، عن شعبة.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 9: 23، بإسنادين، من طريق حفص بن عمر. وهذا كله عن أصل الحديث، حديث البراء. وأما الإسناد الآخر الملحق به هنا: "شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد" - وهو ابن ثابت: فإنه في الحقيقة حديث آخر بإسناد آخر، فيه رجل مبهم. فيكون إسناده ضعيفًا. وحديث زيد بن ثابت -في نفسه- صحيح، وسيأتي: 10239، 10240.
وأما من هذا الوجه الضعيف، فقد رواه مسلم أيضًا، تبعًا لحديث البراء هذا، كمثل صنيع الطبري هنا. وبالضرورة ليس هذا الإسناد على شرط الصحيح عند مسلم. وإنما ساقه تمامًا للرواية عن شعبة، كما سمعه.
ومن العجب أن لم يتحدث عنه النووي في شرحه 13: 42، ولم يذكر علته.
ومن عجب أيضًا أن لم يذكره الحافظ المزي في باب (المبهمات) من تهذيب الكمال، ولا ذكره أحد من فروعه - مع أنه في صحيح مسلم بروايتين: "عن سعد بن إبراهيم، عن رجل، عن زيد"، و"عن سعد بن إبراهيم، عن أبيه، عن رجل، عن زيد".
ثم لما نعرف هذا الرجل المبهم.
وسعد: هو سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف. وأبوه: من كبار التابعين، فمن المحتمل جدًا أن يكون شيخه الرجل المبهم هنا صحابيًا. ولكنا لا نستطيع ترجيح ذلك.(9/88)
10238- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن أبي سنان الشيباني، عن أبي إسحاق، عن زيد بن أرقم قال: لما نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، جاء ابن أم مكتوم فقال: يا رسول الله، ما لي رخصة؟ قال: لا! قال ابن أم مكتوم: اللهم إني ضرير فرخِّص! فأنزل الله:"غير أولي الضرر"، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتبها= يعني: الكاتب. (1)
__________
(1) الحديث: 10238 - إسحاق بن سليمان الرازي العبدي: مضى توثيقه في: 6456. أبو سنان الشيباني: هو الأصغر الكوفي، واسمه"سعيد بن سنان البرجمي". وهو ثقة، تكلم فيه من أجل بعض خطئه. وقد مضت ترجمته في: 175.
وقد وهم الحافظ في الفتح 8: 196 وهمًا شديدًا، حين أشار إلى هذا الحديث من رواية الطبراني -كما سيأتي- فزعم أنه"ضرار بن مرة"! وهو أبو سنان الشيباني الأكبر. والذي يروي عن أبي إسحاق السبيعي ويروي عنه إسحاق بن سليمان الرازي - هو"أبو سنان الشيباني الأصغر، سعيد بن سنان"، كما هو بين من تهذيب الكمال وفروعه. فلم يذكر الحافظ المزي في ترجمتيهما إلا ما قلنا.
وأبو إسحاق: هو السبيعي، كما ذكرنا آنفًا. ووقع في المطبوعة"عن ابن إسحاق". وهو خطأ، صوابه ما أثبتنا عن المخطوطة. وهو الثابت في الرواية.
والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص9، وقال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات".
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 196 -كما قلنا آنفًا. وذكر أنه عند الطبراني، وعلله بأن"المحفوظ: عن أبي إسحاق عن البراء. كذا اتفق الشيخان عليه من طريق شعبة ... "، ثم أشار إلى كثير من الروايات التي ذكرها الطبري هنا وفيما يأتي.
ولسنا نرى هذا علة لذاك، ولا ذاك علة لهذا، فالقصة مشهورة وقد رواها أيضًا زيد بن ثابت، كما سيأتي: 10239، 10240.
ورواها أيضًا الفلتان بن عاصم الجرمي الصحابي، مطولة. ذكرها الهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص9. وقال: "رواه أبو يعلى، والبزار بنحوه، والطبراني بنحوه ... ورجال أبي يعلى ثقات".
وذكره الحافظ في الإصابة 5: 213 في ترجمة الفلتان، من رواية الحسن بن سفيان في مسنده، ثم ذكر أنه رواه ابن أبي شيبة، وأبو يعلى، وابن حبان في صحيحه.
وذكره السيوطي 2: 203-204، وزاد نسبته لعبد بن حميد.
ورواها ابن عباس، كما سيأتي: 10242.(9/89)
10239- حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا بشر بن المفضل، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن سهل بن سعد قال: رأيت مروان بن الحكم جالسًا، فجئت حتى جلست إليه، فحدَّثنا عن زيد بن ثابت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنزل عليه:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، قال: فجاء ابن أم مكتوم وهو يمليها عليّ، فقال: يا رسول الله، لو أستطيع الجهاد لجاهدتُ! قال: فأنزل عليه وفخذُه على فخذي، فثقلت، فظننتُ أن تُرَضَّ فخذي، ثم سُرِّي عنه، فقال:"غير أولي الضرر". (1)
__________
(1) الحديث: 10239 - رواه النسائي 2: 54، عن محمد بن عبد الله بن بزيع، أحد شيخي الطبري هنا - بهذا الإسناد.
ورواه أحمد في المسند 5: 184 (حلبي) ، عن يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن صالح، عن الزهري، به، ولم يذكر لفظه كاملا، أحاله على رواية قبيصة بن ذؤيب قبله. وهي الرواية التي ستأتي هنا عقب هذا.
ورواه البخاري 8: 195-196 (فتح) ، من طريق إبراهيم بن سعد، عن صالح، به. ورواه الترمذي 4: 92، والنسائي 2: 54، وابن الجارود، ص: 460 - كلهم من طريق يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه.
ورواه البيهقي 9: 23، من طريق إبراهيم بن سعد.
وذكره السيوطي 2: 202-203، وزاد نسبته لابن سعد، وعبد بن حميد، وأبي داود، وابن المنذر، وأبي نعيم في الدلائل.
"رض الشيء يرضه رضا": كسره. و"سُري عنه" (بالبناء للمجهول) : أي كشف عنه وتجلى ما كان يأخذه من الكرب عند نزول الوحي.(9/90)
10240- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن زيد بن ثابت قال: كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: اكتب:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، فجاء عبد الله بن أم مكتوم فقال: يا رسول الله، إني أحبُّ الجهاد في سبيل الله، ولكن بي من الزَّمَانة ما قد ترى، قد ذهب بصري! قال زيد: فثقلت فخِذ رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي حتى خشيت أن يَرُضَّها، ثم قال: اكتب:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولى الضرر والمجاهدون في سبيل الله". (1)
10241- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني عبد الكريم: أن مقسمًا مولى عبد الله بن الحارث أخبره: أن ابن عباس أخبره قال:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، عن بدر، والخارجون إلى بدر. (2)
__________
(1) الحديث: 10240 - هو في معنى الحديث السابق عن زيد بن ثابت، ولكنه من رواية قبيصة بن ذؤيب عنه.
وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة: تابعي كبير ثقة، كما مضى في: 5471 وهو مترجم في التهذيب وغيره، وفي الإصابة 5: 271-272.
والحديث في تفسير عبد الرزاق، ص: 48 (مخطوط مصور) .
ورواه أحمد في المسند 5: 184 (حلبي) ، عن عبد الرزاق.
وذكره ابن كثير 2: 549، من تفسير عبد الرزاق، ثم قال: "رواه ابن أبي حاتم، وابن جرير.
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 195، ونسبه لأحمد فقط.
(2) الحديث: 10241 - هذا الحديث ليس في تفسير عبد الرزاق، فلعله في المصنف. ولم يروه أحمد في المسند، فيما وصل إليه تتبعي.
وقد رواه البخاري 8: 196-197، هكذا مختصرًا، من طريق هشام، عن ابن جريج، ومن طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج.
وذكره ابن كثير 2: 549، وقال: "انفرد به البخاري دون مسلم".
وذكره السيوطي 2: 203، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وسيأتي عقيب هذا، بأطول منه.(9/91)
10242- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، أخبرني عبد الكريم: أنه سمع مقسمًا يحدث عن ابن عباس، أنه سمعه يقول:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين" عن بدر، والخارجون إلى بدر، لما نزل غزو بدر. (1) قال عبد الله ابن أم مكتوم وأبو أحمد بن جحش بن قيس الأسدي: يا رسول الله، إنا أعميان، فهل لنا رخصة؟ فنزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة". (2)
10243- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم"، فسمع بذلك عبد الله بن أم مكتوم الأعمى، فأتى رسول
__________
(1) في المطبوعة: "لما نزلت غزوة بدر"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الحديث: 10242 - هذا هو السياق المطول للحديث السابق، وفيه قصة ابن أم مكتوم، التي مضت مرارًا من حديث البراء بن عازب، ومن حديث زيد بن أرقم، ومن حديث زيد بن ثابت - مع بعض زيادات أخر في القصة.
والحديث -من هذا الوجه- رواه الترمذي 4: 91، وقال: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ابن عباس".
وقد نقله الحافظ في الفتح 8: 197، من رواية الترمذي، وأشار إلى رواية الطبري هنا، كما سيأتي.
ونقله ابن كثير أيضا 2: 549-550، عن رواية الترمذي.
ونقله السيوطي 2: 203، وزاد نسبته للنسائي، وابن المنذر، والبيهقي في سننه.
ووقع في رواية الترمذي ومن نقل عنه: "وعبد الله بن جحش". بدل"وأبو أحمد بن جحش". وجزم الحافظ في الفتح بأن الصواب ما في رواية الطبري"وأبو أحمد بن جحش"، قال: "فإن عبد الله أخوه. وأما هو فاسمه: "عبد"، بغير إضافة. وهو مشهور بكنيته".
و"عبد الله بن جحش" لم يكن أعمى. وقد قتل شهيدًا في غزوة أحد.
وأخوه"أبو أحمد": مترجم في الإصابة 7: 3-4، وابن سعد 7 / 1 / 76-77. وجزم الحافظ في الإصابة بأن اسمه"عبد" بدون إضافة، كما قال في الفتح. وفي ابن سعد أن اسمه"عبد الله". وأخشى أن يكون خطأ طابع أو ناسخ.
وقال الحافظ في الإصابة: "وكان أبو أحمد ضريرًا، يطوف بمكة أعلاها وأسفلها بغير قائد، وكانت عنده الفارعة بنت أبي سفيان بن حرب، وشهد بدرًا والمشاهد".(9/92)
الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، قد أنزل الله في الجهاد ما قد علمت، وأنا رجل ضرير البصر لا أستطيع الجهاد، فهل لي من رخصة عند الله إن قعدت؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أمرت في شأنك بشيء، وما أدري هل يكون لك ولأصحابك من رخصة! فقال ابن أم مكتوم: اللهم إني أنشدك بصري! فأنزل الله بعد ذلك على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله" إلى قوله:"على القاعدين درجة".
10244- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: نزلت:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، فقال رجل أعمى: يا نبي الله، فأنا أحب الجهادَ ولا أستطيع أن أجاهد! فنزلت:"غير أولي الضرر".
10245- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن عبد الله بن شداد قال: لما نزلت هذه الآية في الجهاد:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين"، قال عبد الله ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إنّي ضرير كما ترى! فنزلت:"غير أولي الضرر". (1)
10246- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر"، عذرَ الله أهل العذر من الناس فقال:"غير أولي الضرر"، كان منهم ابن أم مكتوم="والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم".
__________
(1) الحديث: 10245 - حصين: هو ابن عبد الرحمن السلمي.
وهذا الحديث مرسل، لأن عبد الله بن شداد بن الهاد الليثي: تابعي من كبار التابعين وثقاتهم. ولكنه لم يذكر عمن رواه. وإن كان أصل الحديث في ذاته صحيحًا، بما ثبت في الروايات السابقة. والحديث ذكره السيوطي 2: 204 - هكذا مرسلا. ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد.(9/93)
10247- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله" إلى قوله:"وكلاًّ وعد الله الحسنى"، لما ذكر فضلَ الجهاد، قال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إنّي أعمى ولا أطيق الجهاد! فأنزل الله فيه:"غير أولي الضرر".
10248- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن عبد الله النفيلي قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ادع لي زيدًا، وقل له يأتي= أو: يجيء= بالكتف والدواة= أو: اللوح والدواة= الشك من زهير= اكتب:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله"، فقال ابن أم مكتوم: يا رسول الله، إن بعيني ضررًا! فنزلت قبل أن يبرَح:"غير أولي الضرر". (1)
10249- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البَرَاء بنحوه= إلا أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ادع لي زيدًا، وليجئني معه بكتف ودواة= أو: لوح ودواة. (2)
__________
(1) الحديث: 10248 - هو والذي بعده من روايات حديث البراء، الذي مضى بالأسانيد: 10233-10237، كما أشرنا إليهما هناك.
وهو من هذا الوجه -رواه أحمد في المسند 4: 301 (حلبي) ، عن هاشم بن القاسم، عن زهير، وهو ابن معاوية، بهذا الإسناد.
(2) الحديث: 10249 - إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، راوية جده أبي إسحاق.
والحديث رواه البخاري 8: 196، عن محمد بن يوسف، عن إسرائيل.
ورواه البخاري أيضًا 9: 19 (فتح) ، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 39 (بتحقيقنا) ، من طريق محمد بن عثمان العجلي، عن عبيد الله بن موسى.(9/94)
10250- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبيد الله بن موسى عن إسرائيل، عن زياد بن فياض، عن أبي عبد الرحمن قال: لما نزلت:"لا يستوي القاعدون"، قال عمرو ابن أم مكتوم: يا رب، ابتليتني فكيف أصنع؟ قال: فنزلت:"غير أولي الضرر". (1)
وكان ابن عباس يقول في معنى:"غير أولي الضرر" نحوًا مما قلنا.
10251- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"غير أولي الضرر"، قال: أهل الضرر.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة"، فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، على القاعدين من أولي الضرر، درجة واحدة= يعني: فضيلة واحدة (2) = وذلك بفضل جهاده بنفسه، فأما فيما سوى ذلك، فهما مستويان، كما:-
__________
(1) الحديث: 10250 - زياد بن فياض الخزاعي الكوفي: مضت ترجمته وتوثيقه في: 1382.
وشيخه"أبو عبد الرحمن": لم أعرف من هو، ولم أجد قرينة تعين شيخًا بعينه؟ و"أبو عبد الرحمن": كنيته واسعة فيها كثرة كثيرة.
وأيا ما كان فهو -على الأكثر- من التابعين، لأن زياد بن فياض لا يرتفع في روايته فوق التابعين. فيكون الحديث مرسلا غير موصول.
وهكذا ذكره السيوطي 2: 204، على هذا الوجه من الإرسال، ونسبه لابن سعد، وعبد بن حميد، والطبري.
(2) انظر تفسير"الدرجة" فيما سلف 4: 533-536 / 7: 368.(9/95)
10252- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك: أنه سمع ابن جريج يقول في:"فضَّل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة"، قال: على أهل الضرر.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"وكلاًّ وعد الله الحسنى"، وعد الله الكلَّ من المجاهدين بأموالهم وأنفسهم، (1) والقاعدين من أهل الضرر="الحسنى"، ويعني جل ثناؤه: بـ "الحسنى"، الجنة، كما:-
10253- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وكلاًّ وعد الله الحسنى"، وهي الجنة، والله يؤتي كل ذي فضل فضلَه.
10254- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"الحسنى"، الجنة.
وأما قوله:"وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا"، فإنه يعني: وفضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين من غير أولي الضرر، أجرًا عظيمًا، كما:-
10255- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج،
__________
(1) انظر ما قاله في"كل" فيما سلف 3: 195 / 5: 509 / 6: 210.(9/96)
دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
عن أبي جريج:"وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا درجات منه ومغفرة"، قال: على القاعدين من المؤمنين غير أولي الضرر.
* * *
القول في تأويل قوله: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"درجات منه"، فضائل منه ومنازل من منازل الكرامة. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الدرجات" التي قال جل ثناؤه:"درجات منه".
فقال بعضهم بما:-
10256- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"درجات منه ومغفرة ورحمة"، كان يقال: الإسلام درجة، والهجرة في الإسلام درجة، والجهاد في الهجرة درجة، والقتل في الجهاد دَرَجة.
* * *
وقال آخرون بما:-
10257- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألت ابن زيد عن قول الله تعالى:"وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرًا عظيمًا درجات منه"،"الدرجات" هي السبع التي ذكرها في"سورة براءة": (مَا كَانَ لأهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ) فقرأ حتى بلغ:
__________
(1) انظر تفسير"الدرجة" فيما سلف 4: 533، 536 / 7: 368، وما مضى ص: 95، تعليق: 2(9/97)
(أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [سورة التوبة: 120-121] . قال: هذه السبع الدرجات. قال: وكان أول شيء، فكانت درجة الجهاد مُجْملة، فكان الذي جاهد بماله له اسمٌ في هذه، فلما جاءت هذه الدرجات بالتفصيل أخرج منها، فلم يكن له منها إلا النفقة، فقرأ: (لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ) ، وقال: ليس هذا لصاحب النفقة. ثم قرأ: (وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً) ، قال: وهذه نفقة القاعد.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك درجات الجنة.
ذكر من قال ذلك.
10258- حدثنا علي بن الحسن الأزدي قال، حدثنا الأشجعي، عن سفيان، عن هشام بن حسان، عن جبلة بن سحيم. عن ابن محيريز في قوله:"فضل الله المجاهدين على القاعدين"، إلى قوله:"درجات"، قال: الدرجات سبعون درجة، ما بين الدرجتين حُضْرُ الفرس الجواد المُضَمَّر سبعين سنة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بتأويل قوله:"درجات منه"، أن يكون معنيًّا به درجات الجنة، كما قال ابن محيريز. لأن قوله تعالى ذكره:"درجات منه": ترجمة وبيان عن قوله:"أجرًا عظيمًا"، ومعلوم أن"الأجر"، إنما هو الثواب والجزاء. (2)
__________
(1) الأثر: 10258 -"علي بن الحسين الأزدي"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة، وقد روى عنه في تاريخه في مواضع منها 1: 44، 49 / 6: 73، 143.
و"الأشجعي"، هو: "عبيد الله بن عبيد الرحمن الأشجعي" مضت ترجمته برقم: 8622. و"سفيان"، هو الثوري.
و"هشام بن حسان القردوسي" مضى برقم 2827، 7287.
و"جبلة بن سحيم" مضى برقم: 3003.
و"ابن محيريز"، هو عبد الله بن محيريز، مضى برقم: 8720.
و"حضر الفرس" ارتفاعه في عدوه، "أحضر الفرس يحضر إحضارًا"، عدا عدوًا شديدًا.
و"الفرس المضمر"، وهو الذي أعد إعدادًا للسباق والركض.
(2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف 8: 542، تعليق: 1، والمراجع هناك.(9/98)
وإذْ كان ذلك كذلك، وكانت"الدرجات" و"المغفرة" و"الرحمة" ترجمة عنه، كان معلومًا أن لا وجه لقول من وجَّه معنى قوله:"درجات منه"، إلى الأعمال وزيادتها على أعمال القاعدين عن الجهاد، كما قال قتادة وابن زيد: وإذ كان ذلك كذلك، وكان الصحيح من تأويل ذلك ما ذكرنا، فبيِّنٌ أن معنى الكلام: وفضل الله المجاهدين في سبيل الله على القاعدين من غير أولي الضرر، أجرًا عظيمًا، وثوابًا جزيلا وهو درجات أعطاهموها في الآخرة من درجات الجنة، رفعهم بها على القاعدين بما أبلوا في ذات الله.
* * *
="ومغفرة" يقول: وصفح لهم عن ذنوبهم، فتفضل عليهم بترك عقوبتهم عليها=
"ورحمة"، يقول: ورأفة بهم="وكان الله غفورًا رحيمًا"، يقول: ولم يزل الله غفورًا لذنوب عباده المؤمنين، يصفح لهم عن العقوبة عليها (1) ="رحيما" بهم، يتفضل عليهم بنعمه، مع خلافهم أمره ونهيه، وركوبهم معاصيه. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فيصفح" بزيادة الفاء، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الجيد.
(2) انظر تفسير"المغفرة"، و"الرحمة"، و"غفور" و"رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.(9/99)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إن الذين توفَّاهم الملائكة"، إن الذين تقبض أرواحهم الملائكة (1) ="ظالمي أنفسهم"، يعني: مكسبي أنفسهم غضبَ الله وسخطه.
* * *
وقد بينا معنى"الظلم" فيما مضى قبل. (2)
* * *
="قالوا فيم كنتم"، يقول: قالت الملائكة لهم:"فيم كنتم"، في أيِّ شيء كنتم من دينكم="قالوا كنا مستضعفين في الأرض"، يعني: قال الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم:"كنا مستضعفين في الأرض"، يستضعفنا أهل الشرك بالله في أرضنا وبلادنا بكثرة عددهم وقوتهم، فيمنعونا من الإيمان بالله، واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، معذرةٌ ضعيفةٌ وحُجَّة واهية="قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"، يقول: فتخرجوا من أرضكم ودوركم، (3) وتفارقوا من يمنعكم بها من الإيمان بالله واتباع رسوله صلى الله عليه وسلم، إلى الأرض التي
__________
(1) انظر تفسير"التوفي" فيما سلف 6: 455 / 8: 73.
(2) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.
(3) انظر تفسير"الهجرة" فيما سلف 4: 317، 318 / 7: 490.(9/100)
يمنعكم أهلها من سلطان أهل الشرك بالله، فتوحِّدوا الله فيها وتعبدوه، وتتبعوا نبيَّه؟ = يقول الله جل ثناؤه:"فأولئك مأواهم جهنم"، أي: فهؤلاء الذين وصفت لكم صفتهم= الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم="مأواهم جهنم"، يقول: مصيرهم في الآخرة جهنم، وهي مسكنهم (1) ="وساءت مصيرًا"، يعني: وساءت جهنم لأهلها الذين صاروا إليها (2) ="مصيرًا" ومسكنًا ومأوى. (3)
ثم استثنى جل ثناؤه المستضعفين الذين استضعفهم المشركون="من الرجال والنساء والولدان"، وهم العجزة عن الهجرة= بالعُسْرة، وقلّة الحيلة، وسوء البصر والمعرفة بالطريق= من أرضهم أرضِ الشرك إلى أرض الإسلام، من القوم الذين أخبر جل ثناؤه أن مأواهم جهنم: أن تكون جهنم مأواهم، للعذر الذي هم فيه، على ما بينه تعالى ذكره. (4)
* * *
ونصب"المستضعفين" على الاستثناء من"الهاء" و"الميم" اللتين في قوله:"فأولئك مأواهم جهنم". (5)
* * *
يقول الله جل ثناؤه:"فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم"، يعني: هؤلاء المستضعفين، يقول: لعل الله أن يعفو عنهم، للعذر الذي هم فيه وهم مؤمنون، فيفضل عليهم بالصفح عنهم في تركهم الهجرة، (6) إذ لم يتركوها اختيارًا ولا إيثارًا
__________
(1) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف 7: 279، 494.
(2) انظر تفسير"ساء" فيما سلف 8: 138، 358.
(3) انظر تفسير"المصير" فيما سلف 3: 56 / 6: 128، 317 / 7: 366.
(4) سياق هذه الجملة: "ثم استثنى الله المستضعفين ... وهم العجزة عن الهجرة ... من أرضهم ... ، من القوم ... أن تكون جهنم مأواهم"، كثر فيها تعلق حروف الجر بما سلف، فخشيت أن يتعب القارئ!!
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 284. هذا، وقد خالف أبو جعفر نهجه هذا، وأخر الكلام في قوله: "إن الذين توفاهم الملائكة" إلى آخر تفسير الآية ص: ...
(6) في المطبوعة: "فيتفضل"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/101)
منهم لدار الكفر على دار الإسلام، ولكن للعجز الذي هم فيه عن النّقلة عنها (1) ="وكان الله عفوًّا غفورًا" يقول: ولم يزل الله"عفوًّا" يعني: ذا صفح بفضله عن ذنوب عباده، بتركه العقوبة عليها="غفورًا"، ساترًا عليهم ذنوبهم بعفوه لهم عنها. (2)
* * *
وذكر أن هاتين الآيتين والتي بعدهما، نزلت في أقوام من أهل مكة كانوا قد أسلموا وآمنوا بالله وبرسوله، وتخلَّفوا عن الهجرة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين هاجر، وعُرِض بعضهم على الفتنة فافْتُتِن، (3) وشهد مع المشركين حرب المسلمين، فأبى الله قبول معذرتهم التي اعتذروا بها، التي بينها في قوله خبرًا عنهم:"قالوا كنا مستضعفين في الأرض".
* * *
ذكر الأخبار الواردة بصحة ما ذكرنا: من نزول الآية في الذين ذكرنا أنها نزلت فيهم.
10259- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا أشعث، عن عكرمة:"إن الذين توفّاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، قال: كان ناس من أهل مكة أسلموا، فمن مات منهم بها هلك، قال الله:"فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان" إلى قوله:"عفوًّا غفورًا= قال ابن عباس: فأنا منهم: وأمّي منهم= قال عكرمة: وكان العباس منهم.
10260- حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا محمد بن شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستخفون بالإسلام، فأخرجهم
__________
(1) في المخطوطة: "ولكن العجز"، والذي في المطبوعة أجود.
(2) انظر تفسير"عفو" و"غفور" في فهارس اللغة من الأجزاء السالفة.
(3) "الفتنة"، التعذيب الشديد الذي ابتلي به المؤمنون.(9/102)
المشركون يوم بدر معهم، فأصيب بعضهم، فقال المسلمون:"كان أصحابنا هؤلاء مسلمين، وأكرهوا"! فاستغفروا لهم، فنزلت:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم" الآية، قال: فكتب إلى من بقي بمكة من المسلمين بهذه الآية، لا عذر لهم. (1) قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة، فنزلت فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ) [سورة العنكبوت: 10] ، إلى آخر الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك، فحزنوا وأيسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم: (إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ، [سورة النحل: 110] ، فكتبوا إليهم بذلك:"إن الله قد جعل لكم مخرجًا"، فخرجوا فأدركهم المشركون، فقاتلوهم حتى نجا من نجا، وقُتِل من قتل. (2)
10261- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني حيوة= أو: ابن لهيعة، الشك من يونس=، عن أبي الأسود: أنه سمع مولَى لابن عباس يقول عن ابن عباس: إن ناسًا مسلمين كانوا مع المشركين يكثرون سَوَاد المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم، فيأتي السهم يرمى به، فيصيب أحدَهم
__________
(1) في المطبوعة: "وأنه لا عذر لهم"، بزيادة"وأنه"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في تفسير ابن كثير.
(2) الأثر: 10260 -"أحمد بن منصور بن سيار بن المعارك الرمادي"، شيخ الطبري، ثقة. مترجم في التهذيب.
و"أبو أحمد الزبيري" سلف مرارًا عديدة.
و"محمد بن شريك المكي" أبو عمارة قال أحمد وابن معين: "ثقة". مترجم في التهذيب. وهذا الأثر خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 552 من تفسير ابن أبي حاتم، عن أحمد بن منصور الرمادي، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 205، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن مردويه، والبيهقي في سننه. وهو في السنن الكبرى 9: 14، من طريق سعدان بن نصر، عن سفيان، عن عمرو، عن عكرمة، بغير هذا اللفظ.
وقوله: "فأعطوهم الفتنة" هكذا جاء في جميع المراجع، إلا تفسير ابن كثير، فإن فيه: "فأعطوهم التقية"، وهو خطأ، والصواب ما في التفسير والمراجع. ومعناها: كفروا بعد إسلامهم. وانظر التعليق على الأثر الآتي رقم: 10266.(9/103)
فيقتله، أو يُضرب فيقتل، فأنزل الله فيهم:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" حتى بلغ"فتهاجروا فيها".
10262- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، أخبرنا حيوة قال، أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي قال: قُطع على أهل المدينة بَعْث إلى اليمن، فاكتُتِبْتُ فيه، فلقيت عكرمة مولى ابن عباس. فنهاني عن ذلك أشدَّ النهي، ثم قال: أخبرني ابن عباس أن ناسًا مسلمين كانوا مع المشركين= ثم ذكر مثل حديث يونس، عن ابن وهب. (1)
10263- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي
__________
(1) الأثران: 10261، 10262 - رواه البخاري (الفتح 8: 197، 198) بالإسناد الثاني: 10262، "عن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة وغيره، قالا حدثنا محمد بن عبد الرحمن، أبو الأسود". ورواه البيهقي في السنن 9: 12 من طريق"محمد بن مسلمة الواسطي، عن عبد الله بن يزيد المقرئ، حدثنا حيوة ورجل قالا، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي" وقال: "رواه البخاري في الصحيح".
والظاهر أن الرجل المبهم في إسناد البخاري والبيهقي هو"ابن لهيعة" كما جاء في الإسناد الأول. هذا وقد نقل الحافظ في الفتح (8: 198) أن الطبراني قال: "لم يروه عن أبي الأسود إلا الليث واين لهيعة"، فقال الحافظ ابن حجر: "ورواية البخاري من طريق حيوة، ترد عليه. ورواية ابن لهيعة أخرجها ابن أبي حاتم أيضًا".
"أبو عبد الرحمن المقرئ" هو"عبد الله بن يزيد العدوي" مضى برقم: 318، 5451، 6743.
و"أبو الأسود" هو: "محمد بن عبد الرحمن بن نوفل الأسدي" وهو: "يتيم عروة"، مضى برقم: 2891.
قوله: "قطع على أهل المدينة بعث"، قال الحافظ ابن حجر: "أي: جيش، والمعنى: أنهم ألزموا بإخراج جيش لقتال أهل الشام. وكان ذلك في خلافة عبد الله بن الزبير على مكة" وأما "اكتتبت" فهي بالبناء للمجهول.
هذا، وقد كان في المطبوعة بحذف"إلى اليمن"، وهي ثابتة في المخطوطة لا شك فيها، ولكنها غير موجودة في سائر روايات الخبر. وهي دالة على أن الحافظ قد أخطأ في اجتهاده، إذ زعم أن الجيش خرج لقتال أهل الشأم. وكأنه استخرج ذلك استنباطًا ليبرئ عكرمة مما نسب إليه من رأي الخوارج. قال في الفتح (8: 198) : "وفي هذه القصة دلالة على براءة عكرمة مما ينسب إليه من رأي الخوارج، لأنه بالغ في النهي عن قتال المسلمين وتكفير سواد من يقاتلهم". وهذا موضع يحتاج إلى فضل تحقيق. كتبه محمود محمد شاكر.(9/104)
قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، هم قوم تخلَّفوا بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وتركوا أن يخرجوا معه، فمن مات منهم قبل أن يلحق بالنبي صلى الله عليه وسلم ضربت الملائكة وجهه ودُبُره.
10264- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم"، إلى قوله:"وساءت مصيرًا"، قال: نزلت في قيس بن الفاكه بن المغيرة، والحارث بن زمعة بن الأسود، وقيس بن الوليد بن المغيرة، وأبي العاص بن مُنبّه بن الحجاج وعلي بن أمية بن خلف. (1) قال: لما خرج المشركون من قريش وأتباعهم لمنع أبي سفيان بن حرب وعِيرِ قريش من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وأنْ يطلبوا ما نِيل منهم يوم نَخْلة، (2) خرجوا معهم شباب كارهين، (3)
__________
(1) هكذا جاءت أسماؤهم في المخطوطة والمطبوعة، والدر المنثور 2: 295، واتفاقهم جميعًا جعلني أتحرج في إثبات ما أعرفه صوابًا. وهؤلاء الذين قتلوا ببدر معروفة أسماؤهم في السير، وهذا صوابها من سيرة ابن هشام 2: 295، وإمتاع الأسماع 1: 20.
"أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة"
"أبو قيس بن الوليد بن المغيرة"
"العاص بن منبِّه بن الحجاج"
وأكبر ظني أن هذا خطأ من النساخ، لا خطأ في الرواية، وانظر الأثر الآتي رقم 10266.
(2) "يوم نخلة"، يعني سرية عبد الله بن جحش بن رئاب الأسدي إلى بطن نخلة بين مكة والطائف، سار إليها عبد الله وأصحابه حتى نزل نخلة، فمرت به عير لقريش، فيها عمرو بن الحضرمي، فقتلوا عمرًا، واستأسر من استأسر من المشركين. فأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة. فلما قدموا عليه قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام". انظر سيرة ابن هشام 2: 252-256، وإمتاع الأسماع 1: 55-58.
(3) في المطبوعة، والدر المنثور 2: 205، 206: "بشبان كارهين"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.(9/105)
كانوا قد أسلموا واجتمعوا ببدر على غير موعد، فقتلوا ببدر كفارًا، ورجعوا عن الإسلام، وهم هؤلاء الذين سميناهم= قال ابن جريج، وقال مجاهد: نزلت هذه الآية فيمن قتل يوم بدر من الضعفاء من كفار قريش= قال ابن جريج، وقال عكرمة: لما نزل القرآن في هؤلاء النفر إلى قوله:"وساءت مصيرًا إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، قال: يعني الشيخَ الكبيرَ والعجوزَ والجواري الصغار والغلمان.
10265- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وساءت مصيرًا"، قال: لما أسر العباس وعقيل ونَوْفل، (1) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس: افد نفسك وابني أخيك. (2) قال: يا رسول الله، ألم نصَلِّ قبلتك ونشهد شهادتك؟ قال: يا عباس، إنكم خاصمتم فَخُصِمتم! (3) ثم تلا هذه الآية:"ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا"، فيوم نزلت هذه الآية كان من أسلم ولم يهاجر، فهو كافر حتى يهاجر، إلا المستضعفين الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا حيلةً في المال، و"السبيل" الطريق. قال ابن عباس: كنت أنا منهم، من الوِلدان.
10266- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: كان ناس بمكة قد شهدوا أن لا إله إلا الله، فلما خرج المشركون إلى بدر أخرجوهم معهم، فقتلوا، فنزلت فيهم:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوًّا غفورًا"، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة
__________
(1) يعني: العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وابني أخويه: عقيل بن أبي طالب بن عبد المطلب، ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب.
(2) كان في المطبوعة والمخطوطة: "وابن أخيك" بالإفراد، وكأن الصواب بالتثنية كما أثبتها، وإفراد"أخيك" مع أنهما ابني أخويه أبي طالب والحارث، صواب أيضًا.
(3) "خصم" بالبناء للمجهول: أي غلب في الخصام، وهو الجدال والاحتجاج.(9/106)
إلى المسلمين الذين بمكة. قال: فخرج ناسٌ من المسلمين، حتى إذا كانوا ببعض الطريق طلبهم المشركون، فأدركوهم، فمنهم من أعطى الفتنة، (1) فأنزل الله فيهم: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ) [سورة العنكبوت: 10] ، فكتب بها المسلمون الذين بالمدينة إلى المسلمين بمكة، وأنزل الله في أولئك الذين أعطوا الفتنة: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا) إلى (غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة النحل: 110] (2)
= قال ابن عيينة: أخبرني محمد بن إسحاق في قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة"، قال: هم خمسة فتية من قريش: علي بن أمية، وأبو قيس بن الفاكه، وزمعة ابن الأسود، وأبو العاص بن منبه، ونسيت الخامس. (3)
10267- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، حُدِّثنا أن هذه الآية أنزلت في أناس تكلّموا بالإسلام من أهل مكة، فخرجوا مع عدوِّ الله أبي جهل، فقتلوا يوم بدر، فاعتذروا بغير عذر، فأبى الله أن يقبلَ منهم. وقوله:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، أناسٌ من أهل مكة عذَرهم الله فاستثناهم، فقال:"أولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوًّا غفورًا"= قال: وكان ابن عباس يقول: كنتُ أنا وأمي من الذين
__________
(1) "أعطوا الفتنة"، أي: كفروا بعد إسلامهم. وانظر التعليق على الأثر السالف رقم: 10260.
(2) انظر الأثر السالف رقم: 10260.
(3) انظر الأثر السالف رقم: 10264، وجاء هنا"أبو قيس بن الفاكه"، على الصواب، وانظر التعليق على الأثر السالف. ولكن جاء أيضًا هنا: "أبو العاص بن منبه"، والصواب: "العاص بن منبه" كما أسلفت في التعليق على الأثر السالف. وأما خامسهم في رواية ابن إسحاق، فهو أبو قيس بن الوليد كما سلف. وخبر ابن إسحاق هو في سيرة ابن هشام 2: 294، 295.(9/107)
لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا.
10268- حدثت عن الحسين بن الفرج قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، قال: هم أناس من المنافقين تخلَّفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يخرجوا معه إلى المدينة، وخرجوا مع مشركي قريش إلى بدر، فأصيبوا يومئذ فيمن أصيب، فأنزل الله فيهم هذه الآية.
10269- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته= يعني ابن زيد= عن قول الله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" فقرأ حتى بلغ:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، فقال: لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم وظَهر، ونَبَعَ الإيمان، نَبَع النّفاق معه. (1) فأتَى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجال فقالوا: يا رسول الله، لولا أنّا نخاف هؤلاء القوم يُعَذبوننا، ويفعلون ويفعلون، لأسلمنا، ولكنّا نشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله. فكانوا يقولون ذلك له. فلما كان يوم بدر، قام المشركون فقالوا: لا يتخلَّفُ عنا أحد إلا هَدَمنا داره واستبحنا ماله! فخرج أولئك الذين كانوا يقولون ذلك القول للنبيّ صلى الله عليه وسلم معهم، فقتلت طائفة منهم وأُسرت طائفة. قال: فأما الذين قتلوا، فهم الذين قال الله فيهم:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، الآية كلها="ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"، وتتركوا هؤلاء الذين يستضعفونكم="أولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا". قال: ثم عذَر الله أهلَ الصدق فقال:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدانِ لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون سبيلا"، يتوجَّهون له، لو خرجوا لهلكوا="فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم"، إقامَتهم بين ظَهْري المشركين. وقال الذين أسروا: يا رسول الله، إنك
__________
(1) "نبع"، من قوله: "نبع الماء"، إذا جرى وتفجر من بطن الأرض.(9/108)
تعلم أنا كنا نأتيك فنشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وأن هؤلاء القوم خرجنا معهم خوفًا! فقال الله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ) ، صنيعكم الذي صنعتم بخروجكم مع المشركين على النبي صلى الله عليه وسلم= (وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) خرجوا مع المشركين= (فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [سورة الأنفال: 70، 71] .
10270- حدثني محمد بن خالد بن خداش قال، حدثني أبي، عن حماد بن زيد، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن ابن عباس أنه قال: كنت أنا وأمي ممن عَذَر الله:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا". (1)
10271- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان"، قال ابن عباس: أنا من المستضعفين.
10272- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم"، قال: من قتل من ضُعفاء كفار قريش يوم بدر.
__________
(1) الأثر: 10270 -"محمد بن خالد بن خداش بن عجلان المهلبي". روى عن أبيه، قالوا: "وربما أغرب عن أبيه"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. وقد مضى ذكره في رقم: 2378.
وأبوه: "خالد بن خداش بن عجلان المهلبي". روى عن حماد بن زيد. وهو صدوق. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 8: 192) من طريق سليمان بن حرب، عن حماد بن زيد، ثم من طريق أبي النعمان، عن حماد بن زيد (الفتح 8: 198) ، والبيهقي في السنن 9: 13.(9/109)
10273- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
10274- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد قال: سمعت ابن عباس يقول: كنت أنا وأمي من المستضعفين من النساء والولدان. (1)
10275- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن علي بن زيد، عن عبد الله - أو: إبراهيم بن عبد الله القرشي- عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو في دبر صلاة الظهر:"اللهم خَلّص الوليد، وسلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، وضعفة المسلمين من أيدي المشركين، الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا". (2)
10276- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، قال: مؤمنون مستضعفون بمكة، فقال فيهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم:
__________
(1) الأثر: 10274 -"عبيد الله بن أبي يزيد المكي"، سلف برقم: 20، 3778 وكان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله"، وهو خطأ لا شك فيه.
والأثر رواه البخاري (الفتح 8: 192) من طريق عبد الله بن محمد عن سفيان بن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد. والبيهقي في السنن 9: 13.
(2) الأثر: 10275 -"علي بن زيد بن عبد الله بن أبي مليكة التيمي". روى عن أنس وسعيد بن المسيب وغيرهم. روى عنه الحمادان والسفيانان وغيرهم. كان كثير الحديث، وفيه ضعف، ولا يحتج به. وقال أحمد: "ليس بشيء". مترجم في التهذيب.
و"عبد الله" هو"عبد الله بن إبراهيم بن قارظ الكناني" حليف بني زهرة، ويقال هو"إبراهيم بن عبد الله بن قارظ"، يروي عن أبي هريرة، مترجم في التهذيب. وذكر الاختلاف في اسمه. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عبيد الله" وهو خطأ. وفي تفسير ابن كثير"عبد الله القرشي"، ولم يذكر الاختلاف، مع أنه رواه عن ابن جرير.
وهذا الحديث ضعيف، ولكن قال ابن كثير في تفسيره 2: 554: "ولهذا الحديث شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه"، يعني ما رواه البخاري (الفتح 8: 198) .(9/110)
هم بمنزلة هؤلاء الذين قتلوا ببدر ضعفاء مع كفار قريش. فأنزل الله فيهم:"لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، الآية.
10277- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
* * *
وأما قوله:"لا يستطيعون حيلة"، فإن معناه كما:-
10278- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة في قوله:"لا يستطيعون حيلة"، قال: نهوضًا إلى المدينة="ولا يهتدون سبيلا"، طريقًا إلى المدينة.
10279- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يهتدون سبيلا"، طريقًا إلى المدينة.
10280- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
10281- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الحيلة"، المال= و"السبيل"، الطريق إلى المدينة. (1)
* * *
وأما قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة"، ففيه وجهان: (2)
أحدهما: أن يكون"توفاهم" في موضع نصب، بمعنى المضيِّ، لأن"فعل" منصوبة في كل حال. (3)
__________
(1) انظر تفسير"السبيل" فيما سلف 1: 497، وسائر فهارس اللغة في الأجزاء السابقة، مادة (سبل) .
(2) أخر الطبري على غير عادته هذا الفصل من كلامه عن موضعه، كما أسلفت في موضع آخر.
(3) يعني بقوله"النصب"، الفتح. أي: أنه مبني على الفتح لأنه فعل ماض. وقوله: "فعل" أي الفعل الماضي.(9/111)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
والآخر: أن يكون في موضع رفع بمعنى الاستقبال، يراد به: إن الذين تتوفاهم الملائكة، فتكون إحدى"التاءين" من"توفاهم" محذوفةً وهي مرادة في الكلمة، لأن العرب تفعل ذلك، إذا اجتمعت تاءان في أول الكلمة، ربما حذفت إحداهما وأثبتت الأخرى، وربما أثبتتهما جميعًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن يهاجر في سبيل الله"، ومن يُفارق أرضَ الشرك وأهلَها هربًا بدينه منها ومنهم، إلى أرض الإسلام وأهلها المؤمنين (2) ="في سبيل الله"، يعني: في منهاج دين الله وطريقه الذي شرعه لخلقه، وذلك الدين القَيِّم (3) ="يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، يقول: يجد هذا المهاجر في سبيل الله="مراغمًا كثيرًا"، وهو المضطرب في البلاد والمذْهب.
* * *
يقال منه:"راغم فلانٌ قومه مراغمًا ومُرَاغمة"، مصدرًا، ومنه قول نابغة بني جعدة:
كَطَوْدٍ يُلاذُ بِأَرْكَانِهِ ... عَزِيزِ المُراغَمِ وَالمَهْرَبِ (4)
__________
(1) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 284.
(2) انظر تفسير"الهجرة" فيما سلف ص: 100، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"سبيل الله" في مراجع اللغة.
(4) ديوانه 22، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 138، اللسان (رغم) . والبيت من قصيدته التي في الديوان، ولكنه أفرد منها فلم يعرف مكانه. و"الطود": الجبل العظيم المنيف. ولست أدري على أي شيء تقع كاف التشبيه.(9/112)
وقوله:"وسعة"، فإنه يحتمل السِّعة في أمر دينهم بمكة، (1) وذلك منعُهم إياهم -كان- من إظهار دينهم وعبادة ربهم علانية. (2)
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه عمن خرج مهاجرًا من أرض الشرك فارًّا بدينه إلى الله وإلى رسوله، إن أدركته منيَّته قبل بلوغه أرضَ الإسلام ودارَ الهجرة فقال: من كان كذلك="فقد وقع أجرُه على الله"، وذلك ثوابُ عمله وجزاءُ هجرته وفراق وطنه وعشيرته إلى دار الإسلام وأهل دينه. (3) يقول جل ثناؤه: ومن يخرج مهاجرًا من داره إلى الله وإلى رسوله، فقد استوجب ثواب هجرته= إن لم يبلغ دارَ هجرته باخترام المنية إيّاه قبل بلوغه إياها (4) = على ربه="وكان الله غفورًا رحيمًا"، يقول: ولم يزل الله تعالى ذكره="غفورًا" يعني: ساترًا ذنوب عبادهِ المؤمنين بالعفو لهم عن العقوبة عليها="رحيمًا"، بهم رفيقًا. (5)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت بسبب بعض من كان مقيمًا بمكة وهو مسلم،
__________
(1) هكذا جاءت هذه العبارة في المطبوعة والمخطوطة، وهي غير مستقيمة. وظني أنه سقط من الناسخ شيء من كلام أبي جعفر، ولعله يكون هكذا:
"وقوله: "وسعة"، فإنه يحتمل السَّعةَ في الرِّزق، ويحتمل السعة في أمر دينهم، من ضيعتهم في أرض أهل الشرك بمكة، وذلك منعهم...."
فقوله: "وذلك منعهم"، تفسير"الضيق"، كما هو ظاهر من تأويل أبي جعفر. وانظر ما سيأتي في تأويل معنى"السعة" ص: 122.
(2) في المطبوعة. أسقط قوله: "كان" الموضوعة هنا بين الخطين، لظن الناشر أنها خطأ وزيادة. وهو كلام عربي محكم، يضعون"كان" هذا الموضع للدلالة على الماضي، فكأنه قال: "وهو ما كان من منعهم إياهم"، ولكن الناشر أخطأ معرفة معناه، فحذف"كان"، فأساء.
(3) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 98، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) "اخترمته المنية": أخذته من بين أصحابه وقطعته منهم. من"الخرم" وهو الشق والفصم، يقال: "ما خرمت منه شيئا" أي: ما نقصت وما قطعت.
(5) انظر تفسير"كان"، و"غفور"، و"رحيم" في مواضعها من فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.(9/113)
فخرج لما بلغه أن الله أنزل الآيتين قبلها، وذلك قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وكان الله عفوًّا غفورًا"، فمات في طريقه قبلَ بلوغه المدينة.
ذكر الأخبار الواردة بذلك:
10282- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله"، قال: كان رجل من خزاعة يقال له ضمرة بن العيص - أو: العيص بن ضمرة بن زنباع- قال: فلما أمروا بالهجرة كان مريضًا، فأمر أهله أن يفرُشوا له على سريره ويحملوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: ففعلوا، فأتاه الموتُ وهو بالتَّنعيِم، فنزلت هذه الآية. (1)
10283- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال: نزلت هذه الآية:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله، في ضمرة بن العيص بن الزنباع= أو فلان بن ضمرة بن العيص بن الزنباع= حين بلغ التنعيم ماتَ، فنزلت فيه.
10284- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن العَوَّام التيمي، بنحو حديث يعقوب، عن هشيم، قال: وكان رجلا من خُزاعة. (2)
__________
(1) الأثر: 10282 - أخرجه البيهقي في السنن 9: 14، 15، وهذه القصة قصة رجل واحد اختلف في اسمه واسم أبيه على أكثر من عشرة أوجه، هكذا قال الحافظ ابن حجر في الإصابة. وقد ساق أبو جعفر هنا من 10282 -10295 أكثر وجوه هذا الاختلاف في اسمه واسم أبيه. فتركت لذلك الإشارة إلى هذا الاختلاف في مواضعه من الآثار التالية.
و"التنعيم" موضع في الحل، بين مر وسرف، بينه وبين مكة فرسخان. ومن التنعيم يحرم من أراد العمرة من أهل مكة.
(2) الأثر: 10284 -"العوام التيمي"، لم أجد له ذكرًا في كتب التراجم، وأخشى أن يكون الصواب"العوام، عن التيمي"، يعني: "العوام بن حوشب الشيباني"، وهو يروي عن"إبراهيم التيمي". و"هشيم" يروي عن"العوام بن حوشب".(9/114)
10285- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغَمًا كثيرًا وسعة"، الآية، قال: لما أنزل الله هؤلاء الآيات، ورجل من المؤمنين يقال له:"ضمرة" بمكة، قال:"والله إنّ لي من المال ما يُبَلِّغني المدينة وأبعدَ منها، وإنِّي لأهتدي! أخرجوني"، وهو مريض حينئذ، فلما جاوز الحرَم قبضَه الله فمات، فأنزل الله تبارك وتعالى:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله"، الآية.
10286- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نزلت:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، قال رجل من المسلمين يومئذٍ وهو مريض:"والله ما لي من عُذْر، إني لدليلٌ بالطريق، وإنّي لموسِر، فاحملوني"، (1) فحملوه، فأدركه الموت بالطريق، فنزل فيه (2) "ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله".
10287- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت عكرمة يقول: لما أنزل الله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآيتين، قال رجل من بني ضَمْرة، وكان مريضًا:"أخرجوني إلى الرَّوْح"، (3) فأخرجوه، حتى إذا كان بالحَصْحاص
__________
(1) قوله: "لدليل بالطريق"، أي عارف به، يقال: "دللت بهذا الطريق دلالة"، أي: عرفته، فهو"دليل بين الدلالة".
(2) في المطبوعة: "فنزلت فيه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) قوله: "أخرجوني إلى الروح" (بفتح الراء وسكون الواو) : أي: إلى السعة والراحة وبرد النسيم. هذا تفسيره، وسيأتي في رقم: 10290"لعلي أن أخرج فيصببني روح"، أي: برد النسيم، وكان يجد الحر في مكة حتى غمه، كما سيأتي في الأثر: 10294.
وأما "الحصحاص"، فهو موضع بالحجاز، وقال ياقوت"جبل مشرف على ذي طوى"، يعني: بناحية مكة. ويقال فيه: "ذو الحصحاص"، قال شاعر حجازي: ألا لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَغَيَّرَ بَعْدَنَا ... ظِبَاءٌ بِذِي الَحصْحَاصِ نُجْلٌ عُيُونُهَا
وَلِي كَبِدٌ مَقْرُوحَةٌ قَدْ بَدَا بِهَا ... صُدُوعُ الهَوَى، لَوْ كَانَ قَيْنٌ يَقِينُهَا!(9/115)
مات، فنزل فيه:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله"، الآية.
10288- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن المنذر بن ثعلبة، عن علباء بن أحمر اليشكري قوله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"، قال: نزلت في رجل من خزاعة. (1)
10289- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة، عن الضحاك في قول الله جل وعز:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"، قال: لما سمع رجل من أهل مكة أن بني كنانة قد ضربتْ وجوهَهم وأدبارَهم الملائكةُ، قال لأهله:"أخرجوني"، وقد أدنفَ للموت. (2) قال: فاحتمل حتى انتهى إلى عَقَبة قد سماها، (3) فتوفَّي، فأنزل الله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله"، الآية. (4)
10290- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما سمع هذه (5) = يعني: بقوله:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وكان الله عفوًّا غفورًا" = ضمرةُ بن جندب
__________
(1) الأثر: 10288 -"ثعلبة بن المنذر بن حرب الطائي". و"علباء بن أحمر اليشكري"، مضيا برقم: 7190.
(2) يقال: "دنفت الشمس للمغيب" (على وزن: فرح) و"أدنفت"، إذا دنت للمغيب واصفرت، وكذلك يقال المريض: "دنف المريض وأدنف"، أي ثقل ودنا للموت. و"الدنف" (بفتحتين) المرض اللازم المخامر.
(3) "العقبة" (بفتحات) : طريق في الجبل وعر= أو: هو الجبل الطويل يعرض للطريق فيأخذ فيه.
(4) الأثر: 10289 - هذا الأثر ساقط من المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "لما سمع بهذه"، غير ما في المخطوطة، لقوله بعد: "يعني: بقوله.." ولا بأس بهذا التغيير، وإن كان ما في المخطوطة صوابا أيضًا.(9/116)
الضمري، قال لأهله، وكان وجعًا:"أرحلوا راحلتي، فإن الأخشبين قد غَمَّاني! " = يعني: جَبَلىْ مكة="لعلي أن أخرج فيصيبني رَوْح"! (1) فقعد على راحلته، ثم توجه نحو المدينة، فمات بالطريق، فأنزل الله:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله". وأما حين توجه إلى المدينة فإنه قال:"اللهم إني مهاجر إليك وإلى رسولك".
10291- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية= يعني قوله:"إن الذين توفاهم الملائكة"، قال جندب بن ضمرة الجُنْدَعي."اللهم أبلغتَ في المعذرة والحجّة، ولا معذرة لي ولا حُجَّة"! قال: ثم خرج وهو شيخ كبير، فمات ببعض الطريق، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: مات قبل أن يهاجر، فلا ندري أعلى ولايةٍ أم لا! فنزلت:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله".
10292- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول: لما أنزل الله في الذين قتلوا مع مشركي قريش ببدر:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" الآية، سمع بما أنزل الله فيهم رجل من بني لَيْثٍ كان على دين النبي صلى الله عليه وسلم مقيمًا بمكة، وكان ممن عَذَر الله، كان شيخًا كبيرًا وَصِبًا، (2) فقال لأهله:"ما أنا ببائت الليلة بمكة! "، فخُرِج به، (3) حتى إذا بلغ التَّنعيم من طريق المدينة أدركه
__________
(1) انظر التعليق السالف قريبًا: ص: 115، تعليق: 3.
(2) في المطبوعة: "وضيئًا"، وليس له معنى يقبل في هذا الموضع. وفي المخطوطة: "وصيا" بالياء، وهو تصحيف ما أثبته.
و"رجل وصب"، دام عليه المرض ولزمه وثبت عليه. و"الوصب" (بفتحتين) المرض الموجع الدائم.
(3) في المطبوعة: "فخرجوا به مريضًا"، وكأنه تصرف من النساخ أو الناشر الأول. وفي الدر المنثور 2: 208: "فخرجوا به" ليس فيه"مريضًا". وأثبت ما في المخطوطة: "فخرج به" بالبناء للمجهول.(9/117)
الموت، فنزل فيه"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله" الآية.
10293- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغَمًا كثيرًا وسعة"، قال: وهاجر رجل من بني كنانة يريد النبي صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق، فسخِر به قومه واستهزؤوا به وقالوا: لا هو بلغ الذي يريد، ولا هو أقام في أهله يقومون عليه ويدفن! قال: فنزل القرآن:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله".
10294- حدثنا أحمد بن منصور الرماديّ قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم"، فكان بمكة رجل يقال له"ضمرة"، (1) من بني بكر، وكان مريضًا، فقال لأهله:"أخرجوني من مكة، فإني أجد الحرّ". فقالوا: أين نخرجك؟ فأشار بيده نحو المدينة، فنزلت هذه الآية:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله" إلى آخر الآية.
10295- حدثني الحارث بن أبي أسامة قال، حدثنا عبد العزيز بن أبان قال، حدثنا قيس، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية:"لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر"، قال: رَخَّص فيها قوم من المسلمين ممن بمكة من أهل الضرر، (2) حتى نزلت فضيلة المجاهدين على القاعدين، فقالوا: قد بين الله فضيلةَ المجاهدين على القاعدين، ورخَّص لأهل الضرر! حتى نزلت:"إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم" إلى قوله:"وساءت مصيرًا"، قالوا: هذه موجبة! حتى نزلت:"إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا"، فقال ضَمْرة بن العِيص
__________
(1) في المطبوعة: "وكان بمكة" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ممن كان بمكة"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب محض.(9/118)
الزُّرَقي، أحد بني ليثٍ، وكان مُصَاب البصر:"إنيّ لذو حيلة، لي مال، ولي رقيق، فاحملوني". فخرج وهو مريض، فأدركه الموت عند التنعيم، فدفن عند مسجد التنعيم، فنزلت فيه هذه الآية:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت" الآية. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل"المراغم". (2)
فقال بعضهم: هو التحول من أرض إلى أرض.
*ذكر من قال ذلك:
10296- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"مراغَمًا كثيرًا"، قال: المراغَم، التحوّل من الأرض إلى الأرض.
10297- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"مراغمًا كثيرًا"، يقول: متحوَّلا.
10298- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي
__________
(1) الأثر: 10295 -"الحارث بن أبي أسامة" منسوب إلى جده، وهو: "الحارث بن محمد بن أبي أسامة التميمي"، ولد في شوال سنة 186، ومات يوم عرفة ضحوة النهار سنة 282، عن ست وتسعين سنة. وهو ثقة مترجم في تاريخ بغداد 8: 218، 219. يروي عنه أبو جعفر الطبري في التفسير، وفي التاريخ 11: 57، 58.
و"عبد العزيز بن أبان الأموي" من ولد"سعيد بن العاص". مترجم في التهذيب، وقال ابن معين: "كذاب خبيث يضع الأحاديث".
و"قيس"، هو"قيس بن الربيع"، مضى برقم: 159، 4842، وغيرها. * * *
هذا، وقد رأيت كيف اختلفوا في اسم الرجل الذي خرج مهاجرًا إلى الله ورسوله، وقد تركت التنبيه على ذلك، كما أسلفت، فإن تحقيق شيء من اسمه واسم أبيه يكاد يكون مستحيلا.
(2) في المخطوطة: "في تأويل الآية"، والصواب ما في المطبوعة، سها الناسخ.(9/119)
جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، قال: متحوَّلا.
10299- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن الحسن أو قتادة:"مراغمًا كثيرًا"، قال: متحوَّلا.
10300- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، قال: مندوحةً عما يكره.
* * *
10301- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"مراغمًا كثيرًا"، قال: مزحزحًا عما يكره.
10302- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"مراغمًا كثيرًا"، قال: متزحزحًا عما يكره.
وقال آخرون: مبتغَى معيشةٍ.
*ذكر من قال ذلك:
10303- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا"، يقول: مبتغىً للمعيشة.
* * *
وقال آخرون:"المراغَمُ"، المهاجر.
*ذكر من قال ذلك:
10304- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في(9/120)
قوله:"مراغمًا"، المراغَم، المهاجَر.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا أوْلَى الأقوال في ذلك بالصواب فيما مضى قبل. (1)
* * *
واختلفوا أيضًا في معنى:"السعة" التي ذكرها الله في هذا الموضع، فقال:"وسعة". فقال بعضهم: هي: السعة في الرزق.
*ذكر من قال ذلك:
10305- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"مراغمًا كثيرًا وسعة"، قال: السعة في الرزق.
10306- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"مراغمًا كثيرًا وسعة"، قال: السعة في الرزق.
10307- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وسعة"، يقول: سعة في الرزق.
* * *
وقال آخرون في ذلك ما:-
10308- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يجد في الأرض مراغمًا كثيرًا وسعة"، أي والله، من الضلالة إلى الهدى، ومن العَيْلة إلى الغِنى. (2)
__________
(1) انظر ما سلف ص: 112، 113.
(2) "العيلة": الفقر.(9/121)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله أخبرَ أن من هاجر في سبيله يجد في الأرض مضطرَبًا ومتَّسعًا. وقد يدخل في"السعة"، السعة في الرزق، والغنى من الفقر، ويدخل فيه السعة من ضيق الهمِّ والكرب الذي كان فيه أهل الإيمان بالله من المشركين بمكة، وغير ذلك من معاني"السعة"، التي هي بمعنى الرَّوْح والفرَج من مكروهِ ما كره الله للمؤمنين بمقامهم بين ظَهْري المشركين وفي سلطانهم. ولم يضع الله دِلالة على أنه عنى بقوله:"وسعة"، بعض معاني"السعة" التي وصفنا. فكل معاني"السعة" التي هي بمعنى الرَّوح والفرج مما كانوا فيه من ضيق العيش، وغم جِوار أهل الشرك، وضيق الصدر بتعذّر إظهار الإيمان بالله وإخلاص توحيده وفراق الأنداد والآلهة، داخلٌ في ذلك.
وقد تأول قوم من أهل العلم هذه الآية= أعني قوله:"ومن يخرُج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله"= أنها في حكم الغازي يخرج للغزو، فيدركه الموت بعد ما يخرج من منزله فاصلا فيموت، أنّ له سَهْمه من المغنَم، وإن لم يكن شهد الوقعة، كما:-
10309- حدثني المثنى قال، حدثنا يوسف بن عديّ قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن أهل المدينة يقولون:"من خرج فاصلا وجب سهمه"، وتأوّلوا قوله تبارك وتعالى:"ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله". (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 10309 -"يوسف بن عدي بن زريق التيمي"، كوفي، نزل مصر، ومات بها سنة 232. ثقة. مترجم في التهذيب.
و"يزيد بن أبي حبيب المصري" سلف برقم: 4348، 5493.(9/122)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذا ضربتم في الأرض"، وإذا سرتم أيها المؤمنون في الأرض، (1) ="فليس عليكم جناح"، يقول: فليس عليكم حرج ولا إثم (2) ="أن تقصروا من الصلاة"، يعني: أن تقصروا من عددها، فتصلوا ما كان لكم عدده منها في الحضر وأنتم مقيمون أربعًا، اثنتين، في قول بعضهم.
وقيل: معناه: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إلى أقلِّ عددها في حال ضربكم في الأرض= أشار إلى واحدة، في قولِ آخرين.
وقال آخرون: معنى ذلك: لا جناح عليكم أن تقصروا من حدود الصلاة. ="إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، يعني: إن خشيتم أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم. (3) وفتنتهم إياهم فيها: حملهم عليهم وهم فيها ساجدون حتى يقتلوهم أو يأسروهم، فيمنعوهم من إقامتها وأدائها، ويحولوا بينهم وبين عبادة الله وإخلاص التوحيد له. (4)
= ثم أخبرهم جل ثناؤه عما عليه أهل الكفر لهم فقال:"إن الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبينًا"، يعني: الجاحدين وحدانية الله (5) ="كانوا لكم عدوَّا مبينًا"،
__________
(1) انظر تفسير"الضرب في الأرض" فيما سلف 5: 593 / 7: 332.
(2) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف 8: 180، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"الخوف" فيما سلف 8: 298، 318، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير"الفتنة" فيما سلف 9: 28، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(5) في المطبوعة: "يعني: الجاحدون" بالرفع، والذي أثبت من المخطوطة، صواب محض، وهو الذي جرى عليه أبو جعفر في مثله من التفسير(9/123)
يقول: عدوًّا قد أبانوا لكم عداوتهم بمناصبتهم لكم الحرب على إيمانكم بالله وبرسوله، وترككم عبادة ما يعبدون من الأوثان والأصنام، ومخالفتكم ما هم عليه من الضلالة.
واختلف أهل التأويل في معنى:"القصر" الذي وضع الله الجُناح فيه عن فاعله. فقال بعضهم: في السفر، من الصلاة التي كان واجبًا إتمامها في الحضر أربعَ ركعات، (1) وأذِن في قصرها في السفر إلى اثنتين.
*ذكر من قال ذلك:
10310- حدثني عبيد بن إسماعيل الهبَّاري قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن منية قال: قلت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم"، وقد أمن الناس! فقال: عجبتُ مما عجبتَ منه، حتى سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صدَقته. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "تمامها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 10310 -"عبيد بن إسماعيل الهباري"، وهو"عبيد الله بن إسماعيل الهباري"، مضى برقم: 2890، 3185، 3325، 4888.
و"ابن إدريس"، هو"عبد الله بن إدريس الأودي"، مضى برقم: 438، 2030، 2890، وغيرها.
و"ابن أبي عمار"، هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار القرشي، هو"القس" صاحب"سلامة"، التي يقال لها"سلامة القس". وهو ثقة.
و"عبد الله بن بابيه" ثقة. (وهو بباء، بعدها ألف، بعدها باء مفتوحة، بعدها ياء ساكنة) . ويقال"عبد الله بن باباه".
و"يعلى بن منية"، هو"يعلى بن أمية المكي"، و"منية" جدته، نسب إليها. صحابي، روى عن النبي صلى الله عليه وسلم. وكان في المطبوعة في هذا الأثر والذي يليه جميعًا"يعلى بن أمية"، ولكن المخطوطة في هذا الأثر وحده، كان فيها ما أثبته.
وهذا الأثر رواه الإمام أحمد في مسنده رقم: 174، 244، 245، ورواه مسلم في صحيحه 5: 195، 196 بإسنادين. والبيهقي في السنن 3: 134، 140، 141، وأبو داود في سننه 2: 4، رقم: 1199، ورواه ابن ماجه رقم: 1065، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 557، 558.
وسيأتي بإسنادين آخرين بعد، وهو حديث صحيح. وقال علي بن المديني: "هذا حديث حسن صحيح من حديث عمر، ولا يحفظ إلا من هذا الوجه، ورجاله معروفون".(9/124)
10311- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن ابن أبي عمار، عن عبد الله بن بابيه، عن يعلى بن أمية، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
10312- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن ابن جريج قال، سمعت عبد الرحمن بن عبد الله بن أبي عمار يحدث، عن عبد الله بن بابيه يحدِّث، عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: أعجبُ من قصر الناس الصلاة وقد أمنوا، وقد قال الله تبارك وتعالى:"أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"! فقال عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فذكرتُ ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صدقة تصدَّق الله بها عليكم، فاقبلوا صَدقته. (1)
10313- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا أبو عوانة، عن قتادة، عن أبي العالية قال: سافرت إلى مكة، فكنت أصلّي ركعتين، فلقيني قُرَّاء من أهل هذه الناحية، فقالوا: كيف تصلي؟ قلت ركعتين. قالوا: أسنة أو قرآن؟ قلت: كلٌّ، سنة وقرآن، (2) [فقد] صلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. (3) قالوا: إنه كان في حرب! قلت: قال الله: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ
__________
(1) الأثران: 10311، 10312 - صحيحا الإسناد، وهما مكرر الذي قبله.
(2) في المطبوعة: "كل ذلك سنة وقرآن"، وأثبت ما في المخطوطة، والدر المنثور، وهو الصواب. والزيادة من الناسخ أو الناشر.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "قلت صلى رسول الله ... "، وقوله"قلت" ليست في الدر المنثور، فاستظهرت قراءتها كما أثبتها بين القوسين.(9/125)
رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ) [سورة الفتح: 27] ، وقال:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عيكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، فقرأ حتى بلغ:"فإذا اطمأننتم". (1)
10314- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي قال: سأل قومٌ من التجار رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إنا نضرب في الأرض، فكيف نصلي؟ فأنزل الله:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، ثم انقطع الوحي. فلما كان بعد ذلك بِحَوْلٍ، غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظُّهر، فقال المشركون: لقد أمْكَنكم محمد وأصحابه من ظهورهم، هلا شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم: إنّ لهم أخرى مثلها في إِثرها! فأنزل الله تبارك وتعالى بين الصلاتين:"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إنّ الكافرين كانوا لكم عدوًّا مبينًا وإذا كنت فيهم فأقمتَ لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك" إلى قوله:"إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا"، فنزلت صلاة الخوف. (2)
__________
(1) الأثر: 10212 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 209، وقصر نسبته إلى ابن جرير وحده.
(2) الأثر: 10314 - هذا الأثر خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 209، وابن كثير في تفسيره 2: 565، ولم ينسباه لغير ابن جرير.
وفي ابن كثير: "قال ابن جرير، حدثني ابن المثنى، حدثنا إسحاق ... "، مخالفا ما في المطبوعة والمخطوطة فجعله"ابن المثنى" يعني"محمد بن المثنى"، والطبري يروي عنهما جميعًا، عن"المثنى بن إبراهيم"، وعن"محمد بن المثنى"، ولكني أرجح أن الصواب ما في المطبوعة، لكثرة رواية المثنى عن إسحاق بن الحجاج الطاحوني، كما سلف مئات من المرات.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "يوسف، عن أبي روق"، والصواب"سيف" كما في تفسير ابن كثير. ومما سيأتي في كلام أبي جعفر. وهو سيف بن عمر التميمي، وهو متروك الحديث.
أما "عبد الله بن هاشم"، فلم أجد له ترجمة ولا ذكرًا.
وقد قال ابن كثير بعد أن ساق هذا الأثر: "وهذا سياق غريب جدًا، ولكن لبعضه شاهد من رواية أبي عياش الزرقي، واسمه زيد بن الصامت"، ثم ساق الأثر الآتي برقم: 10323، من رواية أحمد وأبي داود، كما سيأتي.
ورد أبي جعفر الآتي بعد، دال على تضعيفه هذا الحديث.(9/126)
قال أبو جعفر: وهذا تأويل للآية حسن، لو لم يكن في الكلام"إذا"، و"إذا" تؤذن بانقطاع ما بعدها عن معنى ما قبلها. (1) ولو لم يكن في الكلام"إذا"، كان معنى الكلام - على هذا التأويل الذي رواه سيف عن أبي روق: إن خفتم، أيها المؤمنون، أن يفتنكم الذين كفروا في صلاتكم، وكنت فيهم، يا محمد، فأقمت لهم الصلاة،"فلتقم طائفة منهم معك" الآية.
* * *
وبعد، فإن ذلك فيما ذُكر في قراءة أبيّ بن كعب: (2) (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) .
10315- حدثني بذلك الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا الثوري، عن واصل بن حيان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب، أنه كان يقرأ: (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، ولا يقرأ:"إن خفتم". (3)
10316- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا بكر بن شرود عن الثوري، عن واصل الأحدب، عن عبد الله بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبيّ بن كعب أنه قرأ: (أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ أَنْ يَفْتِنَكُم) ، قال بكر: وهي في"الإمام" مصحف عثمان رحمة الله عليه:"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا". (4)
__________
(1) يعني بذلك"إذا" في قوله تعالى: "وإذا كنت فيهم ... "
(2) في المخطوطة: "وبعدد فإن"، وهو من غريب سهو الناسخ في كتابته.
(3) الأثر: 10315 -"الحارث" هو"الحارث بن أبي أسامة" وهو"الحارث بن محمد بن أبي أسامة" سلف قريبًا برقم: 10295.
و"عبد العزيز" هو"عبد العزيز بن أبان الأموي" سلف برقم: 10295.
و"واصل بن حيان الأحدب" مضى برقم: 10.
(4) الأثر: 10316 -"بكر بن شرود" مضى برقم: 8562.(9/127)
وهذه القراءة تنبئ على أن قوله:"إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، مواصلٌ قوله:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة" (1) =، وأن معنى الكلام: وإذا ضربتم في الأرض، فإن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة= وأن قوله:"وإذا كنت فيهم"، قصة مبتدأة غير قصة هذه الآية.
وذلك أن تأويل قراءة أبيٍّ هذه التي ذكرناها عنه: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة أن لا يفتنكم الذين كفروا، فحذفت"لا" لدلالة الكلام عليها، كما قال جل ثناؤه: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) ، [سورة النساء: 176] ، بمعنى: أن لا تضلوا.
ففيما وصفنا دلالة بينة على فساد التأويل الذي رواه سيف، عن أبي روق.
* * *
وقال آخرون: بل هو القصر في السفر، غير أنه إنما أذن جل ثناؤه به للمسافر في حال خوفه من عدوٍّ يخشى أن يفتِنَه في صلاته.
*ذكر من قال ذلك:
10317- حدثني أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري قال، حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد قال، حدثني محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال: سمعت أبي يقول: سمعت عائشة تقول في السفر: أتموا صلاتكم. فقالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي في السفر ركعتين؟
__________
(1) في المخطوطة: "وهي في الإمام مصحف عثمان رحمة الله عليه: "إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا" من أصل قوله: "فليس عليكم جناح" ... وأن معنى الكلام...."، وهي عبارة فاسدة مضطربة، كأن ناسخًا غير ناسخنا، أو كأن الناشر، زاد أحدهما"وهذه القراءة.." إلخ، حتى اتصل الكلام واستقام، فتركت ما في المطبوعة على حاله، إلا أنه كتب"تنبئ على أن قوله"، فجعلتها"تنبئ عن أن قوله ... ". وتصحيحه"من أصل" فجعلها"مواصل" هو الصواب إن شاء الله.(9/128)
فقالت: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حرب، وكان يخاف، هل تخافون أنتم؟ . (1)
10318- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا ابن أبي فديك قال، حدثنا ابن أبي ذئب، عن ابن شهاب، عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد: أنه قال لعبد الله بن عمر: إنا نجد في كتاب الله قصْرَ صلاة الخوف، (2) ولا نجد قصر صلاة المسافر؟ فقال عبد الله: إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملا عملنا به. (3)
10319- حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن عائشة كانت تصلي في السفر ركعتين.
10320- حدثنا سعيد بن يحيى قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريج قال: قلت لعطاء: أيُّ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتم الصلاة في السفر؟ قال: عائشة وسعد بن أبي وقاص.
* * *
__________
(1) الأثر: 10317 -"أبو عاصم عمران بن محمد الأنصاري"، شيخ الطبري، لم أجد له ترجمة. و"عبد الكبير بن عبد المجيد، أبو بكر الحنفي" مضى برقم: 6822.
وأما "محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق" فهو ثقة. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 2: 210، "عمر" مكان"محمد"، وهو خطأ، والناسخ كثيرًا ما يكتب"محمد""عمر" كما مر في مواضع كثيرة.
وأبوه: "عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق"، المعروف بابن أبي عتيق. روى عن عمة أبيه عائشة، وروى عنه ابناه، عبد الرحمن ومحمد (المذكور قبل) .
وهذا الأثر لم أجده في شيء من دواوين السنة التي بين يدي، وخرجه السيوطي في الدر المنثور، ولم ينسبه لغير ابن جرير.
(2) في المطبوعة: "قصر الصلاة في الخوف"، وفي المخطوطة: "قصر الصلاة الخوف"، وصوابها من تفسير ابن كثير.
(3) الأثر: 10318 - خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 561، والدر المنثور 2: 210، ولم ينسباه لغير ابن جرير. وأخرجه البيهقي في سننه 3: 136 من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب. وقال البيهقي: "ورواه الليث، عن ابن شهاب، عن عبد الله بن أبي بكر، وأسنده جماعة عن ابن شهاب فلم يقيموا إسناده".(9/129)
وقال آخرون: بل عنى بهذه الآية قصر صلاة الخوف، في غير حال المُسَايفة. قالوا: وفيها نزل.
*ذكر من قال ذلك:
10321- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، قال: يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان، والمشركون بضَجْنَان، فتواقفوا، (1) فصلّى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين= أو: أربعًا، شك أبو عاصم= ركوعهم وسجودهم وقيامهم معًا جميعًا، فهمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمْتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله عليه:"فلتقم طائفة منهم معك"، فصلَّى العصر، فصفَّ أصحابه صَفَّين، ثم كبَّر بهم جميعًا، ثم سجد الأولون سجدة، والآخرون قيام،
__________
(1) "تواقف الفريقان في القتال"، كفا ساعة عن القتال. وفي المطبوعة: "توافقوا" بتقديم الفاء على القاف، وهو خطأ.(9/130)
ثم سجد الآخرون حين قام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبر بهم وركعوا جميعًا، فتقدم الصف الآخر واستأخر الأوَّل، فتعاقبوا السجود كما فعلوا أول مرة، وقصَرَ العصرَ إلى ركعتين.
10322- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعُسْفان والمشركون بضَجْنَان، فتواقفوا، (1) فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر ركعتين، ركوعهم وسجودهم وقيامهم جميعًا، فهم بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم، فأنزل الله تبارك وتعالى:"فلتقم طائفة منهم معك"، فصلَّى بهم صلاة العصر، فصفّ أصحابه صفّين، ثم كبر بهم جميعًا، ثم سجد الأولون لسجوده، (2) والآخرون قيام لم يسجدوا، حتى قام النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كبَّر بهم وركعوا جميعًا، فتقدم الصفُّ الآخر واستأخر الصف المقدم، فتعاقبوا السجود كما دخلوا أوّل مرة، وقصرت صلاة العصر إلى ركعتين.
10323- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزُّرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد. قال: فصلَّينا الظهر، فقال المشركون: لقد كانوا على حالٍ، لو أردنا لأصبنا غِرَّة، لأصبنا غفلة. (3) فأنزلت آية القَصر بين الظهر والعصر، فأخذ الناس السلاحَ وصفّوا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم مستقبلي القبلة والمشركون مُسْتَقْبَلهم، (4) فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكبَّروا جميعًا، ثم ركع وركعوا جميعًا، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصفُّ الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء، ثم نكصَ الصفّ الذي يليه وتقدم الآخرون، فقاموا في مقامهم، فركع رسول الله صلى الله عليه وسلم فركعوا جميعًا، ثم رفع رأسه فرفعوا جميعًا، ثم سجد وسجد الصف الذي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم. فلما فرغ هؤلاء من سجودهم سجد هؤلاء الآخرون، ثم استووْا معه، فقعدوا جميعًا، ثم سلم عليهم جميعًا، فصلاها بعُسْفان، وصلاها يوم بني سُلَيْم. (5)
10324- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان النحوي، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي= وعن إسرائيل، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُسفان، ثم ذكر نحوه. (6)
__________
(1) "تواقف الفريقان في القتال"، كفا ساعة عن القتال. وفي المطبوعة: "توافقوا" بتقديم الفاء على القاف، وهو خطأ.
(2) في المطبوعة: "بسجوده" بالباء وأثبت ما في المخطوطة، وهو جيد.
(3) في المطبوعة: "كانوا على حال"، أسقط "لقد"، لأن ناسخ المخطوطة كتبها"لو كانوا ... "، والصواب ما أثبت.
(4) في المطبوعة والمخطوطة"مستقبلهم" (وقراءتها بضم الميم وسكون السين وفتح الباء) ، يعني: أمامهم. وكان المشركون يومئذ بينهم وبين القبلة.
(5) الأثر: 10323، 10324 - ساق أبو جعفر هذا الأثر من ثلاث طرق، وسيأتي بإسناد آخر رقم: 10387 وهو حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده 4: 59، 60 من طريقين. من طريق عبد الرازق، عن الثوري عن منصور= ومن طريق غندر، عن شعبة عن منصور.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 191، 192 من طريق ورقاء عن منصور.
ورواه النسائي في السنن 3: 176، 177، من طريق شعبة عن منصور= ومن طريق عبد العزيز بن عبد الصمد عن منصور.
ورواه أبو داود في سننه 2: 16 رقم: 1236، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور، كإسناد أبي جعفر الأول.
ورواه الحاكم في المستدرك 1: 337 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وقال الذهبي: على شرطهما.
ورواه البيهقي في السنن في موضعين 3: 254 من طريق ورقاء عن منصور. ثم 3: 256، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور.
قال البيهقي: "وهذا إسناد صحيح، وقد رواه قتيبة بن سعيد، عن جرير، فذكر فيه سماع مجاهد من أبي عياش زيد بن الصامت الزرقي". وقال ابن كثير في تفسيره 2: 566، 567: "هذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة".
(6) الأثر: 10323، 10324 - ساق أبو جعفر هذا الأثر من ثلاث طرق، وسيأتي بإسناد آخر رقم: 10387 وهو حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده 4: 59، 60 من طريقين. من طريق عبد الرازق، عن الثوري عن منصور= ومن طريق غندر، عن شعبة عن منصور.
ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 191، 192 من طريق ورقاء عن منصور.
ورواه النسائي في السنن 3: 176، 177، من طريق شعبة عن منصور= ومن طريق عبد العزيز بن عبد الصمد عن منصور.
ورواه أبو داود في سننه 2: 16 رقم: 1236، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور، كإسناد أبي جعفر الأول.
ورواه الحاكم في المستدرك 1: 337 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". وقال الذهبي: على شرطهما.
ورواه البيهقي في السنن في موضعين 3: 254 من طريق ورقاء عن منصور. ثم 3: 256، من طريق جرير بن عبد الحميد عن منصور.
قال البيهقي: "وهذا إسناد صحيح، وقد رواه قتيبة بن سعيد، عن جرير، فذكر فيه سماع مجاهد من أبي عياش زيد بن الصامت الزرقي". وقال ابن كثير في تفسيره 2: 566، 567: "هذا إسناد صحيح وله شواهد كثيرة".(9/131)
10325- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن سليمان اليشكري: أنه سأل جابر بن عبد الله عن إقصار الصلاة: أي يوم أنزل؟ أو: أيَّ يوم هو؟ فقال جابر: انطلقنا نتلقى عِير قريش آتية من الشأم، حتى إذا كنا بنخل، جاء رجلٌ من القوم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد! قال: نعم. قال: هل تخافني؟ قال: لا! قال: فمن يمنعك مني؟ قال: الله يمنعني منك! قال: فسلَّ السيف، ثم هَدَّده وأوعده، ثم نادى بالرَّحيل وأخْذِ السلاح، ثم نودي بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطائفة من القوم وطائفة أخرى يحرسونهم، فصلى بالذين يلونه ركعتين، ثم تأخر الذين يلونه على أعقابهم فقاموا في مصَافِّ أصحابهم، ثم جاء الآخرون فصلى بهم ركعتين والآخرون يحرسونهم، ثم سلم. فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم أربعُ ركعات، وللقوم ركعتين ركعتين، فيومئذ أنزل الله في إقصار الصلاة وأمر المؤمنين بأخْذِ السلاح. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بها قصر صلاة الخوف في حال غير شدة الخوف،
__________
(1) الأثر: 10325 -"سليمان اليشكري" هو: سليمان بن قيس اليشكري. روى عن جابر، وأبي سعيد الخدري. وروى عنه قتادة، وعمرو بن دينار، وأبو بشر جعفر بن أبي وحشية. قال البخاري: "يقال إنه مات في حياة جابر بن عبد الله، ولم يسمع منه قتادة، ولا أبو بشر، ولا نعرف لأحد منهم سماعًا، إلا أن يكون عمرو بن دينار، سمع منه في حياة جابر". وقال أبو حاتم: "جالس جابرًا فسمع منه وكتب عنه صحيفة، فتوفى وبقيت الصحيفة عند امرأته. فروى أبو الزبير وأبو سفيان والشعبي عن جابر، وهم قد سمعوا من جابر، وأكثره من الصحيفة، وكذلك قتادة"، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 32، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 136.
وهذا الخبر، رواه أحمد في مسنده 3: 364، 390، من طريق أبي عوانة عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، بغير هذا اللفظ، وبمعناه.
وأشار إلى خبر سليمان بن قيس، أبو داود في سننه 2: 24، والبيهقي في السنن 3: 259، ومعاني الآثار للطحاوي 1: 187.
وقال ابن كثير في تفسيره 2: 568، وذكر حديث أحمد في المسند، وقال: "تفرد به من هذا الوجه".(9/132)
إلا أنه عنى به القصر في صلاة السفر لا في صلاة الإقامة. (1) قالوا: وذلك أن صلاة السفر في غير حال الخوف ركعتان، تمامٌ غير قصرٍ، كما أن صلاة الإقامة أربعُ ركعات في حال الإقامة. قالوا: فقصرت في السفر في حال الأمن غير الخوف عن صلاة المقيم، فجعلت على النصف، وهي تمامٌ في السفر. ثم قصرت في حال الخوف في السفر عن صلاة الأمن فيه، فجعلت على النصف، ركعة.
*ذكر من قال ذلك:
10326- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا"، إلى قوله:"عدوًّا مبينًا"، إن الصلاة إذا صليت ركعتين في السفر فهو تمام. (2) والتقصير لا يحلّ، إلا أن تخاف من الذين كفروا أن يفتنوك عن الصلاة. والتقصير ركعة: يقوم الإمام ويقوم جنده جندين، طائفة خلفه، وطائفة يوازون العدوّ، فيصلّي بمن معه ركعة، ويمشون إليهم على أدبارهم حتى يقوموا في مقام أصحابهم، وتلك المشية القَهْقرى. ثم تأتي الطائفة الأخرى فتصلي مع الإمام ركعة أخرى، ثم يجلس الإمام فيسلم، فيقومون فيصلّون لأنفسهم ركعة، ثم يرجعون إلى صفهم، ويقوم الآخرون فيضيفون إلى ركعتهم ركعة. والناس يقولون: لا بل
__________
(1) في المطبوعة: "القصر في صلاة السفر، لا في صلاة الإقامة" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فهي تمام"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب أيضًا.(9/133)
هي ركعة واحدة، لا يصلي أحد منهم إلى ركعته شيئًا، تجزئه ركعة الإمام. فيكون للإمام ركعتان، ولهم ركعة. فذلك قول الله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى قوله:"وخذوا حذركم".
10327- حدثني أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك الحنفي قال: سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان تمام غير قصر، إنما القصر صلاة المخافة. فقلت: وما صلاة المخافة؟ قال: يصلي الإمام بطائفة ركعة، ثم يجيء هؤلاء مكان هؤلاء، ويجيء هؤلاء مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولكل طائفة ركعة ركعة. (1)
10328- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير قال: كيف تكون قصرًا وهم يصلون ركعتين؟ إنما هي ركعة.
10329- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية قال، حدثنا المسعودي قال، حدثني يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف ركعة. (2)
10330- حدثني أحمد بن عبد الرحمن قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث قال، حدثني بكر بن سوادة: أن زياد بن نافع حدثه عن كعب= وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قُطعت يده يوم اليَمامة=: أن صلاة الخوف لكل طائفة، ركعة وسجدتان. (3)
__________
(1) الأثر: 10327 - رواه البيهقي في السنن 3: 263، وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 210، وزاد نسبه إلى عبد بن حميد. وأشار إليه أبو داود في السنن 2: 23.
(2) الأثر: 10329-"يزيد الفقير" هو"يزيد بن صهيب"، وهذا الأثر بهذا الإسناد، مضى برقم: 5563.
(3) الأثر: 10330 -"أحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري" و"عبد الله بن وهب"، مضيا، برقم: 2747.
و"عمرو بن الحارث بن يعقوب الأنصاري" مضى برقم: 1387، 6889.
و"بكر بن سوادة بن ثمامة الجذامي المصري". تابعي ثقة، مترجم في التهذيب.
و"زيادة بن نافع التجيبي المصري"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"كعب" الأقطع، مترجم في الإصابة، والكبير للبخاري 4 / 1 / 222. وهذا الأثر ساقه الحافظ ابن حجر في ترجمة"كعب الأقطع"، وقال: "أظن في إسناده انقطاعًا، فقد علقه البخاري من طريق زياد بن نافع، عن أبي موسى الغافقي، عن جابر بن عبد الله. وقال البخاري في التاريخ، كعب قطعت يده يوم اليمامة، له صحبة. روى عنه زياد بن نافع".(9/134)
واعتل قائلو هذه المقالة من الآثار بما:-
10331- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أشعث بن أبي الشعثاء، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زَهدم اليربوعي قال: كنا مع سعيد بن العاص بطبرستان فقال: أيكم يحفظ صلاةَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخوف؟ فقال حذيفة: أنا. فأقامنا خلفه صفًّا، وصفًّا موازيَ العدو، (1) فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهب هؤلاء إلى مصافِّ أولئك، وجاء أولئك فصلى بهم ركعة. (2)
10332- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى وعبد الرحمن قالا حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "وصف موازي العدو"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الموافق لما في روايات الحديث.
(2) الأثر: 10331 - وسيأتي بإسناد آخر رقم: 10333.
"أشعث بن أبي الشعثاء" هو: أشعث بن سليم بن أسود المحاربي، من ثقات شيوخ الكوفيين، مترجم في التهذيب.
و"الأسود بن هلال المحاربي"، كان جاهليًا، أدرك الإسلام. روى عن معاذ بن جبل، وعمر، وابن مسعود. مترجم في التهذيب.
و"ثعلبة بن زهدم الحنظلي"، مختلف في صحبته، روى عن حذيفة وأبي مسعود، وعامة روايته عن الصحابة. مترجم في التهذيب.
وهذا الأثر رواه أحمد في مسنده 5: 385، 399، 404، وأبو داود في السنن 2: 23 رقم: 1246، والنسائي في السنن 3: 167، 168 والبيهقي، في سننه 3: 261، والحاكم في المستدرك 1: 335 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. والطحاوي في معاني الآثار 1: 183.
وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 212، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن حبان.(9/135)
سفيان، عن الرُّكين بن الربيع، عن القاسم بن حسان قال: سألت زيد بن ثابت عنه فحدثني، بنحوه. (1)
10333- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأشعث، عن الأسود بن هلال، عن ثعلبة بن زهدم اليربوعي، عن حذيفة بنحوه. (2)
10334- حدثنا ابن بشار قال، حدثني يحيى قال، حدثنا سفيان قال، حدثني أبو بكر بن أبي الجهم، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بذي قَرَد، فصفّ الناس خلفه صفين، صفًّا خلفه، وصفًّا موازي العدو، فصلى بالذين خلفه ركعة، ثم انصرف هؤلاء إلى مكان هؤلاء، وجاء أولئك، فصلى بهم ركعة. ولم يَقْضوا. (3)
__________
(1) الأثر: 10332 -"ركين بن الربيع بن عميلة الفزاري". ثقة كوفي.
و"القاسم بن حسان العامري". ذكره ابن حبان في الثقات، قال الحافظ ابن حجر: في أتباع التابعين، ومقتضاه أنه لم يسمع من زيد بن ثابت، ثم وجدته قد ذكره (يعني ابن حبان) في التابعين أيضًا".
وقد ساق الخبر، البيهقي في سننه 3: 262، وفيه تصريح بسماعه عن زيد بن ثابت، قال: "عن القاسم بن حسان قال: أتيت فلان بن وديعة فسألته عن صلاة الخوف فقال: إيت زيد بن ثابت فاسأله، فأتيت زيدًا فسألته ... " وساق الخبر. وانظر معاني الآثار للطحاوي 1: 183.
(2) الأثر: 10333 - انظر التعليق على الأثر: 10331.
(3) الأثر: 10334 -"أبو بكر بن أبي الجهم"، هو: "أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم العدوي" نسب إلى جده. كما في التهذيب، وفي الكنى للبخاري: 13"أبو بكر ابن أبي الجهم بن صخير"، وفي ابن أبي حاتم 4 / 2 / 338: "أبو بكر بن عبد الله بن أبي الجهم بن صخير"، وقال الحافظ ابن حجر في التهذيب: "واسم أبي الجهم، صخير"، كان فقيهًا، ثقة، قال ابن سعد: "كان قليل الحديث". مترجم في التهذيب. وانظر ما كتبه أخي السيد أحمد في شرح مسند أحمد.
و"عبيد الله بن عبد الله" هو ابن عتبة بن مسعود الهذلي، تابعي، كان عالمًا ثقة كثير الحديث والعلم، تقيًا، شاعرًا محسنًا، وكان أحد فقهاء المدينة، وهو معلم عمر بن عبد العزيز.
وهذا الأثر رواه أحمد في مسنده: 2063، 3364، وإسناده صحيح. وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك. وانظر معاني الآثار للطحاوي 1: 182.(9/136)
10335- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أبي بكر بن صخير، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس مثله. (1)
10336- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم عليه السلام في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعةً.
10337- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله. (2)
10338- حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزديّ قال، حدثنا المحاربي، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله. (3)
10339- حدثنا يعقوب بن ماهان قال: حدثنا القاسم بن مالك، عن أيوب بن عائذ الطائي، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس مثله. (4)
__________
(1) الأثر: 10335 -"أبو بكر بن صخير"، هو"أبو بكر بن أبي الجهم"، في الإسناد السابق، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن صحير" بالحاء المهملة، وهو خطأ.
(2) الأثران: 10336، 10337 -"أبو عوانة" هو: "الوضاح بن عبد الله اليشكري"، مضى برقم: 4498.
و"بكير بن الأخنس" كوفي ثقة
وهذا الأثر رواه أحمد في المسند رقم: 2124، 2293، وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك. ورواه مسلم أيضًا 5: 196.
(3) الأثران: 10338، 10339 -"نصر بن عبد الرحمن الأزدي" سبق برقم: 423، 875، 2859، وقد بين أخي السيد أحمد أن صحة نسبته"الأزدي" لا"الأودي" بالواو. وكان في المطبوعة هنا أيضًا"الأودي". وهذا التكرار يوجب على أن أشك في أمر هذه النسبة، وأخشى أن يكون دخل على أخي بعض اللبس فيها، ولكني لم أستطع تحقيق هذا الموضع من المراجع التي هي تحت يدي الآن. ومع ذلك فقد تابعته في تصحيح"الأودي" إلى"الأزدي".
و"المحاربي" هو"عبد الرحمن بن محمد المحاربي" مضى برقم: 221، 875. و"أيوب بن عائذ بن مدلج الطائي" ثقة، مترجم في الكبير 1 / 1 / 420.
وهذا الأثر بهذا الإسناد رواه أحمد في المسند رقم: 2177 من طريق القاسم بن مالك الآتي، وهو إسناد صحيح، انظر شرح أخي السيد أحمد هناك. ورواه مسلم 5: 197.
وأما الأثر: 10339، ففيه"يعقوب بن ماهان" وقد مضى برقم: 4901.
وأما "القاسم بن مالك المزني"، من شيوخ أحمد، ثقة. مترجم في التهذيب.
(4) الأثران: 10338، 10339 -"نصر بن عبد الرحمن الأزدي" سبق برقم: 423، 875، 2859، وقد بين أخي السيد أحمد أن صحة نسبته"الأزدي" لا"الأودي" بالواو. وكان في المطبوعة هنا أيضًا"الأودي". وهذا التكرار يوجب على أن أشك في أمر هذه النسبة، وأخشى أن يكون دخل على أخي بعض اللبس فيها، ولكني لم أستطع تحقيق هذا الموضع من المراجع التي هي تحت يدي الآن. ومع ذلك فقد تابعته في تصحيح"الأودي" إلى"الأزدي".
و"المحاربي" هو"عبد الرحمن بن محمد المحاربي" مضى برقم: 221، 875. و"أيوب بن عائذ بن مدلج الطائي" ثقة، مترجم في الكبير 1 / 1 / 420.
وهذا الأثر بهذا الإسناد رواه أحمد في المسند رقم: 2177 من طريق القاسم بن مالك الآتي، وهو إسناد صحيح، انظر شرح أخي السيد أحمد هناك. ورواه مسلم 5: 197.
وأما الأثر: 10339، ففيه"يعقوب بن ماهان" وقد مضى برقم: 4901.
وأما "القاسم بن مالك المزني"، من شيوخ أحمد، ثقة. مترجم في التهذيب.(9/137)
10340- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف، فقام صفٌّ بين يديه وصف خلفه، فصلى بالذين خلفه ركعةً وسجدتين، ثم تقدم هؤلاء حتى قاموا مقام أصحابهم، وجاء أولئك حتى قاموا مقام هؤلاء، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة وسجدتين، ثم سلم، فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم ركعتين، ولهم ركعة. (1)
10341- حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن بكر بن سوادة حدثه، عن زياد بن نافع حدثه، عن أبي موسى: أن جابر بن عبد الله حدثهم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم صلاة الخوف يوم محارب وثعلبة، لكل طائفة ركعة وسجدتين. (2)
10342- حدثني أحمد بن محمد الطوسي قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا سعيد بن عبيد الهنائي قال، حدثنا عبد الله بن شقيق قال، حدثنا أبو هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل بين ضَجْنان وعُسْفان، فقال المشركون: إن لهؤلاء صلاة هي أحبَّ إليهم من أبنائهم وأبْكارهم، وهي العصر، فأجمعوا أمركم فميلوا عليهم ميلةً واحدة. وإن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم وأمرَه أن يقسم
__________
(1) الأثر: 10340 -"يزيد الفقير"، هو: يزيد بن صهيب، مضى برقم: 10329. وهذا الأثر، رواه النسائي في السنن 3: 174، ورواه النسائي أيضًا من طريق المسعودي، عن يزيد الفقير 3: 175، والبيهقي في السنن 3: 263، وانظر كلام البيهقي فيه، وقد أشار إلى طريق الحكم بن عتيبة، عن يزيد الفقير. وتفسير ابن كثير 2: 569.
(2) الأثر: 10341 -"أبو موسى" هو: "علي بن رباح"، قال الحافظ ابن حجر في الفتح 7: 324، و"هو تابعي معروف أخرج له مسلم"، وقال أيضًا إن أبا موسى في هذا الأثر: "يقال هو الغافقي: مالك بن عبادة، وهو صحابي معروف أيضًا". وقد مضى ذكر"علي بن رباح" رقم: 4747.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 7: 324) .(9/138)
أصحابه شَطْرين، فيصلي ببعضهم، وتقوم طائفة أخرى وراءهم فيأخذوا حِذْرهم وأسلحتهم، ثم يأمر الأخرى فيصلوا معه، ويأخذ هؤلاء حذرهم وأسلحتهم، فتكون لهم ركعة ركعة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولرسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين. (1)
* * *
وقال آخرون: عنى به القصر في السفر، إلا أنه عنى به القصر في شدَّة الحرب وعند المسايفة، فأبيح عند التحام الحرب للمصلي أن يركع ركعة إيماءً برأسه حيث توجَّه بوجهه. قالوا: فذلك معنى قوله:"ليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا".
*ذكر من قال ذلك:
10343- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا ضربتم في الأرض"، الآية، قصرُ الصلاة، إن لقيت العدوَّ وقد حانت الصلاة: أن تكبر الله، وتخفض رأسك إيماء، راكبًا كنت أو ماشيًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية، قول من قال:"عنى بالقصر فيها، القصرَ من حدودها. وذلك ترك إتمام ركوعها وسجودها، وإباحة أدائها كيف أمكن أداؤها، مستقبلَ القبلة فيها ومستدبرَها، وراكبًا وماشيًا،
__________
(1) الأثر: 10342 -"سعيد بن عبيد الهنائي"، قال أبو حاتم: "شيخ"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
و"عبد الله بن شقيق العقيلي" مضى برقم: 196 - 199.
وهذا الأثر رواه النسائي في السنن 3: 174، والترمذي في السنن، في كتاب التفسير. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 211، واقتصر على نسبته لابن جرير والترمذي. وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح غريب من حديث عبد الله بن شقيق، عن أبي هريرة".(9/139)
وذلك في حال السَّلَّة والمسايفة والتحام الحرب وتزاحف الصفوف، (1) وهي الحالة التي قال الله تبارك وتعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) ، [سورة البقرة: 239] ، وأذِن بالصلاة المكتوبة فيها راكبًا، إيماءً بالركوع والسجود، على نحو ما روي عن ابن عباس من تأويله ذلك.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلات بقوله:"وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، لدلالة قول الله تعالى:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، على أن ذلك كذلك. لأن إقامتها: إتمامُ حدودها من الركوع والسجود وسائر فروضها، دون الزيادة في عددها التي لم تكن واجبًة في حال الخوف.
فإن ظن ظان أن ذلك أمرٌ من الله بإتمام عددها الواجب عليه في حال الأمن بعد زوال الخوف، فقد يجب أن يكون المسافر في حال قصره صلاته عن صلاة المقيم، غيرَ مقيم صلاته، لنقص عدد صلاته من الأربع اللازمة كانت له في حال إقامته إلى الركعتين. وذلك قولٌ إن قاله قائل، (2) مخالف لما عليه الأمة مجمعة: من أن المسافر لا يستحق أن يقال له= إذا أتى بصلاته بكمال حدودها المفروضة عليه فيها، وقصر عددها عن أربع إلى اثنتين=:"إنه غير مقيم صلاته". وإذا كان ذلك كذلك، وكان الله تعالى قد أمر الذي أباح له أن يقصر صلاته خوفًا من عدوه أن يفتنه، أن يقيم صلاتَه إذا اطمأن وزال الخوف، كان معلومًا أن الذي فرض عليه من إقامة ذلك في حال الطمأنينة، عين الذي كان أسقط عنه في حال الخوف. وإذْ كان الذي فرض عليه في حال الطمأنينة: إقامة
__________
(1) في المطبوعة: "في حال الشبكة والمسايفة"، وهو خطأ فارغ، صوابه من المخطوطة، ولم يحسن قراءتها. و"السلة": استلال السيوف، يقال: "أتيناهم عند السلة"، أي عند استلال السيوف في المعركة، إذا تدانى أهل القتال.
(2) في المطبوعة: "فذلك قول" والصواب من المخطوطة.(9/140)
صلاته، فالذي أسقط عنه في غير حال الطمأنينة: ترك إقامتها. وقد دللنا على أن ترك إقامتها، إنما هو ترك حدودها، على ما بيّنّا.
* * *(9/141)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا كنت في الضاربين في الأرض من أصحابك، يا محمد، الخائفين عدوهم أن يفتنهم="فأقمت لهم الصلاة"، يقول: فأقمت لهم الصلاة بحدودها وركوعها وسجودها، ولم تقصرها القصر الذي أبحت لهم أن يقصروها في حال تلاقيهم وعدوَّهم وتزاحف بعضهم على بعض، من ترك إقامة حدودها وركوعها وسجودها وسائر فروضها="فلتقم طائفة منهم معك"، يعني: فلتقم فرقة من أصحابك الذين تكون أنت فيهم معك في صلاتك (1) = وليكن سائرهم في وجوه العدو.
= وترك ذِكر ما ينبغي لسائر الطوائف غير المصلِّية مع النبي صلى الله عليه وسلم أن يفعله، لدلالة الكلام المذكور على المراد به، والاستغناءِ بما ذكر عما ترك ذكره="وليأخذوا أسلحتهم".
__________
(1) انظر تفسير"طائفة" فيما سلف 6: 500، 506.(9/141)
واختلف أهل التأويل في الطائفة المأمورة بأخذ السلاح.
فقال بعضهم: هي الطائفة التي كانت تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم. (1) قال: ومعنى الكلام:"وليأخذوا"، يقول: ولتأخذ الطائفة المصلَية معك من طوائفهم="أسلحتهم"، والسلاح الذي أمروا بأخذه عندهم في صلاتهم، كالسيف يتقلَّده أحدهم، والسكين، والخنجر يشدُّه إلى درعه وثيابه التي هي عليه، ونحو ذلك من سلاحه.
* * *
وقال آخرون: بل الطائفة المأمورة بأخذ السلاح منهم: الطائفةُ التي كانت بإزاء العدوِّ، دون المصلية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك قول ابن عباس.
10344- حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإذا سجدوا"، يقول: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتك تصلِّي بصلاتك ففرغت من سجودها="فليكونوا من ورائكم"، يقول: فليصيروا بعد فراغهم من سجودهم خلفكم مُصَافيِّ العدوِّ في المكان الذي فيه سائر الطوائف التي لم تصلِّ معك، ولم تدخل معك في صلاتك.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم".
فقال بعضهم: تأويله: فإذا صلَّوْا ففرغوا من صلاتهم، فليكونوا من ورائكم.
* * *
ثم اختلف أهل هذه المقالة.
فقال بعضهم: إذا صلت هذه الطائفة مع الإمام ركعة، سلمت وانصرفت
__________
(1) في المطبوعة: "مع رسول الله" وأثبت ما في المخطوطة.(9/142)
من صلاتها، حتى تأتي مقامَ أصحابها بإزاء العدوّ، ولا قضاء عليها. وقالوا: هم الذين عنى الله بقوله: (1) "فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة"، أن تجعلوها -إذا خفتم الذين كفروا أن يفتنوكم- ركعة (2) ورووا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه صلى بطائفةٍ صلاة الخوف ركعة، ولم يقضوا، وبطائفة أخرى ركعة ولم يقضوا.
وقد ذكرنا بعض ذلك فيما مضى، وفيما ذكرنا كفاية عن استيعاب ذكر جميع ما فيه.
* * *
وقال آخرون منهم: بل الواجب كان على هذه الطائفة= التي أمرَها الله بالقيام مع نبيِّها إذا أراد إقامة الصلاة بهم في حال خوف العدو، وإذا فرغت من ركعتها التي أمرها الله أن تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم على ما أمرها به في كتابه= (3) أن تقوم في مقامها الذي صلّت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتصلي لأنفسها بقية صلاتها وتسلّم، وتأتي مصافّ أصحابها، وكان على النبي صلى الله عليه وسلم أن يثبُت قائمًا في مقامه حتى تفرغ الطائفة التي صلّت معه الركعة الأولى من بقية صلاتها، إذا كانت صلاتها التي صلّت معه مما يجوز قصرُ عددها عن الواجب الذي على المقيمين في أمن، وتذهب إلى مصاف أصحابها، وتأتي الطائفة الأخرى التي كانت مصافَّةً عدوَّها، فيصلي بها ركعة أخرى من صلاتها.
* * *
ثم هم في حكم هذه الطائفة الثانية مختلفون.
فقالت فرقة من أهل هذه المقالة: كان على النبي صلى الله عليه وسلم إذا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وهم الذين قالوا عنى الله بقوله"، أخر"قالوا" عن مكانها، وكأنه من فعل الناسخ، فرددتها إلى سياق الكلام، في أوله.
(2) السياق: "أن تجعلوها ... ركعة"، تفسيرًا لقوله"أن تقصروا من الصلاة".
(3) السياق"بل الواجب كان على هذه الطائفة ... أن تقوم في مقامها".(9/143)
فرغ من ركعتيه ورَفع رأسه من سجوده من ركعته الثانية، أن يقعد للتشهد، وعلى الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ولم تدرك معه الركعة الأولى لاشتغالها بعدوّها، أن تقوم فتقضي ركعتها الفائتة مع النبي صلى الله عليه وسلم. وعلى النبي صلى الله عليه وسلم انتظارها قاعدًا في تشهُّده حتى تفرغ هذه الطائفة من ركعتها الفائتة وتتشهد، ثم يسلم بهم.
* * *
وقالت فرقة أخرى منهم: بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الأولى إذا قعدَ النبي صلى الله عليه وسلم للتشهد، أن تقعد معه للتشهد فتتشهد بتشهده. فإذا فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من تشهده سلم. (1) ثم قامت الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية حينئذ فقضت ركعتها الفائتة. وكل قائلٍ من الذين ذكرنا قولهم، روَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبارًا بأنه كما قال فَعَل.
* * *
ذكر من قال: انتظر النبي صلى الله عليه وسلم الطائفتين حتى قضت [كل طائفة] صلاتها، ولم يخرج من صلاته إلا بعد فراغ الطائفتين من صلاتهما. (2)
10345- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك، عن يزيد بن رومان، عن صالح بن خوّات، عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف يوم ذاتِ الرِّقاع: أن طائفة صفّت معه، (3) وطائفة وجاه العدو. (4) فصلى بالذين معه ركعة، ثم ثبت قائمًا فأتموا لأنفسهم. ثم جاءت
__________
(1) في المخطوطة: "بل كان الواجب على الطائفة التي لم تدرك معه الركعة الأولى إذا قعد النبي صلى الله عليه وسلم من تشهده سلم، ثم قامت الطائفة التي صلت معه الركعة الثانية ... "، سقط من الناسخ ما هو ثابت في المطبوعة، وهو الصواب إن شاء الله.
(2) في المخطوطة: "حتى قضت صلاتها"، وفي المطبوعة: "حتى قضت صلاتهما" بالتثنية، أراد أن يصحح سياق المخطوطة فأساء، ووضعت ما بين القوسين اجتهادًا حتى يستقيم الكلام.
(3) في المطبوعة: "أن طائفة صفت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) "وجاه" (بكسر الواو وضمها) و"تجاه" (بكسر التاء وضمها) : أي حذاء العدو من تلقاء وجهه. وبجميع هذه الوجوه، روي هذا الخبر.(9/144)
الطائفة الأخرى فصلى بهم، ثم ثبت جالسًا فأتموا لأنفسهم، ثم سلم بهم. (1)
10346- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثني عبيد الله بن معاذ قال، حدثنا أبي قال، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه في خوف، فجعلهم خلفه صفين، فصلى بالذين يلونه ركعة ثم قام، فلم يزل قائمًا حتى صلى الذين خلفه ركعة، ثم تقدموا وتخلّف الذين كانوا قُدَّامهم، فصلى بهم ركعة، ثم جلس حتى صلى الذين تخلفوا ركعة، ثم سلم. (2)
10347- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا روح قال، حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صلاة الخوف: تقوم طائفة بين يدي الإمام وطائفة خلفه، فيصلي بالذين خلفه ركعة وسجدتين، ثم يقعد مكانه حتى يقضوا ركعة وسجدتين، ثم يتحولون إلى مكان أصحابهم. ثم يتحول أولئك إلى مكان هؤلاء، فيصلي بهم ركعة وسجدتين، ثم يقعد مكانه حتى يصلوا ركعة وسجدتين، ثم يسلم. (3)
* * *
ذكر من قال:"كانت الطائفة الثانية تقعد مع النبي صلى الله عليه وسلم حتى يفرغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، ثم تقضي ما بقي عليه وسلم عليها بعدُ".
10348- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال سمعت القاسم قال: حدثني صالح بن خوّات بن جبير: أن سهل
__________
(1) الأثر: 10345 -"يزيد بن رومان الأسدي" أبو روح المدني، من شيوخ مالك، كان عالمًا كثير الحديث ثقة.
و"صالح بن خوات بن جبير بن النعمان الأنصاري"، روى عن أبيه وخاله سهل بن أبي حثمة، وهو تابعي ثقة قليل الحديث. روى له الجماعة حديث صلاة الخوف. مترجم في الكبير 2 / 2 / 277.
و"سهل بن أبي حثمة الأنصاري"، له صحبة، مات رسول الله وهو ابن ثمان سنين، وقد حفظ عنه. قال الحافظ في التهذيب: "قال ابن أبي حاتم. عن أبيه، بايع تحت الشجرة، وشهد المشاهد كلها إلا بدرًا، وكان دليل النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أحد. قال ابن أبي حاتم: سمعت رجلا من ولده سأله أبي عن ذلك وأخبره به".
قلت: ولم أجد في الجرح والتعديل ترجمة"سهل"، ولا قول ابن أبي حاتم.
ثم قال الحافظ: "وقال ابن القطان: قول أبي حاتم لا يصح عندهم البتة، والغلط الذي فيه من هذا الرجل الذي لا يدرى من هو. وإنما الذي بعثه النبي صلى الله عليه وسلم خارصًا، أبوه أبو حثمة، وهو الذي كان دليل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أحد، كذا ذكره ابن جرير وغيره".
و"سهل بن أبي حثمة"، مترجم في التهذيب، وفي الكبير 2 / 2 / 98، وقد مضى ذكره برقم: 9179.
وهذا حديث صحيح، رواه مالك في الموطأ: 183، والشافعي في الرسالة رقم: 509، 677، وفي الأم 1: 186، والبخاري (الفتح 7: 325) ، والبخاري في التاريخ الكبير 2 / 2 / 277، ومسلم 6: 128، وأبو داود في سننه 2: 18، رقم: 1238، والنسائي 3: 171، والترمذي 2: 456 (شرح أخي السيد أحمد) ، والطحاوي في معاني الآثار 1: 184، والبيهقي في سننه 3: 252، وانظر ما كتبه أخي السيد أحمد في شرح الترمذي، وشرح رسالة الشافعي. والجصاص في أحكام القرآن 2: 259، 260.
وقال الحافظ ابن حجر في الفتح 7: 326: "قوله: عمن شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم ذات الرقاع صلاة الخوف= قيل: إن اسم هذا المبهم، سهل بن أبي حثمة، لأن القاسم بن محمد، روى حديث صلاة الخوف عن صالح بن خوات، عن سهل بن أبي حثمة. وهذا هو الظاهر من رواية البخاري، ولكن الراجح أنه أبوه"خوات بن جبير"، لأن أبا أويس روى هذا الحديث عن يزيد بن رومان شيخ مالك فيه، فقال: عن صالح بن خوات، عن أبيه أخرجه ابن مندة في معرفة الصحابة من طريقه. وكذلك أخرجه البيهقي (3: 253) من طريق عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه. وجزم النووي في تهذيبه بأنه خوات بن جبير، وقال: إنه محقق من رواية مسلم وغيره".
وقد أجاد الحافظ في بيان هذا بعد ذلك في الفتح (7: 329) ، ودل على أن سهل بن أبي حثمة كان صغيرًا في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن رسول الله قبض وهو ابن ثمان سنين، فأيد بذلك أن المراد بقوله: "عمن صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم" هو خوات بن جبير، لا سهل بن أبي حثمة.
(2) الأثر: 10346 - حديث سهل بن أبي حثمة، من طريق شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم، هذا والذي يليه، رواه أحمد في المسند 4: 448، والبخاري في الفتح (7: 329) ومسلم 6: 128، والبيهقي في السنن 3: 253، 254. وانظر التعليق على الأثر السالف، والأثر التالي رقم: 10351.
(3) الأثر: 10347 - مكرر الذي قبله. رواه أحمد في المسند 4: 448، والبخاري في التاريخ الكبير 2 / 2 / 277. وهذا هو الحديث المرفوع الذي سيشير إليه في رقم: 10351.(9/145)
بن أبي حثمة حدّثه: أن صلاة الخوف: أن يقوم الإمام إلى القبلة يصلّي ومعه طائفة من أصحابه، وطائفة أخرى مواجهة العدو، فيصلي. فيركع الإمام بالذين معه ويسجد، ثم يقوم، فإذا استوى قائمًا ركع الذين وراءه لأنفسهم ركعة وسجدتين، ثم سلموا فانصرفوا، والإمام قائم، فقاموا إزاء العدوّ، وأقبل الآخرون فكبروا مكان الإمام، فركع بهم الإمام وسجد ثم سلم، فقاموا فركعوا لأنفسهم ركعة وسجدتين، ثم سلموا. (1)
10349- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد: أن صالح بن خوّات أخبره، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف، ثم ذكر نحوه. (2)
10350- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد وسأله قال، حدثنا يحيى بن سعيد الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن صالح، عن سهل بن أبي حثمة في صلاة الخوف قال: يقوم الإمام مستقبل القبلة، وتقوم طائفة منهم معه، وطائفة من قبل العدو وجوههم إلى العدو، فيركع بهم ركعة، ثم يركعون لأنفسهم ويسجدون سجدتين في مكانهم، ويذهبون إلى مقام أولئك، ويجيء أولئك فيركع بهم ركعة ويسجد سجدتين، فهي له ركعتان ولهم واحدة. ثم يركعون ركعة ويسجدون سجدتين. (3)
10351- قال بندار: سألت يحيى بن سعيد عن هذا الحديث، فحدثني عن شعبة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن صالح بن خوّات، عن سهل بن أبي حثمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديث يحيى بن سعيد،
__________
(1) الأثران: 10348، 10349 - رواه مالك في الموطأ: 183، والبخاري (الفتح 7: 328) ، وأبو داود في سننه 2: 18 رقم: 1239.
(2) الأثران: 10348، 10349 - رواه مالك في الموطأ: 183، والبخاري (الفتح 7: 328) ، وأبو داود في سننه 2: 18 رقم: 1239.
(3) الأثر: 10350 -"يحيى بن سعيد" هو القطان.
وهذا الأثر رواه البخاري (الفتح 7: 328) ، والترمذي 2: 455 (شرح أخي السيد أحمد) ، والبيهقي في سننه 3: 253، والنسائي في سننه 3: 178.(9/147)
وقال لي: اكتبه إلى جنبه، فلست أحفظه، ولكنه مثل حديث يحيى بن سعيد. (1)
10352- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر، عن صالح بن خوات: أن الإمام يقوم فيصفّ صفين، طائفة مواجهة العدو، وطائفة خلف الإمام. فيصلي الإمام بالذين خلفه ركعة، ثم يقومون فيصلون لأنفسهم ركعة، ثم يسلمون، ثم ينطلقون فيصفُّون. ويجيء الآخرون فيصلي بهم ركعة ثم يسلم، فيقومون فيصلون لأنفسهم ركعة. (2)
10353- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر بن سليمان قال، سمعت عبيد الله، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوّات، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: صلاة الخوف: أن تقوم طائفة من خلف الإمام وطائفة يلون العدو، فيصلّي الإمام بالذين خلفه ركعة ويقوم قائمًا، فيصلي القوم إليها ركعة أخرى، ثم يسلمون فينطلقون إلى أصحابهم، ويجيء أصحابهم والإمام قائم، فيصلي بهم ركعة، فيسلم. ثم يقومون فيصلون إليها ركعة أخرى، ثم ينصرفون= قال عبيد الله: فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف بشيء هو أحسن عندي من هذا. (3)
10354- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية،
__________
(1) الأثر: 10351 - هذا الأثر إشارة، إلى الأثر السالف رقم: 10347، مرفوعًا. ورواه الترمذي 2: 456، والبيهقي في السنن 3: 253. وقال الترمذي: "لم يرفعه يحيى بن سعيد الأنصاري عن القاسم بن محمد، وهكذا روى أصحاب يحيى بن سعيد الأنصاري موقوفًا. ورفعه شعبة عن عبد الرحمن بن القاسم بن محمد".
(2) الأثر: 10352، 10353 - لم أجد لهذين الخبرين مرجعًا. وحديث عبيد الله، (وهو عبيد الله بن عمر) عن القاسم، رواه البيهقي في السنن 3: 253 من حديث عبد الله بن عمر، عن أخيه عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ... "، فصرح فيه بأنه رواه عن أبيه، ولم يقل"عن رجل من أصحاب النبي"، وهو مخالف له في لفظه كل المخالفة. وانظر التعليق على الأثر رقم: 10346.
وكان في المطبوعة هنا: "فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف شيئًا هو أحسن عندي من هذا" بنصب"شيئًا" وفي المخطوطة"شيء"، فرأيت أن أقرأها"بشيء".
(3) الأثر: 10352، 10353 - لم أجد لهذين الخبرين مرجعًا. وحديث عبيد الله، (وهو عبيد الله بن عمر) عن القاسم، رواه البيهقي في السنن 3: 253 من حديث عبد الله بن عمر، عن أخيه عبيد الله بن عمر، عن القاسم بن محمد، عن صالح بن خوات، عن أبيه قال: صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف ... "، فصرح فيه بأنه رواه عن أبيه، ولم يقل"عن رجل من أصحاب النبي"، وهو مخالف له في لفظه كل المخالفة. وانظر التعليق على الأثر رقم: 10346.
وكان في المطبوعة هنا: "فما سمعت فيما نذكره في صلاة الخوف شيئًا هو أحسن عندي من هذا" بنصب"شيئًا" وفي المخطوطة"شيء"، فرأيت أن أقرأها"بشيء".(9/148)
عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك"، فهذا عند الصلاة في الخوف، يقوم الإمام وتقوم معه طائفة منهم، وطائفة يأخذون أسلحتهم ويقفون بإزاء العدو. فيصلي الإمام بمن معه ركعة، ثم يجلس على هيئته، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانيةَ والإمام جالس، ثم ينصرفون حتى يأتوا أصحابهم، فيقفون موقفهم. ثم يقبل الآخرون فيصلي بهم الإمام الركعة الثانية، ثم يسلم، فيقوم القوم فيصلون لأنفسهم الركعة الثانية. فهكذا صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بطن نخلة.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل قوله:"فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم"، فإذا سجدت الطائفة التي قامت مع النبي صلى الله عليه وسلم حين دخل في صلاته فدخلت معه في صلاته، السجدةَ الثانية من ركعتها الأولى (1) ="فليكونوا من ورائكم"، يعني: من ورائك، يا محمد، ووراء أصحابك الذين لم يصلوا بإزاء العدو. قالوا: وكانت هذه الطائفة لا تسلِّم من ركعتها إذا هي فرغت من سجدتي ركعتها التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم، ولكنها تمضي إلى موقف أصحابها بإزاء العدوّ، عليها بقية صلاتها. (2) قالوا: وكانت تأتي الطائفة الأخرى التي كانت بإزاء العدوّ حتى تدخل مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقية صلاته، فيصلي بهم النبي صلى الله عليه وسلم الركعة التي كانت قد بقيت عليه. قالوا: وذلك معنى قول الله عز ذكره:"ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم".
* * *
ثم اختلف أهل هذه المقالة في صفة قضاء ما كان تبقَّى على كل طائفة من هاتين الطائفتين من صلاتها، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته وسلامه من صلاته، على قول قائلي هذه المقالة ومتأوِّلي هذا التأويل.
__________
(1) السياق: "فإذا سجدت الطائفة ... السجدة الثانية".
(2) في المطبوعة: "وعليها بقية صلاتها" بزيادة واو.(9/149)
فقال بعضهم: كانت الطائفة الثانية التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من صلاتها، إذا سلم النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته قامت فقضت ما فاتها من صلاتها مع النبي صلى الله عليه وسلم في مقامها، بعد فراغ النبي صلى الله عليه وسلم من صلاته، والطائفة التي صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى بإزاء العدو بعدُ لم تتم. (1) فإذا هي فرغت من بقية صلاتها التي فاتتها مع النبي صلى الله عليه وسلم، مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو، وجاءت الطائفة الأولى التي صلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى إلى مقامها التي كانت صلت فيه خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضت بقية صلاتها.
ذكر الرواية بذلك:
10355- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا أبو عبيدة بن عبد الله قال، قال عبد الله: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فقامت طائفة منا خلفه، وطائفة بإزاء= أو مستقبلي= العدو، فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بالذين خلفه ركعة، ثم نكصوا فذهبوا إلى مقام أصحابهم. وجاء الآخرون فقاموا خلف النبي صلى الله عليه وسلم، فصلى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعة، ثم سلم رسول الله، ثم قام هؤلاء فصلوا لأنفسهم ركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقامَ أصحابهم مستقبلي العدوّ، ورجع الآخرون إلى مقامهم فصلوا لأنفسهم ركعة. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "لم تتم صلاتها"، زاد"صلاتها"، وأثبت ما في المخطوطة فهو صواب جيد.
(2) الأثر: 10355 -"عبد الواحد بن زياد العبدي"، أحد الأعلام الثقات، مضى برقم: 2616.
و"خصيف" هو: خصيف بن عبد الرحمن الجزري مضى برقم: 8136، تكلموا فيه، قال ابن حبان: "تركه جماعة من أئمتنا، واحتج به آخرون وكان شيخًا صالحًا فقيهًا عابدًا، إلا أنه كان يخطئ كثيرًا فيما يروي، ويتفرد عن المشاهير بما لا يتابع عليه، وهو صدوق في روايته، إلا أن الإنصاف فيه، قبول ما وافق الثقات في الروايات، وترك ما لم يتابع عليه، وهو من أستخير الله تعالى فيه".
و"أبو عبيدة"، هو: أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، مضى برقم: 4570، 4694. و"عبد الله" هو عبد الله بن مسعود.
وهذا الأثر رواه أبو داود 2: 22 رقم: 1224. والبيهقي في السنن 3: 261، من طريق عبد السلام بن حرب عن خصيف، ومن طريق الثوري عن خصيف، ومن طريق شريك عن خصيف. وهذا الأخير هو رقم: 10357. ولفظه مخالف للفظ حديث عبد الواحد بن زياد عن خصيف، قال البيهقي: "وهذا الحديث مرسل، أبو عبيدة لم يدرك أباه، وخصيف الجزري ليس بالقوي".(9/150)
10356- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا خصيف، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، فذكر نحوه. (1)
10357- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق قال، أخبرنا شريك، عن خصيف، عن أبي عبيدة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2)
وقال آخرون: بل كانت الطائفة الثانية التي صلَّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية لا تقضي بقية صلاتها بعد ما يُسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته، ولكنها كانت تمضي قبل أن تقضي بقية صلاتها، فتقف موقفَ أصحابها الذين صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الأولى، وتجيء الطائفة الأولى إلى موقفها الذي صلت فيه ركعتها الأولى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتقضي ركعتها التي كانت بقيت عليها من صلاتها= فقال بعضهم: كانت تقضي تلك الركعة بغير قراءة. وقال آخرون: بل كانت تقضي بقراءة= فإذا قضت ركعتها الباقية عليها هناك وسلمت، مضت إلى مصاف أصحابها بإزاء العدو، وأقبلت الطائفة التي صلَّت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية إلى مقامها الذي صلَّت فيه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الركعة الثانية من
__________
(1) الأثران: 10356، 10357 - مكرر الذي قبله. وانظر رواية أبي داود في السنن 2: 22، رقم 1224.
(2) الأثران: 10356، 10357 - مكرر الذي قبله. وانظر رواية أبي داود في السنن 2: 22، رقم 1224.(9/151)
صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقضت الركعة الثانية صلاتها بقراءة، فإذا فرغت وسلمت، انصرفت إلى أصحابها.
*ذكر من قال ذلك:
10358- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن حماد، عن إبراهيم في صلاة الخوف، قال: يصف صفًّا خلفه، وصفًّا بإزاء العدو في غير مصلاه، فيصلي بالصف الذي خلفه ركعة، ثم يذهبون إلى مصاف أولئك، وجاء أولئك الذين بإزاء العدو، فصلى بهم ركعة، ثم سلم عليهم، (1) وقد صلى هو ركعتين، وصلى كلّ صف ركعة. ثم قام هؤلاء الذين سلم عليهم إلى مصاف أولئك الذين بإزاء العدو، فقاموا مقامهم، وجاؤوا فقضوا الركعة، ثم ذهبوا فقاموا مقام أولئك الذين بإزاء العدو، وجاء أولئك فصلوا ركعة (2) = قال سفيان: فتكون لكل إنسان ركعتين ركعتين. (3)
10359- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعًا، عن سفيان قال: كان إبراهيم يقول في صلاة الخوف، فذكر نحوه.
10360- حدثني الحارث قال، حدثنا عبد العزيز قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن عمر بن الخطاب رحمة الله عليه مثل ذلك. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وجاء أولئك الذين بإزاء العدو، فيصلي بهم ركعة ثم يسلم عليهم""يصلي" و"يسلم" مضارعًا، والصواب الجيد ما أثبته من المخطوطة.
(2) الأثر: 10358 -"الحارث"، هو: "الحارث بن محمد بن أبي سامة" و"عبد العزيز" هو: "عبد العزيز بن أبان الأموي"، مضيا برقم: 10295، 10315، وغيرهما، وسيأتي برقم: 10360.
(3) في المطبوعة: "فيكون لكل إنسان ركعتان ركعتان"، والذي أثبته من المخطوطة، وهو صواب حسن جدًا.
(4) الأثر: 10360 -"الحارث بن محمد بن أبي أسامة"، و"عبد العزيز بن أبان الأموي"، انظر التعليق على الأثر: 10358. وزدت: "رحمة الله عليه" من المخطوطة.(9/152)
وقال آخرون: بل كل طائفة من الطائفتين تقضي صلاتها على ما أمكنها، من غير تضييع منهم بعضها.
*ذكر من قال ذلك:
10361- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس بن عبيد، عن الحسن: أن أبا موسى الأشعري صلى بأصحابه صلاة الخوف بأصبهان إذ غزاها. قال: فصلى بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس. فنكص هؤلاء الذين صلى بهم ركعة، وخَلَفهم الآخرون فقاموا مقامهم، فصلى بهم ركعة ثم سلم، فقامت كل طائفة فصلت ركعًة.
10362- حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يونس، عن الحسن، عن أبي موسى، بنحوه.
10363- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن أبي العالية ويونس بن جبير قالا صلى أبو موسى الأشعري بأصحابه بالدير من أصبهان، (1) وما بهم يومئذ خوف، (2) ولكنه أحب أن يعلمهم صلاتهم. فصفَّهم بصفَّين: (3) صفًّا خلفه، وصفًّا مواجهة العدوّ مقبلين على عدوهم. فصلى بالذين يلونه ركعة، ثم ذهبوا إلى مصافّ أصحابهم. وجاء أولئك، فصفّهم خلفه، فصلى بهم ركعة ثم سلم. فقضى هؤلاء ركعة، وهؤلاء ركعة، ثم سلم بعضهم على بعض. فكانت للإمام ركعتان في جماعة، (4) ولهم ركعة ركعة. (5)
__________
(1) في المطبوعة: "صلى أبو موسى بأصحابه بأصبهان"، غير ما في المخطوطة، وفي الدر المنثور"بالدار من أصبهان"، ولم أهتد إلى موضع يقال له"الدير" أو "الدار" من بلاد أصبهان. ومع ذلك فكثير من بلدان هذه الجهات، قد أغفلت معاجم البلدان ذكرها، وقلما تظفر بها إلا في ثنايا الأخبار المنثورة في كتب التاريخ والفتوح.
(2) في الدر المنثور: "وما بهم يومئذ كبير خوف".
(3) في المطبوعة"فصفهم صفين"، وهو صواب في المعنى، ولكني أثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "ركعتين"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) الأثر: 10363، 10364 - خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 213، ونسبه لابن أبي شيبة وجده، بغير هذا اللفظ. وأشار إليه البيهقي في السنن 3: 252.(9/153)
10364- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي العالية، عن أبي موسى، بمثله.
10365- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر: أنه قال في صلاة الخوف: يصلي بطائفة من القوم ركعة، (1) وطائفة تحرس. ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم، ثم يجيء أولئك فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم. فتقوم كل طائفة فتصلي ركعة. (2)
10366- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، بنحوه.
10367- حدثني عمران بن بكَّار الكلاعي قال، حدثنا يحيى بن صالح قال، حدثنا ابن عياش قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه صلى صلاة الخوف، فذكر نحوه. (3)
10368- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، أخبرني الزهري، عن سالم، عن ابن عمر: أنه كان يحدِّث أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه. (4)
10369- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عبد الأعلى، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (5)
10370- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عبد الله بن نافع،
__________
(1) في المطبوعة: "يصلي طائفة"، والصواب من المخطوطة.
(2) الأثر: 10365 - والآثار التي تليه: 10366، 10367، ثم 10370، 10371، خمسة أسانيد لحديث نافع، عن ابن عمر. حديث صحيح رواه أحمد في مسنده برقم: 6159، وهو إسناد الطبري رقم: 10371، ثم رواه برقم: 6431، من طريق موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر. وانظر شرح أخي السيد أحمد في المسند على الأثر: 6159.
(3) الأثر: 10367 -"عمران بن بكار الكلاعي" مضى برقم: 2071.
(4) الأثران: 10368، 10369 - خبر سالم عن ابن عمر حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده: 6351، وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك.
(5) الأثران: 10368، 10369 - خبر سالم عن ابن عمر حديث صحيح، رواه أحمد في مسنده: 6351، وانظر شرح أخي السيد أحمد هناك.(9/154)
عن نافع، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف: يقوم الأمير وطائفة من الناس فيسجدون سجدة واحدة، وتكون طائفة منهم بينهم وبين العدو، ثم ذكر نحوه. (1)
10371- حدثنا محمد بن هارون الحربي قال، حدثنا أبو المغيرة الحمصي قال، حدثنا الأوزاعي، عن أيوب بن موسى، عن نافع، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الخوف بإحدى الطائفتين ركعة، ثم ذكر نحوه. (2)
10372- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى قوله:"فليصلوا معك"، فإنه كانت تأخذ طائفة منهم السلاح، فيقبلون على العدو، والطائفة الأخرى يصلون مع الإمام ركعة، ثم يأخذون أسلحتهم فيستقبلون العدو، ويرجع أصحابهم فيصلون مع الإمام ركعة، فيكون للإمام ركعتان، ولسائر الناس ركعة واحدة، ثم يقضون ركعة أخرى. وهذا تمام الصلاة.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في صلاة الخوف والعدو يومئذ في ظهر القبلة بين المسلمين وبين القبلة، فكانت الصلاة التي صلى بهم يومئذ النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف، إذ كان العدو بين الإمام والقبلة.
__________
(1) الأثران: 10370، 10371 - انظر التعليق على رقم: 10365.
"محمد بن هارون الحربي"، المعروف بأبي نشيط، بغدادي، ونسبته في التهذيب"الربعي"، وهي نسبة إلى القبيلة، أما "الحربي" فنسبة إلى"الحربية"، وهي محلة كبيرة ببغداد عند"باب حرب" مقبرة بشر الحافي وأحمد بن حنبل، تنسب إلى أحد قواد أبي جعفر المنصور، وكان يتولى شرطة بغداد، وهو"حرب بن عبد الله البلخي"، نسب إليها طائفة كبيرة من أهل العلم ببغداد. ولم أجد هذه النسبة - نسبة محمد بن هارون - إلا في التفسير.
و"أبو المغيرة الحمصي" هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني"، ثقة، من شيوخ أحمد، روى عنه البخاري، وروى له هو والباقون بواسطة إسحاق بن الكوسج وأحمد بن حنبل وغيرهم. مات سنة 212، وصلى عليه أحمد بن حنبل.
(2) الأثران: 10370، 10371 - انظر التعليق على رقم: 10365.
"محمد بن هارون الحربي"، المعروف بأبي نشيط، بغدادي، ونسبته في التهذيب"الربعي"، وهي نسبة إلى القبيلة، أما "الحربي" فنسبة إلى"الحربية"، وهي محلة كبيرة ببغداد عند"باب حرب" مقبرة بشر الحافي وأحمد بن حنبل، تنسب إلى أحد قواد أبي جعفر المنصور، وكان يتولى شرطة بغداد، وهو"حرب بن عبد الله البلخي"، نسب إليها طائفة كبيرة من أهل العلم ببغداد. ولم أجد هذه النسبة - نسبة محمد بن هارون - إلا في التفسير.
و"أبو المغيرة الحمصي" هو: "عبد القدوس بن الحجاج الخولاني"، ثقة، من شيوخ أحمد، روى عنه البخاري، وروى له هو والباقون بواسطة إسحاق بن الكوسج وأحمد بن حنبل وغيرهم. مات سنة 212، وصلى عليه أحمد بن حنبل.(9/155)
ذكر الأخبار المنقولة بذلك:
10373- حدثنا أبو كريب قال، حدثني يونس بن بكير، عن النضر أبي عمر، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاةٍ، فلقي المشركين بعسفان، فلما صلى الظهر فرأوه يركع ويسجد هو وأصحابه، قال بعضهم لبعض يومئذ: كان فرصة لكم، لو أغرتم عليهم ما علموا بكم حتى تواقعوهم! قال قائل منهم: فإنّ لهم صلاة أخرى هي أحبَّ إليهم من أهلهم وأموالهم، فاستعدوا حتى تغيروا عليهم فيها. فأنزل الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" إلى آخر الآية، وأعلمه ما ائتمر به المشركون. فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر وكانوا قبالته في القبلة، فجعل المسلمين خلفه صفين، فكبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فكبروا جميعًا، ثم ركع وركعوا معه جميعًا. فلما سجد سجد معه الصف الذين يلونه، وقام الصف الذين خلفهم مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقام، سجد الصف الثاني ثم قاموا، وتأخر الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الآخرون، فكانوا يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما ركع ركعوا معه جميعًا، ثم رفع فرفعوا معه، ثم سجد فسجد معه الذين يلونه، وقام الصف الثاني مقبلين على العدو، فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من سجوده وقعد الذين يلونه، سجد الصفّ المؤخر، ثم قعدوا فتشهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم جميعًا، فلما سلم رسول الله صلى الله عليه وسلم سلّم عليهم جميعًا. فلما نظر إليهم المشركون يسجد بعضهم ويقوم بعض ينظر إليهم، قالوا: لقد أخبروا بما أردنا! (1)
__________
(1) الأثر: 10373 -"النضر أبو عمر" هو: "نضر بن عبد الرحمن الخزاز"، مضى برقم: 718، وهو ضعيف الحديث، سئل عنه أبو نعيم فقال: "لا يسوى هذا= ورفع شيئًا من الأرض= كان يجيء فيجلس عند الحماني، وكل شيء يسأل عنه يقول: عكرمة عن ابن عباس".
وهذا الأثر رواه الحاكم في المستدرك 3: 30، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي. وهذا عجب، فإن البخاري قال في ترجمة"النضر": "منكر الحديث"!! فكيف يكون هذا الخبر على شرطه!! ومن أجل مثل هذا لم يبال العلماء بتصحيح الحاكم غفر الله له. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 213، وزاد نسبته للبزار.(9/156)
10374- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير قال، حدثنا عمر بن ذر قال، حدثني مجاهد قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان والمشركون بضجنان بالماء الذي يلي مكة، فلما صلى النبيّ صلى الله عليه وسلم الظهرَ فرأوه سجدَ وسجد الناس، قالوا: إذا صلى صلاة بعد هذه أغرنا عليه! فحذره الله ذلك. فقام النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة فكبّر وكبر الناس معه، فذكر نحوه.
10375- حدثني عمران بن بكار قال، حدثنا يحيى بن صالح قال، حدثنا ابن عياش قال، أخبرني عبيد الله بن عمرو، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله قال: كنت مع النبّي صلى الله عليه وسلم، فلقينا المشركين بنخل، فكانوا بيننا وبين القبلة. فلما حضرت صلاة الظهر، (1) صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن جميع. فلما فرغنا، تذَامر المشركون، (2) فقالوا: لو كنا حملنا عليهم وهم يصلون! فقال بعضهم: فإن لهم صلاة ينتظرونها تأتي الآن، هي أحبّ إليهم من أبنائهم، فإذا صلوا فميلوا عليهم. قال: فجاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليهما بالخبر، (3) وعلّمه كيف يصلي. فلما حضرت العصر، قام نبي الله صلى الله عليه وسلم مما يلي العدوّ، وقمنا خلفه صفين، فكبر نبي الله وكبرنا معه جميعًا، ثم ذكر نحوه. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "فلما حضرت الظهر"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) قوله: "تذامر المشركون" أي: تلاوموا على ترك الفرصة، وقال بعضهم: "قد تكون بمعنى تحاضوا على القتال". ولكن الأجود، هو المعنى الأول، فإن"التذامر" - فيما أرى - يحمل معنى التلاوم والحض على انتهاز الفرصة من العدو. وفي الدر المنثور: "تآمر المشركون"، والصواب ما في المخطوطة والمطبوعة. وقد ذكره ابن الأثير بهذا اللفظ، ونقله صاحب اللسان"تذامر المشركون" في حديث صلاة الخوف، يعني هذا الحديث بلا شك.
(3) في المطبوعة: " ... إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما في المخطوطة."عليهما"، يعني رسول الله وجبريل.
(4) الأثر: 10375 -"عمران بن بكار الكلاعي"، مضى قريبًا رقم: 10367.
" يحيى بن صالح الوحاظي" ثقة من أهل الشام. مات سنة 222، روى عن عبيد الله بن عمرو الرقي، وإسماعيل بن عياش وغيرهما.
و"ابن عياش" هو: إسماعيل بن عياش بن سلم العنسي. ثقة حافظ، وقد تكلموا فيه. مترجم في التهذيب.
و"عبيد الله بن عمرو الرقي الجزري" أبو وهب. مضى برقم: 1566، 4964، وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"عبيد الله بن عمر"، وهو خطأ لا شك فيه، فإنه هو الذي يروي عن أبي الزبير.
و"أبو الزبير" هو: محمد بن مسلم بن تدرس. مضى برقم: 2029، 8025.
وهذا الأثر رواه ابن جرير بثلاثة أسانيد، هذا والإسنادان التاليان. وحديث أبي الزبير عن جابر، رواه مسلم 5: 127 من طريق أحمد بن عبد الله بن يونس، عن زهير، عن أبي الزبير. ورواه النسائي في السنن 3: 176 من طريق عمرو بن علي، عن عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي الزبير. وأشار إليه البخاري (الفتح 7: 326) . وأفاض الحافظ ابن حجر في مواضع في بيان حديث أبي الزبير عن جابر، ورواه البخاري من طريق هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، وهما إسنادا أبي جعفر رقم: 10377، 10378، وأبو داود الطيالسي في مسنده: 240، من طريق هشام أيضًا. وأخرجه البيهقي في السنن 3: 258، وكلهم اختصره.
وقصر السيوطي في الدر المنثور 2: 214، فاقتصر على نسبته لابن أبي شيبة وابن جرير. ورواية ابن جرير مطولة.(9/157)
10376- حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا حماد بن مسعدة، عن هشام بن أبي عبد الله، عن أبي الزبير، عن جابر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
10377- حدثنا مؤمل بن هشام قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم، عن هشام، عن أبي الزبير، عن جابر قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه.
10378- حدثنا عمرو بن عبد الحميد قال، حدثنا عبد العزيز بن عبد الصمد، عن منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش الزرقي قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الظهر، وعلى المشركين خالد بن الوليد. فقال المشركون: لقد أصبنا منهم غرة، ولقد أصبنا منهم غفلة!! فأنزل الله صلاة الخوف بين الظهر والعصر، فصلى(9/158)
بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، [ففرّقنا] = يعني فرقتين= (1) فرقة تصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفرقة تصلي خلفهم يحرسونهم. ثم كبر فكبروا جميعًا، وركعوا جميعًا، ثم سجد الذين يلون رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قام فتقدم الآخرون فسجدوا، ثم قام فركع بهم جميعًا، ثم سجد بالذين يلونه، حتى تأخر هؤلاء فقاموا في مصافِّ أصحابهم، ثم تقدم الآخرون فسجدوا، ثم سلم عليهم. فكانت لكلهم ركعتين مع إمامهم. وصلى مرة أخرى في أرض بني سليم. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية، على قول هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة ورووا هذه الرواية=: وإذا كنت يا محمد، فيهم= يعني: في أصحابك خائفا="فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك"، يعني: ممن دخل معك في صلاتك="فإذا سجدوا" يقول: فإذا سجدت هذه الطائفة بسجودك، ورفعت رءوسها من سجودها="فليكونوا من ورائكم"، يقول: فليَصِرْ مَنْ خلفك خلف الطائفة التي حرستك وإياهم إذا سجدت بهم وسجدوا معك (3) ="ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا"، يعني الطائفةَ الحارسة التي صلت معه، غير أنها لم تسجد بسجوده. فمعنى قوله:"لم يصلوا"- على مذهب هؤلاء-: لم يسجدوا بسجودك="فليصلوا معك"،
__________
(1) في المطبوعة: "صلاة العصر يعني فرقتين"، وهو لا يكاد يستقيم، فزدت ما بين القوسين من النسائي، ونصه هناك"ففرقنا فرقتين" ليس فيه (يعني) .
(2) الأثر: 10378 -"عمرو بن عبد الحميد الآملي" شيخ الطبري، مضى برقم: 3759، وقد قال أخي هناك: "لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة، ولعله محرف عن شيء لا أعرفه". والذي قاله لا يصح، فقد جاء هنا أيضًا"عمرو بن عبد الحميد"، وروى عنه أبو جعفر في التاريخ في موضع واحد 1: 184، قال: "حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي قال، حدثنا أبو أسامة"، فثبت أنه غير محرف.
وخبر"أبي عياش الزرقي"، مضى من طريق منصور، عن مجاهد، عن أبي عياش بثلاثة أسانيد، 10323، 10324، وطريق عبد العزيز بن عبد الصمد، هو الذي رواه النسائي في السنن 3: 177 وهذا الأثر غير موجود في المخطوطة.
(3) في المخطوطة: "وليصر من خلفك وخلف الطائفة ... " بالواو في"ليصر"، وبالواو قبل"خلف الطائفة"، وصححها في المطبوعة: "فليصر من خلفك خلف" فجعل الأول فاء، وحذف الثانية، وهو الصواب إن شاء الله.(9/159)
يقول: فليسجدوا بسجودك إذا سجدت، ويحرُسك وإياهم الذين سجدوا بسجودك في الركعة الأولى= وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم"، يعني الحارسة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية، قول من قال: معنى ذلك: فإذا سجدت الطائفة التي قامت معك في صلاتها="فليكونوا من ورائكم"، يعني: من خلفك وخلف من يدخل في صلاتك ممن لم يصلِّ معك الركعة الأولى بإزاء العدو، وبعد فراغها من بقية صلاتها (1) ="ولتأت طائفة أخرى"، وهي الطائفة التي كانت بإزاء العدو="لم يصلوا"، يقول: لم يصلوا معك الركعة الأولى="فليصلوا معك"، يقول: فليصلوا معك الركعة التي بقيت عليك="وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم"، لقتال عدوهم، بعد ما يفرغون من صلاتهم.
وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه فعله يوم ذات الرقاع، والخبر الذي روى سهل بن أبي حثمة. (2)
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله عز ذكره قال:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة"، وقد دللنا على أن"إقامتها"، إتمامها بركوعها وسجودها، ودَللنا مع ذلك على أن قوله:"فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا"، إنما هو إذنٌ بالقصر من ركوعها وسجودها في حال شدة الخوف.
فإذْ صح ذلك، كان بيِّنًا أنْ لا وجه لتأويل من تأول ذلك: أن الطائفة الأولى إذا سجدت مع الإمام فقد انقضت صلاتها، لقوله:"فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم"،
__________
(1) في المطبوعة: " ... بإزاء العدو بعد فراغها ... " بحذف الواو من"وبعد"، والصواب ما في المخطوطة.
(2) يعني الخبر رقم: 10345، ثم خبر سهل بن أبي حثمة من: 10346 - 10353.(9/160)
لاحتمال ذلك من المعاني ما ذكرتُ قبل= ولأنه لا دلالة في الآية على أن القصر الذي ذكر في الآية قبلَها، عُنِي به القصر من عدد الركعات.
وإذ كان لا وجه لذلك، فقول من قال:"أريد بذلك التقدم والتأخر في الصلاة، على نحو صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بعسفان"، أبعد. (1) وذلك أنّ الله جل ثناؤه يقول:"ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك"، وكلتا الطائفتين قد كانت صلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم ركعته الأولى في صلاته بعسفان. ومحالٌ أن تكون التي صلَّت مع النبي صلى الله عليه وسلم هي التي لم تصلِّ معه.
فإن ظن ظان أنه أريد بقوله:"لم يصلوا"، لم يسجدوا= فإن ذلك غير الظاهر المفهوم من معاني"الصلاة"، وإنما توجه معاني كلام الله جل ثناؤه إلى الأظهر والأشهر من وجوهها، ما لم يمنع من ذلك ما يجب التسليم له.
وإذْ كان ذلك كذلك= ولم يكن في الآية أمر من الله تعالى ذكرهُ للطائفة الأولى بتأخير قضاء ما بقي عليها من صلاتها إلى فراغ الإمام من بقية صلاته، (2) ولا على المسلمين الذين بإزاء العدوّ في اشتغالها بقضاء ذلك ضرر (3) = لم يكن لأمرها بتأخير ذلك، وانصرافها قبل قضاء باقي صلاتها عن موضعها، معنًى.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإنا نرى أن من صلاها من الأئمة فوافقت صلاته بعض الوجوه التي ذكرناها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صلاها، فصلاته مجزئة عنه تامة، لصحّة الأخبار بكل ذلك عن رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) قوله: "أبعد" خبر قوله: "فقول من قال"، والسياق: فقول من قال ... أبعد.
(2) في المطبوعة: " ولم يكن في الآية أمر من الله عز ذكره للطائفة الأولى"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) قوله: "ولا على المسلمين ... " معطوف على قوله: "ولم يكن في الآية أمر ... " والمعنى: ولم يكن على المسلمين الذين بإزاء العدو ... ضرر ... في اشتغالها بقضاء ذلك.
وسياق الجملة التالية: "وإذ كان ذلك كذلك ... لم يكن لأمرها بتأخير ذلك ... معنى".(9/161)
وسلم، وأنه من الأمور التي علَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته، ثم أباح لهم العمل بأيِّ ذلك شاءوا.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"ودَّ الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم"، فإنه يعني: تمنى الذين كفروا بالله (1) ="لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم": يقول: لو تشتغلون بصلاتكم عن أسلحتكم التي تقاتلونهم بها، وعن أمتعتكم التي بها بلاغكم في أسفاركم فتسهون عنها. (2) ="فيميلون عليكم ميلة واحدة"، يقول: فيحملون عليكم وأنتم مشاغيل بصلاتكم عن أسلحتكم وأمتعتكم حملة واحدة، فيصيبون منكم غِرَّة بذلك، فيقتلونكم ويستبيحون عسكركم.
يقول جل ذكره: فلا تفعلوا ذلك بعد هذا، فتشتغلوا جميعكم بصلاتكم إذا حضرتكم صلاتكم وأنتم مواقفو العدو، (3) فتمكنوا عدوّكم من أنفسكم وأسلحتكم وأمتعتكم، ولكن أقيموا الصلاة على ما بيّنت لكم، وخذوا من عدوكم حِذْركم وأسلحتكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ود" فيما سلف ص: 17، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"غفل" فيما سلف 2: 244، 316 / 3: 127، 184.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا: "موافقو العدو" بتقديم الفاء على القاف، وهو خطأ، صوابه ما أثبت، وقد سلف شرح ذلك في ص: 130، تعليق: 1.(9/162)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا جناح عليكم"، ولا حرج عليكم ولا إثم (1) ="إن كان بكم أذى من مطر"، يقول: إن نالكم [أذى] من مطر تمطرونه وأنتم مواقفو عدوِّكم (2) ="أو كنتم مرضى"، يقول: أو كنتم جرحى أو أعِلاء (3) ="أن تضعوا أسلحتكم"، إن ضعفتم عن حملها، ولكن إن وضعتم أسلحتكم من أذى مطر أو مرض، فخذوا من عدوكم="حذركم"، يقول: احترسوا منهم أن يميلوا عليكم وأنتم عنهم غافلون غارّون="إن الله أعد للكافرين عذابًا مهينًا"، يعني بذلك: أعدّ لهم عذابًا مُذِلا يبقون فيه أبدًا، لا يخرجون منه. وذلك هو عذاب جهنم. (4)
* * *
وقد ذكر أن قوله:"أو كنتم مرضى" نزل في عبد الرحمن بن عوف، وكان جريحًا.
__________
(1) انظر تفسير"جناح" فيما سلف ص: 123، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق، وكان في المطبوعة: "موافقو عدوكم"، وانظر التعليق السالف ص: 162 تعليق: 3.
(3) "أعلاء" جمع"عليل". وكان في المطبوعة: "يقول: جرحى"، وأثبت الزيادة من المخطوطة.
(4) انظر تفسير"مهين" فيما سلف 8: 355 تعليق: 3، والمراجع هناك.(9/163)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103)
*ذكر من قال ذلك:
10379- حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"إن كان بكم أذًى من مطر أو كنتم مرضى"، عبد الرحمن بن عوف، كان جريحًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا فرغتم، أيها المؤمنون، من صلاتكم وأنتم مواقفو عدوِّكم= التي بيّناها لكم، (1) فاذكروا الله على كل أحوالكم= قيامًا وقعودًا ومضطجعين على جنوبكم، بالتعظيم له، والدعاء لأنفسكم بالظفر على عدوكم، لعل الله أن يظفركم وينصركم عليهم. وذلك نظير قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [سورة الأنفال: 45] ، وكما:-
10380- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"واذكروا الله كثيرًا"، (2) يقول: لا يفرض الله على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلومًا، (3) ثم عذر أهلها في حال عذرٍ، غيرَ الذكر، فإن الله لم يجعل له حدًا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدًا في تركه إلا مغلوبًا على عقله، فقال:"فاذكروا الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبكم"، بالليل والنهار، في البر والبحر، وفي السفر والحضر، والغنى والفقر، والسقم والصحة، والسرِّ والعلانية، وعلى كل حالٍ.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"قضى" فيما سلف 2: 542، 543 / 4: 195.
وقوله: "التي بينها لكم"، صفة قوله: "من صلاتكم".
وكان في المطبوعة هنا أيضًا: "موافقو عدوكم"، خطأ. انظر التعليق السالف ص163، تعليق: 2.
(2) في المطبوعة: "فاذكروا الله قيامًا"، مكان قوله تعالى: "واذكروا الله كثيرًا"، وهو في ظني تصرف من الناشر، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا جعل لها جزاء معلومًا"، وهو خطأ، والصواب"حدًا" كما يدل عليه سياق الكلام، وسياق المعنى.(9/164)
وأما قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى قوله:"فإذا اطمأننتم"، فإذا استقررتم في أوطانكم وأقمتم في أمصاركم (1) ="فأقيموا"، يعني: فأتموا الصلاة التي أذن لكم بقصرها في حال خوفكم في سفركم وضربكم في الأرض. (2)
*ذكر من قال ذلك:
10381- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل، عن مجاهد في قوله:"فإذا اطمأننتم"، قال: الخروج من دارِ السفر إلى دار الإقامة.
10382- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله:"فإذا اطمأننتم"، يقول: إذا اطمأننتم في أمصاركم، فأتموا الصلاة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"فإذا استقررتم"="فأقيموا الصلاة"، أي: فأتموا حدودَها بركوعها وسجودها.
*ذكر من قال ذلك:
10383- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإذا اطمأننتم"، قال: فإذا اطمأننتم بعد الخوف.
10384- وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، قال: فإذا اطمأننتم فصلُّوا الصلاة، لا تصلِّها راكبًا ولا ماشيًا ولا قاعدًا. (3)
__________
(1) وانظر تفسير"الاطمئنان" فيما سلف 5: 492.
(2) في المخطوطة: "فأقيمو الصلاة التي أذن ... " ليس فيها"يعني: فأتموا".
(3) انظر تفسير"إقامة الصلاة" فيما سلف 1: 241، وفهارس اللغة في الأجزاء السالفة.(9/165)
10385- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، قال: أتموها.
10386- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، تأويل من تأوّله: فإذا زال خوفكم من عدوكم وأمنتم، أيها المؤمنون، واطمأنت أنفسكم بالأمن="فأقيموا الصلاة"، فأتموا حدودَها المفروضة عليكم، (1) غير قاصريها عن شيء من حدودها.
وإنما قلنا ذلك أولى التأويلين بالآية، لأن الله تعالى ذكره عرَّف عباده المؤمنين الواجبَ عليهم من فرض صَلاتهم بهاتين الآيتين في حالين:
إحداهما: حالُ شدة خوف، أذن لهم فيها بقصر الصلاة، على ما بيَّنت من قصر حدودها عن التمام.
والأخرى: حالُ غير شدة الخوف، أمرهم فيها بإقامة حدودها وإتمامها، على ما وصفه لهم جل ثناؤه، من معاقبة بعضهم بعضًا في الصلاة خلف أئمتهم، وحراسة بعضهم بعضًا من عدوهم. وهي حالة لا قصر فيها، لأنه يقول جل ثناؤه: لنبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الحال:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة". فمعلوم بذلك أن قوله:"فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة"، إنما هو: فإذا اطمأننتم من الحال التي لم تكونوا مقيمين فيها صلاتكم، فأقيموها. وتلك حالة شدة الخوف، لأنه قد أمرهم بإقامتها في حالٍ غير شدة الخوف بقوله:"وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة" الآية.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فأتموها بحدودها"، غير ما في المخطوطة مسيئًا في تغييره.(9/166)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معناه: إن الصلاة كانت على المؤمنين فريضة مفروضة. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10387- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا. (2)
10388- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا،"الموقوت"، المفروض. (3)
10389- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أما"كتابًا موقوتًا"، فمفروضًا.
10390- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"كتابًا موقوتًا"، قال: مفروضًا. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"كتاب" فيما سلف 3: 364، 365، 409 / 4: 295، 297 / 5: 300، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "كتابًا موقوتًا، قال: فريضة مفروضة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر: 10388 - كان إسناد هذا الأثر في المطبوعة: "حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني علي، عن ابن عباس: إن الصلاة ... ". وأثبت الإسناد الذي في المخطوطة.
ومع ذلك فالإسناد الذي في المطبوعة فيه خطأ، فإنه أسقط بين"حدثنا عبد الله بن صالح" وبين"قال حدثني علي" ما لا ينبغي إسقاطه وهو: "قال حدثني معاوية"، فهذا إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 10380.
(4) الأثر: 10390 - هذا الأثر مقدم على الذي قبله في المخطوطة.(9/167)
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضًا واجبًا.
*ذكر من قال ذلك:
10391- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء، عن الحسن في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: كتابًا واجبًا.
10392- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"كتابًا موقوتًا"، قال: واجبًا.
10393- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
10394- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن معمر بن سام، عن أبي جعفر في قوله:"كتابًا موقوتًا"، قال: مُوجَبًا. (1)
__________
(1) الأثر: 10394 -"معمر بن سام"، يقال هو منسوب إلى جده وهو"معمر بن سام بن موسى" أو: "معمر بن يحيى بن سام"، روى عن أبي جعفر محمد بن علي بن الحسين، وعن أخيه أبان بن يحيى بن سام، وفاطمة بنت علي. روى عنه وكيع، وأبو أسامة، وأبو نعيم. سئل أبو زرعة عن"معمر بن يحيى بن سام" فقال: كوفي ثقة. مترجم في التهذيب، وفي الكبير 4 / 1 / 377"معمر بن يحيى بن سام"، وفي 4 / 1 / 378"معمر بن موسى بن سام"، وهما ترجمة واحدة. وفي الجرح والتعديل 4 / 1 / 258 وسيأتي في رقم: 10396، "معمر بن يحيى".
وكان في المطبوعة: "معمر بن هشام" وهو خطأ محض، وفي المخطوطة"معمر بن شام"، والصواب ما أثبت.
و"أبو جعفر" هو: أبو جعفر الباقر" محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب"، كان ثقة كثير الحديث، وذكره النسائي في فقهاء أهل المدينة من التابعين. وقال الزبير بن بكار: "كان يقال لمحمد: باقر العلم".
وكان في المخطوطة: "موقوتا قال: موجوبا" وهي غريبة لا يجيزها الاشتقاق، وكأن الناسخ سها، وغلب عليه وزن"موقوتا"، فكتب"موجوبا"، والذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله. أو تكون كما يجيء في الأثر رقم: 10396"موقوتًا: وجوبها" فكتبها الناسخ"موجوبا"، وقرأها كذلك خطأ أو سهوًا.(9/168)
10395- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، و"الموقوت"، الواجب.
10396- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا معمر بن يحيى قال، سمعت أبا جعفر يقول:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: وجوبها. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا، منجَّمًا يؤدُّونها في أنجمها. (2)
*ذكر من قال ذلك:
10397- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: قال ابن مسعود: إن للصلاة وقتًا كوقت الحجِّ.
10398- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن زيد بن أسلم في قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، قال: منجَّمًا، كلما مضى نجم جاء نَجْم آخر. يقول: كلما مضى وقت جاء وقت آخر.
10399- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) الأثر: 10396 -"معمر بن يحيى" هو"معمر بن سام" الذي سلف في الأثر: 10394، وانظر التعليق السالف.
(2) "النجم" هو الوقت المضروب، يقال: "جعلت مالي على فلان نجومًا منجمة، يؤدي كل نجم في شهر كذا"، وهو القسط أو الوظيفة يؤديها عند حلول وقتها مشاهرة أو مساناة. وجمع"نجم""نجوم" و"أنجم"، و"نجم المال والدين ينجمه تنجيمًا". وانظر تفسير ذلك في الأثر التالي رقم: 10398.(9/169)
وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
أبي جعفر الرازي، عن زيد بن أسلم، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال قريب معنى بعضها من بعض. لأن ما كان مفروضًا فواجب، وما كان واجبًا أداؤه في وقت بعد وقت فمنجَّم.
غير أن أولى المعاني بتأويل الكلمة، قول من قال:"إن الصلاة كانت على المؤمنين فرضًا منجَّمًا"، لأن"الموقوت" إنما هو"مفعول" من قول القائل:"وَقَتَ الله عليك فرضه فهو يَقِته"، ففرضه عليك"موقوت"، إذا أخرته، جعل له وقتًا يجب عليك أداؤه. (1) فكذلك معنى قوله:"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا"، إنما هو: كانت على المؤمنين فرضًا وقَّت لهم وقتَ وجوب أدائه، فبيَّن ذلك لهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا تهنوا"، ولا تضعفوا.
* * *
من قولهم:"وهَنَ فلان في هذا الأمرَ يهِن وَهْنًا ووُهُونًا". (2)
* * *
وقوله:"في ابتغاء القوم"، يعني: في التماس القوم وطلبهم، (3) و"القوم"
__________
(1) في المطبوعة: "إذا أخبر أنه جعل له وقتًا ... " وهو كلام غسيل من كل معنى. وفي المخطوطة: "إذا احرانه" غير منقوطة، وبزيادة ألف بعد الراء، وصواب قراءتها ما أثبت، وهو صواب المعنى أيضًا.
(2) انظر تفسير"وهن" فيما سلف 7: 234، 269، و"الوهون" مصدر لم تنص عليه أكثر كتب اللغة، ولم يذكره أبو جعفر فيما سلف 7: 234.
(3) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 71 تعليق: 2، والمراجع هناك(9/170)
هم أعداء الله وأعداء المؤمنين من أهل الشرك بالله="إن تكونوا تألمون"، يقول: إن تكونوا أيها المؤمنون، تَيْجعون مما ينالكم من الجراح منهم في الدنيا، (1) ="فإنهم يألمون كما تألمون"، يقول: فإن المشركين يَيْجعون مما ينالهم منكم من الجراح والأذى مثل ما تَيجعون أنتم من جراحهم وأذاهم فيها="وترجون"، أنتم أيها المؤمنون = "من الله" من الثواب على ما ينالكم منهم= "ما لايرجون" هم على ما ينالهم منكم. يقول: فأنتم= إذ كنتم موقنين من ثواب الله لكم على ما يصيبكم منهم، (2) بما هم به مكذّبون= أولى وأحرَى أن تصبروا على حربهم وقتالهم، منهم على قتالكم وحربكم، وأن تجِدُّوا من طلبهم وابتغائهم، لقتالهم على ما يَهنون فيه ولا يَجِدّون، فكيف على ما جَدُّوا فيه ولم يهنوا؟ (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10400- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"، يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإنكم إن تكونوا تيجعون، فإنهم ييجعون كما تيجعون، وترجون من الله من الأجر والثواب ما لا يرجون.
__________
(1) يقال: "وجع الرجل يوجع وييجع وياجع وجعا"، كله صواب جيد.
(2) في المطبوعة: "إن كنتم موقنين"، وهو خطأ، صوابه ما في المخطوطة. وهذه الجملة بين الخطين، معترضة بين المبتدأ والخبر. والسياق: "فأنتم.. أولى وأحرى أن تصبروا".
(3) في المطبوعة: "فإن تجدوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما تهنون هم فيه ولا تجدون، فكيف على ما وجدوا فيه ولم يهنوا"، وهو كلام لا معنى له، وضع عليه ناشر الطبعة الأولى رقم (3) دلالة على اضطراب الكلام.
وفي المخطوطة: "وإن تجدوا من طلبهم وابتغائهم لقتالهم على ما تهنون ولا يحدون، فكيف على فاحذوا فيه ولم يهنوا"! وهي أشد اضطرابًا وفسادًا لعدم نقطها. وصواب قراءتها ما أثبت.
وسياق هذه العبارة كلها: "فأنتم ... أولى وأحرى أن تصبروا على حربهم وقتالهم ... وأن تجدوا في طلبهم وابتغائهم، لقتالهم على ما يهنون ... " أي: لكي يقاتلوهم على الأمر الذي لا يجدون فيه جدًا لا وهن معه.(9/171)
10401- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"، قال يقول: لا تضعفوا في طلب القوم، فإن تكونوا تيجعون الجراحات، (1) فإنهم يَيْجعون كما تيجعون.
* * *
10402- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم"، لا تضعفوا.
10403- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا تهنوا"، يقول: لا تضعفوا. (2)
10404- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تهنوا في ابتغاء القوم"، قال يقول: لا تضعفوا عن ابتغائهم="إن تكونوا تألمون" القتال="فإنهم يألمون كما تألمون". وهذا قبل أن تصيبهم الجراح (3) = إن كنتم تكرهون القتال فتألمونه="فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون"، يقول: فلا تضعفوا في ابتغائهم بمكان القتال. (4)
10405- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن تكونوا تألمون"، توجعون.
10406- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج"إن تكونوا تألمون"، قال: توجعون لما يصيبكم منهم، فإنهم يوجعون
__________
(1) في المطبوعة: "تيجعون من الجراحات" بزيادة"من"، والذي في المخطوطة صواب.
(2) هذا الأثر لم يتم في المخطوطة، فقد انتهت الصحيفة بقوله تعالى"فلا تهنوا"، ثم قلب الوجه الآخر وكتب"في ابتغاء القوم ... "، وساق بقية الخبر التالي وأسقط إسناده. وتركت ما في المطبوعة على حاله، وهو الصواب بلا شك.
(3) في المطبوعة: "قال: وهذا ... " بزيادة"قال"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "مكان القتال"، وفي المخطوطة: "لمكان القتال"، وهذا صواب قراءتها، يعني: جدهم في التماس القوم في المعركة.(9/172)
كما توجعون، وترجون أنتم من الثواب فيما يصيبكم ما لا يرجون.
10407- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لما كان قتال أُحُد، وأصابَ المسلمين ما أصاب، صعد النبيّ صلى الله عليه وسلم الجبل، فجاء أبو سفيان فقال:"يا محمد، ألا تخرج؟ ألا تخرج؟ (1) الحرب سِجَال، يوم لنا ويوم لكم". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: أجيبوه. فقالوا:"لا سواء، لا سواء، (2) قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار". فقال أبو سفيان:"عُزَّى لنا ولا عُزَّى لكم"، (3) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا له:"الله مولانا ولا مولى لكم". قال أبو سفيان:"أُعْلُ هُبَل، أُعْل هبل"! (4) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا له:"الله أعلى وأجل"! فقال أبو سفيان:"موعدنا وموعدكم بدر الصغرى"، ونام المسلمون وبهم الكلوم (5) = وقال عكرمة: وفيها أنزلت: (إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [سورة آل عمران: 140] ، وفيهم أنزلت:"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليمًا حكيمًا". (6)
10408- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون"،
__________
(1) في المطبوعة: "لا جرح إلا بجرح"، أساء قراءة المخطوطة إذ كانت غير منقوطة، فكتبها كما كتب!! ولا معنى له. وقوله: "الحرب سجال"، أي: مرة لهذا ومرة لهذا.
(2) في المطبوعة، حذف"لا سواء" الثانية، لأن الناسخ كان قد كتب شيئًا ثم ضرب عليه، فاختلط الأمر على الناشر الأول، فحذف.
(3) "العزى" صنم كان لقريش وبني كنانة.
(4) و"هبل" صنم كان في الكعبة لقريش. وقد مضى تفسير"اعل هبل" 7: 310، وخطأ من ضبطه"أعل" بهمز الألف وسكون العين وكسر اللام، وأن الصواب أنها من"علا يعلو".
(5) "الكلوم" جمع"كلم" (بفتح وسكون) : الجرح. و"الكليم": الجريح.
(6) الأثر: 10407 - مضى برقم: 7098، وجاء فيه على الصواب، ومنه ومن المخطوطة صححت ما سلف.(9/173)
قال: ييجعون كما تيجعون.
وقد ذُكر عن بعضهم أنه كان يتأول، (1) قوله:"وترجون من الله ما لا يرجون"، وتخافون من الله ما لا يخافون، من قول الله: (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ) [سورة الجاثية: 14] ، بمعنى: لا يخافون أيام الله.
وغير معروف صرف"الرجاء" إلى معنى"الخوف" في كلام العرب، إلا مع جحد سابق له، كما قال جل ثناؤه: (مَا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا) [سورة نوح: 13] ، بمعنى: لا تخافون لله عظمة، وكما قال الشاعر: (2)
لا تَرْتَجِي حِينَ تُلاقِي الذَّائِدَا ... أَسَبْعَةً لاقَتْ مَعًا أَمْ وَاحِدَا (3)
وكما قال أبو ذؤيب الهُذَليّ:
إِذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا فِي بَيْتِ نُوبٍ عَوَامِلِ (4)
__________
(1) في المطبوعة: "وقد ذكرنا عن بعضهم" وهو خطأ لا شك فيه، صوابه في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "الشاعر الهذلي"، وهو خطأ نقل نسبة أبي ذؤيب في البيت بعده إلى هذا المكان. ولم أعرف هذا الراجز من يكون، وإن كنت أخشى أن يكون الرجز لأبي محمد الفقعسي.
(3) معاني القرآن للفراء 1: 286، والأضداد لابن الأنباري: 9، واللسان (رجا) .
(4) ديوانه: 143، ومعاني القرآن للفراء 1: 286، وسيأتي في التفسير 11: 62 / 25: 83 / 29: 60 (بولاق) . يروى: "إذا لسعته الدبر"، وتأتي روايته في التفسير"نوب عواسل" أيضًا. وهذا البيت من قصيدة له، وصف فيها مشتار العسل من بيوت النحل، فقال قبل هذا البيت: تَدَلَّى عَلَيْهَا بالحِبَالِ مُوَثَّقًا ... شَدِيدُ الْوَصَاةِ نابِلٌ وَابْنُ نِابِلِ
فَلَوْ كَانَ حَبْلا مِنْ ثَمَانِينَ قَامَةً ... وَسَبْعِينَ بَاعًا، نَالَهَا بالأَنامِلِ
يقول: تدلى على هذه النحل مشتار موثق بالحبال، شديد الوصاة والحفظ لما ائتمن عليه، حاذق وابن حاذق بما مرن عليه وجربه. ثم ذكر أنه لا يخاف لسع النحل، إذا هو دخل عليها فهاجت عليه لتلسعه.
وقوله: "فخالفها"، أي دخل بيتها ليأخذ عسلها، وقد خرجت إليه حين سمعت حسه، فخالفها إلى بيوت عسلها غير هياب للسعها. ويروى"حالفها" بالحاء، أي: لازمها، ولم يخش لسعها. و"النوب" جمع"نائب" وهو صفة للنحل، أي: إنها ترعى ثم تنوب إلى بيتها لتضع عسلها، تجيء وتذهب. و"العوامل"، هي التي تعمل العسل. و"العواسل" النحل التي تصنع العسل، أو ذوات العسل.(9/174)
وهي فيما بلغنا - لغةٌ لأهل الحجاز يقولونها، بمعنى: ما أبالي، وما أحْفِلُ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104) }
يعني بذلك جل ثناؤه: ولم يزل الله="عليمًا" بمصالح خلقه="حكيمًا"، في تدبيره وتقديره. (2) ومن علمه، أيها المؤمنون، بمصالحكم عرّفكم= عند حضور صلاتكم وواجب فرض الله عليكم، وأنتم مواقفو عدوكم (3) = ما يكون به وصولكم إلى أداء فرض الله عليكم، والسلامة من عدوكم. ومن حكمته بصَّركم ما فيه تأييدكم وتوهينُ كيد عدوكم. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّا أَنزلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) }
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 286.
(2) انظر تفسير"كان" و"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة: "موافقو عدوكم"، وقد مضى مثل هذا الخطأ مرارًا فيما سلف ص: 146، تعليق: 1.
(4) في المطبوعة: "بصركم بما فيه" بزيادة الباء، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.(9/175)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106)
القول في تأويل قوله: {وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"،"إنا أنزلنا إليك" يا محمد="الكتاب"، يعني: القرآن="لتحكم بين الناس"، لتقضي بين الناس فتفصل بينهم="بما أراك(9/175)
الله"، يعني: بما أنزل الله إليك من كتابه="ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يقول: ولا تكن لمن خان مسلمًا أو معاهدًا في نفسه أو ماله="خصيما" تخاصم عنه، وتدفع عنه من طالبه بحقِّه الذي خانه فيه="واستغفر الله"، يا محمد، وسَلْه أن يصفح لك عن عقوبة ذنبك في مخاصمتك عن الخائن من خان مالاً لغيره="إن الله كان غفورًا رحيمًا"، يقول: إن الله لم يزل يصفح عن ذنوب عباده المؤمنين، بتركه عقوبتهم عليها إذا استغفروه منها="رحيما" بهم. (1)
فافعل ذلك أنت، يا محمد، يغفر الله لك ما سلف من خصومتك عن هذا الخائن.
* * *
وقد قيل إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن خاصم عن الخائن، ولكنه هَّم بذلك، فأمره الله بالاستغفار مما هَمَّ به من ذلك.
* * *
وذكر أن الخائنين الذين عاتب الله جلَّ ثناؤه نبيه صلى الله عليه وسلم في خصومته عنهم: بنو أُبَيْرِق.
* * *
واختلف أهل التأويل في خيانته التي كانت منه، فوصفه الله بها.
فقال بعضهم: كانت سرقًة سرقها.
*ذكر من قال ذلك:
10409- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" إلى قوله:"ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله"، فيما بين ذلك، في ابن أبيرق، (2) ودرعه من حديد، من يهود، التي سرق، (3)
__________
(1) انظر تفسير"الاستغفار"، و"كان" و"غفور" و"رحيم" فيما سلف في فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "طعمة بن أبيرق"، وسيأتي ذكر"طعمة بن أبيرق" في رقم: 10412، ولكنه في المخطوطة هنا"ابن أبيرق"، وسترى الاختلاف في الآثار في بني أبيرق هؤلاء.
(3) قوله"من يهود" أثبتها من المخطوطة.(9/176)
وقال أصحابه من المؤمنين للنبي:"اعذره في الناس بلسانك"، ورموا بالدّرع رجلا من يهود بريئًا.
10410- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه. (1)
10411- حدثنا الحسن بن أحمد بن أبي شعيب أبو مسلم الحراني قال، حدثنا محمد بن سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن أبيه، عن جده قتادة بن النعمان قال: كان أهل بيت منا يقال لهم بنو أبيرق: بشر وبَشِير، ومُبَشِّر، وكان بشير رجلا منافقًا، وكان يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ينحله إلى بعض العرب، ثم يقول:"قال فلان كذا"، و"قال فلان كذا"، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا: والله ما يقول هذا الشعر إلا الخبيث! فقال: (2)
أَوَ كُلَّمَا قَالَ الرِّجَالُ قَصِيدَةً ... أَضِمُوا وَقَالُوا: ابْنُ الأبَيْرِقِ قَالَهَا! (3)
قال: وكانوا أهل بيت فاقةٍ وحاجة في الجاهلية والإسلام، وكان الناس
__________
(1) الأثر: 10410 - هذا الأثر غير ثابت في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "إلا هذا الخبيث"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة: "نحلت وقالوا"، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وقد جاء هذا البيت في المستدرك للحاكم خطأ:. . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... ضموا إلى بان أبيرق قالها
والذي هنا هو صوابه، وأنشد بعده هناك: مُتَخَمِّطِينَ كأنَّنِي أَخْشَاهُم ... جَدَعَ الإِلهُ أُنُوفَهُمْ فَأَبَانَهَا
هكذا جاء على الإقواء، على الخلاف بين القافية في"قالها" و"أبانها" وهو عيب جاء مثله في الشعر، لتقارب مخرج اللام والنون، وأعانه على ذلك وجود الهاء والألف صلة للقافية.
وقوله: "أضموا" أي: غضبوا عليه وحقدوا. وقوله: "متخمطين"، قد غضبوا وهدروا وثاروا وأجلبوا. رجل متخمط: شديد الغضب له ثورة وجلبة. وفي المستدرك: "متخطمين" بتقدم الطاء على الميم، وهو خطأ، صوابه ما أثبت.(9/177)
إنما طعامهم بالمدينة التمر والشَّعير، وكان الرجل إذا كان له يَسَار فقدمت ضَافِطة من الشأم بالدَّرْمك، (1) ابتاع الرجل منها فخصَّ به نفسه. (2) فأما العِيال، فإنما طعامهم التمر والشَّعير. فقدمت ضافطة من الشأم، فابتاع عمي رِفاعة بن زيد حملا من الدَّرمك، فجعله في مَشْرُبة له، (3) وفي المشربة سلاح له: دِرْعَان وسيفاهما وما يصلحهما. فعُدِي عليه من تحت الليل، (4) فنُقِبَت المشربة، وأُخِذَ الطعام والسّلاح. فلما أصبح، أتاني عمي رفاعة فقال: يا ابن أخي، تعلَّم أنه قد عُدي علينا في ليلتنا هذه، (5) فنقبت مشرُبتنا، فذُهِب بسلاحنا وطعامنا! قال: فتحسّسنا في الدار، (6) وسألنا، فقيل لنا: قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة، ولا نرى فيما نراه إلا على بعض طعامكم.
= قال: وقد كان بنو أبيرق قالوا ونحن نسأل في الدار: والله ما نرى صاحبكم إلا لبيد بن سهل! = رجلا منا له صلاح وإسلام. (7) فلما سمع بذلك لبيد، اخترط سيفه ثم أتى بني أبيرق فقال: (8) والله ليخالطنكم هذا السيف، أو لتُبَيّننَّ هذه
__________
(1) الضافطة: كانوا قومًا من الأنباط يحملون إلى المدينة الدقيق والزيت وغيرهما. ثم قالوا للذي يجلب الميرة والمتاع إلى المدن، والمكاري الذي يكري الأحمال"الضافطة" و"الضفاط". و"الدرمك" هو الدقيق النقي الحواري، الأبيض.
(2) في المطبوعة: "ابتاع الرجل منهم"، وفي المخطوطة: "منا"، وأثبت ما في المراجع.
(3) "المشربة" (بفتح الميم وسكون الشين وفتح الراء أو ضمها) : وهي الغرفة، أو العلية، أو الصفة بين يدي الغرفة. والمشارب: العلالي.
(4) في المراجع الأخرى: "من تحت البيت"، وكأن الذي في الطبري هو صواب الرواية.
(5) "تعلم" (بتشديد اللام) ، بمعنى: اعلم.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "فتجسسنا" بالجيم، وهي صواب، وأجود منها بالحاء، كما في سائر المراجع."تحسس الخبر": تطلبه وتبحثه، وفي التنزيل: "يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه".
و"الدار" هنا: المحلة التي تنزلها القبيلة أو البطن منها، ويعني بها القبيلة أو البطن، كما جاء في الحديث: "ألا أنبئكم بخير دور الأنصار؟ دور بني النجار، ثم دور بني عبد الأشهل، وفي كل دور الأنصار خير". يعني القبيلة المجتمعة في محلة تسكنها.
(7) في المطبوعة: "رجل" بالرفع، كأنه استنكر النصب! وهو صواب محض عال.
(8) "اخترط سيفه": سله من غمده.(9/178)
السرقة. قالوا: إليك عنا أيها الرجل، فوالله ما أنت بصاحبها! فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها، فقال عمي: يا ابن أخي، لو أتيت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له!
= قال قتادة: فأتيت رَسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فقلت: يا رسول الله، إن أهل بيت منا أهلَ جفاءٍ، (1) عَمَدُوا إلى عمي رفاعة فنقبوا مشرُبة له، وأخذوا سلاحه وطعامه، فليردّوا علينا سلاحنا، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه. (2) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنظر في ذلك. (3) فلما سمع بذلك بنو أبيرق، أتوا رجلا منهم يقال له:"أسير بن عروة"، فكلموه في ذلك. واجتمع إليه ناس من أهل الدار، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا رسول الله، إن قتادة بن النعمان وعمه عَمَدوا إلى أهل بيت منا أهلَ إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بَيِّنةٍ ولا ثَبَت. (4)
= قال قتادة: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمته، فقال: عَمدت إلى أهل بيت ذُكر منهم إسلام وصلاح، ترميهم بالسرقة على غير بينة ولا ثَبَت!! قال: فرجعت ولوِددْتُ أنِّي خرجت من بعض مالي ولم أكلِّم رَسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فأتيت عمي رفاعة، فقال: يا ابن أخي، ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: الله المستعان!
= فلم نلبث أن نزل القرآن:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يعني: بني أبيرق="واستغفر الله"، أي: مما قلت لقتادة="إن الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون
__________
(1) "الجفاء" غلظ الطبع.
(2) في المخطوطة: "فلا حاجة لنا به"، وهما سواء.
(3) في المطبوعة: "سأنظر في ذلك"، وفي الترمذي وابن كثير: "سآمر في ذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) "الثبت" (بفتحتين) : الحجة والبينة والبرهان.(9/179)
أنفسهم"، أي: بني أبيرق="إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيمًا يستخفون من الناس إلى قوله:"ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، أي: إنهم إن يستغفروا الله يغفر لهم="ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليمًا حكيمًا ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يَرْم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، قولهم للبيد="ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك"، يعني: أسيرًا وأصحابه="وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرُّونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة" إلى قوله:"فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا".
فلما نزل القرآن، أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فردَّه إلى رفاعة. = قال قتادة: فلما أتيتُ عمي بالسلاح، وكان شيخًا قد عَسَا في الجاهلية، (1) وكنت أرى إسلامه مَدْخولا (2) فلما أتيته بالسلاح قال: يا ابن أخي، هو في سبيل الله. قال: فعرفت أن إسلامه كان صحيحًا. فلما نزل القرآن، لحق بشير بالمشركين، فنزل على سلافة ابنة سعد بن شُهَيد، (3) فأنزل الله فيه: (وَمَنْ يُشَاقِقِ
__________
(1) "عسا في الجاهلية" أي: كبر وأسن، من قولهم: "عسا العود" أي: يبس واشتد وصلب.
(2) "المدخول"، من"الدخل" (بفتحتين) وهو العيب والفساد والغش، يعني أن إيمانه كان فيه نفاق. ورجل مدخول: أي في عقله دخل وفساد.
(3) في المطبوعة: "سلافة بنت سعد بن سهل"، وفي المخطوطة: " ... بنت سعد بن سهيل"، وفي الترمذي وابن كثير"بنت سعد بن سمية" وفي المستدرك: "سلامة بنت سعد بن سهل، أخت بني عمرو بن عوف، وكانت عند طلحة بن أبي طلحة بمكة".
والصواب الذي لا شك فيه هو ما أثبته، وقد جاءت على الصواب في الدر المنثور، ثم جاءت كذلك في ديوان حسان بن ثابت.
و"سلافة بنت سعد بن شهيد" أنصارية من بني عوف بن عمرو بن مالك بن الأوس، استظهرت نسبها: "سلافة بنت سعد بن شهيد بن عمرو بن زيد بن أمية بن زيد بن مالك بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس". وذلك من جمهرة الأنساب لابن حزم، ص: 314، إذ ذكر"عويمر بن سعد بن شهيد بن عمرو ... " وقال: "له صحبة، ولاه عمر فلسطين". ولم أجد في تراجم الصحابة وسائر المراجع"عويمر بن سعد بن شهيد". هذا، ولكن نقل ابن حزم صحيح بلا شك. فإن يكن ذلك، فعويمر هذا أخو سلافة هذه. و"سلافة بنت سعد بن شهيد الأنصارية" معروفة غير منكورة، فهي زوج طلحة بن أبي طلحة، وهي أم مسافع، والجلاس، وكلاب، بنو طلحة بن أبي طلحة (ابن هشام 3: 66) ، وقد قتلوا يوم أحد هم وأبوهم، قتل مسافعًا والجلاس، عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح، حمى الدبر، فنذرت سلافة: لئن قدرت على رأس عاصم لتشربن في قحفه الخمر! فمنعته الدبر (النحل) حين أرادت هذيل أخذ رأسه ليبيعوه من سلافة (ابن هشام 3: 180) .
فهذا تحقيق اسمها إن شاء الله، يصحح به ما في الترمذي والمستدرك ومن نقل عنهما.(9/180)
الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) إلى قوله: (وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا) . فلما نزل على سلافة، رماها حسان بن ثابت بأبيات من شعر، (1)
فأخذت رحله فوضعته على رأسها، ثم خرجت فرمتْ به في الأبطح، (2) ثم قالت: أهديتَ إليّ شعر حسان! ما كنت تأتيني بخير! (3)
__________
(1) شعر حسان هذا في ديوانه: 271 يقول في أوله يذكر سلافة بالسوء من القول، قال: وَمَا سَارِقُ الدِّرْعَيْنِ إنْ كُنْتَ ذاكِرًا ... بذي كَرَمٍ من الرجالِ أُوَادِعُهْ
فَقَدْ أَنْزَلَتْهُ بِنْتُ سَعْدٍ، فأَصْبَحَتْ ... يُنَازِعُهَا جِلْدَ اسْتِها وَتُنَازِعُهْ
(2) في المطبوعة: "فرمته بالأبطح"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لما في الترمذي. و"الأبطح"، هو أبطح مكة، أو: بطحاء مكة، وهو مسيل واديها.
(3) الأثر: 10411 -"الحسن بن أحمد بن أبي شعيب عبد الله بن مسلم الأموي" أبو مسلم الحراني. من أهل حران، سكن بغداد. قال الخطيب: "ثقة مأمون". وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "يغرب". روى عن محمد بن سلمة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 2، وتاريخ بغداد 7: 266.
وهذا الأثر رواه الترمذي في السنن، في تفسير هذه الآية، بإسناد الطبري نفسه، أعني عن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب. ورواه الحاكم في المستدرك 4: 385، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 574-576، والسيوطي في الدر 2: 214، 215، وزاد نسبته لابن أبي حاتم، وأبي الشيخ.
وإسناد الحاكم في المستدرك: "حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب، حدثنا أحمد بن عبد الجبار، حدثنا يونس بن بكير، حدثني محمد بن إسحاق ... "، وساق إسناده مرفوعًا إلى قتادة بن النعمان، كما في التفسير والترمذي.
وأشار الخطيب البغدادي إلى هذا الخبر بإسناده: "أخبرنا عثمان بن محمد بن يوسف العلاف، أخبر محمد بن عبد الله الشافعي قال، حدثنا عبد الله بن الحسن بن أحمد بن أبي شعيب (وهو أبو شعيب) ، حدثنا جدي وأبي جميعًا فقالا، حدثنا محمد بن سلمة" وساقه كإسناد أبي جعفر.
وقد ذكر الحافظ ابن حجر في التهذيب أن أبا مسلم الحراني (الحسن بن أحمد) روى عن أبيه وجده، وأخشى أن يكون وهم، وجاءه الوهم من هذا الإسناد لقوله"حدثني جدي وأبي جميعًا"، وإنما قائل ذلك هو عبد الله بن الحسن بن أحمد، لا الحسن بن أحمد.
ثم قال الخطيب البغدادي: "قال أبو شعيب: "قال أبي (يعني الحسن بن أحمد) : سمعه مني يحيى بن معين ببغداد في مسجد الجامع، وأحمد بن حنبل، وعلي بن المديني، وإسحاق بن أبي إسرائيل". وأما في ابن كثير، فقائل هذا: "محمد بن سلمة"، وهو الصواب.
وقال الحاكم في المستدرك (ولفظه مخالف لفظ الطبري) : "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه".
أما الترمذي فقد قال: "هذا حديث غريب، لا نعلم أحدًا أسنده غير محمد بن سلمة الحراني. وروى يونس بن بكير وغير واحد هذا الحديث عن محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، مرسلا، لم يذكروا فيه: عن أبيه عن جده".
غير أن الحاكم: رواه كما ترى من طريق يونس بن بكير، مرفوعًا إلى قتادة بن النعمان.(9/181)
10412- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله"، يقول: بما أنزل الله عليك وبيَّن لك="ولا تكن للخائنين خصيمًا"، فقرأ إلى قوله:"إن الله لا يحب من كان خوانًا أثيمًا". ذُكر لنا أن هؤلاء الآيات أنزلت في شأن طُعْمة بن أبيرق، وفيما همَّ به نبي الله صلى الله عليه وسلم من عذره، وبين الله شأن طعمة بن أبيرق، ووعظ نبيَّه وحذّره أن يكون للخائنين خصيمًا.
= وكان طعمة بن أبيرق رجلا من الأنصار، ثم أحد بني ظفر، سرق درعًا لعمّه كانت وديعة عنده، ثم قذفها على يهودي كان يغشاهم، (1) يقال له:"زيد بن السمين". (2) فجاء اليهودي إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم يُهْنِف، (3) فلما رأى ذلك قومه بنو ظفر، جاؤوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليعذروا صاحبهم،
__________
(1) في المخطوطة والدر المنثور: "فقدمها" والصواب ما في المطبوعة.
(2) في أسباب النزول للواحدي: 134: "زيد بن السمير" بالراء، وسائر الكتب كما هنا في المطبوعة والمخطوطة.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "يهتف" بالتاء، كأنه أراد يصيح ويدعو رسول الله ويناشده. ولكني رجحت قراءتها بالنون، من قولهم: "أهنف الصبي إهنافًا"، إذا تهيأ للبكاء وأجهش. ويقال للرجال: "أهنف الرجل"، إذا بكى بكاء الأطفال من شدة التذلل. وهذا هو الموافق لسياق القصة فيما أرجح.(9/182)
وكان نبي الله عليه السلام قد همَّ بعُذْره، حتى أنزل الله في شأنه ما أنزل، فقال:"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" إلى قوله:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة"، يعني بذلك قومه="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، وكان طعمة قذَف بها بريئًا. فلما بيَّن الله شأن طعمة، نافق ولحق بالمشركين بمكة، فأنزل الله في شأنه:
(وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) .
10413- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، وذلك أن نفرًا من الأنصار غزوا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته، فسرقت درع لأحدهم، فأظَنَّ بها رجلا من الأنصار، (1) فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنّ طعمة بن أبيرق سرق درعي. فأتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما رأى السارق ذلك، عَمَد إليها فألقاها في بيت رجل بريء، وقال لنفر من عشيرته: إني قد غيَّبْتُ الدرعَ وألقيتها في بيت فلان، وستوجد عنده. فانطلقوا إلى نبيّ الله صلى الله عليه وسلم ليلا (2) فقالوا: يا نبيّ الله، إن صاحبنا بريء، وإن سارق الدرع فلان، وقد أحطْنا بذلك علمًا، فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه، فإنه إلا يعصمه الله بك يهلك! (3) فقام رسول الله صلى الله
__________
(1) "ظننت الرجل، وأظننته"، اتهمته. و"الظنة" (بالكسر) : التهمة.
(2) "ليلا" غير موجودة في المخطوطة، ولكن سيأتي بعد أسطر ما يدل على صواب إثباتها.
(3) في المطبوعة: "إن لم يعصمه الله"، والذي في المخطوطة، صواب عريق.(9/183)
عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس، فأنزل الله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، يقول: احكم بينهم بما أنزل الله إليك في الكتاب="واستغفر الله إنّ الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم" الآية. ثم قال للذين أتوا رسول الله عليه السلام ليلا"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله" إلى قوله:"أم من يكون عليهم وكيلا"، يعني: الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائن= ثم قال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، يعني: الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب (1) = ثم قال:"ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، يعني: السارقَ والذين يجادلون عن السارق.
10414- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" الآية، قال: كان رجل سرق درعًا من حديد في زمان النبي صلى الله عليه وسلم وطرحه على يهودي، فقال اليهودي: والله ما سرقتها يا أبا القاسم، ولكن طرحت عليّ! وكان للرجل الذي سرق جيرانٌ يبرِّئونه ويطرحونه على اليهودي ويقولون: يا رسول الله، إن هذا اليهودي الخبيث يكفر بالله وبما جئت به! قال: حتى مال عليه النبي صلى الله عليه وسلم ببعض القول، فعاتبه الله عز وجل في ذلك فقال:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر الله" بما قلت لهذا اليهودي="إن الله كان غفورًا رحيمًا"= ثم أقبل على جيرانه فقال:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا" فقرأ حتى بلغ"أم من يكون عليهم وكيلا". قال: ثم عرض التوبة فقال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم
__________
(1) في المطبوعة، سقط من الناشر من أول قوله: "يجادلون عن الخائن" إلى قوله: "بالكذب"، فأثبتها من المخطوطة.(9/184)
يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه"، فما أدخلكم أنتم أيها الناس، على خطيئة هذا تكلَّمون دونه="وكان الله عليمًا حكيمًا ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا"، وإن كان مشركًا="فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، فقرأ حتى بلغ:"لا خير في كثير من نجواهم"، (1) فقرأ حتى بلغ:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى". قال: أبى أن يقبل التوبة التي عرَض الله له، وخرج إلى المشركين بمكة، فنقب بيتًا يسرقه، (2) فهدمه الله عليه فقتله. فذلك قول الله تبارك وتعالى (3) "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى"، فقرأ حتى بلغ"وساءت مصيرًا"= ويقال: هو طعمة بن أبيرق، وكان نازلا في بني ظَفر.
* * *
وقال آخرون: بل الخيانة التي وصف الله بها من وصفه بقوله:"ولا تكن للخائنين خصيمًا"، جحودُه وديعة كان أودِعها.
*ذكر من قال ذلك:
10415- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا"، قال: أما"ما أراك الله"، فما أوحى الله إليك. قال: نزلت في طعمة بن أبيرق، استودعه رجل من اليهود درعًا، فانطلق بها إلى داره، فحفر لها اليهودي ثم دفنها. فخالف إليها طعمة فاحتفر عنها فأخذها. فلما جاء اليهودي يطلب درعه، كافره عنها، (4) فانطلق إلى ناس من
__________
(1) سقط من المطبوعة: "فقرأ حتى بلغ: لا خير في كثير من نجواهم"، وزاد في التي بعدها: "حتى بلغ إلى قوله". وأثبت نص المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ليسرقه"، والذي في المخطوطة صواب معرق.
(3) في المطبوعة: "فذلك قوله"، وأثبت نص المخطوطة.
(4) "كافره حقه": جحده، و"كافره عنه"، عربي صريح.(9/185)
اليهود من عشيرته فقال: انطلقوا معي، فإني أعرف موضع الدرع. فلما علم بهم طعمة، أخذ الدرع فألقاها في دار أبي مُلَيْلٍ الأنصاري. فلما جاءت اليهود تطلب الدرع فلم تقدر عليها، وقع به طعمة وأناس من قومه فسبُّوه، وقال: أتخوِّنونني! فانطلقوا يطلبونها في داره، فأشرفوا على بيت أبي مليل، فإذا هم بالدرع. وقال طعمة: أخذها أبو مليل! وجادلت الأنصار دون طعمة، وقال لهم: انطلقوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا له يَنْضَح عني ويكذِّب حجة اليهودي، (1) فإني إن أكذَّب كذب على أهل المدينة اليهودي! فأتاه أناس من الأنصار فقالوا: يا رسول الله، جادل عن طعمة وأكذب اليهودي. فهمّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل، فأنزل الله عليه:"ولا تكن للخائنين خصيمًا واستغفر الله" مما أردت="إن الله كان غفورًا رحيمًا ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيما"= ثم ذكر الأنصار ومجادلتهم عنه فقال:"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيِّتون ما لا يرضى من القول"، يقول: يقولون ما لا يرضى من القول (2) ="ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة"= ثم دعا إلى التوبة فقال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"= ثم ذكر قوله حين قال:"أخذها أبو مليل" فقال:"ومن يكسب إثمًا فإنما يكسبه على نفسه" ="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا" = ثم ذكر الأنصار وإتيانها إياه: (3) أن ينضح عن صاحبهم ويجادل عنه، فقال:"لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة"، يقول: النبوة= ثم ذكر مناجاتهم فيما يريدون أن يكذِّبوا عن طعمة، فقال:"لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس". فلما فضح الله طعمة بالمدينة بالقرآن، هرب حتى أتى مكة، فكفر بعد إسلامه، ونزل على الحجاج بن عِلاط السُّلَمي، فنقب بيت الحجاج، فأراد أن يسرقه، فسمع الحجاج خشخشة في بيته وقعقعةَ جلودٍ كانت عنده، (4) فنظر فإذا هو بطعمة فقال: ضيفي وابنَ عمي وأردتَ أن تسرقني!! فأخرجه، فمات بحرَّة بني سُلَيم كافرًا، (5) وأنزل الله فيه:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نُوَلِّه ما تولَّى" إلى"وساءت مصيرًا".
10416- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، قال: استودع رجل من الأنصار طعمةَ بن أبيرق مشرُبة له فيها درع، (6) وخرج فغاب. فلما قدم الأنصاري فتح مشربته، فلم يجد الدرع، فسأل عنها طعمة بن أبيرق، فرمى بها رجلا من اليهود يقال له زيد بن السمين: فتعلَّق صاحب الدرع بطُعمة في درعه. فلما رأى ذلك قومه، أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فكلموه ليدْرأ عنه، فهمّ بذلك، فأنزل الله تبارك وتعالى:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيمًا * واستغفر الله إن الله كان غفورًا رحيمًا * ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم"، يعني: طعمة بن أبيرق وقومه= "ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في
__________
(1) "نضح عنه": أي ذب عنه ودفع بحجة تنفي عنه ما اتهم به.
(2) قوله: "يقول: يقولون ما لا يرضى من القول"، غير موجودة في المخطوطة، وأخشى أن تكون زيادة من ناسخ. وسيأتي معنى"التبيت" على وجه الدقة فيما يلي ص: 191، 192.
(3) في المطبوعة: "وإتيانهم إياه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) "الخشخشة": صوت حركة، تكون من السلاح إذا احتك، والثوب الجديد، ويبيس النبات. و"القعقعة": أشد من الخشخشة، صوت يكون من الجلد اليابس، والسلاح إذا ارتطم بعضه ببعض.
(5) "حرة بني سليم" في عالية نجد. و"الحرة" أرض ذات حجارة سود نخرة، كأنها أحرقت بالنار.
(6) المشربة: الغرفة، كما أسلفت في التعليق.(9/186)
الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا"، محمد صلى الله عليه وسلم وقوم طعمة= "ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، محمد وطعمة وقومه= قال:"ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه" الآية، طعمة="ومن يكسب خطيئة أو إثمًا ثم يرم به بريئًا"، يعني زيد بن السمين="فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، طعمة بن أبيرق="ولولا فضل الله عليك ورحمته" يا محمد="لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء"، قوم طعمة بن أبيرق="وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيمًا" يا محمد (1) ="لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف"، حتى تنقضي الآية للناس عامة="ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غيرَ سبيل المؤمنين" الآية. قال: لما نزل القرآن في طعمة بن أبيرق، لحق بقريش ورجع في دينه، ثم عدا على مشرُبة للحجاج بن عِلاط البَهْزِيّ ثم السُّلمي، (2) حليفٌ لبني عبد الدار، فنقبها، فسقط عليه حجر فلَحِج. (3) فلما أصبح أخرجوه من مكة. فخرجَ فلقي ركبًا من بَهْرَاء من قضاعة، فعرض لهم فقال: ابن سبيل مُنْقَطَعٌ به! فحملوه، حتى إذا جنَّ عليه الليل عَدَا عليهم فسرقهم، ثم انطلق. فرجعوا في طلبه فأدركوه، فقذفوه بالحجارة حتى مات= قال ابن جريج: فهذه الآيات كلها فيه نزلت إلى قوله:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، أنزلت في طعمة بن أبيرق= ويقولون: إنه رمى بالدرع في دار أبي مليل بن عبد الله الخَزْرجي، فلما نزل القرآن لحق بقريش، فكان من أمره ما كان.
10417- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"لتحكم بين الناس بما أراك الله"، يقول: بما أنزل عليك وأراكه في كتابه. ونزلت هذه الآية في رجل من الأنصار استُودع درعًا فجحد صاحبها، فخوّنه رجال من أصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم، فغضب له قومه، وأتوا نبي الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: خوَّنوا صاحبنا، وهو أمين مسلم، فاعذره يا نبي الله وازْجُر عنه! فقام نبي الله فعذره وكذَّب عنه، وهو يرى أنه بريء، وأنه مكذوب عليه، فأنزل الله بيان ذلك فقال:"إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله" إلى قوله:"أم من يكون عليهم وكيلا"، فبين الله خيانته، فلحق بالمشركين من أهل مكة وارتدّ عن الإسلام، فنزل فيه:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" إلى قوله:"وساءت مصيرًا".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين في ذلك بما دل عليه ظاهر الآية، قول من قال: كانت خيانته التي وصفه الله بها في هذه الآية، جحودَه ما أودع، لأن ذلك هو المعروف من معاني"الخيانات" في كلام العرب. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من معاني كلام العرب ما وجد إليه سبيل، أولى من غيره.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "محمد صلى الله عليه وسلم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة"البهري"، وهو تصحيف. ولا يعجبني هذا، بل الصحيح أن يقال: "السلمي ثم البهزي" بالتقديم والتأخير، فإنه"بهز بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور"، فبهز بطن من سليم بن منصور.
(3) "لحج بالمكان": نشب فيه ولزمه وضاق عليه أن يخرج منه. و"لحج السيف": نشب في الغمد فلم يخرج.(9/188)
وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107)
القول في تأويل قوله: {وَلا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولا تجادل" يا محمد، فتخاصم="عن الذين يختانون أنفسهم"، يعني: يخوّنون أنفسهم، يجعلونها خَبوَنة بخيانتهم ما خانوا من أموال من خانوه مالَه، وهم بنو أبيرق. يقول: لا تخاصم عنهم من يطالبهم بحقوقهم وما خانوه فيه من أموالهم="إن الله لا يحب من كان خوّانًا أثيمًا"، يقول: إنّ الله لا يحب من كان من صفته خِيَانة الناس في أموالهم، وركوب الإثم في ذلك وغيره مما حرَّمه الله عليه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل: وقد تقدم ذكر الرواية عنهم.
10418- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم"، قال: اختان رجل عمًّا له درعًا، فقذف بها يهوديًا كان يغشاهم، فجادل عمُّ الرجل قومه، فكأن النبي صلى الله عليه وسلم عذره. ثم لحق بأرض الشرك، فنزلت فيه:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى" الآية.
* * *(9/190)
يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108)
القول في تأويل قوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يستخفون من الناس"، يستخفي هؤلاء الذين يختانون أنفسهم، ما أتَوْا من الخيانة، وركبوا من العار والمعصية (1) ="من الناس"، الذين لا يقدرون لهم على شيء، إلا ذكرهم بقبيح ما أتَوْا من فعلهم، (2) وشنيع ما ركبوا من جُرْمهم إذا اطلعوا عليه، حياءً منهم وحذرًا من قبيح الأحدوثة="ولا يستخفون من الله" الذي هو مطلع عليهم، لا يخفى عليه شيء من أعمالهم، وبيده العقاب والنَّكال وتعجيل العذاب، وهو أحق أن يُستحى منه من غيره، وأولى أن يعظَّم بأن لا يراهم حيث يكرهون أن يراهم أحد من خلقه="وهو معهم"، يعني: والله شاهدهم="إذ يبيتون ما لا يرضى من القول"، يقول: حين يسوُّون ليلا ما لا يرضى من القول، فيغيِّرونه عن وجهه، ويكذبون فيه.
* * *
وقد بينا معنى"التبييت" في غير هذا الموضع، وأنه كل كلام أو أمرٍ أصلح ليلا. (3)
وقد حكى عن بعض الطائيين أن"التبييت" في لغتهم: التبديل، وأنشد للأسود بن عامر بن جُوَين الطائي في معاتبة رجل: (4)
__________
(1) في المطبوعة في الموضعين: "ما أوتوا"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة في الموضعين: "ما أوتوا"، والصواب من المخطوطة.
(3) انظر ما سلف 8: 562، 563.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: " ... بن جرير"، والصواب ما أثبت، والأسود بن عامر بن جوين الطائي، أبو عامر بن جوين الطائي، الذي نزل به امرؤ القيس (الأغاني 8: 90، 95) ، وقد ذكرهما ابن دريد في الاشتقاق: 233 وقال: "كانا سيدين رئيسين"، وذكرهما ابن حزم في الجمهرة: 379، وقال في الأسود بن عامر: "شاعر"، ثم قال: "فولد الأسود هذا: قبيصة بن الأسود، وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم".(9/191)
وَبَيَّتَّ قَوْلِيَ عَبْدَ الْمَلِيكِ ... قاتلَكَ الله عَبْدًا كَنُودًا!! (1)
بمعنى: بدَّلت قولي.
* * *
وروي عن أبي رزين أنه كان يقول في معنى قوله:"يبيتون"، يؤلّفون.
10419- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين:"إذ يبيتون ما لا يرضى من القول"، قال: يؤلِّفون ما لا يرضى من القول.
10420- حدثنا أحمد بن سنان الواسطي قال، حدثنا أبو يحيى الحماني، عن سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين بنحوه.
10421- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الأعمش، عن أبي رزين، مثله. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول شبيه المعنى بالذي قلناه. وذلك أن"التأليف" هو التسوية والتغيير عما هو به، وتحويلُه عن معناه إلى غيره.
* * *
وقد قيل: عنى بقوله:"يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله"، الرهطَ الذين مشوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسألة المدافعة عن ابن أبيرق والجدال عنه، (3) على ما ذكرنا قبل فيما مضى عن ابن عباس وغيره.
* * *
="وكان الله بما يعملون محيطًا" يعني جل ثناؤه: وكان الله بما يعمل هؤلاء
__________
(1) لم أجد البيت في مكان، وكنت أعرفه ولكن غاب عني مكانه، فأرجو أن أجده وألحق به بيانه في طبعة أخرى، أو في كتاب آخر.
(2) الآثار: 10419 - 10421 -"أبو رزين" هو"أبو رزين الأسدي": "مسعود بن مالك"، مضى برقم: 4291 - 4294 ثم: 4791 - 4793.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "بني أبيرق"، والسياق يقتضي ما أثبت.(9/192)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
المستخفون من الناس، فيما أتَوْا من جرمهم، حياءً منهم، من تبييتهم ما لا يرضى من القول، وغيره من أفعالهم="محيطًا"، محصيًا لا يخفى عليه شيء منه، حافظًا لذلك عليهم، حتى يجازيهم عليه جزاءهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلا (109) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا"، ها أنتم الذين جادلتم، (2) يا معشر من جادل عن بني أبيرق="في الحياة الدنيا"= و"الهاء" و"الميم" في قوله:"عنهم" من ذكر الخائنين.
="فمن يجادل الله عنهم"، يقول: فمن ذا يخاصم الله عنهم="يوم القيامة"، أي: يوم يقوم الناس من قبورهم لمحشرهم، (3) فيدافع عنهم ما الله فاعل بهم ومعاقبهم به. وإنما يعني بذلك: إنكم أيها المدافعون عن هؤلاء الخائنين أنفسهم، وإن دافعتم عنهم في عاجل الدنيا، فإنهم سيصيرون في آجل الآخرة إلى من لا يدافع عنهم عنده أحد فيما يحلُّ بهم من أليم العذاب ونَكال العقاب.
= وأما قوله:"أم من يكون عليهم وكيلا"، فإنه يعني: ومن ذا الذي يكون على هؤلاء الخائنين وكيلا يوم القيامة= أي: ومن يتوكل لهم في خصومة ربهم عنهم يوم القيامة.
* * *
وقد بينا معنى:"الوكالة"، فيما مضى، وأنها القيام بأمر من توكل له. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإحاطة" و"محيط" فيما سلف 2: 284 / 5: 396 / 7: 158.
(2) انظر ما قاله: في"ها أنتم أولاء" و"ها أنتم هؤلاء" فيما سلف 7: 150، 151.
(3) انظر تفسير"يوم القيامة" فيما سلف 2: 518 / 8: 592.
(4) انظر تفسير"الوكيل" فيما سلف 7: 405 / 8: 566.(9/193)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110)
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يعمل ذنبًا، وهو"السوء" (1) ="أو يظلم نفسه"، بإكسابه إياها ما يستحق به عقوبة الله="ثم يستغفر الله"، يقول: ثم يتوب إلى الله بإنابته مما عمل من السوء وظُلْم نفسه، ومراجعته ما يحبه الله من الأعمال الصالحة التي تمحو ذنبَه وتذهب جرمه="يجد الله غفورًا رحيمًا"، يقول: يجد ربه ساترًا عليه ذنبه بصفحه له عن عقوبة جرمه، رحيمًا به. (2)
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها الذين وصفهم الله بالخيانة بقوله:"ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم".
* * *
وقال آخرون: بل عني بها الذين كانوا يجادلون عن الخائنين، (3) الذين قال الله لهم:"ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا"، وقد ذكرنا قائلي القولين كليهما فيما مضى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أنه عنى بها كل من عمل سوءًا أو ظلم نفسه، وإن كانت نزلت في أمر الخائنين والمجادلين عنهم الذين ذكر الله أمرَهم في الآيات قبلها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"السوء" فيما سلف من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"استغفر"، "غفور"، "رحيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(3) في المطبوعة"الذين يجادلون عن الخائنين"، وأثبت ما في المخطوطة.(9/194)
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10422- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن عاصم، عن أبي وائل قال، قال عبد الله: كانت بنو إسرائيل إذا أصابَ أحدهم ذنبًا أصبح قد كُتِب كفارة ذلك الذنب على بابه. وإذا أصاب البولُ شيئًا منه، قَرَضه بالمقراض. (1) فقال رجل: لقد آتى الله بني إسرائيل خيرًا! فقال عبد الله: ما آتاكم الله خيرٌ مما آتاهم، جعل الله الماءَ لكم طهورًا وقال: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ) [سورة آل عمران: 135] ، وقال:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا".
10423- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا ابن عون، عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاءت امرأة إلى عبد الله بن مُغَفّل، فسألته عن امرأة فَجرت فَحبِلت، فلما ولدتْ قتلت ولدها؟ فقال ابن مغفل: ما لها؟ لها النار! فانصرفت وهي تبكي، فدعاها ثم قال: ما أرى أمرَك إلا أحدَ أمرين:"من يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، قال: فَمَسحت عينها ثم مضت. (2)
10424- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ومن يعمل سوءًا أو يظلم نفسه ثم
__________
(1) "قرضه": قصه. و"المقراض": المقص.
(2) الأثر: 10423 -"حبيب بن أبي ثابت الأسدي" مضى برقم: 9012، 9035. و"عبد الله بن مغفل المزني" من مشاهير الصحابة، وهو أحد البكائين في غزوة تبوك. وهو أحد العشرة الذين بعثهم عمر ليفقه الناس بالبصرة.
وهذا الخبر من محاسن الأخبار الدالة على عقل الفقيه، وبصره بأمر دينه، ونصيحته للناس في أمور دنياهم.(9/195)
وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111)
يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا"، قال: أخبر الله عبادَه بحلمه وعفوه وكرمه، وسعةِ رحمته ومغفرته، فمن أذنب ذنبًا صغيرًا كان أو كبيرًا، ثم يستغفر الله يجد الله غفورًا رحيمًا، ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يأت ذنبًا على عَمْدٍ منه له ومعرفة به، فإنما يجترح وَبَال ذلك الذنب وضُرَّه وخِزْيه وعاره على نفسه، دون غيره من سائر خلق الله. (1) يقول: فلا تجادلوا، أيها الذين تجادلون، عن هؤلاء الخونة، فإنكم وإن كنتم لهم عشيرةً وقرابةً وجيرانًا، برآء مما أتوه من الذنب ومن التَّبِعة التي يُتَّبعون بها، وإنكم متى دافعتم عنهم أو خاصمتم بسببهم، (2) كنتم مثلَهم، فلا تدافعوا عنهم ولا تخاصموا.
= وأما قوله:"وكان الله عليمًا حكيمًا"، فإنه يعني: وكان الله عالمًا بما تفعلون، أيها المجادلون عن الذين يختانون أنفسهم، في جدالكم عنهم وغير ذلك من أفعالِكم وأفعال غيركم، وهو يحصيها عليكم وعليهم، حتى يجازي جميعكم بها="حكيمًا" يقول: وهو حكيم بسياستكم وتدبيركم وتدبير جميع خلقه. (3)
* * *
وقيل: نزلت هذه الآية في بني أبيرق. وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى قبل. (4)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"كسب" فيما سلف 8: 267 تعليق: 1، والمراجع هناك= وتفسير"الإثم" فيما سلف 4: 328، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فإنكم متى دافعتم ... " والسياق يقتضي"وإنكم".
(3) انظر تفسير"عليم" و"حكيم" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) يعني الآثار السالفة من 10409 - 10418.(9/196)
وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112)
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يعمل خطيئة، وهي الذنب="أو إثمًا"، وهو ما لا يحلّ من المعصية. (1)
* * *
وإنما فرق بين"الخطيئة" و"الإثم"، لأن"الخطيئة"، قد تكون من قبل العَمْد وغير العمد، و"الإثم" لا يكون إلا من العَمْد، ففصل جل ثناؤه لذلك بينهما فقال: ومن يأت"خطيئة" على غير عمد منه لها="أو إثمًا" على عمد منه.
* * *
="ثم يرم به بريئًا"، (2) يعني: ثم يُضيف ماله من خطئه أو إثمه الذي تعمده (3) ="بريئًا" مما أضافه إليه ونحله إياه="فقد احتمل بُهتانًا وإثمًا مبينًا"، يقول: (4) فقد تحمّل بفعله ذلك فريَة وكذبًا وإثمًا عظيمًا= يعني، وجُرْمًا عظيمًا، على علم منه وعمدٍ لما أتى من معصيته وذنبه.
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عنى الله بقوله:"بريئًا"، بعد إجماع جميعهم على أن الذي رمى البريءَ من الإثم الذي كان أتاه، ابن أبيرق الذي وصفنا شأنه قبل.
__________
(1) انظر تفسير"خطيئة" فيما سلف 2: 110، 284، 285.
(2) في المطبوعة زيادة حذفتها، كان الكلام: "ثم يرم به بريئًا، يعني بالذي تعمده بريئًا، يعني ... " وهو فساد في التفسير، فحذفته لذلك وتابعت المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "ثم يصف ما أتى من خطئه ... " وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(4) انظر تفسير"البهتان" فيما سلف 5: 432 / 8: 124.(9/197)
فقال بعضهم: عنى الله عز وجل بالبريء، رجلا من المسلمين يقال له:"لبيد بن سهل". (1)
* * *
وقال آخرون: بل عنى رجلا من اليهود يقال له:"زيد بن السمين"، وقد ذكرنا الرواية عمن قال ذلك فيما مضى. (2)
* * *
وممن قال:"كان يهوديًّا"، ابنُ سيرين.
10425- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا غندر، عن شعبة، عن خالد الحذاء، عن ابن سيرين:"ثم يرم به بريئًا"، قال: يهوديًّا.
10426- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا بدل بن المحبر قال، حدثنا شعبة، عن خالد، عن ابن سيرين، مثله. (3)
* * *
وقيل:"يرم به بريئًا"، بمعنى: ثم يرم بالإثم الذي أتى هذا الخائن، من هو بريء مما رماه به= فـ"الهاء" في قوله:"به" عائدة على"الإثم". ولو جعلت كناية من ذكر"الإثم" و"الخطيئة"، كان جائزًا، لأن الأفعال وإن اختلفت العبارات عنها، فراجعة إلى معنى واحد بأنها فعلٌ. (4)
* * *
= وأما قوله:"فقد احتمل بهتانًا وإثمًا مبينًا"، فإن معناه: فقد تحمل - هذا الذي رمَى بما أتى من المعصية وركب من الإثم الخطيئة، مَنْ هو بريء مما رماه به
__________
(1) انظر الأثر رقم: 10411.
(2) انظر رقم: 10412، 10416.
(3) الأثر: 10426 -"بدل بن المحبر بن المنبه التميمي اليربوعي" روى عن شعبة، والخليل بن أحمد صاحب العروض، وغيرهما. وروى عنه البخاري، والأربعة بواسطة محمد بن بشار. ثقة.
و"بدل" بفتحتين.
(4) هذا مختصر مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 286، 287.(9/198)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
من ذلك="بهتانًا"، وهو الفرية والكذب (1) ="وإثمًا مبينًا"، يعني وِزْرًا"مبينًا"، يعني: أنه يبين عن أمر متحمِّله وجراءته على ربه، (2) وتقدّمه على خلافه فيما نهاه عنه لمن يعرف أمرَه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولولا فضل الله عليك ورحمته"، ولولا أن الله تفضل عليك، يا محمد، (3) فعصمك بتوفيقه وتبيانه لك أمر هذا الخائن، فكففت لذلك عن الجدال عنه، ومدافعة أهل الحق عن حقهم قِبَله="لهمت طائفة منهم"، يقول: لهمت فرقة منهم، (4) يعني: من هؤلاء الذين يختانون أنفسهم="أن يضلوك"، يقول: يزلُّوك عن طريق الحق، (5) وذلك لتلبيسهم أمر الخائن عليه صلى الله عليه وسلم، وشهادتهم للخائن عنده بأنه بريء مما ادعى عليه، ومسألتهم إياه أن يعذره ويقوم بمعذرته في أصحابه، فقال الله تبارك وتعالى: وما يضل هؤلاء الذين هموا بأن يضلوك عن الواجب من الحكم في أمر هذا الخائن درعَ جاره،"إلا أنفسهم".
* * *
__________
(1) انظر تفسير"البهتان" فيما سلف ص: 197، تعليق: 4.
(2) انظر تفسير"مبين" فيما سلف ص: 3، تعليق: 1، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة: "يبين عن أمر عمله"، والصواب من المخطوطة.
(3) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"طائفة" فيما سلف 141، تعليق: 1، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير"الإضلال" فيما سلف 8: 507، تعليق: 1، والمراجع هناك.(9/199)
فإن قال قائل: ما كان وجه إضلالهم أنفسَهم؟
قيل: وجهُ إضلالهم أنفسهم: أخذُهم بها في غير ما أباح الله لهم الأخذَ بها فيه من سبله. وذلك أن الله جل ثناؤه قد كان تقدّم إليهم فيما تقدّم في كتابه على لسان رسوله إلى خلقه، بالنهي عن أن يتعاونوا على الإثم والعدوان، والأمر بالتعاون على الحق. فكان من الواجب لله فيمن سعى في أمر الخائنين الذين وصف الله أمرهم بقوله:"ولا تكن للخائنين خصيمًا"، معاونة من ظلموه، دون من خاصمهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في طلب حقه منهم. فكان سعيهم في معونتهم، دون معونة من ظلموه، أخذًا منهم في غير سبيل الله. وذلك هو إضلالهم أنفسهم الذي وصفه الله فقال:"وما يضلون إلا أنفسهم".
* * *
="وما يضرونك من شيء"، وما يضرك هؤلاء الذين هموا لك أن يزلُّوك عن الحق في أمر هذا الخائن من قومه وعشيرته="من شيء"، لأن الله مثبِّتك ومسدِّدك في أمورك، ومبيِّن لك أمر من سعوا في إضلالك عن الحق في أمره وأمرهم، ففاضِحُه وإياهم.
= وقوله:"وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة"، يقول: ومن فضل الله عليك، يا محمد، مع سائر ما تفضَّل به عليك من نعمه، أنه أنزل عليك"الكتاب"، وهو القرآن الذي فيه بيان كل شيء وهدًى وموعظة="والحكمة"، يعني: وأنزل عليك مع الكتاب الحكمة، وهي ما كان في الكتاب مجملا ذكره، من حلاله وحرامه، وأمره ونهيه، وأحكامه، ووعده ووعيده (1) ="وعلمك ما لم تكن تعلم" من خبر الأولين والآخرين، وما كان وما هو كائن، فكل ذلك من فضل الله عليك، يا محمد، مُذْ خلقك، (2) فاشكره على ما أولاك من إحسانه إليك، بالتمسك بطاعته،
__________
(1) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 3: 87، 88، 211 / 5: 15، وغيرها من المواضع في فهارس اللغة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وما كان وما هو كائن قبل ذلك من فضل الله عليك"، وهو غير مستقيم، والصواب ما أثبت، "فكل" مكان"قبل".(9/200)
والمسارعة إلى رضاه ومحبته، ولزوم العمل بما أنزل إليك في كتابه وحكمته، ومخالفة من حاول إضلالك عن طريقه ومنهاج دينه، فإن الله هو الذي يتولاك بفضله، ويكفيك غائلة من أرادك بسوء وحاول صدّك عن سبيله، كما كفاك أمر الطائفة التي همت أن تضلك عن سبيله في أمر هذا الخائن. ولا أحد دونه ينقذك من سوء إن أراد بك، إن أنت خالفته في شيء من أمره ونهيه، واتبعت هوى من حاول صدَّك عن سبيله.
* * *
وهذه الآية تنبيهٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على موضع خطئه، (1) وتذكيرٌ منه له الواجبَ عليه من حقه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "موضع حظه"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وهذا صواب قراءتها موافقا لسياق القصة.(9/201)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114)
القول في تأويل قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لا خير في كثير من نجواهم"، لا خير في كثير من نجوى الناس جميعًا="إلا من أمر بصدقة أو معروف"، و"المعروف"، هو كل ما أمر الله به أو ندب إليه من أعمال البر والخير، (1) ="أو إصلاح بين الناس"، وهو الإصلاح بين المتباينين أو المختصمين، بما أباح الله الإصلاح بينهما،
__________
(1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3: 371 / 7: 105، وغيرهما من المواضع في فهارس اللغة.(9/201)
ليتراجعا إلى ما فيه الألفة واجتماع الكلمة، على ما أذن الله وأمر به.
= ثم أخبر جل ثناؤه بما وعد من فعل ذلك فقال:"ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاةِ الله فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: ومن يأمر بصدقة أو معروف من الأمر، أو يصلح بين الناس="ابتغاء مرضاة الله"، يعني: طلب رضى الله بفعله ذلك (1) ="فسوف نؤتيه أجرًا عظيمًا"، يقول: فسوف نعطيه جزاءً لما فعل من ذلك عظيمًا، (2) ولا حدَّ لمبلغ ما سمى الله"عظيمًا" يعلمه سواه. (3)
* * *
واختلف أهل العربية في معنى قوله:"لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة".
فقال بعض نحويي البصرة: معنى ذلك: لا خير في كثير من نجواهم، إلا في نجوى من أمر بصدقة= كأنه عطف بـ "مَنْ" على"الهاء والميم" التي في"نجواهم". (4) وذلك خطأ عند أهل العربية، لأن"إلا" لا تعطف على"الهاء والميم" في مثل هذا الموضع، من أجل أنه لم ينله الجحد.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: قد تكون"مَنْ" في موضع خفض ونصب. أما الخفض، فعلى قولك: لا خير في كثير من نجواهم إلا فيمن أمر بصدقة. فتكون"النجوى" على هذا التأويل، هم الرجال المناجون، كما قال جل ثناؤه: (مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ) [سورة المجادلة: 7] ، وكما قال (وَإِذْ هُمْ نَجْوَى) [سورة الإسراء: 47] .
__________
(1) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف ص: 170، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"الأجر" فيما سلف ص: 113، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"عظيم" فيما سلف 6: 518.
(4) في المطبوعة: "كأنه عطف من" بحذف الباء، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.(9/202)
وأما النصب، فعلى أن تجعل"النجوى" فعلا (1) فيكون نصبًا، لأنه حينئذ يكون استثناء منقطعًا، لأن"مَنْ" خلاف"النجوى"، (2) فيكون ذلك نظير قول الشاعر. (3)
...... وَمَا بِالرَّبْعِ مِنْ أَحَدِ ... إِلا أَوَارِيَّ لأيًا مَا أُبَيِّنُها...... (4)
وقد يحتمل"مَنْ" على هذا التأويل أن يكون رفعًا، كما قال الشاعر: (5) وَبَلْدَةٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ ... إلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُ (6)
* * *
__________
(1) قوله: "فعلا" أي مصدرًا.
(2) في المطبوعة: "لأنه من خلاف النجوى"، والصواب المحض من المخطوطة.
(3) هو النابغة الذبياني.
(4) مضى الشعر وتخريجه وتمامه فيما سلف 1: 183، 523، وهو في معاني القرآن للفراء 1: 288.
(5) هو جران العود النميري.
(6) ديوانه: 52، سيبويه 1: 133، 365، معاني القرآن للفراء 1: 288، ومجالس ثعلب: 316، 452، الخزانة 4: 197، والعيني (هامش الخزانة) 3: 107، وسيأتي في التفسير: 12: 28 / 27: 39 (بولاق) ، ثم في مئات من كتب النحو والعربية. ورواية هذا الشعر في ديوانه: قَدْ نَدَعُ المَنْزِلَ يا لَمِيسُ ... يَعْتَسُّ فيه السَّبُعُ الجَرُوسُ
الذِّئْبُ، أو ذُو لِبَدٍ هَمُوسُ ... بَسَابِسًا، لَيْسَ بِهِ أَنِيسُ
إلا اليَعَافِيرُ وَإلا العِيسُ ... وَبَقَرٌ مُلَمَّعٌ كُنُوسُ
كَأَنَّمَا هُنَّ الجَوَارِي المِيسُ
"يعتس": يطلب ما يأكل، "الجروس" هنا الشديد الأكل، وأخطأ صاحب الخزانة فقال: "من الجرس، وهو الصوت الخفي"، وليس ذلك من صفات الذئب، وحسبه عواؤه إذا جاع، نفيًا لوصفه بخفاء الصوت! ، وقد بين في البيت الثالث أنه يعني"الذئب". و"ذو لبد" هو الأسد و"اللبدة" ما بين كتفيه من الوبر."هموس" من صفة الأسد، يقال تارة: هو الذي يمشي مشيًا يخفيه، فلا يسمع صوت وطئه. ويقال تارة أخرى: شديد الغمز بضرسه في أكله. وهذا هو المراد هنا، فإنه أراد ذكر خلاء هذه الديار، وما فيها من المخاوف."بسابس" قفار خلاء. وأما رواية: "وبلدة" فإن"البلدة" هنا: هي الأرض القفر التي يأوى إليها الحيوان. و"اليعافير" جمع"يعفور"، وهو الظبي في لون التراب. و"العيس" جمع"أعيس" وهو الظبي الأبيض فيه أدمة."كنوس" جمع"كانس"، وهو الظبي أو البقر إذا دخل كناسه، وهو بيته في الشجر يستتر فيه. و"الميس" جمع"ميساء"، وهي التي تتبختر وتختال كالعروس في مشيتها.
ثم انظر الخزانة، ومجالس ثعلب. وانظر ما سلف كله في معاني القرآن للفراء 1: 287، 288.(9/203)
وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك، أن تجعل"من" في موضع خفض، بالردِّ على"النجوى"= وتكون"النجوى" بمعنى جمع المتناجين، خرج مخرج"السكرى" و"الجرحى" و"المرضى". وذلك أن ذلك أظهر معانيه.
فيكون تأويل الكلام: لا خير في كثير من المتناجين، يا محمد، من الناس، إلا فيمن أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، فإن أولئك فيهم الخير.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن يشاقق الرسول"، ومن يباين الرسولَ محمدًا صلى الله عليه وسلم، معاديًا له، فيفارقه على العداوة له (1) ="من بعد ما تبين له الهدى"، يعني: من بعد ما تبين له أنه رسول الله، وأن ما جاء به من عند الله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم="ويتبع غير سبيل المؤمنين"، يقول: ويتبع طريقًا غير طريق أهل التصديق، ويسلك منهاجًا غير
__________
(1) انظر تفسير"الشقاق" فيما سلف 3: 115، 116، 336 / 8: 319.(9/204)
منهاجهم، وذلك هو الكفر بالله، لأن الكفر بالله ورسوله غير سبيل المؤمنين وغير منهاجهم="نولّه ما تولّى"، يقول: نجعل ناصره ما استنصره واستعان به من الأوثان والأصنام، (1) وهي لا تغنيه ولا تدفع عنه من عذاب الله شيئًا، ولا تنفعه، كما:-
10427- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"نوله ما تولى"، قال: من آلهة الباطل.
10428- حدثني ابن المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
="ونصله جهنم"، يقول: ونجعله صِلاءَ نار جهنم، (2) يعني: نحرقه بها.
* * *
وقد بينا معنى"الصلى" فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
="وساءت مصيرًا"، يقول وساءت جهنم (4) ="مصيرًا"، موضعًا يصير إليه من صار إليه. (5)
* * *
ونزلت هذه الآية في الخائنين الذين ذكرهم الله في قوله:"ولا تكن للخائنين خصيمًا"، لما أبى التوبة من أبى منهم، وهو طعمة بن الأبيرق، ولحق بالمشركين من عبدة الأوثان بمكة مرتدًّا، مفارقًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودينه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ولي" فيما سلف ص: 17، تعليق: 3، والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "صلى" بتشديد الياء، والصواب من المخطوطة. و"الصلاء" (بكسر الصاد) : الشواء، لأنه يصلى بالنار.
(3) انظر ما سلف في تفسير"الإصلاء" 8: 27-29، 231، 484.
(4) انظر تفسير"ساء" فيما سلف ص 101، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(5) انظر تفسير"مصير" فيما سلف ص: 101، تعليق: 3، والمراجع هناك.(9/205)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا (116) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يغفر لطعمة إذ أشرك ومات على شركه بالله، ولا لغيره من خلقه بشركهم وكفرهم به="ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، يقول: ويغفر ما دون الشرك بالله من الذنوب لمن يشاء. يعني بذلك جل ثناؤه: أن طعمة لولا أنه أشرك بالله ومات على شركه، لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته، وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه= وكذلك حكم كل من اجترم جُرْمًا، فإلى الله أمره، إلا أن يكون جرمه شركًا بالله وكفرًا، فإنه ممن حَتْمٌ عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه (1) = فأما إذا مات على شركه، فقد حرَّم الله عليه الجنة ومأواه النار.
* * *
وقال السدي في ذلك بما:-
10429- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء"، يقول: من يجتنب الكبائر من المسلمين.
* * *
وأما قوله:"ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدًا"، فإنه يعني: ومن يجعل لله في عبادته شريكًا، فقد ذهب عن طريق الحق وزال عن قصد السبيل،
__________
(1) هذه العبارة التي وضعتها بين الخطين، معترضة في سياق الجملة، وسياقها: أن طعمة لولا أنه مات على شركه. لكان في مشيئة الله على ما سلف من خيانته ومعصيته، وكان إلى الله أمره في عذابه والعفو عنه ... فإما إذا مات على شركه ... " ولما أخطأ ناشر المطبوعة الأولى قراءة هذه العبارة، فقد كتب هكذا: "فإنه حتم عليه أنه من أهل النار إذا مات على شركه، فإذا مات على شركه ... " فصار الكلام كله لغوًا وخلطًا.(9/206)
إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117)
ذهابًا بعيدًا وزوالا شديدًا، وذلك أنه بإشراكه بالله في عبادته قد أطاع الشيطان وسلك طريقه، (1) وترك طاعة الله ومنهاج دينه. فذاك هو الضلال البعيد والخُسران المبين.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا اللات والعزى وَمناة، فسماهن الله"إناثًا"، بتسمية المشركين إياهنّ بتسمية الإناث.
*ذكر من قال ذلك:
10430- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: اللات والعزى ومناة، كلها مؤنث.
10431- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك بنحوه= إلا أنه قال: كلهنَّ مؤنث.
10432- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، يقول: يسمونهم"إناثًا": لاتٌ ومَنَاة وعُزَّى.
10433- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: آلهتهم، اللات والعزى ويَسَاف
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فقد أطاع الشيطان" بزيادة الفاء، ولا معنى لها هنا.(9/207)
ونائلة، (1) إناث، يدعونهم من دون الله. وقرأ:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن يدعون من دونه إلا مَواتًا لا رُوح فيه.
*ذكر من قال ذلك:
10434- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، يقول: مَيْتًا.
10435- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، أي: إلا ميتًا لا رُوح فيه. (2)
10436- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا مبارك بن فضالة، عن الحسن:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: و"الإناث" كل شيء ميت ليس فيه روح: خشبة يابسة أو حجر يابس، قال الله تعالى:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا" إلى قوله:"فليبتكن آذان الأنعام".
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك أن المشركين كانوا يقولون:"الملائكة بنات الله". (3)
*ذكر من قال ذلك:
10437- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا
__________
(1) "إساف" (بكسر الهمزة وفتحها) و"يساف" (بكسر الياء وفتحها) واحد. زعموا أن إساف بن عمرو، ونائلة بنت سهل، من جرهم، وجدا خلوة في الكعبة، ففجرا فيها، فمسخهما الله حجرين، عبدتهما قريش بعد. ويقال: صنمان وضعهما عمرو بن لحي على الصفا والمروة، وكان يذبح عليهما تجاه الكعبة.
(2) في المخطوطة: "لا أرواح فيه" بالجمع.
(3) في المطبوعة: "إن الملائكة ... " وأثبت ما في المخطوطة.(9/208)
جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، قال: الملائكة، يزعمون أنهم بنات الله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن أهل الأوثان كانوا يسمون أوثانهم"إناثًا"، فأنزل الله ذلك كذلك.
ذكر من قال ذلك: (1)
10438- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن نوح بن قيس، عن أبي رجاء، عن الحسن قال: كان لكل حي من أحياء العرب صنم، يسمونها:"أنثى بني فلان"، (2) فأنزل الله"إن يدعون من دونه إلا إناثًا".
10439- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا نوح بن قيس قال، حدثنا محمد بن سيف أبو رجاء الحُدَّاني قال، سمعت الحسن يقول: كان لكل حي من العرب، فذكر نحوه. (3)
* * *
وقال آخرون:"الإناث" في هذا الموضع، الأوثان.
*ذكر من قال ذلك:
10440- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إناثًا" قال: أوثانًا.
__________
(1) من أول الأثر رقم: 10437، إلى هذا الموضع، ساقط من المخطوطة.
(2) في كتاب المحتسب لابن جني، في المسألة رقم: 143 (وهو مخطوط عندي) عن الحسن: "وهو اسم صنم لحي من العرب، كانوا يعبدونها ويسمونها: أنثى بني فلان". فأخشى أن يكون سقط من الناسخ هنا [كانوا يعبدونها] .
(3) الأثران: 10438، 10439 -"أبو رجاء"، "محمد بن سيف الحداني"، أدرك أنسًا، وروى عن الحسن، وابن سيرين، ومطر الوراق، وعكرمة، وغيرهم. ثقة. مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة"الحراني" بالراء، والصواب من المخطوطة، بضم الحاء والدال المشددة.(9/209)
10441- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
10442- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة: (إنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أَوْثَانًا) .
* * *
قال أبو جعفر: روي عن ابن عباس أنه كان يقرؤها: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أُثُنًا) بمعنى جمع"وثن" فكأنه جمع"وثنًا""وُثُنًا"، (1) ثم قلب الواو همزة مضمومة، كما قيل:"ما أحسن هذه الأجُوه"، بمعنى الوجوه= وكما قيل: (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ) [سورة المرسلات: 11] ، بمعنى: وُقِّتت. (2)
* * *
وذكر عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلا أُنُثًا) كأنه أراد جمع"الإناث" فجمعها"أنثا"، كما تجمع"الثمار""ثُمُرًا". (3)
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نستجيز القراءة بغيرها، (4) قراءة من قرأ: (إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلا إِنَاثًا) ، بمعنى جمع"أنثى"، لأنها كذلك في مصاحف المسلمين، ولإجماع الحجة على قراءة ذلك كذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرت بتأويل ذلك، إذ كان الصواب عندنا من القراءة ما وصفت، تأويل من قال: عنى بذلك الآلهة التي كان مشركو العرب يعبدونها من دون الله ويسمونها الإناث من الأسماء، (5) كاللات والعُزَّى ونائلة ومناة، وما أشبه ذلك.
__________
(1) "أثن" (بضم الهمزة والثاء) و"وثن" بجمع"وثنا" (بضم فسكون) و"ووثنا" (بضمتين) ، و"أوثان".
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 288.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 289. و"الثمر" بضم الثاء والميم.
(4) في المطبوعة: "لا أستجيز"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "ويسمونها بالإناث"، وما في المخطوطة أجود عربية.(9/210)
وإنما قلنا ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الأظهر من معاني"الإناث" في كلام العرب، ما عُرِّف بالتأنيث دون غيره. فإذ كان ذلك كذلك، فالواجب توجيه تأويله إلى الأشهر من معانيه.
* * *
وإذ كان ذلك كذلك، فتأويل الآية:"ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبيَّن له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نولِّه ما تولى ونُصْله جهنم وساءت مصيرًا * إن يدعون من دونه إلا إناثًا"، يقول: ما يدعو الذين يشاقّون الرسول ويتبعون غير سبيل المؤمنين شيئًا="من دون الله"، بعد الله وسواه، (1) ="إلا إناثًا"، يعني: إلا ما سموه بأسماء الإناث كاللات والعزى وما أشبه ذلك. يقول جل ثناؤه: فحسب هؤلاء الذين أشركوا بالله، وعبدوا ما عبدوا من دونه من الأوثان والأنداد، حجّة عليهم في ضلالتهم وكفرهم وذهابهم عن قصد السبيل، أنهم يعبدون إناثًا ويدعونها آلهة وأربابًا، والإناث من كل شيء أخسُّه، فهم يقرون للخسيس من الأشياء بالعبودة، على علم منهم بخساسته، ويمتنعون من إخلاص العبودة للذي له ملك كل شيء، وبيده الخلق والأمر. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يَدْعُونَ إِلا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا"، وما يدعو هؤلاء الذين يدعون هذه الأوثان الإناث من دون الله بدعائهم إياها =
__________
(1) انظر تفسير"دون" فيما سلف 2: 489 / 6: 313.
(2) في المطبوعة: "بالعبودية" و"العبودية"، في الموضعين وأثبت ما في المخطوطة. و"العبودة" هي العبادة، وقد سلف استعمال الطبري لهذه اللفظة على هذا البناء، وتغيير الناشر لها في كل مرة. انظر 3: 347، تعليق: 1 / 6: 271، تعليق: 1، 404 تعليق: 2، 549: 2، 564، تعليق: 3 / 8: 592، تعليق: 2.(9/211)
لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118)
"إلا شيطانًا مريدًا"، يعني: متمردًا على الله في خلافه فيما أمره به، وفيما نهاه عنه، كما:-
10443- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا"، تمرَّد على معاصي الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لعنه الله"، أخزاه وأقصاه وأبعده.
* * *
ومعنى الكلام:"وإن يدعون إلا شيطانًا مريدًا"، قد لعنه الله وأبعده من كل خير.
* * *
="وقال لأتخذن"، يعني بذلك: أن الشيطان المريد قال لربه إذ لعنه:"لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا".
= يعني بـ "المفروض"، المعلوم، (1) كما:-
* * *
10444- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن جويبر، عن الضحاك:"نصيبًا مفروضًا"، قال: معلومًا.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يتّخذ الشيطانُ من عباد الله نصيبًا مفروضًا.
قيل: يتخذ منهم ذلك النصيب، بإغوائه إياهم عن قصد السبيل، ودعائه
__________
(1) انظر تفسير"نصيب" فيما سلف 4: 206 / ثم 8: 58: تعليق: 4، والمراجع هناك= وتفسير: "الفرض" فيما سلف 4: 121 / 5: 120 / 7: 597-599 / 8: 50.(9/212)
وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120)
إياهم إلى طاعته، وتزيينه لهم الضلالَ والكفر حتى يزيلهم عن منهج الطريق، فمن أجاب دعاءَه واتَّبع ما زينه له، فهو من نصيبه المعلوم، وحظّه المقسوم.
* * *
وإنما أخبر جل ثناؤه في هذه الآية بما أخبر به عن الشيطان من قيله:"لأتخذن من عبادك نصيبًا مفروضًا"، ليعلم الذين شاقُّوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى، أنهم من نصيبِ الشيطان الذي لعنه الله، المفروضِ، (1) وأنهم ممن صدق عليهم ظنّه. (2)
* * *
وقد دللنا على معنى"اللعنة" فيما مضى، فكرهنا إعادته. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأَنْعَامِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: مخبرًا عن قيل الشيطان المريد الذي وصف صفته في هذه الآية:"ولأضلنهم"، ولأصدّن النصيب المفروض الذي أتخذه من عبادك عن محجة الهدى إلى الضلال، ومن الإسلام إلى الكفر="ولأمنينهم"، يقول: لأزيغنَّهم -بما أجعل في نفوسهم من الأماني- عن طاعتك وتوحيدك، إلى طاعتي والشرك بك، ="ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، يقول: ولآمرن النصيبَ المفروض لي من عبادك، بعبادة غيرك من الأوثان والأنداد
__________
(1) "المفروض" صفة قوله: "نصيب الشيطان".
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وأنه ممن صدق ... " والسياق يقتضي"وأنهم".
(3) انظر تفسير"اللعنة" فيما سلف ص: 57، تعليق: 4، والمراجع هناك.(9/213)
حتى يَنْسُكوا له، (1) ويحرِّموا ويحللوا له، ويشرعوا غيرَ الذي شرعته لهم، فيتبعوني ويخالفونك.
* * *
و"البتك"، القطع، وهو في هذا الموضع: قطع أذن البَحِيرة ليعلم أنها بَحِيرة. (2)
وإنما أراد بذلك الخبيثُ أنه يدعوهم إلى البحيرة، فيستجيبون له، ويعملون بها طاعةً له.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
10445- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فليبتكن آذان الأنعام"، قال: البتك في البحيرة والسَّائبة، كانوا يبتّكون آذانها لطواغِيتهم.
10446- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قوله:"ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، أما"يبتكن آذان الأنعام"، فيشقونها، فيجعلونها بَحيرة.
10447- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن عكرمة:"فليبتكن آذان الأنعام"، قال: دينٌ شرعه لهم إبليس، كهيئة البحائر والسُّيَّب. (3)
* * *
__________
(1) "نسك ينسك"، إذا ذبح نسيكة، أي ذبيحة. وانظر تفسير ذلك فيما سلف 3: 75-80 / 4: 86، 195.
(2) "البحيرة" من الأنعام، من عقائد أهل الجاهلية، أبطلها الإسلام، وذلك الشاة أو الناقة تشق أذنها، ثم تترك فلا يمسها أحد.
(3) "السائبة" أم"البحيرة"، وذلك أن الرجل كان ينذر نذرًا: إذا قدم من سفر بعيد، أو برئ من علة، أو نجاه شيء من مشقة أو حرب فيقول: "ناقتي هذه سائبة"، أي: تسيب فلا ينتفع بظهرها، ولا تحلأ عن ماء، ولا تمنع من كلأ، ولا تركب. وجمع"سائبة""سيب" (بضم السين والياء المشددة المفتوحة) مثل"نائم ونوم"، و"نائحة ونوح".
وهكذا جاءت على الصواب في المخطوطة، ولكن ناشر المطبوعة جعلها"السوائب" كأنه استنكر هذا الجمع، فأساء غاية الإساءة في تبديل الصواب، وإن كانت"السوائب" صوابًا أيضًا، فإن هذه الآثار حجة في اللغة.(9/214)
القول في تأويل قوله: {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"فليغيرن خلق الله".
فقال بعضهم: معنى ذلك: ولآمرنهم فليغيرن خلق الله من البهائم، بإخصائهم إياها. (1)
*ذكر من قال ذلك:
10448- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس: أنه كره الإخصاء وقال: فيه نزلت:"ولآمرنهم فليغِّيرُن خلقَ الله".
10449- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الله بن داود قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أنس: أنه كره الإخصاء وقال: فيه نزلت:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله".
10450- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن أبي جعفر، عن الربيع بن أنس، عن أنس بن مالك قال: هو الإخصاء، يعني قول الله:"ولآمرنهم فليغيّرن خلق الله".
10451- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن فضيل، عن مطرف قال:
__________
(1) "خصى الفحل يخصيه خصاء" (بكسر الخاء) : سل خصييه. والفقهاء القدماء يقولون: "الإخصاء" ولم تذكره كتب اللغة، وقال المطرزي في المغرب 1: 159"خصاء على فعال، والإخصاء في معناه، خطأ". وهذا موضع إشكال، فإنك ستراه مستفيضًا في الآثار التالية، وهي نص صحيح في جواز"الإخصاء"، وبمثل هذه الآثار احتج أصحاب معاجم اللغة، وكيف لا يحتج به، وقد جاء في كلام ابن عباس، كما ترى في الأثر: 10451.(9/215)
حدثنى رجل، عن ابن عباس قال: إخصاء البهائم مُثْلَةٌ! ثم قرأ:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله".
10452- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: من تغيير خلق الله، الإخصاءُ.
10453- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان قال، أخبرني شبيل: أنه سمع شهر بن حوشب قرأ هذه الآية:"فليغيرن خلق الله"، قالالخِصَاء، قال: فأمرت أبا التَّيَّاح فسأل الحسن عن خِصَاء الغنم، فقال: لا بأس به. (1)
10454- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عمي وهب بن نافع، عن القاسم بن أبي بزة قال: أمرني مجاهد أن أسأل عكرمة عن قوله:"فليغيرن خلق الله"، فسألته، فقال: هو الخصاء.
10455- حدثنا ابن وكيع قال، حدثني أبي، عن عبد الجبار بن ورد، عن القاسم بن أبي بزة قال، قال لي مجاهد: سل عنها عكرمة:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، فسألته فقال: الإخصاء= قال مجاهد: ما له، لعنة الله! فوالله لقد علم أنه غير الإخصاء= ثم قال: سله، فسألته فقال عكرمة: ألم تسمع إلى قول الله تبارك وتعالى: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) .
__________
(1) الأثر: 10453 -"جعفر بن سليمان الضبعي" مضى برقم: 2905، 6461. و"شبيل" هو"شبيل بن عزرة بن عمير الضبعي"، يروي عن شهر بن حوشب وروى عنه جعفر بن سليمان. ثقة. روى له أبو داود حديثًا واحدًا. وكان شبيل من أئمة العربية، وهو ختن قتادة. وذكره الجاحظ في البيان 1: 343 فقال: "ومن علماء الخوارج شبيل بن عزرة الضبعي، صاحب الغريب، وكان راوية خطيبًا، وشاعرًا ناسبًا، وكان سبعين سنة رافضيًا، ثم انتقل خارجيًا صفريًا". وقال البلاذري: "لم يكن خارجيًا، وإنما كان يقول أشعارًا في ذلك على سبيل التقية". مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "شبل" وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة.
و"أبو التياح"، هو: "يزيد بن حميد الضبعي"، روى عن أنس والحسن البصري. وهو ثبت ثقة معروف. مترجم في التهذيب.(9/216)
[سورة الروم: 30] ؟ قال: لدين الله= فحدَّثت به مجاهدًا فقال: ما له أخزاه الله!. (1)
10456- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن ليث قال، قال عكرمة:"فليغيرن خلق الله"، قال: الإخصاء.
10457- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون النحوي قال، حدثنا مطر الوراق قال: سئل عكرمة عن قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: هو الإخصاء.
10458- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: الإخصاء.
10459- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس قال: سمعت أنس بن مالك يقول في قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: منه الخصاء.
10460- حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن عكرمة، عن ابن عباس، بمثله.
10461- حدثنا ابن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس، بمثله. (2)
10462- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي،
__________
(1) الأثر: 10455 -"عبد الجبار بن الورد بن أغر بن الورد المخزومي"، ثقة، لا بأس به. مترجم في التهذيب. وقد مضى في الإسناد رقم: 4631، ولم يترجم هناك.
وقول مجاهد في عكرمة: "ماله لعنه الله"، و"ماله أخزاه الله"، أراد مجاهد اضطراب عكرمة في روايته، وكان مجاهد سيئ الرأي فيه، كما كان مالك ابن أنس سيئ الرأي فيه، يقول: "لا أرى لأحد أن يقبل حديثه". وقد قيل إنه كان مضطرب الحديث، وأنه كان قليل العقل!! روى الحافظ في التهذيب 7: 269"قال الأعمش عن إبراهيم: لقيت عكرمة فسألته عن: البطشة الكبرى. قال: يوم القيامة. فقلت: إلا عبد الله، كان يقول: يوم بدر. فأخبرني من سأله بعد ذلك فقال: يوم بدر". وهذا شبيه بهذا الخبر الذي بين أيدينا. وانظر أيضًا الأثر التالي رقم: 10469.
وانظر ترجمة عكرمة البربري في التهذيب، فقد استوفى الحافظ القول في عدالته وتوثيقه، ورواية الأئمة عنه.
(2) الأثر: 10461 - هو من تتمة الأثر السالف، ولكنه جرى مفردًا في الترقيم خطأ.(9/217)
عن قتادة، عن عكرمة: أنه كره الإخصاء، قال: وفيه نزلت:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولآمرنهم فليغيرن دينَ الله.
*ذكر من قال ذلك:
10463- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10464- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن وأبو أحمد قالا حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10465- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثني قيس بن مسلم، عن إبراهيم، مثله.
10466- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن إبراهيم، مثله.
10467- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
10468- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا عمي، عن القاسم بن أبي بزة قال، أخبرت مجاهدًا بقول عكرمة في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10469- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون النحوي قال، حدثنا مطر الوراق قال: ذكرت لمجاهد قول عكرمة في قوله:(9/218)
"فليغيرن خلق الله"، فقال: كذب العبْدُ! "ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. (1)
10470- حدثنا ابن وكيع وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو معاوية، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد وعكرمة قالا دين الله.
10471- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا المحاربي وحفص، عن ليث، عن مجاهد قال: دين الله. ثم قرأ: (ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، [سورة الروم: 30] .
10472- حدثنا محمد بن عمرو وعمرو بن علي قالا حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: الفطرة دين الله.
10473- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فليغيرن خلق الله"، قال: الفطرة، الدين.
10474- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدًا يقول:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10475- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، أي: دين الله، في قول الحسن وقتادة.
10476- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10477- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الملك، عن عثمان بن الأسود، عن القاسم بن أبي بزة في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
__________
(1) الأثر: 10469 - انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 10455.(9/219)
10478- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن مفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: أما"خلق الله"، فدين الله.
10479- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله، وهو قول الله: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ، [سورة الروم: 30] ، يقول: لدين الله.
10480- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. وقرأ: (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ، قال: لدين الله.
10481- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا قيس بن مسلم، عن إبراهيم:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله.
10482- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا معاذ بن معاذ قال، حدثنا عمران بن حدير، عن عيسى بن هلال قال: كتب كثير مولى ابن سمرة إلى الضحاك بن مزاحم يسأله عن قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، فكتب:"إنه دين الله". (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله" بالوشم.
*ذكر من قال ذلك:
10483- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال،
__________
(1) الأثر: 10482 -"معاذ بن معاذ بن نصر حسان العنبري" الحافظ. وكان في المطبوعة: "معاذ"، وحذف بقية الاسم، وهو ثابت في المخطوطة.(9/220)
حدثنا حماد بن سلمة، عن يونس، عن الحسن في قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: الوشْم.
10484- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد، عن نوح بن قيس، عن خالد بن قيس، عن الحسن:"فليغيرن خلق الله"، قال: الوشم. (1)
10485- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني هشيم قال، أخبرنا يونس بن عبيد أو غيره، عن الحسن:"فليغيرن خلق الله"، قال: الوشم.
10486- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو هلال الراسبي قال: سأل رجل الحسنَ: ما تقول في امرأة قَشَرت وجهها؟ قال: ما لها، لعنها الله! غَيَّرت خلقَ الله! (2)
10487- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: قال عبد الله: لعن الله المُتَفَلِّجات والمُتَنَمِّصات والمُسْتَوْشِمَات المغِّيرات خلق الله.
10488- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لعن الله الوَاشِرَات والمُسْتَوْشِمَات والمُتَنَمِّصات والمُتَفَلِّجات للحسن المغِّيرات خلق الله.
10489- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،
__________
(1) الأثر: 10484 -"يزيد"، هو"يزيد بن هارون" مضى مرارًا.
و"نوح بن قيس بن رباح الأزدي الحداني"، مضى برقم: 1218.
و"خالد بن قيس بن رباح الأزدي الحداني"، أخو"نوح بن قيس". ثقة. مترجم في التهذيب.
وكان في المطبوعة: "حدثنا يزيد بن نوح، عن قيس، عن خالد بن قيس" وهو خطأ محض، صوابه من المخطوطة.
(2) "قشر الوجه": دواء قديم بالغمرة تعالج به المرأة وجهها أو وجه غيرها، وكأنها تقشر أعلى الجلد. و"الغمرة" (بضم فسكون) ، قالوا: هو الزعفران، وقالوا: هو الجص. وقالوا: هو تمر ولبن يطلى به وجه المرأة ويداها، حتى ترق بشرتها ويصفو لونها. والظاهر أنه كان يخلط به شيء يقشر أعلى البشرة، ومن أجل ذلك نهى عنه، وفي الحديث: "لعنت القاشرة والمقشورة".(9/221)
عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن عبد الله قال: لعن الله المُتَنَمِّصات والمتَفَلِّجات= قال شعبة: وأحسبه قال: المغِّيرات خلق الله. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قولُ من قال: معناه:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، قال: دين الله. وذلك لدلالة الآية الأخرى على أن ذلك معناه، وهي قوله: (فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ) ، [سورة الروم: 30] .
وإذا كان ذلك معناه، دخل في ذلك فعل كل ما نهى الله عنه: من خِصَاءِ ما لا يجوز خصاؤه، ووشم ما نهى عن وشمه وَوشْرِه، وغير ذلك من المعاصي= ودخل فيه ترك كلِّ ما أمر الله به. لأن الشيطان لا شك أنه يدعو إلى جميع معاصي الله وينهى عن جميع طاعته. فذلك معنى أمره نصيبَه المفروضَ من عباد الله، بتغيير ما خلق الله من دينه.
* * *
قال أبو جعفر: فلا معنى لتوجيه من وجَّه قوله:"ولآمرنهم فليغيرن خلق الله"، إلى أنه وَعْد الآمر بتغيير بعض ما نهى الله عنه دون بعض، أو بعض ما
__________
(1) الآثار: 10487 - 10489 - هو حديث صحيح، رواه البخاري (الفتح 10: 313، 317) من طريق منصور عن إبراهيم، ورواه به أحمد في المسند مطولا: 4129، 4230، 4434.
وفي الإسناد الأول 10487 لم يذكر علقمة، فقال الحافظ ابن حجر في الفتح: "ومن أصحاب الأعمش من لم يذكر عنه علقمة في السند".
وطريق محمد بن جعفر، عن شعبة (10489) رواه أحمد: 4434، ونصه"لعن الله المتوشمات والمتنمصات ... "، فأخشى أن يكون سقط من الناسخ"المتوشمات".
و"المتفلجة" التي تصنع الفلج بأسنانها إذا كانت متلاصقة، وذلك بأن تحك ما بينهما بالمبرد حتى يتسع ما بين أسنانها.
و"المتنمصة" و"النامصة" التي تزيل شعر حاجبها بالمنقاش حتى ترققه وترفعه وتسويه. و"المستوشمة" و"الواشمة"، و"الوشم" أن تغرز إبرة في الجلد حتى يسيل الدم، ثم يحشى بالنورة أو غيرها فيخضر. ويقال: "هو أن تجعل خالا في وجهها بالكحل". ويفعلونه أيضًا في الشفاه واللثات، وكل ذلك داخل في الذي نهى الله عنه، ولعن عليه.
= و"الواشرة" التي تحدد أسنانها وترققها بالمنشار، وهو المبرد.
وكل هذا الذي لعن الله فاعله، تفعله نساؤنا المسلمات اليوم، متبرجات به، موغلات فيه، مقلدات لمن كفر بالله ورسوله. فمن أجل عصيانهن واستخفافهن - بل من أجل عصياننا جميعًا أمر الله - أحل الله بنا العقوبة التي أنذرنا بها رسول الله، بأبي هو وأمي، فجعل الله بأسنا بيننا، وسلط علينا شرارنا، وجمع علينا الأمم لتأكلنا. فاللهم اهد ضالنا، وخذ بنواصي عصاتنا، واغفر لنا وارحمنا، عليك نتوكل، وبك نستجير، وإليك نلجأ.(9/222)
أمر به دون بعض. فإن كان الذي وجه معنى ذلك إلى الخصاء والوشم دون غيره، (1) إنما فعل ذلك لأن معناه كان عنده أنه عنى به تغيير الأجسام، (2) فإن في قوله جل ثناؤه إخبارًا عن قيل الشيطان:"ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام"، ما ينبئ أن معنى ذلك على غير ما ذهب إليه. لأن تبتيك آذان الأنعام من تغيير خلق الله الذي هو أجسام. وقد مضى الخبر عنه أنه وَعْد الآمر بتغيير خلق الله من الأجسام مفسَّرًا، فلا وجه لإعادة الخبر عنه به مجملا (3) إذ كان الفصيح في كلام العرب أن يُترجم عن المجمل من الكلام بالمفسر، وبالخاص عن العام، دون الترجمة عن المفسر بالمجمل، وبالعام عن الخاص. وتوجيه كتاب الله إلى الأفصح من الكلام، أولى من توجيهه إلى غيره، ما وجد إليه السبيل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فإذا كان الذي وجه ... " والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "عنى به" بزيادة"به"، وهو فساد، والصواب من المخطوطة.
(3) سقط سطر من المخطوطة، فكان فيها: "وقد مضى الخبر عنه مجملا، إذ كان الفصيح"، وهو مضطرب، والذي في المطبوعة هو الصواب إن شاء الله. ولا أدري أهو اجتهاد من ناسخ أو ناشر، أم هذا كلام أبي جعفر كما كتبه؟.(9/223)
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلا غُرُورًا (120) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله جل ثناؤه، عن حال نصيب الشيطان المفروضِ الذين شاقوا الله ورسوله من بعد ما تبين لهم الهدى. (1) يقول الله: ومن يتبع الشيطان فيطيعه في معصية الله وخلاف أمره، ويواليه فيتخذه وليًّا لنفسه ونصيرًا من دون الله (2) ="فقد خسر خسرانًا مبينًا"، يقول: فقد هلك هلاكًا، وبخس نفسه حظَّها فأوبقها بخسًا"مبينًا" = يبين عن عَطَبه وهلاكه، (3) لأن الشيطان لا يملك له نصرًا من الله إذا عاقبه على معصيته إياه في خلافه أمرَه، بل يخذُله عند حاجته إليه. وإنما حاله معه ما دام حيًّا ممهَلا بالعقوبة، كما وصفه الله جل ثناؤه بقوله:"يعدهم ويمنّيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا"، يعني بذلك جل ثناؤه: يعد الشيطان المَرِيد أولياءه الذين هم نصيبُه المفروض: أن يكون لهم نصيرًا ممن أرادهم بسوء، وظهيرًا لهم عليه، يمنعهم منه ويدافع عنهم، ويمنيهم الظفر على من حاول مكروههم والفَلَج عليهم. (4)
= ثم قال:"وما يعدهم الشيطان إلا غرورًا" يقول: وما يعد الشيطان أولياءَه الذين اتخذوه وليًّا من دون الله="إلا غرورًا" يعني: إلا باطلا. (5)
وإنما جعل عِدَته إياهم جل ثناؤه ما وعدهم"غرورًا"، لأنهم كانوا يحسبون
__________
(1) في المطبوعة: "من الذين شاقوا ... " بزيادة"من"، والصواب حذفها كما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "ونصيرًا دون الله" بإسقاط"من"، وهو سهو من الناسخ في عجلته، فزدتها لدلالة الآية على مكانها.
(3) انظر تفسير"خسر" فيما سلف 1: 417 / 2: 166، 572 / 6: 570 / 7: 276= وتفسير"مبين" فيما سلف ص: 199 تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) "الفلج" (بفتحتين) : الظفر والفوز والعلو على الخصم.
(5) انظر تفسير"الغرور" فيما سلف 7: 453.(9/224)
أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121)
أنهم في اتخاذهم إياه وليًّا على حقيقةٍ من عِدَاته الكذب وأمانيه الباطلة، (1) حتى إذا حصحص الحق، وصاروا إلى الحاجة إليه، قال لهم عدوّ الله: (إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ) ، [سورة إبراهيم: 22] . وكما قال للمشركين ببدر، وقد زيَّن لهم أعمالهم: (لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ) ، وحصحص الحقّ، وعاين جِدّ الأمر ونزول عذاب الله بحزبه (2) =: (نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) ، [سورة الأنفال: 48] ، فصارت عِدَاته، عدُوَّ الله إياهم عند حاجتهم إليه غرورًا (3) (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ) . [سورة النور: 39] .
* * *
القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"أولئك"، هؤلاء الذين اتخذوا الشيطان وليًّا من دون الله="مأواهم جهنم"، يعني: مصيرهم الذين يصيرون إليه جهنم، (4)
__________
(1) في المطبوعة: "على حقيقته"، والصواب من المخطوطة. وفي المطبوعة: "عداته الكاذبة"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب محض.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "حد الأمر" بالحاء: أي شدته وبأسه. ولو قرئ"جد" لكان صوابًا أيضًا، بل هو الأرجح، ولذلك أثبته.
(3) قوله: "عدو الله" منصوب على الذم، وفصل به بين المصدر ومفعوله.
(4) انظر تفسير"المأوى" فيما سلف 7: 279، 494.(9/225)