سليمان، عن سعيد بن جبير:"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال ويقول: قد فعلت ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال ويقول: قد فعلت. فأعطيت هذه الأمة خواتيم"سورة البقرة"، ولم تعطها الأمم قبلها. (1)
6540 - حدثنا علي بن حرب الموصلي قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قول الله عز وجل:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" إلى قوله:"غفرانك ربنا"، قال: قد غفرت لكم ="لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها" = إلى قوله:"لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: لا أؤاخذكم ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال: لا أحمل عليكم = إلى قوله:"واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا"، إلى آخر السورة، قال: قد عفوت عنكم وغفرت لكم، ورحمتكم، ونصرُتكم على القوم الكافرين. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 6539 - هو حديث مرسل. وهو بعض الحديث الماضي: 6464، بهذا الإسناد.
ولكن ثبت هنا في المخطوطة والمطبوعة"أبو حميد"، بدل"أبو أحمد". وهو خطأ يقينًا، فإنه"أبو أحمد الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير"، كما بينا في: 6463.
ووقع في المخطوطة هنا بياض بين قوله"أبو حميد"، وبين"سفيان". وآخر بين قوله"عن سعيد بن جبير"، وبين الآية.
ولعل كاتبها شك في قوله"عن سفيان"، وظنه كالرواية الماضية"حدثنا سفيان"، فترك مكان"حدثنا" بياضا. ثم شك في ذكر الآية بعد اسم"سعيد بن جبير"، دون تمهيد لها بقوله"فنزلت هذه الآية"، كما في الرواية الماضية، فترك لذلك بياضًا.
(2) الحديث: 6540- علي بن حرب بن محمد بن علي، أبو الحسن الطائي الموصلي: ثقة ثبت، وثقه الدارقطني وغيره. وكان عالمًا بأخبار العرب، أديبًا شاعرًا. روى عنه النسائي، وأبو حاتم، وابنه، وترجمه 3/1/183. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 11: 418-240.
وهذا الحديث تكرار للحديث: 6534، بنحوه. وهذا موقوف لفظًا مرفوع معنى، وذاك مرفوع لفظًا ومعنى. وذاك أرجح إسنادًا وأصح، كما بينا هناك.
وذكر ابن كثير 2: 89 قطعة منه، من رواية ابن أبي حاتم، عن علي بن حرب الموصلي، بهذا الإسناد. فلا ندري: أرواه ابن أبي حاتم هكذا مختصرًا، أم اختصره ابن كثير؟(6/145)
= وروى عن الضحاك بن مزاحم أن إجابةَ الله للنبيّ صلى الله عليه وسلم خاصّة:
6541 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا": كان جبريل عليه السلام يقول له: سلها! (1) فسألها نبيّ الله رَبَّه جل ثناءه، فأعطاه إياها، (2) فكانت للنبي صلى الله عليه وسلم خاصةً.
6542 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق: أن مُعاذًا كان إذا فرغ من هذه السورة:"وانصرنا على القوم الكافرين"، قال: آمين. (3)
* * *
آخر تفسير سورة البقرة
* * *
__________
(1) في المخطوطة: ". . . أو أخطأنا كان جبريل صلى الله عليه فسألها نبي الله" وما بين الكلام بياض، وأئمته المطبوعة كما ترى. أما الدر المنثور 1: 378 فقال: "أخرج ابن جرير عن الضحاك في هذه الآية قال: كان 3 عليه الصلاة والسلام فسألها نبي الله ربه. . . " ورقم"3" دلالة على سقط في الكلام. فالظاهر أن السقط قديم في بعض النسخ، ولذلك ترك له السيوطي بياضًا في نسخته من الدر المنثور.
(2) في المخطوطة: "فأعطاها إياها"، وأثبت ما في المطبوعة، لأنه موافق لما في الدر المنثور.
(3) الأثر: 6542- في تفسير ابن كثير 2: 91، والدر المنثور 1: 378 وفيهما تخريجه.
وفي ختام الصورة من النسخة العتيقة ما نصه:
"آخر تفسير سورة البقرة"
"والحمد لله أولا وآخرًا، وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم"
"يتلوه تفسير سورة آل عمران. الحمد لله رب العالمين".(6/146)
تفسير سورة آل عمران(6/147)
الم (1)
بسم الله الرحمن الرحيم ربِّ يَسِّر
أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد: (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {الم (1) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ}
قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن معنى قوله:"ألم" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) وكذلك البيان عن قوله:"الله". (3)
* * *
وأما معنى قوله:"لا اله إلا هو"، فإنه خبرٌ من الله جل وعز، أخبرَ عبادَه أن الألوهية خاصةٌ به دون ما سواه من الآلهة والأنداد، وأن العبادة لا تصلحُ ولا تجوز إلا له لانفراده بالربوبية، وتوحُّده بالألوهية، وأن كل ما دونه فملكه، وأنّ كل ما سواه فخلقه، لا شريك له في سلطانه ومُلكه = (4) احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم بأن ذلك إذْ كان كذلك، فغيرُ جائزة لهم عبادةُ غيره، ولا إشراك أحد معه في سلطانه، إذ كان كلّ معبود سواه فملكه، وكل معظَّم غيرُه فخلقهُ، وعلى المملوك إفرادُ الطاعة لمالكه، وصرفُ خدمته إلى مولاه ورازقه =
__________
(1) في المطبوعة: "أخبرنا أبو جعفر محمد بن جرير بن يزيد الطبري، رضي الله عنه"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 1: 205-224.
(3) انظر ما سلف 1: 122-126.
(4) سياق العبارة: "أخبر عباده أن الألوهية خاصة به ... احتجاجًا منه تعالى ذكره عليهم".(6/148)
ومعرِّفًا مَنْ كان مِنْ خَلقه (1) يَوم أنزل ذلك إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم بتنزيله ذلك إليه، وإرساله به إليهم على لسانه صلوات الله عليه وسلامه - (2) مقيمًا على عبادة وثن أو صنم أو شمس أو قمر أو إنسي أو مَلَك أو غير ذلك من الأشياء التي كانت بنو آدم مقيمةً على عبادته وإلاهته (3) - (4) ومتَّخذَه دون مالكه وخالقه إلهًا وربًّا = (5) أنه مقيم على ضلالة، ومُنعدلٌ عن المحجة، (6) وراكبٌ غير السبيل المستقيمة، بصرفه العبادة إلى غيره، ولا أحدَ له الألوهية غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذُكر أن هذه السورة ابتدأ الله بتنزيله فاتحتها بالذي ابتدأ به: من نفي"الألوهية" أن تكون لغيره، ووصفه نفسه بالذي وصَفها به في ابتدائها، احتجاجًا منه بذلك على طائفة من النصارى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نَجْرَان فحاجُّوه في عيسى صلوات الله عليه، وألحدوا في الله. فأنزل الله عز وجل في أمرهم وأمر عيسى من هذه السورة نيفًا وثمانين آية من أولها، (7) احتجاجًا عليهم وعلى من كان على مثل مقالتهم، لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، فأبوا إلا المقام على
__________
(1) قوله: "ومعرفًا"، في المطبوعة والمخطوطة"ومعرف"، والصواب نصبها، لأن سياق الجملة"أخبر عباده أن الألوهية خاصة به ... معرفًا من كان من خلقه ... "، أما الواو العاطفة في قوله: "ومعرفًا"، فليست تعطف"معرفًا" على"احتجاجًا" فهذا غير جائز، بل هي عاطفة على جملة"أخبر عباده ... "، كأنه قال"وأخبرهم ذلك معرفًا".
(2) السياق"ومعرفًا من كان من خلقه ... مقيما على عبادة وثن. . .".
(3) الإلاهة: عبادة إله، كما سلف في تفسيره 1: 124.
(4) في المطبوعة: "ومتخذته دون مالكه ... "، وهو لا يستقيم، وقد أشكل عليه قوله قبل"التي كانت بنو آدم مقيمة على عبادته"، فظن هذا معطوفا عليه، وهو خطأ مفسد للسياق، بل هو معطوف على قوله: "مقيما على عبادة وثن".
(5) سياق الجملة: "ومعرفًا من كان من خلقه ... مقيما على عبادة وثن ... أنه مقيم على ضلالة ... ".
(6) في المطبوعة: "ومنعزل" وهو خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة، وهي فيها غير منقوطة، والدال شبيهة بالراء!! وانعدل عن الطريق: مال عنه وانحرف. يقال: عدل عن الشيء: حاد، وعدل عن الطريق: جار ومال واعوج سبيله.
(7) في المطبوعة والمخطوطة: "نيفًا وثلاثين آية"، وهو خطأ صرف، فالتنزيل بين عدده، والأثر التالي فيه ذكر العدد صريحًا" ... إلى بضع وثمانين آية".(6/150)
ضلالتهم وكفرهم، فدعاهم إلى المباهلة، فأبوا ذلك، وسألوا قَبول الجزية منهم، فقبلها صلى الله عليه وسلم منهم، وانصرفوا إلى بلادهم.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، وإياهم قصد بالحِجاج، فإن من كان معناه من سائر الخلق معناهم في الكفر بالله، واتخاذ ما سوى الله ربًّا وإلهًا ومعبودًا، معمومون بالحجة التي حجّ الله تبارك وتعالى بها من نزلت هذه الآيات فيه، ومحجوجون في الفُرْقان الذي فَرَق به لرسوله صلى الله عليه وسلم بينه وبينهم. (1)
* * *
ذكر الرواية عمن ذكرنا قوله في نزول افتتاح هذه السورة أنه نزل في الذين وصفنا صفتهم من النصارى:-
6543 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر قال: قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران: (2) ستون راكبًا، فيهم أربعة عشرَ رجلا من أشرافهم، في الأربعة عشر ثلاثةٌ نفر إليهم يؤول أمرُهم:"العاقب" أميرُ القوم وذو رأيهم وصاحبُ مشورتهم، والذي لا يصدرون إلا عن رأيه، واسمهُ"عبد المسيح" = و"السيد" ثِمالهم وصاحب رَحْلهم ومجتمعهم، واسمه"الأيهم" = (3) وأبو حارثة بن علقمة أخو بكر بن وائل، أسقفُّهم وحَبْرهم وإمامهم وصاحبُ مِدْرَاسهم. (4) وكان أبو حارثة قد شرُف فيهم ودَرَس كتبهم حتى حسن علمه في دينهم، فكانت ملوك الروم من أهل النصرانية قد شرفوه وموّلوه وأخدَموه، وبنوا له الكنائس، وبسطوا عليه الكرامات، لما يبلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم. (5)
__________
(1) في المطبوعة: "لرسول الله ... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في ابن هشام: "وفد نصارى نجران". ثمال القوم: عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(3) في ابن هشام: "وفد نصارى نجران". ثمال القوم: عمادهم وغياثهم ومطعمهم وساقيهم والقائم بأمرهم في كل ذلك.
(4) المدراس (بكسر الميم وسكون الدال) : هو البيت الذي يدرسون فيه كتبهم، ويعني بقوله: "صاحب مدراسهم"، عالمهم الذي درس الكتب، يفتيهم ويتكلم بالحجة في دينهم.
(5) في المطبوعة: "في دينه"، وأثبت ما في المخطوطة وابن هشام. وقد أسقط الطبري من روايته هنا عن ابن إسحاق، ما أثبته ابن هشام في السيرة 2: 222-223، كما سيأتي في التخريج.(6/151)
قال ابن إسحاق قال، محمد بن جعفر بن الزبير: (1) قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فدخلوا عليه في مسجده حين صلى العصر، عليهم ثيابُ الحِبَرَات جُبب وأرْدية، في [جمال رِجال] بَلْحارث بن كعب= (2) قال: يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ: ما رأينا بعدهم وفدًا مثلهم! = وقد حانت صلاتهم فقاموا يصلون في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"دعوهم! فصلوا إلى المشرق.
= قال: وكانت تسمية الأربعة عشر منهم الذين يؤول إليهم أمرهم:"العاقب"، وهو"عبد المسيح"، والسيد، وهو"الأيهم"، و"أبو حارثة بن علقمة" أخو بكر بن وائل، وأوس، والحارث، وزيد، وقيس، ويزيد، وُنبيه، وخويلد، وعمرو، (3) وخالد، وعبد الله. ويُحَنَّس: في ستين راكبًا. فكلم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم منهم:"أبو حارثة بن علقمة"، و"العاقب"، عبد المسيح، و"الأيهم" السيد، وهم من النصرانية على دين الملك، (4) مع اختلاف من أمرهم. يقولون:"هو الله"، ويقولون:"هو ولد الله"، ويقولون:"هو ثالث ثلاثة"، وكذلك قول النصرانية.
فهم يحتجون في قولهم:"هو الله"، بأنه كان يُحيي الموتى، ويبرئ الأسقام، ويخبر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طائرًا، وذلك كله بإذن الله، ليجعله آية للناس. (5)
__________
(1) في ابن هشام: "فلما قدموا ... ".
(2) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، من نص ابن هشام. والحبرات (بكسر الحاء وفتح الباء) جمع حبرة (بكسر الحاء وفتح الباء) : وهو ضرب موشى من برود اليمن منمر، وهو من جياد الثياب.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وخويلد بن عمرو"، وهو خطأ، صوابه من ابن هشام.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "وهو من النصرانية"، والصواب من ابن هشام.
(5) في ابن هشام: "ولنجعله آية للناس"، كنص الآية.(6/152)
ويحتجون في قولهم:"إنه ولد الله"، أنهم يقولون:"لم يكن له أب يُعلم، وقد تكلم في المهد، شيءٌ لم يصنعه أحد من ولد آدم قبله". (1)
ويحتجون في قولهم:"إنه ثالث ثلاثة"، بقول الله عز وجل:"فعلنا، وأمَرنا، وخلقنا، وقضينا". فيقولون:"لو كان واحدًا ما قال: إلا"فعلت، وأمرتُ وقضيتُ، وخلقت"، ولكنه هو وعيسى ومريم".
ففي كل ذلك من قولهم قد نزل القرآن، وذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم فيه قولهم.
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: أسلما! قالا قد أسلمنا. قال: إنكما لم تسلما، فأسلما! قالا بَلى قد أسلمنا قَبلك! قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما لله عز وجل ولدًا، وعبادتكما الصليبَ، وأكلكما الخنزير. قالا فمنْ أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم كله، صدرَ"سورة آل عمران" إلى بضع وثمانين آية منها. فقال:"ألم الله لا إله إلا هو الحي القيوم"، (2) فافتتح السورة بتبرئته نفسَه تبارك وتعالى مما قالوا، (3) وتوحيده إياها بالخلق والأمر، لا شريك له فيه = رَدًّا عليهم ما ابتدعوا من الكفر، (4) وجعلوا معه من الأنداد = واحتجاجًا عليهم بقولهم في صاحبهم، ليعرّفهم بذلك ضلالتهم، فقال:"اللهُ لا إله إلا هو"، أي: ليس معه شريك في أمره. (5)
__________
(1) في المطبوعة: "بشيء لم يصنعه ... "، وهو كلام فاسد، والصواب من المخطوطة. وفي ابن هشام: "وهذا لم يصنعه ... ".
(2) في المطبوعة والمخطوطة لم يذكر"ألم"، وأثبتها من ابن هشام.
(3) في المطبوعة: "بتبرئة نفسه"، وأثبت ما في المخطوطة، وفي ابن هشام: "بتنزيه نفسه".
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "وردًا عليه" بواو العطف، وهو خطأ، والصواب من ابن هشام.
(5) الأثر: 6543 - في ابن هشام: "ليس معه غيره شريك في أمره". والأثر رواه ابن هشام في سيرته مطولا، وسيأتي بعد تمامه في الآثار التالية. سيرة ابن هشام 2: 222-225.(6/153)
6544 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم"، قال: إنّ النصارى أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخاصموه في عيسى ابن مريم وقالوا له: من أبوه؟ وقالوا على الله الكذبَ والبهتانَ، لا إله إلا هو لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ألستم تعلمون أنه لا يكون ولدٌ إلا وهو يشبه أباه؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربَّنا حيّ لا يموت، وأنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن ربنا قَيِّمٌ على كل شيء يكلأهُ ويحفظه ويرزقه؟ قالوا: بلى! قال: فهل يملك عيسى من ذلك شيئًا؟ قالوا: لا! قال: أفلستم تعلمون أن الله عز وجل لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء؟ قالوا: بلى! قال: فهل يعلم عيسى من ذلك شيئًا إلا ما عُلِّم؟ قالوا: لا! قال: فإنّ ربنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، فهل تعلمون ذلك؟ قالوا: بلى! (1) قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب ولا يُحدِث الحدَث؟ قالوا: بلى! قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمه كما تحمل المرأة، (2) ثم وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثم غُذِّي كما يغذّى الصبيّ، ثم كان يَطعم الطعام، ويشرب الشرابَ ويُحدث الحدَث؟ قالوا بلى! قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟ قال: فعرفوا، ثم أبوا إلا جحودًا، فأنزل الله عز وجل:"ألم * اللهُ لا إله إلا هو الحي القيوم"
* * *
__________
(1) في المخطوطة والدر المنثور 2: 3 ما نصه: "فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء قال: ألستم تعلمون أن ربنا لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب"، إلا أن الدر المنثور قد أسقط"قال" من هذه العبارة. أما البغوي (هامش تفسير ابن كثير) 2: 93: "فإن ربنا صور عيسى في الرحم كيف شاء، وربنا لا يأكل ولا يشرب". وتركت ما في المطبوعة على حاله مخافة أن يكون من نسخة أخرى، كان فيها هذا.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أن عيسى حملته امرأة ... " والصواب"أمه"، كما في الدر المنثور والبغوي.(6/154)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2)
القول في تأويل قوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرَأةُ في ذلك.
فقرأته قرأة الأمصار (الْحَيُّ الْقَيُّوم) .
وقرأ ذلك عمر بن الخطاب وابن مسعود فيما ذكر عنهما: (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) .
* * *
وذكر عن علقمة بن قيس أنه كان يقرأ: (الْحَيُّ الْقَيِّمُ) .
6545 - حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا عثام بن علي قال، حدثنا الأعمشُ، عن إبراهيم، عن أبي معمر قال، سمعت علقمة يقرأ:"الحيّ القيِّم".
قلتُ: أنت سمعته؟ قال: لا أدري.
6546 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة مثله.
* * *
وقد روى عن علقمة خلاف ذلك، وهو ما:-
6547 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا شيبان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي معمر، عن علقمة أنه قرأ:"الحيّ القيَّام".
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا في ذلك، ما جاءت به قَرَأة المسلمين نقلا مستفيضًا، عن غير تشاعُر ولا تواطؤ، وراثةً، (1) وما كان مثبتًا في مصاحفهم، وذلك قراءة من قرأ، "الحي القيُّومُ".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "تشاغر"، بالغين، وهو خطأ، وانظر ما سلف: 127 تعليق: 2. وانظر ما قلته عن قوله: "وراثة" فيما سبق ص: 127 تعليق: 3.(6/155)
القول في تأويل قوله: {الْحَيُّ} " اختلف أهل التأويل في معنى قوله:"الحيّ ". (1)
فقال بعضهم: معنى ذلك من الله تعالى ذكره: أنه وصف نفسه بالبقاء، ونفى الموتَ - الذي يجوز على من سواه من خلقه - عنها.
ذكر من قال ذلك:
6548 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"الحي"، الذي لا يموت، وقد مات عيسى وصُلب في قولهم = يعني في قول الأحْبار الذين حاجُّوا رَسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى أهل نجران. (2)
6549 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الحي"، قال: يقول: حي لا يموتُ.
* * *
وقال آخرون: معنى"الحي"، الذي عناه الله عز وجل في هذه الآية، ووصف به نفسه: أنه المتيسِّر له تدبير كل ما أراد وشاء، لا يمتنع عليه شيء أراده، وأنه ليس كمن لا تدبير له من الآلهة والأنداد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: أن له الحياةَ الدائمة التي لم تَزَل له صفةً، ولا تزال كذلك. وقالوا، إنما وصف نفسه بالحياة، لأن له حياة = كما وصفها
__________
(1) انظر تفسير: "الحي" فيما سلف 5: 386، 387.
(2) الأثر: 6548- سيرة ابن هشام 2: 225، وهو من بقية الأثر السالف: 6543.(6/156)
بالعلم، لأن لها علمًا = وبالقدرة، لأن لها قدرةٌ.
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك عندي: (1) أنه وصف نفسه بالحياة الدائمة التي لا فناءَ لها ولا انقطاع، ونفى عنها ما هو حالٌّ بكل ذي حياة من خلقه من الفناء وانقطاع الحياة عند مجيء أجله. فأخبر عبادَه أنه المستوجب على خلقه العبادة والألوهة، والحي الذي لا يموت ولا يبيد، كما يموت كل من اتخذ من دونه ربًّا، ويبيد كلُّ من ادعى من دونه إلهًا. واحتج على خلقه بأن من كان يبيد فيزول ويموت فيفنى، فلا يكون إلهًا يستوجب أن يعبد دون الإله الذي لا يبيد ولا يموت = وأنّ الإله، هو الدائم الذي لا يموت ولا يبيد ولا يفنى، وذلك الله الذي لا إله إلا هو.
* * *
القول في تأويل قوله: {الْقَيُّومُ}
قال أبو جعفر: قد ذكرنا اختلاف القرأة في ذلك، والذي نختار منه، وما العلة التي من أجلها اخترنا ما اخترنا من ذلك.
* * *
فأما تأويل جميع الوجوه التي ذكرنا أنّ القرَأة قرأت بها، فمتقارب. ومعنى ذلك كله: القيّم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره وتصريفه فيما شاء وأحبّ من تغيير وتبديل وزيادة ونقص، كما:-
6550 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه:"الحي القيوم"، قال: القائم على كل شيء.
__________
(1) انظر تفسير"الحي" فيما سلف 5: 386، 387.(6/157)
6551 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6552 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"القيوم"، قيِّم على كل شيء يكلأه ويحفظه ويرزقه.
* * *
وقال آخرون:"معنى ذلك: القيام على مكانه". ووجَّهوه إلى القيام الدائم الذي لا زوالَ معه ولا انتقال، وأنّ الله عز وجل إنما نفى عن نفسه بوَصفها بذلك، التغيُّرَ والتنقلَ من مكان إلى مكان، وحدوثَ التبدّل الذي يحدث في الآدميين وسائر خلقه غيرهم.
ذكر من قال ذلك:
6553 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"القيوم"، القائم على مكانه من سلطانه في خلقه لا يزول، وقد زال عيسى في قولهم = يعني في قول الأحْبار الذين حاجوا النبي صلى الله عليه وسلم من أهل نجران في عيسى = عن مكانه الذي كان به، وذهب عنه إلى غيره. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب ما قاله مجاهد والربيع، وأنّ ذلك وصفٌ من الله تعالى ذكره نفسه بأنه القائم بأمر كل شيء، في رزقه والدفع عنه، وكلاءَته وتدبيره وصرفه في قدرته = من قول العرب:"فلان قائم بأمر هذه البلدة"، يعنى بذلك: المتولي تدبيرَ أمرها.
__________
(1) الأثر: 6553- في المخطوطة والمطبوعة: "عمر بن إسحاق" وهو خطأ بين، وهذا إسناد أبي جعفر إلى"محمد بن إسحاق"، الذي يدور في تفسيره. وهذا الخبر تمام الخبرين السالفين: 6543، 6548، في سيرة ابن هشام 2: 225. وفي المطبوعة والمخطوطة خطأ آخر: "القيام على مكانه"، مكان"القائم على مكانه" والصواب من سيرة ابن هشام.(6/158)
فـ"القيوم" = إذ كان ذلك معناه ="الفيعول" من قول القائل:"الله يقوم بأمر خلقه". وأصله"القيووم"، غير أن"الواو" الأولى من"القيووم" لما سبقتها"ياء" ساكنة وهي متحركة، قلبت"ياء"، فجعلت هي و"الياء" التي قبلها"ياء" مشدّدة. لأن العرب كذلك تفعل بـ"الواو" المتحركة إذا تقدمتها"ياء" ساكنة. (1)
* * *
وأما"القيَّام"، فإن أصله"القيوام"، وهو"الفيعال" من"قام يقوم"، سبقت"الواو" المتحركة من"قيوام""ياء" ساكنة، فجعلتا جميعًا"ياء" مشدّدة.
ولو أن"القيوم""فَعُّول"، كان"القوُّوم"، ولكنه"الفيعول". وكذلك"القيّام"، لو كان"الفعَّال"، لكان"القوَّام"، كما قيل:"الصوّام والقوّام"، وكما قال جل ثناؤه: (كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ) [سورة المائدة: 8] ، ولكنه"الفيعال"، فقيل:"القيام".
* * *
وأما"القيِّم"، فهو"الفيعل" من"قام يقوم"، سبقت"الواو" المتحركة"ياء" ساكنة، فجعلتا"ياء" مشددة، كما قيل:"فلان سيدُ قومه" من"ساد يسود"، و"هذا طعام جيد" من"جاد يجود"، وما أشبه ذلك.
* * *
وإنما جاء ذلك بهذه الألفاظ، لأنه قصد به قصدَ المبالغة في المدح، فكان"القيوم" و"القيّام" و"القيم" أبلغ في المدح من"القائم"، وإنما كان عمر رضي الله عنه يختار قراءته، إن شاء الله،"القيام"، لأنّ ذلك الغالب على منطق أهل الحجاز في ذوات الثلاثة من"الياء""الواو"، فيقولون للرجل الصوّاغ:
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"القيوم": 5: 388، 389، وهنا زيادة في"القيام" و"القيم" لم يذكرها هناك.(6/159)
نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3)
"الصيّاغ"، ويقولون للرجل الكثير الدّوران:"الدَّيار". (1) وقد قيل إن قول الله جل ثناؤه: (لا تَذَرْ عَلَى الأرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [سورة نوح: 26] إنما هو"دوّار"،"فعَّالا" من"دار يَدُور"، ولكنها نزلت بلغة أهل الحجاز، وأقِرّت كذلك في المصحف.
* * *
القول في تأويل قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ}
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: يا محمد، إنّ ربك وربَّ عيسى وربَّ كل شيء، هو الرّبّ الذي أنزل عليك الكتاب = يعني بـ"الكتاب"، القرآن ="بالحق" يعني: بالصّدق فيما اختلف فيه أهل التوراة والإنجيل، وفيما خالفك فيه محاجُّوك من نصارى أهل نجران وسائر أهل الشرك غيرهم ="مُصَدّقًا لما بين يديه"، يعني بذلك القرآن، أنه مصدّق لما كان قبله من كتب الله التي أنزلها على أنبيائه ورسله، ومحقق ما جاءت به رُسل الله من عنده. (2) لأن منزل جميع ذلك واحد، فلا يكون فيه اختلاف، ولو كان من عند غيره كان فيه اختلاف كثير.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6554 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 110.
(2) في المخطوطة"ومخفو ما جاءت به رسل الله"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة.(6/160)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مصدقًا لما بين يديه". قال: لما قبله من كتاب أو رسول.
6555 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"مصدقًا لما بين يديه"، لما قبله من كتاب أو رسول.
6556 - حدثني محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنى محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"نزل عليك الكتاب بالحق"، أي بالصدق فيما اختلفوا فيه. (1)
6557 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه"، يقول: القرآن، ="مصدّقًا لما بين يديه" من الكتب التي قد خلت قبله.
6558 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"نزل عليك الكتاب بالحق مصدقًا لما بين يديه"، يقول: مصدّقًا لما قبله من كتاب ورسول.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وأنزل التوراة"، على موسى ="والإنجيل" على عيسى ="من قبل"، يقول: من قبل الكتاب الذي نزله عليك = ويعني بقوله:"هُدًى للناس"، بيانًا للناس من الله فيما اختلفوا فيه
__________
(1) الأثر: 6556- هو بقية الآثار السالفة، التي آخرها آنفًا رقم: 6553.(6/161)
مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
من توحيد الله وتصديق رسله، ونَعْتِيك يا محمد بأنك نبيّى ورسولى، (1) وفي غير ذلك من شرائع دين الله، كما:-
6559 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وأنزل التوراة والإنجيل من قبل هدى للناس"، هما كتابان أنزلهما الله، فيهما بيانٌ من الله، وعصمةٌ لمن أخذ به وصدّق به، وعمل بما فيه.
6560 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وأنزل التوراة والإنجيل"، التوراة على موسى، والإنجيل على عيسى، كما أنزل الكتب على من كان قبله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وأنزل الفصْل بين الحق والباطل فيما اختلفت فيه الأحزابُ وأهلُ الملل في أمر عيسى وغيره.
* * *
وقد بينا فيما مضى أنّ"الفرْقان"، إنما هو"الفعلان" من قولهم:"فرق الله
__________
(1) في المطبوعة: "ومفيدًا يا محمد أنك نبيي رسولي"، وفي المخطوطة هكذا: "وحفيك يا محمد بأنك نبيي ورسولي"، الحرف الأول حاء، والثاني"فاء" والثالث"ياء"، والرابع كالدال، إلا أنه بالكاف أشبه. وقد رجحت أن تكون الكلمة: "نعتيك"، لأن الله لما نعت محمدًا بأنه نبيه ورسوله، اختلف الناس في صفته هذه. وكذلك فعل هذا الوفد من نصارى نجران، كما هو واضح من حديثهم في سيرة ابن هشام. وقوله"ونعتيك" معطوف على قوله: "من توحيد الله، وتصديق رسوله"، أي ومن نعتيك. أما ما جاء في المطبوعة، فهو فاسد في السياق وفي المعنى جميعًا.
(2) الأثر: 6560 - هو بقية الآثار السالفة، التي آخرها رقم: 6556، وفي المطبوعة"على من كان قبلهما"، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام.(6/162)
بين الحق والباطل"، فصل بينهما بنصره الحقَّ على الباطل، (1) إما بالحجة البالغة، وإما بالقهر والغلبة بالأيدِ والقوة. (2)
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهلُ التأويل، غير أنّ بعضهم وجّه تأويله إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أمر عيسى = وبعضهم: إلى أنه فصل بين الحق والباطل في أحكام الشرائع.
ذكر من قال: معناه:"الفصل بين الحق والباطل في أمر عيسى والأحزاب":
6561 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وأنزل الفرقان"، أي: الفصلَ بين الحق والباطل فيما اختلف فيه الأحزاب من أمر عيسى وغيره. (3)
* * *
ذكر من قال: معنى ذلك:"الفصل بين الحق والباطل في الأحكام وشرائع الإسلام":
6562 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وأنزل الفرقان"، هو القرآن، أنزله على محمد، وفرق به بين الحق والباطل، فأحلّ فيه حلاله وحرّم فيه حرامه، وشرع فيه شرائعه، وحدّ فيه حدوده، وفرض فيه فرائضَه، وبين فيه بيانه، وأمر بطاعته، ونهى عن معصيته.
6563 - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وأنزل الفرقان"، قال: الفرقان، القرآن، فرق بين الحق والباطل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يفصل بينهما ... بالحق" مضارعًا، والصواب أن يكون ماضيًا كما أثبته.
(2) انظر ما سلف 1: 98، 99 / ثم 3: 448. وفي المطبوعة"بالأيدي" بالياء في آخره، وهو خطأ. والأيد: الشدة والقوة.
(3) الأثر: 6561 - هو بقية الآثار التي آخرها: 6560.(6/163)
قال أبو جعفر: والتأويل الذي ذكرناه عن محمد بن جعفر بن الزبير في ذلك، أولى بالصحة من التأويل الذي ذكرناه عن قتادة والربيع = وأن يكون معنى"الفرقان" في هذا الموضع: فصل الله بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم والذين حاجُّوه في أمر عيسى، وفي غير ذلك من أموره، بالحجة البالغة القاطعة عذرَهم وعذرَ نُظرائهم من أهل الكفر بالله.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب، لأن إخبارَ الله عن تنزيله القرآنَ - قبل إخباره عن تنزيله التوراة والإنجيل في هذه الآية - قد مضى بقوله:"نزل عليك الكتاب بالحقّ مصدّقًا لما بين يديه". ولا شك أن ذلك"الكتاب"، هو القرآن لا غيره، فلا وجه لتكريره مرة أخرى، إذ لا فائدة في تكريره، ليست في ذكره إياه وخبره عنه ابتداءً.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين جحدوا أعلام الله وأدلته على توحيده وألوهته، وأن عيسى عبدٌ له، واتخذوا المسيح إلهًا وربًّا، أو ادَّعوه لله ولدًا، لهم عذاب من الله شديدٌ يوم القيامة.
* * *
و"الذين كفروا"، هم الذين جحدوا آيات الله = و"آيات الله"، أعلامُ الله وأدلته وحججه. (1)
* * *
__________
(1) انظر فهارس اللغة فيما سلف"كفر" و"أبى".(6/164)
وهذا القول من الله عز وجل ينبئ عن معنى قوله: (1) "وأنزل الفرقان" أنه معنِيٌّ به الفصل الذي هو حجة لأهل الحق على أهل الباطل. (2) لأنه عقب ذلك بقوله:"إن الذين كفروا بآيات الله"، يعني: إن الذين جحدوا ذلك الفصل والفرقانَ الذي أنزله فرقًا بين المحق والمبطل ="لهم عذاب شديدٌ"، وعيدٌ من الله لمن عاند الحقّ بعد وضوحه له، وخالف سبيلَ الهدى بعد قيام الحجة عليه = ثم أخبرهم أنه"عزيز" في سلطانه لا يمنعه مانع ممن أراد عذابه منهم، ولا يحول بينه وبينه حائل، ولا يستطيع أن يعانده فيه أحدٌ = وأنه"ذو انتقام" ممنّ جحد حججه وأدلته بعد ثبوتها عليه، وبعد وضوحها له ومعرفته بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6564 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام"، أي: إن الله منتقم ممن كفرَ بآياته بعد علمه بها، ومعرفته بما جاء منه فيها. (3)
6565 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،"إن الذين كفروا بآيات الله لهم عذاب شديد والله عزيزٌ ذو انتقام"،
.........................................................................
............................................................................ (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "يعني عن معنى قوله"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أنه معنى به الفصل عن الذي هو حجة ... "، وقوله: "عن" زائدة بلا ريب في الكلام من عجلة الناسخ، فلذلك أسقطتها. والسياق بعد يدل على صواب ذلك.
(3) الأثر: 6564- هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6561.
(4) مكان هذه النقط ما سقط من تتمة الخبر رقم: 6565، والأخبار بعده، إن كانت بعده أخبار. وهكذا هو المطبوعة وسائر المخطوطات التي بين أيدينا.(6/165)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ (5) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله لا يخفى عليه شيء هو في الأرض ولا شيء هو في السماء. يقول: فيكف يخفى علىّ يا محمدُ - وأنا علامُ جميع الأشياء - ما يُضَاهى به هؤلاء الذين يجادلونك في آيات الله من نصارى نجران في عيسى ابن مريم، في مقالتهم التي يقولونها فيه؟ ! كما:-
6566 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء"، أي: قد علم ما يريدون وما يَكيدون وما يُضَاهون بقولهم في عيسى، إذ جعلوه ربًّا وإلهًا، وعندهم من علمه غيرُ ذلك، غِرّةً بالله وكفرًا به. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الله الذي يصوّركم فيجعلكم صورًا أشباحًا في أرحام أمهاتكم كيف شاء وأحب، فيجعل هذا ذكرًا وهذا أنثى، وهذا أسود وهذا أحمر. يُعرّف عباده بذلك أنّ جميع من اشتملت عليه أرحامُ النساء، ممنّ صوره وخلقه كيف شاء (2) = وأنّ عيسى ابن مريم ممن صوّره في
__________
(1) الأثر: 6566 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6564، من سيرة ابن إسحاق.
(2) في المطبوعة: "ممن صوره" بإسقاط الفاء من أولها. والصواب من المخطوطة.(6/166)
رحم أمه وخلقه فيها كيف شاء وأحبّ، وأنه لو كان إلهًا لم يكن ممن اشتملت عليه رحم أمه، لأن خلاق ما في الأرحام لا تكون الأرحامُ عليه مشتملة، وإنما تشتمل على المخلوقين، كما:-
6567 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، أي: (1) قد كان عيسى ممن صُوّر في الأرحام، لا يدفعون ذلك ولا ينكرونه، كما صُوّر غيره من بني آدم، فكيفَ يكون إلهًا وقد كان بذلك المنزل؟ (2)
6568 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، أي: أنه صوّر عيسى في الرحم كيف شاء.
* * *
قال آخرون في ذلك ما:-
6569 - حدثنا به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن أبي مالك، وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، قال: إذا وقعت النطفة في الأرحام طارت في الجسد أربعين يومًا، ثم تكون عَلقةً أربعين يومًا، ثم تكون مُضْغة أربعين يومًا، فإذا بلغ أن يُخلق، بعث الله ملكًا يصوِّرها. فيأتي الملك بتراب بين إصبعيه، فيخلطه في المضْغة، ثم يعجنه بها، ثم يصوّرها كما يؤمر، فيقول: أذكر أو أنثى؟ أشقي أو سعيد، وما رزقه؟ وما عمره؟ وما أثره؟
__________
(1) "أي" ساقطة من المخطوطة والمطبوعة، وأثبتها من سيرة ابن هشام، وقد مضى نهج ابن إسحاق على ذلك في الآثار السالفة.
(2) الأثر: 6567 - هو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6566 عن ابن إسحاق.(6/167)
هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
وما مصائبه؟ فيقول الله، ويكتب الملك. فإذا مات ذلك الجسدُ، دُفن حيث أخذ ذلك التراب. (1)
6570 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"هو الذي يصوّركم في الأرحام كيف يشاء"، قادرٌ والله ربُّنا أن يصوّر عبادَه في الأرحام كيف يشاء، من ذكر أو أنثى، أو أسود أو أحمر، تامّ خلقُه وغير تامّ.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) }
قال أبو جعفر: وهذا القول تنزيه من الله تعالى ذكره نفسَه أن يكون له في ربوبيته ندّ أو مِثل، أو أن تَجوز الألوهة لغيره = وتكذيبٌ منه للذين قالوا في عيسى ما قالوا، من وفد نجران الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسائر من كان على مثل الذي كانوا عليه من قولهم في عيسى، ولجميع من ادّعى مع الله معبودًا، أو أقرّ بربوبية غيره. (2) ثم أخبر جل ثناؤه خلقه بصفته، وعيدًا منه لمن عبد غيره، أو أشرك في عبادته أحدًا سواه، فقال:"هو العزيز" الذي لا ينصر من أرادَ الانتقام منه أحدٌ، ولا ينجيه منه وَأْلٌ ولا لَجَأٌ، (3) وذلك لعزته التي يذلُّ لها كل مخلوق، ويخضع لها كل موجود. (4) ثم أعلمهم أنه"الحكيم"
__________
(1) الأثر: 6569- قد مضى الكلام في هذا الإسناد في رقم: 168. وحديث خلق الآدمي في بطن أمه بغير هذا اللفظ، وبغير هذا الإسناد في مسلم 16: 189-195، وفي البخاري في كتاب"بدء الخلق" في باب ذكر الملائكة. وفي كتاب"الحيض" باب: مخلقة وغير مخلقة.
(2) قوله: "ولجميع من ادعى ... " معطوف على قوله: "وتكذيب للذين قالوا..".
(3) "وأل" (بفتح الواو وسكون الهمزة، على وزن سمع) : هو الموئل، وهو الملجأ الذي يفر إليه الخائف. و"لجأ" (بفتح اللام والجيم) : هو الملجأ، وهو المعقل الذي يحتمى به.
(4) انظر فهارس اللغة (عزز) فيما سلف.(6/168)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8)
في تدبيره وإعذاره إلى خلقه، ومتابعة حججه عليهم، ليهلك من هلك منهم عن بيّنة، ويحيا من حيَّ عن بينة، (1) كما:-
6571 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم قال - يعني الرب عز وجل -: إنزاهًا لنفسه، وتوحيدًا لها مما جعلوا معه:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، قال: العزيز في انتصاره ممن كفر به إذا شاء، (2) والحكيم في عُذْره وحجته إلى عباده. (3)
6572 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، يقول: عزيز في نقمته، حكيمٌ في أمره.
* * *
القول في تأويل قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"هو الذي أنزل عليك الكتاب"، إن الله الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك الكتاب = يعني ب"الكتاب"، القرآن.
* * *
__________
(1) انظر فهارس اللغة (حكم) فيما سلف.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "في نصرته" وهو خطأ في المعنى، فإن"النصرة"، اسم من"النصر" وهو لا مكان له هنا. وأما "الانتصار" فهو: الانتقام. وانتصر منه: انتقم.
(3) في ابن هشام: "في حجته وعذره إلى عباده"، وهي أجود لمكان"إلى" من الكلام. أعذر إليه إعذارًا وعذرًا: بلغ الغاية في إرشاده حتى لم يبق موضع للاعتذار.(6/169)
وقد أتينا على البيان فيما مضى عن السبب الذي من أجله سمى القرآن"كتابًا" بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وأما قوله:"منه آيات محكمات" فإنه يعني: من الكتاب آيات. يعني ب"الآيات" آيات القرآن.
وأما"المحكمات"، فإنهن اللواتي قد أحكمن بالبيان والتفصيل، وأثبتت حججهن وأدلتهن على ما جُعلن أدلة عليه من حلال وحرام، ووعد ووعيد، وثواب وعقاب، وأمر وزجر، وخبر ومثل، وعظة وعِبر، وما أشبه ذلك.
* * *
ثم وصف جل ثناؤه: هؤلاء"الآيات المحكمات"، بأنهن:"هُنّ أمّ الكتاب" (2) . يعني بذلك: أنهن أصل الكتاب الذي فيه عماد الدين والفرائض والحدود، وسائر ما بالخلق إليه الحاجة من أمر دينهم، وما كلفوا من الفرائض في عاجلهم وآجلهم.
* * *
وإنما سماهن"أمّ الكتاب"، لأنهن معظم الكتاب، وموضع مَفزَع أهله عند الحاجة إليه، وكذلك تفعل العرب، تسمي الجامعَ معظم الشيء"أمًّا" له. فتسمى راية القوم التي تجمعهم في العساكر:"أمّهم"، والمدبر معظم أمر القرية والبلدة:"أمها".
وقد بينا ذلك فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
ووحَّد"أمّ الكتاب"، ولم يجمع فيقول: هن أمَّهات الكتاب، وقد قال:"هُنّ" = لأنه أراد جميع الآيات المحكمات"أم الكتاب"، لا أن كل آية منهن"أم الكتاب". ولو كان معنى ذلك أن كل آية منهن"أم الكتاب"،
__________
(1) انظر ما سلف 1: 99 / ثم 3: 86 وفهارس اللغة.
(2) في المخطوطة"بأنهن من الكتاب" وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة.
(3) انظر ما سلف 1: 107، 108.(6/170)
لكان لا شك قد قيل:"هن أمهات الكتاب". ونظير قول الله عز وجل:"هن أمّ الكتاب" على التأويل الذي قلنا في توحيد"الأم" وهي خبر لـ"هُنّ"، قوله تعالى ذكره: (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً) [سورة المؤمنون: 50] ولم يقل: آيتين، لأن معناه: وجعلنا جميعهما آية. إذ كان المعنى واحدًا فيما جُعلا فيه للخلق عبرة. (1) ولو كان مرادًا الخبرُ عن كل واحد منهما على انفراده، (2) بأنه جعل للخلق عبرة، لقيل: وجعلنا ابن مريم وأمه آيتين، لأنه قد كان في كل واحد منهما لهم عبرة. وذلك أن مريم ولدت من غير رجل، ونطق ابنها فتكلم في المهد صبيًّا، فكان في كل واحد منهما للناس آية.
* * *
وقد قال بعض نحويي البصرة: إنما قيل:"هن أم الكتاب"، ولم يَقل:"هن أمهات الكتاب" على وجه الحكاية، كما يقول الرجل:"ما لي أنصار"، فتقول:"أنا أنصارك" = أو:"ما لي نظير"، فتقول:"نحن نظيرك". (3) قال: وهو شبيهُ:"دَعنى من تَمرْتَان"، وأنشد لرجل من فقعس: (4)
تَعَرَّضَتْ لِي بِمَكَانِ حَلِّ ... تَعرُّض المُهْرَةِ فِي الطِّوَلِّ تَعَرُّضًا لَمْ تَألُ عَنْ قَتْلا لِي (5)
__________
(1) في المطبوعة: "إذا كان المعنى وإحداثهما جعلنا فيه للخلق عبرة" وهو كلام بلا معنى، ولكن الناقل عن المخطوطة لم يحسن القراءة، فإن الألف الأخيرة في"واحدًا" نزلت في مستقر الفاء من"فيما" غير منقوطة، فظنها"وإحداثهما"، وبدل"جعلا" فصيرها"جعلنا"، وهذا من عجائب الخلط.
(2) في المطبوعة: "ولو كان مراده الخبر ... " والصواب الجيد من المخطوطة.
(3) ربما كان الصواب: "ما لي نصير"، فتقول: "نحن نصيرك"، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب لا شك فيه.
(4) هو منظور بن مرثد بن فروة الفقعسي الأسدي. ويقال: "منظور بن فروة بن مرثد"، وهو نفسه"منظور بن حبة الفقعسي الأسدي"، و"حبة" أمه، ويعرف بها.
(5) مجالس ثعلب: 602 (أبيات كثيرة من هذا الرجز) وشرح شواهد الشافية: 248 - 251، وسر صناعة الإعراب 1: 177- 179 / ثم 235، واللسان (طول) (قتل) ، وغيرها. ورواية البيت الأول في مجالس ثعلب"بمجاز حل"، والأخير"عن قتللى"، ولا شاهد في هذه الرواية. وقد ذكر في اللسان اختلاف روايته."والطول" (بكسر الطاء وفتح الواو واللام غير مشددة كما في الرجز) : هو الجبل الذي يطول للدابة فترعى فيه، وإنما شدد الراجز. لم تأل: لم تقصر. والضمير في هذا الشعر إلى صاحبته التي يقول فيها قبل هذه الأبيات: مَنْ لِيَ مِنْ هِجْرَانِ لَيْلَى? مَنْ لِي? ... وَالحَبْلِ مِنْ وِصَالِهَا المُنْحَلِّ?(6/171)
"حَلِّ" أي: يحلّ به. (1) = على الحكاية، لأنه كان منصوبًا قبل ذلك، كما يقول:"نوديَ: الصلاةَ الصلاةَ"، يحكي قول القائل:"الصلاةَ الصلاةَ".
وقال: قال بعضهم: إنما هي:"أنْ قتلا لي"، ولكنه جعله"عينًا"، (2) لأن"أن" في لغته تجعل موضعها"عن"، والنصبُ على الأمر، كأنك قلت:"ضربًا لزيد".
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قول لا معنى له. لأن كل هذه الشواهد التي استشهدَها، (3) لا شك أنهن حكايات حاكيهنّ، (4) بما حكى عن قول غيره وألفاظه التي نطق بهن = وأن معلومًا أن الله جل ثناؤه لم يحك عن أحد قوله:"أمّ الكتاب"، فيجوز أن يقال: أخرج ذلك مُخرَج الحكاية عمن قال ذلك كذلك. (5)
* * *
وأما قوله:"وأخَرُ" فإنها جمع"أخْرَى". (6)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "كل أي يحكى به على الحكاية"، وهو كلام فاسد، ولكن العجب للذي أراد أن يصححه فقال: "لعل أصلها كما هو المفهوم من السياق: لم يقل، عن قتل، وأتى به على الحكاية"، أراد أن يصحح، فكرر الكلام، وهو أسخف ما يكون. بيد أن القارئ الذي نقل عن المخطوطة، لم يحسن قراءة نصها، فأفسدها إفسادًا، ولكنها بينة كما كتبتها من رسم المخطوطة.
وقوله"بمكان حل" ضبط بالقلم في اللسان وفي مجالس ثعلب بتنوين"مكان" و"مجاز"، وكسر الحاء من"حل". ولا أظنه صوابًا، فلم أجدهم يقولون: "مكان حل" بكسر الحاء، وإنما هو بفتحها بالإضافة، لا بالنعت: ": حل بالمكان حلولا وحلا". أي: نزل به.
وقوله: "على الحكاية" في سياق قوله: "وأنشد لرجل من فقعس ... ".
(2) في المطبوعة: "جعله عن"، ولا خير في هذا التغيير، والذي في المخطوطة عين الصواب.
(3) في المطبوعة: "استشهد بها"، والذي في المخطوطة صواب عريق في العربية.
(4) في المطبوعة: "حكايات حالهن"، وهو كلام لا مفهوم له. وفي المخطوطة"حالسهن" ولم يضع شرطة الكاف، فلذلك اشتبهت على الناسخ.
(5) في المخطوطة: "أخرج ذلك محلر الحكاية"، وكأن الصواب المحض ما في المطبوعة، وهذا تحريف من عجلة الناسخ، أراد أن يكتب"مخرج"، فزاد القلم لامًا، ثم راجع راء، ثم أسقط الجيم.
(6) انظر ما سلف 3: 459. وفي المطبوعة: "جمع آخر"، وفي المخطوطة، بغير مدة على الألف، ورجحت أن تكون"أخرى"، لما مضى من قوله في ذلك ولما سيأتي بعد قليل، ولأنه القياس.(6/172)
ثم اختلف أهل العربية في العلة التي من أجلها لم يصرف"أخَر".
فقال بعضهم: لم يصرف"أخر" من أجل أنها نعتٌ، واحدتها"أخرى"، كما لم تصرف"جُمَع" و"كُتَع"، لأنهن نعوتٌ.
* * *
وقال آخرون: إنما لم تصرف"الأخر"، لزيادة الياء التي في واحدتها، وأنّ جمعها مبنيّ على واحدها في ترك الصرف. قالوا: وإنما ترك صرف"أخرى"، كما ترك صرف"حمراء" و"بيضاء"، في النكرة والمعرفة، لزيادة المدة فيها والهمزة بالواو. (1) ثم افترق جمع"حمراء" و"أخرى"، فبنى جمع"أخرى" على واحدته فقيل:"فُعَلٌ" و"أخر"، (2) فترك صرفها كما ترك صرف"أخرى" = وبنى جمع"حمراء" و"بيضاء" على خلاف واحدته فصرف، فقيل:"حمر" و"بيض"، فلاختلاف حالتهما في الجمع، اختلفَ إعرابهما عندهم في الصرف. ولاتفاق حالتيهما في الواحدة، اتفقت حالتاهما فيها.
* * *
وأما قوله:"متشابهات"، فإن معناه: متشابهات في التلاوة، مختلفات في المعنى، كما قال جل ثناؤه: (وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا) [سورة البقرة: 25] ، يعني في المنظر، مختلفًا في المطعم (3) وكما قال مخبرًا عمن أخبر عنه من بني إسرائيل أنه قال: (إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا) [سورة البقرة: 70] ، يعنون بذلك: تشابه علينا في الصفة، وإن اختلفت أنواعه. (4)
* * *
__________
(1) تركت قوله: "بالواو" على حاله، فإني لم أستطع أن أرجح زيادتها، ولم أعرف ما أراد بها إلا أن يكون أراد بها ألف التأنيث المقصورة، كالتي في"حبلى". والأخرى ألف التأنيث الممدودة.
(2) المرجح عندي أن قوله: "فعل" زيادة من الناسخ.
(3) انظر ما سلف 1: 385-394.
(4) انظر ما سلف 2: 209-211.(6/173)
فتأويل الكلام إذًا: إن الذي لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، هو الذي أنزل عليك يا محمد القرآن، منه آيات محكمات بالبيان، هن أصل الكتاب الذي عليه عمادُك وعماد أمتك في الدّين، وإليه مفزعُك ومفزعهم فيما افترضت عليك وعليهم من شرائع الإسلام = وآيات أخر، هنّ متشابهاتٌ في التلاوة، مختلفات في المعاني.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخَر متشابهات"، وما المحكم من آي الكتاب، وما المتشابه منه؟
فقال بعضهم:"المحكمات" من آي القرآن، المعمول بهن، وهنّ الناسخات أو المثبتاتُ الأحكامَ ="والمتشابهات" من آية، المتروك العملُ بهنّ، المنسوخاتُ.
ذكر من قال ذلك:
6573 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوّام، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:"منه آيات محكمات"، قال: هي الثلاث الآيات من ههنا: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) [سورة الأنعام: 151، 152] ، إلى ثلاث آيات، (1) والتي في"بني إسرائيل": (وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ) [سورة الإسراء: 23 - 39] ، إلى آخر الآيات. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "التي هاهنا"، وهو خطأ، فإن الآيات كما ترى من سورة الأنعام وأثبت ما في الدر المنثور 2: 4. وانظر التخريج في آخر الأثر.
(2) الأثر: 6573- هكذا إسناده في المخطوطة والمطبوعة، وأنا أخشى أن يكون سقط من إسناده"عن أبي إسحاق"، بعد"قال أخبرنا العوام". و"العوام" هو العوام بن حوشب، يروي أبي إسحاق السبيعي. أما قوله في الإسناد"عمن حدثه" فإن ذلك كذلك، لأن الذي روى عنه أبو إسحاق السبيعي، هو"عبد الله بن قيس"، مذكور بروايته هذا الأثر، وراويه عنه هو أبو إسحاق السبيعي، ولم يعرف من روى عنه غير أبي إسحاق. (تهذيب التهذيب 5: 365) . والأثر نفسه رواه الحاكم في المستدرك 2: 288 من طريق: "علي بن صالح بن حي، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن قيس، عن ابن عباس". ونصه: "آيات محكمات، هي التي في الأنعام: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم - إلى آخر الثلاث الآيات". وقال الحاكم: "صحيح"، ووافقه الذهبي. من أجل ذلك خشيت أن يكون سقط من إسناد الطبري"عن أبي إسحاق"، ولكني لم أثبته في نصه.(6/174)
6574 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب"، المحكمات: ناسخه، وحلالُه، وحرَامه، وحدوده وفرائضُه، وما يؤمن به ويعمل به = قال:"وأخر متشابهات"، والمتشابهات: منسوخه، ومقدّمه ومؤخره، وأمثاله وأقسامه، وما يؤمن به ولا يُعمل به.
6575 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى"وأخر متشابهات"، فالمحكمات التي هي أمّ الكتاب: الناسخ الذي يُدان به ويعمل به. والمتشابهات، هن المنسوخات التي لا يُدان بهنّ.
6576 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود، وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"هو الذي أنزلَ عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب" إلى قوله:"كل من عندنا ربنا"، أما"الآيات المحكمات": فهن الناسخات التي يعمَل بهن = وأما"المتشابهات" فهن المنسوخات.
6577 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب"، و"المحكمات": الناسخ الذي يعمل به، ما أحلّ الله فيه حلاله وحرّم فيه حرامه = وأما"المتشابهات": فالمنسوخ الذي لا يُعمل به ويُؤمن به.
6578 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"آيات محكمات"، قال: المحكم ما يعمل به.
6579 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن(6/175)
أبيه، عن الربيع:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هنّ أم الكتاب وأخر متشابهات"، قال:"المحكمات"، الناسخ الذي يعمل به = و"المتشابهات": المنسوخ الذي لا يعمل به ويؤمن به.
6580 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال: الناسخات ="وأخر متشابهات"، قال: ما نُسخ وتُرك يُتلى.
6581 - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك بن مزاحم قال: المحكم، ما لم ينسخ = وما تشابه منه: ما نسخ.
6582 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال: الناسخ ="وأخر متشابهات"، قال: المنسوخ.
6583 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يحدث قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"منه آيات محكمات"، يعني الناسخ الذي يعمل به ="وأخر متشابهات"، يعنى المنسوح، يؤمن به ولا يعمل به.
6584- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة، عن الضحاك:"منه آيات محكمات"، قال: ما لم ينسخ ="وأخر متشابهات"، قال: ما قد نسخ.
* * *
وقال آخرون:"المحكمات" من آي الكتاب: ما أحكم الله فيه بيانَ حلاله وحرامه ="والمتشابه" منها: ما أشبه بعضُه بعضًا في المعاني، وإن اختلفت ألفاظه.
ذكر من قال ذلك:(6/176)
6585 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"منه آيات محكمات"، ما فيه من الحلال والحرام، وما سوى ذلك فهو"متشابه"، يصدّق بعضُه بعضًا = وهو مثل قوله: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلا الْفَاسِقِينَ) [سورة البقرة: 26] ، ومثل قوله: (كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) [سورة الأنعام: 125] ، ومثل قوله: (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ) [سورة محمد: 17] .
6586 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون:"المحكمات" من آي الكتاب: ما لم يحتمل من التأويل غير وجه واحد ="والمتشابه" منها: ما احتمل من التأويل أوجهًا.
ذكر من قال ذلك:
6587 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن جعفر بن الزبير:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات"، فيهن حجة الربّ، وعصمةُ العباد، ودفع الخصُوم والباطل، ليس لها تصريف ولا تحريف عما وضعت عليه = (1) "وأخَرُ متشابهات"، في الصدق، (2) لهن تصريف وتحريف وتأويل، (3) ابتلى الله فيهن العبادَ، كما ابتلاهم في الحلال والحرام، لا يُصرفن إلى الباطل ولا يحرّفن عن الحق. (4)
* * *
__________
(1) في نص ابن هشام: "ليس لهن تصريف ... عما وضعن".
(2) في المطبوعة: "وأخر متشابهة"، والصواب من المخطوطة وابن هشام. وليس في نص ابن هشام: "في الصدق"، ولكنها ثابتة في المخطوطة.
(3) ليس في نص رواية ابن هشام"وتحريف".
(4) الأثر 6587- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها: 6571، من روايته عن ابن إسحاق.(6/177)
وقال آخرون: معنى"المحكم": ما أحكم الله فيه من آي القرآن، وقَصَص الأمم ورُسلهم الذين أرسلوا إليهم، ففصّله ببيان ذلك لمحمد وأمته ="والمتشابه"، هو ما اشتبهت الألفاظ به من قصصهم عند التكرير في السور، بقَصّه باتفاق الألفاظ واختلاف المعاني، وبقصّه باختلاف الألفاظ واتفاق المعانى. (1)
ذكر من قال ذلك:
6588 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد وقرأ: (ألر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) [سورة هود: 1] ، قال: وذكر حديثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في أربع وعشرين آية منها: (2) وحديثَ نوح في أربع وعشرين آية منها. ثم قال: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ) [سورة هود: 49] ، ثم ذكر (وَإِلَى عَادٍ) ، فقرأ حتى بلغ (وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ) (3) ثم مضى. ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا وفرغ من ذلك. وهذا تبيين ذلك، تبيين"أحكمت آياته ثم فصلت" = (4) قال: والمتشابهُ ذكر موسى في أمكنة
__________
(1) في المطبوعة: "فقصة اتفاق الألفاظ ... وقصة باختلاف الألفاظ ... " وهو فاسد، والصواب من المخطوطة.
(2) يعني من"سورة هود"، وهذا التعداد الآتي على الترتيب في المصحف.
(3) كأنه يعني أنه قرأ حتى بلغ هذه الآية من سورة هود: 89- ولكن هذه الآية في ذكر خبر شعيب عليه السلام، فلا أدري ما قوله بعد: "ثم مضى، ثم ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا". وظني أن نص عبارته:
"ثم مضى. ذكر صالحًا وإبراهيم ولوطًا وشعيبًا ... " بإسقاط"ثم" الثانية. وانظر التعليق التالي.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: وهذا يقين ذلك يقين أحكمت ... " وكأن الصواب ما أثبت.
هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان، ولكني وجدت السيوطي في الدر المنثور 3: 320، في تفسير"سورة هود" قال: "أخرج ابن أبي حاتم، عن ابن زيد رضي الله عنه أنه قرأ: "ألر كتاب أحكمت آياته" قال: هي كلها مكية محكمة - يعني سورة هود -"ثم فصلت". قال: ثم ذكر محمدًا صلى الله عليه وسلم، فحكم فيما بينه وبين من خالفه، وقرأ: "مثل الفريقين"، الآية كلها. ثم ذكر قوم نوح، ثم قوم هود، فكان هذا تفصيل ذلك، وكان أوله محكمًا. قال: وكان أبي رضي الله عنه يقول ذلك - يعني: زيد بن أسلم".
فمن أجل ذلك، رجحت التصحيح السالف في التعليق الماضي، ورجحت أن تكون"يقين" في الموضعين: "تبيين".(6/178)
كثيرة، وهو متشابه، وهو كله معنى واحد. ومتشابه: (فَاسْلُكْ فِيهَا) (احْمِلْ فِيهَا) ، (اسْلُكْ يَدَكَ) (أدخل يدك) ، (حَيَّةً تَسْعَى) (ثُعْبَانٌ مُبِينٌ) = (1) قال: ثم ذكر هودًا في عشر آيات منها، (2) وصالحًا في ثماني آيات منها، وإبراهيم في ثماني آيات أخرى، ولوطًا في ثماني آيات منها، وشعيبًا في ثلاث عشرة آية، وموسى في أربع آيات، كلّ هذا يقضي بين الأنبياء وبين قومهم في هذه السورة، فانتهى ذلك إلى مئة آية من سورة هود، ثم قال: (ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ) [سورة هود: 100] . وقال في المتشابه من القرآن: من يرد الله به البلاء والضلالة يقول: ما شأن هذا لا يكون هكذا؟ وما شأن هذا لا يكون هكذا؟
* * *
وقال آخرون: بل"المحكم" من آي القرآن: ما عرف العلماءُ تأويله، وفهموا معناه وتفسيره = و"المتشابه": ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مَخْرج عيسى ابن مريم، ووقت طُلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناءِ الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحدٌ. وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب"المتشابه"، الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو"ألم" و"ألمص"، و"ألمر"، و"ألر"، وما أشبه ذلك، لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمَّل. وكان قومٌ من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم طَمِعوا أن يدركوا من قِبَلها معرفة مدّة الإسلام وأهله، ويعلموا نهايةَ أُكْلِ
__________
(1) من أول قوله: "قال: والمتشابه ... " معترض في سياق حديثه عن تفصيل القصص في"سورة هود" وتعداد آيات كل قصة. أما الآيات المذكورة هنا، فهذا بيان مواضعها على الترتيب: "سورة المؤمنون: 27" / "سورة هود: 40" / "سورة القصص: 32" / "سورة النمل: 12" / "سورة طه: 20" / "سورة الأعراف: 107" و"سورة الشعراء: 22.
(2) "منها" يعني من"سورة هود"، وكذلك سائر ما بعده.(6/179)
محمد وأمته، (1) فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أنّ ما ابتغوا علمه من ذلك من قِبَل هذه الحروف المتشابهة لا يدركونه ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قولٌ ذُكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب: (2) أن هذه الآية نزلت فيه، (3) وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته، في تأويل ذلك في تفسير قوله: (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (4) [سورة البقرة: 2]
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية. وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنزله عليه بيانًا له ولأمته وهدًى للعالمين، وغيرُ جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجةُ، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. فإذْ كان ذلك كذلك، فكل ما فيه بخلقه إليه الحاجة، (5) وإن كان في بعضه ما بهم عن بعض معانيه الغنى= [وإن اضطرته الحاجة إليه في معان كثيرة] (6) = وذلكَ
__________
(1) في المطبوعة: "أجل أمته"، وهو تحريف من الطابع، وأثبت ما في المخطوطة: والأكل (بضم فسكون) : مدة العمر، وانظر التعليق ص: 196، تعليق: 1.
(2) في المطبوعة: "بن رباب" وهو خطأ، والصواب ما أثبت و"رئاب" بكسر الراء. وانظر ما سلف 1: 216 وما سيأتي في التعليق: 4، وفيه المرجع.
(3) قوله: "فيه"، أي: في هذا القول. لا في"جابر بن عبد الله".
(4) انظر ما سلف 1: 245-224 في تفسير"ألم"، والأثر رقم: 246 والتعليق عليه.
(5) في المطبوعة: "لخلقه"، وفي المخطوطة: "محلقه" غير منقوطة، والحرف الأول كأنه ميم مطموسة، وصواب قراءته ما أثبت.
(6) هذه الجملة التي بين القوسين، هكذا جاءت في المطبوعة، ومثلها في المخطوطة وإن كان قوله "اصطرته" غير منقوطة هكذا. وهي عبارة غير واضحة المعنى، وأنا أخشى أن يكون الناسخ قد أغفل أسطرًا من هذا الموضع، فاختلط الكلام علينا وعليه! وإسقاط هذه الجملة من سياق الكلام لا يضر. ولكني تركتها على حالها، ووضعتها بين قوسين، وحصرتها بين الخطوط، ليعرف مكانها، ومكان السقط الذي رجحت أنه سهو من الناسخ.(6/180)
كقول الله عز وجل: (يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا) [سورة الأنعام: 158] ، فأعلم النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن تلك الآية التي أخبر الله جل ثناؤه عبادَه أنها إذا جاءت لم ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل ذلك، هي طُلوع الشمس من مغربها. (1) فالذي كانت بالعباد إليه الحاجة من علم ذلك، هو العلم منهم بوقت نَفع التوبة بصفته، بغير تحديده بعدد السنين والشهور والأيام. (2) فقد بين الله ذلك لهم بدلالة الكتاب، وأوضحه لهم على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم مفسَّرًا. والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه، (3) هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية ووقت حدوث تلك الآية، فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم. وذلك وما أشبهه، هو المعنى الذي طلبت اليهودُ معرفته في مدّة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله:"ألم" و"ألمص" و"ألر" و"ألمر" ونحو ذلك من الحروف المقطّعة المتشابهات، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.
فإذْ كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم. لأنه لن يخلو من أن يكون محكمًا بأنه بمعنى واحد لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغنى بسماعه عن بيان يُبينه = (4) أو يكون محكمًا، وإن كان ذا وُجوه وتأويلات وتصرف في
__________
(1) انظر تفصيل ذلك والعلة في تفسير الآية من تفسير الطبري 8: 71-77 (بولاق) .
(2) في المطبوعة: "بعد بالسنين ... "، وفي المخطوطة: "بعد السنين ... "، وظاهر أن الناسخ أسقط الدال الثانية من"بعدد".
(3) في المطبوعة: "لا حاجة لهم" باللام، وأثبت صوابها من المخطوطة.
(4) في المطبوعة والمخطوطة"مبينة"، ولكن ميم المخطوطة كأنها ليست"ميما"، وصواب قراءة النص هو ما أثبت.(6/181)
معان كثيرة. فالدلالة على المعنى المراد منه، إما من بيان الله تعالى ذكره عنه، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته. ولن يذهبَ علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بيَّنَّا.
* * *
القول في تأويل قوله: {هُنَّ أُمُّ الْكِتَاب}
قال أبو جعفر: قد أتينا على البيان عن تأويل ذلك بالدلالة الشاهدة على صحة ما قلناه فيه. (1) ونحن ذاكرو اختلاف أهل التأويل فيه، وذلك أنهم اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معنى قوله:"هن أم الكتاب"، هنّ اللائي فيهن الفرائض والحدود والأحكام، نحو قولنا الذي قلنا فيه. (2)
ذكر من قال ذلك:
6589- حدثنا عمران بن موسى القزاز قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن يحيى بن يعمر أنه قال في هذه الآية:"محكمات هنّ أم الكتاب". قال يحيى: هن اللاتي فيهنّ الفرائضُ والحدودُ وعمادُ الدين = وضرب لذلك مثلا فقال:"أمّ القرى" مكة،"وأم خراسان"، مَرْو،"وأمّ المسافرين"، الذي يجعلون إليه أمرَهم، ويُعنى بهم في سفرهم، قال: فذاك أمهم. (3)
6590 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"هن أم الكتاب"، قال: هن جماع الكتاب.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا: 170.
(2) في المطبوعة: "نحو قلنا" وهو سهو صوابه من المخطوطة.
(3) الأثر: 6589-"عمران بن موسى الفزار"، و"عبد الوارث بن سعيد" مضت ترجمتهما برقم 2154. وانظر التعليق على الأثر رقم: 6591، التالي.(6/182)
وقال آخرون: بل يعني بذلك: (1) فواتح السور التي منها يستخرج القرآن.
ذكر من قال ذلك:
6591 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا إسحاق بن سويد، عن أبي فاختة أنه قال في هذه الآية:"منه آيات محكمات هن أم الكتاب"، قال:"أم الكتاب" فواتح السور، منها يستخرج القرآن - (الم ذَلِكَ الْكِتَابُ) ، منها استخرجت"البقرة"، و (الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) منها استخرجت"آل عمران". (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فأما الذين في قلوبهم ميل عن الحق وانحرافٌ عنه.
* * *
يقال منه:"زاغ فلان عن الحق، فهو يَزيغ عنه زَيْغًا وزيَغانًا وزيْغُوغَة وزُيوغًا"، و"أزاغه الله" - إذا أماله -"فهو يُزيغه"، ومنه قوله جل ثناؤه: (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) لا تملها عن الحق = (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا) [سورة آل عمران: 8] .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "معنى بذلك"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 6591-"أبو فاختة" هو"سعيد بن علاقة الهاشمي"، مولى أم هانئ، ثقة مترجم في التهذيب. وانظر الأثر السالف رقم: 6589. فقد خرجهما السيوطي في الدر المنثور 2: 4، أثرًا واحدًا مختصرًا وقال: "عن إسحاق بن سويد أن يحيى بن يعمر وأبا فاختة تراجعا هذه الآية: هن أم الكتاب، فقال أبو فاختة ... وقال يحيى بن يعمر ... " وساق ما في هذين الأثرين مختصرًا.(6/183)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:-
ذكر من قال ذلك:
6592 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فأما الذين في قلوبهم زيغٌ"، أي: ميل عن الهدى. (1)
6593 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"في قلوبهم زيغ"، قال: شك.
6594 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6595 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فأما الذين في قلوبهم زيغ"، قال: من أهل الشك.
6596 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره عن أبي مالك وعن أبي صالح، عن ابن عباس = وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:"فأما الذين في قلوبهم زيغ"، أما الزيغ فالشك.
6597 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: قال:"زيغ" شك = قال ابن جريج:"الذين في قلوبهم زيغ"، المنافقون.
* * *
__________
(1) الأثر: 6592- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6587، عن ابن إسحاق.(6/184)
القول في تأويل قوله: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشابَهَ مِنْهُ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فيتبعون ما تشابه"، ما تشابهت ألفاظه وتصرَّفت معانيه بوجوه التأويلات، ليحققوا = بادّعائهم الأباطيلَ من التأويلات في ذلك = ما هم عليه من الضلالة والزّيغ عن محجة الحقّ، تلبيسًا منهم بذلك على من ضعفت معرفته بوجوه تأويل ذلك وتصاريف معانيه، كما:-
6598 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فيتبعون ما تشابه منه"، فيحملون المحكم على المتشابه، والمتشابه على المحكم، ويلبِّسون، فلبَّس الله عليهم.
6599 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فيتبعون ما تشابه منه"، أي: ما تحرّف منه وتصرف، (1) ليصدقوا به ما ابتدعوا وأحدثوا، ليكون لهم حجة على ما قالوا وشُبْهةً. (2)
6600 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"فيبعون ما تشابه منه"، قال: الباب الذي ضلُّوا منه وهلكوا فيه ابتغاءَ تأويله.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:
__________
(1) في ابن هشام: "أي: ما تصرف منه"، وليس فيه"تحرف".
(2) الأثر: 6599- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6592، بإسناده عن ابن إسحاق. ونص ما في سيرة ابن هشام 2: 226"لتكون لهم حجة، ولهم على ما قالوا شبهة".
وتركت ما في التفسير هنا على حاله، لأن روايته عن ابن إسحاق، غير رواية ابن هشام".(6/185)
6601 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط عن السدي في قوله:"فيتبعون ما تشابه منه"، يتبعون المنسوخَ والناسخَ فيقولون: ما بال هذه الآية عمل بها كذا وكذا مجان هذه الآية، (1) فتركت الأولى وعُمل بهذه الأخرى؟ هلا كان العمل بهذه الآية قبل أن تجيء الأولى التي نُسخت؟ وما باله يعد العذابَ مَنْ عمل عملا يعذبه [في] النار، (2) وفي مكان آخر: مَنْ عمله فإنه لم يُوجب النار؟
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عني بهذه الآية.
فقال بعضهم: عُني به الوفدُ من نصارى نجران الذين قَدِموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحاجُّوه بما حاجُّوه به، وخاصموه بأن قالوا: ألست تزعم أنّ عيسى روح الله وكلمته؟ وتأولوا في ذلك ما يقولون فيه من الكفر.
ذكر من قال ذلك:
6602 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: عَمدوا - يعني الوفد الذين قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم من نصارى نجران - فخاصموا النبيَّ صلى الله عليه وسلم، قالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: بلى! قالوا: فحسبُنا! فأنزل الله عز وجل:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة"، ثم
__________
(1) في المطبوعة: "مجاز هذه الآية"، أما المخطوطة، فهي غير بينة، وآثرت قراءتها"مكان".
(2) في المطبوعة: "يعد به النار" بالدال المهملة، ولا معنى له. وفي المخطوطة"عد به" غير منقوطة، وصواب قراءتها"يعذبه"، وما بين القوسين زيادة يقتضيها سياق الكلام.(6/186)
إن الله جل ثناؤه: أنزل (إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ) [سورة آل عمران: 59] ، الآية.
* * *
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية في أبي ياسر بن أخطب، وأخيه حُييّ بن أخطب، والنفر الذين ناظروا رسول الله صلى الله عليه وسلم في قَدْر مُدة أُكْلِه وأكْل أمته، (1) وأرادوا علم ذلك من قِبَل قوله:"ألم و"ألمص"، و"ألمر" و"ألر"، فقال الله جل ثناؤه فيهم:"فأما الذين في قلوبهم زيغ" - يعني هؤلاء اليهود الذين قُلوبهم مائلة عن الهدى والحق ="فيتبعون ما تَشابه منه" يعني: معاني هذه الحروف المقطّعة المحتملة التصريف في الوجوه المختلفة التأويلات ="ابتغاءَ الفتنة".
وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى قبل، في أول السورة التي تذكر فيها"البقرة". (2)
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله عز وجل بذلك كل مبتدع في دينه بدعة مخالفةً لما ابتعث به رسوله محمدًا صلى الله عليه وسلم، بتأويل يتأوله من بعض آي القرآن المحتملة التأويلات، وإن كان الله قد أحكم بيانَ ذلك، إما في كتابه، وإما على لسان رسوله.
ذكر من قال ذلك:
6603 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فأما الذين في قُلوبهم زَيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة"، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية:"فأما الذين في قلوبهم زيغ" قال: إن لم يكونوا الحرُوريّة والسبائية، (3) فلا أدري من هم! ولعمري لقد كان في أهل بدر
__________
(1) في المطبوعة: "أجله وأجل أمته"، وانظر تفسير"الأكل" فيما سلف ص: 180، تعليق: 1.
(2) انظر الأثر السالف رقم: 246.
(3) "الحرورية"، هم الخوارج، اجتمعوا بحروراء بظاهر الكوفة، فكان هناك أول اجتماعهم بها وتحكيمهم حين خالفوا عليًا، وأما "السبائية"، فهم منسوبون إلى ابن السوداء اليهودي"عبد الله بن سبأ" وهو الذي قال لعلي: "أنت أنت" يعني أن الأمام فيه الجزء الإلهي، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا فنفاه علي إلى المدائن. هذا وقد كتبت في المخطوطة"السبائية"، وفي المطبوعة"السبئية"، وآثرت ما في المخطوطة لأنها هكذا هي في أكثر الكتب.(6/187)
والحديبية الذين شهدوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرّضوان من المهاجرين والأنصار خبرٌ لمن استخبر، وعبرةٌ لمن استعبر، لمن كان يَعْقِل أو يُبصر. (1) إن الخوارج خرجوا وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ كثيرٌ بالمدينة والشأم والعراق، وأزواجه يومئذ أحياء. والله إنْ خَرَج منهم ذكرٌ ولا أنثى حروريًّا قط، ولا رضوا الذي هم عليه، ولا مالأوهم فيه، بل كانوا يحدّثون بعيب رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم ونعتِه الذي نعتهم به، وكانوا يبغضونهم بقلوبهم، ويعادونهم بألسنتهم، وتشتدّ والله عليهم أيديهم إذا لقوهم. ولعمري لو كان أمر الخوارج هُدًى لاجتمع، ولكنه كان ضلالا فتفرّق. وكذلك الأمر إذا كان من عند غير الله وجدت فيه اختلافًا كثيرًا. فقد ألاصوا هذا الأمر منذ زمان طويل. (2) فهل أفلحوا فيه يومًا أو أنجحوا؟ يا سبحان الله؟ كيف لا يعتبر آخر هؤلاء القوم بأوّلهم؟ لو كانوا على هدى، قد أظهره الله وأفلجه ونصره، (3) ولكنهم كانوا على باطل أكذبه الله وأدحضه. فهم كما رأيتهم، كلما خَرج لهم قَرْنٌ أدحض الله حجتهم، وأكذب أحدوثتهم، وأهرَاق دماءهم. إن كتموا كان قَرْحًا في قلوبهم، (4) وغمًّا عليهم. وإن أظهروه أهرَاق الله دماءهم. ذاكم والله دينَ سَوْء فاجتنبوه. والله إنّ اليهودية لبدعة، وإن النصرانية لبدْعة، (5) وإن الحرورية لبدعة، وإن السبائية لبدعة، ما نزل بهن كتابٌ ولا سنَّهنّ نبيّ.
6604 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"، طلب القوم التأويل، فأخطأوا التأويل وأصابوا الفتنة، فاتبعوا ما تشابه منه، فهلكوا من ذلك. لعمري لقد كان في أصحاب بدر والحديبية الذي شهدوا بيعة الرضوان = وذكر نحو حديث عبد الرزاق، عن معمر، عنه.
6605 - حدثني محمد بن خالد بن خداش ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى قوله:"وما يذَّكر إلا أولوا الألباب"، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذرُوهم. (6)
__________
(1) يعني بذلك العبرة التي كانت في بدر، حين أشار على رسول الله أصحابه أن يدع منزله الأول الذي نزله، إلى المنزل الذي أشاروا به عليه - والعبرة التي كانت في الحديبية حين قال بعض أصحاب بيعة الرضوان ما قالوا في كراهة الصلح الذي عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين قريش. وفي ذلك برهان على فساد مقالة الخوارج، ومقالة السبائية.
(2) ألاص الأمر: أداره وحاوله. وألاص فلانًا على هذا الأمر: أداره على الشيء الذي يريده.
(3) في المطبوعة: "أفلحه" بالحاء المهملة، وهو في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءته بالجيم. أفلج الله حجته: أظهرها، وجعل له الفلج، أي الفوز والغلبة.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "وإن كتموا ... "، والسياق يقتضي حذف الواو.
(5) عنى باليهودية والنصرانية، ما ابتدعه اليهود والنصارى من القول في عزير، وأنه ابن الله، وغير ذلك من مذاهبهم - ومن القول في المسيح، وأنه ابن الله، وغير ذلك من مقالاتهم.
(6) الحديث: 6605- هذا الحديث رواه الطبري هنا بأحد عشر إسنادًا، كلها من رواية ابن أبي مليكة، إلا واحدًا، وهو الحديث: 6611. واختلف الرواة عن ابن أبي مليكة، فبعضهم يرويه عنه عن عائشة مباشرة، وبعضهم يرويه عنه عن القاسم عن عائشة. وكل صحيح، كما سيأتي.
وابن أبي مليكة: هو عبد الله بن عبيد الله بن عبد الله بن أبي مليكة، القرشي المكي. وهو تابعي كبير ثقة، سمع عائشة وغيرها من الصحابة. ترجمه البخاري في الصغير، ص: 131، وابن سعد 5: 347-348، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 99-100، والمصعب في نسب قريش، ص: 293.
فقال الترمذي: 4: 80، بعد أن روى الحديث بالوجهين، كما سيأتي-: "هكذا روى غير واحد هذا الحديث عن ابن أبي مليكة عن عائشة، ولم يذكروا فيه: عن القاسم بن محمد. وإنما ذكره يزيد بن إبراهيم: عن القاسم بن محمد، في هذا الحديث. وابن أبي مليكة، هو"عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة. وقد سمع من عائشة أيضًا".
ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بذكر"القاسم" في الإسناد، كما زعم الترمذي. وسيجيء بيان ذلك، إن شاء الله.
وقال الحافظ في الفتح 8: 157: "قد سمع ابن أبي مليكة من عائشة كثيرًا، وكثيرًا ما يدخل بينها وبينه واسطة. وقد اختلف عليه في هذا الحديث..".
والحديث - من هذا الوجه، من رواية ابن علية، عن أيوب -: رواه أحمد في المسند 6: 48 (حلبي) ، عن ابن علية، بهذا الإسناد. وكذلك رواه ابن ماجه: 47، عن محمد بن خالد بن خداش - شيخ الطبري هنا - عن ابن علية، به.
ومحمد بن خالد بن خداش، هذا: مترجم في التهذيب. وقال: "ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أغرب عن أبيه".
ولم يترجمه ابن أبي حاتم، ولم يذكره الخطيب في تاريخ بغداد، مع أنه سكنها، كما في التهذيب.
والحديث ذكره ابن كثير 2: 97، عن رواية المسند. ثم قال: "هكذا وقع هذا الحديث في مسند الإمام أحمد، من رواية ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنها، ليس بينهما أحد". ثم أشار إلى رواية ابن ماجه، وإلى روايات أخر، تذكر فيما سيأتي.
ولكن وقع في ابن كثير"يعقوب" بدل"أيوب"! وهو خطأ ناسخ أو طابع. وثبت في المسند على الصواب"أيوب".(6/188)
6606-حدثنا ابن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أيوب، عن عبد الله بن أبي مليكة، عن عائشة أنها قالت: قرأ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب" إلى"وما يذكر إلا أولوا الألباب"، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه - أو قال: يتجادلون فيه - فهم الذين عنى الله، فاحذرهم = قال مطر، عن أيوب أنه قال: فلا تجالسوهم، فهم الذين عنىَ الله فاحذروهم. (1)
__________
(1) الحديث: 6606- ابن عبد الأعلى: هو محمد بن عبد الأعلى الصنعاني. مضت ترجمته في: 1236.
مطر: هو ابن طهمان - بفتح الطاء المهملة وسكون الهاء - الوراق. وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم من قبل حفظه. مات سنة 125.
والحديث - من هذا الوجه - رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 75 بتحقيقنا، من طريق عاصم بن النضر الأحول، عن المعتمر بن سليمان، بهذا الإسناد.
وقال ابن حبان عقب روايته: "سمع هذا الخبر أيوب عن مطر الوراق وابن أبي مليكة جميعًا".
وهذا خطأ، فاتنا أن ننبه إليه هناك، إذ فهمناه على المعنى الصحيح، لم نتنبه إلى اللفظ! فابن حبان يريد أن يقول: "سمع هذا الخبر أيوب ومطر الوراق، جميعًا عن ابن أبي مليكة".
فإما كان ما ثبت فيه سبق قلم من ابن حبان، وإما كان سهوًا من الناسخين. فما كان ابن حبان ليخفى عليه أن مطرًا الوراق لم يدرك عائشة، وهو قد ذكره في الثقات، ص: 344-345، وذكر أنه يروي عن أنس بن مالك، وأنه مات سنة 125، قيل: 129. ومع ذلك فلم يسلم له هذا، فقد روى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: 78، عن أبي زرعة، قال: "مطر لم يسمع من أنس شيئًا. وهو مرسل".
ولكن يعكر على كلام ابن حبان- إذا قرئ على الوجه الصواب الذي ذكرنا-: أن رواية الطبري هنا صريحة في أن مطرًا سمعه من أيوب بالزيادة التي زادها في لفظ الحديث. ويكون المعتمر بن سليمان سمعه من أيوب مختصرًا، بلفظ"فاحذروهم"، وسمعه من مطر الوراق عن أيوب مطولا، باللفظ الآخر. وهذا هو الصواب إن شاء الله. ومطر وأيوب من طبقة واحدة.(6/190)
6607 - حدثنا ابن بشار قال حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحو معناه. (1)
6608- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (2)
6609 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا الحارث، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب وأخر متشابهات" الآية كلها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، أولئك الذين قال الله، فلا تجالسوهم. (3)
__________
(1) الحديث: 6607- عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي. مضت ترجمته في: 2039. والحديث - من هذا الوجه-: رواه ابن ماجه: 47، عن أحمد بن ثابت الجحدري، ويحيى بن حكيم، كلاهما عن عبد الوهاب، به.
وأشار إليه ابن كثير 2: 97، من رواية ابن ماجه. ثم قال: "ورواه محمد بن يحيى العبدي، في مسنده، عن عبد الوهاب الثقفي، به".
(2) الحديث: 6608- هو الحديث السابق. وهو من رواية معمر عن أيوب. وأشار إليه ابن كثير 2: 97، قال: "وكذا رواه عبد الرزاق، عن معمر، عن أيوب. وكذا رواه غير واحد عن أيوب".
ولم يذكر ابن كثير تخريجًا آخر لرواية معمر هذه. وتفسير عبد الرزاق، مخطوطة دار الكتب المصرية - فيه خرم من أواخر سورة البقرة، إلى أوائل سورة النساء.
(3) الحديث: 6609- الحارث: هو ابن بنهان الجرمي البصري. وهو ضعيف جدًا. قال البخاري في الكبير 1 / 2 / 282: "منكر الحديث". وكذلك قال في الصغير، ص: 185. وفي التهذيب عن الترمذي في العلل الكبير، عن البخاري: "منكر الحديث، لا يبالي ما حدث. وضعفه جدًا". وروى ابن أبي حاتم 1 / 2 / 91-92، عن أحمد بن حنبل، قال: "رجل صالح، ولم يكن يعرف بالحديث، ولا يحفظه، منكر الحديث".
وعلى الرغم من ضعف الحارث هذا، فإن أصل الحديث صحيح، بالأسانيد الأخر: السابقة واللاحقة.(6/191)
6610 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبو أسامة، عن يزيد بن إبراهيم، عن ابن أبي مليكة قال: سمعت القاسم بن محمد يحدث، عن عائشة قالت: تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هُنّ أم الكتاب"، ثم قرأ إلى آخر الآيات، فقال:"إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه، فأولئك الذين سمَّى الله، فاحذروهم. (1)
6611 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم، عن حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة، قالت: نزع رسول الله
__________
(1) الحديث: 6610- ابن وكيع: هو سفيان بن وكيع. وهو ضعيف، كما بينا في: 1692.
أبو أسامة: هو حماد بن أسامة الكوفي الحافظ. مضت ترجمته: 2995.
يزيد بن إبراهيم التستري البصري الحافظ: ثقة ثبت. وثقه أحمد، ووكيع، وأبو حاتم، وغيرهم. وجعله ابن معين أثبت من جرير بن حازم.
وهذا الإسناد أحد الروايات في هذا الحديث، التي فيها زيادة"القاسم بن محمد"، بين ابن أبي مليكة وعائشة. وكل صحيح. فهو من المزيد في متصل الأسانيد: سمعه ابن أبي مليكة من عائشة، وسمعه من القاسم عن عائشة. فحدث به على الوجهين، تارة هكذا، وتارة هكذا.
والحديث - من هذا الوجه-: رواه أبو داود الطيالسي: 1433، عن يزيد بن إبراهيم، بهذا الإسناد، نحوه، مختصرًا قليلا.
ورواه البخاري 8: 157-159 (فتح) . ومسلم 2: 303-304. وأبو داود: 4598- ثلاثتهم عن القعنبي، عن يزيد بن إبراهيم، بهذا الإسناد.
ورواه الترمذي: 4: 80، عن عبد بن حميد، عن أبي الوليد الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم، به، نحوه. وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 72 بتحقيقنا، من طريق عبد الله - وهو ابن المبارك الإمام شيخ الإسلام - عن يزيد بن إبراهيم، به.
ولم ينفرد يزيد بن إبراهيم بزيادة"القاسم" بين ابن أبي مليكة وعائشة، فسيأتي بإسناد آخر: 6615، بزيادة القاسم، وسيأتي أيضًا عقب هذا: 6611 من رواية عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه.(6/192)
صلى الله عليه وسلم:"يتبعُون ما تَشابه منه"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد حذركم الله، فإذا رأيتموهم فاعرفوهم. (1)
6612 - حدثنا علي قال، حدثنا الوليد، عن نافع بن عمر، عن [ابن أبي مليكة، حدثتني] عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رأيتموهم فاحذروهم، ثم نزع:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه"، ولا يعملون بمحكمه. (2)
__________
(1) الحديث: 6611- علي بن سهل الرملي، شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 1384. الوليد بن مسلم الدمشقي، عالم الشام: مضت ترجمته في: 2184.
عبد الرحمن: هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر. مضت ترجمته في: 2836.
وهذا إسناد صحيح. وهو متابعة صحيحة قوية لرواية ابن أبي مليكة عن القاسم بن محمد.
وقد نقله ابن كثير 2: 98. ثم قال: "ورواه ابن مردويه، من طريق أخرى، عن القاسم، عن عائشة، به".
وانظر الحديث الآتي: 6615.
وقوله: "نزع رسول الله" - يقال: انتزع بالآية والشعر: تمثل. ويقال للرجل إذا استنبط معنى آية من كتب الله: "قد انتزع معنى جيدًا" و"نزعه"، أي استخرجه. ولعلها عنت بقولها"نزع" هنا -: استشهد، أو قرأ مستشهدًا. وانظر الحديث التالي لهذا.
(2) الحديث: 6612- نافع بن عمر بن عبد الله بن جميل، الجمحي القرشي المكي: ثقة، قال أحمد بن حنبل: "ثبت ثبت صحيح الحديث". وهو مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 86، وابن سعد 5: 363. ونسب قريش للمصعب: 400. وابن أبي حاتم 4 / 1 / 456، وتذكرة الحفاظ 1: 213.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة هنا: "نافع عن عمر"! بدل"نافع بن عمر". وهو خطأ. تصويبه عن الفتح 8: 157، حيث ذكر فيمن روى هذا الحديث"عن ابن أبي مليكة دون ذكر القاسم" -".... ونافع بن عمر، وابن جريج، وغيرهما". وكذلك صححناه عن ابن كثير، كما سنذكر.
ثم وقع في الأصلين خطأ آخر أشد من ذاك وأشنع! ففيهما: "عن نافع، عن عمر، عن عائشة"!! فحذف"ابن أبي مليكة" من الإسناد. ثم حذف تصريحه بالسماع من عائشة.
فصححنا الإسناد، وأثبتنا ما سقط منه خطأ من الناسخين، وهو ما زدناه بعد كلمة"عن"، بين علامتي الزيادة: [ابن أبي مليكة، حدثتني] .
وهذه الزيادة أخذناها من ابن كثير 2: 98، حيث قال: "ورواه ابن جرير، من حديث روح بن القاسم، ونافع بن عمر الجمحي، كلاهما عن ابن أبي مليكة، عن عائشة. وقال نافع في روايته: عن ابن أبي مليكة، حدثتني عائشة. فذكره".
فهذا هو الصواب، الذي أفادنا ما سقط هنا من الإسناد من الناسخين. والحمد لله.
ثم إن الحديث سيأتي: 6614، من هذا الوجه، على الصواب، من رواية خالد بن نزار، عن نافع - وهو ابن عمر الجمحي-"عن ابن أبي مليكة، عن عائشة".(6/193)
6613- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، أخبرنا عمي قال، أخبرني شبيب بن سعيد، عن روح بن القاسم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن هذه الآية:"فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاءَ الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، فقال: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم. (1)
6614- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة في هذه الآية،"هو الذي أنزل عليك الكتاب"، الآية،"يتبعها"، يتلوها، ثم يقول: فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه فاحذروهم، فهم الذين عنى الله. (2)
__________
(1) الحديث: 6613- أحمد بن عبد الرحمن بن وهب: مضت ترجمته في: 2747. وعمه: هو عبد الله بن وهب.
شبيب بن سعيد التميمي الحبطي البصري: قال ابن المديني: "ثقة، كان يختلف إلى مصر في تجارة، وكتابه كتاب صحيح". وفي مصر سمع منه ابن وهب. مترجم في التهذيب، والكبير 2 / 2 / 234، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 359.
و"الحبطي": بفتح الحاء المهملة والباء الموحدة. نسبة إلى"الحبطات". بطن من تميم.
روح بن القاسم التميمي العنبري البصري: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وقال سفيان بن عيينة: "لم أر أحدًا طلب الحديث وهو مسن أحفظ من روح بن القاسم".
وهذا الإسناد أشار إليه ابن كثير 2: 98، كما نقلنا كلامه عند الإسناد الذي قبله.
(2) الحديث: 6614- خالد بن نزار بن المغيرة الأيلي: ثقة. مترجم في التهذيب فقط. وشيخه نافع: هو ابن عمر الجمحي.
وهذا الحديث تكرار للحديث: 6612، من رواية نافع الجمحي، ومؤيد لما ذكرنا أنه سقط من ذاك الإسناد.
فهؤلاء: أيوب، ونافع بن عمر، وخالد بن نزار رووه عن ابن أبي مليكة، عن عائشة - مباشرة، دون واسطة"القاسم" بينهما، بل صرح نافع بن عمر بسماع ابن أبي مليكة إياه من عائشة، كما مضى في: 6612.
وتابعهم على ذلك أبو عامر الخزاز:
فرواه الترمذي 4: 80، عن محمد بن بشار، عن أبي داود الطيالسي، عن أبي عامر الخزاز، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة - دون ذكر القاسم.
وأبو عامر الخزاز - بمعجمات - هو صالح بن رستم. مضت ترجمته: 5458.
وهذه المتابعة ذكرها ابن كثير 2: 98، والحافظ في الفتح 8: 157. وإسنادها صحيح.
ورواه أيضًا سعيد بن منصور، عن حماد بن يحيى، عن ابن أبي مليكة. عن عائشة، نقله ابن كثير 2: 98. وهو إسناد صحيح.
وتابعهم أيضًا ابن جريج. ذكره الحافظ في الفتح 8: 157، ولكن لم يذكر من خرجه. ولم أجده في مصدر آخر مما بين يدي من المصادر.(6/194)
6615- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية:"هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب" إلى آخر الآية، قال: هم الذين سَمّاهم الله، فإذا أريتموهم فاحذروهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والذي يدل عليه ظاهر هذه الآية، أنها نزلت في الذين جادَلوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم بمتشابه ما أنزل إليه من كتاب الله، إمّا
__________
(1) الحديث: 6615- وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكنه بزيادة"القاسم" بين ابن أبي مليكة وعائشة، كمثل رواية يزيد بن إبراهيم عن ابن أبي مليكة، الماضية: 6610.
وهو يرد ادعاء الترمذي أن يزيد بن إبراهيم انفرد بهذه الزيادة، كما ذكرنا في 6605. فقد تابعه على ذلك حماد بن سلمة، في هذا الإسناد.
وكذلك رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 1432، عن حماد بن سلمة، عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة.
وقد جمع الروايتين: رواية يزيد ورواية حماد - أبو الوليد الطيالسي في روايته عنهما. فرواه ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن أبي الوليد الطيالسي، عن يزيد بن إبراهيم التستري وحماد بن سلمة - معًا - عن ابن أبي مليكة، عن القاسم بن محمد، عن عائشة. نقله ابن كثير 2: 98، عن ابن أبي حاتم، وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 157.
وقد مضت من قبل: 6611 رواية حماد بن سلمة، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة. فدل هذا وذاك على أن حماد بن سلمة رواه عن شيخين عن القاسم: رواه عن عبد الرحمن بن القاسم، وعن ابن أبي مليكة - كلاهما عن القاسم.
وهناك متابعة أخرى عن القاسم، لا نعرف تفصيل إسنادها. إذ قال ابن كثير 2: 98"ورواه ابن مردويه، من طريق أخرى، عن القاسم، عن عائشة، به". فلم يذكر ما هي، ولا ما إسنادها، ولم يشر إليها الحافظ في الفتح.
ولحديث - في أصله - ذكره السيوطي 2: 5، وزاد نسبته إلى البيهقي في الدلائل.(6/195)
في أمر عيسى، وأما في مدة أكله وأكل أمته. (1)
وهو بأن تكون في الذين جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمتشابهه في مدّته ومدّة أُمّته، أشبُه، لأن قوله:"وما يعلَمُ تأويلَه إلا الله"، دالٌّ على أن ذلك إخبار عن المدة التي أرادوا علمها من قِبَل المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله. فأما أمرُ عيسى وأسبابه، فقد أعلم الله ذلك نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمته، وبيّنه لهم. فمعلومٌ أنه لم يعن به إلا ما كان خفيًّا عن الآجال. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. (3)
فقال بعضهم: معنى ذلك: ابتغاء الشرك.
ذكر من قال ذلك:
6616 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ابتغاء الفتنة"، قال: إرادة الشرك.
6617- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (ابتغاء الفتنة) يعني الشرك.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إما مدة أجله وأجل أمته"، والتصحيح من المخطوطة، وقد سلف مثل ذلك التحريف في ص: 180، تعليق: 1، وص: 187، تعليق: 1 وفي الجزء الأول من التفسير ص: 217 تعليق: 4. والأكل" (بضم الألف وسكون الكاف) : الرزق، لأنه يؤكل. ومنه قيل لمدة العمر التي يعيشها المرء في الدنيا"أكل". يقال للميت: "انقطع أكله"، انقضت مدته، وفنى عمره.
(2) في المطبوعة: " ... أنه لم يعن إلا ما كان خفيًا عن الآحاد"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة: "أنه يعره إلا ما كان عليه خفيًا عن الآحاد"، فرجحت أن صواب قراءتها كما أثبتها، "الآجال" جمع أجل، وهو الذي أرادوا معرفته من مدة هذه الأمة. والناسخ هنا كثير السهو والتحريف من عجلته.
(3) انظر تفسير"الابتغاء" فيما سلف 3: 508 / ثم 4: 163. وتفسير"الفتنة" فيما سلف، 2: 443، 444 / ثم 3: 565، 566، 570، 571 / ثم 4: 301.(6/196)
وقال آخرون: معنى ذلك: ابتغاءَ الشّبهات.
ذكر من قال ذلك:
6618 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ابتغاء الفتنة"، قال: الشبهات، بها أهْلِكوا.
6619 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ابتغاء الفتنة"، الشبهات، قال: هلكوا به.
6620 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ابتغاء الفتنة"، قال: الشبهات. قال: والشبهات ما أهلكوا به.
6621 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ابتغاء الفتنة"، أي اللَّبْس. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معناه:"إرادةُ الشبهات واللبس".
* * *
فمعنى الكلام إذًا: فأما الذين في قلوبهم هيلٌ عن الحق وحَيْفٌ عنه، فيتبعون من آي الكتاب ما تَشابهت ألفاظه، واحتمل صَرْف صارفه في وجوه التأويلات (2) - باحتماله المعاني المختلفة - إرادةَ اللبس على نفسه وعلى غيره، احتجاجًا به على باطله الذي مالَ إليه قلبه، دون الحق الذي أبانه الله فأوضحه بالمحكمات من آي كتابه.
* * *
__________
(1) الأثر: 6621 - هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم 6599، بإسناده عن ابن إسحاق.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "واحتمل صرفه في وجوه التأويلات"، وقد قطعت بأن ذلك خطأ من الناسخ، لأن الضمائر السابقة كلها جموع، والتي تليها كلها أفراد، وهو لا يستقيم. فرجحت أن الناسخ قرأ"صرف صرفه" (بغير ألف في: صارفه) كما كانت تكتب قديمًا، فظنها خطأ، فحذف الأولى"صرف" وأبقى الأخرى"صرفه"، فاضطربت الضمائر.(6/197)
قال أبو جعفر: وهذه الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا أنها نزلت فيه من أهل الشرك، فإنه معنىّ بها كل مبتدع في دين الله بدعةً فمال قلبه إليها، تأويلا منه لبعض مُتشابه آي القرآن، ثم حاجّ به وجادل به أهل الحق، وعدل عن الواضح من أدلة آيه المحكمات، إرادةً منه بذلك اللبس على أهل الحق من المؤمنين، وطلبًا لعلم تأويل ما تشابه عليه من ذلك، كائنًا من كان، وأيّ أصناف المبتدعة كان (1) من أهل النصرانية كان أو اليهودية أو المجوسية، أو كان سَبئيًا، (2) أو حروريًّا، أو قدريًّا، أو جهميًّا، كالذي قال صلى الله عليه وسلم:"فإذا رأيتم الذين يجادلون به، فهم الذين عنى الله، فاحذروهم"، وكما:-
6622 - حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس -وذُكر عنده الخوارجُ وما يُلْقَوْنَ عند القرآن، (3) فقال: يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه! وقرأ ابن عباس:"وما يعلم تأويله إلا الله"، الآية.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا القول الذي ذكرنا أنه أولى التأويلين بقوله:"ابتغاء الفتنة"، لأن الذين نزلت فيهم هذه الآية كانوا أهلَ شرك، وإنما أرادوا بطلب تأويل ما طلبوا تأويله، اللبسَ على المسلمين، والاحتجاجَ به عليهم، ليصدّوهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "البدعة"، وصواب قراءتها إن شاء الله"المبتدعة"، كما يدل عليه السياق.
(2) هكذا كتبت هنا"سبئيًا"، وقد أسلفنا أنها كتبت في المواضع الماضية"سبائيًا"، فتركت هذا الرسم كما هو، وهو صواب.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "وما يلقون عند الفرار"، وهو كلام لا معنى له، وإنما أراد أنه ذكر عند ابن عباس ما عليه الخوارج من الخشوع والعبادة والإخبات عند سماع القرآن، وذلك من أمر الخوارج مشهور، وهم الذين جاء في صفتهم: "تحقرون صلاتهم إلى صلاتكم" في الحديث المشهور. ولذلك قطعت بأن قراءة ما في المخطوطة هو ما أثبت. ويؤيد ذلك جواب ابن عباس: "يؤمنون بمحكمه، ويهلكون عند متشابهه" متعجبًا من فعلهم في خشوعهم، وضلالهم في تأويلهم المبتدع الذي استحلوا به دماء المسلمين وأموالهم.(6/198)
عما هم عليه من الحق، فلا معنى لأن يقال:"فعلوا ذلك إرادةَ الشرك"، وهم قد كانوا مشركين.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"التأويل"، الذي عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"وابتغاء تأويله".
فقال بعضهم: معنى ذلك: الأجل الذي أرادت اليهود أن تعرفه من انقضاء مُدّة أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر أمته، من قبل الحروف المقطعة من حساب الجُمَّل،"ألم"، و"ألمص"، و"ألر"، و"ألمر"، وما أشبه ذلك من الآجال.
ذكر من قال ذلك:
6623 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس أما قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله"، يعني تأويله يوم القيامة ="إلا الله".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"عواقبُ القرآن". وقالوا:"إنما أرادوا أن يعلموا متى يجيء ناسخ الأحكام التي كان الله جل ثناؤه شَرَعها لأهل الإسلام قبل مجيئه، فنسخَ ما قد كان شَرَعه قبل ذلك".
ذكر من قال ذلك:
6624 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وابتغاء تأويله"، أرادوا أن يعلموا تأويلَ القرآن - وهو عواقبه - قال(6/199)
الله:"وما يعلم تأويله إلا الله"، وتأويله، عواقبه= متى يأتي الناسخ منه فينسخ المنسوخ؟
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"وابتغاء تأويل ما تَشابه من آي القرآن، يتأوّلونه - إذ كان ذا وجوه وتصاريفَ في التأويلات - على ما في قلوبهم من الزَّيغ، وما ركبوه من الضلالة".
ذكر من قال ذلك:
6625 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وابتغاء تأويله"، وذلك على ما ركبوا من الضلالة في قولهم = (1) "خلقنا"، و"قضينا".
* * *
قال أبو جعفر: والقول الذي قاله ابن عباس: من أنّ:"ابتغاء التأويل" الذي طلبه القوم من المتشابه، هو معرفة انقضاء المدة ووقت قيام الساعة = والذي ذكرنا عن السدي: من أنهم طلبوا وأرادوا معرفة وَقتٍ هو جَاءٍ قبل مجيئه = (2) أولى بالصواب، وإن كان السدّي قد أغفل معنى ذلك من وجهٍ صَرَفه إلى حَصره على أن معناه: أن القوم طلبوا معرفة وقت مجيء الناسخ لما قد أحكِم قبل ذلك.
وإنما قلنا: إن طلب القوم معرفة الوقت الذي هو جاءٍ قبل مجيئه المحجوب علمه عنهم وعن غيرهم، بمتشابه آي القرآن - (3) أولى بتأويل قوله:"وابتغاء تأويله"،
__________
(1) في المطبوعة: "في قوله"، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام 2: 226. وقوله بعد ذلك: "خلقنا، وقضينا"، كلام منقطع، إشارة إلى ما مضى من صدر هذا الأثر الطويل المتتابع، الذي يرويه الطبري مفرقًا عن ابن إسحاق، وذلك مذكور في الأثر رقم: 6543 فيما سلف ص: 153 س: 3، 4. إذ قال: "ويحتجون في قولهم: "إنه ثالث ثلاثة، بقول الله: فعلنا، وأمرنا، وخلقنا، وقضينا. فيقولون: لو كان واحدًا ما قال إلا: فعلت، وقضيت، وأمرت، وخلقت، ولكنه هو وعيسى ومريم".
(2) "جاء" اسم فاعل من الفعل"جاء يجيء فهو جاء". وسياق الجملة: "والقول الذي قاله ابن عباس ... والذي ذكرنا عن السدي ... أولى بالصواب".
(3) قوله: "بمتشابه آي القرآن ... " من صلة قولهم: "إن طلب القوم معرفة الوقت.." جار ومجرور، متعلق بقوله: "طلب".(6/200)
لما قد دللنا عليه قبلُ من إخبار الله جل ثناؤه أن ذلك التأويل لا يعلمه إلا الله. ولا شكّ أن معنى قوله:"قضينا""فعلنا"، قد علم تأويله كثيرٌ من جهلة أهل الشرك، فضلا عن أهل الإيمان وأهل الرسوخ في العلم منهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وما يعلم وقتَ قيام الساعة، وانقضاء مدة أكل محمد وأمته، (1) وما هو كائن، إلا الله، دونَ منْ سواه من البشر الذين أمَّلوا إدراك علم ذلك من قبل الحساب والتنجيم والكهانة. وأما الراسخون في العلم فيقولون:"آمنا به، كل من عند ربنا" - لا يعلمون ذلك، ولكن فَضْل عِلمهم في ذلك على غيرهم، العلمُ بأن الله هو العالم بذلك دونَ منْ سواه من خلقه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، وهل"الراسخون" معطوف على اسم"الله"، بمعنى إيجاب العلم لهم بتأويل المتشابه، أمْ هم مستأنَفٌ ذكرهم، (2) بمعنى الخبر عنهم أنهم يقولون: آمنا بالمتشابه وصدّقنا أنّ علم ذلك لا يعلمه إلا الله؟
فقال بعضهم: معنى ذلك: وما يعلم تأويل ذلك إلا الله وحده منفردًا بعلمه. وأما الراسخون في العلم، فإنهم ابتُدئ الخبر عنهم بأنهم يقولون: آمنا بالمتشابه والمحكم، وأنّ جَميع ذلك من عند الله.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "مدة أجل محمد ... "، والصواب ما في المخطوطة، وانظر التعليق السالف ص: 196 رقم: 1.
(2) في المطبوعة: "أوهم مستأنف ... "، وأثبت ما في المخطوطة.(6/201)
6626 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا خالد بن نزار، عن نافع، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة قوله:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، قالت: كان من رسوخهم في العلم أن آمنوا بمحكمه ومتشابهه، ولم يعلموا تأويله. (1)
6627 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كان ابن عباس يقول: (وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون [في العلم] آمنا به) (2)
6628 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني ابن أبي الزناد قال، قال هشام بن عروة: كان أبي يقول في هذه الآية،"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، أنّ الراسخين في العلم لا يعلمون تأويله، ولكنهم يقولون:"آمنا به كل من عند ربنا".
6629 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله، عن أبي نهيك الأسدي قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، فيقول: إنكم تَصلون هذه الآية، وإنها مقطوعة:"وما يعلم تأويله إلا الله = والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، فانتهى علمهم إلى قولهم الذي قالوا.
__________
(1) الأثر: 6626- انظر الأثر السالف رقم: 6614، والتعليق عليه.
(2) في المطبوعة"يقول الراسخون" بحذف الواو. والصواب إثباتها، لأنه سيأتي في ص: 204 س: 13 أن ابن عباس هكذا كان يقرأها. وأنا أرجح أن الصواب كان في الأصل"كان ابن عباس يقرأ""وما يعلم تأويله.."، ولكن الناسخ مضى على عجلته، فكتب مكان"يقرأ""يقول"، ثم أسقط الواو من"ويقول الراسخون ... ". فلذلك أثبت الواو، وهي الصواب المحض إن شاء الله. ومن أجل ذلك زدت بين القوسين [في العلم] ، لأن هذه قراءة في الآية، لا تفسير من ابن عباس، ولم يرو إسقاط [في العلم] من قراءة أحد من القرأة.(6/202)
6630 - حدثنا المثنى قال، حدثنا ابن دكين قال، حدثنا عمرو بن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: سمعت عمر بن عبد العزيز يقول:"والراسخون في العلم"، انتهى علم الراسخين في العلم بتأويل القرآن إلى أن قالوا،"آمنا به كلٌّ من عند ربنا".
6631 - حدثني يونس قال، أخبرنا أشهب، عن مالك في قوله:"وما يعلم تأويله إلا اللهّ"، قال: ثم ابتدأ فقال:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، وليس يعلمون تأويله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم، وهم مع علمهم بذلك ورسوخهم في العلم يقولون:"آمنا به كلّ من عند ربنا".
ذكر من قال ذلك:
6632 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا ممن يعلم تأويله.
6633 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والراسخون في العلم" يعلمون تأويله، ويقولون:"آمنا به".
6634- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والراسخون في العلم يعلمون تأويله، ويقولون:"آمنا به".
6635 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"والراسخون في العلم" يعلمون تأويله ويقولون:"آمنا به".
6636 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما يعلم تأويله" الذي أراد، ما أراد، (1) "إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربنا"، فكيف يختلف، وهو قولٌ واحدٌ
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة وتفسير ابن كثير 2: 100، أما سيرة ابن هشام 2، 226 ففيها"أي: الذي به أرادوا ما أرادوا" وكأن الصواب ما في التفسير، وقوله: "ما أراد" استفهام. أما قوله: "الذي أراد"، أي الذي أراده الله سبحانه. وما في سيرة ابن هشام صواب أيضًا، والضمير في"أرادوا" يعني به الذين يتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله، فهذا ما أرادوا.(6/203)
من ربّ واحد؟ (1) ثم ردّوا تأويل المتشابه على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد، فاتَّسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضًا، فنفذَت به الحجة، وظهر به العذر، وزاحَ به الباطل، (2) ودُمغ به الكفر. (3)
* * *
قال أبو جعفر: فمن قال القول الأول في ذلك، وقال: إن الراسخين لا يعلمون تأويل ذلك، وإنما أخبر الله عنهم بإيمانهم وتصديقهم بأنه من عند الله، فإنه يرفع"الراسخين في العلم" بالابتداء في قول البصريون، ويجعل خبره:"يقولون آمنا به". وأما في قول بعض الكوفيين، فبالعائد من ذكرهم في"يقولون". وفي قول بعضهم: بجملة الخبر عنهم، وهي:"يقولون".
* * *
ومن قال القول الثاني، وزعم أنّ الراسخين يعلمون تأويله، عطف بـ"الراسخين" على اسم"الله"، فرفعهم بالعطف عليه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب عندنا في ذلك أنهم مرفوعون بجملة خبرهم بعدهم وهو:"يقولون"، لما قد بينا قبل من أنهم لا يعلمون تأويل المتشابه الذي ذكره الله عز وجل في هذه الآية، وهو فيما بلغني مع ذلك في قراءة أبيّ: (وَيَقُولُ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) كما ذكرناه عن ابن عباس أنه كان يقرأه. (4) وفي قراءة عبد الله: (إِنْ تَأْوِيلُهُ إِلا عِنْدَ اللَّهِ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) .
* * *
قال أبو جعفر: وأما معنى"التأويل" في كلام العرب، فإنه التفسير والمرجع والمصير. وقد أنشد بعضُ الرواة بيتَ الأعشى:
__________
(1) من أول قوله: "كل من عند ربنا" إلى قوله: "من رب واحد" زيادة من نص رواية ابن هشام في السيرة 2: 226، ولا شك أن الناسخ قد أسقطها من عجلته وسهوه.
(2) زاح الشيء يزيح زيحًا وزيوحًا، وانزاح هو أيضًا (كلاهما لازم) : ذهب وتباعد وزال.
(3) الأثر 6636- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6625 بإسناده عن ابن إسحاق، وهو في سيرة ابن هشام 2: 226.
(4) انظر التعليق السالف على الأثر: 6627، ص: 202 س: 7، تعليق: 2.(6/204)
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَأَوُّلُ حُبِّهَا ... تَأَوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا (1)
وأصلهُ من:"آل الشيء إلى كذا" - إذا صار إليه ورجع"يَؤُول أوْلا" و"أوَّلته أنا" صيرته إليه. وقد قيل إنّ قوله: (وَأَحْسَنُ تَأْوِيلا) [سورة النساء: 59 \ سورة الإسراء: 35] أي جزاءً. وذلك أن"الجزاء" هو الذي آل إليه أمر القوم وصار إليه.
ويعني بقوله:"تأوّلُ حُبها": تفسير حبها ومرجعه. (2) وإنما يريد بذلك أنّ حبها كان صغيرًا في قلبه، فآلَ من الصّغر إلى العظم، فلم يزل ينبت حتى أصحَب، فصار قديمًا، كالسَّقب الصغير الذي لم يزل يَشبّ حتى أصحَبَ فصار كبيرًا مثل أمه. (3)
__________
(1) ديوانه: 88، مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 86 الصاحبي: 164، اللسان (صحب) (ربع) (أول) (ولى) ، ثم ما سيأتي بعد قليل من ذكر رواية أخرى، لم أجدها في غيره بعد.
أما الرواية الأخرى التي جاءت في اللسان (ربع) ، (ولى) فهي: عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ نَوًى أَجْنَبِيَّةً ... تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا
الربعي: الذي ولد في أول النتاج. والسقاب جمع سقب (بفتح فسكون) : وولد الناقة ساعة تضعها يقال له"سليل" قبل أن يعرف أذكر هو أم أنثى، فإذا علم أنه ذكر فهو"سقب". وأصحب: ذل وانقاد وأطاع. وهذا البيت بهذه الرواية التي ذكرتها هنا، قد فسرها الأزهري وقال: "هكذا سمعت العرب تنشده. وفسروا"توالي ربعى السقاب" أنه من الموالاة: وهو تمييز شيء من شيء. يقال: "والينا الفصلان عن أمهاتها فتوالت"، أي فصلناها عنها عند تمام الحول، وتشتد عليها الموالاة، ويكثر حنينها في إثر أمهاتها، ويتخذ لها خندق تحبس فيه وتسرح الأمهات في وجه من مراتعها. فإذا تباعدت عن أولادها سرحت الأولاد في جهة غير جهة الأمهات، فترعى وحدها، فتستمر على ذلك وتصحب بعد أيام. أخبر الأعشى أن نوى صاحبته اشتدت عليه، فحن إليها حنين ربعى السقاب إذا وولى (فصل) عن أمه. وأخبر أن هذا الفصيل يستمر على الموالاة، وأنه يصحب إصحاب السقب. قال الأزهري: وإنما فسرت هذا البيت، لأن الرواة لما أشكل عليهم معناه، تخبطوا في استخراجه وخلطوا، ولم يعرفوا منه ما يعرفه من شاهد القوم في باديتهم".
أما الرواية الأولى، فقد شرحها أبو جعفر فيما يلي، وأما روايته الثانية، وهي قوله: "توابع حبها"، فإني لم أدر ما معناها، وأخشى أن يكون صوابها: "نزائع حبها". والنزائع جمع نزيعة، يقال: ناقة نازع من نوق نوازع. وناقة نزيعة: وهي التي تحن إلى وطنها. نزع البعير إلى وطنه: حن واشتاق.
(2) في المخطوطة: "وتفسير حبها ... " بزيادة الواو، وهو خطأ. وهذا نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 87، على خطأ فيه، إذ ظن الناشر أن قوله: "تفسيره"، بمعنى الشرح والبيان لهذه الكلمة فوضع بعد نقطتان هكذا: "تفسيره: ومرجعه" وعندئذ فلا معنى للواو في"ومرجعه"، والصواب ما أثبتناه.
(3) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 87.(6/205)
وقد يُنشد هذا البيت:
عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ تَوَابعُ حُبِّهَا ... تَوَالِىَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فَأَصْحَبَا (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ}
قال أبو جعفر: يعني ب"الراسخين في العلم"، العلماء الذين قد أتقنوا علمهم ووَعَوْه فحفظوه حفظًا، لا يدخلهم في معرفتهم وعلمهم بما علموه شَكّ ولا لبس.
* * *
وأصل ذلك من:"رسوخ الشيء في الشيء"، وهو ثبوته وولوجه فيه. يقال منه:"رسخ الإيمان في قلب فلان، فهو يَرْسَخُ رَسْخًا ورُسُوخًا". (2)
* * *
وقد روى في نعتهم خبرٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
6637 - حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا محمد بن عبد الله قال، حدثنا فياض بن محمد الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد بن آدم، عن أبي الدرداء وأبي أمامة قالا سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن الراسخ في العلم؟ قال:"من بَرَّت يمينهُ، وصَدقَ لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه، فذلك الراسخُ في العلم. (3)
* * *
__________
(1) انظر ص 204، تعليق: 4
(2) قوله: "رسخًا"، هذا مصدر لم تذكره كتب اللغة.
(3) الحديث: 6637- فياض بن محمد الرقى: ترجمه البخاري 4 / 1 / 135، وابن أبي حاتم 3 / 2 / 87، فلم يذكرا فيه جرحًا.
عبد الله بن يزيد بن آدم: ترجمه ابن أبي حاتم 2 / 2 / 197، قال: "روى عن أبي الدرداء، وأبي أمامة، وواثلة بن الأسقع: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: كيف تبعث الأنبياء؟ روى عنه فياض بن محمد الرقى ... سألت أبي عنه؟ فقال: لا أعرفه. وهذا حديث باطل".
وترجمه الذهبي في الميزان، والحافظ في اللسان. وذكرا عن أحمد، قال: "أحاديثه موضوعة". وليس في ترجمته كلمة طيبة عنه. وكفى أن يرميه أحمد بالوضع.(6/206)
6638 - حدثني المثنى وأحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا نعيم بن حماد قال، حدثنا فياض الرقي قال، حدثنا عبد الله بن يزيد الأودي = قال: وكان أدرك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم = قال، حدثنا أنس بن مالك وأبو أمامة وأبو الدرداء: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن الراسخين في العلم فقال: من برَّت يمينه، وصدق لسانه، واستقام به قلبه، وعفّ بطنه وفرجه، فذلك الراسخ في العلم. (1)
* * *
وقد قال جماعة من أهل التأويل: إنما سمى الله عز وجل هؤلاء القوم"الراسخين
__________
(1) الحديث: 6638- هو الحديث الماضي بزيادة قليلة، وزيادة"أنس بن مالك".
ولكن في هذا الإسناد"عبد الله بن يزيد الأودي". والراجح أن هذا خطأ من أحد الرواة، أو من الناسخين، وأن صوابه كالإسناد السابق"عبد الله بن يزيد بن آدم". وأما "عبد الله بن يزيد الأودي"، فهو غير هذا يقينًا. وقد مضى في: 5461. وترجمته عند ابن أبي حاتم 2 / 2 / 200: أنه"روى عن سالم بن عبد الله، عن حفصة، في الصلاة الوسطى، روى عنه أبو بشر جعفر بن أبي وحشية". والمباينة بينهما في الطبقة واضحة. ثم الأودي ثقة، والراوي هنا كذاب.
والحديث رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن محمد بن عوف الحمصي، عن نعيم بن حماد، عن فياض الرقى"حدثنا عبد الله بن يزيد"، بهذا الإسناد. ولم يذكر أنه"الأودي". ووقع في ابن كثير"عبيد الله"، بدل"عبد الله"، وهو خطأ.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 324"عن عبد الله بن يزيد بن آدم، قال: حدثني أبو الدرداء، وأبو أمامة، وواثلة بن الأسقع وأنس بن مالك ... ". وقال: "رواه الطبراني، وعبد الله بن يزيد: ضعيف". فزاد في رواية الطبراني صحابيًا رابعًا، هو واثلة بن الأسقع.
وذكره السيوطي 2: 7، عن هؤلاء الصحابة الأربعة، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني. وهو تساهل منه، فليس في رواية الطبري ولا ابن أبي حاتم"واثلة بن الأسقع"، بل هو في رواية الطبراني فقط.
ثم ذكر السيوطي نحو معناه من رواية ابن عساكر: "من طريق عبد الله بن يزيد الأودي، سمعت أنس بن مالك يقول ... ".
فهذا يرجح أن زيادة"الأودي" - خطأ من أحد الرواة، لا من الناسخين.(6/207)
في العلم"، بقولهم:"آمنا به كل من عند ربنا".
ذكر من قال ذلك:
6639 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به، (1) قال:"الراسخون" الذين يقولون:"آمنا به كل من عند ربنا".
6640 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والراسخون في العلم"، هم المؤمنون، فإنهم يقولون:"آمنَّا به"، بناسخه ومنسوخه ="كلٌّ من عند ربنا".
6641 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس قال، عبد الله بن سلام:"الراسخون في العلم) وعلمهم قولهم = قال ابن جريج:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، وهم الذين يقولون = (رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا) ويقولون: (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) الآية.
* * *
وأما تأويل قوله:"يقولون آمنا به"، فإنه يعني أنّ الراسخين في العلم يقولون: صدقنا بما تشابه من آي الكتاب، وأنه حقّ وإن لم نَعلم تأويله، وقد:-
6642 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به"، قال: المحكم والمتشابه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "الراسخون في العلم ... "، بغير واو، وأثبت نص الآية.(6/208)
القول في تأويل قوله: {كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"كل من عند ربنا"، كلّ المحكم من الكتاب والمتشابه منه ="من عند ربنا"، وهو تنزيله ووحيه إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-
6643 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"كل من عند ربنا"، قال: يعني مَا نُسخ منه وما لم يُنسخ.
6644 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم"، قالوا:"كلّ من عند ربنا"، آمنوا بمتشابهه، وعملوا بمحكمه.
6645 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"كل من عند ربنا"، يقولون: المحكم والمتشابه من عند ربنا.
6646 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا"، نؤمن بالمحكم وندين به، ونؤمن بالمتشابه ولا ندين به، وهو من عند الله كله. (1)
6647 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"والراسخون في العلم" يعملون به، يقولون: نعمل بالمحكم ونؤمن به، ونؤمن بالمتشابه ولا نعمل به، وكل من عند ربنا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يؤمن ... ويدين" جميعًا بالياء، والسياق يقتضي أن تكون بالنون.(6/209)
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في حكم"كلّ" إذا أضمر فيها. فقال بعض نحويي البصريين: إنما جاز حذفُ المراد الذي كان معها الذي"الكل" إليه مضاف في هذا الموضع، (1) لأنها اسمٌ، كما قال: (إِنَّا كُلٌّ فِيهَا) [سورة غافر: 48] ، بمعنى: إنا كلنا فيها. قال: ولا يكون"كل" مضمرًا فيها وهي صفة، لا يقال:"مررت بالقوم كل" وإنما يكون فيها مضمرٌ إذا جعلتها اسمًا. لو كان:"إنا كُلا فيها" على الصفة لم يجز، لأن الإضمار فيها ضعيفٌ لا يتمكن في كلّ مكان.
* * *
وكان بعض نحويي الكوفيين يرى الإضمار فيها وهي صفةٌ أو اسم، سواءً. لأنه غير جائز أن يُحذف ما بعدها عنده إلا وهي كافية بنفسها عما كانت تضاف إليه من المضمر، وغير جائز أن تكون كافية منه في حال، ولا تكون كافية في أخرى. وقال: سبيل"الكل" و"البعض" في الدلالة على ما بعدهما بأنفسهما وكفايتهما منه بمعنى واحد في كل حال، صفةً كانت أو اسمًا. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أولى بالقياس، لأنها إذا كانت كافية بنفسها مما حذف منها في حالٍ لدلالتها عليها، فالحكم فيها أنها كلما وجدت دالة على ما بعدها فهي كافية منه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إذا جاز حذف المراد"، وعلق الطابعون السابقون أنها زائدة من قلم الناسخ!! وسبب ذلك سوء كتابة الناسخ، فلم يحسنوا قراءته.
(2) انظر ما سلف عن"كل" 3: 195 / ثم 5: 509.(6/210)
القول في تأويل قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (7) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتذكر ويتّعظ وينزجر عن أن يقول في متشابه آي كتاب الله ما لا علم له به، إلا أولو العقول والنهى، (1) وقد:-
6648 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما يذكر إلا أولوا الألباب"، يقول: وما يذكر في مثل هذا = يعني: في ردّ تأويل المتشابه إلى ما قد عرف من تأويل المحكم، حتى يَتّسقا على معنى واحد ="إلا أولو الألباب". (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ الراسخين في العلم يقولون: آمنا بما تشابه من آي كتاب الله، وأنه والمحكم من آيه من تنزيل ربنا ووحيه. ويقولون أيضًا:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"، يعني أنهم يقولون = رغبةً منهم إلى ربهم في أن يصرف عنهم ما ابتلى به الذين زاغت قلوبهم من اتباع متشابه آي القرآن، ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله الذي لا يعلمه غيرُ الله =: يا ربنا، لا تجعلنا مثل هؤلاء الذين زاغت قلوبهم عن الحق فصدوا عن سبيلك ="لا تزغ قلوبنا"،
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"يذكر" 5: 580 / 6: 5 = وفي تفسير"الألباب": 3: 68 / ثم 4: 162 / ثم 5: 80.
(2) الأثر: 6648- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6636 بإسناده عن ابن إسحاق.(6/211)
لا تملها فتصرفها عن هُدَاك بعد إذ هديتنا له، فوفقتنا للإيمان بمحكم كتابك ومتشابهه ="وهب لنا" يا ربنا ="من لدنك رحمة"، يعني: من عندك رحمة، يعني بذلك: هب لنا من عندك توفيقًا وثباتًا للذي نحن عليه من الإقرار بمحكم كتابك ومتشابهه ="إنك أنتَ الوهاب"، يعني: إنك أنت المعطي عبادك التوفيقَ والسدادَ للثبات على دينك، وتصديق كتابك ورسلك، كما:-
6649 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"، أي: لا تمل قلوبنا وإن ملنا بأحداثنا (1) ="وهب لنا من لدنك رحمة". (2)
* * *
قال أبو جعفر: وفي مدح الله جل ثناؤه هؤلاء القوم بما مدحهم به = من رغبتهم إليه في أن لا يزيغ قلوبهم، وأن يعطيهم رحمةً منه معونة لهم للثبات على ما هُم عليه من حسن البصيرة بالحق الذي هم عليه مقيمون = ما أبان عن خطأ قول الجهَلة من القدَرية: (3) أن إزاغة الله قلب من أزاغ قلبه من عباده عن طاعته وإمالته له عنها، جَوْرٌ. لأن ذلك لو كان كما قالوا، لكان الذين قالوا:"ربنا لا تزغ قلوبنا بعدَ إذ هدَيتنا"، بالذم أولى منهم بالمدح. لأن القول لو كان كما قالوا، لكان القوم إنما سألوا ربَّهم = بمسألتهم إياه أن لا يزيغ قلوبهم (4) = أن لا يظلمهم ولا يجورَ عليهم. وذلك من السائل جهلٌ، لأن الله جل ثناؤه لا يظلم عبادَه ولا يجور عليهم. وقد أعلم عبادَه ذلك ونَفاه عن نفسه بقوله: (وَمَا رَبُّكَ
__________
(1) في المطبوعة: "بأجسادنا"، وهو لا معنى له، وهو تحريف للرواية عن ابن إسحاق. وصوابها من المخطوطة وابن هشام 2: 226. والأحداث جمع حدث: وهو الفعل. يسألون الله أن يثبت قلوبهم بالإيمان، وإن مالت أفعالهم إلى بعض المعصية.
(2) الأثر: 6649- هو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6648.
(3) القدرية: هم نفاة القدر والصفات، ويعني المعتزلة.
(4) في المطبوعة: "مسألتهم" بحذف الباء، والصواب من المخطوطة.(6/212)
بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ) [سورة فصلت: 46] . ولا وجه لمسألته أن يكون بالصفة التي قد أخبرهم أنه بها. وفي فساد ما قالوا من ذلك، الدليلُ الواضح على أن عدلا من الله عز وجل: إزاغةُ من أزاغَ قلبه من عباده عن طاعته، فلذلك استحقّ المدحَ مَنْ رغب إليه في أن لا يزيغه، لتوجيهه الرغبة إلى أهلها، ووضعه مسألته موضعها، مع تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برغبته إلى ربه في ذلك، مع محله منه وكرامته عليه.
6650 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! ثم قرأ:"ربنا لا تُزغ قُلوبنا بعدَ إذ هديتنا"، إلى آخر الآية. (1)
6651 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أسماء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه. (2)
__________
(1) الحديث: 6650- هذا إسناد صحيح.
عبد الحميد بن بهرام: ثقة، مضت ترجمته في: 1605. وشهر بن حوشب: ثقة أيضًا، كما قلنا في: 1489.
وهذا الحديث مختصر. وسيأتي مطولا في: 6652، ونخرجه هناك، إن شاء الله. ويأتي بأطول من هذا ومختصرًا عن ذاك، في: 6658.
(2) الحديث: 6651 - وهذا إسناد صحيح أيضًا. ولكنه هنا من رواية شهر عن أسماء، وهي بنت يزيد بن السكن الأنصارية. والذي قبله من رواية شهر عن أم سلمة أم المؤمنين.
ولم أجده من حديث أسماء إلا في هذه الرواية عند الطبري، وإلا رواية ذكرها ابن كثير، عن ابن مردويه.
قال ابن كثير 2: 102 بعد ذكر رواية أم سلمة الماضية: "ورواه ابن مردويه، من طريق محمد بن بكار، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن، سمعتها تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من دعائه ... " - فذكر نحو الرواية التالية لهذا الحديث.
ثم قال ابن كثير: "وهكذا رواه ابن جرير، من حديث أسد بن موسى، عن عبد الحميد بن بهرام، به، مثله".
ثم قال: "ورواه أيضًا عن المثنى، عن الحجاج بن منهال، عن عبد الحميد بن بهرام، به، مثله".
ومن البين الواضح أن قوله في رواية ابن مردويه"عن أم سلمة، عن أسماء بنت يزيد بن السكن" - خطأ لا شك فيه. والظاهر أنه خطأ من الناسخين، في زيادة حرف"عن". وأن صوابه"عن أم سلمة أسماء ... ".
و"أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية": صحابية معروفة، وهي بنت عم معاذ بن جبل، وكنيتها"أم سلمة". وشهر بن حوشب معروف بالرواية عنها، بل قال ابن السكن: "هو أروى الناس عنها". وكان من مواليها.
ولم نسمع قط أن"أم سلمة أم المؤمين" روت عن أسماء هذه، ولا روت عن غيرها من الصحابة.
وأما إشارة ابن كثير إلى روايتي الطبري من حديث"أسد بن موسى" و"الحجاج بن منهال" - عن عبد الحميد بن بهرام - وهما الروايتان الآتيتان: 6652، 6658 -: فهي مشكلة، إذ توهم أنها مثل رواية ابن مردويه: "عن أم سلمة أسماء بنت يزيد".
ولعل ابن كثير ذهب إلى هذا، ظنًا منه أن هذه الروايات التي في الطبري: 6650، 6652، 6658، التي فيها"عن أم سلمة" مراد بها"أم سلمة أسماء بنت يزيد".
فإن يكن هذا ظنه يكن أخطأ الظن. فإن"أم سلمة" في هذه الروايات الثلاث - هي أم المؤمنين يقينًا، كما سيأتي في تخريج الحديث التالي لهذا: 6652.(6/213)
6652 - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدّث: أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم مُقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك! قالت: قلتُ: يا رسول الله، وإن القلب ليقلَّب؟ قال: نعم، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا وقلبه بين إصبعين من أصابعه، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدَانا، ونسأله أن يهبَ لنا من لدنه رحمةً إنه هو الوهاب. قالت: قلتُ: يا رسول الله، ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال: بلى؛ قولي: اللهم ربّ النبي محمدٍ، اغفر لي ذنبي، وأذهب غَيظَ قلبي، وأجرني من مُضِلات الفتن. (1)
__________
(1) الحديث: 6652- هذه هي الرواية المطولة، التي أشرنا إليها في: 6650، وسيأتي مختصرًا قليلا: 6658، كما قلنا من قبل.
والحديث رواه أحمد مختصرًا - في مسند أم سلمة أم المؤمنين - 6: 294 (حلبي) ، عن وكيع، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: يا مقلب القوب، ثبت قلبي على دينك". وهذا نحو الرواية الماضية: 6650، إلا أن أبا كريب زاد فيه قراءة الآية.
ورواه أحمد أيضًا - في مسندها - 6: 301-302، عن هاشم -وهو ابن القاسم أبو النضر- عن عبد الحميد بن بهرام، بهذا الإسناد، نحوه. إلا أنه قال في آخره: "وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتنا".
ثم رواه مختصرًا، بدون ذكر الآية، ولا قوله"فنسأل الله ربنا" -إلخ، 6: 315 (حلبي) ، عن معاذ بن معاذ، قال: "حدثنا أبو كعب صاحب الحرير، قال: حدثني شهر بن حوشب، قال: قلت لأم سلمة: يا أم المؤمنين، ما كان أكثر دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان عندك؟..".
ثم قال عبد الله بن أحمد - عقبه -: سألت أبي عن أبي كعب؟ فقال: ثقة، واسمه عبد ربه بن عبيد".
وكذلك رواه الترمذي 4: 266، عن أبي موسى الأنصاري، عن معاذ بن معاذ، به. وقال: "هذا حديث حسن".
وأبو كعب صاحب الحرير، عبد ربه بن عبيد الأزدي الجرموزي: وثقه أيضًا يحيى بن سعيد، وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 / 1 / 41-42.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ثلاث مرات، 6: 325، 7: 210، 10: 176، عن رواية المسند، وأشار إلى أن الترمذي روى بعضه، وأعله في موضعين بشهر بن حوشب، "وهو ضعيف وقد وثق". وقال في الأخير: "إسناده حسن".
وذكره السيوطي 2: 8، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، دون فصل بين الروايات.
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: 55، من رواية ابن وهب، عن إبراهيم بن نشيط الوعلاني، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين المكي، عن شهر بن حوشب، عن أم سلمة، بنحوه. وهذا إسناده صحيح أيضًا.
ورواه أبو بكر الآجري، في كتاب الشريعة، ص: 316، من وجهين آخرين، عن أم سلمة.
ووقع في المطبوعة: "ما خلق الله من بشر، من بني آدم"، بالتقديم والتأخير. وأثبتنا ما في المخطوطة، وهو الموافق لسائر الروايات التي فيها هذه الكلمة.(6/214)
6653 - حدثني محمد بن منصور الطوسي قال، حدثنا محمد بن عبد الله الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. فقال له بعض أهله: يُخاف علينا وقد آمنا بك وبما جئت به؟! قال: إن القلب بين إصبعين من أصابع الرحمن تبارك وتعالى، يقول بهما هكذا = وحرّك أبو أحمد إصبعيه = قال أبو جعفر: وإن الطوسي وَسَق بين إصبعيه. (1)
__________
(1) الحديث: 6653- محمد بن منصور بن داود، الطوسي العابد، شيخ الطبري: ثقة، أثنى عليه أحمد، ووثقه النسائي وغيره.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 288-289، من طريق الأعمش، بهذا الإسناد. وصححه على شرط مسلم. ولكن أول إسناده، من الحاكم إلى الأعمش - غير مذكور، لأن في أصول المستدرك خرمًا في هذا الموضع. وأثبت مكانه من تلخيص الذهبي.
وذكره السيوطي 2: 9: وزاد نسبته للطبراني في السنة.
وأشار إليه الترمذي 3: 199، كما سنذكر في الحديث بعده.
وقوله: "يقول بهما" هو الصواب الثابت في المخطوطة. وفي المطبوعة"يقول به".
قوله: "وسق بين إصبعيه"، وسق الشيء: جمعه. يريد: ضم إصبعيه.(6/215)
6654 - حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبو معاوية قال، حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرًا ما يقول:"يا مقلِّب القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قلنا: يا رسول الله، قد آمنا بك، وصدّقنا بما جئت به، فيُخاف علينا؟! قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله، يقلبها تبارك وتعالى. (1)
__________
(1) الحديث: 6654- رواه أحمد في المسند: 12133، (ج 3 ص: 112 حلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش، بهذا الإسناد.
ثم رواه: 13731 (ج 3 ص: 257 حلبي) ، عن عفان، عن عبد الواحد، عن سليمان بن مهران - وهو الأعمش- به.
ورواه الترمذي 3: 199، عن هناد، عن أبي معاوية، به. ثم قال: "هذا حديث حسن صحيح وهكذا روى غير واحد عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس. وروى بعضهم عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وحديث أبي سفيان عن أنس-أصح".
يريد الترمذي تعليل الحديث الذي قبل هذا. وهي علة غير قائمة. وأبو سفيان طلحة بن نافع: تابعي ثقة، سمع من جابر ومن أنس، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وكثيرًا ما يسمع التابعي الحديث الواحد من صحابيين.
ورواه الحاكم 1: 526، مختصرًا، من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، وصححه هو والذهبي.
ورواه ابن ماجه - مطولا - من وجه آخر، فرواه: 3834، من طريق ابن نمير، عن الأعمش، عن يزيد الرقاشي، عن أنس. وقال البوصيري في زوائده: "مدار الحديث على يزيد الرقاشي، وهو ضعيف".
وقد وهم الحافظ الدمياطي - كما ترى- في زعمه أي مداره على يزيد الرقاشي؛ وها هو ذا من رواية الأعمش، عن أبي سفيان، عن أنس، كمثل رواية الرقاشي. فلم ينفرد به.
وقد جمع البخاري الوجهين في الأدب المفرد، ص: 100. فرواه مختصرًا، من طريق أبي الأحوص: "عن الأعمش، عن أبي سفيان ويزيد، عن أنس".
وذكره السيوطي 2: 8، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.(6/216)
6655 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا بشر بن بكر = وحدثني علي بن سهل قال، حدثنا أيوب بن بشر = جميعًا، عن ابن جابر قال: سمعت بُسْر بن عبيد الله قال، سمعت أبا إدريس الخولاني يقول: سمعت النوَّاس بن سمعان الكلابي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما من قلب إلا بين إصبعين من أصابع الرحمن: إن شاء أقامه، وإن شاء أزاغه. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا مقلِّب القلوب ثبِّت قُلوبنا على دينك - والميزان بيَد الرحمن، يرفع أقوامًا ويخفضُ آخرين إلى يوم القيامة. (1)
__________
(1) الحديث: 6655- بشر بن بكر التنيسي: ثقة مأمون. روى عنه الشافعي، والحميدي، وغيرهما. وأخرج له البخاري.
أيوب بن بشر: لم أجد راويًا بهذا الاسم، ولا ما يقاربه في الرسم، إلا رواة باسم"أيوب بن بشير" ليسوا من هذه الطبقة، ولا يكونون في هذا الإسناد. ومن الرواة عن ابن جابر: "أيوب بن سويد الرملي". ومن القريب جدًا أن يروي عنه بلديه"علي بن سهل الرملي". ولكن تصحيف"سويد" إلى"بشر" صعب.
ابن جابر: هو عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، الأزدي الشامي الداراني. وهو ثقة، أخرج له الجماعة. وقال ابن المديني: "يعد في الطبقة الثانية من فقهاء أهل الشأم بعد الصحابة".
بسر بن عبيد الله الحضرمي الشامي: تابعي ثقة. أخرج له الجماعة. وقال أبو مسهر: "هو أحفظ أصحاب أبي إدريس" يعني الخولاني.
و"بسر": بضم الباء الموحدة وسكون السين المهملة. وأبوه"عبيد الله": بالتصغير. ووقع في المطبوعة هنا"بشر". وهو تصحيف. وكذلك وقع في بعض مراجع الحديث التي سنذكر، ووقع في بعضها اسم أبيه"عبد الله". وهو خطأ أيضًا. فيصحح هذا وذاك حيث وقع.
أبو إدريس الخولاني: عائذ الله بن عبد الله. مضت ترجمته في: 4840.
النواس: بفتح النون وتشديد الواو، وهو صحابي معروف. والحديث رواه أحمد في المسند: 17707 (ج 4 ص: 182 حلبي) ، عن الوليد بن مسلم، عن ابن جابر، بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه: 199، من طريق صدقة بن خالد، عن ابن جابر، به. وقال البوصيري في زوائده: "إسناده صحيح".
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: 54، وأبو بكر الآجري، في كتاب الشريعة، ص: 317-318، كلاهما من طريق الوليد بن مسلم، عن ابن جابر.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 289، والبيهقي في الأسماء والصفات، ص: 248- عن الحاكم، من طريق محمد بن شعيب بن شابور، عن ابن جابر. وصححه الحاكم والذهبي على شرط الشيخين.
وهذا الموضع في المستدرك، مخروم في أصله المطبوع عنه، فأثبته الناشر عن مختصر الذهبي. ولكن يستفاد إسناد هذا الطريق من رواية البيهقي عن الحاكم.
ورواه الحاكم أيضًا 4: 321، عن أبي العباس الأصم، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم - شيخ الطبري في الإسناد الأول هنا، بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا 1: 525. عن الأصم، عن بحر بن نصر، عن بشر بن بكر، عن ابن جابر، به.
وقال الحاكم في الموضعين: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم"! ومن عجب أن يوافقه الذهبي على تصحيحه على شرط الشيخين من رواية ابن شابور. وابن شابور، وإن كان ثقة، فإنه لم يخرج له شيء في الصحيحين؛ ثم يوافقه على تصحيحه على شرط مسلم من رواية بشر بن بكر. وبشر بن بكر خرج له البخاري، ولم يخرج له مسلم شيئًا!!
والحديث ذكره السيوطي 2: 9، وزاد نسبته للنسائي. فهو يريد السنن الكبرى، لأنه لم يروه في السنن الصغرى.(6/217)
6656 - حدثني عمر بن عبد الملك الطائي قال، حدثنا محمد بن عبيدة قال، حدثنا الجرّاح بن مليح البهراني، عن الزبيدي، عن جويبر، عن سمرة بن فاتك الأسْدي - وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: الموازين بيد الله، يرفع أقوامًا ويضع أقوامًا، وقلبُ ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن، إذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه. (1)
__________
(1) الحديث: 6656- عمر بن عبد الملك بن حكيم الطائي الحمصي - شيخ الطبري: لم أجد له إلا ترجمة موجزة في التهذيب، فيها: "روى عنه النسائي وقال: صالح".
محمد بن عبيدة: لا أدري من هو؟ ولا وجدت له ترجمة، إلا أن التهذيب ذكره شيخًا لعمر بن عبد الملك الطائي، وذكره باسم: "محمد بن عبيدة، المددي، اليماني". ولم أجد معنى لنسبة"المددي" هذه، بدالين. ومن المحتمل أن تكون محرفة عن"المدري" بالراء، نسبة إلى"مدر" بفتح الميم والدال وآخرها راء، وهي قرية باليمن، على عشرين ميلا من صنعاء، كما في معجم البلدان 7: 416.
الجراح بن مليح البهراني - بفتح الباء الموحدة وسكون الهاء - الحمصي: ثقة، وهو مشهور في أهل الشام. وهو غير"الجراح بن مليح بن عدي" والد"وكيع بن الجراح".
الزبيدي - بضم الزاي: هو محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي، أبو الهذيل الحمصي، قاضيها. وهو ثقة ثبت، قال ابن سعد 7 / 2 / 169: "كان أعلم أهل الشأم بالفتوى والحديث". وكان الأوزاعي"يفضل محمد بن الوليد على جميع من سمع من الزهري".
جويبر: هكذا وقع في الطبري. والراجح الظاهر أنه تحريف من الناسخين، ولا شأن لجويبر - وهو ابن سعيد الأزدي - في هذا الحديث. وجويبر: ضعيف جدًا، كما بينا في: 284. وإنما الحديث معروف عن"جبير بن نفير"، كما سيأتي.
سمرة بن فاتك الأسدي: هكذا ثبت في الطبري"سمرة" بالميم، فتكون مضمومة مع فتح السين المهملة. وهو قول في اسمه.
والصحيح الراجح أن اسمه"سبرة"، بفتح السين المهملة وسكون الباء الموحدة.
وهناك صحابي آخر، اسمه: "سمرة بن فاتك الأسدي". غير هذا. وكذلك فرق البخاري بينهما في التاريخ الكبير: 2 / 2 / 188، في"سبرة" و: 178 في"سمرة". وذكر هذا الحديث في"سبرة" وكذلك فرق بينهما ابن أبي حاتم 1 / 2 / 295، "سبرة" و: 155، "سمرة".
وقد قيل أيضًا في الصحابي الآخر، الذي اسمه"سمرة" -"سبرة". وهو اضطراب من الرواة أو تصحيف. والراجح الذي صححه الحافظ في الإصابة 3: 63-64، 131-132: أنهما اثنان، كما قلنا، وأن راوي هذا الحديث هو"سبرة".
ولم أستجز تغيير ما في نص الطبري إلى الصحيح الراجح: "سبرة" - لوجود القول الآخر. فلعله وقع له في روايته هكذا.
و"سبرة": بسكون الباء الموحدة، كما قلنا. ووقع في ضبطه في ترجمته في الإصابة خطأ شديد، إذ قال الحافظ: "بفتح أوله وكسر ثانيه"؛ ولم يقل أحد ذلك في ضبط اسم"سبرة" مطلقًا، بل هو نفسه ضبط اسم"سبرة"، في غير هذه الترجمة"بسكون الموحدة". وضبط اسم هذا الصحابي بالسكون أيضًا، في المشتبه للذهبي، ص: 255. ولم يذكر اسم آخر بهذا الرسم بكسر الموحدة. وكذلك صنع الحافظ في تبصير المنتبه. فما وقع في الإصابة إنما هو سهو منه - رحمه الله - وسبق قلم.
و"الأسدي" - في هذه الترجمة: "بفتح الهمزة وسكون السين". وهو: الأزدي. هكذا يقال بالسين والزاي. صرح بذلك أبو القاسم في طبقات حمص". قاله الحافظ في الإصابة.
وهذا الحديث رواه البخاري في الكبير، في ترجمة"سبرة بن فاتك". قال: "حدثنا حيوة بن شريح، حدثنا محمد بن حرب، عن الزبيدي، عمن حدثه، عن جبير بن نفير، عن سبرة بن فاتك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: الموازين بيد الله، يرفع قومًا ويضع قومًا، وقلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرب عز وجل، فإذا شاء أقامه، وإذا شاء أزاغه".
فهكذا ثبت براو مبهم بين الزبيدي وجبير بن نفير- عنه البخاري.
وقال الحافظ في الإصابة: "وقد وقع لي في غرائب شعبة، لابن مندة، من طريق جبير بن نفير. عن سبرة بن فاتك، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الميزان بيد الرحمن، يرفع أقوامًا ويضع آخرين - الحديث. وأخرجه من طريق أخرى، فقال: سمرة".
فلم نعرف رواية ابن مندة: أفيها الرجل المبهم عن جبير بن نفير، أم عرف باسمه فيها؟ وأنا أظن أن لو كان فيها اسمه مبهمًا لبين الحافظ ذلك. ومن المحتمل أن يكون هذا المبهم - هو"عبد الرحمن بن جبير بن نفير" فإنه يروي عن أبيه، ويروي عنه الزبيدي.
ومما يرجح -عندي- أن هذا المبهم مذكور باسمه في بعض الروايات: أن الهيثمي ذكر هذا الحديث في مجمع الزوائد 7: 211"عن سمرة بن فاتك الأسدي"، ثم قال: "رواه الطبراني، ورجاله ثقات".
وذكره السيوطي 2: 8، ونسبه للبخاري في تاريخه، وابن جرير، والطبراني. ولم يزد.
في المطبوعة: "إن شاء ... وإن شاء". وأثبت ما في المخطوطة. وهو الموافق لرواية الكبير للبخاري.(6/218)
6657- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن(6/219)
حيوة بن شريح قال، أخبرني أبو هانئ الخولاني: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرّحمن كقلبٍ واحد، يصرّف كيف يشاء. ثم يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهمّ مصرِّف القلوب صرِّف قُلوبَنا إلى طاعتك. (1)
6658 - حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت أم سلمة تحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه أن يقول: اللهم ثبت قلبي على دينك. قالت: قلت: يا رسول الله، وإن القلوب لتقلَّب؟ قال: نعم، ما من خلق الله من بني آدم بشرٌ إلا إنّ قلبه بين إصبعين من أصابع الله، إن شاءَ أقامه، وإن شاء أزاغه، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، ونسأله أن يهب لنا من لدُنه رحمةً إنه هو الوهاب. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 6657 - أبو هانئ الخولاني- بفتح الخاء المعجمة وسكون الواو: هو حميد بن هانئ المصري. وهو ثقة معروف.
أبو عبد الرحمن الحبلي - بضم الحاء المهملة والباء الموحدة: هو عبد الله بن يزيد المعافري- بفتح الميم والعين المهملة - المصري. وهو تابعي ثقة. وهو أحد العشرة من التابعين الذين ابتعثهم عمر بن عبد العزيز ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم. انظر كتاب رياض النفوس لأبي بكر المالكي، ج 1 ص: 64-65، وطبقات علماء إفريقية لأبي العرب، ص: 21.
والحديث رواه أحمد في المسند: 6569، عن أبي عبد الرحمن، وهو المقرئ، عن حيوة بن شريح، بهذا الإسناد.
ورواه مسلم 2: 301، عن زهير بن حرب وابن نمير - كلاهما عن أبي عبد الرحمن المقرئ.
ورواه أبو بكر الآجري في كتاب الشريعة، ص: 316، بإسنادين، والبيهقي في الأسماء والصفات، ص: 248 - كلاهما من طريق المقرئ.
وذكره السيوطي 2: 9، وزاد نسبته للنسائي.
(2) الحديث: 6658- هو مختصر من الحديث: 6652. وقد وفينا تخريجه، وأشرنا إلى هذا هناك.
ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة: "من بني آدم بشر". ولعل الأجود أن يكون"من بشر"، كالروايات الأخر.(6/220)
رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه أنهم يقولون أيضًا = مع قولهم: آمنا بما تشابه من آي كتاب ربّنا، كلّ المحكم والمتشابه الذي فيه من عند ربنا =: يا ربنا،"إنك جامعُ الناس ليوم لا ريب فيه إنّ الله لا يخلف الميعاد".
وهذا من الكلام الذي استُغنى بذكر ما ذكر منه عما ترك ذكره. وذلك أن معنى الكلام: ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة، فاغفر لنا يومئذ واعف عنا، فإنك لا تخلف وَعْدك: أنّ من آمن بك، واتَّبع رَسُولك، وعمل بالذي أمرتَه به في كتابك، أنك غافره يومئذ.
وإنما هذا من القوم مسألة ربَّهم أن يثبِّتهم على ما هم عليه من حُسن بَصيرتهم، (1) بالإيمان بالله ورسوله، وما جاءهم به من تنزيله، حتى يقبضهم على أحسن أعمالهم وإيمانهم، فإنه إذا فعل ذلك بهم، وجبتْ لهم الجنة، لأنه قد وعد من فعل ذلك به من عباده أنه يُدخله الجنة.
فالآية، وإن كانت قد خرجت مخرج الخبر، فإن تأويلَها من القوم: مسألةٌ ودعاءٌ ورغبة إلى ربهم.
* * *
وأما معنى قوله:"ليوم لا ريب فيه"، فإنه: لا شك فيه. وقد بينا ذلك بالأدلة على صحته فيما مضى قبل. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "من حسن نصرتهم"، ولا معنى لها، وفي المخطوطة: "نصرتهم". غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(2) انظر ما سلف 1: 228، 378 / ثم 6: 78.(6/221)
ومعنى قوله:"ليوم"، في يوم. وذلك يومٌ يجمع الله فيه خلقَه لفصل القضاء بينهم في موقف العَرضْ والحساب.
* * *
"والميعاد""المفعال"، من"الوعد".
* * *(6/222)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنّ الذين كفروا"، إن الذين جحدوا الحق الذي قد عرفوه من نبوَّة محمد صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل ومنافقيهم ومنافقي العرب وكفارهم، الذين في قلوبهم زَيغٌ فهم يتَّبعون من كتاب الله المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ="لنْ تُغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا"، يعني بذلك أنّ أموالهم وأولادهم لن تُنجيهم من عقوبة الله إن أحلَّها بهم - عاجلا في الدنيا على تكذيبهم بالحق بعد تبيُّنهم، (1)
واتباعهم المتشابه طلبَ اللبس - فتدفعها عنهم، ولا يغني ذلك عنهم منها شيئًا، وهم في الآخرة ="وقودُ النار"، يعني بذلك: حَطبُها. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بعد تثبيتهم"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة "تثبيتهم" غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها.
(2) انظر تفسير"الوقود" فيما سلف 1: 380.(6/222)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
القول في تأويل قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا عند حلول عقوبتنا بهم، كسُنَّة آل فرعون وعادتهم = (1) ="والذين من قبلهم" من الأمم الذين كذبوا بآياتنا، فأخذناهم بذنوبهم فأهلكناهم حين كذبوا بآياتنا، فلم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا حين جاءهم بأسنا، (2) كالذين عوجلوا بالعقوبة على تكذيبهم ربَّهم من قبل آل فرعون: من قوم نوح وقوم هود وقوم لوط وأمثالهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"كدأب آل فرعون".
فقال بعضهم: معناه: كسُنَّتهم.
ذكر من قال ذلك:
6659 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كدأب آل فرعون"، يقول: كسنتهم.
* * *
وقال بعضهم: معناه: كعملهم.
ذكر من قال ذلك:
6660 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان =
__________
(1) في المخطوطة: "ودعاتهم" غير منقوطة، والصواب ما في المطبوعة، وإنما هو سبق قلم من الناسخ، وهذا اللفظ هو نص أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 87.
(2) في المطبوعة: "فلن تغني عنهم ... "، وهو مخالف للسياق. وفي المخطوطة: "فلن تغن عنهم ... " وهو سهو من الناسخ، والصواب ما أثبت.(6/223)
وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان = جميعًا، عن جويبر، عن الضحاك:"كدأب آل فرعون"، قال: كعمل آل فرعون.
6661 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كعمل آل فرعون.
6662 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كفعلهم، كتكذيبهم حين كذّبوا الرسل = وقرأ قول الله: (مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ) [سورة غافر: 31] ، أن يصيبكم مثل الذي أصابهم عليه من عذاب الله. قال: الدأبُ العمل.
6663 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح، عن أبي حمزة، عن جابر، عن عكرمة ومجاهد في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كفعل آل فرعون، كشأن آل فرعون.
6664 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"كدأب آل فرعون"، قال: كصنع آل فرعون.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كتكذيب آل فرعون.
ذكر من قال ذلك:
6665 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم"، ذكر الذين كفروا وأفعالَ تكذيبهم، كمثل تكذيب الذين من قبلهم في الجحود والتكذيب.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الدأب" من:"دأبت في الأمر دأْبًا"، إذا أدمنت(6/224)
العمل والتعب فيه. ثم إن العرب نقلت معناه إلى: الشأن، والأمر، والعادة، كما قال امرؤ القيس بن حجر:
وَإنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهَرَاقَة ... فَهَلْ عِنْدَ رَسْمٍ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ (1) كَدَأْبِكَ مِنْ أُمِّ الْحُوَيْرِث قَبْلَهَا ... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرَّبَابِ بِمَأْسَلِ
يعني بقوله:"كدأبك"، كشأنك وأمرك وفعلك. يقال منه:"هذا دَأبي ودأبك أبدًا". يعني به. فعلي وفعلك، وأمري وأمرك، وشأني وشأنك، يقال منه:"دَأبْتُ دُؤُوبًا ودأْبًا". وحكى عن العرب سماعًا:"دأبْتُ دأَبًا"، مثقله محركة الهمزة، كما قيل:"هذا شعَرٌ، ونَهَر"، (2) فتحرك ثانيه لأنه حرفٌ من الحروف الستة، (3) فألحق"الدأب" إذ كان ثانية من الحروف الستة، كما قال الشاعر: (4)
لَهُ نَعَلٌ لا تَطَّبِي الكَلْبَ رِيحُهَا ... وَإنْ وُضِعَتْ بَيْنَ الْمَجَالِسِ شُمَّتِ (5)
* * *
وأما قوله:"واللهُ شديدُ العقاب"، فإنه يعنى به: والله شديد عقابه لمن كفر به وكذّب رسله بعد قيام الحجة عليه.
* * *
__________
(1) ديوانه: 125 من معلقته المشهورة، ثم يأتي في التفسير 12: 136 (بولاق) البيت الثاني. وهو شعر مشهور خبره، فاطلبه في موضعه.
(2) في المطبوعة: "بهر" بالباء، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها بالنون.
(3) "الحروف الستة"، يعني حروف الحلق.
(4) هو كثير عزة.
(5) ديوانه 2: 112، الحيوان 1: 266، والبيان 3: 109، 112 واللسان (نعل) . ورواية اللسان"وسط المجالس"، أما رواية الديوان فبخلاف هذا ولا شاهد فيها، كما سترى. والشعر مما قاله كثير حين بلغه وفاة عبد العزيز بن مروان بمصر، فرثاه، فكان مما قال فيه: يَؤُوبُ أُولُو الحَاجَاتِ مِنْهُ إذَا بَدَا ... إلَى طَيِّبِ الأَثْوَابِ غَيْرِ مُؤَمَّتِ
كَأَنَّ اُبْنَ لَيْلَى حِينَ يَبْدُو فَتَنْجَلِي ... سُجُوفُ الخِبَاءِ عَنْ مَهِيبٍ مُشَمَّتِ
مُقَارِبُ خَطْوٍ لا يُغَيِّر نَعْلَهُ ... رَهِيفَ الشِّرَاكِ، سَهْلَةَ المُتَسَمَّتِ
إِذَا طُرِحتْ لَمْ تَطَّبِ الكَلْبَ رِيحُهَا ... وَإِنْ وُضِعتْ في مَجْلِس القَوْم شُمَّتِ
يقول: لا يلبس من النعال إلا المدبوغ الجلد، فذهبت رائحة الجلد منها، لأن النعل إذا كانت من جلد غير مدبوغ، وظفر بها كلب أقبل عليها بريحها فأكلها. يصفه بأنه من أهل النعمة واليسار والترف. ثم زادها صفة أخرى بأن جعلها قد كسبت من طيب رائحته طيبًا، حتى لو وضعت في مجلس قوم، تلفتوا يتشممون شذاها من طيبها. وقوله: "يطبى" من: "اطباه" أي: دعاه إليه.(6/225)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12)
القول في تأويل قوله: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في ذلك.
فقرأه بعضهم: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ) بالتاء، على وجه الخطاب للذين كفروا بأنهم سيغلبون. واحتجوا لاختيارهم قراءة ذلك بالتاء بقوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) . قالوا: ففي ذلك دليل على أن قوله:"ستغلبون"، كذلك، خطابٌ لهم. وذلك هو قراءة عامة قرأة الحجاز والبصرة وبعض الكوفيين. وقد يجوز لمن كانت نيته في هذه الآية: أنّ الموعودين بأن يُغلبوا، هم الذين أُمِر النبي صلى الله عليه وسلم بأن يقول ذلك لهم = أن يقرَأه بالياء والتاء. لأن الخطابَ بالوحي حين نزل، لغيرهم. فيكون نظير قول القائل في الكلام:"قلت للقوم: إنكم مغلوبون"، و"قلت لهم: إنهم مغلوبون". وقد ذكر أن في قراءة عبد الله: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ تَنْتَهُوا يُغْفَرُ لَكُمْ) [سورة الأنفال: 38] ، وهي في قراءتنا: (إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ) .
* * *
وقرأت ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: (سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ) ، على معنى: قل لليهود: سيغلب مشركو العرب ويحشرون إلى جهنم. ومن قرأ ذلك(6/226)
كذلك على هذا التأويل، لم يجز في قراءته غير الياء. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والذي نختار من القراءة في ذلك، قراءةُ من قرأه بالتاء، بمعنى: قل يا محمد للذين كفروا من يهود بني إسرائيل الذين يتبعون ما تشابه من آي الكتاب الذي أنزلته إليك ابتغاءَ الفتنة وابتغاءَ تأويله:"ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد".
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك، على قراءته بالياء، لدلالة قوله: (قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ) ، على أنهم بقوله:"ستغلبون"، مخاطبون خطابهم بقوله:"قد كان لكم"، فكان إلحاق الخطاب بمثله من الخطاب، أولى من الخطاب بخلافه من الخبر عن غائب.
= وأخرى أنّ:-
6666 - أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال، لما أصاب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قريشًا يوم بدْر فقدم المدينة، جمع يهودَ في سوق بني قَينُقاع. فقال: يا معشر يهود، أسلموا قبل أن يصيبكم مثل ما أصاب قريشًا! فقالوا: يا محمد، لا تغرّنك نفسك أنك قتلتَ نفرًا من قريش كانوا أغمارًا لا يعرفون القتال، (2) إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس، وأنك لم تأت مثلنا!! (3) فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم:"قلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد" إلى قوله:"لأولي الأبصار".
__________
(1) انظر هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 191-192.
(2) في سيرة ابن هشام: "لا يغرنك من نفسك". والأغمار جمع غمر (بضم فسكون) : وهو الجاهل الغر الذي لم يجرب الأمور، ولم تحنكه التجارب.
(3) في ابن هشام: "لم تلق مثلنا".(6/227)
6667 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عُمر بن قتادة، قال: لما أصاب الله قريشًا يوم بدر، جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودَ في سوق بني قينقاع حين قدم المدينة = ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن يونس. (1)
6668 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: كان من أمر بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قَينُقاع، ثم قال: يا معشر اليهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النِّقمة، وأسلموا، فإنكم قد عرفتم أني نبيٌّ مُرْسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم! فقالوا: يا محمد، إنك ترى أنا كقومك! (2) لا يغرَّنك أنك لقيت قومًا لا علم لهم بالحرب فأصبتَ فيهم فرصة! إنا والله لئن حاربناك لتعلمنّ أنا نحن الناس. (3)
6669 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما نزلت هؤلاء الآيات إلا فيهم:"قُلْ للذين كفروا ستغلبون وتحشرونَ إلى جهنم وبئس المهاد" إلى"لأولي الأبصار". (4)
6670 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد"، قال فِنْحاص اليهودي في يوم بدر: لا يغرَّنَّ محمدًا أنْ غلب قريشًا وقتلهم! إنّ قريشًا لا تُحسنُ القتال! فنزلت هذه الآية:"قل للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد".
* * *
__________
(1) الأثر: 6666، 6667- في سيرة ابن هشام 2: 201.
(2) في ابن هشام: "أنا قومك" بحذف الكاف، وهي جيدة جدًا، ولكن ما في التفسير موافق لما في التاريخ.
(3) الأثر: 6668- سيرة ابن هشام 3: 50 / تاريخ الطبري 2: 297.
(4) الأثر: 6669 - سيرة ابن هشام 3: 51.(6/228)
قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
قال أبو جعفر: فكل هذه الأخبار تنبئ عن أن المخاطبين بقوله:"ستغلبون وتحشرون إلى جهنم وبئس المهاد"، هم اليهود المقولُ لهم:"قد كان لكم آية في فئتين"، الآية - وتدل على أن قراءَة ذلك بالتاء، أولى من قراءته بالياء.
* * *
ومعنى قوله:"وتحشرون"، وتجمعون، فتجلبون إلى جهنم. (1)
* * *
وأما قوله:"وبئس المهاد"، وبئس الفراش جهنم التي تحشرون إليها. (2) وكان مجاهد يقول كالذي:-
6671 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وبئس المهاد"، قال: بئسما مَهدُوا لأنفسهم.
6672 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قُلْ، يا محمد، للذين كفروا من اليهود الذين بين ظهرانَيْ بلدك:"قد كان لكم آية"، يعني: علامةٌ ودلالةٌ على صدق ما أقول: إنكم ستغلبون، وعبرة، (3) كما:-
6673 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
__________
(1) لم يفسر أبو جعفر"تحشرون" فيما سلف 4: 228، وذلك دليل على ما روى من اختصاره هذا التفسير اختصارًا.
(2) انظر ما سلف 4: 246.
(3) انظر تفسير"الآية" في (أيى) من فهارس اللغة.(6/229)
"قد كان لكم آية"، عبرةٌ وتفكر.
6674 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله = إلا أنه قال: ومُتَفَكَّر.
* * *
="في فئتين"، يعني: في فرقتين وحزبين = و"الفئة" الجماعة من الناس. (1) ="التقتا" للحرب، وإحدى الفئتين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ومن كان معه ممن شهد وقعة بدر، والأخرى مشركو قريش.
="فئة تُقاتل في سبيل الله"، جماعة تقاتل في طاعة الله وعلى دينه، (2) وهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ="وأخرى كافرة"، وهم مشركو قريش، كما:-
6675 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله"، أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ببدر ="وأخرى كافرة"، فئة قريش الكفار. (3)
6676 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس مثله. (4)
6677 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"فئة" 5: 352، 353.
(2) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف 2: 497 / ثم 3: 563، 583 / ثم 4: 318 / ثم 5: 280.
(3) الأثران: 6675، 6676 - سيرة ابن هشام 3: 51 باختلاف في اللفظ، لاختلاف الرواية عنه.
(4) الأثران: 6675، 6676 - سيرة ابن هشام 3: 51 باختلاف في اللفظ، لاختلاف الرواية عنه.(6/230)
جريج، عن عكرمة:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله"، محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ="وأخرى كافرة"، قريش يوم بدر.
6678 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين"، قال: في محمد وأصحابه، ومشركي قريش يوم بدر.
6679 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6680 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله"، قال: ذلك يوم بدر، التقى المسلمون والكفار.
* * *
قال أبو جعفر: ورفعت:"فئةٌ تقاتل في سبيل الله"، وقد قيل قبل ذلك:"في فئتين"، بمعنى: إحداهما تقاتل في سبيل الله - على الابتداء، كما قال الشاعر: (1)
فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ رِجْلٌ صَحِيحَةٌ ... وَرِجْلٌ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ (2)
__________
(1) هو كثير عزة.
(2) ديوانه 1: 46، ومعاني القرآن للفراء 1: 192، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 87، وسيبويه 1: 215، والخزانة 2: 376 وغيرها كثير، وسيأتي في التفسير 30: 58 (بولاق) ، وهو من قصيدته التائية المشهورة، وهذا البيت معطوف على أمنية تمناها في الأبيات السالفة: فَلَيْتَ قَلُوصِي عِنْدَ عَزَّةَ قُيّدَ تْبِحَبْلٍ ... ضَعيفٍ غُرَّ مِنْهَا فَضَلَّتِ
وغُودِرَ فِي الحَيِّ المُقِيمِينَ رَحْلُهَا ... وكَانَ لَهَا باغٍ سِوَايَ فَبَلَّتِ
وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ: رِجْلٌ صَحِيحةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
قال الأعلم: "تمنى أن تشل إحدى رجليه وهو عندها، وتضل ناقته فلا يرحل عنها". وقال آخرون: "تمنى أن تضيع قلوصه فيبقى في حي عزة، فيكون ببقائه في حي عزة كذي رجل صحيحة، ويكون من عدمه لقلوصه كذي رجل عليلة". وقال ابن سيدهْ: "لما خانته عزة العهد فزلت عن عهده، وثبت هو على عهدها، صار كذي رجلين: رجل صحيحة: هو ثباته على عهدها، وأخرى مريضة: وهو زللها عن عهده". وقال آخرون: "معنى البيت: أنه بين خوف ورجاء، وقرب وثناء"، ولي في معنى الأبيات رأي ليس هذا موضع بيانه.(6/231)
وكما قال ابن مفرِّغ: (1)
فَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنِ: رِجْلٌ صَحِيحَةٌ ... وَرِجْلٌ بِهَا رَيْبٌ مِنَ الحَدَثَانِ (2) فَأَمَّا الَّتِي صَحَّتْ فَأَزْدُ شَنُوءَةٍ، ... وَأَمَّا الّتِي شَلَّتْ فَأَزْدُ عُمَانِ
وكذلك تفعل العرب في كل مكرر على نظير له قد تقدمه، إذا كان مع المكرر خبر: تردُّه على إعراب الأوّل مرة، وتستأنفه ثانيةً بالرفع، وتنصبه في التامِّ من الفعل والناقص، وقد جُرّ ذلك كله، فخفض على الردّ على أوّل الكلام، كأنه يعني إذا خفض ذلك: فكنت كذلك رجلين: كذي رجل صحيحة ورجل سقيمة. وكذلك الخفض في قوله:"فئة"، جائز على الردّ على قوله:"في فئتين التقتا"، في فئة تقاتل في سبيل الله.
وهذا وإن كان جائزًا في العربية، فلا أستجيز القراءة به، لإجماع الحجة من القرَأة على خلافه. ولو كان قوله:"فئة"، جاء نصبًا، كان جائزًا أيضًا على قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا"، مُختلفتين. (3)
* * *
__________
(1) لم أعرف نسبة هذا الشعر إلى ابن مفرغ، وهو بلا شك للنجاشي الحارثي، من قصيدته في معاوية وعلي، وأكثرها في الوحشيات لأبي تمام، ووقعة صفين: 601-605.
(2) الوحشيات رقم: 183، وحماسة ابن الشجري: 33، وخزانة الأدب 2: 378، وأزد شنوءة، وأزد عمان، كانا من القبائل التي قاتلت يوم صفين، وكانت أزد شنودة مع أهل الشام، وأزد عمان في أهل العراق. ورواية الشعر: "وكنتم كذي رجلين ... "، والخطاب لبني تميم وغطفان في قوله قبل ذلك: أَيَا رَاكِبًا إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَنْ ... تَمِيمًا، وَهذَا الحَيَّ مِنْ غَطَفَان
بيد أن رواية البيت: فأمَّا التي شَلَّتْ فَأَزدُ شَنُوءةٍ ... وأَمَّا التي صَحَّتْ فَأَزدُ عُمَانِ
لأن النجاشي كان مع علي، وكانت أزد عمان معه. أما أزدشنوءة فكانت مع معاوية.
(3) انظر أكثر هذا وأبسط منه في معاني القرآن للفراء 1: 192-194، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 87، 88.(6/232)
القول في تأويل قوله: {يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك.
فقرأته قرأة أهل المدينة: (تَرَوْنَهُمْ) بالتاء، بمعنى: قد كان لكم أيها اليهود آيةٌ في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله، والأخرى كافرةٌ، ترونَ المشركين مِثْلي المسلمين رأىَ العين. يريد بذلك عِظَتهم، يقول: إن لكم عبرةً، أيها اليهود، فيما رأيتم من قلة عدد المسلمين وكثرة عدد المشركين، وظفر هؤلاء مع قلة عددهم، بهؤلاء مع كثرة عددهم.
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفة والبصرة وبعض المكيين: (يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ) بالياء، بمعنى: يرى المسلمون الذين يقاتلون في سبيل الله، الجماعةَ الكافرةَ مثلي المسلمين في القدْر. فتأويل الآية على قراءتهم: قد كان لكم، يا معشر اليهود، عبرةٌ ومتفكرٌ في فئتين التقتا، فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يرى هؤلاء المسلمون مع قلة عددهم، هؤلاء المشركين في كثرة عددهم.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه تأويل قراءة من قرأ ذلك بالياء؟ وأيّ الفئتين رأت صاحبتها مثليها؟ الفئة المسلمةُ هي التي رأت المشركة مثليها، أم المشركة هي التي رأت المسلمة كذلك، أم غيرهما رأت إحداهما كذلك؟
قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم: الفئةُ التي رأت الأخرى مثلى أنفسها، الفئةُ المسلمة رأت عدَد الفئة المشركة مثلي عدد الفئة المسلمة، قلَّلها الله عز وجل في أعينها حتى رأتها مثلي عدد أنفسها، (1) ثم قللها في حال أخرى فرأتها مثل عَدَد أنفسها.
__________
(1) قوله: "قللها الله عز وجل في أعينها"، وذلك أن المشركين كانوا أكثر منهم أمثالا، فأراهم الله عددهم مثليهم وحسب. وسيأتي بيان ذلك بعد قليل. وانظر التعليق التالي.(6/233)
ذكر من قال ذلك:
6681 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في خبر ذكره، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، قال: هذا يوم بدر. قال عبد الله بن مسعود: قد نظرنا إلى المشركين، فرأيناهم يُضْعِفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلا واحدًا، وذلك قول الله عز وجل: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [سورة الأنفال: 44]
* * *
فمعنى الآية على هذا التأويل: قد كان لكم، يا معشر اليهود، آيةٌ في فئتين التقتا: إحداهما مسلمة والأخرى كافرة، كثيرٌ عدد الكافرة، قليلٌ عدد المسلمة، ترى الفئة القليلُ عددُها، الكثيرَ عددُها أمثالا أنها إنما تكثر من العدد بمثل واحد، (1) فهم يرونهم مثليهم. فيكون أحدُ المثلين عند ذلك، العددُ الذي هو مثل عدد الفئة التي رأتهم، والمثل الآخر الضّعف الزائد على عددهم. فهذا أحد معنيي التقليل الذي أخبر الله عز وجل المؤمنين أنه قلَّلهم في أعينهم.
والمعنى الآخر منه: التقليل الثاني، على ما قاله ابن مسعود: وهو أنْ أراهم عددَ المشركين مثل عددهم، لا يزيدون عليهم. فذلك التقليل الثاني الذي قال الله جل ثناؤه: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا) .
* * *
وقال آخرون من أهل هذه المقالة: إن الذين رأوا المشركين مثليْ أنفسهم، هم
__________
(1) في المطبوعة: ". . . أمثالا لها أنها تكثرها. . ."، والصواب من المخطوطة، وكأن الطابع خفي عليه معنى الحصر في هذا الكلام، فغيره. وانظر التعليق السالف.(6/234)
المسلمون. غير أن المسلمين رَأوهم على ما كانوا به من عددهم لم يقلَّلوا في أعينهم، ولكن الله أيدهم بنصره. قالوا: ولذلك قال الله عز وجل لليهود: قد كان لكم فيهم عبرةٌ، يخوّفهم بذلك أنْ يحل بهم منهم مثل الذي أحَلَّ بأهل بدر على أيديهم.
ذكر من قال ذلك:
6682 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة"، أنزلت في التخفيف يوم بدر، فإن المؤمنين كانوا يومئذ ثلثمئة وثلاثة عشر رجلا (1) وكان المشركون مثليهم، فأنزل الله عز وحل:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، وكان المشركون ستةً وعشرين وستمئة، فأيد الله المؤمنين. فكان هذا الذي في التخفيف على المؤمنين.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الرواية خلافُ ما تظاهرت به الأخبار عن عدة المشركين يوم بدر. وذلك أن الناس إنما اختلفوا في عددهم على وجهين.
فقال بعضهم: كان عددهم ألفًا = وقال بعضهم: ما بين التسعمئة إلى الألف.
ذكر من قال:"كان عددهم ألفًا".
6683 - حدثني هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن حارثة، عن علي قال: سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر، فسبقنا المشركين إليها، فوجدنا فيها رجلين، منهم رجل من قريش ومولى لعقبة بن أبي معيط. فأما القرشيّ فانفلت، وأما مولى
__________
(1) في المطبوعة: "كأن المؤمنين كانوا ... "، وهو فاسد جدًا، لم يحسن الناشر أن يقرأ المخطوطة، فقرأها على وجه لا يصح.(6/235)
عقبة فأخذناه، فجعلنا نقول: كم القوم؟ فيقول: هم والله كثير شديدٌ بأسُهم! فجعل المسلمون إذا قال ذلك ضربوه، (1) حتى انتهوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له: كم القوم؟ فقال: هم والله كثير شديدٌ بأسهم! فجهد النبي صلى الله عليه وسلم على أن يخبره كم هم، فأبى. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأله:"كم يَنحرون من الجزُر؟ قال: عشرة كل يوم. (2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القومُ ألفٌ. (3)
6684 - حدثني أبو سعيد بن يوشع البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: أسرنا رجلا منهم - يعني من المشركين - يوم بدر، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا. (4)
* * *
ذكر من قال:"كان عددهم ما بين التسعمئة إلى الألف":
6685 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم نفرًا من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبرَ له عليه، (5) فأصابوا راويةً من قريش: (6) فيها أسلم، غلام بني الحجاج، وعَريض أبو يسار غلام بني العاص. فأتوا بهما
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "إذا قال ذلك صدقوه"، وهو خطأ بين، والصواب من تاريخ الطبري، وسيأتي مرجعه في آخر الأثر.
(2) في التاريخ: "عشرًا" وهي الأجود. والجزر جمع جزور: وهي الناقة المجزورة أو البعير المجزور، فهو يقع على الذكر والأنثى.
(3) الأثر: 6683- تاريخ الطبري 2: 269.
(4) الأثر: 6684-"أبو سعيد بن يوشع البغدادي"، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب، وانظر رقم: 6690 أيضًا.
(5) في المخطوطة: "يلتمسون له عليه" بينهما بياض، وأتمتها المطبوعة، كنص ابن هشام.
(6) الرواية: هي المزادة فيها الماء، ثم سمي البعير الذي يستسقى عليه الماء"راوية"، وسمي الرجل المستسقى أيضًا"راوية". وجاء في روايته هنا بالإفراد"راوية"، وهي بمعنى الجمع، أي الذين يستقون للقوم، أو الإبل التي يستقى عليها.(6/236)
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهما: كم القوم؟ قالا كثير! قال: ما عدّتهم؟ قالا لا ندري! قال: كم يَنحرون كل يوم؟ قالا يومًا تسعًا، ويومًا عشرًا. قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: القومُ ما بين التسعمئة إلى الألف. (1)
6686 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين"، ذلكم يوم بدر، ألفٌ المشركون أو قاربوا، (2) وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.
6687 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن قتادة في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة" إلى قوله:"رأي العين"، قال: يُضْعفون عليهم، فقتلوا منهم سبعين وأسروا سبعين، يوم بدر.
6688 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة يرونهم مثليهم رأى العين"، قال: كان ذلك يوم بدر، وكان المشركون تسعمئة وخمسين، وكان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وثلاثة عشر.
6689 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلثمئة وبضعة عشر، والمشركون ما بين التسعمئة إلى الألف.
* * *
__________
(1) الأثر: 6685- هو مختصر ما في سيرة ابن هشام 2: 268، 269، وتاريخ الطبري 2: 275.
(2) في المخطوطة: "أللف"، وعلى اللام الأولى شدة، وأظنه كان أراد أن يكتب: "لألف".(6/237)
قال أبو جعفر: فكل هؤلاء الذين ذكرنا مخالفون القولَ الذي رويناه عن ابن عباس في عدد المشركين يوم بدر. فإذْ كان ما قاله من حكينا قوله - ممن ذكر أن عددهم كان زائدًا على التسعمئة -[صحيحًا] ، (1) فالتأويل الأول الذي قلناه على الرواية التي روينا عن ابن مسعود، أولى بتأويل الآية.
* * *
وقال آخرون: كان عددُ المشركين زائدًا على التسعمئة، فرأى المسلمون عدَدَهم على غير ما كانوا به من العدد. وقالوا: أرى اللهُ المسلمين عددَ المشركين قليلا آية للمسلمين. قالوا: وإنما عنى الله عز وجل بقوله:"يرونهم مثليهم"، المخاطبين بقوله:"قد كان لكم آية في فئتين". قالوا: وهم اليهود، غيرَ أنه رجع من المخاطبة إلى الخبر عن الغائب، لأنه أمرٌ من الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك لهم، فحسن أن يخاطب مرة، ويخبرَ عنهم على وجه الخبر مرّة أخرى، كما قال: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) (2) [سورة يونس: 22]
وقالوا: فإن قال لنا قائل: فكيف قيل:"يرونهم مثليهم رأي العين"، وقد علمتم أن المشركين كانوا يومئذ ثلاثة أمثال المسلمين؟
قلنا لهم: كما يقول القائل وعنده عبد:"أحتاج إلى مثله"، فأنت محتاج إليه وإلى مثله، (3) ثم يقول:"أحتاج إلى مثليه"، فيكون ذلك خبرًا عن حاجته إلى مثله، وإلى مثلَيْ ذلك المثل. (4) وكما يقول الرجل:"معي ألفٌ وأحتاج
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فإذا كان ما قاله من حكيناه ممن ذكر أن عددهم كان زائدًا على التسعمئة فالتأويل الأول ... "، وهي عبارة غير مستقيمة، وسهو من الناسخ كثير، فرجحت أن صوابها: "حكينا قوله" في الموضع الأول، وزيادة"صحيحًا" في آخر الجملة كما وضعتها بين القوسين.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 195.
(3) في المطبوعة: "أنا محتاج إليه وإلى مثله"، وهو إفساد. والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء 1: 194.
(4) عبارة الفراء أوضح وهي: "فأنت إلى ثلاثة محتاج".(6/238)
إلى مثليه". فهو محتاج إلى ثلاثة. (1) فلما نوى أن يكون"الألف" داخلا في معنى"المثل" صار"المثل" اثنين، والاثنان ثلاثة. (2) قال: ومثله في الكلام: (3) "أراكم مثلكم"، كأنه قال: أراكم ضعفكم = (4) "وأراكم مثليكم". يعني: أراكم ضعفيكم. قالوا: فهدا على معنى ثلاثة أمثالهم. (5)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنّ الله أرى الفئةَ الكافرةَ عددَ الفئة المسلمة مثلَيْ عددهم.
وهذا أيضًا خلاف ما دلّ عليه ظاهر التنزيل. لأن الله جل ثناؤه قال في كتابه: (وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ) [سورة الأنفال: 44] ، فأخبر أن كلا من الطائفتين قلل عددها في مرأى الأخرى.
* * *
قال أبو جعفر: وقرأ آخرون ذلك: (تُرَوْنَهُمْ) بضم التاء، بمعنى: يريكموهم الله مثليهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات بالصواب، قراءةُ من قرأ:"يرونهم" بالياء، بمعنى: وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم - يعني: مثلي عدد
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وهو محتاج"، والسياق يقتضي الفاء، كما في معاني القرآن للفراء: "فهو يحتاج ... ".
(2) في المطبوعة: "صار المثل أشرف والاثنان ثلاثة"، وهو تصحيف، وفي المخطوطة: "اسرب" غير واضحة بل مضطربة، والصواب من معاني القرآن للفراء.
(3) قوله: "قال" يعني الفراء، فالذي مضى والذي يأتي نص كلامه أو شبيه بنص كلامه أحيانًا، وقلما يصرح أبو جعفر باسم الفراء، كما رأيت في جميع المواضع التي أشرنا إليها مرارًا، أنه نقل عنه نص كلامه.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "كما يقال إن لكم ضعفكم"، وهو كلام بلا معنى، واستظهرت صوابه من نص الفراء في معاني القرآن وهو: "ومثله في الكلام أن تقول: أراكم مثلكم - كأنك قلت: أراكم ضعفكم".
(5) أكثر هذا بنصه من معاني القرآن للفراء 1: 194.(6/239)
المسلمين، لتقليل الله إياهم في أعينهم في حال، فكان حَزْرهم إياهم كذلك، ثم قللهم في أعينهم عن التقليل الأول، فحزروهم مثل عدد المسلمين، (1) ثم تقليلا ثالثًا، فحزروهم أقل من عدد المسلمين، كما:-
6690 - حدثني أبو سعيد البغدادي قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عبد الله قال: لقد قُلِّلوا في أعيننا يوم بدر، حتى قلت لرجل إلى جنبي: تَرَاهم سبعين؟ قال: أراهم مائة. قال: فأسرنا رجلا منهم فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفًا.
* * *
وقد روى عن قتادة أنه كان يقول: لو كانت:"ترونهم"، لكانت"مثليكم".
6691 - حدثني المثنى قال، حدثني عبد الرحمن بن أبي حماد، عن ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة بذلك. (2)
* * *
قال أبو جعفر: ففي الخبرين اللذين روينا عن عبد الله بن مسعود، ما أبان عن اختلاف حَزْر المسلمين يومئذ عددَ المشركين في الأوقات المختلفة، فأخبر الله عز وجل - عما كان من اختلاف أحوال عددهم عند المسلمين - اليهودَ، على
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "مثلى عدد المسلمين" هنا أيضًا، وهو خطأ ظاهر، والسياق الماضي والآتي يدل على خلافه، وهو كما أثبت.
(2) الأثر: 6691-"عبد الرحمن بن أبي حماد" لم أعرف من هو على التحقيق. وقد مر"عبد الرحمن بن أبي حماد الكوفي القارئ" في رقم: 3109، 4077، ولكن لم يرو عنه"المثنى" إلا بالواسطة، وإسناده: "حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق، عن عبد الرحمن بن أبي حماد"، ولا أظنه هو هو. وقد جاء في تاريخ الطبري 1: 171: "حدثني المثنى قال حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد ... "، فأكبر الظن أنهما رجلان.
أما "ابن المبارك" فهو"عبد الله المبارك" فيما رجحت، وقد كان في المطبوعة"عن ابن المعرك"، ولم أجد من يسمى بهذا الاسم، وفي المخطوطة: "عن ابن المسرل" كأنها ميم وسين ثم راء ثم كاف أو لام. فلعلها كانت مكتوبة في الأصل"ابن المبرك" بغير ألف بين الباء والراء، فقرأها الناسخ هكذا. والله أعلم.(6/240)
ما كان به عندهم، (1) مع علم اليهود بمبلغ عدد الفئتين = (2) إعلامًا منه لهم أنه مؤيد المؤمنين بنصره، لئلا يغتروا بعددهم وبأسهم، وليحذروا منه أن يُحلّ بهم من العقوبة على أيدي المؤمنين، مثلَ الذي أحلّ بأهل الشرك به من قريش على أيديهم ببدر. (3)
* * *
وأما قوله:"رأي العين"، فإنه مصدر:"رَأيتهُ" يقال:"رأيته رأيًا ورُؤْية"، و"رأيت في المنام رؤيَا حسنةٌ"، غير مُجْراة. يقال:"هو مني رَأيَ العين، ورِئاءَ العين"، (4) بالنصب والرفع، يراد: حيث يقع عليه بصري، وهو من"الرأي" مثله. و"القوم رئاءٌ"، (5) إذا جلسوا حيث يرى بعضُهم بعضًا.
* * *
فمعنى ذلك: يرونهم - حيث تلحقهم أبصارُهم وتراهم عيونُهم - مثليْهم.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت في المطبوعة، وهي جملة لا تكاد تستقيم، وقوله: "اليهود" مفعول به لقوله: "فأخبر الله عز وجل ... ". وقوله: "على ما كان به عندهم"، مما لم أعرف له وجهًا أرضاه. أما المخطوطة فهكذا نصها: "فأخبر الله عز وجل عما كان من اختلاف أحوال عددهم عرم المسلمين اليهود على ما كان به عندهم"، وهو كلام مضطرب أخشى أن يكون قد سقط منه شيء.
(2) سياق الكلام على ما ترى: "فأخبر الله عز وجل ... اليهود ... إعلامًا منه لهم".
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "ببدرهم"، وهو كلام ليس بعربي، فآثرت حذف الضمير، وجعلتها"ببدر"، إلا أن يكون في الكلام تحريف لم أتبينه. هذا والناسخ كما ترى، في كثير من هذه الصفحات قد عجل فزاد وحرف ونقص. غفر الله له.
(4) في المطبوعة: "ورأي العين"، وفي المخطوطة"ورآا العين"، وصواب قراءتها ما أثبت وإنما حمل الناشر الأول أن يقرأها كذلك، أنه لم يجد نصها في كتب اللغة، ولكن قوله بعد: "وهو من الرأى مثله"، إنما يعني به هذه الكلمة، ثم ما سيأتي في الجملة التالية: "والقوم رثاء"، مما استدل به على ذلك أيضًا. ولكن الناشر الأول، لم يحسن قراءة المخطوطة فتصرف فيه، وأعانه ذلك على التصرف في رسم الذي قبله، كما سنرى في التعليق التالي. وانظر أيضًا مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 88.
(5) في المطبوعة: "والقوم راأوا"، ولا أدري كيف أراد أن يقرأها الناشر الأول، وماذا ظنها!! والصواب ما أثبت، ورسمه في المخطوطة"والقوم رآء" وتحت الراء كسرة، وصواب قراءتها ما أثبت، وانظر التعليق السالف.(6/241)
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأولِي الأبْصَارِ (13) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (1) "والله يؤيد"، يقوّي ="بنصره من يشاء".
* * *
= من قول القائل:"قد أيَّدت فلانًا بكذا"، إذا قوّيته وأعنته،"فأنا أؤيّده تأييدًا". و"فَعَلت" منه:"إدته فأنا أئيده أيدًا"، (2) ومنه قول الله عز وجل: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأيْدِ) [سورة ص: 17] ، يعني: ذا القوة. (3)
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الكلام: قد كان لكم = (4) يا معشر اليهود، في فئتين التقتا، إحداهما تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة، يراهم المسلمون مثليهم رأي أعينهم، فأيدنا المسلمة وهم قليلٌ عددهم، على الكافرة وهم كثير عدَدُهم حتى ظفروا بهم = (5) معتبر ومتفكر، والله يقوّى بنصره من يشاء.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه"، ولكن السياق كما ترى يقتضي ما أثبت.
(2) لم تذكر كتب اللغة هذا الفعل الثلاثي متعديًا، بل قالوا: "آد يئيد أيدًا، إذا اشتد وقوى"؛ فهذه زيادة لم أجدها في غير هذا التفسير الجليل.
(3) انظر تفسير"الأيد" و"أيد" فيما سلف 2: 319، 320 / ثم 5: 379.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "قد كان لكم آية"، وذكر"آية" هنا سبق قلم من الناسخ لسبق الآية على لسانه، فإن اسم"كان" سيأتي بعد قليل وهو: "معتبر ومتفكر"، وهو معنى"آية" هنا، كما سلف في أول تفسير هذه الآية.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "قد كان لكم آية"، وذكر"آية" هنا سبق قلم من الناسخ لسبق الآية على لسانه، فإن اسم"كان" سيأتي بعد قليل وهو: "معتبر ومتفكر"، وهو معنى"آية" هنا، كما سلف في أول تفسير هذه الآية.(6/242)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)
وقال جل ثناؤه"إنّ في ذلك"، يعني: إن فيما فعلنا بهؤلاء الذين وصفنا أمرهم: من تأييدنا الفئة المسلمة مع قلة عددها، على الفئة الكافرة مع كثرة عددها ="لعبرة"، يعني: لمتفكرًا ومتَّعظًا لمن عقل وادّكر فأبصر الحق، كما:-
6692 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إن في ذلك لعبرةً لأولي الأبصار"، يقول: لقد كان لهم في هؤلاء عبرة وتفكر، أيَّدهم الله ونصرهم على عدوّهم.
6693 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: زُيِّن للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عدّ. وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثرُوا الدنيا وحبَّ الرياسة فيها، على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بصدقه.
* * *
وكان الحسن يقول: منْ زَيْنِها، ما أحدٌ أشدّ لها ذمًّا من خالقها. (1)
6694 - حدثني بذلك أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو الأشعث عنه.
__________
(1) في القرطبي 4: 28: "من زينها؟ " استفهام"زينها" فعل. ولم أجد خبر الحسن، ولكني أذكر كأني قرأته قديمًا، وهو يسخر من أمر الدنيا، ويقول: من حسنها، أن الذي يذمها ويقبحها هو الذي خلقها! و"الزين" خلاف الشين، مصدر"زان الشيء يزينه زينًا".(6/243)
6695 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد قال، قال عمر: لما نزل:"زُيِّن للناس حب الشهوات"، قلت: الآن يا رَبِّ حين زيَّنتها لنا! فنزلت: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ) [سورة آل عمران: 15] ، الآية.
* * *
وأما"القناطير" فإنها جمع"القنطار".
واختلف أهل التأويل في مبلغ القنطار.
فقال بعضهم: هو ألف ومئتا أوقية.
ذكر من قال ذلك:
6696 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ بن جبل قال: القنطار: ألف ومئتا أوقية.
6697 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو حصين، عن سالم بن أبي الجعد، عن معاذ مثله.
6698 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا - يعني حفص بن ميسرة - عن أبي مروان، عن أبي طيبة، عن ابن عمر قال: القنطار ألف ومئتا أوقية.
6699 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم بن مالك المزني قال، أخبرني العلاء بن المسيب، عن عاصم بن أبي النجود قال: القنطار ألف ومئتا أوقية.
6700 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن عاصم بن بهدلة، عن أبي صالح، عن أبي هريرة مثله. (1)
__________
(1) الأثر: 6700- ذكره ابن كثير في تفسيره 2: 109، 110، وأشار إلى رواية أحمد: "حدثنا عبد الصمد، حدثنا حماد، عن عاصم، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القنطار اثنا عشر ألف أوقيه، كل أوقية خير مما بين السماء والأرض" وذكر رواية ابن ماجه ووكيع، وصحح أن هذا الأثر موقوف، كما رواه ابن جرير ووكيع.(6/244)
6701 - حدثني زكريا بن يحيى الضرير قال، حدثنا شبابة قال، حدثنا مخلد بن عبد الواحد، عن علي بن زيد، عن عطاء بن أبى ميمونة، عن زِرّ بن حبيش، عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: القنطار ألف أوقية ومئتا أوقية. (1)
* * *
وقال آخرون: القنطار ألف دينار ومئتا دينار.
ذكر من قال ذلك:
6702 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم القنطارُ ألف ومئتا دينار.
__________
(1) الأثر: 6701-"زكريا بن يحيى الضرير" هو: "زكريا بن يحيى بن أيوب، أبو علي الضرير المدائني"، حدث عن زياد البكائي، وشبابة بن سوار، وسليمان بن سفيان الجهني، روى عنه محمد بن علي المعروف بمعدان، ومحمد بن غالب التمتام، ويحيى بن صاعد، والقاضي المحاملي. مترجم في تاريخ بغداد 8: 457. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "زكريا بن يحيى الصديق"، وهو خطأ، والصواب من تفسير ابن كثير 2: 110.
و"شبابة" هو"شبابة بن سوار الفزاري". قال أحمد: "تركته لم أكتب عنه للإرجاء، كان داعية". وقال زكريا الساجي: "صدوق، يدعو إلى الإرجاء. كان أحمد يحمل عليه". وقد وثقه ابن معين وابن سعد على إرجائه. مترجم في التهذيب، و"مخلد بن عبد الواحد" أبو الهذيل البصري روى عن علي ابن زيد بن جدعان، وروى عنه شبابة. قال ابن حبان: "منكر الحديث جدًا". وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث. مترجم في لسان الميزان، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 348. و"علي بن زيد بن جدعان" مضى برقم: 40. و"عطاء بن أبي ميمونة" روى عن أنس وعمران وجابر بن سمرة، وغيرهم. وثقه أبو زرعة والنسائي. وقال أبو حاتم: "لا يحتج بحديثه وكان قدريًا"، وقال ابن عدي: "في أحاديثه بعض ما ينكر عليه".
وقد روى ابن كثير هذا الأثر في تفسيره 2: 110 وقال: "وهذا حديث منكر أيضًا". والأقرب أن يكون موقوفًا على أبي بن كعب، كغيره من الصحابة" - يعني كالأثر السالف الموقوف على أبي هريرة، وما قبله عن معاذ بن جبل وابن عمر.(6/245)
6703 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال: القنطار: ألف ومئتا دينار.
6704 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: القنطار ألف ومئتا دينار، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال.
6705 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول:"القناطير المقنطرة"، يعني: المالَ الكثير من الذهب والفضة، والقنطار ألف ومئتا دينار، ومن الفضة ألف ومئتا مثقال.
* * *
وقال آخرون: القنطار اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار.
ذكر من قال ذلك:
6706 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: القنطار اثنا عشر ألف درهم، أو ألف دينار.
6707 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: القنطار ألف دينار، ومن الوَرِق اثنا عشر ألف درهم. (1)
6708 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أن القنطار اثنا عشر ألفا.
6709 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا عوف، عن الحسن: القنطار اثنا عشر ألفا.
__________
(1) الورق (بفتح الواو وكسر الراء) : الفضة، أو الدراهم من الفضة.(6/246)
6710 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا.................... قال أخبرنا عوف، عن الحسن: اثنا عشر ألفا. (1)
6711 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن بمثله.
6712 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن عوف، عن الحسن قال: القنطار ألفُ دينار، ديةُ أحدكم.
* * *
وقال آخرون: هو ثمانون ألفًا من الدراهم، أو مئة رطل من الذهب.
ذكر من قال ذلك:
6713 - حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا حدثنا يحيى بن سعيد، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: القنطار ثمانون ألفًا.
6714 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن علي بن زيد، عن سعيد بن المسيب قال: القنطار ثمانون ألفًا.
6715 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كنا نُحدَّث أن القنطار مئة رطل من ذهب، أو ثمانون ألفًا من الوَرِق.
6716 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: القنطار مئة رطل من ذهب، أو ثمانون ألف درهم من وَرِق.
6717 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن أبي صالح قال: القنطار مئة رطل.
6718 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) الأثر: 6710- هذا إسناد ناقص بلا ريب، وقد وضعت مكان الخرم هذه النقط، وسبب ذلك أن الناسخ انتهى في آخر الصفحة بقوله: "حدثنا ابن بشار قال، حدثنا" وانتقل إلى الصفحة التالية فبدأها: "قال أخبرنا عوف" فهو سهو منه. وإسناد"محمد بن بشار" إلى"عوف عن الحسن"، مختلف، منه الأسناد رقم: 2570 مثلا: "حدثنا محمد بن بشار، قال حدثنا يحيى، عن سعيد، عن عوف، عن الحسن"، وغيره مما لم أستطع أن أتتبعه الآن.(6/247)
السدي: القنطار يكون مئة رطل، وهو ثمانية آلاف مثقال.
* * *
وقال آخرون: القنطار سبعون ألفًا.
ذكر من قال ذلك:
6719 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"القناطير المقنطرة"، قال: القنطار: سبعون ألف دينار.
6720- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6721 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عمر بن حوشب قال، سمعت عطاء الخراساني قال: سئل ابن عمر عن القنطار فقال: سبعون ألفًا. (1)
* * *
وقال أخرون: هي مِلء مَسْك ثور ذهبًا. (2)
ذكر من قال ذلك:
6722 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا سعيد الجرَيْري، عن أبي نضرة قال: ملءُ مَسك ثور ذهبًا.
6723 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو الأشعث، عن أبي نضرة: ملء مَسك ثور ذهبًا.
* * *
__________
(1) الأثر: 6721-"عمر بن حوشب الصنعاني"، روى إسماعيل بن أمية. وروى عنه عبد الرزاق ذكره ابن حبان في الثقات. قال ابن القطان: "لا يعرف حاله"، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 3 / 1 / 105.
(2) المسك (بفتح الميم وسكون السين) : هو مسلاخ الجلد الذي يكون فيه الثور وغيره.(6/248)
وقال آخرون: هو المال الكثير.
ذكر من قال ذلك:
6724 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال:"القناطير المقنطرة"، المال الكثير، بعضُه على بَعض.
* * *
وقد ذكر بعض أهل العلم بكلام العرب: (1) أن العرب لا تحدّ القنطار بمقدار معلوم من الوزن، ولكنها تقول:"هو قَدْرُ وزنٍ". (2)
قال أبو جعفر: وقد ينبغي أن يكون ذلك كذلك، لأن ذلك لو كان محدودًا قدرُه عندها، لم يكن بين متقدمي أهل التأويل فيه كلّ هذا الاختلاف.
* * *
قال أبو جعفر: فالصواب في ذلك أن يقال: هو المال الكثير، كما قال الربيع بن أنس، ولا يحدُّ قدرُ وزنه بحدٍّ على تَعسُّف. (3) وقد قيل ما قيل مما روينا.
* * *
وأما"المقنطرة"، فهي المضعَّفة، وكأن"القناطير" ثلاثة، و"المقنطرة" تسعة. (4) وهو كما قال الربيع بن أنس: المال الكثيرُ بعضه على بعض، كما:-
6725 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة:"القناطير المقنطرة من الذهب والفضة"، والمقنطرة المال الكثيرُ بعضه على بعض.
__________
(1) يعني أبا عبيدة معمر بن المثنى، كما أشار إليه بذلك مرارًا سلفت، وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 88.
(2) نص أبي عبيدة"هو قدر وزن، لا يحدونه"، بإضافة"قدر" إلى"وزن"، وهو كذلك في المخطوطة، ولكن المطبوعة زادت واوًا فجعلته"قدر ووزن".
(3) في المطبوعة: "على تعنف"، وفي المخطوطة: "على تعنف" غير منقوطة، وأظن صواب قراءتها ما أثبت.
(4) هذا من كلام الفراء في معاني القرآن 1: 195 بتصرف، ونصه"والقناطير ثلاثة، والمقنطرة تسعة، كذلك سمعت".(6/249)
6726 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"القناطير المقنطرة"، يعني المال الكثير من الذهب والفضة.
* * *
وقال آخرون: معنى"المقنطرة": المضروبة دراهم أو دنانير.
ذكر من قال ذلك:
6727 - حدثنا موسى قالى، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"المقنطرة"، فيقول: المضروبة حتى صارت دنانير أو دراهم.
* * *
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"وآتيتم إحداهن قنطارًا" - خبرٌ لو صحّ سندُه، لم نعدُه إلى غيره. وذلك ما:-
6728 - حدثنا به ابن عبد الرحمن البرقي قال، حدثني عمرو بن أبي سلمة قال، حدثنا زهير بن محمد قال، حدثني أبان بن أبي عياش وحميد الطويل، عن أنس بن مالك، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا) [سورة النساء: 20] ، قال: ألفا مئين يعني = ألفين. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 6728- ابن عبد الرحمن البرقي: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة، ولم أعرف من هو. ونقل ابن كثير 2: 110 هذا الحديث من تفسير ابن أبي حاتم: أنبأنا أحمد بن عبد الرحمن الرقي، أنبأنا عمرو بن أبي سلمة ... ". فلم أجد أيضًا"أحمد بن عبد الرحمن الرقي" - ولم يترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل. ويبعد جدًا أن لا يترجم لشيخه.
ولكن من شيوخ الطبري: أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم البرقي الحافظ. روى عنه في: 22 باسم"ابن البرقي". وفي: 160، باسم"أحمد بن عبد الرحيم البرقي". نسب إلى جده. وفي: 5444، باسم"ابن البرقي". وهو في الرواية الأخيرة يروى عن عمرو بن أبي سلمة، كمثل الرواية التي هنا.
فمن المحتمل أن يكون هو الذي هنا، وأن تكون كتابة"ابن عبد الرحمن" بدلا من"ابن عبد الرحيم" خطأ من الناسخين.
ولكن يعكر عليه اتفاق"بن عبد الرحمن" في رواية ابن أبي حاتم وما ثبت هنا. فإنه يبعد جدًا اتفاق الناسخين على خطأ واحد معين، في كتابين مختلفين، لمؤلفين، ليس أحدهما ناقلا عن الآخر.
فلعل"أحمد بن عبد الرحمن الرقي" أو "البرقي" - شيخ آخر روى عنه الطبري وابن أبي حاتم لم تقع إلينا ترجمته.
عمرو بن أبي سلمة: مضت ترجمته في: 5444.
زهير بن محمد التميمي الخراساني المروزي: ثقة، وثقه أحمد وغيره.
أبان بن أبي عياش، واسم أبي عياش"فيروز": تابعي روى عن أنس، ولكنه ضعيف. قال أحمد: "منكر الحديث". وقال ابن معين: "ليس حديثه بشيء". وقال أبو حاتم: "متروك الحديث، وكان رجلا صالحًا، ولكن بلى بسوء الحفظ". وقال البخاري: "كان شعبة سيئ الرأي فيه".
ولكن ضعف أبان لا يؤثر في صحة هذا الحديث، لأن زهير بن محمد سمعه منه، وسمعه أيضًا من"حميد الطويل"، وحميد: ثقة، كما مضت ترجمته في: 3877.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 178، عن أبي العباس الأصم، عن أحمد بن عيسى بن زيد اللخمي، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد: "حدثنا حميد الطويل، ورجل آخر، عن أنس بن مالك، قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: (والقناطير المقنطرة) ؟ قال: القنطار ألفا أوقية". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ووقع في مختصر الذهبي المطبوع مع المستدرك"ألف أوقية" بالإفراد، وهو خطأ مطبعي، وثبت على الصواب في مخطوطة المختصر التي عندي، موافقًا لما في أصل المستدرك.
ونقله ابن كثير 2: 110 - كما قلنا من قبل - عن رواية ابن أبي حاتم، عن أحمد بن عبد الرحمن الرقي، عن عمرو بن أبي سلمة، عن زهير بن محمد: "أنبأنا حميد الطويل، ورجل آخر قد سماه، يعني يزيد الرقاشي، عن أنس". وفيه: "يعني ألف دينار".
فالرجل الآخر المبهم في رواية الحاكم، يحتمل أن يكون أبان بن أبي عياش، كما في رواية الطبري هذه، ويحتمل أن يكون يزيد الرقاشي، كما في رواية ابن أبي حاتم، ويزيد بن أبان الرقاشي: ضعيف أيضًا، كما مضى في شرح: 6654.
وقد ذكر السيوطي رواية الحاكم، في هذا الموضع من تفسير آية آل عمران 2: 10 وذكر رواية الطبري التي هنا، في موضعها من تفسير الآية: 20 من سورة النساء، الدر المنثور 2: 133.
ولفظ الحديث هنا اضطربت فيه النسخ، ففي المطبوعة: "ألفا مئين، يعني ألفين" وذكر مصححها بالهامش أن هذا في بعض النسخ، وأن في بعضها: "ألفًا ومئين". ورواية السيوطي - نقلا عن الطبري: "ألفا ومئتين، يعني ألفين".
والراجح عندي أن هذا كله تحريف، وأن الصحيح اللفظ الذي في رواية الحاكم.(6/250)
القول في تأويل قوله: {وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"المسوَّمة".
فقال بعضهم: هى الراعية.
ذكر من قال ذلك:
6729 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حبيب بن(6/251)
أبي ثابت، عن سعيد بن جبير:"الخيل المسوّمة"، قال: الراعية، التي ترعى.
6730 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، مثله.
6731 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير مثله.
6732 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير: هي الراعية، يعني: السائمة.
6733 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن طلحة القناد قال، سمعت عبد الله بن عبد الرحمن بن أبزى يقول: الراعية.
6734 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"والخيل المسومة". قال: الراعية.
6735 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن،:"والخيل المسومة" المسرَّحة في الرّعي.
6736 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"والخيل المسوّمة، قال: الخيل الراعية.
6737 - حدثت عن عمار قال ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد: أنه كان يقول: الخيل الراعية.
* * *
وقال آخرون:"المسوّمة": الحسان.
ذكر من قال ذلك:
6738 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب قال: قال مجاهد:"المسوّمة"، المطهَّمة.
6739 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن مجاهد في قوله:"والخيل المسومة"، قال: المطهَّمة الحسان.(6/252)
6740- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"والخيل المسوّمة"، قال: المطهمة حسْنًا.
6741- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6742- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن مجاهد: المطهمة.
6743 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، حدثنا سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال: سألت عكرمة عن"الخيل المسوّمة"، قال: تَسويمها، حُسنها. (1)
6744 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن بشير بن أبي عمرو الخولاني قال: سمعت عكرمة يقول:"الخيل المسوّمة"، قال: تسويمها: الحُسن. (2)
6745 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الخيل المسوّمة والأنعام"، الرائعة.
* * *
وقد حدثني بهذا الحديث عن عمرو بن حماد غيرُ موسى، قال: الراعية.
* * *
وقال آخرون:"الخيل المسوّمة"، المعلَمة.
__________
(1) الأثر: 6743-"أبو عبد الرحمن المقرئ" هو: "عبد الله بن يزيد العدوي مولى آل عمر" مترجم في التهذيب. و"بشير بن أبي عمرو الخولاني" مصري، روى عن عكرمة والوليد بن قيس التجيبي، روى عنه سعيد بن أبي أيوب والليث وابن لهيعة. ثقة مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 377. وفي المطبوعة والمخطوطة: "بشر بن أبي عمرو الخولاني" وهو خطأ.
(2) الأثر: 6744- في المخطوطة والمطبوعة: "بشر بن أبي عمرو الخولاني" وهو خطأ. انظر التعليق السالف.(6/253)
ذكر من قال ذلك:
6746 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والخيل المسوّمة"، يعني: المعلَمة.
6747 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والخيل المسوّمة"، وسيماها، شِيَتُها. (1)
6748 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"والخيل المسوّمة"، قال: شِيَة الخيل في وُجوهها.
* * *
وقال غيرهم:"المسوّمة"، المعدّة للجهاد.
ذكر من قال ذلك:
6749 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"والخيل المسومة"، قال: المعدّة للجهاد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"والخيل المسوّمة"، المعلَمة بالشِّيات، الحسان، الرائعة حسنًا من رآها. لأن"التسويم" في كلام العرب: هو الإعلام. فالخيل الحسان مُعلَمةٌ بإعلام الله إياها بالحسن من ألوانها وشِياتها وهيئاتها، وهي"المطهَّمة"، أيضًا. ومن ذلك قول نابغة بني ذبيان في صفة الخيل:
بِضُمْرٍ كَالقِدَاحِ مُسوَّماتٍ ... عَلَيْهَا مَعْشَرٌ أَشْبَاهُ جِنِّ (2)
__________
(1) "الشية": كل ما خالف اللون من جميع جسد الفرس أو غيره، وجمعها"شيات"، وأصلها من"الوشي". وشي الثوب وشيًا وشية: حسنه ونمنمه ونقشه.
(2) ديوانه: 86، من قصيدته حين قتلت بنو عبس نضلة الأسدي، وقتلت بنو أسد منهم رجلين، فأراد عيينة بن حصن عون بني عبس، وأن يخرج بني أسد من حلف بني ذبيان، فقال: إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا ... فإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
ثم أثنى عليهم، وذكر أيامهم، فمما ذكر: وَقَدْ زَحَفُوا لِغَسَّانٍ بزَحْفٍ ... رَحِيبِ السَّرْبِ أَرْعَنَ مُرْجَحِنِّ
بِكُلِّ مُحَرَّبٍ كاللَّيْثِ يَسْمُو ... عَلَى أوْصَالِ ذَيَّالٍ رِفَنِّ
وضُمْرٍ كَالقِدَاحِ. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بسمر"، وليس من صفة الجياد أن يقال"سمر"، بل السمر الرماح، أما الضمر (بضم فسكون) فجمع ضامر، وقياس جمعه ضوامر، إلا أن (فاعل) الصفة منه ما يجمع على (فعل) بضم الفاء والعين، مثل"بازل وبزل، وشارف وشرف"، شبهوه بفعول لمناسبته له في عدد الحروف. ثم يخفف (فعل) عند بني تميم فتسكن عينه. والقداح جمع قدح (بكسر فسكون) : وهو السهم إذا قوم وأنى له أن يراش. تشبه به الخيل الضوامر.(6/254)
يعني ب"المسوّمات"، المعلمات، وقول لبيد:
وَغَدَاةَ قَاعِ القُرْنَتَيْنِ أَتَيْنَهُمْ ... زُجَلا يُلُوحُ خِلالَهَا التَّسْوِيمُ (1)
فمعنى تأويل من تأول ذلك:"المطهمةَ، والمعلمة، والرائعة"، واحدٌ.
* * *
وأما قول من تأوّله بمعنى: الراعية، فإنه ذهب إلى قول القائل:"أسمْتُ الماشية فأنا أُسيمها إسامة"، إذا رعيتها الكلأ والعشب، كما قال الله
__________
(1) ديوان قصيدة: 16، البيت: 41، والبيت من أبيات في القصيدة يذكر فيها عزه وعز قومه، أولها: إنِّي امْرُءٌ مَنَعَتْ أَرُومَةُ عَامِرٍ ... ضَيْمِى، وقد جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ
جَهَدُوا العَدَاوةَ كُلَّها، فأَصَدَّها ... عِّني مَنَاكِبُ عِزُّها مَعْلُومُ
مِنْها: حُوَيٌّ، والذُّهابُ، وقَبْلَهُ ... يَوْمٌ بِبُرْقَةِ رَحْرَحَانَ كَرِيمُ
وغَدَاةَ قَاعِ القُرْنتين. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . .
و"حوى"، و"الذهاب" و"برقة رحرحان" و"قاع القرنتين" كلها مواضع كانت لقومه فيها وقائع، ظفروا فيها. وقوله: "أتينهم" الضمير للخيل عليها أصحابها. والضمير الآخر لأعدائه. والزجل جمع زجلة (بضم فسكون) : الجماعة من الناس والخيل. ورواية ديوانه: "رهوًا"، أي متتابعة. وخلالها: وسطها.(6/255)
عز وجل: (وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ) [سورة النحل: 10] ، بمعنى: ترعَوْن، ومنه قول الأخطل:
مِثْلَ ابْنِ بَزْعَةَ أَوْ كآخَرَ مِثْلِهِ، ... أَوْلَى لَكَ ابْنَ مُسِيمَةِ الأجْمَالِ! (1)
يعني بذلك: راعية الأجمال. فإذا أريد أنّ الماشية هي التي رعت، قيل:"سامت الماشية تسوم سومًا"، ولذلك قيل:"إبل سائمة"، بمعنى: راعية، غير أنه غير مستفيض في كلامهم:"سوَّمتُ الماشيةَ"، بمعنى أرعيتها، وإنما يقال إذا أريد ذلك:"أسمتها".
* * *
__________
(1) ديوانه: 159، والأغاني 8: 319، وطبقات فحول الشعراء: 418، وسيأتي في التفسير 14: 60 (بولاق) ، وهو من قصيدته التي رفع فيها ذكر عكرمة بن ربعي الفياض، كاتب بشر بن مروان. وذلك أن الأخطل أتى حوشب بن رويم الشيباني فقال: إني تحملت حمالتين لأحقن بهما دماء قومي! فنهره. فأتى شداد بن البزيعة، (هو شداد بن المنذر الذهلي، أخو الحضين بن المنذر صاحب راية علي يوم صفين) ، فسأله، فاعتذر إليه شداد. فأتى عكرمة الفياض فأخبره بما قال له الرجلان، فقال: أما إني لا أنهرك ولا أعتذر إليك، ولكني أعطيك إحداهما عينًا، والأخرى عرضًا. فأشاد به الأخطل وهجا الرجلين فقال: وَلَقَدْ مَنَنْتَ عَلَى رَبِيعَةَ كلَّها ... وكَفَيْتَ كُلَّ مُواِكلٍ خَذّالِ
كَزْمِ اليَدَيْنِ عَنِ العَطِيَّةِ مُمْسِكٍ ... لَيْسَتْ تَبِضُّ صَفَاتُهُ ببِلالِ
كابنِ البَزِيَعةِ، أو كآخَرَ مِثْلِه، ... أَوْلَى لك ابْنَ مُسِيَمةِ الأَجْمَالِ!
إِنَّ اللَّئِيمَ إذَا سَأَلْتَ بَهَرْتَهُ ... وترَى الكَرِيمَ يَرَاحُ كالمُخْتَالِ
وفي المخطوطة: "أولى ابن مسيمة ... "، خطأ."وابن البزيعة"، هو"ابن بزعة" في رواية الطبري هنا. والبزيعة (على وزن كريمة) أم شداد بن المنذر. وقد ضبطتها في طبقات فحول الشعراء بالتصغير، اتباعًا لما في تاريخ الطبري مضبوطًا بالقلم. ولكني هنا أستدرك هذا، وأرجح أني كما ضبطته هنا: "البزيعة": الجارية الظريفة المليحة الذكية القلب. وقد ذكر شداد بن بزيعة عند زياد بن أبي سفيان في الشهود وهو (زياد بن سمية، وابن أبيه) فلما قيل: "ابن بزيعة" قال: ما لهذا أب ينسب إليه؟ ألقوا هذا من الشهود". فقيل له: إنه أخو حضين بن المنذر! قال: فانسبوه إلى أبيه. فبلغ ذلك شدادًا فقال: ويل علي ابن الزانية! أو ليست أمه أعرف منه بأبيه؟ والله ما ينسب إلا إلى أمه سمية!! (تاريخ الطبري 6: 151) .(6/256)
فإذْ كان ذلك كذلك، فتوجيه تأويل"المسوّمة" إلى أنها"المعلمة" بما وصفنا من المعاني التي تقدم ذكرها، أصحّ.
* * *
وأما الذي قاله ابن زيد: من أنها المعدّة في سبيل الله، فتأويل من معنى"المسوّمة"، بمعزِلٍ.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالأنْعَامِ وَالْحَرْثِ}
قال أبو جعفر: فـ" الأنعام" جمع"نَعَم"، وهي الأزواج الثمانية التي ذكرها في كتابه: من الضّأن والمعِز والبقر والإبل. (1)
* * *
وأما"الحرث"، فهو الزّرع. (2)
* * *
وتأويل الكلام: زُيِّن للناس حب الشهوات من النساء، ومن البنين، ومن كذا، ومن كذا، ومن الأنعام والحرث.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جَل ثناؤه:"ذلك"، جميعَ ما ذُكر في هذه الآية من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضّة والخيل المسوّمة
__________
(1) في سورة الأنعام: 142-144.
(2) انظر تفسير"الحرث" فيما سلف 4: 240-243، 397.(6/257)
والأنعام والحرث. فكنى بقوله:"ذلك" عن جميعهن. وهذا يدل على أن"ذلك" يشتمل على الأشياء الكثيرة المختلفة المعاني، ويكنى به عن جميع ذلك.
* * *
وأما قوله:"متاع الحياة الدنيا"، فإنه خبر من الله عن أن ذلك كله مما يَستمتع به في الدنيا أهلها أحياءً، فيتبلَّغون به فيها، ويجعلونه وُصْلة في معايشهم، وسببًا لقضاء شهواتهم، التي زُيِّن لهم حبها في عاجل دنياهم، (1) دون أن تكون عدّة لمعادهم، وقُرْبة لهم إلى ربهم، إلا ما أسلِك في سبيله، وأنفق منه فيما أمَر به. (2)
* * *
وأما قوله:"والله عنده حسن المآب"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وعند الله حُسن المآب = يعني: حسن المرْجع، كما:-
6750 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي:"والله عنده حسن المآب"، يقول: حسن المنقلب، وهي الجنة.
* * *
= وهو مصدر على مثال"مَفْعَل" من قول القائل:"آب الرجل إلينا"، إذا رجع،"فهو يؤوب إيابًا وأوبة وأيبةً وَمآبًا"، (3) غير أن موضع الفاء منها مهموز، والعين مبدلة من"الواو" إلى"الألف" بحركتها إلى الفتح. فلما كان حظها الحركة إلى الفتح، (4) وكانت حركتها منقولة إلى الحرف الذي قبلها - وهو فاء الفعل - انقلبت فصارت"ألفا"، كما قيل:"قال" فصارت عين الفعل"ألفًا"، لأن حظها الفتح."والمآب" مثل"المقال" و"المعاد" و"المجال"، (5)
__________
(1) في المخطوطة: "زين لهم حملها ... "، وهو من أوهام صاحبنا الناسخ.
(2) انظر تفسير"المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 / ثم 3: 55 / ثم 5: 260.
(3) "أيبة" بفتح الهمزة وكسرها وسكون الياء، وهي على المعاقبة من الواو.
(4) في المخطوطة: "قلنا كان حظها ... " وهي من لطائف صاحبنا غفر الله له.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "المحال" بالحاء، والصواب ما أثبت.(6/258)
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
كل ذلك"مفعَل" منقولة حركة عينه إلى فائه، فمصيَّرةٌ واوه أو ياؤه"ألفًا" لفتحة ما قبلها.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"والله عنده حسن المآب"، وقد علمتَ ما عنده يومئذ من أليم العذاب وشديد العقاب؟
قيل: إن ذلك معنىّ به خاصٌ من الناس، ومعنى ذلك: (1) والله عنده حسن المآب للذين اتقوا ربهم. وقد أنبأنا عن ذلك في هذه الآية التي تليها.
* * *
فإن قال: وما"حسن المآب"؟ قيل: هو ما وصفه به جل ثناؤه، وهو المرجع إلى جنات تجري من تحتها الأنهار مُخلَّدًا فيها، وإلى أزواج مطهرة ورضوان من الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: قل، يا محمد، للناس الذين زُيِّن لهم حب الشهوات من النساء والبنين، وسائر ما ذكر ربنا جل ثناؤه:"أؤنبئكم"، أأخبركم وأعلمكم (2) ="بخير من ذلكم"، يعني: بخير وأفضل لكم ="من
__________
(1) في المخطوطة كتب"وبين" والواو متصلة بما بعدها، حتى ما تكاد تقرأ، والذي في المطبوعة لا بأس به في قراءة هذه الكلمة.
(2) انظر تفسير"أنبأ" فيما سلف 1: 488، 489.(6/259)
ذلكم"، يعني: مما زُيِّن لكم في الدنيا حبُّ شهوته من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة، وأنواع الأموال التي هي متاع الدنيا.
* * *
ثم اختلف أهل العربية في الموضع الذي تناهى إليه الاستفهام من هذا الكلام.
فقال بعضهم: تناهى ذلك عند قوله:"من ذلكم"، ثم ابتدأ الخبر عما للذين اتقوا عند ربهم، فقيل:"للذين اتقوا عند ربهم جناتٌ تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها"، فلذلك رفع"الجنات".
* * *
ومن قال هذا القول لم يجز في قوله:"جنات تجري من تحتها الأنهار" إلا الرفع، وذلك أنه خبر مبتدأ غيرُ مردود على قوله:"بخير"، فيكون الخفض فيه جائزا. وهو وإن كان خبرًا مبتدأ عندهم، ففيه إبانة عن معنى"الخير" الذي أمر الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وسلم أن يقول: للناس: أؤنبئكم به؟ "والجنات" على هذا القول مرفوعة باللام التي في قوله:"للذين اتقوا عند ربهم".
* * *
وقال آخرون منهم بنحو من هذا القول، إلا أنهم قالوا: إن جعلت اللام التي في قوله:"للذين" من صلة"الإنباء"، جاز في"الجنات" الخفض والرفع: الخفضُ على الرد على"الخير"، والرفع على أن يكون قوله:"للذين اتقوا" خبرَ مبتدأ، على ما قد بيَّناه قبلُ.
* * *
وقال آخرون: بل منتهى الاستفهام قوله:"عند ربهم"، ثم ابتدأ:"جناتٌ تجري من تحتها الأنهار". وقالوا: تأويل الكلام:"قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم"، ثم كأنه قيل:"ماذا لهم". أو:"ما ذاك"؟ (1) فقال: هو"جناتٌ تجري من تحتها الأنهار"، الآية.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة بعد هذا، وقيل قوله: "فقال: هو جنات ... " ما نصه: "أو على أنه يقال: ماذا لهم؟ أو ما ذاك؟ " ومن البين أن هذا تكرار لا معنى له، وأنه من سهو الناسخ الكثير السهو. فمن أجل ذلك طرحته من المتن.(6/260)
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من جعل الاستفهام متناهيًا عند قوله:"بخير من ذلكم"، والخبر بعده مبتدأ عمن له الجنات بقوله:"للذين اتقوا عند ربهم جنات"، فيكون مخرج ذلك مخرج الخبر، وهو إبانة عن معنى"الخير" الذي قال: أؤنبئكم به؟ (1) فلا يكون بالكلام حينئذ حاجة إلى ضمير. قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري: وأما قوله:"خالدين فيها"، فمنصوب على القطع (2)
* * *
ومعنى قوله:"للذين اتقوا"، للذين خافوا الله فأطاعوه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه. (3) ="عند ربهم"، يعني بذلك: لهم جنات تجري من تحتها الأنهار عند ربهم.
* * *
"والجنات"، البساتين، وقد بينا ذلك بالشواهد فيما مضى = وأنّ قوله:"تجري من تحتها الأنهار"، يعني به: من تحت الأشجار، وأن"الخلود" فيها دوام البقاء فيها، وأن"الأزواج المطهرة"، هن نساء الجنة اللواتي طُهِّرن من كل
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "أنبئكم به"، والصواب ما أثبت، وانظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 195-198.
(2) عند هذا انتهى آخر جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه:
"يتلوه: وأما قوله: {خالدين فيها} فمنصوب على القطع.
وصلى الله على سيدنا محمد النبيّ وعلى آله الطاهرين وسَلّم كثيرًا"
ويتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم".
"القطع"، يعني: الحال، كما بينت في 2: 392، والمراجع هناك، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة. ثم انظر ما سيأتي: ص 270، تعليق: 3.
(3) انظر تفسير"اتقى" في فهارس اللغة مادة"وقى".(6/261)
أذًى يكون بنساء أهل الدنيا، من الحيض والمنىّ والبوْل والنفاس وما أشبه ذَلك من الأذى = بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله:"ورِضْوَانٌ من الله"، يعني: ورضى الله، وهو مصدر من قول القائل:"رَضي الله عن فلان فهو يَرْضى عنه رضًى" منقوص"ورِضْوانًا ورُضْوانًا ومَرْضاةً". فأما"الرُّضوان" بضم الراء، فهو لغة قيس، وبه كان عاصم يقرأ.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما ذكر الله جل ثناؤه فيما ذكر للذين اتقوا عنده من الخير = رضْوانَه، لأن رضوانه أعلى منازل كرامة أهل الجنة، كما:-
6751 - حدثنا ابن بشار قال، حدثني أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: إذا دخل أهلُ الجنة الجنة، قال الله تبارك وتعالى: أعطيكم أفضلَ من هذا! فيقولون: أيْ ربنا، أيّ شيء أفضل من هذا؟ قال: رِضْواني. (2)
* * *
وقوله:"والله بصير بالعباد"، يعني بذلك: واللهُ ذو بصر بالذي يتقيه من عباده فيخافه، (3) فيطيعه، ويؤثر ما عنده مما ذكر أنه أعدّه للذين اتقوه على حُبّ ما زُيِّنَ له في عاجل الدنيا من شهوات النساء والبنين وسائر ما عدّد منها تعالى
__________
(1) انظر تفسير"الجنة" فيما سلف 1: 384 / ثم 5: 535، 542 = وتفسير"الخلود" فيما سلف 1: 397، 398 / 2: 286 / 4: 317 / 5: 429 = وتفسير"الأزواج المطهرة" فيما سلف 1: 395-397.
(2) الأثر: 6751- هذا خبر غير مرفوع، ولكن شاهده من المرفوع ما رواه البخاري عن أبي سعيد الخدري قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة! يقولون: لبيك ربنا وسعديك! فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى، وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك! فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك! قالوا: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبدًا".
وقد أشار الحافظ ابن حجر إلى حديث جابر في الفتح 11: 364، وقال: عند البزار وصححه ابن حبان". ولم أجد لفظه.
(3) انظر تفسير"بصير" فيما سلف 2: 140، 376، 506 / ثم 5: 76، 167.(6/262)
ذكره = وبالذي لا يتقيه فيخافه، ولكنه يعصيه ويطيع الشيطان ويؤثر ما زيِّن له في الدنيا من حب شهوة النساء والبنين والأموال، على ما عنده من النعيم المقيم = عالمٌ تعالى ذكره بكلّ فريق منهم، حتى يجازي كلَّهم عند معادهم إليه جزاءَهم، المحسنَ بإحسانه، والمسيءَ بإساءته.
* * *(6/263)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16)
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) }
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك. قل هل أنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا، [الذين] يقولون:"ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار".
* * *
وقد يحتمل"الذين يقولون"، وجهين من الإعراب: الخفض على الردّ على"الذين" الأولى، والرفع على الابتداء، إذ كان في مبتدأ آية أخرى غير التي فيها"الذين" الأولى، فيكون رفعها نظير قول الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) [سورة التوبة: 111] ، ثم قال في مبتدأ الآية التي بعدها: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ) [سورة التوبة: 112] . ولو كان جاء ذلك مخفوضًا كان جائزًا. (1)
* * *
ومعنى قوله:"الذين يقولون ربنا إننا آمنا فاغفر لنا ذنوبنا": الذين يقولون: إننا صدّقنا بك وبنبيك وما جاء به من عندك ="فاغفر لنا ذنوبنا"، يقول: فاستر علينا ذنوبنا، بعفوك عنها، وتركك عقوبتنا عليها ="وقنا عذاب النار"،
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 198.(6/263)
الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
ادفع عنا عذابك إيانا بالنار أن تعذبنا بها. وإنما معنى ذلك: لا تعذبنا يا ربنا بالنار.
وإنما خصّوا المسألةَ بأن يقيهم عذاب النار، لأن من زُحزح يومئذ عن النار فقد فاز بالنجاة من عذاب الله وحسن مآبه.
* * *
وأصل قوله:"قنا" من قول القائل:"وقى الله فلانًا كذا"، يراد: دفع عنه،"فهو يقيه". فإذا سأل بذلك سائلٌ قال:"قِنِى كذا". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"الصابرين"، الذين صبروا في البأساء والضراء وحين البأس.
ويعني بـ"الصادقين"، الذين صدقوا الله في قولهم بتحقيقهم الإقرارَ به وبرسوله وما جاء به من عنده، بالعمل بما أمره به والانتهاء عما نهاه عنه.
ويعني بـ"القانتين"، المطيعين له.
* * *
وقد أتينا على الإبانة عن كل هذه الحروف ومعانيها بالشواهد على صحة ما قلنا فيها، وبالأخبار عمن قال فيها قولا فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
وقد كان قتادة يقول في ذلك بما:-
6752 - حدثنا به بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) انظر تفسير"قنا" و"وقى" فيما سلف 4: 206.
(2) انظر تفسير"الصابرين" فيما سلف 2: 11 / ثم 3: 214، 349 = وتفسير"الصادقين" فيما سلف 3: 356 = وتفسير"القانتين" فيما سلف 2: 538، 539 / ثم 5: 228-237.(6/264)
قوله:"الصابرين والصادقين والقانتين والمنفقين"،"الصادقين": قوم صدَقت أفواههم واستقامت قُلوبهم وألسنتهم، وصَدقوا في السرّ والعلانية ="والصابرين"، قوم صبروا على طاعة الله، وصَبروا عن محارمه ="والقانتون"، هم المطيعون لله.
* * *
وأما"المنفقون"، فهم المؤتون زكوات أموالهم، وواضعوها على ما أمرهم الله بإتيانها، والمنفقون أموالهم في الوجوه التي أذن الله لهم جل ثناؤه بإنفاقها فيها. (1)
* * *
وأما"الصابرين" و"الصادقين"، وسائر هذه الحروف، فمخفوض ردًا على قوله:"الذين يقولون ربنا إننا آمنا"، والخفض في هذه الحروف يدل على أن قوله:"الذين يقولون" خفض، ردًّا على قوله:"للذين اتقوا عند ربهم". (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ (17) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في القوم الذين هذه الصفة صفتهم.
فقال بعضهم: هم المصلون بالأسحار.
ذكر من قال ذلك:
6753 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"والمستغفرين بالأسحار"، هم أهل الصلاة.
6754 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"والمستغفرين بالأسحار"، قال: يصلون بالأسحار.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإنفاق" فيما سلف: 5: 555، 580.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 199.(6/265)
وقال آخرون: هم المستغفرون.
ذكر من قال ذلك:
6755 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حريث بن أبي مطر، عن إبراهيم بن حاطب، عن أبيه قال: سمعت رجلا في السحر في ناحية المسجد وهو يقول: ربّ أمرتني فأطعتك، وهذا سحرٌ، فاغفر لي. فنظرت فإذا ابنُ مسعود. (1)
6756 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال: سألت عبد الرحمن بن يزيد بن جابر عن قول الله عز وجل:"والمستغفرين بالأسحار"، قال: حدثني سليمان بن موسى قال، حدثنا نافع: أن ابن عمر كان يحيي الليل صلاةً ثم يقول: يا نافع، أسحَرْنا؟ فيقول: لا. فيعاود الصلاة، فإذا قلت: نعم! قعد يستغفر ويدعو حتى يُصْبح.
6757 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بعض البصريين، عن أنس بن مالك قال: أمرنا أن نستغفر بالأسحار سبعين استغفارة.
6758 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زيد بن الحباب قال، حدثنا أبو يعقوب الضبي قال: سمعت جعفر بن محمد يقول: من صلَّى من الليل ثم استغفر في آخر الليل سبعين مرة، كتب من المستغفرين بالأسحار.
* * *
وقال آخرون: هم الذين يشهدون الصّبح في جماعة.
__________
(1) الأثر: 6755-"حريث بن أبي مطر عمرو الفزاري، أبو عمر الحناط" روى عن الشعبي والحكم بن عتيبة، وروى عنه شريك، وابن نمير، ووكيع، قال ابن معين: "لا شيء"، وقال أبو حاتم"ضعيف الحديث". وقال البخاري: "فيه نظر، ليس بالقوي عندهم". وعلق له البخاري في الأضاحي، مترجم في التهذيب. وأما "إبراهيم بن حاطب" فلم أجد له ولا لأبيه"حاطب" ترجمة، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو سقط، وأن يكون"حاطب" هذا، هو"حاطب بن أبي بلتعة" صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأثر بنصه هذا في تفسير ابن كثير 2: 113، ولم يقل فيه شيئًا.(6/266)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
ذكر من قال ذلك:
6759 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسماعيل بن مسلمة أخو القعنبي قال، (1) حدثنا يعقوب بن عبد الرحمن قال، قلت لزيد بن أسلم: مَنْ"المستغفرين بالأسحار"، قال: هم الذين يشهدون الصّبح.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل قوله:"والمستغفرين بالأسحار"، قول من قال: هم السائلون ربهم أن يستر عليهم فضيحتهم بها.
* * *
="بالأسحار" وهى جمع"سَحَر".
* * *
وأظهر معاني ذلك أن تكون مسألتهم إياه بالدعاء. وقد يحتمل أن يكون معناه: تعرّضهم لمغفرته بالعمل والصلاة، غيرَ أنّ أظهر معانيه ما ذكرنا من الدعاء.
* * *
القول في تأويل قوله: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وشهدت الملائكة، وأولو العلم.
=فـ"الملائكة" معطوف بهم على اسم"الله"، و"أنه" مفتوحة بـ"شهد".
* * *
قال أبو جعفر: وكان بعض البصريين يتأول قوله:"شهد الله"، قضى الله، ويرفع"الملائكة"، بمعنى: والملائكة شهود وأولو العلم. (2)
* * *
__________
(1) أخوه هو: "عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي القعنبي"، شيخ البخاري ومسلم وأبي داود.
(2) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن 1: 89، ولم يسمه الطبري، بل قال"بعض البصريين". وانظر رد الطبري قوله في ص: 272.(6/267)
وهكذا قرأت قرأة أهل الإسلام بفتح الألف من"أنه"، على ما ذكرت من إعمال"شهد" في"أنه" الأولى، وكسر الألف من"إن" الثانية وابتدائها. (1) سوى أنّ بعض المتأخرين من أهل العربية، (2) كان يقرأ ذلك جميعًا بفتح ألفيهما، بمعنى: شهد الله أنه لا إله إلا هو، وأنّ الدين عند الله الإسلام - فعطف بـ"أن الدين" على"أنه" الأولى، ثم حذف"واو" العطف، وهى مرادة في الكلام. واحتج في ذلك بأن ابن عباس قرأ ذلك: (شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ) الآية. ثم قال:"أنّ الدين"، بكسر"إنّ" الأولى، وفتح"أنّ" الثانية بإعمال"شهد" فيها، وجعل"أن" الأولى اعتراضًا في الكلام غير عامل فيها"شَهد" = وأن ابن مسعود قرأ:"شهد الله أنه لا إله إلا هو" بفتح"أن" وكسر"إنّ" من:"إنّ الدّين عند الله الإسلام" = على معنى إعمال"الشهادة" في"أن" الأولى، و"أن" الثانية مبتدأة. فزعم أنه أراد بقراءته إياهما بالفتح، جمع قراءة ابن عباس وابن مسعود. (3) فخالف بقراءته ما قرأ من ذلك على ما وصفت، جميعَ قرأة أهل الإسلام المتقدّمين منهم والمتأخرين، بدعوى تأويلٍ على ابن عباس وابن مسعود، زعم أنهما قالاه وقرآ به. وغيرُ معلوم ما ادّعى عليهما برواية صحيحة ولا سقيمة. وكفى شاهدًا على خطأ قراءته، خروجها من قراءة أهل الإسلام.
* * *
قال أبو جعفر: فالصواب إذ كان الأمر على ما وصفنا من قراءة ذلك - فتحُ الألف من"أنه" الأولى، وكسر الألف من"إنّ" الثانية، أعني من قوله:
__________
(1) يعني، في قوله في صدر الآية التالية: "إن الدين عند الله الإسلام".
(2) هو الكسائي، انظر معاني القرآن للفراء 1: 200 وتفسير القرطبي 4: 42، 43.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 199-200.(6/268)
"إنّ الدين عند الله الإسلام"، ابتداءً.
* * *
وقد روي عن السدي في تأويل ذلك قول كالدالّ على تصحيح ما قرأ به في ذلك من ذكرنا قوله من أهل العربية، في فتح"أنّ" من قوله:"أنّ الدين"، وهو ما:-
6760 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة" إلى"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، (1) قال: الله يشهد هو والملائكة والعلماء من الناس: أنّ الدين عند الله الإسلام.
* * *
فهذا التأويل يدل على أن"الشهادة" إنما هي عاملة في"أنّ" الثانية التي في قوله:"أن الدين عند الله الإسلام". فعلى هذا التأويل جائز في"أن" الأولى وجهان من التأويل: (2)
= أحدهما: أن تكون الأولى منصوبةً على وجه الشرط، بمعنى: شهد الله بأنه واحد = فتكون مفتوحة بمعنى الخفض في مذهب بعض أهل العربية، وبمعنى النصب في مذهب بعضهم ="والشهادة" عاملة في"أن" الثانية، كأنك قلت: شهد الله أن الدّين عند الله الإسلام، لإنه واحدٌ، ثم تقدم"لأنه واحد"، فتفتحها على ذلك التأويل.
= والوجه الثاني: أن تكون"إنّ" الأولى مكسورة بمعنى الابتداء، لأنها معترضٌ بها،"والشهادة" واقعة على"أنّ" الثانية: فيكون معنى الكلام: شهد
__________
(1) في المطبوعة: "فإن الله يشهد"، وفي المخطوطة: فأن الله يشهد"، وكأن صواب قراءتها ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "في أن في الأولى وجهان"، أما المخطوطة فقد وضع فوق"أن""في" صغيرة. كأنه أراد: "جائز في الأولى"، بحذف"أن"، لأنه لم يضع علامة تدل على الزيادة. فلذلك أسقطتها.(6/269)
الله = فإنه لا إله إلا هو - والملائكة، أنّ الدين عند الله الإسلام، كقول القائل:"أشهد - فإني محقٌ - أنك مما تعاب به برئ"، فـ"إن" الأولى مكسورة، لأنها معترضة،"والشهادة" واقعة على"أنّ" الثانية. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"قائمًا بالقسط"، فإنه بمعنى: أنه الذي يلي العدل بين خلقه.
* * *
"والقسط"، هو العدل، من قولهم:"هو مقسط" و"قد أقسط"، إذا عَدَل. (2)
* * *
ونصب"قائمًا" على القطع. (3)
* * *
وكان بعض نحويي أهل البصرة يزعم أنه حال من"هو" التي في"لا إله إلا هو".
* * *
وكان بعض نحويي الكوفة يزعم أنه حالٌ من اسم"الله" الذي مع قوله:"شهد الله"، فكان معناه: شهد الله القائمُ بالقسط أنه لا إله إلا هو. وقد ذُكر أنها في قراءة ابن مسعود كذلك: (وَأُولُو الْعِلْمِ الْقَائِمُ بِالْقِسْطِ) ، ثم حذفت"الألف واللام" من"القائم"، فصار نكرة وهو نعت لمعرفة، فنصب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب في ذلك عندي، قولُ من جعله قَطعًا، (4)
__________
(1) انظر بيان ذلك أيضًا في معاني القرآن للفراء 1: 200.
(2) انظر تفسير"القسط" فيما سلف ص: 77.
(3) "القطع" هو الحال، كما سلف منذ قريب: ص: 261. تعليق: 3. وقد بينه الفراء في كلامه في معاني القرآن 1: 200 إذ قال: "منصوب على القطع، لأنه نكرة نعت به معرفة". وبين أن الحال ضرب من النعت. تقول: "جاءني زيد الراكب" بالرفع، فيكون نعتًا لأنه معرفة نعت بمعرفة، فإذا نعته بالنكرة لم يجز أن تقول: "جاءني زيد راكب" بالرفع، إلا أن تجعله بدلا من المعرفة، وإنما الوجه أن تقطعه عن إعراب النعت، فتنصبه، فيكون حالا. فذلك تفسير"القطع" على أنه الحال ولم أجد تفسيره في كتاب مما بين يدي. وهو من اصطلاح أهل الكوفة فيما أرجح، لاستعمال الفراء إياه، ولذكر الطبري له في مقالة الكوفيين كثيرًا، كما سلف. وكما سيتبين من قول الطبري بعد ذلك"أنه حال" في الجمل الآتية.
(4) "القطع" هو الحال، كما سلف منذ قريب: ص: 261. تعليق: 3. وقد بينه الفراء في كلامه في معاني القرآن 1: 200 إذ قال: "منصوب على القطع، لأنه نكرة نعت به معرفة". وبين أن الحال ضرب من النعت. تقول: "جاءني زيد الراكب" بالرفع، فيكون نعتًا لأنه معرفة نعت بمعرفة، فإذا نعته بالنكرة لم يجز أن تقول: "جاءني زيد راكب" بالرفع، إلا أن تجعله بدلا من المعرفة، وإنما الوجه أن تقطعه عن إعراب النعت، فتنصبه، فيكون حالا. فذلك تفسير"القطع" على أنه الحال ولم أجد تفسيره في كتاب مما بين يدي. وهو من اصطلاح أهل الكوفة فيما أرجح، لاستعمال الفراء إياه، ولذكر الطبري له في مقالة الكوفيين كثيرًا، كما سلف. وكما سيتبين من قول الطبري بعد ذلك"أنه حال" في الجمل الآتية.(6/270)
على أنه من نعت الله جل ثناؤه، لأن"الملائكة وأولي العلم"، معطوفون عليه. فكذلك الصحيح أن يكون قوله:"قائمًا" حالا منه.
* * *
وأما تأويل قوله:"لا إله إلا هو العزيز الحكيم"، فإنه نفى أن يكون شيء يستحقّ العُبودَة غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه. (1)
* * *
ويعني ب"العزيز"، الذي لا يمتنع عليه شيء أراده، ولا ينتصر منه أحد عاقبه أو انتقم منه (2) ="الحكيم" في تدبيره، فلا يدخله خَلل. (3)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما عنى جل ثناؤه بهذه الآية نَفْيَ ما أضافت النصارَى الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من البنوّة، وما نسب إليه سائرُ أهل الشرك من أنّ له شريكًا، واتخاذهم دونه أربابًا. فأخبرهم الله عن نفسه أنه الخالقُ كلّ ما سواه، وأنه ربّ كلِّ ما اتخذه كل كافر وكل مشرك ربًّا دونه، وأنّ ذلك مما يشهد به هو وملائكته وأهلُ العلم به من خلقه. فبدأ جل ثناؤه بنفسه، تعظيمًا لنفسه، وتنزيهًا لها عما نسب الذين ذكرنا أمرهم من أهل الشرك به - ما نسبوا إليها، كما سنّ لعباده أن يبدأوا في أمورهم بذكره قبل ذكر غيره، مؤدِّبًا خلقه بذلك.
__________
(1) قوله: "العبودة" هو مصدر من"عبد" على وزن"شرف" يقال: "هو عبد بين العبودة والعبودية والعبدية" وقد استعملها الطبري بهذا المعنى فيما سلف 3: 347، وانظر التعليق هناك. وهو بمعنى الخضوع والتذلل، فكأنه استعمله هنا أيضًا بذلك المعنى، كأنه قال: فإنه نفي أن يكون شيء يستحق الخضوع له والتذلل، غير الواحد الذي لا شريك له في ملكه. وقد صرح ابن القطاع في كتاب الأفعال 2: 337 أن مصدر"عبد الله يعبده": "عبادة وعبودة وعبودية"، أي: خدم، وذل أشد الذل.
(2) انظر تفسير"العزيز" فيما سلف 3: 88 / ثم هذا ص: 168، 169 وفهارس اللغة (عزز) .
(3) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف 3: 88، وفهارس اللغة (حكم) .(6/271)
والمرادُ من الكلام، الخبرُ عن شهادة من ارتضاهم من خلقه فقدّسوه: (1) من ملائكته وعلماء عباده. فأعلمهم أن ملائكته - التي يعظِّمها العابدون غيره من أهل الشرك ويعبدُها الكثير منهم - وأهلَ العلم منهم، (2) منكرون ما هم عليه مقيمون من كفرهم وقولهم في عيسى، وقولَ من اتخذ ربًّا غيره من سائر الخلق، (3) فقال: شهدت الملائكة وأولُو العلم أنه لا إله إلا هو، وأن كل من اتخذ ربًّا دون الله فهو كاذبٌ = احتجاجًا منه لنبيه عليه السلام على الذين حاجُّوه من وفد نجران في عيسى.
* * *
واعترض بذكر الله وصفته، على ما بيَّنتُ، (4) كما قال جل ثناؤه: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) [سورة الأنفال: 41] ، افتتاحًا باسمه الكلام، (5) فكذلك افتتح باسمه والثناء على نفسه الشهادةَ بما وصفناه: من نَفْي الألوهة عن غيره، وتكذيب أهل الشرك به.
* * *
فأما ما قال الذي وصفنا قوله: من أنه عنى بقوله:"شهد"، قضى - فمما لا يعرف في لغة العرب ولا العجم، لأن"الشهادة"، معنًى،"والقضاء" غيرها. (6)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فقدموه" كأنه أراد معنى: "البدء بذكره تعالى"، ولو كان كذلك لكان أجود أن يقول: "فقدموا ذكره"، ولكنى أستظهر من سياق كلامه معنى التنزيه، فلذلك رأيت أنها تصحيف قوله: "فقدسوه".
(2) سياق الكلام: فأعلمهم أن ملائكته. . . وأهل العلم منهم، منكرون. . .".
(3) قوله: "وقول من اتخذ ربًا غيره. . ." بنصب"وقول" عطفًا على قولهم"ما هم عليه مقيمون"، وهو مفعول به لقوله: "منكرون".
(4) في المطبوعة: "على ما نبينه"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ولكنه لم يحسن قراءتها.
(5) معنى ذلك: أن ذكر"الله" في آية الأنفال هذه، إنما هي افتتاح كلام، قال أبو جعفر في تفسيرها (10: 3 بولاق) : "قال بعضهم: قوله: "فأن الله خمسه" مفتاح كلام، ولله الدنيا والآخرة وما فيهما. وإنما معنى الكلام: فأن للرسول خمسه". وهذا القول هو الذي رجحه الطبري في تفسير الآية هناك.
(6) هذا رد على مقالة أبي عبيدة في مجاز القرآن، كما سلف في ص: 267 تعليق: 2.(6/272)
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن بعض المتقدمين القول في ذلك.
6761 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم"، بخلاف ما قالوا - يعني: بخلاف ما قال وفدُ نجران من النصارى ="قائمًا بالقسط"، أي بالعدل. (1)
6762 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بالقسط"، بالعدل.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلامُ}
قال أبو جعفر: ومعنى"الدين"، في هذا الموضع: الطاعة والذّلة، من قول الشاعر: (2)
وَيَوْمُ الحَزْنِ إِذْ حُشِدَتْ مَعَدٌّ ... وَكَانَ النَّاسُ، إِلا نَحْنُ دِينَا (3)
__________
(1) الأثر: 6761- هو ما رواه ابن هشام من سيرة ابن إسحاق 2: 227، وهو من بقية الآثار التي آخرها فيما سلف رقم: 6649.
(2) لم أعرف قائله بعد.
(3) سيأتي في التفسير 26: 115 (بولاق) ومعه بيت سنذكره. والشطر الثاني من البيت الأول في اللسان (دين) ، وفي غيره من كتب اللغة. وأنا في شك من صحة هذا البيت، ولم أعرف"يوم الحزن"، ما أراد به. وأظن"حشدت"، "حشرت" من"الحشر"، والبيت الذي يليه: عَصَيْنَا عَزْمَةَ الجَبَّارِ، حتَّى ... صَبَحْنَا الجُرْفَ ألفًا مُعْلِمِينَا
هكذا صححته هنا من معاني القرآن للفراء، تفسير سورة (ق) مخطوطة، وهو في المطبوعة من التفسير (26: 115) "صحبنا الخوف أكفًا" وهو كلام لا معنى له. وقد قال الطبري بعد هذا البيت هناك"ويروى: الحوف. وقال: أراد بالجبار: المنذر، لولايته" وصوابه"الجرف" فإذا كان ذلك كذلك، فأكبر ظني أنه كما أثبته"الجرف" (بضم الجيم وسكون الراء) : وهو موضع بالحيرة كانت به منازل المنذر.
وفي الطبري هناك"صحبنا" وهو خطأ. و"صبحنا"، من قولهم: "صبح القوم شرًا" أي جاءهم به، و"صبحتهم الخيل"، جاءتهم صبحًا. و"ألفًا" يعني: ألف فرس عليها فرسانها. و"المعلم": الفارس يجعل لنفسه علامة الشجعان، أو جعل على فرسه علامة، فهو فرس معلم. يريد: غزونا معقل المنذر الجبار ومنازله، وصبحناه فدمرنا عليه منازله. وفي الطبري"حرمة الجبار"، والتصحيح من معاني القرآن للفراء، كما أسلفت.(6/273)
يعني بذلك: مطيعين على وجه الذل، ومنه قول القطامي:
كانَتْ نَوَارُ تَدِينُك الأدْيانا (1)
يعني: تُذلك، وقول الأعشى ميمون بن قيس:
هُوَ دَانَ الرِّبَابَ إذْ كَرِهُوا الدِّ ... ينَ دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ (2)
يعني بقوله:"دان" ذلل = وبقوله:"كرهوا الدين"، الطاعة.
* * *
وكذلك"الإسلام"، وهو الانقياد بالتذلل والخشوع، والفعل منه:"أسلم" بمعنى: دخل في السلم، كما يقال:"أقحط القوم"، إذا دخلوا في القحط،
__________
(1) ديوانه: 15، من أبيات جياد وصف فيها صاحبته"أميمة"، وسماها"جنوب" في البيت الذي رواه الطبري، وسماها"نوار"، ويروى: "ظلوم"، فكان مما قال: رَمَتِ المَقَاتِلَ مِنْ فُؤَادِكَ، بَعْدَ ما ... كانَتْ جَنُوبُ تَدِينُكَ الأدْيانَا
""أي": تفعل بك الأفاعيل. ويقال: تستعبدك، أو: أنها كانت تعذبك. أو تدينك: تجزيك". وَأَرَى الغَوَانِي إنّمَا هِيَ جِنَّةٌ ... شَبَهُ الرِّيَاحِ تَلَوَّنُ الأَلْوَانَا
فَإذَا دَعَوْنَكَ عَمَّهُنّ، فَلاَ تُجِبْ ... فَهُنَاكَ لاَ يَجِدُ الصَّفَاءُ مَكَانَا
نَسَبٌ يَزِيدُكَ عِنْدَهُنّ حَقَارَةً ... وعَلَى ذَوَاتِ شَبَابِهِنّ هَوَانَا
وَإذَا وَعَدْنَ، فَهُنَّ أكثَرُ واعِدٍ ... خُلْفًا، وَأمْلَحُ حانِثٍ أيْمَانَا
وَإذَا رَأَيْنَ مِنَ الشّبَابِ لدُونَةً، ... فَعَسَتْ حِبَالُكَ أَنْ تَكونَ مِتَانَا!
وهذا شعر بارع مقدم.
(2) مضى بيان هذا البيت فيما سلف 3: 571.(6/274)
"وأربعوا"، إذا دخلوا في الربيع = فكذلك"أسلموا"، إذا دخلوا في السلم، وهو الانقياد بالخضوع وترك الممانعة. (1)
* * *
فإذْ كان ذلك كذلك، فتأويل قوله:"إنّ الدّين عند الله الإسلام": إنَّ الطاعةَ التي هي الطاعة عنده، الطاعةُ له، وإقرار الألسن والقلوب له بالعبودية والذّلة، وانقيادُها له بالطاعة فيما أمر ونهى، وتذلُّلها له بذلك، من غير استكبار عليه، ولا انحراف عنه، دون إشراك غيره من خلقه معه في العبودة والألوهة. (2)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6763 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الدين عندَ الله الإسلام"، والإسلام: شهادة أنّ لا إله إلا الله، والإقرار بما جاء به من عند الله، (3) وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رسله، ودلّ عليه أولياءه، لا يقبل غيرَه ولا يجزى إلا به.
6764 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، حدثنا أبو العالية في قوله:"إن الدين عند الله الإسلام"، قال:"الإسلام"، الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له،
__________
(1) انظر تفسير"الإسلام" و"السلم" فيما سلف 2: 510، 511 / ثم 3: 73، 74، 92، 94، 110 / ثم 4: 251-255.
(2) في المطبوعة: "في العبودية والألوهية"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد مضى استعماله العبودة فيما سلف ص: 271، تعليق: 1. و"الألوهة، والإلاهة، والألوهية": العبادة، وانظر ما سلف 1: 124 وما قبلها.
(3) قوله: "بما جاء به"، الضمير إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، كأنه قال: "شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"، ولا تتم شهادة إلا به، بأبي هو وأمي. وهكذا ذكره السيوطي بنصه في الدر المنثور 2: 12، ونسبه إلى عبد بن حميد أيضًا بهذا اللفظ.(6/275)
وإقامُ الصّلاة، وإيتاءُ الزكاة، وسائرُ الفرائض لهذا تَبعٌ.
6765 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (أَسْلَمْنَا) [سورة الحجرات: 14] ، قال: دخلنا في السِّلم، وتركنا الحرب. (1)
6766 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ الدين عند الله الإسلام"، أي: ما أنت عليه يا محمد من التوحيد للربّ، والتصديق للرسل. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما اختلف الذين أوتوا الإنجيل - وهو"الكتاب" الذي ذكره الله في هذه الآية - في أمر عيسى، وافترائهم على الله فيما قالوه فيه من الأقوال التي كثر بها اختلافهم بينهم، وتشتّتت بها كلمتهم، وباين بها بعضهم بعضًا؛ حتى استحلّ بها بعضُهم دماءَ بعض ="إلا من بعد ما جَاءهم العلم بغيًا بينهم"، يعني: إلا من بعد ما علموا الحقّ فيما اختلفوا فيه من أمره، وأيقنوا أنهم فيما يقولون فيه من عظيم الفِرْية مبطلون. (3) فأخبر الله عباده أنهم أتوا ما أتوا من الباطل، وقالوا من القول الذي هو كفر بالله، على علم منهم بخطأ
__________
(1) الأثر: 6765- سيأتي في تفسير"سورة الحجرات" (26- 90 بولاق) ، بغير هذا اللفظ مطولا: "وأسلمنا: استسلمنا، دخلنا في السلم، وتركنا المحاربة والقتال". وإسناده هو هو.
(2) الأثر: 6766 - رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2: 227، وأسقط"من" من قوله: "من التوحيد". وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6761.
(3) انظر تفسير"البغي" فيما سلف 2: 342 / ثم تفسير مثل هذه الآية فيما سلف 4: 281، 282.(6/276)
ما قالوه، وأنهم لم يقولوا ذلك جهلا منهم بخطئه، ولكنهم قالوه واختلفوا فيه الاختلافَ الذي هم عليه، تعدِّيًا من بعضهم على بعض، وطلبَ الرياسات والملك والسلطان، كما:-
6767 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم"، قال: قال أبو العالية، إلا من بعد ما جاءهم الكتابُ والعلم ="بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها، فقتل بعضهم بعضًا على الدنيا، من بعد ما كانوا علماءَ الناس.
6768 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن ابن عمر: أنه كان يكثر تلاوة هذه الآية:"إنّ الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا على الدنيا، وطلبَ ملكها وسلطانها. مِنْ قِبَلها والله أتِينا! ما كان علينا مَنْ يكون علينا، (1) بعد أن يأخذ فينا كتابَ الله وسنة نبيه، ولكنا أتِينا من قبلها.
6769 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: إن موسى لما حضره الموتُ دعا سبعين حَبرا من أحبار بني إسرائيل، فاستودعهم التوراة، وجعلهم أمناء عليه، كلّ حبر جُزءًا منه، (2) واستخلف موسى يوشع بن نون. فلما مضى القرن الأول ومضى الثاني ومضى الثالث، وقعت الفرقة بينهم - وهم الذين أوتوا العلم من أبناء أولئك السبعين - حتى
__________
(1) في المطبوعة: "ما كان علينا من يكون بعد أن يأخذ فينا ... " حذف"علينا" الثانية فاختلط الكلام اختلاطًا، والصواب من المخطوطة. ومعناه: ما كان يضيرنا أن يكون علينا واليًا كائنًا من كان، بعد أن يقيم فينا كتاب الله وسنة رسوله؟
(2) هكذا جاء نص هذه العبارة في المخطوطة أيضًا، وفي الدر المنثور 2: 13، كأنه قال: استودع كل حبر جزءًا منه. وهي عبارة فيها ما فيها.(6/277)
أهَرقوا بينهم الدماء، ووقع الشرّ والاختلاف. وكان ذلك كله من قبل الذين أتوا العلم، بغيًا بينهم على الدنيا، طلبًا لسلطانها وملكها وخزائنها وزخرفها، فسلَّط الله عليهم جبابرتهم، فقال الله:"إن الدّين عند الله الإسلام" إلى قوله:"والله بصير بالعباد".
* * *
فقولُ الربيع بن أنس هَذا، (1) يدلّ على أنه كان عنده أنه معنيٌّ بقوله:"وما اختلف الذين أوتوا الكتاب"، اليهودُ من بني إسرائيل، دون النَّصارى منهم، وغيرهم. (2)
* * *
وكان غيره يوجه ذلك إلى أن المعنىّ به النصارى الذين أوتوا الإنجيل.
ذكر من قال ذلك:
6770 - حدثنا ابن حميد قال حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم"، الذي جاءك، أي أنّ اللهَ الواحدُ الذي ليس له شريك ="بغيًا بينهم"، يعني بذلك النصارى. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يقول الربيع بن أنس هذا يدل ... "، وهو فاسد جدًا. فإن هذا قول الطبري وتعليقه على خبر الربيع. والصواب ما أثبت، كما هو ظاهر.
(2) قوله: "دون النصارى منهم" معناه: دون النصارى من الذين أوتوا العلم. أما قوله: "وغيرهم"، أي: ودون غير النصارى من الذين أوتوا العلم، إشارة إلى ما جاء في خبر ابن عمر السالف رقم 6768. وكان في المطبوعة: "دون النصارى منهم ومن غيرهم"، وهي جملة لا يستقيم معناها، فحذفت"من" لذلك.
(3) الأثر: 6770- رواه ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2: 227، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6766، وقوله: "يعني بذلك النصارى"، ليس في ابن هشام، وكأنه من تفسير الطبري للخبر.(6/278)
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ومن يجحدُ حجج الله وأعلامه التي نصَبها ذكرَى لمن عقل، وأدلةً لمن اعتبر وتذكر، فإن الله محص عليه أعماله التي كان يعملها في الدنيا، فمجازيه بها في الآخرة، فإنه جل ثناؤه"سريع الحساب"، يعني: سريع الإحصاء. وإنما معنى ذلك أنه حافظ على كل عامل عمله، لا حاجة به إلى عقد كما يعقده خلقه بأكفِّهم، أو يعونه بقلوبهم، ولكنه يحفظ ذلك عليهم، بغير كلفة ولا مؤونة، ولا معاناة لما يعانيه غيرُه من الحساب. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى"سريع الحساب"، كان مجاهد يقول:
6771 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ومن يكفر بآيات الله فإنّ الله سريع الحساب"، قال: إحصاؤه عليهم.
6772 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب"، إحصاؤه.
* * *
__________
(1) انظر معنى"الكفر" و"الآيات" فيما سلف من فهارس اللغة (كفر) ، و (أبى) . وتفسير"سريع الحساب" فيما سلف 4: 207، وأيضًا: 274، 275 / ثم: هذا: 101، 102.(6/279)
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن حاجَّك: يا محمد، النفرُ من نصارى أهل نجران في أمر عيسى صلوات الله عليه، فخاصموك فيه بالباطل، (1) فقل: انقدت لله وحده بلساني وقلبي وجميع جوارحي. وإنما خَصّ جل ذكره بأمره بأن يقول:"أسلمت وجهي لله"، لأن الوجه أكرمُ جوارح ابن آدم عليه، وفيه بهاؤه وتعظيمه، فإذا خضع وجهه لشيء، فقد خضع له الذي هو دونه في الكرامة عليه من جوارح بدنه. (2)
* * *
وأما قوله:"ومن اتبعني"، فإنه يعني: وأسلم من اتبعني أيضًا وجهه لله معي. و"من" معطوف بها على"التاء" في"أسلمت"، كما:-
6773 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فإن حاجُّوك" أي: بما يأتونك به من الباطل، من قولهم:"خَلقنا، وفعلنا، وجعلنا، وأمرنا"، فإنما هي شبه باطلة قد عرفوا ما فيها من الحق ="فقل أسلمت وَجهي لله ومن اتبعني". (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"حاج" فيما سلف 3: 120، 201 / ثم 5: 429، 430.
(2) انظر تفسير"أسلم وجهه" فيما سلف 2: 510-512، وتفسير"الإسلام" في مراجعه التي ذكرتها آنفًا ص: 275 تعليق: 1.
(3) الأثر: 6773 - رواه ابن هشام في سيرته 2: 227، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6770.(6/280)
القول في تأويل قوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وقل"، يا محمد، = للذين أوتوا الكتاب" من اليهود والنصارى ="والأميين" الذين لا كتاب لهم من مشركي العرب ="أأسلمتم"، يقول: قل لهم: هل أفردتم التوحيد وأخلصتم العبادة والألوهة لرب العالمين، دون سائر الأنداد والأشراك التي تشركونها معه في عبادتكم إياهم وإقراركم بربوبيتهم، (1) وأنتم تعلمون أنه لا ربّ غيره ولا إله سواه ="فإن أسلموا"، يقول: فإن انقادوا لإفراد الوحدانية لله وإخلاص العبادة والألوهة له ="فقد اهتدوا"، يعني: فقد أصابوا سبيل الحق، وسلكوا مَحَجَّة الرشد. (2)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"فإن أسلموا فقد اهتدوا" عقيب الاستفهام؟ وهل يجوز على هذا في الكلام أن يقال لرجل:"هل تقوم؟ فإن تقم أكرمك"؟
قيل: ذلك جائز، إذا كان الكلام مرادًا به الأمر، وإن خرج مخرج الاستفهام، كما قال جل ثناؤه: (وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) [سورة المائدة: 91] ، يعني: انتهوا، وكما قال جل ثناؤه مخبرًا عن الحواريين أنهم قالوا لعيسى: (يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ) [سورة المائدة: 112] ، وإنما هو مسألة، كما يقول الرجل:"هل أنت
__________
(1) "الأشراك" جمع"شريك"، كما يقال: يتيم وأيتام وشريف وأشراف. وقياسه شركاء، مثل شرفاء.
(2) انظر تفسير ألفاظ هذه الآية فيما سلف في فهارس اللغة. وتفسير"الأميين" فيما سلف: 257-259، والأثر رقم: 5827، وفي كلام الطبري نفسه 5: 441، تعليق: 2.(6/281)
كافٌّ عنا"؟ بمعنى: اكفف عنا، وكما يقول الرجل للرجل:"أينَ، أين"؟ بمعنى: أقم فلا تبرح، ولذلك جُوزي في الاستفهام كما جوزي في الأمر في قراءة عبد الله: (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ آمِنُوا) [سورة الصف: 10، 11] ، ففسرها بالأمر، (1) وهي في قراءتنا على الخبر. فالمجازاة في قراءتنا على قوله:"هل أدلكم"، وفي قراءة عبد الله على قوله:"آمنوا"، على الأمر، لأنه هو التفسير. (2)
* * *
وبنحو معنى ما قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل:
6774 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين"، الذين لا كتاب لهم ="أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا" الآية. (3)
6775 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين"، قال: الأميون الذين لا يكتبون.
* * *
__________
(1) في معاني القرآن للفراء 1: 202"ففسر (هل أدلكم) بالأمر"، وما هاهنا شبيه بالصواب أيضًا. هذا، وقراءتنا في مصحفنا"تؤمنون بالله" مكان"آمنوا" في قراءة عبد الله.
(2) هذا نص ما في معاني القرآن للفراء 1: 202.
(3) الأثر: 6774- ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق 2: 227، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6773.(6/282)
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإن تولوا"، وإن أدبروا مُعرضين عما تدعوهم إليه من الإسلام وإخلاص التوحيد لله رب العالمين، (1) فإنما أنت رسولٌ مبلِّغ، وليس عليك غير إبلاغ الرسالة إلى من أرسلتك إليه من خلقي، وأداء ما كلَّفتك من طاعتي ="والله بصيرٌ بالعباد"، (2) يعني بذلك: والله ذو علم بمن يقبل من عباده ما أرسلتك به إليه فيطيعك بالإسلام، وبمن يتولَّى منهم عنه معرضًا فيردّ عليك ما أرسلتك به إليه، فيعصيك بإبائه الإسلامَ.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: (3) "إن الذين يكفرون بآيات الله"، أي: يجحدون حجج الله وأعلامه فيكذبون بها، من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، كما:-
6776 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: ثم جمع أهل الكتابين جميعًا، وذكر ما أحدثوا وابتدعوا،
__________
(1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 2: 162-164، 298، 299 / ثم 3: 115، 131 / ثم 4: 237.
(2) انظر تفسير"بصير بالعباد" فيما سلف آنفًا: 262. والمراجع في التعليق: 3.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني بذلك جل ثناءه" والسياق يقتضي ما أثبت.(6/283)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
من اليهود والنصارى فقال:"إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حقّ" إلى قوله:"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء". (1)
* * *
وأما قوله:"ويقتلون النبيين بغير حقّ"، فإنه يعني بذلك - أنهم كانوا يقتلون رُسل الله الذين كانوا يُرسَلون إليهم بالنهي عما يأتون من معاصي الله، وركوب ما كانوا يركبونه من الأمور التي قد تقدم الله إليهم في كتبهم بالزجر عنها، نحو زكريا وابنه يحيى، وما أشبههما من أنبياء الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة أهل المدينة والحجاز والبصرة والكوفة وسائر قرأة الأمصار: (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ) ، بمعنى القتل.
* * *
وقرأه بعض المتأخرين من قرأة الكوفة: (وَيُقَاتِلُونَ) ، بمعنى القتال، تأوّلا منه قراءةَ عبد الله بن مسعود، وادعى أن ذلك في مصحف عبد الله: (وَقَاتَلُوا) ، فقرأ الذي وصفنا أمرَه من القراءة بذلك التأويل: (وَيُقَاتِلُونَ) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا قراءة من قرأه:"ويقتلون"، لإجماع الحجة من القرأة عليه به، (3) مع مجيء التأويل من أهل التأويل بأن ذلك تأويله.
__________
(1) الأثر: 6776- ابن هشام 2: 227 من بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6774.
(2) انظر تفسير"يقتلون النبيين بغير الحق" فيما سلف 2: 140-142.
(3) هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وهي عبارة لا أرتضيها، وأظن صوابها"لإجماع الحجة من القرأة على القراءة به". وانظر معاني القرآن للفراء 1: 202 في بيان قراءة الكسائي هذه.(6/284)
ذكر من قال ذلك:
6777 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن معقل بن أبي مسكين في قول الله:"ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: كان الوحي يأتي إلى بني إسرائيل فيذكِّرون [قومهم]- ولم يكن يأتيهم كتاب - فيقتلون، (1) فيقوم رجال ممن اتبعهم وصدقهم، فيذكِّرون قومهم فيقتلون، فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس.
6778 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله:"ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: هؤلاء أهل الكتاب، كان أتباع الأنبياء ينهونهم ويذكِّرونهم، فيقتلونهم.
6779 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله:"إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس"، قال: كان ناس من بني إسرائيل ممن لم يقرأ الكتاب، كان الوحي يأتي إليهم فيذكِّرون قومهم فيقتلون على ذلك، (2) فهم: الذين يأمرون بالقسط من الناس.
6780 - حدثني أبو عبيد الرصّابي محمد بن حفص قال، حدثنا ابن حِمْير قال، حدثنا أبو الحسن مولى بني أسد، عن مكحول، عن قبيصة بن ذؤيب الخزاعي، عن أبي عبيدة بن الجراح قال: قلت: يا رسول الله، أىّ الناس أشدّ عذابًا يوم القيامة؟
__________
(1) هكذا نص الطبري، ونقله كذلك في الدر المنثور 2: 13 وزدت منه ما بين القوسين. ومعنى عبارته أن الوحي كان يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل، كما هو بين في الروايات الأخرى، التي رواها البغوي في تفسيره (هامش ابن كثير) 2: 117، 118، والقرطبي 4: 46.
(2) قوله: "كان ناس من بني إسرائيل. . . كان الوحي يأتي إليهم" بحذف خبر"كان" الأولى، عبارة فصيحة محكمة في العربية، قد نبهت إلى مثلها مرارًا فيما سلف.(6/285)
قال:"رجل قتل نبيًّا، أو رجل أمر بالمنكر ونهى عن المعروف. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس" (1) إلى أن انتهى إلى"وما لهم من ناصرين"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيًّا من أول النهار في ساعة واحدة! فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عُبَّاد بني إسرائيل، فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعًا من آخر النهار في ذلك اليوم، وهم الذين ذكر الله عز وجل. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: إنّ الذين يكفرون بآيات الله، ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون آمريهم بالعدل في أمر الله ونهيه، الذين يَنهونهم عن قتل أنبياء الله وركوب معاصيه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة، والدر المنثور 2: 13"الذين يقتلون النبيين"، وفي غيرها"ويقتلون" وأثبت ما جاء في رواية ابن أبي حاتم، فيما أخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 118، وهو نص التلاوة.
(2) الأثر: 6780-"أبو عبيد الوصابي: محمد بن حفص الحمصي" مضت ترجمته برقم: 129 (وانظر ما سيأتي رقم: 7009) ، وكان هناك في الإسناد"حدثني أبو عبيد الوصابي، قال حدثنا محمد بن حفص" فرجح أخي السيد أحمد أن يكون خطأ، وقد أصاب، وكان الأجود حذف"قال حدثنا" من ذلك الإسناد.
وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"أبو عبيد الرصافي محمد بن جعفر" والصواب من تفسير ابن كثير 2: 118."وابن حمير" هو: "محمد بن حمير بن أنيس القضاعي"، روى عن إبراهيم عن أبي عبلة، ومحمد بن زياد الألهاني، ومعاوية بن سلام وغيرهم. سئل عنه أحمد فقال: "ما علمت إلا خيرًا"، وقال ابن معين: "ثقة" وقال ابن أبي حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به". وكان في المطبوعة: "ابن حميد" بالدال، وهو خطأ، صوابه من ابن كثير، والبغوي بهامشه: 2: 118. وهو مترجم في التهذيب. وقال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل، وذكر أبا عبيد الوصابي هذا فقال: "أدركته وقصدت السماع منه، فقال لي بعض أهل حمص: ليس بصدوق، ولم يدرك محمد بن حمير، فتركته". أما "أبو الحسن مولى بني أسد"، فقد ترجمه الحافظ في لسان الميزان 6: 364 قال؛: "أبو الحسن الأسدي" حدثنا عنه أبو كريب. مجهول، انتهى. ولم ينفرد عنه أبو كريب، بل روى عنه محمد بن حمير. وقال في روايته"مولى بني أسد، عن مكحول"، أخرج حديثه الطبري وابن أبي حاتم، وذكره أبو حاتم فيمن لا يعرف اسمه". هذا وقد خرجه البغوي من طريق محمد بن عمرو بن حنان الكلبي، عن محمد بن حمير" (بهامش تفسير ابن كثير 2: 118) .(6/286)
القول في تأويل قوله: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فبشِّرهم بعذاب أليم"، فأخبرهم يا محمد وأعلمهم: أنّ لهم عند الله عذابًا مؤلمًا لهم، وهو الموجع. (1)
* * *
وأما قوله:"أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة"، فإنه يعني بقوله:"أولئك"، الذين يكفرون بآيات الله. ومعنى ذلك: أنّ الذين ذكرناهم، هم ="الذين حبطت أعمالهم"، يعني: بطلت أعمالهم (2) ="في الدنيا والآخرة". فأما في الدنيا، (3) فلم ينالوا بها محمدةً ولا ثناء من الناس، لأنهم كانوا على ضلال وباطل، ولم يرفع الله لهم بها ذكرًا، بل لعنهم وهتك أستارهم، وأبدى ما كانوا يخفون من قبائح أعمالهم على ألسن أنبيائه ورسله في كتبه التي أنزلها عليهم، فأبقى لهم ما بقيت الدنيا مذمَّةً، فذلك حبوطها في الدنيا. وأما في الآخرة، فإنه أعدّ لهم فيها من العقاب ما وصف في كتابه، وأعلم عباده أن أعمالهم تصير بُورًا لا ثوابَ لها، لأنها كانت كفرًا بالله، فجزاءُ أهلها الخلودُ في الجحيم.
* * *
وأما قوله:"وما لهم من ناصرين"، فإنه يعني: وما لهؤلاء القوم من ناصر ينصرهم من الله، إذا هو انتقم منهم بما سلف من إجرامهم واجترائهم عليه، فيستنقذُهم منه. (4)
* * *
__________
(1) انظر معنى"بشر" فيما سلف 1: 383 / 2: 393 / 3: 221 = ثم تفسير: "أليم" فيما سلف 1: 283 / 2: 140، 377، 469، 540 / 3: 330.
(2) انظر تفسير"حبط" فيما سلف 4: 317.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فأما قوله: في الدنيا ... "، وحذفت قوله، لأني أرجح أنها سبق قلم من الناسخ، لأن سياق كلامه وسياق قوله بعد: "وأما في الآخرة" يقتضي حذفها.
(4) انظر معنى"نصر" فيما سلف 2: 35، 36، 489، 564 / ثم 5: 581.(6/287)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ألم تر"، يا محمد (1) ="إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، يقول: الذين أعطوا حظًّا من الكتاب ="يدْعون إلى كتاب الله". (2)
* * *
واختلف أهل التأويل في"الكتاب" الذي عنى الله بقوله:"يدعون إلى كتاب الله".
فقال بعضهم: هو التوراة، دعاهم إلى الرضى بما فيها، إذ كانت الفِرَق المنتحِلةُ الكتبَ تقرُّ بها وبما فيها: أنها كانت أحكامَ الله قبل أن ينسخ منها ما نُسخ.
ذكر من قال ذلك:
6781 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير وعكرمة، عن ابن عباس قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت المِدْرَاس على جماعة من يهود، فدعاهم إلى الله، فقال له نعيم بن عمرو، (3) والحارث
__________
(1) انظر تفسير"ألم تر" فيما سلف 3: 160 / ثم 5: 429، 430.
(2) انظر تفسير"نصيب" فيما سلف 4: 206.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "نعيم بن عمرو" وكذلك جاء في تفسير القرطبي 4: 50، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 2: 119، ولكن الذي جاء في رواية ابن هشام عن ابن إسحاق في سيرته 2: 201، "نعمان بن عمرو"، وكذلك جاء ذكره قبل ذلك في أعداء رسول الله صلى الله عليه وسلم من سيرة ابن هشام 2: 161، وكذلك جاء أيضًا فيما أخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 14، ونسبه إلى ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والاختلاف في أسماء يهود كثير مشكل!!(6/288)
ابن زيد: على أيّ دين أنت يا محمد؟ فقال:"على ملة إبراهيم ودينه. فقالا فإنّ إبراهيم كان يهوديًّا! فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمُّوا إلى التوراة، فهي بيننا وبينكم! فأبيا عليه، (1) فأنزل الله عز وجل:"ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يُدْعونَ إلى كتاب الله ليحكم بينهم ثم يَتولى فريق منهم وهم معرضون" إلى قوله:"ما كانوا يفترون".
6782 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى آل زيد، عن سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيت المدراس = فذكر نحوه، إلا أنه قال: فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: فهلمَّا إلى التوراة (2) = وقال أيضًا: فأنزل الله فيهما:"ألم تَر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب" = وسائر الحديث مثل حديث أبي كريب. (3)
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك كتابُ الله الذي أنزله على محمد، وإنما دُعِيت طائفةٌ منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحكم بينهم بالحقّ، فأبتْ.
ذكر من قال ذلك:
6783 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم
__________
(1) في المطبوعة: "فأبوا عليه"، وهو تصرف من سوء رأي الناشر الأول، والصواب من المخطوطة، وسائر المراجع المذكورة في التعليق على الأثر التالي.
(2) "فهلما"، يعني بالتثنية، وأما الرواية السالفة"فهلموا" جميعًا. وجاء في مطبوعة سيرة ابن هشام 2: 201"فهلم" مفردة، وهو خطأ، فإن النسخة الأوروبية من سيرة ابن هشام، التي نشرت عنها طبعة الحلبي هذه، نصها"فهلما". فوافقت رواية الطبري. فهذا تحريف آخر من الطابعين!! وانظر إلى دقة أبي جعفر الطبري في إثبات الاختلاف اليسير في الرواية، وإلى استخفاف الناشرين من أهل دهرنا في إهمال ما هو مكتوب مرقوم بين أيديهم وتحت أبصارهم!!
(3) الأثران: 6781، 6782 - سيرة ابن هشام 2: 201، وتفسير القرطبي 4: 50، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 2: 119، والدر المنثور 2: 14.(6/289)
ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون"، أولئك أعداء الله اليهود، دُعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم، وإلى نبيه ليحكم بينهم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، ثم تولوا عنه وهم معرضون.
6784 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب"، الآية قال: هم اليهود، دُعوا إلى كتاب الله وإلى نبيه، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم، ثم يتولون وهم معرضون!
6785 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبًا من الكتاب يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم"، قال: كان أهل الكتاب يُدْعون إلى كتاب ليحكم بينهم بالحق يكون، وفي الحدود. (1) وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوهم إلى الإسلام، فيتولون عن ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن طائفة من اليهود = الذين كانوا بين ظَهراني مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم في عهده، ممن قد أوتي علمًا بالتوراة = أنهم دُعوا إلى كتاب الله الذي كانوا يقرّون أنه من عند الله - وهو التوراة - في بعض ما تنازعوا فيه هم ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم. وقد يجوز أن يكون تنازعهم الذي كانوا
__________
(1) هكذا جاءت في المخطوطة والمطبوعة" ... بالحق يكون وفي الحدود"، وفي الدر المنثور 2: 14"بالحق وفي الحدود" بإسقاط"يكون"، وكلتاهما لا أراها تستقيم، وأنا أرجح أن صواب السياق يقتضي أن تكون: "بالحق يكون في الحدود" بحذف الواو. فقد جاء في رواية ابن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس: أن الآية نزلت في أمر اليهودي واليهودية من أهل خيبر، فزنيا، فكرهت اليهود رجمهما لشرفهما، فرفعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحكم برجمهما، فقالت الأحبار: ليس عليهما الرجم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بيني وبينكما التوراة. فلما جاءوا بالتوراة، وانتهوا إلى آية الرجم، وضع ابن صوريا يده عليها وقرأ ما بعدها. والخبر مشهور. ثم إن كلام الطبري بعد مرجح لما قلت: وذلك قوله بعد: "ويجوز أن يكون ذلك كان في حد".(6/290)
تنازعوا فيه، ثم دعوا إلى حكم التوراة فيه فامتنعوا من الإجابة إليه، كان أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم وأمرَ نبوته = ويجوز أن يكون ذلك كان أمرَ إبراهيم خليل الرّحمن ودينه = ويجوز أن يكون ذلك ما دُعوا إليه من أمر الإسلام والإقرار به = ويجوز أن يكون ذلك كان في حدّ. فَإن كل ذلك مما قد كانوا نازعوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعاهم فيه إلى حكم التوراة، فأبى الإجابة فيه وكتمه بعضهم.
ولا دلالة في الآية على أيّ ذلك كان من أيٍّ، (1) فيجوز أن يقال: هو هذا دون هذا. ولا حاجة بنا إلى معرفة ذلك، لأن المعنى الذي دُعوا إلى حكمه، (2) هو مما كان فرضًا عليهم الإجابة إليه في دينهم، فامتنعوا منه، فأخبر الله جل ثناؤه عنهم بردّتهم، وتكذيبهم بما في كتابهم، وجحودهم ما قد أخذ عليهم عهودَهم ومواثيقهم بإقامته والعمل به. فلن يعدُوا أن يكونوا في تكذيبهم محمدًا وما جاء به من الحق، مثلهم في تكذيبهم موسى وما جاء به وهم يتولونه ويقرّون به.
* * *
ومعنى قوله:"ثم يتولى فريق منهم وهم معرضون"، (3) ثم يستدبر عن كتاب الله الذي دعا إلى حكمه، معرضًا عنه منصرفًا، وهو بحقيقته وحجته عالم. (4)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان ممن أبى"، وهو كلام بلا معنى. وفي المخطوطة: "على أن ذلك كان من أبى"، وهو مثله، والصواب ما أثبت. والمعنى: ولا دلالة في الآية على تعيين أحد هذه الأسباب، وأيها هو الذي كان. وهذا تعبير قد سلف مرارًا في كلام الطبري، انظر 1: 520"ولو كان في العلم بأي ذلك من أي رضًا، لم يخل عباده من نصب دلالة عليها ... " و 2: 517"إذ لم يكن في الآية دلالة على أي من أي ... " و 3: 64"ولا علم عندنا بأي ذلك كان من أي".
(2) في المطبوعة: "الذي دعوا إليه جملته"، وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة: "الذي دعوا إلى حمله" غير منقوطة، والصواب ما أثبت، لأن الآية دالة عليه، وذلك قوله تعالى: "يدعون إلى كتاب الله ليحكم بينهم" ولأن السياق يقتضي ما أثبت. وسيأتي، بعد، س: 13 ما يدل على صواب ذلك أيضًا.
(3) انظر معنى"التولي" فيما سلف ص: 144 تعليق: 1، والمراجع هناك.
(4) انظر معنى"الإعراض" فيما سلف 2: 298، 299.(6/291)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24)
وإنما قلنا إن ذلك"الكتاب" هو التوراة، لأنهم كانوا بالقرآن مكذبين، وبالتوراة بزعمهم مصدّقين، فكانت الحجة عليهم بتكذيبهم بما هم به في زعمهم مقرُّون، أبلغَ، وللعذر أقطعَ.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) }
يعني جل ثناؤه بقوله:"بأنهم قالوا"، بأنّ هؤلاء الذين دعوا إلى كتاب الله ليحكم بينهم بالحق فيما نازعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إنما أبوا الإجابة إلى حكم التوراة وما فيها من الحق: من أجل قولهم: (1) "لن تمسنا النارُ إلا أيامًا معدودات" = وهي أربعون يومًا، وهن الأيام التي عبدوا فيها العجل (2) = ثم يخرجنا منها ربنا، اغترارًا منهم ="بما كانوا يفترون"، يعني: بما كانوا يختلقون من الأكاذيب والأباطيل، في ادعائهم أنهم أبناء الله وأحِبّاؤه، وأن الله قد وعد أباهم يعقوبَ أن لا يُدْخل أحَدًا من ولده النار إلا تَحِلَّةَ القسم. (3) فأكذبهم الله على ذلك كله من أقوالهم، وأخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل النار هم فيها خالدون، دون المؤمنين بالله ورُسله وما جاءوا به من عنده.
* * *
__________
(1) قوله: "من أجل قولهم" تفسير لمعنى الباء في قوله: "ذلك بأنهم قالوا"، وانظر تفسير ذلك وبيانه فيما سلف 2: 139 في تفسير قوله تعالى: "ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله".
(2) انظر تفسير قولهم: "لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودة" فيما سلف 2: 274-278.
(3) التحلة (بفتح التاء وكسر الحاء، وتشديد اللام المفتوحة) : هو ما تكفر به يمينك. ويقال: "لم يفعل هذا الأمر إلا تحلة القسم": أي لم يفعله إلا بمقدار ما يحلل به قسمه ويخرج منه، غير مبالغ في ذلك الفعل. والمعنى: أن النار لا تمسهم إلا مسة يسيرة مثل تحلة قسم الحالف.(6/292)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6786 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:"ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات"، قالوا: لن تمسنا النار إلا تحلة القسم التي نصبنا فيها العجل، ثم ينقطع القسم والعذاب عنا = قال الله عز وجل:"وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، أي قالوا:"نحنُ أبناء الله وأحباؤه".
6787 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات"، الآية، قال: قالوا: لن نعذب في النار إلا أربعين يومًا، قال: يعني اليهود = قال: وقال قتادة مثله = وقال: هي الأيام التي نَصَبوا فيها العجل. يقول الله عز وجل:"وغرَّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، حين قالوا:"نحن أبناد الله وأحباؤه".
6788 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال: قال ابن جريج، قال مجاهد قوله:"وغرّهم في دينهم ما كانوا يفترون"، قال: غرّهم قولهم:"لن تمسنا النار إلا أيامًا معدودات".
* * *(6/293)
فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
القول في تأويل قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فكيف إذا جمعناهم"، فأيُّ حال يكون حالُ هؤلاء القوم الذين قالوا هذا القول، وفعلوا ما فعلوا من إعراضهم عن كتاب الله، واغترارهم بربهم، وافترائهم الكذب؟ وذلك من الله عز وجل وعيدٌ لهم شديد، وتهديدٌ غليظٌ.
وإنما يعني بقوله:"فكيف إذا جمعناهم" الآية: فما أعظم ما يلقوْن من عقوبة الله وتنكيله بهم، إذا جمعهم ليوم يُوفَّى كلّ عامل جزاءَ عمله على قدر استحقاقه، غير مظلوم فيه، لأنه لا يعاقب فيه إلا على ما اجترم، ولا يؤاخذُ إلا بما عمل، يُجزَي المحسنُ بإحسانه، والمسيء بإساءته، لا يخاف أحدٌ من خلقه منه يومئذ ظلمًا ولا هضمًا. (1)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"فكيف إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه"، ولم يقل: في يوم لا رَيب فيه؟
قيل: لمخالفة معنى"اللام" في هذا الموضع معنى "في". وذلك أنه لو كان مكان"اللام""في"، لكان معنى الكلام: فكيف إذا جمعناهم في يوم القيامة، ماذا يكون لهم من العذاب والعقاب؟ وليس ذلك المعنى في دخول"اللام"، ولكن معناه مع"اللام": فكيف إذا جمعناهم لما يحدُث في يوم لا ريب فيه، ولما يكون في ذلك اليوم من فَصْل الله القضاءَ بين خلقه، ماذا لهم حينئذ من العقاب وأليم العذاب؟ فمع"اللام" في"ليوم لا ريب فيه" نيَّة فِعْل، وخبرٌ مطلوب قد
__________
(1) انظر ألفاظ هذه الآية مفسرة فيما سلف، واطلبها في فهارس اللغة من الأجزاء الماضية.(6/294)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
ترك ذكره، أجزأت دلالةُ دخول"اللام" في"اليوم" عليه، منه. (1) وليس ذلك مع"في"، فلذلك اختيرت"اللام" فأدخلت في"اليوم"، دون"في". (2)
* * *
وأما تأويل قوله:"لا ريب فيه"، فإنه: لا شك في مجيئه. وقد دللنا على أنه كذلك بالأدلة الكافية، مع ذكر من قال ذلك في تأويله فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
وعنى بقوله:"ووُفِّيت"، ووَفَّى الله ="كلُّ نفس ما كسبت"، يعني: ما عملت من خير وشر (4) ="وهم لا يظلمون"، يعني أنه لا يبخس المحسن جزاءَ إحسانه، ولا يعاقب مسيئًا بغير جرمه.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ}
قال أبو جعفر: أما تأويل:"قل اللهم"، فإنه: قل يا محمد: يا اللهُ.
* * *
واختلف أهل العربية في نصب"ميم""اللهم"، وهو منادًى، وحكم المنادى المفرد غير المضافِ الرفعُ = وفي دخول"الميم" فيه، وهو في الأصل"الله" بغير"ميم".
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "قد ترك ذكره أخيرًا بدلالة دخول اللام في اليوم عليه منه"، وهو كلام خلو من المعنى، والظاهر أن الناسخ رأى تاء"أجزأت" متصلة بدال"دلالة"، فجعلها، "بدلالة" وجعل"أجزأ""أخيرًا" فذهب الكلام هدرًا ولغوًا. وسياق العبارة كما أثبتناها: "أجزأت منه دلالة دخول اللام في اليوم" فأخر"منه" على عادته في تأخير مثل ذلك في كل كلامه.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 202، 203، وعبارته هناك."تقول في الكلام: جمعوا ليوم الخميس، وكأن اللام لفعل مضمر في"الخميس"، كأنهم جمعوا لما يكون يوم الخميس. وإذا قلت: جمعوا في يوم الخميس = لم تضمر فعلا. وقوله: جمعناهم ليوم لا ريب فيه = أي للحساب والجزاء".
(3) انظر ما سلف 1: 228، 378 / ثم 6: 221.
(4) انظر تفسير"كسب" فيما سلف 2: 273، 274 / 3: 101، 128 / 4: 449 / 6: 131.(6/295)
فقال بعضهم: إنما زيدت فيه"الميمان"، لأنه لا ينادى بـ"يا" كما ينادى الأسماء التي لا"ألف" فيها ولا"لام". وذلك أن الأسماء التي لا"ألف" ولا"لام" فيها تنادى بـ"يا" كقول القائل:"يا زيد، ويا عمرو". قال: فجعلت"الميم" فيه خلفًا من"يا"، كما قالوا:"فم، وابنم، وهم، وزُرْقُم، (1) وُسْتهُم"، (2) وما أشبه ذلك من الأسماء والنعوت التي يحذف منها الحرف، ثم يبدل مكانه"ميم". قال: فكذلك حذفت من"اللهم""يا" التي ينادى بها الأسماء التي على ما وصفنا، وجعلت"الميم" خلفًا منها في آخر الاسم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة"ودم، وهم"، والأولى"ودم" خطأ لا شك فيه، وسيأتي صوابه بعد أسطر، حين عاد فذكر الثلاثة جميعًا: "فم، وابنم، وهم"، على تصرف المطبوعة هناك في نص المخطوطة، ليوافق الذي كتبه هنا.
أما قوله: "وهم"، فلم أعرف لها وجهًا أرتضيه، وهذه الكلمة جاءت في كلام الفراء في معاني القرآن 1: 203، وستأتي أيضًا كذلك بعد أسطر. وقد راجعتها في نسختي مخطوطة معاني القرآن، فإذا هي كذلك"وهم"، وعلى الميم شبيه بالشدة في النسختين المخطوطتين، وأغفلت ذلك المطبوعة. وقد وقف ناشر معاني القرآن عليها، فعلقوا بما نصه: (كأنه يريد"هم" الضمير، وأصلها"هوم"، إذ هي جمع"هو"، فحذفت الواو وزيدت ميم الجمع، وإن كان هذا الرأي يعزي إلى البصريين. وانظر شرح الرضى للكافية في مبحث الضمائر) ، وعلق بعض طابعي تفسير الطبري بما يأتي: (قوله: "ودم" كذا في النسخ، والكلمتان دم، وهم، لعلهما محرفتان عن: ابنم، ودلهم، أو دلقم، من الكلمات التي زيدت في آخرها الميم، وذكرها السيوطي في المزهر 2: 135) .
والذي قاله ناشرو معاني القرآن، لا يقوم، لأن الميم في هم، وإن كانت زائدة من وجه، إلا أنها أتى بها لمعنى هو غير ما جاءت به الزيادة في"فم" و"ابنم"، ولعلة اختلف عليها النحويون اختلافًا كثيرًا. وأما ما قاله ناشر الطبري من أنها محرفة عن"دلهم أو دلقم"، فليس بشيء، لأن مطبوعات الطبري ومخطوطاته قد اتفقت عليه، وعجيب أن يتفق تصحيفها، وتصحيف نسختين من معاني القرآن، الذي ينقل الطبري نص كلامه. وبعد هذا كله أجدني عاجزًا كل العجز عن معرفة أصل هذه الكلمة، وعن وجه يرتضى في تصحيفها أو تحريفها أو قراءتها، وقد استقصيت أمرها ما استطعت، ولكني لم أنل إلا النصب في البحث، فعسى أن أجد عند غيري من علمها ما حرمني الله علمه، وفوق كل ذي علم عليم.
(2) "زرقم، وستهم" (كلتاهما بضم الأول وسكون الثاني وضم الثالث) : رجل زرقم وامرأة زرقم، أزرق شديد الزرق. فلما طرحت الألف من أوله، زيدت الميم في آخره. وكذلك"رجل ستهم وامرأة ستهم": أسته، وهو العظيم الاست، الكبير العجز، فعل به ما فعل بصاحبه. وقال الراجز في امرأة: لَيْسَتْ بِكَحْلاَءَ وَلَكِنْ زُرْقُمُ ... وَلا بِرَسْحَاءَ وَلَكِنْ سُتْهُمُ(6/296)
وأنكر ذلك من قولهم آخرون، وقالوا: قد سمعنا العرب تنادي:"اللهم" بـ"يا" كما تناديه ولا"ميم"، فيه. قالوا: فلو كان الذي قال هذا القولَ مصيبًا في دعواه، لم تدخل العربُ"يا"، وقد جاءوا بالخلف منها. (1) وأنشدوا في ذلك سماعًا من العرب:
وَمَا عَلَيْكِ أَنْ تَقُولِي كُلَّمَا ... صَلَّيْتِ أَوْ كَبَّرتِ يَا أَللَّهُمَا ارْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا (2)
ويُرْوَى:"سبَّحت أو كبَّرت". قالوا: ولم نر العرب زَادت مثل هذه"الميم" إلا مخففة في نواقص الأسماء مثل:"الفم، وابنم، وهم"، (3) قالوا: ونحن نرى أنها كلمة ضُمّ إليها"أمَّ"، بمعنى:"يا ألله أمَّنا بخير"، فكثرت في الكلام فاختلطت به. قالوا: فالضمة التي في"الهاء" من همزة"أم"، لما تركت انتقلت إلى ما قبلها. قالوا: ونرى أن قول العرب:"هلم إلينا"، مثلها. إنما كان"هلم"،"هل" ضم إليها"أمّ"، فتركت على نصبها. قالوا: من العرب من يقول إذا طرح"الميم":"يا اللهُ اغفر لي" و"يا أللهُ اغفر لي"، بهمز"الألف" من"الله" مرة، ووصلها أخرى، فمن حذفها أجراها على أصلها، لأنها"ألف ولام"، مثل"الألف واللام" اللتين يدخلان في الأسماء المعارف زائدتين. ومن همزها توهم أنها من الحرف،
__________
(1) في المطبوعة: "لم تدخله العرب يا"، وفي المخطوطة: "لم تدخله العرسه يا"، وهذا من عجلة الناسخ، فرددتها جميعًا إلى أصلهما.
(2) لم يعرف قائله، والأبيات في معاني القرآن للفراء 1: 203، والجمل للزجاجي: 177 والإنصاف: 151، والخزانة 1: 359، واللسان (أله) وغيرها من كتب العربية والنحو، ومختلف من روايته، وجاءوا به شاهدًا على زيادة"ما" بعد"ياللهم" فروايته عند بعضهم"يا اللهم ما"، وبعد الأبيات زيادة زادها الكوفيون: مِنْ حَيْثُمَا وَكَيْفَمَا وَأَيْنَمَا ... فإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نَعْدَمَا
(3) في المطبوعة: "مثل فم ودم وهم"، وأثبت نص المخطوطة، وهو موافق لنص الفراء في معاني القرآن 1: 203، وهو نص كلامه.(6/297)
إذ كانت لا تسقط منه، وأنشدوا في همز الألف منها:
مُبَارَكٌ هُوَّ وَمَنْ سَمَّاهُ ... عَلَى اسْمِكَ اللُّهُمَّ يَا أَللهُ (1)
قالوا: وقد كثرت"اللهم" في الكلام، حتى خففت ميمها في بعض اللغات، وأنشدوا: (2)
كَحَلْفَةٍ مِنْ أَبى رِيَاٍح ... يَسْمَعُهَا اللَّهُمُ الكُبَار (3)
والرواة تنشد ذلك:
يَسْمَعُها لاهُهُ الكُبَارُ
__________
(1) لم يعرف قائله، والبيتان في معاني القرآن 1: 203؛ والإنصاف: 150، واللسان (أله) .
(2) هو الأعشى.
(3) ديوانه: 193، ومعاني القرآن 1: 203، والخزانة 1: 345، واللسان (أله) ، وغيرها. من قصيدة يعاتب بها بني جحدر، وكانت بينه وبينهم نائرة، ذكرها في قصائد من شعره. وقبل البيت وهو أول القصيدة: أَلَمْ تَرَوْا إِرَمًا وَعَادًا ... أَوْدَى بِها اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ
بَادُوا، فلمَّا أنْ تآدَوْا ... قَفَّى عَلَى إِثْرِهِمْ قُدَارُ
كَحَلْفةٍ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
أودى بها: أهلكها وذهب بها. وقوله: "فلما أن تآدوا" من قولهم: "تآدى القوم تآديًا وتعادوا تعاديًا": تتابعوا موتًا. وأصله من آدى الرجل: إذا كان شاك السلاح قد لبس أداة الحرب، يعني أخذوا أسلحتهم فتقاتلوا حتى تفانوا. ومن شرح البيت"تآدوا" بمعنى تعاونوا وكثروا، فقد أخطأ، وذهب مذهبًا باطلا. يقول: لما هلكت إرم ودعاد، أتت على آثارهم ثمود، و"قدار" هو عاقر الناقة من ثمود فسموا القبيلة باسمه، إذ كان سببًا في هلاكهم إذ دمدم عليهم ربهم فسواها. وأبو رياح (بياء تحتية) رجل من بني ضبيعة، كان قتل رجلا من بني سعد بن ثعلبة جارًا لهم، فسألوه أن يحلف، أو يعطي الدية؛ فحلف لهم، ثم قتل بعد حلفته. فضربته العرب مثلا لما لا يغني من الحلف. وفي المطبوعة"رباح" بالباء الموحدة، وهو خطأ، وهذا البيت الأخير، جاء في هذا الموضع من الشعر في ديوانه، ولكن الأرجح ما رواه أبو عبيدة في قول الأعشى لبني جحدر: أَقْسَمتُمُ لا نُعْطِيَّنكُمْ ... إِلاّ عِرَارًا، فَذَا عِرَارُ
والعرار: القتال. يقول: أقسمتم أن لا تعطونا إلا بعد قتال، فهذا هو القتال، قضى عليكم كما قضيت على أبي رياح حلفته الكاذبة إذ سمعها ربه الأكبر. والكبار (بضم الكاف) صيغة المبالغة من"كبير".(6/298)
وقد أنشده بعضهم: (1) يَسْمَعُهَا اللهُ واللهُ كُبَارُ (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك: يا مالك الملك، يا منْ له مُلك الدنيا والآخرة خالصًا دون وغيره، كما:-
6789 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله:"قل اللهم مالك الملك"، أي رَبَّ العباد الملكَ، لا يقضى فيهم غيرك. (3)
* * *
وأما قوله:"تؤتي الملك ممن تشاء"، فإنه يعني: تُعطى الملك من تَشاء، فتملكه وتسلِّطه على من تشاء.
وقوله:"وتنزع الملك من تشاء"، يعني: وتنزع الملك ممن تشاء أن تنزعه منه، (4)
__________
(1) قال الفراء: "وأنشدني الكسائي".
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يسمعها الله والكبار"، وهو خطأ من الناسخ، والصواب ما في معاني القرآن للفراء 1: 203، والذي مضى جميعه هو من نص كلامه مع قليل من التصرف. وكذلك رواها شارح ديوانه، وكذلك سائر الكتب. وروى أبو عبيدة: "يسمعها الواحد الكبار".
(3) الأثر: 6789- سيرة ابن هشام 2: 227، ونصه: "أي رب العباد، والملك الذي لا يقضي فيهم غيره"، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6776.
(4) سقط من المطبوعة: "يعني: وتنزع الملك ممن تشاء"، فأثبتها من المخطوطة.(6/299)
فترك ذكر"أن تنزعه منه"، اكتفاءً بدلالة قوله:"وتنزع الملك ممن تشاء"، عليه، كما يقال:"خذ ما شئتَ = وكنْ فيما شئت"، يراد: خذ ما شئت أن تأخذه، وكن فيما شئت أن تكون فيه؛ وكما قال جل ثناؤه: (فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ) [سورة الانفطار: 8] يعني: في أيّ صورة شاءَ أن يركبك فيها ركبك. (1)
* * *
وقيل: إنّ هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم جوابًا لمسألته ربَّه أن يجعل مُلك فارسَ والروم لأمته. (2)
ذكر من قال ذلك:
6790 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: وذكر لنا: أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه جل ثناؤه أن يجعل له ملك فارسَ والروم في أمته، فأنزل الله عز وجل:"قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء" إلى"إنك على كل شيء قدير".
6791 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: ذُكر لنا والله أعلم: أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم سأل ربه عز وجل أن يجعل ملك فارس والروم في أمته، ثم ذكر مثله.
* * *
وروي عن مجاهد أنه كان يقول: معنى"الملك" في هذا الموضع: النبوة.
ذكر الرواية عنه بذلك:
6792 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء"، قال: النبوّة.
__________
(1) ما سلف مختصر ما في معاني القرآن للفراء 1: 204-205، وقد وفاه حقه.
(2) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148، 149 / 2: 488 / 5: 312، 315، 371.(6/300)
6793- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه:"وتعز من تشاء"، بإعطائه الملك والسلطان، وَبسط القدرة له ="وتذلّ من تشاء" بسلبك ملكه، وتسليط عدوه عليه ="بيدك الخير"، أي: كل ذلك بيدك وإليك، لا يقدر على ذلك أحد، لأنك على كل شيء قديرٌ، دون سائر خلقك، ودون من اتخذه المشركون من أهل الكتاب والأمِّيين من العرب إلهًا وربًّا يعبدونه من دونك، كالمسيح والأنداد التي اتخذها الأميون ربًّا، كما:-
6794 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قوله:"تؤتي الملك من تشاء"، الآية، أي: إنّ ذلك بيدك لا إلى غيرك (1) ="إنك على كل شيء قدير"، أي: لا يقدر على هذا غيرك بسلطانك وُقدْرَتك. (2)
* * *
__________
(1) نص روايته ابن هشام: "أي: لا إله غيرك".
(2) الأثر: 6794- سيرة ابن هشام 2: 227 وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6789.(6/301)
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
القول في تأويل قوله: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"تولج" تُدْخل، يقال منه:"قد ولَج فلان منزله"، إذا دخله،"فهو يَلِجه وَلْجًا ووُلوجًا ولِجَةً" (1) - و"أولجته أنا"، إذا أدخلته.
* * *
ويعني بقوله:"تولج الليل في النهار" تدخل ما نقصتَ من ساعات الليل في ساعات النهار، فتزيد من نقصان هذا في زيادة هذا ="وتولج النهارَ في الليل"، وتدخل ما نقصتَ من ساعات النهار في ساعات الليل، فتزيد في ساعات الليل ما نقصت من ساعات النهار، كما:-
6795 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"تولج الليلَ في النهار وتولج النهار في الليل"، حتى يكون الليل خمسَ عشرةَ ساعة، والنهارُ تسعَ ساعاتٍ، وتدخل النهار في الليل حتى يكون النهار خمسَ عشرة ساعة، والليل تسع ساعات.
6796 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ما نقص من النهار يجعله في الليل، وما نقص من الليل يجعله في النهار. (2)
6797 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في
__________
(1) قوله: "ولجا" مصدر لم تذكره كتب اللغة. وقوله"لجة" بوزن"عدة وزنة".
(2) الأثر: 6798-"حفص بن عمر العدني"، مترجم في الكبير 1 / 2 / 362، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 182. وقد مضى هذا الإسناد برقم: 533، 1406، وسيأتي أيضًا برقم: 6814، وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا: "حفص عن عمر"، وهو خطأ.(6/302)
الليل" قال: ما ينقص من أحدهما في الآخر، يعتقبان = أو: يتعاقبان، شك أبو عاصم = ذلك من الساعات. (1)
6798 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، ما ينقص من أحدهما في الآخر، يتعاقبان ذلك من الساعات.
6799 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل.
6800 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، قال: هو نقصان أحدهما في الآخر.
6801 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، قال: يأخذ الليل من النهار، ويأخذ النهار من الليل. يقول: نقصان الليل في زيادة النهار، ونقصان النهار في زيادة الليل.
6802 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، (2) سمعت الضحاك يقول في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، يعني أنه يأخذ أحدُهما من الآخر، فيكون الليل أحيانًا أطول من النهار، والنهار أحيانًا أطول من الليل.
__________
(1) في المطبوعة: "ما ينقص من أحدهما يدخل في الآخر، متعاقبان ... " بزيادة"يدخل" وليست في المخطوطة، وانظر الأثر التالي. وقوله"يعتقبان" في المخطوطة: "معتقبان" غير منقوطة، وهو تحريف، والذي في المطبوعة تصرف لا معنى له.
(2) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في التفسير.(6/303)
6803 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل"، قال: هذا طويل وهذا قصير، أخذ من هذا فأولجه في هذا، حتى صار هذا طويلا وهذا قصيرًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم:"تأويل ذلك: أنه يخرج الشيء الحيَّ من النطفة الميتة، ويخرج النطفة الميتة من الشيء الحيّ".
ذكر من قال ذلك:
6804 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: هي النطفة تخرج من الرّجل وهي ميتة وهو حي، ويخرج الرجل منها حيًّا وهي ميتة.
6805 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: الناس الأحياء من النُّطف والنُّطف ميتة، ويخرجها من الناس الأحياء، والأنعام.
6806 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.(6/304)
6807 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، فذكر نحوه.
6808 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، فالنطفة ميتة تكون، تخرج من إنسان حيّ، ويخرج إنسان حيّ من نطفة ميتة.
6809 - حدثني محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي قال، حدثنا أشعث السجستاني قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن أبي خالد في قوله."تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: تخرج النطفة من الرجل، والرجل من النطفة. (1)
6810 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: تخرج الحيّ من هذه النطفة الميتة، وتخرج هذه النطفة الميتة من الحيّ.
6811 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ" الآية، قال: الناس الأحياء من النطف، والنطف ميِّتةً من الناس الأحياء، ومن الأنعام والنَّبْت كذلك = قال ابن جريج: وسمعت يزيد بن عويمر يخبر، عن سعيد بن جبير قال: إخراجه النطفة من الإنسان، وإخراجه الإنسان من النطفة. (2)
__________
(1) الأثر: 6809 -"محمد بن عمر بن علي بن عطاء المقدمي"، ثقة. روى عن أشعث بن عبد الله السجستاني، وروى عنه الأربعة، والطبري وغيرهم، مترجم في التهذيب. وقد مضى في رقم: 6255. وكان في المطبوعة: "حدثني محمد بن عمرو، وابن علي، عن عطاء المقدمي"، وفي المخطوطة: "محمد بن عمرو بن علي، عن عطاء المقدمي"، وكلاهما خطأ، والصواب ما أثبت.
(2) الأثر: 6811-"يزيد بن عويمر"، لم أجد في الرواة من يسمى بذلك، وأخشى أن يكون في اسمه تحريف أو تصحيف لم أهتد إليه.(6/305)
6812 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"تخرج الحيّ من الميت وتخرج الميت من الحيّ"، قال: النطفة ميتة، فتخرج منها أحياء ="وتخرج الميت من الحيّ"، تخرج النطفة من هؤلاء الأحياء، والحبّ ميتٌ تخرج منه حيًّا ="وتُخرج الميت من الحيّ"، تخرج من هذا الحيّ حبًّا ميتًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"أنه يخرج النخلة من النواة، والنواةَ من النخلة، والسنبل من الحب، والحبّ من السنبل، والبيض من الدجاج، والدجاج من البيض".
ذكر من قال ذلك.
6813 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبد الله، عن عكرمة قوله:"تخرج الحي من الميت"، قال: هي البيضة تخرج من الحيّ وهي ميتة، ثم يخرج منها الحيّ.
6814 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله."تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: النخلة من النواة والنواة من النخلة، والحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة.
* * *
وقال آخرون:"معنى ذلك: أنه يخرج المؤمن من الكافر، والكافرَ من المؤمن".
ذكر من قال ذلك:
6815 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، يعني المؤمن من الكافر والكافرَ من المؤمن، والمؤمن عبدٌ حيُّ الفؤاد، والكافر عبدٌ ميّتُ الفؤاد.(6/306)
6816 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال الحسن في قوله:"تُخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. (1)
6819 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث، عن سعيد بن عمرو، عن الحسن قرأ:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: تخرج المؤمن من الكافر، وتخرج الكافر من المؤمن. (2)
6820 - حدثني حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي عثمان، عن سلمان، أو عن ابن مسعود = وأكبر ظني أنه عن سلمان = قال: إن الله عزّ وجل خمّر طينة آدم أربعين ليلة - أو قال: أربعين يومًا - ثم قال بيده فيه، (3) فخرج كل طيِّب في يمينه، وخرج كل خبيث في يده الأخرى، ثم خلط بينهما، ثم خلق منها آدم، (4) فمن ثم يخرج الحيّ من الميت ويخرجُ الميت من الحي، يخرج المؤمن من الكافر، ويخرج الكافر من المؤمن. (5)
__________
(1) سقط من الترقيم 6817، 6818.
(2) الأثر: 6819-"سعيد بن عمرو"، لم أجد له ترجمة، وأخشى أن يكون سقط من إسناده شيء، وأن صوابه"عبد الوارث بن سعيد، عن ... ". وعبد الوارث مترجم فيما سلف رقم: 2154.
(3) في المخطوطة: "ثم قال بعده فيه"، خطأ؛ وقوله: "قال بيده"، أي حرك يده.
(4) في المخطوطة-: "ثم خلط بينهما وقال. . . فمن ثم يخرج"، وبين الكلام بياض، وأتمته المطبوعة من الدر المنثور.
(5) الأثر: 6820-"بشر بن المفضل بن لاحق الرقاشي" من شيوخ أحمد وإسحاق. قال أحمد: "إليه المنتهى في التثبت بالبصرة". مترجم في التهذيب. و"سليمان التيمي"، هو: "سليمان بن طرخان التيمي"، روى عن أنس بن مالك وطاوس، ثقة. مترجم في التهذيب."وأبو عثمان" هو"أبو عثمان الصنعاني: شراحيل بن مرثد"، روى عن سلمان وأبي الدرداء ومعاوية وأبي هريرة وكعب الأحبار. قال ابن حبان في الثقات: "صاحب الفتوح، يروي المراسيل" وهذا الأثر أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 15، ونسبه لسعيد بن منصور، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الأسماء والصفات، وأبو الشيخ في العظمة، (أخرج مثله، ونسبه لابن مردويه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم) .(6/307)
6821 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم دخل على بعض نسائه، فإذا بامرأة حسنة النَّعْمة، (1) فقال: من هذه؟ قالت إحدى خالاتك! قال: إن خَالاتي بهذه البلدة لغرائب! (2) وأيّ خالاتي هذه؟ قالت: خالدة ابنة الأسود ابن عبد يغوث. (3) قال: سبحان الذي يخرج الحيّ من الميت! وكانت امرأة صالحةً، وكان أبوها كافرًا. (4)
6822 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"تخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي"، قال: هل علمتم أن الكافر يلد مؤمنًا، وأن المؤمن يلد كافرًا؟ فقال: هو كذلك. (5)
* * *
__________
(1) قوله: "حسنة النعمة"، في المطبوعة: "النغمة" بالغين المعجمة، وهو خطأ، والنعمة (بفتح النون وسكون: العين) المسرة والفرح والترفه، وكأنه يعني ما يبين عليها من أثر الترف والنعمة. بيد أن الذي رواه ابن سعد، وما نقله الحافظ ابن حجر في الإصابة: "حسنة الهيئة".
(2) في المطبوعة: "بهذه البلد"، وتاء"البلدة" في المخطوطة شبكت في دالها، واختلطت بها لام"لغرائب"، والذي أثبته هو نص ما في الإصابة، وفي ابن سعد"بهذه الأرض".
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "خلدة ابنة الأسود"، وأخشى أن يكون أصلها"خالدة" كما في سائر الكتب، ورسمت بحذف الألف كما كانوا يكتبون قديمًا. وهي خالة رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنها: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد مناف بن زهرة، وأم رسول الله صلى الله عليه وسلم"آمنة بنت وهب بن عبد مناف"، فهو أخت يغوث بن وهب. أما الأسود بن يغوث، فهو أحد المستهزئين حنى جبريل ظهره، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر، فقال رسول الله: "خالي! خالي! "، فقال جبريل: "دعه عنك! "، فمات الأسود.
(4) الأثر: 6821- رواه ابن سعد في الطبقات 8: 181، وذكر طرقه الحافظ ابن حجر في الإصابة، في ترجمة"خالدة بنت الأسود".
(5) الأثر: 6822-"محمد بن سنان الفزاز" سلفت ترجمته برقم: 1999، 2056، و"أبو بكر الحنفي"، هو"عبد الكبير بن عبد المجيد بن عبيد الله بن شريك البصري"، روى عنه أحمد وإسحاق وابن المديني ومحمد بن بشار، ثقة. مترجم في التهذيب."وعباد بن منصور الناجي"، روى عن عكرمة، وعطاء والحسن، والقاسم بن محمد وغيرهم. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر رقم: 6827 فيما يلي.(6/308)
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها في هذه الآية بالصواب، تأويلُ من قال:"يخرج الإنسان الحيّ والأنعام والبهائم الأحياءَ من النُّطف الميتة = وذلك إخراجُ الحيّ من الميت = ويخرج النطفة الميتة من الإنسان الحي والأنعام والبهائم الأحياء = وذلك إخراج الميت من الحيّ".
وذلك أن كل حيّ فارقه شيء من جسده، فذلك الذي فارقه منه ميت. فالنطفة ميتة لمفارقتها جسد من خرجت منه، ثم ينشئ الله منها إنسانًا حيًا وبهائمَ وأنعامًا أحياءً. وكذلك حكم كل شيء حيّ زايله شيء منه، فالذي زَايله منه ميت. وذلك هو نظير قوله: (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [سورة البقرة: 28] .
* * *
وأما تأويل من تأوّله بمعنى الحبة من السنبلة، والسنبلة من الحبة، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن = فإن ذلك، وإن كان له وجه مفهوم، فليس ذلك الأغلب الظاهرَ في استعمال الناس في الكلام. وتوجيهُ معاني كتاب الله عز وجل إلى الظاهر المستعمل في الناس، أولى من توجيهها إلى الخفيّ القليل في الاستعمال.
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته جماعة منهم: (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) بالتشديد، وتثقيل"الياء" من"الميت"، بمعنى أنه يخرج الشيء الحي من الشيء الذي قد ماتَ، ومما لم يمت.
* * *(6/309)
وقرأت جماعة أخرى منهم: (تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ) بتخفيف"الياء" من"الميْت"، بمعنى أنه يخرج الشيء الحيّ من الشيء الذي قد مات، دون الشيء الذي لم يمت، ويُخرج الشيء الميت، دون الشيء الذي لم يمت، من الشيء الحي.
* * *
وذلك أن"الميِّت" مثقل"الياء" عند العرب: ما لم يَمتْ وسيموت، وما قد مات.
وأما"الميْت" مخففًا، فهو الذي قد مات، فإذا أرادوا النعتَ قالوا:"إنك مائتٌ غدًا، وإنهم مائتون". وكذلك كل ما لم يكن بعد، فإنه يخرج على هذا المثال الاسمُ منه. يقال:"هو الجائد بنفسه = والطائبة نفسه بذلك"، وإذا أريد معنى الاسم قيل:"هو الجوادُ بنفسه = والطيِّبة نفسه". (1)
* * *
قال أبو جعفر: فإذا كان ذلك كذلك، فأولى القراءتين في هذه الآية بالصواب، قراءةُ من شدّد"الياء" من"الميِّت". لأن الله جل ثناؤه يخرج الحي من النطفة التي قد فارقت الرجلَ فصارت ميِّتة، وسيخرجه منها بعد أن تُفارقه وهي في صلب الرجل ="ويخرج الميِّت من الحيّ" النطفةَ التي تصير بخروجها من الرجل الحيّ ميِّتًا، وهي قبل خروجها منه حيَّة. فالتشديد أبلغ في المدح وأكملُ في الثناء.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في"الميت" 3: 318، 319، وهذا البيان عن معناه هنا، أجود مما تجده في كتب اللغة.(6/310)
القول في تأويل قوله: {وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يُعطى من يشاء من خلقه فيجود عليه، (1) بغير محاسبة منه لمن أعطاه، لأنه لا يخاف دخولَ انتقاص في خزائنه، ولا الفناءَ على ما بيده، (2) كما:-
6823 - حدثني المثتي قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وترزق من تشاء بغير حساب"، قال: يخرج الرزق من عنده بغير حساب، لا يخاف أن ينقُص ما عنده تبارك وتعالى.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: اللهمّ يا مالك الملك تُؤتي الملك من تَشاء، وتنزع الملك ممن تشاء، وتعزّ من تشاء، وتذل من تشاء، بيدك الخير إنك على كل شيء قدير، دون من ادّعى الملحدون أنه لهم إله وربٌّ وعبدوه دونك، أو اتخذوه شريكًا معك، (3) أو أنه لك ولدٌ = وبيدك القدرة التي تفعل هذه الأشياء وتقدر بها على كل شيء، تُولج الليل في النهار وتُولج النهارَ في الليل، فتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتنقص من هذا وتزيد في هذا، وتخرج من ميِّت حيًّا ومن حي ميِّتًا، وترزق من تشاء بغير حساب من خلقك، لا يقدر على ذلك أحدٌ سواك، ولا يستطيعه غيرك، كما:-
6824 - حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"تولج الليلَ في النهار وتولج النهارَ في الليل وتخرجُ الحيّ من الميِّت وتخرج الميِّت من الحيّ"، أي: بتلك القدرة = يعني: بالقدرة التي تؤتي
__________
(1) انظر معنى"الرزق" فيما سلف 4: 274 / 5: 43، 44.
(2) انظر تفسير"بغير حساب" فيما سلف 4: 274، 275.
(3) في المطبوعة: "واتخذوه" والصواب من المخطوطة.(6/311)
الملك بها من تشاء وتنزعهُ ممن تشاء ="وترزُق من تشاء بغير حساب"، لا يقدر على ذلك غيرُك، ولا يصنعه إلا أنت. أي: فإن كنتُ سلَّطتُ عيسى على الأشياء التي بها يزعمون أنه إله =: من إحياء الموتى، وإبراء الأسقام، والخلق للطير من الطين، والخبر عن الغيوب، لتجعله آية للناس، (1) وتصديقًا له في نبوّته التي بعثته بها إلى قومه - فإنّ من سلطاني وقدرتي ما لم أعطه: تمليكُ الملوك، (2) وأمرُ النبوّة ووضعها حيث شئت، (3) وإيلاجُ الليل في النهار والنهار في الليل، وإخراجُ الحيّ من الميت والميت من الحيّ، ورزقُ من شئت من برّ أو فاجر بغير حساب. فكلّ ذلك لم أسلط عيسى عليه، ولم أملكه إياه، فلم تكن لهم في ذلك عبرةٌ وبينة: أنْ لو كان إلهًا، (4) لكان ذلك كله إليه، وهو في علمهم يهرُب من الملوك، وينتقل منهم في البلاد من بلد إلى بلد! ! (5)
* * *
__________
(1) نص ابن هشام: "لأجعله آية للناس".
(2) في المطبوعة: "كتمليك الملوك"، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(3) في ابن هشام: "بأمر النبوة".
(4) في المطبوعة: "فلم يكن"، وأثبت ما في ابن هشام وفي مطبوعة الحلبي من السيرة"أفلم تكن" من إحدى نسخه، وهي جيدة. وفي مطبوعة الطبري: "إذ لو كان إلهًا ... "، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(5) الأثر: 6824- سيرة ابن هشام 2: 227، 228، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6794.(6/312)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
القول في تأويل قوله: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً}
قال أبو جعفر: وهذا نهيٌ من الله عز وجل المؤمنين أن يتخذوا الكفارَ أعوانًا وأنصارًا وظهورًا، ولذلك كسر"يتخذِ"، لأنه في موضع جزمٌ بالنهي، ولكنه كسر"الذال" منه، للساكن الذي لقيه وهي ساكنة. (1)
* * *
ومعنى ذلك: لا تتخذوا، أيها المؤمنون، الكفارَ ظهرًا وأنصارًا توالونهم على دينهم، وتظاهرونهم على المسلمين من دون المؤمنين، (2) وتدلُّونهم على عوراتهم، فإنه مَنْ يفعل ذلك ="فليس من الله في شيء"، يعني بذلك: فقد برئ من الله وبرئ الله منه، بارتداده عن دينه ودخوله في الكفر ="إلا أن تتقوا منهم تقاة"، إلا أن تكونوا في سلطانهم فتخافوهم على أنفسكم، فتظهروا لهم الولاية بألسنتكم، وتضمروا لهم العداوة، ولا تشايعوهم على ما هم عليه من الكفر، ولا تعينوهم على مُسلم بفعل، كما:-
6825 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، قال: نهى الله سبحانه المؤمنين أن يُلاطفوا الكفار أو يتخذوهم وليجةً من دون المؤمنين، إلا أن يكون الكفارُ عليهم ظاهرين، فيظهرون لهم اللُّطف، ويخالفونهم في الدين. وذلك قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاةً".
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 205.
(2) انظر تفسير"الولي" و"الأولياء" فيما سلف 2: 489، 564 / ثم: 5: 424 / 6: 141، 142 = والقول في"من دون" فيما سلف 2: 489.(6/313)
6826 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الحجاجُ بن عمرو حليفُ كعب بن الأشرف، وابن أبي الحقيق، وقيس بن زيد، قد بَطَنوا بنفر من الأنصار ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن المنذر بن زَنْبَر، (1) وعبد الله بن جبير، وسعد بن خيثمة، لأولئك النفر: اجتنبوا هؤلاء اليهود، واحذروا لزومهم ومباطنتهم لا يفتنوكم عن دينكم! فأبى أولئك النفر إلا مُباطنتهم ولزومهم، فأنزل الله عز وجل:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" إلى قوله:"والله على كل شيء قدير". (2)
6827 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، يقول: لا يتخذ المؤمن كافرًا وليًّا من دون المؤمنين. (3)
6828 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين" إلى"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، أما"أولياء" فيواليهم في دينهم، ويظهرهم على عورة المؤمنين، فمن فعل هذا فهو مشرك، فقد برئ الله منه = إلا أن يتقي تقاةً، فهو يظهر الولاية لهم في دينهم، والبراءةَ من المؤمنين.
6829 - حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) في المطبوعة: "بن زبير"، وصححته من سيرة ابن هشام، ومن ترجمته في الإصابة. وتسميته"رفاعة بن عبد المنذر"، ولكن هكذا جاء هنا، وكذلك في تفسير البغوي، وأظنه خطأ، فلم يذكروا ذلك في ترجمته.
(2) الأثر: 6826- لم أجده في سيرة ابن هشام التي بين أيدينا من سيرة ابن إسحاق. وقوله: "بطنوا بنفر من الأنصار"، يقال: "بطن فلان بفلان يبطن بطونًا وبطانة" إذا كان خاصًا به، ذا علم بداخلة أمره، مؤانسًا له، مطلعًا على سره، ومنه المباطنة.
(3) الأثر: 6827- انظر التعليق عل الأثر السالف رقم: 6822.(6/314)
عن ابن جريج، عمن حدثه، عن ابن عباس:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: التقاة التكلم باللسان، وقلبُه مطمئن بالإيمان.
6830 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر قال، حدثنا الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: ما لم يُهرِق دم مسلم، وما لم يستحلّ ماله.
6831 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين"، إلا مصانعةً في الدنيا ومُخالقة. (1)
6832 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6833 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" إلى"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: قال أبو العالية: التقيَّة باللسان وليس بالعمل.
6834 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عُبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: التقيةُ باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو لله معصيةٌ، فتكلم مخافةً على نفسه، وقلبه مطمئن بالإيمان، فلا إثم عليه، إنما التقيَّة باللسان.
6835 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، فالتقية باللسان. مَنْ حُمل على أمر يتكلم به وهو معصية لله، فيتكلم به مخافة
__________
(1) خالق الناس يخالقهم مخالقة: عاشرهم على أخلاقهم، مثل"تخلق"، أي: تصنع وتجمل وتحسن.(6/315)
الناس وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن ذلك لا يضره. إنما التقية باللسان.
* * *
وقال آخرون: معنى:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، إلا أن يكون بينك وبينه قرابة.
ذكر من قال ذلك:
6836 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين إلا أن تتقوا منهم تقيَّة"، نهى الله المؤمنين أن يوادّوا الكفار أو يتولَّوْهم دون المؤمنين. وقال الله:"إلا أن تتقوا منهم تقيَّة"، (1) الرحم من المشركين، من غير أن يتولوهم في دينهم، إلا أن يَصل رحمًا له في المشركين.
6837 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء"، قال: لا يحل لمؤمن أن يتخذ كافرًا وليًّا في دينه، وقوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: أن يكون بينك وبينه قرابة، فتصله لذلك.
6838 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"، قال: صاحبهم في الدنيا معروفًا، الرحم وغيره. فأما في الدّين فلا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله قتادة تأويلٌ له وجه، وليس بالوجه الذي يدل عليه ظاهر الآية: إلا أن تتقوا من الكافرين تقاة= فالأغلب من معاني هذا الكلام: إلا أن تخافوا منهم مخافةً. فالتقية التي ذكرها الله في هذه الآية. إنما هي تقية من الكفار لا من غيرهم. ووجَّهه قتادة إلى أن تأويله: إلا أن تتقوا الله من أجل القرابة التي بينكم وبينهم تقاة، فتصلون رحمها. وليس ذلك الغالب على
__________
(1) في المطبوعة في هذا الموضع"تقاة"، وهي في المخطوطة: "تقية" بتشديد الياء بالقلم، وكذلك أثبتها، وهي إحدى القراءتين كما سيذكر الطبري بعد.(6/316)
معنى الكلام. والتأويلُ في القرآن على الأغلب الظاهر من معروف كلام العرب المستعمَل فيهم.
* * *
وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا أن تتقوا منهم تقاة"
فقرأ ذلك عامة قرأة الأمصار: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) ، على تقدير"فُعَلة" مثل:"تُخَمة، وتؤَدَة وتُكأة"، من"اتقيت".
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تَقِيَّةً) ، على مثال"فعيلة".
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءةُ عندنا، قراءةُ من قرأها:"إلا أن تتقوا منهم تُقاة"، لثبوت حجة ذلك بأنه القراءةُ الصحيحة، بالنقل المستفيض الذي يمتنع منه الخطأ.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، ويخوّفكم الله من نفسه أن تَرْكبوا معاصيه، أو توالوا أعداءه، فإن لله مرجعكم وَمصيركم بعد مماتكم، ويوم حشركم لموقف الحساب = (1) يعنى بذلك: متى صرتم إليه وقد خالفتم ما أمركم به، وأتيتم ما نهاكم عنهُ من اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، نالكم من عقاب ربكم ما لا قِبَل لكم به، يقول: فاتقوه واحذرُوه أن ينالكم ذلك منه، فإنه شديد العقاب.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"المصير" فيما سلف 3: 56 / 6: 128.(6/317)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل" يا محمد، للذين أمرتهم أن لا يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين ="إن تخفوا ما في صدوركم" من موالاة الكفار فتُسِرُّوه، أو تبدوا ذلكم من نفوسكم بألسنتكم وأفعالكم فتظهروه ="يعلمه الله"، فلا يخفى عليه. يقول: فلا تُضمروا لهم مودّةً ولا تظهروا لهم موالاة، فينالكم من عقوبة ربكم ما لا طاقة لكم به، لأنه يعلم سرّكم وعلانيتكم، فلا يخفى عليه شيء منه، وهو مُحصيه عليكم حتى يجازيَكم عليه بالإحسان إحسانًا، وبالسيئة مثلها، كما:-
6839 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: أخبرهم أنه يعلم ما أسرّوا من ذلك وما أعلنوا، فقال:"إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه".
* * *
وأما قوله:"ويعلم ما في السموات وما في الأرض"، فإنه يعني أنه إذ كان لا يخفى عليه شيء هو في سماء أو أرض أو حيث كان، فكيف يخفى عليه - أيها القوم الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين - ما في صدوركم من الميْل إليهم بالمودة والمحبة، أو ما تبدونه لهم بالمعونة فعلا وقولا.
* * *
وأما قوله:"والله على كل شيء قدير"، فإنه يعني: والله قديرٌ على معاجلتكم بالعقوبة على مُوالاتكم إياهم ومظاهرتكموهم على المؤمنين، وعلى ما يشاء من الأمور كلها، لا يتعذَّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه شيء طلبه.
* * *(6/318)
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
القول في تأويل قوله عز وجل: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه في يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا موفَّرًا،"وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا" = يعني غاية بعيدة، فإن مصيركم أيها القوم يومئذ إليه، فاحذروه على أنفسكم من ذنوبكم.
* * *
وكان قتادة يقول في معنى قوله:"محضرًا"، (1) ما:-
6840 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرًا"، يقول: موفَّرًا.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم [بعض] أهل العربية أنّ معنى ذلك: (2) واذكر يوم تجد. وقال: إن ذلك إنما جاء كذلك، لأن القرآن إنما نزل للأمر والذكر، كأنه قيل لهم: اذكروا كذا وكذا، لأنه في القرآن في غير موضع:"واتقوا يوم كذا، وحين كذا".
* * *
وأما"ما" التي مع"عملت"، فبمعنى"الذي"، ولا يجوز أن تكون جزاءً، لوقوع"تجد" عليه. (3) وأما قوله:"وما عملت من سوء"، فإنه معطوف على قوله:"ما" الأولى، و"عملت" صلةٌ بمعنى الرّفع، لمَّا قيل:"تود". (4)
__________
(1) هذا المعنى قلما تصيبه في كتب اللغة، فأثبته فيها.
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.
(3) الوقوع: التعدي، وقد سلف شرح ذلك فاطلبه في فهرس المصطلحات.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "كما قيل تود"، والصواب ما أثبت. وقد استظهرت قراءتها من كلام الفراء في معاني القرآن 1: 206، ونص كلامه: "وقوله وما عملت من سوء - فإنك ترده أيضًا على (ما) ، فتجعل (عملت) صلة لها في مذهب رفع لقوله (تود لو أن بينها) "، ويعني بذلك أن جملة"تود" مفعول ثان لقوله: "تجد"، كما كان"محضرًا" مفعولا ثانيًا. وسيأتي ذلك بعد قليل في تفسيره.(6/319)
فتأويل الكلام: يوم تَجد كل نفس الذي عملت من خير محضرًا، والذي عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا
* * *
"والأمد" الغاية التي ينتهي إليها، ومنه قول الطرماح:
كُلُّ حَيٍّ مُسْتَكْمِلٌ عِدَّةَ الـ ... عُمْرِ، ومُودٍ إِذَا انْقَضَى أَمَدُهْ (1)
يعني: غاية أجله. وقد:-
6841 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا"، مكانًا بعيدًا.
6842 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"أمدًا بعيدًا"، قال: أجلا.
6843 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا
__________
(1) ديوانه: 112، وهذه رواية الطبري، وكان يروي ديوان الطرماح، وقرأه بالمسجد الجامع بمصر، وأملاه على الناس، وشرح غريبة. ولا أدري أأخطأ أم عنده رواية أخرى غير التي وصلتنا، فالشعر في ديوانه كما يلي: بعد أن ذكر دار صاحبته، وما بقي بها من النؤى والرماد: تَرَكَ الدَّهْرُ أهلَهُ شُعَبًا ... فَاسْتمَرَّتْ مِنْ دُونِهِمْ عُقَدُهْ
وَكذَاكَ الزَّمَانُ يَطْرُدُ بالنَّاسِ ... إلى اليَوْمِ، يَوْمُهُ وغَدُهْ
لاَ يُلِيثَانِ بِاخْتِلاَفِهِمَا المَرْءَ، ... وَإنْ طَالَ فِيهِمَا أَمَدُهْ
كُلُّ حَيٍّ مُستَكْمِلٌ عِدَّةَ العُمْرِ، ... وَمُودٍ إذَا انْقَضَى عَدَدُهْ
وقوله: "شعبًا"، أي متفرقون، واستمرت: اشتدت وأحكمت عقدة حبال الدهر، فلم يعد له أمل في اجتماع أحبابه بعد الفراق. وقوله: "لا يليثان"، من ألاثه يليثه: أخره، وهو من"اللوث"، وهو البطء والتأخير. يقول: إن اختلاف الأيام من يوم وغد، لا يؤخران أجل المرء وإن طال عمره، حتى يفنياه ويذهبا به. وقوله: "مود" أي: هالك، إذا انقضى عدد أيامه وأكله في هذه الحياة الدنيا.(6/320)
عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا"، قال: يسر أحدَهم أن لا يلقى عمله ذاكَ أبدًا يكونُ ذلك مناه، وأما في الدنيا فقد كانت خطيئةً يستلذّها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: ويحذركم الله نفسه: أن تُسخِطوها عليكم بركوبكم ما يسخطه عليكم، فتوافونه يومَ تَجد كلُّ نفس ما عملت من خير محضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا، وهو عليكم ساخط، فينالكم من أليم عقابه ما لا قِبَل لكم به. ثم أخبر عز وجل أنه رءوف بعباده رحيمٌ بهم، وأنّ من رأفته بهم: (2) تحذيرُه إياهم نفسه، وتخويفهم عقوبته، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معاصيه، كما:-
6844- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن الحسن في قوله:"ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد"، قال: من رأفته بهم أن حذَّرهم نفسه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "خطيئته" وفي المخطوطة: "حطيته" هكذا نقطت، ورأيت الصواب أن أقرأها كما أثبتها.
(2) في المطبوعة: "ومن رأفته بهم"، وفي المخطوطة: "وأرض رأفته بهم"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(3) الأثر: 6844-"والحسن"، هو الحسن البصري بلا ريب، فقد نسب هذا الأثر إليه ابن كثير في تفسيره 2: 125، والسوطي في الدر المنثور 2: 17، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عمرو بن الحسن"، فظهر أنه خطأ لا شك فيه. أما "عمرو"، فلم أستطع أن أقطع من يكون، فمن روى عن الحسن، ممن اسمه"عمرو" كثير.(6/321)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)
القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي أنزلت هذه الآية فيه. فقال بعضهم: أنزلت في قوم قالوا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم:"إنا نحب ربنا"، فأمر الله جل وعز نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم:"إن كنتم صادقين فيما تقولون، فاتبعوني، فإن ذلك علامة صِدْقكم فيما قلتم من ذلك.
ذكر من قال ذلك:
6845 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله، عن بكر بن الأسود قال، سمعت الحسن يقول: قال قومٌ على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا نحبّ ربنا! فأنزل الله عز وجل:"قُل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، فجعل اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم عَلَمًا لحبه، وعذاب من خالفه.
6846- حدثني المثنى قال، حدثنا علي بن الهيثم قال، حدثنا عبد الوهاب، عن أبي عبيدة قال: سمعت الحسن يقول: قال أقوامٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا محمد، إنا لنحب ربنا! فأنزل الله جل وعز بذلك قرآنًا:"قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، فجعل الله اتباع نبيه محمد صلى الله عليه وسلم علمًا لحبه، وعذاب من خالفه. (1)
__________
(1) الأثران: 6845، 6846، سيذكر الطبري ضعفهما عنده بعد قليل.(6/322)
6847 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله"، قال: كان قوم يزعمون أنهم يحبون الله، يقولون: إنا نحب ربّنا! فأمرهم الله أن يتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وجعل اتباع محمد علمًا لحبه.
6848- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إن كنتم تحبون الله" الآية، قال: إن أقوامًا كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يزعمون أنهم يحبون الله، فأراد الله أن يجعل لقولهم تصديقًا من عمل، فقال:"إن كنتم تحبون الله" الآية، كان اتباعُ محمد صلى الله عليه وسلم تصديقًا لقولهم. (1)
* * *
وقال آخرون: بل هذا أمرٌ من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقول لوفد نجران الذين قدموا عليه من النصارى: إن كان الذي تَقولونه في عيسى من عظيم القول، إنما يقولونه تعظيمًا لله وحبًّا له، فاتبعوا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
6849 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قل إن كنتم تحبون الله"، أي: إن كان هذا من قولكم - يعني: في عيسى - (2) حبًّا لله وتعظيمًا له =،"فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم"، أي: ما مضى من كفركم ="والله غفور رحيم". (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "تصديق لقولهم"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) ما بين الخطين زيادة تفسير من أبي جعفر. وفي سيرة ابن هشام: "إن كان هذا من قولكم حقًا، حبًا لله ... " بزيادة"حقًا"، وأخشى أن يكون ناسخ الطبري قد أسقطها.
(3) الأثر: 6849- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6824.(6/323)
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قولُ محمد بن جعفر بن الزبير. لأنه لم يجر لغير وفد نجرانَ في هذه السورة ولا قبل هذه الآية، ذكرُ قوم ادَّعوا أنهم يحبُّون الله، ولا أنهم يعظمونه، فيكون قوله."إن كنتم تحبون الله فاتبعوني" جوابًا لقولهم، على ما قاله الحسن.
وأمّا ما روى الحسن في ذلك مما قد ذكرناه، فلا خبر به عندنا يصحّ، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك، وإن لم يكن في السورة دلالة على أنه كما قال. إلا أن يكون الحسن أرادَ بالقوم الذين ذكر أنهم قالوا ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفدَ نَجران من النصارى، فيكون ذلك من قوله نظير اختيارنا فيه. (1)
فإذْ لم يكن بذلك خبر على ما قلنا، ولا في الآية دليلٌ على ما وصفنا، فأولى الأمور بنا أن نُلحق تأويله بالذي عليه الدّلالة من آي السورة، وذلك هو ما وصفنا. لأن ما قبل هذه الآية من مبتدأ هذه السورة وما بعدها، خبرٌ عنهم، واحتجاجٌ من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودليل على بُطول قولهم في المسيح. فالواجب أن تكون هي أيضًا مصروفةَ المعنى إلى نحو ما قبلها ومعنى ما بعدها.
* * *
قال أبو جعفر: فإذْ كان الأمر على ما وصفنا، فتأويلُ الآية: قل، يا محمد، للوفد من نصارى نجران: إن كنتم كما تزعمون أنكم تحبون الله، (2) وأنكم تعظمون المسيح وتقولون فيه ما تقولون، حبًّا منكم ربَّكم = فحققوا قولكم الذي تقولونه، إن كنتم صادقين، باتباعكم إياي، فإنكم تعلمون أني لله رسولٌ إليكم، كما كان عيسى رسولا إلى من أرسل إليه، فإنه = إن اتبعتموني وصدّقتموني على
__________
(1) في المطبوعة: "نظير أخبارنا"، وفي المخطوطة: "نظير احسار بالله" غير منقوطة. وظاهر أن المطبوعة حذفت ما كان رسمه"لله"، وظاهر أن قراءتنا لنصها هو الصواب إن شاء الله.
(2) في المطبوعة: "إن كنتم تزعمون ... " بحذف"كما"، فأثبتها من المخطوطة.(6/324)
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
ما أتيتكم به من عند الله = يغفرُ لكم ذنوبكم، فيصفح لكم عن العقوبة عليها، ويعفو لكم عما مضى منها، فإنه غفور لذنوب عباده المؤمنين، رحيمٌ بهم وبغيرهم من خلقه.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قل، يا محمد، لهؤلاء الوفد من نصارى نجران: أطيعوا الله والرسول محمدًا، فإنكم قد علمتم يقينًا أنه رسولي إلى خلقي، ابتعثتُه بالحق، تجدونه مكتوبًا عندكم في الإنجيل، فإن تولَّوا فاستدبروا عما دعوتهم إليه من ذلك، وأعرضوا عنه، فأعلمهم أن الله لا يحبُّ من كفر بجحد ما عرف من الحق، وأنكره بعد علمه، (1) وأنهم منهم، (2) بجحودهم نبوّتك، وإنكارهم الحقّ الذي أنت عليه، بعد علمهم بصحة أمرك، وحقيقة نبوتك، كما:-
6850 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قل أطيعوا الله والرسول"، فأنتم تعرفونه - يعني الوفد من نصارى نجران - وتجدونه في كتابكم="فإن تولوا" على كفرهم ="فإن الله لا يحبّ الكافرين". (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "من كفر بجحد ما عرف ... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) قوله: "وأنهم منهم"، معطوف على قوله: "فأعلمهم أن الله لا يحب من كفر ... "، "وأنهم منهم"، أي من هؤلاء الذين لا يحبهم الله، بجحودهم نبوتك.
(3) الأثر: 6850- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 6849.(6/325)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن الله اجتبى آدمَ ونوحًا واختارهما لدينهما = وآل إبراهيم وآل عمران لدينهم الذي كانوا عليه، لأنهم كانوا أهل الإسلام. فأخبرَ الله عز وجل أنه اختار دين مَنْ ذكرنا على سائر الأديان التي خالفته. (1)
وإنما عنى ب"آل إبراهيم وآل عمران"، المؤمنين.
* * *
وقد دللنا على أن"آل الرجل"، أتباعه وقومه، ومن هو على دينه. (2)
* * *
وبالذي قلنا في ذلك روى القول عن ابن عباس أنه كان يقوله.
6851 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين"، قال: هم المؤمنون من آل إبراهيم وآل عمران وآل ياسين وآل محمد، يقول الله عز وجل: (إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) [سورة آل عمران: 68] ، وهم المؤمنون.
6852 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم وآلَ عمران على العالمين"، رجلان نبيَّان اصطفاهما الله على العالمين.
6853 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إنّ الله اصطفى آدمَ ونوحًا وآلَ إبراهيم وآلَ عمران على العالمين"، قال: ذكر الله أهلَ بيتين صالحين، ورجلين صالحين، ففضلهم
__________
(1) انظر تفسير"اصطفى" فيما سلف 3: 91، 69 / ثم 5: 312، 313.
(2) انظر ما سلف 2: 37 / 3: 222، تعليق: 1.(6/326)
ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
على العالمين، فكان محمدٌ من آل إبراهيم.
6854 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"إن الله اصطفى آدم ونوحًا وآل إبراهيم" إلى قوله:"والله سميع عليم"، قال: فضلهم الله على العالمين بالنبوّة، على الناس كلهم، كانوا هم الأنبياء الأتقياءَ المصطفين لربهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: إن الله اصطفى آلَ إبراهيم وآل عمران"ذريةً بعضها من بعض".
* * *
ف"الذرية" منصوبة على القطع من"آل إبراهيم وآل عمران"، لأن"الذرية"، نكرة،"وآل عمران" معرفة. (2)
ولو قيل نصبت على تكرير"الاصطفاء"، لكان صوابًا. لأن المعنى: اصطفى ذريةً بعضُها من بعض. (3)
* * *
وإنما جعل"بعضهم من بعض" في الموالاة في الدين، والمؤازرة على الإسلام والحق، كما قال جل ثناؤه: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) [سورة التوبة: 71] ، وقال في موضع آخر: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ) [سورة التوبة: 67] ، يعني: أنّ دينهم واحدٌ وطريقتهم واحدة، فكذلك قوله:
__________
(1) في المطبوعة: "المطيعين لربهم"، كما في الدر المنثور 2: 17، 18، ولكن المخطوطة واضحة جدًا، ومطابقة لقوله تعالى: "إن الله اصطفى آدم ... ".
(2) انظر ما سلف في معنى"القطع"، وهو الحال، قريبًا ص: 270، تعليق: 3.
(3) انظر معاني القرآن للفراء 1: 207.(6/327)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35)
"ذرية بعضها من بعض"، إنما معناه: ذرية دينُ بعضها دينُ بعض، وكلمتهم واحدةٌ، وملتهم واحدة في توحيد الله وطاعته، كما:-
6855 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذرية بعضها من بعض"، يقول: في النية والعمل والإخلاص والتوحيد له.
* * *
وقوله:"والله سميعٌ عليمٌ"، يعني بذلك: والله ذُو سمع لقول امرأة عمران، وذو علم بما تضمره في نفسها، إذ نذَرت له ما في بطنها مُحرَّرًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) }
يعني بقوله جل ثناؤه:"إذ قالت امرأة عمران ربّ إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني"، فـ"إذْ" من صلة"سميع". (1)
* * *
وأمّا"امرأة عمران"، فهي أم مريم ابنة عمران، أم عيسى ابن مريم صلوات الله عليه. وكان اسمها فيما ذكر لنا حَنَّة ابنة فاقوذ بن قتيل، (2) كذلك:-
6856 - حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه = وقال غير ابن حميد: ابنة فاقود - بالدال - ابن قبيل. (3)
* * *
فأما زوجها"عمران"، فإنه: عمران بن ياشهم بن أمون بن منشا بن حزقيا بن
__________
(1) يعني أن الظرف"إذ" متعلق بقوله: "سميع" في الآية السابقة. وقد ظن الناشر الأول للتفسير، أن في الكلام سقطًا، وليس كذلك، والكلام تام لا خرم فيه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "قتيل" في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "قتيل" في الموضعين وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13.(6/328)
أحزيق (1) بن يوثم (2) بن عزاريا (3) بن أمصيا بن ياوش بن أحزيهو (4) بن يارم بن يهفاشاط بن أسابر (5) بن أبيا بن رحبعم بن سليمان بن داود بن إيشا، كذلك:-
6857 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في نسبه.
* * *
وأما قوله:"رَبّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا"، فإنّ معناه: إني جعلت لك يا رب نَذْرًا أنّ لك الذي في بطني محرّرًا لعبادتك. يعني بذلك: حبستُه على خدمتك وخدمة قُدْسك في الكنيسة، عتيقةً من خدمة كلّ شيء سواك، مفرّغة لك خاصة.
* * *
ونصب"محرّرًا" على الحال مما في الصفة من ذكر"الذي". (6)
* * *
"فتقبل مني"، أي: فتقبل مني ما نذرت لك يا ربّ ="إنك أنت السميع
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أحريق" وأثبت ما في تاريخ الطبري 2: 13.
(2) في المطبوعة: "يويم"، وفي المخطوطة غير منقوطة، وفي تاريخ الطبري: "يوثام" فجعلتها"ثاء" بغير ألف، مطابقة للرسم.
(3) في تاريخ الطبري"عزريا" بغير ألف.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "أحريهو" بالراء.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "يازم" بالزاي، وفي تاريخ الطبري: "يهشافاظ"، وكأنه الصواب. وفي المطبوعة: "أشا" بالشين المعجمة، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، بيد أن في المخطوطة والمطبوعة، قد جعل هذا والذي بعده اسمًا واحدًا كتب هكذا: "أسابرابان" والصواب ما أثبت من تاريخ الطبري.
(6) في المطبوعة: "ونصب محررًا على الحال من (ما) التي بمعنى (الذي) ". فغيروا ما في المخطوطة، وأساءوا أشد الإساءة، ونسبوا إلى أبي جعفر إعرابًا لم يقل به، ومذهبًا لم يذهب إليه. فإن تصحيح المصحح جعل"محررًا" حالا من"ما"، والذي ذهب إليه الطبري أن"محررًا" حال من الضمير الذي في الجار والمجرور"في بطني"، والعامل في الجار والمجرور هو"استقر". وبين الإعرابين فرق بين. انظر تفسير أبي حيان 1: 437، وتفسير الألوسي 3: 118 وغيرهما. والذي أفضى به إلى هذا التبديل أنه استبهم عليه معنى"الصفة"، وهو: حرف الجر، وحروف الصفات هي حروف الجر، كما مضى 1: 299 تعليق: 1 / 3: 475 تعليق: 1 / 4: 227 تعليق: 1 / ثم: 247 تعليق: 3.(6/329)
العليم"، يعني: إنك أنتَ يا رب"السميع" لما أقول وأدعو ="العليمُ" لما أنوي في نفسي وأريد، لا يخفى عليك سرّ أمري وعلانيته. (1)
* * *
وكان سبب نذر حَنة ابنة فاقوذ، امرأة عمران = الذي ذكره الله في هذه الآية فيما بلغنا، ما:-
6858 - حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: تزوج زكريا وعمران أختين، فكانت أمّ يحيى عند زكريا، وكانت أم مَريم عند عمرانَ، فهلك عمران وأم مريم حاملٌ بمريم، فهي جنينٌ في بطنها. قال: وكانت، فيما يزعمون، قد أمسك عنها الولد حتى أسنَّت، وكانوا أهل بيت من الله جل ثناؤه بمكان. فبينا هي في ظلّ شجرة نظرت إلى طائر يُطعم فرخًا له، فتحرّكت نفسُها للولد، فدعت الله أن يهبَ لها ولدًا، فحملت بمريم، وهلك عمران. فلما عرفت أن في بطنها جنينًا، جعلته لله نَذيرةً = و"النذيرة"، أن تعبِّده لله، فتجعله حبيسًا في الكنيسة، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا.
6859 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال = ثم ذكر امرأة عمران وقولها:"ربّ إني نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا" = أي نذرته، تقول: جعلته عتيقًا لعبادة الله، لا ينتفع به بشيء من أمور الدنيا = (2) "فتقبَّل مني إنك أنتَ السميع العليم". (3)
6860- حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة
__________
(1) انظر معنى"النذر" فيما سلف 5: 580.
(2) نص ابن هشام: "أي: نذرته فجعلته عتيقًا، تعبده لله، لا ينتفع به لشيء من الدنيا"، فتركت رواية الطبري على حالها.
(3) الأثر: 6859- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو بقية الآثار السالفة التي آخرها رقم: 6850.(6/330)
قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"محررًا"، قال: خادمًا للبِيعة. (1)
6861 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد قال: خادمًا للكنيسة.
6862 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، أخبرنا إسماعيل، عن الشعبي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا"، قال: فرّغته للعبادة.
6863 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: جعلته في الكنيسة، وفرّغته للعبادة.
6864 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن إسماعيل، عن الشعبي نحوه.
6865 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: للكنيسة يخدُمها.
6866 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6867 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: خالصًا، لا يخالطه شيء من أمر الدنيا.
6868 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء،
__________
(1) الأثر: 6860-"عبد الرحمن بن الأسود بن المأمون، مولى بني هاشم" بغدادي، روى عن محمد بن ربيعة، وروى عنه الترمذي والنسائي، وابن جرير. مترجم في التهذيب. و"محمد بن ربيعة الكلابي الرؤاسي" ابن عم وكيع. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
والبيعة (بكسر الباء) : كنيسة النصارى، أو كنيسة اليهود.(6/331)
عن سعيد بن جبير:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: للبيعة والكنيسة.
6869 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحمانيّ قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: محرّرًا للعبادة.
6870 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إذ قالت امرأة عمران رَبّ إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، الآية، كانت امرأة عمران حَرّرت لله ما في بطنها، وكانوا إنما يحرّرُون الذكور، وكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرَحها، يقوم عليها ويكنُسها.
6871 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: نذرت ولدها للكنيسة.
6872 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ما في بطني محرّرًا فتقبل مني إنك أنت السميع العليم"، قال: وذلك أن امرأة عمران حملت، فظنت أن ما في بطنها غلام، فوهبته لله محرّرًا لا يعمل في الدنيا.
6873 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرَت لله ما في بطنها. قال: وكانوا إنما يحرّرون الذكور، فكان المحرَّر إذا حُرِّر جعل في الكنيسة لا يبرحها، يقوم عليها ويكنسها.
6874 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، قال: جعلت ولدها لله، وللذين يدرُسون الكتاب ويتعلَّمونه.
6875 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة: أن امرأة عمران كانتْ عجوزًا عاقرًا تسمى حَنَّة، وكانت لا تلد، فجعلت تغبطُ النساء لأولادهن، فقالت: اللهمّ إنّ عليّ نذرًا شكرًا إن رزقتني(6/332)
فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
ولدًا أن أتصدّق به على بيت المقدس، فيكون من سَدَنته وُخدَّامه. قال: وقوله:"نذرتُ لك ما في بطني محرّرًا" = إنها للحرّة ابنة الحرائر ="محررًا" للكنيسة يخدمها.
6876 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إذ قالت امرأة عمران" الآية كلها قال: نذرت ما في بطنها، ثم سيَّبَتْها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فلما وضعتها"، فلما وضعت حَنَّة النذيرةَ، ولذلك أنث. ولو كانت"الهاء" عائدة على"ما" التي في قوله:"إني نذرت لك ما في بطني محررًا"، لكان الكلام:"فلما وضعته قالتْ رب إني وضعته أنثى".
* * *
ومعنى قوله: (وضعتها) "، ولدتها. يقال منه:"وضعت المرأة تَضَع وضْعًا".
* * *
__________
(1) سيب الشيء: تركه. وسيب الناقة أو الدابة: تركها تسيب حيث شاءت، والدابة سائبة، فإذا كانت نذرًا، كان لا ينتفع بظهرها، ولا تحلأ عن ماء، ولا تمنع من كلأ، ولا تركب. وهي التي قال الله فيها"ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة". ثم قيل منه للعبد إذا أعتقه مولاه، وأراد أن لا يجعل ولاءه إليه، فهو لا يرثه، وللمعتق أن يضع نفسه وماله حيث شاء"سائبة". انظر ما سلف 3: 386 في خبر أبي العالية.
أما قوله: "سيبتها" هنا، فإنه أراد أنها جعلتها سائبة لله، ليس لأحد عليها سبيل، وهو قريب من معنى"التحرير".(6/333)
="قالت ربّ إني وضعتها أنثى"، أي: ولدت النذيرة أنثى ="والله أعلم بما وضعت".
* * *
واختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة القرأة: (وَضَعَتْ) ، خبرًا من الله عز وجل عن نفسه: أنه العالم بما وضعت، من غير قيلها:"ربّ إني وضعتها أنثى".
* * *
وقرأ ذلك بعض المتقدّمين: (وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ) على وجه الخبر بذلك عن أم مريم أنها هي القائلة:"والله أعلم بما ولدتُ مني".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب ما نقلته الحجة مستفيضة فيها قراءته بينها، لا يتدافعون صحتها. وذلك قراءة من قرأ"والله أعلم بما وضعتْ"، ولا يعترض بالشاذّ عنها عليها.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: والله أعلم من كل خلقه بما وضعت = ثم رجع جل ذكره إلى الخبر عن قولها، وأنها قالت - اعتذارًا إلى ربها مما كانت نذرتْ في حملها فحررته لخدمة ربها -:"وليس الذكر كالأنثى"، لأن الذكر أقوى على الخدمة وأقوم بها، وأن الأنثى لا تصلح في بعض الأحوال لدخول القدْس والقيام بخدمة الكنيسة، لما يعتريها من الحيض والنفاس ="وإني سميتها مريم"، كما:-
6877 - حدثني ابن حميد قال، ثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى"، أي: لما جعلتها محرّرًا له نذيرة. (1)
6878 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق:
__________
(1) الأثر: 6877- سيرة ابن هشام 2: 228، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 6859. ونص ابن هشام في المطبوعة الأوربية: "لما جعلتها محررًا له نذيرة" كنص الطبري هنا، وفي مطبوعة الحلبي: "محررًا لك"، وفي إحدى نسخ سيرة ابن هشام"محررة"، وهي صواب جيد، ولكن مطبوعة الطبري غيرت نص المخطوطة الذي أثبته، فجعلتها: "لما جعلتها له محررة نذيرة"، ولست أدري لم فعل ذلك!!(6/334)
"وليس الذكر كالأنثى"، لأن الذكر هو أقوى على ذلك من الأنثى.
6879 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وليس الذكر كالأنثى"، كانت المرأة لا يستطاع أن يصنع بها ذلك = (1) يعني أن تحرر للكنيسة، فتجعل فيها، تقوم عليها وتكنسها فلا تبرحها = مما يصيبها من الحيض والأذى، فعند ذلك قالت: (2) "ليس الذكر كالأنثى".
6880 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"قالت رب إني وضعتها أنثى"، وإنما كانوا يحرّرون الغلمان - قال:"وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم".
6881 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كانت امرأة عمران حرّرت لله ما في بطنها، وكانت على رَجاء أن يهبَ لها غلامًا، لأن المرأة لا تستطيع ذلك = يعني القيامَ على الكنيسة لا تَبرحها، وتكنُسها = لما يصيبها من الأذى.
6882 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أن امرأة عمران ظنتّ أن ما في بطنها غلامٌ، فوهبته لله. فلما وضعت إذا هي جارية، فقالت تعتذر إلى الله:"رب إني وضعتها أنثى وليس الذكر كالأنثى"، تقول: إنما يحرّر الغلمان. يقول الله:"والله أعلم بما وضعت"، فقالت:"إني سَمّيتها مريم".
__________
(1) في المطبوعة: "لا تستطيع"، وفي المخطوطة: "لا تستطاع"، وهو الصواب، إلا أن الناسخ أخطأ فجعلها بالتاء الفوقية.
(2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة، وأنا أرجح أن الصواب: "فعن ذلك قالت"، أي من أجل ذلك قالت. و"عن" هنا بمعنى التعليل، كما في قوله تعالى: "وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك". وهي عبارة مشهورة من نهج عبارات القدماء، وهي أجود من نص المخطوطة والمطبوعة وأشبه بالعربية.(6/335)
6883 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة:"فلما وضعتها قالت رَبّ إني وضعتها أنثى" ="وليس الذكر كالأنثى"، يعني: في المحيض، ولا ينبغي لامرأة أن تكون مع الرجال = أمها تقول ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36) }
قال أبو جعفر: تعني بقولها:"وإني أعيذُها بك وذُريتها"، وإني أجعل مَعاذها ومَعاذ ذرّيتها من الشيطان الرجيم، بك.
* * *
وأصل"المعاذ"، الموئل والملجأ والمعقل. (1)
* * *
= فاستجاب الله لها، فأعاذها الله وذرّيتها من الشيطان الرجيم، فلم يجعل له عليها سبيلا.
* * *
6884 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من نَفْس مولود يُولد إلا والشيطان ينال منه تلك الطعنة، ولها يَستهلّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران، فإنها لما وضعتها قالت:"رب إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، فضُرب دُونها حجاب، فطعَن فيه. (2)
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"عاذ يعوذ" 1: 111، قال: "الاستعاذة: الاستجارة".
(2) الحديث: 6884 - يزيد بن عبد الله بن قسيط الليثي المدني: تابعي فقيه ثقة من الثقات، من شيوخ مالك، احتج به في مواضع من الموطأ. وأخرج له الجماعة.
والحديث سيأتي، عقب هذا، بإسنادين آخرين إلى ابن إسحاق، بهذا الإسناد، نحوه.
وأشار إليه ابن كثير في التاريخ 2: 57، من رواية ابن إسحاق، دون تعيين في تخريجه.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 594، من طريق إسماعيل بن جعفر، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هرير. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وإسماعيل بن جعفر بن أبي كثير، قارئ أهل المدينة: ثقة مأمون، شارك مالكًا في أكثر شيوخه.
ووقع في المستدرك ومختصر الذهبي: "يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبيه، عن أبي هريرة". وزيادة"عن أبيه" في الإسناد - خطأ صرف، لا معنى لها. وأرجح أنه خطأ من ناسخي المستدرك. فإن والد يزيد هذا - غير معروف بالرواية، ولم يذكره أحد في رواة الحديث.
ثم رواه ابن جرير بنحوه، بأسانيد متعددة، إلى رقم: 6899. وكلها عن أبي هريرة، إلا: 6893، فإنه عن ابن عباس.(6/336)
6885 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود من ولد آدم له طَعنةٌ من الشيطان، وبها يستهلُّ الصبي، إلا ما كان من مريم ابنة عمران وولدها، فإنّ أمها قالت حين وضعتها:"إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم"، فضرب دونهما حجاب، فطَعَن في الحجاب.
6886 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن يزيد بن عبد الله بن قسيط، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
6887 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من بني آدم مولودٌ يولد إلا قد مسَّه الشيطان حين يولد، فيستهلّ صارخًا بمسِّه إياه، غير مريم وابنها. قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:"إني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم". (1)
__________
(1) الحديث: 6887 -عمرو- شيخ هارون: هو عمرو بن أبي قيس الرازي الأزرق، وهو ثقة، أثنى عليه الثوري.
شعيب بن خالد البجلي، قاصي الري: ثقة، أثنى عليه الثوري أيضًا. وقال ابن عيينة: "حفظ من الزهري ومالك شابًا".
وهو هنا يروي عن"الزهري". ووقع في المطبوعة"الزبير" بدل"الزهري". وهو خطأ. صوابه من المخطوطة.
والحديث رواه البخاري 6: 338 - 339، من طريق شعيب، عن الزهري، بهذا، بنحوه. و"شعيب" - في إسناد البخاري-: هو"شعيب بن أبي حمزة الحمصي". وأما "شعيب بن خالد" فلم يرو له من أصحاب الكتب الستة غير أبي داود.
وكذلك رواه مسلم 2: 224، من طريق شعيب بن أبي حمزة.
وانظر: 6891.(6/337)
6888 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني ابن أبي ذئب، عن عجلان مولى المشمعِلّ، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل مولود يولد من بني آدم يمسُّه الشيطان بإصبعه، إلا مريم وابنها. (1)
6889 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث: أن أبا يونس سُليماً مولى أبي هريرة حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: كل بني آدم يمسُّه الشيطان يوم ولدته أمه، إلا مريم وابنها. (2)
6890 - حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمران، أن
__________
(1) الحديث: 6888- عجلان مولى المشمعل: تابعي ثقة.
والحديث: رواه أحمد في المسند: 7866، عن إسماعيل بن عمر: و: 7902، عن يزيد بن هارون، و: 7902، عن هاشم بن القاسم (2: 288، 292، 319 حلبي) - ثلاثتهم عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن الرواية الأولى من روايات المسند.
وذكره في التفسير 2: 130، من رواية ابن وهب - إشارة إلى رواية الطبري هذه.
(2) الحديث: 6889 - عمرو بن الحارث بن يعقوب المصري: مضت ترجمته في: 1387.
سليم - بضم السين - بن جبير، أبو يونس مولى أبي هريرة: تابعي مصري ثقة.
وقع في المطبوعة: "أن أبا يونس سليمان"، بزيادة النون في آخر الاسم. وصوابه من المخطوطة"سليما"، بالتنوين. بل في رواية مسلم طبعة بولاق: "أن أبا يونس سليم مولى أبي هريرة"، فرسم بالتنوين دون ألف، على لغة ربيعة، في الوقوف على المنصوب بالسكون.
والحديث رواه مسلم 2: 224، من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، بهذا الإسناد.(6/338)
أبا يونس حدثه، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله. (1)
6891 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن ابن المسيب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا يمسُّه الشيطان، فيستهل صارخًا من مسَّةِ الشيطان، إلا مريم وابنها. ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم:"وإني أعيذُها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم". (2)
6892 - حدثني المثنى قال، حدثني الحماني قال، حدثنا قيس، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما من مولود يولد إلا وقد عَصَره الشيطان عَصرةً أو عصرتين، إلا عيسى ابن مريم ومريم. ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم". (3)
__________
(1) الحديث 6890 -"عمران" - في الإسناد: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة. ولا ندري من هو؟ والظاهر أنه خطأ من الناسخين، فرجح أن صوابه"ابن عمران". فإن يكنه يكن"حرملة بن عمران التجيبي المصري". وهو ثقة، يروي عن سليم بن جبير مولى أبي هريرة، راوي هذا الحديث. ويروي عنه ابن وهب. وهو الصواب إن شاء الله.
(2) الحديث: 6891- مضى بنحوه: 6887، من رواية شعيب بن خالد عن الزهري. وأشرنا هناك إلى رواية شعيب بن أبي حمزة عن الزهري. وهذه رواية معمر عن الزهري.
وقد رواه أحمد في المسند: 7694، عن عبد الرزاق، عن معمر، به. ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن رواية المسند.
وكذلك رواه البخاري 8: 159، ومسلم 2: 224 كلاهما من طريق عبد الرزاق.
ورواه أحمد أيضًا: 7182، عن عبد الأعلى، عن معمر، به.
وكذلك رواه مسلم 2: 224، من طريق عبد الأعلى.
(3) الحديث: 6892 - الحماني، بكسر الحاء المهملة وتشديد الميم: هو يحيى بن عبد الحميد ابن عبد الرحمن، أبو زكريا الحافظ. وقد اختلف فيه كثيرًا، والراجح عندي أنه ثقة. وقد وثقه ابن معين. وقال فيه غيره كلامًا شديدًا. ولكن المنصف إذا تتبع ترجمته مع إنصاف اقتنع بتوثيقه. مترجم في التهذيب، والكبير 4 / 2 / 291، والصغير: 229، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 168-170، وتاريخ بغداد 14: 167- 177، وتذكره الحفاظ 2: 10-11.
قيس: هو ابن الربيع الأسدي، وهو ثقة، كما رجحنا في: 4842.
والحديث - من هذا الوجه - ذكره ابن كثير في التفسير 2: 130، والتاريخ 2: 57 - تعليقًا عن قيس، دون أن يبين مخرجه.
ولكن سياق كلامه في التفسير يدل على أنه يشير إلى روايته عند الطبري، يعني هذا الإسناد.
فإنه ذكر في التفسير رواية الطبري الآتية: 6899، ثم قال: "وروي من حديث قيس، عن الأعمش. . ." - إلخ. فهذا الفعل"روى"، ينبغي أن يقرأ مبنيًا للفاعل، فيكون معناه أن ابن جرير"روى من حديث قيس". ولا نرى أن يقرأ بالبناء لما لم يسم فاعله. لأن علماء الحديث وأئمته، أمثال ابن كثير - لا يستعملون صيغة التمريض هذه، بالبناء للمجهول، إلا في الأحاديث الواهية الإسناد. ولا يذكر الأحاديث الجياد بصيغة التمريض إلا جاهل أو غافل.
ثم ذكر ابن كثير - بعد حديث قيس هذا، عطفًا عليه - ما نصه: "ومن حديث العلاء، عن أبيه، عن أبي هريرة".
فهذه إشارة منه إلى إسناد آخر. أرجح أنه رواه أيضًا الطبري، بعد حديث قيس. ولعله سقط سهوًا من الناسخين.
فرأيت - تمامًا للسياق- أن أذكره هنا من رواية أحمد، واحتياطًا أيضًا:
فقال الإمام أحمد في المسند: 8801 (ج 2 ص 368 حلبي) : "حدثنا هُشيم، قال: حدثنا حفص بن ميسرة، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل إنسانٍ تَلِدُه أُمُّه يَلْكُزُه الشَّيطانُ بِحِضْنَيْه، إِلاّ ما كان مِن مريمَ وابنها، أَلَمْ تَرَوْا إِلى الصَّبِيّ حين يَسْقُطُ، كيفَ يَصْرُخُ؟ قالوا: بلى يا رسول الله! قال: فَذَاكَ حين يَلْكُزُه الشيطان بِحِضْنَيْه".
وهذا إسناد صحيح، على شرط مسلم.
ورواية قيس بن الربيع ذكرها السيوطي 2: 19، ولم ينسبها لغير الطبري.
وقوله: "عصره الشيطان. . ." - عصر العنب وغيره عصرًا: ضغطه ليستخرج ما فيه. وهو هنا مجاز، أي: شديده عليه وضغطه.(6/339)
6893 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عمرو بن أبي قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما ولد مولود إلا وقد استهلّ، غير المسيح ابن مريم، لم يسلَّط عليه الشيطان ولم يَنْهَزْه. (1)
__________
(1) الحديث: 6893- هذا إسناد صحيح.
ولم أجد هذا الحديث من غير رواية الطبري، وكذلك ذكره السيوطي 2: 19، ولم ينسبه لغيره.
وقوله"ولم ينهزه" - من"التهز"، وهو الدفع."تهزه ينهزه نهزًا": دفعه، مثل"نكزه"، و"وكزه".(6/340)
6894 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا المنذر بن النعمان الأفطس: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما وُلد عيسى أتت الشياطينُ إبليس، فقالوا: أصبحت الأصنام قد نكست رؤوسها! فقال: هذا في حادث حدث! وقال: مكانَكم! (1) فطارَ حتى جاء خَافقي الأرض، فلم يجد شيئًا، (2) ثم جاء البحار فلم يجد شيئًا، ثم طار أيضًا فوجد عيسى قد ولد عند مِذْوَد حمار، (3) وإذا الملائكة قد حفَّت حوله، فرجع إليهم فقال: إن نبيًّا قد ولد البارحة، ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلا أنا بحضرتها، إلا هذه! فَأيِسوا أن تُعبد الأصنام بعد هذه الليلة، (4) ولكن ائتوا بني آدم من قبل الخفَّة والعجَلة. (5)
6895 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإني أعيذُها بك وذريتها من الشيطان الرجيم"، وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: كل بني آدم طَعَن الشيطانُ في جنبه، إلا عيسى ابن مريم وأمه، جُعل بينهما وبينه حجابٌ، فأصابت الطعنة الحجابَ، ولم ينفذ إليهما شيء = وذكر لنا أنهما كانا لا يصيبان الذنوبَ كما يصيبها سائرُ بني آدم. = وذكر لنا أنّ عيسى كان يمشي على البحر كما يمشي على البر، مما أعطاه الله تعالى من اليقين والإخلاص.
__________
(1) في المطبوعة: "فقال"، والصواب من المخطوطة.
(2) الخافقان: أفق المشرق وأفق المغرب، محيطان بجانبي الأرض.
(3) المذود (بكسر الميم وسكون الذال) : معلف الدابة.
(4) أيس الرجل يأيس يأسًا، لغة في يئس. والأمر منه هنا على هذه اللغة.
(5) الأثر: 6894 - في المخطوطة"أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر المنذر بن النعمان"، أو كأنها تقرأ"معتمر" ثم ضرب على"معمر". والمنذر بن النعمان الأفطس اليماني، روى عن وهب بن منبه. ثقة. روى عنه عبد الرزاق، وروى عنه معتمر بن سليمان، فأخشى أن يكون كان أصل الطبري"حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق ومعتمر قال: أخبر المنذر بن النعمان الأفطس". والمنذر مترجم في الكبير 4 / 1 / 359، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 242، وتعجيل المنفعة: 410.(6/341)
6896 - حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإني أعيذها بك وذرّيتها من الشيطان الرجيم"، قال: إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: كل آدمي طَعن الشيطان في جنبه غير عيسى وأمه، كانا لا يُصيبان الذنوب كما يصيبُها بنو آدم. قال: وقال عيسى صلى الله عليه وسلم فيما يثني على ربَه: وأعاذني وأمي من الشيطان الرجيم، فلم يكن له علينا سبيلٌ. (1)
6897 - حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا شعيب بن الليث قال، حدثنا الليث، عن جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كل بني آدم يَطعن الشيطان في جنبه حين تلده أمه، إلا عيسى ابن مريم، ذهب يطعَن فطعَن في الحجاب. (2)
6898 - حدثنا الربيع قال، حدثنا شعيب قال، أخبرنا الليث، عن
__________
(1) الأثران: 6895، 6896 - هذان خبران مرسلان كما هو ظاهر.
(2) الحديث: 6897- جعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة المصري: ثقة من شيوخ الليث بن سعد. أخرج له الجماعة.
عبد الرحمن بن هرمز الأعرج المدني: تابعي ثقة مشهور، من شيوخ الزهري وأبي الزناد. كان الناس يقرأون عليه حديثه عن أبي هريرة. انظر المسند: 7276، وابن سعد 5: 209، وهذا يرد على من يزعم أن الأحاديث لم تكتب إلا في عصر مالك. وهذا عبد الرحمن شيخ شيوخ مالك، ومات سنة 117.
والحديث ذكره ابن كثير في التفسير 2: 130، من رواية الليث بن سعد، بهذا الإسناد. ولم يذكر من خرجه، فهو إشارة منه إلى رواية الطبري هذه.
وقد رواه أحمد في المسند: 10783 (ج 2 ص 523 حلبي) ، عن عبد الملك بن عمرو، عن المغيرة - وهو ابن عبد الرحمن الحزامي - عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا، بنحوه.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن رواية المسند. وقال: "وهذا على شرط الصحيحين. ولم يخرجوه من هذا الوجه".
ووقع في ابن كثير"المغيرة، وهو ابن عبد الله الحزامي"، وهو خطأ مطبعي.
ولسنا نوافق ابن كثير على دعواه أنهم"لم يخرجوه من هذا الوجه" - فإن البخاري رواه 6: 242، عن أبي اليمان، عن شعيب، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة، مرفوعًا، بنحو روايتي المسند والطبري.
فهذا من هذا الوجه: يجتمع مع إسناد المسند في"أبي الزناد"، ومع إسناد الطبري في"الأعرج".(6/342)
جعفر بن ربيعة، عن عبد الرحمن بن هرمز أنه قال: قال أبو هريرة: أرأيتَ هذه الصرخة التي يَصرُخها الصبيُّ حين تلده أمه؟ فإنها منها. (1)
6899 - حدثني أحمد بن الفرج قال، حدثنا بقية بن الوليد قال، حدثنا الزُّبيديّ، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما من بني آدم مولودٌ إلا يمسُّه الشيطان حين يولدُ يستهلّ صارخًا. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 6898- وهذا حديث صحيح، بالإسناد السابق نفسه. وظاهره أنه موقوف، من كلام أبي هريرة. وعن ذلك - فيما أرى - فصله الطبري عن المرفوع الذي قبله.
ومعناه ثابت صحيح، من حديث أبي هريرة مرفوعًا:
فرواه مسلم 2: 224، من رواية سهيل - وهو ابن أبي صالح - عن أبيه، عن أبي هرير، قال: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صياح المولود حين يقع، نزغة من الشيطان".
ثم معناه ثابت مرفوعًا، ضمن بعض الأحاديث الصحاح السابقة.
(2) الحديث: 6899 - بقية بن الوليد الحمصي: ثقة. تكلموا فيه من أجل تدليسه، فإذا صرح بالسماع - كما هنا - كانت روايته صحيحة.
الزبيدي - بضم الزاي: هو محمد بن الوليد بن عامر الحمصي. وهو ثقة، روى له الشيخان.
والحديث ذكره ابن كثير في التاريخ 2: 57، عن الموضع، دون أن يسوق لفظه. ووقع فيه تسمية الزبيدي"عبد الله بن الزبيدي"! وهو تحريف من ناسخ أو طابع. ولا يوجد راو بهذا الاسم.
وهذه الرواية، هي من رواية الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة. وقد مضى الحديث بنحوه: 6887، 6891، من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة. ولا تعل إحدى الروايتين بالأخرى. فالزهري له إذن في هذا الحديث شيخان.
وقد أشار الحافظ في الفتح 6: 338 إلى هذه الرواية، عند رواية الزهري عن ابن المسيب، فقال: "كذا قال أكثر أصحاب الزهري. وقال الزبيدي: عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة. أخرجه الطبري".
ووقع في الفتح"السدي" بدل"الزبيدي". وهو تحريف من الناسخين.(6/343)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
القول في تأويل قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك: أن الله جل ثناؤه تقبّل مريمَ من أمها حَنَّة، وتحريرَها إياها للكنيسة وخدمتها وخدمة ربها = (1) "بقبول حَسن".
* * *
"والقبول" مصدر من:"قبِلها ربُّها"، فأخرج المصدر على غير لفظ الفعل. ولو كانَ على لفظه لكان:"فتقبلها ربها تقبُّلا حسنًا". وقد تفعل العرب ذلك كثيرًا: أن يأتوا بالمصادر على أصول الأفعال، وإن اختلفت ألفاظها في الأفعال بالزيادة، وذلك كقولهم:"تكلم فلان كلامًا"، ولو أخرج المصدر على الفعل لقيل:"تكلم فلان تكلمًا". ومنه قوله:"وأنبتها نباتًا حسنًا"، ولم يقل: إنباتًا حسنًا. (2)
وذكر عن أبي عمرو بن العلاء أنه قال: لم نسمع العرب تضم القاف في"قبول"، وكان القياس الضمّ، لأنه مصدر مثل:"الدُّخول، والخروج". قال: ولم أسمع بحرف آخر في كلام العرب يُشبهه.
6900 - حدثت بذلك عن أبي عبيد قال، أخبرني اليزيدي، عن أبي عمرو.
* * *
وأما قوله:"وأنبتها نباتًا حسنًا"، فإن معناه: وأنبتها رَبُّها في غذائه ورزْقه نباتًا حسنًا، حتى تمّت فكملت امرأةً بالغةً تامة، كما:-
__________
(1) في المطبوعة: "بتحريرها"، وفي المخطوطة"تحريرها" بغير باء قبلها، وكأن الصواب"وتحريرها" كما أثبت، معطوفًا على"تقبل مريم".
(2) انظر بيان ذلك فيما سلف 1: 116، وقد عدد هناك شواهده / ثم 5: 533، 534.(6/344)
6901 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال الله عز وجل:"فتقبلها ربها بقبول حسن"، قال: تقبل من أمها ما أرادت بها للكنيسة، وأجرَها فيها ="وأنبتها"، قال: نبتت في غذاء الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"وكفلها"
فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والمدينة والبصرة: (وَكَفَلَهَا) مخففة"الفاء". بمعنى: ضمها زكريا إليه، اعتبارًا بقول الله عز وجل: (يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) [سورة آل عمران: 44] .
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين. (وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا) ، بمعنى: وكفَّلها اللهُ زكريا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندي، قراءة من قرأ: (وَكَفَّلَهَا) مشددة"الفاء"، بمعنى: وكفَّلها الله زكريا، بمعنى: وضمها الله إليه. لأن زكريا أيضًا ضمها إليه بإيجاب الله له ضمَّها إليه بالقُرْعة التي أخرجها اللهُ له، والآية التي أظهرَها لخصومه فيها، فجعله بها أولى منهم، إذ قَرَعَ فيها من شاحَّه فيها. (1)
__________
(1) قرع (بفتح القاف والراء) : أصابته القرعة دونهم. يقال: قارعني فلان فقرعته: خرجت لي القرعة دونه. وشاحه في الأمر وعليه، وتشاحا عليه وفيه (بتشديد الحاء) : إذا تنازعاه، لا يريد كل واحد منهما أن يفوته، كأن بعضهم يشح على بعض فيه.(6/345)
وذلك أنه بلغنا أن زكريا وخصومَه في مريم إذ تنازعوا فيها أيهم تكونُ عنده، تساهموا بقِدَاحهم، فرموا بها في نهر الأردنّ. (1) فقال بعض أهل العلم: ارْتزّ قدح زكريا، (2) فقام ولم يجر به الماء، وجرى بقدَاح الآخرين الماء. فجعل الله ذلك لزكريا علَمًا أنه أحق المتنازعين فيها بها. (3)
* * *
وقال آخرون: بل اصّاعدَ قدح زكريا في النهر، (4) وانحدرت قداحُ الآخرين مع جرية الماء وذهبت، فكان ذلك له علَمًا من الله في أنه أولى القوم بها.
* * *
قال أبو جعفر: وأيّ الأمرين كان من ذلك، فلا شك أن ذلك كان قضاءً من الله بها لزكريا على خصومه، بأنه أولاهم بها، وإذْ كان ذلك كذلك، فإنما ضمها زكريا إلى نفسه بضمّ الله إياها إليه بقضائه له بها على خصومه عند تَشاحِّهم فيها، واختصامهم في أولاهم بها.
__________
(1) في المطبوعة: "رموا بها"، والصواب بالفاء، من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: " رتب قدح زكريا"، ورتب الشيء: ثبت، فهو قريب المعنى. بيد أن المخطوطة جاء فيها"ارتز"، والراء مشبوكة بأسفل التاء، فلذلك لم يستطع الناشر الأول أن يحسن قراءتها. و"رز الشيء في الحائط أو في الأرض يرزه رزًا، فارتز فيه": أثبته فثبت، مثل رز السكين في الحائط، فهو يرتز فيه.
(3) في المطبوعة: "فجعل الله ذلك لزكريا أنه أحق المتنازعين فيها" لم يحسن قراءة المخطوطة فحذف ما أثبت. في المخطوطة"فجعل الله ذلك لزكريا علمًا أنه ... "، وكان النساخ قد كتب"آية"، ثم أعاد على اللفظة نفسها بالقلم، ليجعل"آية""وعلمًا"، فاضطرب الخط، فلم يحسن الناشر قراءتها، فأسقطها، فاختل جانب الكلام. وكان في المخطوطة"المتنازعين فيها ها" فلم يحسن قراءة"ها" الأخيرة، لأن نبرة الباء قد أكلها الناسخ فظلمها ظلمًا شديدًا، فظن الناشر أنها حرف لا معنى له، فقذف به. فاختل جانب آخر من الكلام، فصارت الجملة عرجاء تزك زكا.
(4) في المطبوعة: "بل صعد قدح زكريا"، وفي المخطوطة"صاعد"، أسقط الناسخ الألف قبل الصاد، فأسقط الناشر الألف بعد الصاد!! يقال: "صعد"، و"اصعد" (بتشديد الصاد والعين مفتوحتين) و"اصاعد" (بتشديد الصاد المفتوحة) : ارتفع.(6/346)
وإذْ كان ذلك كذلك؛ كان بيِّنًا أنّ أولى القراءتين بالصواب ما اخترنا من تشديد"كفَّلها".
* * *
وأما ما اعتلَّ به القارئون ذلك بتخفيف"الفاء"، من قول الله: (أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) ، وأن ذلك موجبٌ صحةَ اختيارهم التخفيفَ في قوله:"وكفلها" = فحجة دالةٌ على ضَعف احتيال المحتج بها. (1)
ذلك أنه غير ممتنع ذُو عقل من أن يقول قائل:"كفَّل فلانٌ فلانًا فكفَله فلان". فكذلك القول في ذلك: ألقى القوم أقلامهم: أيهم يكفُل مريم، بتكفيل الله إياه بقضائه الذي يقضي بينهم فيها عند إلقائهم الأقلام.
* * *
قال أبو جعفر: وكذلك اختلفت القرأة في قراءة"زكريا".
فقرأته عامة قرأة المدينة بالمدّ.
وقرأته عامة قرأة الكوفة بالقصر.
وهما لغتان معروفتان، وقراءتان مستفيضتان في قراءة المسلمين، وليس في القراءة بإحداهما خلافٌ لمعنى القراءة الأخرى، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب.
* * *
غيرَ أن الصوابَ عندنا - إذا مُدّ"زكريا" أن يُنصب بغير تنوين، لأنه اسم من أسماء العجم لا يُجرَى، (2) ولأن قراءتنا في"كفَّلها" بالتشديد، وتثقيل"الفاء". فـ"زكرياء" منصوب بالفعل الواقع عليه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "على ضعف اختيار المحتج بها"، وهي فاسدة ضعيفة المعنى، والصواب من المخطوطة. والاحتيال: طلب الحيلة والمخرج.
(2) الإجراء: الصرف. يعني: لا يصرف، لأنه ممنوع من الصرف، كما يقول النحاة.
(3) الواقع عليه: المتعدي إليه. وقد سلف أن"الوقوع" هو"التعدي"، فاطلبه في فهرس المصطلحات.(6/347)
وفي"زكريا" لغة ثالثة لا تجوز القراءة بها، لخلافها مصاحفَ المسلمين، وهو"زكريّ" بحذف المدة و"الياء" الساكنة، تشبهه العرب بالمنسوب من الأسماء، فتنوّنه وتُجْريه في أنواع الإعراب مجاريَ"ياء" النسبة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: وضمها اللهُ إلى زكريا، من قول الشاعر: (2)
فَهُوَ لِضُلالِ الهَوَامِ كَافِل (3)
يراد به: (4) لما ضلّ من متفرّق النعم ومنتشره، ضامٌّ إلى نفسه وجامع. وقد روي:
فَهُوَ لِضُلالِ الهَوافِي كَافِلُ (5)
بمعنى أنه لما ندّ فهرب من النعمَ ضامٌّ من قولهم:"هفا الظَّليم"، إذا أسرَع الطيران.
يقال منه للرجل:"ما لك تكفُل كلَّ ضالة"؟ يعني به: تضمها إليك وتأخذُها.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6902 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاويّ قال حدثنا محمد بن ربيعة، عن النضر بن عربيّ، عن عكرمة في قوله: (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ
__________
(1) انظر مقالة الفراء في"زكريا" في معاني القرآن 1: 208.
(2) غاب عني قائله، وإن كنت أذكر الشعر.
(3) "الهوام"، هي الهوامي، جمع هامية. وهوامي الإبل: ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء: 490.
(4) في المطبوعة: "يراد أنه"، والصواب من المخطوطة.
(5) "الهوام"، وهي الهوامي، جمع هامية. وهوامي الإبل: ضوالها المهملة بلا راع. والهوامي الضوال، وفي حديث عثمان أنه ولي أبا غاضرة الهوافي، أي الإبل الضوال. وانظر طبقات فحول الشعراء: 490.(6/348)
مَرْيَمَ) ، قال: ألقوا أقلامهم فجرَت بها الجِرْية، إلا قلم زكريا اصّاعدَ، (1) فكفلها زكريا.
6903 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وكفلها زكريا"، قال: ضمها إليه. قال: ألقوا أقلامهم - يقول: عصَّيهم - قال: فألقوها تلقاء جِرْية الماء، فاستقبلت عصا زكريا جِرْيةَ الماء، (2) فَقرَعهم.
6904 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ، قال الله عز وجل:"فتقبلها ربُّها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا"، فانطلقت بها أمها في خِرَقها - يعني أمّ مريم بمريم - حين ولدتها إلى المحراب = وقال بعضهم: انطلقت حين بلغتْ إلى المحراب = وكان الذين يكتبون التوراةَ إذا جاءوا إليهم بإنسان يجرّبونه، (3) اقترعوا عليه أيهم يأخذه فيعلمه. وكان زكريا أفضلهم يومئذ، وكان بينهم، وكانت خالة مريم تحته. (4) فلما أتوا بها اقترعوا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا قلم زكريا صاعدًا"، وهو لا معنى له، وانظر ما سلف ص 346 تعليق: 4. وقوله: "الجرية" (بكسر الجيم وسكون الراء) ، وهي حالة الجريان، والذي يسميه كتابنا اليوم: "التيار".
(2) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "فاستقبلت"، ولست أرتضيها، وكأنها"واستعلت"، من قولهم: "علاه وتعلاه واستعلاه"، إذا قهره وغلبه. وفي اللسان مادة (جرى) ما نصه: "ومنه: وعال قلم زكريا الجرية، وجرت الأقلام مع جرية الماء"، وكأن هذا اللفظ"وعالى"، وكلتاهما صواب بمعنى: قهر وغلب، وأعجز الماء أن يحمله. وأما قوله: "فقرعهم"، فقد سلف تفسيرها ص: 345، تعليق: 1.
(3) في المطبوعة، وسنن البيهقي 10: 286 هكذا"يجربونه"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وأخشى أن يكون هذا خطأ، فإني رأيت السيوطي في الدر المنثور 2: 20، خرج هذا الأثر، ونسبه للبيهقي في السنن، وفيه: "إذا جاءوا إليهم بإنسان محرر، اقترعوا عليه ... "، فكأن صواب هذا الحرف"يحررونه" اتصلت الراء بالواو فقرأوها"يجربونه". وهذا الأثر الذي رواه السدي، هو في سنن البيهقي، بإسناد السدي في التفسير، الذي مضى الكلام فيه في رقم: 168، وهو الإسناد الدائر في التفسير. ثم حذف الطبري ما بعد السدي، لما طال الكتاب.
(4) في سنن البيهقي، والدر المنثور: "وكانت أخت مريم تحته"، وهو خطأ لا شك فيه، فإن المقطوع به في التاريخ أن زكريا وعمران أبا مريم، كانا متزوجين بأختين، إحداهما عند زكريا، وهي أم يحيى. والأخرى عند عمران، وهي أم مريم، فمات عمران وأم مريم حامل بمريم. انظر تاريخ الطبري 2: 13.(6/349)
عليها، وقال لهم زكريا: أنا أحقكم بها، تحتي أختها! (1) فأبوا، فخرجوا إلى نهر الأردنّ، فألقوا أقلامهم التي يكتبون بها: أيهم يقوم قلمه فيكفلها. فجرت الأقلام، وقام قلم زكريا على قُرْنتَه كأنه في طين، (2) فأخذ الجارية. وذلك قول الله عز وجل:"وكفلها زكريا"، فجعلها زكريا معه في بيته، وهو المحراب. (3)
6905 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وكفلها زكريا"، يقول: ضمها إليه.
6906 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وكفلها زكريا"، قال: سَهمهم بقلمه. (4)
6907 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، ثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
6908 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، قال: كانت مريم ابنة سيدهم وإمامهم. قال: فتشاحَّ عليها أحبارُهم، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها. قال قتادة: وكان زكريا زوجَ أختها، (5) فكفلها، وكانت عنده وَحضَنَها.
__________
(1) في المطبوعة: "تحتي خالتها"، والصواب ما في الطبري والدر المنثور وسنن البيهقي، وكأن الناشر ظن أنه أراد"أخت مريم"، فغيرها، وإنما أراد زكريا بمقالته، أخت أم مريم، التي جاءت تحملها.
(2) القرنة (بضم فسكون) : الطرف الشاخص من كل شيء. يقال: لحد السيف والسنان والسهم وغيرها"قرنة"، وهو طرفه وذبابه.
(3) الأثر: 6904- سنن البيهقي 10: 286، والدر المنثور 2: 20.
(4) ساهم القوم فسهمهم، وقارعهم فقرعهم: فاز سهمه، وكانت له القرعة أو السهم دون أصحابه.
(5) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "زوج أختها"، وظاهر أن كلام قتادة مختصر، كان في ذكر"أم مريم"، وأن قوله: " زوج أختها"، أي زوج أخت مريم، وقد أسلفت صحة ذلك وبيانه في ص 350 تعليق: 1. وانظر سائر الآثار التي ستأتي بعد.(6/350)
6909 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن القاسم بن أبي بزة: أنه أخبره، عن عكرمة = وأبي بكر، عن عكرمة قال: ثم خرجت بها = يعني: أمّ مريم = بمريم في خِرَقها تحملها إلى بني الكاهن بن هارون، أخي موسى بن عمران. قال: وهم يومئذ يَلون من بيت المقدس ما يلي الحجبةُ من الكعبة، فقالت لهم: دُونكم هذه النذيرة، فإنّي حرّرتها، وهي ابنتي، ولا يدخل الكنيسة حائض، وأنا لا أردُّها إلى بيتي! فقالوا: هذه ابنة إمامنا = وكان عمران يؤُمهم في الصلاة = وصاحب قُرْباننا! (1) فقال زكريا: ادفعوها إلىّ، فإن خالتها عندي. قالوا: لا تطيب أنفسنا، هي ابنة إمامنا! فذلك حين اقترعوا، فاقترعوا بأقلامهم عليها - بالأقلام التي يكتبون بها التوراة - فقرعهم زكريا، فكفلها.
6910 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جعلها زكريا معه في محرابه، قال الله عز وجل:"وكفلها زكريا" = قال حجاج قال، ابن جريج:"الكاهنُ" في كلامهم: العالمُ.
6911 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وكفلها زكريا"، بعد أبيها وأمها، يذكرها باليتم، ثم قص خبرها وخبرَ زكريا. (2)
6912 - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن
__________
(1) في المطبوعة: "وصاحب قربانهم"، وفي المخطوطة"وصاحب" وما بعدها بياض، واستظهر الناشر زيادتها هكذا، وأستظهر أن زيادتها كذلك، على أنها من تمام قولهم: "هذه ابنة إمامنا معطوفًا عليه، وما بينهما جملة معترضة للبيان من راوي الخبر.
(2) الأثر: 6910- سيرة ابن هشام 2: 229، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم 6877.(6/351)
عطاء، عن سعيد بن جبير قوله:"وكفلها زكريا"، قال: كانت عنده.
6913 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله:"وكفلها زكريا"، قال: جعلها زكريا معه في مِحْرابه.
6914 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"فتقبَّلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتًا حسنًا"، وتقارعها القومُ، فقرَع زكريا، فكفلها زكريا.
* * *
وقال آخرون: بل كان زكريا بعد ولادة حَنَّةَ ابنتها مريمَ، كفَلها بغير اقتراع ولا استهام عليها، ولا منازعة أحد إياه فيها. وإنما كفلها، لأن أمها ماتت بعد موت أبيها وهي طفلة، وعند زكريا خالتها ألاشِباع ابنة فاقوذ (1) = وقد قيل. إنّ اسم أم يحيى خالة عيسى: إشبع=. (2)
6915 - حدثنا بذلك القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني وهب بن سليمان، عن شعيب الجبأيّ: أن اسم أم يحيى أشبع. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إيشاع"، والصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري 2: 13، وهو في كتاب القوم"أليصابات"، ومعناها كما في قاموسهم كتابهم"الله حلفها، أي عائدة الله"، وكأنه هو الاسم العبري القديم"أليشابع"، ومعناه أيضًا"الله حلفها"، وهو اسم امرأة هارون.
(2) في المطبوعة: "أشيع" بالياء، والصواب بالباء. وهي في المخطوطة غير منقوطة.
(3) الأثر: 6915-"وهب بن سليمان الجندي اليماني"، روى عن شعيب الجبأي، روى عنه ابن جريج. مترجم في الكبير 4 / 2 / 169، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 27. و"شعيب الجبأي، الجندي البجلي"، منسوب إلى"جبأ" وهو جبل. قال ابن أبي حاتم هو: "شعيب بن الأسود". قال: يروى عن الكتب. روى عنه سلمة بن وهرام، ووهب بن سليمان. مترجم في الكبير 2 / 2 / 219، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 353. وكان في المطبوعة: "شعيب الحياني" خطأ، لم يحسن قراءة المخطوطة.(6/352)
= فضمها إلى خالتها أمّ يحيى، فكانت إليهم ومعهم، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنذْر أمها التي نذرت فيها.
قالوا: والاقتراع فيها بالأقلام، إنما كان بعد ذلك بمدة طويلة لشدة أصابتهم، ضَعُفَ زكريا عن حمل مؤونتها، فتدافعوا حملَ مؤونتها، لا رغبة منهم، ولا تنافسًا عليها وعلى احتمال مؤونتها. وسنذكر قصّتها على قول من قال ذلك، إذَا بلغنا إليها إن شاء الله تعالى.
6916 - حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق.
= فعلى هذا التأويل، تصح قراءة من قرأ:"وكفَلها زكريا" بتخفيف"الفاء"، لو صح التأويلُ. غير أن القول متظاهرٌ من أهل التأويل بالقول الأوّل: أن استهامَ القوم فيها كان قبل كفالة زكريا إياها، وأن زكريا إنما كفلها بإخراج سَهمه منها فالجًا على سهام خُصومه فيها. (1) فلذلك كانت قراءته بالتشديد عندنا أولى من قراءته بالتخفيف.
* * *
القول في تأويل قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أن زكريا كان كلما دخل عليها المحرابَ، بعد إدخاله إياها المحراب، وجد عندها رزقًا من الله لغذائها.
فقيل إن ذلك الرزقَ الذي كان يجده زكريا عندها، فاكهةُ الشتاء في الصيف، وفاكهةُ الصيف في الشتاء.
__________
(1) السهم الفالج: الفاتر.(6/353)
ذكر من قال ذلك:
6917 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا الحسن بن عطية، عن شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندَها عنبًا في مِكْتَلٍ في غير حينه. (1)
6918 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد في قوله:"كلما دخل عليها زكريا المحراب وَجد عندها رزقًا"، قال: العنب في غير حينه.
6919 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: فاكهة في غير حينها.
6920 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو إسحاق الكوفي، عن الضحاك: أنه كان يجدُ عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف = يعني في قوله:"وجد عندها رزقًا". (2)
6921 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك مثله.
6922- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، أخبرنا هشيم، عن بعض أشياخه، عن الضحاك مثله.
6923 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك مثله.
6924 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا من سمع الحكم بن عتيبة يحدّث، عن مجاهد قال: كان يجدُ عندها العنب في غير حينه.
6925 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) المكتل والمكتلة (بكسر الميم) : الزبيل الكبير يحمل فيه التمر أو العنب، كأن فيه كتلا منه، أي قطعًا مجتمعة.
(2) الأثر: 6920-"أبو إسحاق الكوفي"، هو: عبد الله بن ميسرة، روى عن الشعبي وأبي حريز وجماعة، روى عنه هشيم، وكناه أبا إسحاق، وأبا عبد الجليل. وهو ضعيف الحديث. وقال ابن حبان: لا يحل الاحتجاج بخبره. مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري.(6/354)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: عنبًا وجده زكريا عند مريم في غير زمانه.
6926 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
6927 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"وجد عندها رزقًا"، قال: فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف.
6928 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقًا"، قال: كنا نحدَّث أنها كانت تؤتَى بفاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.
6929 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندها ثمرةً في غير زمانها.
6930 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: جعل زكريا دونها عليها سبعةَ أبواب، فكان يدخل عليها فيجد عندها فاكهةَ الشتاء في الصيف، وفاكهةَ الصيف في الشتاء.
6931 - حدثني موسى [بن عبد الرحمن] (1) قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال: جعلها زكريا معه في بيتٍ - وهو المحراب - فكان يدخل عليها في الشتاء فيجد عندها فاكهةَ الصيف، ويدخل في الصيف فيجد عندها فاكهةَ الشتاء. (2)
__________
(1) الأثر: 6931-"موسى بن عبد الرحمن"، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، وهو غريب جدًا، ولم أعرف من هو"موسى بن عبد الرحمن"، ولكن إسناد الطبري إلى السدي، منذ بدأ التفسير، فيه"حدثنا موسى بن هارون الهمداني"، وهو إسناد دائر فيه دورانًا، إلا هذا الموضع، وأكاد أجزم بأنه خطأ من الناسخ، وأنه"موسى بن هارون"، ونسي الناسخ فكتب مكان"هارون"، "عبد الرحمن". وانظر الكلام عن إسناده هذا في رقم: 168.
(2) الأثر: 6931-"موسى بن عبد الرحمن"، هكذا جاء في المطبوعة والمخطوطة، وهو غريب جدًا، ولم أعرف من هو"موسى بن عبد الرحمن"، ولكن إسناد الطبري إلى السدي، منذ بدأ التفسير، فيه"حدثنا موسى بن هارون الهمداني" وهو إسناد دائر فيه دورانًا، إلا هذا الموضع، وأكاد أجزم بأنه خطأ من الناسخ، وأنه"موسى بن هارون"، ونسي الناسخ فكتب مكان"هارون"، "عبد الرحمن". وانظر الكلام عن إسناده هذا في رقم: 168.(6/355)
6932 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وجدَ عندها رزقًا"، قال: كان يجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء.
6933 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس"كلما دخل عليها زكريا المحرابَ وجد عندها رزقًا"، قال: وجد عندها ثمارَ الجنة، فاكهةَ الصّيف في الشتاء، وفاكهةَ الشتاء في الصيف.
6934 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم: أنّ زكريا كان يجد عندها ثمرةَ الشتاء في الصيف، وثمرةَ الصيف في الشتاء.
6935 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن قال: كان زكريا إذا دخل عليها = يعني على مريم = المحرابَ وجد عندها رزقًا من السماء، من الله، ليس من عند الناس. وقالوا: لو أن زكريا كان يعلم أن ذلك الرزق من عنده، لم يسألها عنه.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن زكريا كان إذا دخل إليها المحراب وجد عندها من الرزق فضلا عما كان يأتيها به، الذي كان يَمُونها في تلك الأيام.
ذكر من قال ذلك:
6936 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: كفلها بعد هلاك أمها فضمها إلى خالتها أم يحيى، حتى إذا بلغت أدخلوها الكنيسة لنَذْر أمها الذي نذرت فيها، فجعلت تنبت وتزيد. قال: ثم أصابت بني إسرائيل أزْمة وهي على ذلك من حالها، حتى ضعف زكريا عن حملها، فخرج على بني إسرائيل فقال: يا بني إسرائيل، أتعلمون؟ والله لقد ضعفتُ عن(6/356)
حَمل ابنة عمران! فقالوا: ونحن لقد جُهِدنا وأصابنا من هذه السنة ما أصابكم! (1) فتدافعوها بينهم، وهم لا يرون لهم من حملها بُدًا، حتى تقارعوا بالأقلام، فخرج السّهم بحملها على رجل من بني إسرائيل نجار يقال لهُ جريج، قال: فعرفت مريم في وجهه شدة مؤنة ذلك عليه، فكانت تقول له: يا جريج، أحسن بالله الظن! فإن الله سيرزقنا! فجعل جريج يرزق بمكانها، فيأتيها كلّ يوم من كسبه بما يُصلحها، فإذا أدخله عليها وهي في الكنيسة، أنماه الله وكثَّره، فيدخل عليها زكريا فيرى عندها فضلا من الرزق، وليس بقدر ما يأتيها به جُريج، فيقول:"يا مريم، أنَّى لك هذا"؟ فتقول:"هو من عند الله إنّ الله يرْزُق من يشاء بغير حساب".
* * *
قال أبو جعفر: وأما"المحراب"، فهو مقدم كل مجلس ومصلًّى، وهو سيد المجالس وأشرفُها وأكرمُها، وكذلك هو من المساجد، ومنه قول عديّ بن زيد:
كَدُمَى العَاجِ فِي المَحَارِيبِ أَوْ ... كالبَيْضِ فِي الرَّوْضِ زَهْرُهُ مُسْتَنِيرُ (2)
__________
(1) في المخطوطة: "لقد جهدنامن هذه السنة ما أصابكم" وبينهما بياض، والذي في المطبوعة صواب جيد.
(2) ديوانه في شعراء الجاهلية: 455، وسيأتي في التفسير 22: 48 (بولاق) ، يصف نساء، يقول: هن كتماثيل العاج في محاريب المعابد. والبيض: يعني بيض النعام. والروض جمع روضة: وهي البستان الحسن، في أرض سهلة ذات رواب يستنقع فيها الماء. وأصغر الرياض مئة ذراع. وقد استعمل عدي"الروض" على الإفراد فقال: "زهره مستنير"، كأنه عده مفردًا مذكرًا، كأنه حمله على وزن مثله من المفرد، مثل ثور ونور، وأشباهها فذكره للفظه، وإن كنت أستجيز أن يكون"الروض" مفردًا غير جمع، ولم أجد ذلك في كتب اللغة، ولكن البيت شاهد عليه، وإن كانوا يستركون عدي بن زيد.
وقوله: "مستنير" من"النور"، وهو زهر الشجر والنبات. يقال: "نورت الشجرة وأنارت"، إذا أطلعت زهرها وحسن منظرها. ولم يذكر أهل اللغة"استنارت الشجرة"، ولكن بيت عدي شاهد جيد، وهو من عتيق العربية.
يصف عديًا عذارى مشرقات في ثياب الوشى، فشبههن ببيض النعام في أرض قد أصابها الغيث فاستنارت أزهارها من كل لون، فزادها بهاء، وزادته حسنًا.
وهذا البيت في المخطوطة: "وهو مشتق / مستنير" و"مستنير" مكتوبة في هامش الصفحة، ولم أدر كيف كان، والذي في المطبوعة هي الرواية المعروفة، وأخشى أن يكون الناسخ كتب: "وهو مشتق" ثم عاد فقرأ"مشتق""مستنير" فكتبها في الهامش، فيكون الخطأ في كتابته"وهو"، التي هي: "زهره".(6/357)
و"المحاريب" جمع"محراب"، وقد يجمع على"محارب". (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قال" زكريا:"يا مريم: أنَّى لك هذا"؟ من أي وجه لك هذا الذي أرَى عندك من الرزقَ؟ (2) قالت مريم مجيبة له:"هو من عند الله"، تعني: أن الله هو الذي رزقها ذلك فساقه إليها وأعطاها.
* * *
وإنما كان زكريا يقول ذلك لها، لأنه كان - فيما ذكر لنا - يُغلِق عليها سبعة أبواب، ويخرج. ثم يدخل عليها فيجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء. فكان يعجب مما يرى من ذلك، ويقول لها تعجبًا مما يرى:"أنَّى لك هذا"؟ فتقول: من عند الله.
6937 - حدثني بذلك المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع.
6938 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، فذكر نحوه.
6939 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا مريم أنَّى لك هذا قالت هو من عند الله"، قال: فإنه وجد عندها الفاكهة الغضّة حين لا تُوجد الفاكهة
__________
(1) لم ينص على ذلك أصحاب اللغة، ولكنه قياس يرتضى. وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 91.
(2) انظر تفسير"أنى" فيما سلف 4: 398-416 / ثم 5: 312، 447.(6/358)
عند أحد، فكان زكريا يقول:"يا مريم أنَّى لك هذا"؟
* * *
وأما قوله:"إنّ الله يَرْزُقُ مَن يشاء بغير حساب"، فخبرٌ من الله أنه يسوق إلى من يشاء من خلقه رزقَه، بغير إحصاء ولا عدد يحاسب عليه عبدَه. لأنه جل ثناؤه لا ينقصُ سَوْقُه ذلك إليه كذلك خزائنَه، ولا يزيدُ إعطاؤه إياه، ومحاسَبته عليه في مُلكه، وفيما لديه شيئًا، ولا يعزب عنه علمُ ما يرزقه، وإنما يُحاسب مَنْ يعطي مَا يعطيه، مَنْ يخشى النقصانَ من ملكه، ودخولَ النفاد عليه بخروج ما خرج من عنده بغير حساب معروف، (1) ومن كان جاهلا بما يعطى على غير حساب. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "من يخشى النقصان من ملكه بخروج ما خرج من عنده. . ."، وفي المخطوطة: "من يخشى النقصان من ملكه، ودخول بخروج ما خرج من عنده ... "، وبين الكلامين بياض، فلما لم يجد الناشر ما يكتبه مكانها، حذف"ودخول" ووصل الكلامين. وزدت أنا"النفاد عليه" مكان البياض استظهارًا من سياق الكلام، ومن تفسير هذه الجملة في مواضع أخرى سأذكرها فيما يلي.
(2) انظر تفسير: "يرزق من يشاء بغير حساب" فيما سلف 4: 274 / ثم 6: 311.(6/359)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38)
القول في تأويل قوله: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) }
قال أبو جعفر: وأما قوله:"هنالك دعا زكريا ربه"، فمعناها: عند ذلك، أي: عند رؤية زكريا ما رأى عند مريم من رزق الله الذي رَزَقها، وفضله الذي آتاها من غير تسبُّب أحد من الآدميين في ذلك لها = (1) ومعاينته عندَها الثمرة
__________
(1) قوله: "ومعاينته عندها ... " معطوف على قوله آنفًا: "عند رؤية زكريا. . .".(6/359)
الرّطبة التي لا تكون في حين رؤيته إياها عندَها في الأرض = (1) طمع بالولد، مع كبر سنه، من المرأة العاقر. فرجا أن يرزقه الله منها الولد، مع الحال التي هما بها، كما رزق مريم على تخلِّيها من الناس ما رَزَقها من ثمرة الصيف في الشتاء وثمرة الشتاء في الصيف، وإن لم يكن مثله مما جرت بوجوده في مثل ذلك الحين العاداتُ في الأرض، بل المعروف في الناس غير ذلك، كما أن ولادة العاقر غيرُ الأمر الجاريةُ به العادات في الناس. فرغب إلى الله جل ثناؤه في الولد، وسأله ذرّيةً طيبة.
وذلك أن أهل بيت زكريا - فيما ذكر لنا - كانوا قد انقرضوا في ذلك الوقت، كما:-
6940 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فلما رأى زكريا من حالها ذلك = يعني: فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف = قال: إنّ ربًّا أعطاها هذا في غير حينه، لقادرٌ على أن يرزقني ذرية طيبة! ورغب في الولد، فقام فصلَّى، ثم دعا ربه سرًّا فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) [سورة مريم: 4-6] ، = وقوله: (2) (رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ) = وقال: (رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ) [سورة الأنبياء: 89] .
6941 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس،
__________
(1) سياق الجملة: أي عند رؤية زكريا ما رأى. . . وعند معاينته عندها الثمرة ... طمع بالولد ... " وفي المطبوعة: "طمع في الولد.."، وأثبت ما في المخطوطة، وكلاهما صواب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وقوله"، والسياق يقتضي ما أثبت، وذاك من عجلة الناسخ.(6/360)
قال: فلما رأى ذلك زكريا - يعني فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف - عند مريم قال: إنّ الذي يأتي بهذا مريمَ في غير زمانه، قادرٌ أن يرزقني ولدًا، قال الله عز وجل:"هنالك دعا زكريا ربه"، قال: فذلك حين دعا.
6942 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فدخل المحرابَ وغلَّق الأبوابَ، وناجى ربه فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) إلى قوله: (رَبِّ رَضِيًّا) = (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ) الآية.
6943 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم قال: فدعا زكريا عند ذلك بعد ما أسنّ ولا ولد له، وقد انقرض أهل بيته فقال:"ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبه إنك سميع الدعاء"، ثم شكا إلى ربه فقال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) إلى (وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) = (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) الآية.
* * *
وأما قوله:"ربّ هب لي من لدنك ذرية طيبة"، فإنه يعني بـ"الذرية" النسل، وبـ"الطيبة" المباركة، (1) كما:-
6944 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قال رَبّ هب لي من لدنك ذرية طيبة"، يقول: مباركة.
* * *
__________
(1) انظر قوله"ذرية" فيما سلف 3: 19، 79 / ثم 5: 543 / 6: 327 ولم يفسرها في هذه المواضع، ثم فسرها هنا، وهو من اختصار هذا الكتاب الجليل، كما قيل في ترجمته.
ثم انظر تفسير"الطيب" فيما سلف 3: 301 / ثم 5: 555.(6/361)
وأما قوله:"من لدنك"، فإنه يعني: من عندك.
* * *
وأما"الذرية"، فإنها جمع، وقد تكون في معنى الواحد، وهي في هذا الموضع الواحد. وذلك أنّ الله عز وجل قال في موضع آخر، مخبرًا عن دعاء زكريا: (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) [سورة مريم: 5] ، ولم يقل: أولياء - فدلّ على أنه سأل واحدًا. وإنما أنث"طيبة"، لتأنيث الذرّية، كما قال الشاعر: (1)
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرَى ... وَأَنْتَ خَلِيفَةٌ، ذَاكَ الكَمَالُ (2)
فقال:"ولدته أخرى"، فأنَّث، وهو ذَكر، لتأنيث لفظ"الخليفة"، كما قال الآخر: (3)
فَمَا تَْزدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جَبَلِيَّةٍ ... سُكَاتٍ، إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأَدْرَدَا (4)
فأنث"الجبلية" لتأنيث لفظ"الحية"، ثم رجع إلى المعنى فقال:"إذا مَا عَضّ"، لأنه كان أراد حَية ذكرًا، وإنما يجوز هذا فيما لم يقع عليه"فلانٌ" من الأسماء، كـ"الدابة، والذرية، والخليفة". فأما إذا سُمّي رجل بشيء من ذلك،
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 208 سيأتي في التفسير 4: 150 (بولاق) .
(3) لم أعرف قائله.
(4) معاني القرآن للفراء 1: 208، واللسان (سكت) وكان في المطبوعة: "كما تزدري ... سكاب ... ليس بأزدرا"، وهو خطأ. والحية إذا كانت جبلية، فذاك أشد لها ولسمها، يقول عنترة: أَصَمَّ جبَالِيٍّ، إِذا عَضَّ عَضَّةً ... تَزَايَلَ عَنْهُ جِلْدُه فتبدّدَا
وحية سكوت وسكات (بضم السين) : إذا لم يشعر الملسوع به حتى يلسعه، والأدرد: الذي سقطت أسنانه، فلم يبق في فمه سن. يصف رجلا داهية. يقول: كيف تستخف به، وهو حية فاتكة، لا يشعر الملسوع بعضها حتى تعضه بناب لم يسقط ولم يذهب سمه.(6/362)
فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
فكان في معنى"فلان"، لم يجز تأنيثُ فعله ولا نعته. (1)
* * *
وأما قوله:"إنك سميع الدعاء"، فإن معناه: إنك سامع الدعاء، غير أنّ"سميع"، أمدَحُ، وهو بمعنى: ذو سمع له. (2)
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معناه: إنك تَسمعَ ما تُدْعى به.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية، فعند ذلك دعا زكريا ربه فقال: رب هب لي من عندك ولدًا مباركًا، إنك ذو سَمعٍ دُعاءَ من دَعاك.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة وبعضُ أهل الكوفة والبصرة:"فنادته الملائكة" على التأنيث بالتاء، يراد بها: جمع"الملائكة". وكذلك تفعل العرب في جماعة الذّكور إذا تقدّمت أفعالها، أنَّثت أفعالها، ولا سيما الأسماء التي في ألفاظها التأنيث، كقولهم: جاءَت الطَّلحات".
* * *
وقد قرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة بالياء، (3) بمعنى فناداه جبريل، فذكروه للتأويل، كما قد ذكرنا آنفًا أنهم يُؤنثون فعل الذّكر للفظ، (4) فكذلك يذكِّرون
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 208، 209.
(2) انظر تفسير"سميع" فيما سلف 2: 140، 377، 540 / 3: 399 / 4: 488.
(3) يعني قراءة من قرأ"فناداه" ممالة، ورسمها في المصحف عندئذ"فناديه" بالياء، وهي قراء حمزة والكسائي.
(4) انظر ص: 362.(6/363)
فعلَ المؤنث أيضًا للفظ. واعتبروا ذلك فيما أرى بقراءةٍ يذكر أنها قراءَةُ عبد الله بن مسعود، وهو ما:-
6945 - حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، أنّ قراءة ابن مسعود: (فَنَادَاهُ جِبْرِيلُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ) .
* * *
وكذلك تأوّل قوله:"فنادته الملائكة" جماعةٌ من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6946 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فنادته الملائكة"، (1) وهو جبريل = أو: قالت الملائكة، وهو جبريل ="أنّ الله يُبشرك بيَحيى".
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف جاز أن يقال على هذا التأويل:"فنادته الملائكة"، و"الملائكة" جمع لا واحد؟ قيل: ذلك جائز في كلام العرب، بأن تخبر عن الواحد بمذهب الجمع، كما يقال في الكلام:"خرج فلان على بغال البُرُد"، وإنما ركب بغلا واحدًا ="وركب السفن"، وإنما ركب سفينةً واحدة. وكما يقال:"ممن سمعتَ هذا الخبر"؟ فيقال:"من الناس"، وإنما سمعه من رجل واحد. وقد قيل إنّ منه قوله: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [سورة آل عمران: 173] ، والقائلُ كانَ = فيما كان ذُكر - واحدًا = (2) وقوله: (وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ)
__________
(1) في المخطوطة: "فناداه الملائكة".
(2) انظر ما سلف 1: 292، 293 / 4: 191.(6/364)
[سورة الروم: 33] ، والناس بمعنى واحد. وذلك جائز عندهم فيما لم يقصد فيه قصد واحد. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما الصواب من القول عندي في قراءة ذلك، أنهما قراءتان معروفتان = أعني"التاء" و"الياء" = فبأيتهما قرأ القارئ فمصيب. وذلك أنه لا اختلافَ في معنى ذلك باختلاف القراءتين، وهما جميعًا فصيحتان عند العرب، وذلك أنّ"الملائكة" إن كان مرادًا بها جبريل، كما روى عن عبد الله، فإن التأنيث في فعلها فصيحٌ في كلام العرب للفظها، إن تقدمها الفعل. وجائز فيه التذكير لمعناها.
وإن كان مرادًا بها جمع"الملائكة"، فجائز في فعلها التأنيث، وهو من قَبلها، للفظها. (2) وذلك أن العرب إذا قدّمت على الكثير من الجماعة فعلها، أنثته، فقالت:"قالت النساء". وجائز التذكير في فعلها، بناءً على الواحد، إذا تقدم فعله، فيقال:"قال الرجال".
* * *
وأما الصّواب من القول في تأويله، فأنْ يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر أنّ الملائكة نادته. والظاهرُ من ذلك، أنها جماعة من الملائكة دون الواحد، وجبريلُ واحد.
ولا يجوز أن يحمل تأويل القرآن (3) إلا على الأظهر الأكثر من الكلام المستعمل في ألسن العرب، دون الأقل = ما وُجِد إلى ذلك سبيل. ولم تَضطَّرنا حاجةٌ إلى صرف ذلك إلى أنه بمعنى واحد، فيحتاج له إلى طلب المخرج بالخفيّ من الكلام والمعاني.
وبما قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل العلم، منهم: قتادة، والربيع
__________
(1) انظر معان القرآن للفراء 1: 210
(2) في المطبوعة: "وهو من قبلها" والصواب من المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "فلن يجوز ... "، والأشبه بالصواب ما أثبت.(6/365)
بن أنس، وعكرمة، ومجاهد، وجماعة غيرهم. وقد ذكرنا ما قالوا من ذلك فيما مَضَى. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى}
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"وهو قائم:" فنادته الملائكة في حال قيامه مصلِّيًا. فقوله:"وهو قائم"، خبر عن وقت نداء الملائكة زكريا.
وقوله:"يُصَلي" في موضع نصب على الحال من"القيام"، وهو رفع بالياء.
* * *
وأما"المحراب"، فقد بينا معناه، وأنه مقدّم المسجد. (2)
* * *
واختلفت القرأة في قراءة قوله:"أنّ اللهَ يبشرك".
فقرأته عامة القرأة: (أَنَّ اللَّهَ) بفتح"الألف" من"أن"، بوقوع"النداء" عليها، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك.
* * *
وقرأه بعض قرأة أهل الكوفة: (إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بكسر"الألف"، بمعنى: قالت الملائكة: إنّ الله يبشرك، لأن النداء قولٌ. وذكروا أنها في قراءة عبد الله: (فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ يَا زَكَرِيَّا إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) قالوا: وإذا بطل النداء أن يكون عاملا في قوله:"يا زكريا"، فباطلً أيضًا
__________
(1) لم يمض من ذلك شيء في خبر زكريا ومريم، وأنا أخشى أن يكون في النسخ المخطوطة التي بأيدينا اختصار في هذا الموضع.
(2) انظر ما سلف قريبًا ص: 357، 358.(6/366)
أن يكون عاملا في"إن".
* * *
والصواب من القراءة في ذلك عندنا:"أنّ الله يبشرك" بفتح"أن" بوقوع النداء عليه، بمعنى: فنادته الملائكة بذلك.
وليست العلة التي اعتلّ بها القارئون بكسر"إن" = منْ أنّ عبد الله كان يقرؤها كذلك، فقرأوها كذلك = [لهم بعلة] (1) وذلك أن عبد الله إنْ كان قرأ ذلك كذلك، فإنما قرأها بزعمهم، وقد اعترض بنداء زكريا بين"إن" وبين قوله:"فنادته"، (2) وإذا اعترض به بينهما، فإن العرَب تعمل حينئذ النداء في"أنّ"، وتبطله عنها. أما الإبطال، فلأنه بطل عن العمل في المنادى قبله، (3) فأسلكوا الذي بعده مسلكه في بطول عمله. وأما الإعمال، فلأن النداء فعل واقعٌ. كسائر الأفعال. (4)
وأما قراءتنا، (5) فليس نداء زكريا ب"يا زكريا" معترضًا به بين"أن" وبين قوله:"فنادته". وإذا لم يكن ذلك بينهما، فالكلامُ الفصيح من كلام العرب إذا نصبتْ بقوْلِ:"ناديت" اسمَ المنادِى وأوقعوه عليه، أن يوقعوه كذلك على"أنّ" بعده. وإن كان جائزًا إبطالُ عمله، فقوله:"نادته"، قد وَقع على مكنيّ"زكريا"، (6) فكذلك الصواب أن يكون واقعًا على"أن" وعاملا فيها. (7)
__________
(1) في المطبوعة: "من أن عبد الله كان يقرؤها كذلك، وذلك أن عبد الله ... "، حذف من نص المخطوطة ما أثبته"فقرأوها كذلك"، وبقيت الجملة بعد ذلك مختلة، قد سقط منها خبر"وليست العلة ... "، فاستظهرت من سياق كلامه أنه قد سقط من الناسخ قوله: "لهم بعلة" فزدتها بين قوسين، والسياق"وليست العلة ... لهم بعلة".
(2) في المطبوعة: "وقد اعترض بيا زكريا" وفي المخطوطة: "بهذا زكريا"، وصواب قراءتها ما أثبت. وفي المخطوطة أيضًا"فناداه"، مكان"فنادته".
(3) في المطبوعة: "فإنه بطل عن العمل"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(4) الفعل الواقع: هو الفعل المتعدي، كما سلف، فانظر فهرس المصطلحات فيما سلف، والوقوع هو التعدي.
(5) في المخطوطة: "وأما قراءتها"، والصواب ما في المطبوعة.
(6) الفعل الواقع: هو الفعل المتعدي، كما سلف، فانظر فهرس المصطلحات فيما سلف، والوقوع هو التعدي.
(7) انظر تفصيل ما أجمله الطبري في معاني القرآن للفراء 1: 210، 211.(6/367)
مع أنّ ذلك هو القراءة المستفيضة في قراءة أمصار الإسلام. ولا يُعترض بالشاذّ على الجماعة التي تجيء مجيءَ الحجة.
* * *
وأما قوله:"يبشرك"، فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) بتشديد"الشين" وضم"الياء"، على وجه تبشير الله زكريا بالولد، من قول الناس:"بشَّرتْ فلانًا البُشَراء بكذا وكذا"، أي: أتته بشارات البُشراء بذلك. (1)
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة الكوفة وغيرهم: (أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ) ، بفتح"الياء" وضم"الشين" وتخفيفها، بمعنى: أن الله يَسرّك بولد يَهَبُه لك، من قول الشاعر: (2)
بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رَأَيْتُ صَحِيفَةً ... أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجُ يُتْلَى كِتَابُهَا (3)
وقد قيل: إن"بشَرت" لغة أهلِ تهامة من كنانة وغيرهم من قريش، وأنهم يقولون:"بشَرتُ فلانًا بكذا، فأنا أبشُرُه بَشْرًا"، و"هل أنتَ باشرٌ بكذا"؟ وينشد لهم البيت في ذلك: (4)
وَإذَا رَأَيْتَ البَاهِشِينَ إلَى العُلَى ... غُبْرًا أَكُفُّهُمُ بِقَاعٍ مُمْحِلِ (5)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "البشرى" مكان"البشراء" في الموضعين، والصواب ما أثبت، وظاهر أن الناسخ رآها"البشرا"، بغير همزة كالكتابة القديمة، فظنها"البشرى" فكتبها كذلك.
(2) لم أعرف قائله.
(3) معاني القرآن للفراء، وقال: "أنشدني بعض العرب".
(4) هو عبد قيس بن خفاف البرجمي.
(5) الأصمعيات رقم: 87، والمفضليات رقم: 116، ولسان العرب (كرب) (بشر) (يسر) ، ومعاني القرآن للفراء 1: 212، وغيرها من المراجع. وهي نصيحته إلى ولده جبيل، وهي من حكيم الشعر.
بهش إلى الشيء: فرح به فأسرع إليه، وروايتهم"إلى الندى"، وهو الكرم. والقاع: أرض سهلة مستوية تنفرج عنها الجبال والآكام، ولا حصى فيها ولا حجارة ولا تنبت الشجر. والممحل: المجدب. يقول: إذا رأيت الكرام الأسخياء، قد أجهدتهم السنة والقحط والجدب حتى اغبرت أيديهم من قلة ما يجدون، وكثرة ما بذلوا في معونة الناس.. فأعنهم.(6/368)
فَأَعِنْهُمُ، وَابْشَرْ بِمَا بَشِرُوا بِهِ، ... وَإذَا هُمُ نَزَلُوا بِضَنْكٍ فَانْزِلِ (1)
فإذا صاروا إلى الأمر، فالكلام الصحيح من كلامهم بلا ألف فيقال:"ابشَرْ فلانًا بكذا"، ولا يكادون يقولون:"بشِّره بكذا، ولا أبشِره". (2)
* * *
وقد روي عن حميد بن قيس أنه كان يقرأ: (يبشرك) ، بضم"الياء" وكسر"الشين" وتخفيفها. وقد:-
6947 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ الكوفيّ قال: من قرأ: (يُبَشِّرُهُمْ) مثقلة، فإنه من البشارة، ومن قرأ: (يَبْشُرُهُمْ) ، مخففة، بنصب"الياء"، فإنه من السرور، يسرُّهم.
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي هي القراءة عندنا في ذلك، ضم"الياء" وتشديد"الشين"، بمعنى التبشير. لأن ذلك هي اللغة السائرةُ والكلامُ المستفيض المعروف في الناس، مع أن جميع قرأة الأمصار مجمعون في قراءة: (فَبِمَ تُبِشِّرُون) [سورة الحجر: 54] ، على التشديد. والصواب في سائر ما في القرآن من نظائره، أنْ يكون مثله في التشديد وضم"الياء".
* * *
__________
(1) "وابشر" هي من"بشر" على وزن (فرح) "يبشر" (بفتح الشين) يقال: "أتاني أمر بشرت به" أي سررت به. يقول: شاركهم في ارتياحهم وفرحهم بالسخاء مع ما يلقون من جهد السنة. والضنك: الضيق. يقول: كن مع الكرام حيث كانوا، وانزل معهم كل منزل أنزلهموه كرمهم، من ضنك وحاجة.
(2) انظر تفسير: "بشرى" و"بشر" فيما سلف 1: 383 / 2: 393، / 3: 221 / 6: 287.(6/369)
وأما ما روي عن معاذ الكوفي من الفرق بين معنى التخفيف والتشديد في ذلك، فلم نجدْ أهل العلم بكلام العرب يعرفونه من وجه صحيح، فلا معنى لما حُكي من ذلك عنه، وقد قال جرير بن عطية:
يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ ... هَلا غَضِبْتَ لَنَا? وَأَنْتَ أَمِيرُ! (1)
فقد علم أنه أراد بقوله"التبشير"، الجمال والنضارة والسرور، فقال"التبشير" ولم يقل"البشر"، فقد بيَّن ذلك أن معنى التخفيف والتثقيل في ذلك واحدٌ.
* * *
6948 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"إن الله يبشرك بيحيى"، قال: بشرته الملائكة بذلك.
* * *
وأما قوله:"بيحيى"، فإنه اسم، أصله"يفعل"، من قول القائل:"حيي فلانٌ فهو يحيَى"، وذلك إذا عاش."فيحيى""يفعل" من قولهم"حيي".
وقيل: إن الله جل ثناؤه سماه بذلك، لأنه يتأوّل اسمه: أحياه بالإيمان.
ذكر من قال ذلك:
6949 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"أنّ الله يبشرُك بيحيى"، يقول: عبدٌ أحياه الله بالإيمان.
6950- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي
__________
(1) ديوانه: 301، وطبقات فحول الشعراء: 378، وغيرها. من قصيدته التي قالها لبشر بن مروان، وكان قدم معه العراق، سراقة البارقي، وكان بشر يغري بين الشعراء، فحمل سراقة على جرير حتى هجاه. فترك جرير بشرًا، بل مدحه، وأخذ بمجامع سراقة يخنقه حتى فضحه. وعاتب بشرًا عتاب من يظهر الجهل بأمر بشر، وهو يعلمه. وهذا البيت دال على ذلك.
كان في المطبوعة: "حق لبشرك التبشير"، وهو من سهو الناشر، كما سلف من سهوه، والصواب في المخطوطة وسائر المراجع.(6/370)
جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله:"إنّ الله يبشرك بيحيى"، قال: إنما سمي يحيى، لأن الله أحياه بالإيمان.
* * *
القول في تأويل قوله: {مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (1) أن الله يبشرك يا زكريا بيحيى ابنًا لك، ="مصدّقًا بكلمة من الله"، يعني: بعيسى ابن مريم.
* * *
ونصب قوله:"مصدقًا" على القطع من"يحيى"، (2) لأنّ"مصدقًا" نعتٌ له، وهو نكرة، و"يحيى" غير نكرة.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6951 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود الطفاوي قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال، حدثنا النضر بن عربيّ، عن مجاهد قال: قالت امرأة زكريا لمريم: إني أجد الذي في بطني يتحرّك للذي في بطنك! قال: فوضعت امرأةُ زكريا يحيى، ومريمُ عيسى، ولذا قال:"مصدِّقًا بكلمة من الله"، قال: يحيى مصدّق بعيسى.
6952 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الرقاشي في قول الله:"يبشرك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله"، قال: مصدّقًا بعيسى ابن مريم.
__________
(1) في المطبوعة: "يعني بقوله جل ثناؤه"، والصواب من المخطوطة.
(2) القطع: الحال، كما سلف مرارًا، آخرها ص: 327 تعليق 2، والمراجع هناك.(6/371)
6953 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6954 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: مصدقًا بعيسى.
6955 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"مصدقًا بكلمة من الله"، يقول: مصدّقًا بعيسى ابن مريم، وعلى سُنَّته ومنهاجه. (1)
6956 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، يعني: عيسى ابن مريم.
6957 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة:"مصدقًا بكلمة من الله"، يقول: مصدقًا بعيسى ابن مريم، يقول على سننه ومنهاجه.
6958 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: كان أوّلَ رجل صدَّق عيسى، وهو كلمة من الله ورُوحٌ.
6959 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مصدقًا بكلمة من الله"، يصدق بعيسى.
6960 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، كان يحيى أول من صدق بعيسى وشهدَ أنه كلمة من الله، وكان يحيى ابن خالة عيسى، وكان أكبر من عيسى.
__________
(1) في المطبوعة: "مصدق ... وعلى سننه"، وأثبت ما في المخطوطة.(6/372)
6961 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة عن ابن عباس قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: عيسى ابن مريم، هو الكلمة من الله، اسمه المسيح.
6962- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، أخبرني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، قال: كان عيسى ويحيى ابنَيْ خالة، وكانت أم يحيى تقول لمريم: إني أجد الذي في بطني يسجدُ للذي في بطنك! فذلك تصديقه بعيسى: سُجوده في بطن أمه. وهو أول من صدق بعيسى وكلمة عيسى، ويحيى أكبر من عيسى. (1)
6963 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أن الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، قال: الكلمة التي صدق بها: عيسى.
6964 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لقيت أمّ يحيى أمّ عيسى، وهذه حامل بيحيى، وهذه حامل بعيسى، فقالت امرأة زكريا: يا مريم، استشعرتُ أنِّي حبلى! قالت مريم: استشعرت أني أيضًا حبلى! قالت امرأة زكريا: فإني وجدتُ ما في بطني يسجُد لما في بطنك! فذلك قوله:"مصدّقًا بكلمة من الله".
6965- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله:"أنّ الله يبشرك بيحيى مصدقًا بكلمة من الله"، قال: مصدّقًا بعيسى ابن مريم.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العلم بلغات العرب من أهل البصرة، (2)
__________
(1) السجود هنا: الخضوع والتطامن والخشوع، لا سجود الصلاة والعبادة. وإنما سجود الصلاة مجاز من هذا الأصل، وانظر تفسير ذلك فيما سلف 2: 104، 105.
(2) هو أبو عبيدة معمر بن المثنى في كتابه مجاز القرآن 1: 91.(6/373)
أنّ معنى قوله:"مصدقًا بكلمة من الله"، بكتاب من الله، من قول العرب:"أنشدني فلانٌ كلمة كذا"، يراد به: قصيدة كذا = جهلا منه بتأويل"الكلمة"، واجتراءً على تَرجمة القرآن برأيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَسَيِّدًا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"وسيدًا"، وشريفًا في العلم والعبادة.
* * *
ونصب"السيد" عطفًا على قوله:"مصدقًا".
* * *
وتأويل الكلام: أن الله يبشرك بيحيى مصدّقًا بهذا، وسيدًا.
* * *
"والسيد""الفيعل" من قول القائل:"سادَ يسود"، (2) كما:-
6966 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وسيدًا" إي والله، لسيدٌ في العبادة والحلم والعلِم والوَرَع.
6967 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وسيدًا"، قال: السيدُ، لا أعلمه إلا قال: في العلم والعبادة.
__________
(1) ترجمة القرآن تفسيره وبيانه، وانظر ما سلف 1: 70، تعليق: 1، وانظر فهرس المصطلحات. وإذا كان أبو جعفر يعد هذا اجتراء على تفسير كتاب الله، فليت شعري ماذا يقول في الذين نصبوا أنفسهم، من أهل زماننا، للتهجم على كتاب الله، بما لا تعد فيه مقالة أبي عبيدة، إلا تسبيحًا واستغفارًا واجتهادًا في العبادة!!
(2) انظر ما سلف 3: 319.(6/374)
6968 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: السيد الحليم.
6969 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير،"وسيدًا"، قال: الحليم.
6970 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير:"وسيدًا"، قال: السيد التقىّ.
6971 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وسيدا"، قال: السيد الكريم على الله.
6972 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال: زعم الرّقاشي أنّ السيد، الكريم على الله.
6973 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قول الله عز وجل:"وسيدًا"، قال: السيد الحليم التقي.
6974 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وسيدًا"، قال: يقول: تقيًّا حليما.
6975 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان في قوله:"وسيدًا"، قال: حليما تقيًّا.
6976 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد في قوله:"وسيدًا"، قال: السيد: الشريف.
6977 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال: حدثنا بقية بن الوليد،(6/375)
عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قول الله عز وجل:"وسيدًا"، قال: السيد الفقيه العالم.
6978 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال: حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وسيدًا"، قال، يقول: حليما تقيًّا.
6979 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة:"وسيدًا"، قال: السيد الذي لا يغلبُه الغضب.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: ممتنعًا من جماع النساء، من قول القائل:"حَصِرْتُ من كذا أحْصَر"، إذا امتنع منه. ومنه قولهم:"حَصِرَ فلان في قراءته"، إذا امتنع من القراءة فلم يقدر عليها. وكذلك"حَصْرُ العدوّ"، حَبْسهم الناسَ ومنعهم إياهم التصرف، ولذلك قيل للذي لا يُخرج مع ندمائه شيئًا،"حَصُور"، كما قال الأخطل:
وَشَارِبٍ مُرْبِحٍ بِالكَأْسِ نَادَمَنِي ... لا بِالَحصُورِ وَلا فِيهَا بِسَوَّارِ (1)
ويروى:"بسآر". ويقال أيضًا للذي لا يخرج سره ويكتمه"حصور"،
__________
(1) ديوانه: 116، ومجاز القرآن 1: 92، وطبقات فحول الشعراء: 432، واللسان (حصر) (سأر) (سور) ، من قصيدته التي قالها ليزيد بن معاوية، لما منعه حين هجا الأنصار في قصة مشهورة. وفي المخطوطة"مرجح بالكأس"، وهو خطأ. والمربح: المعطي الربح للتاجر، يريد أنه يغالي بثمن الخمر لا يبالي بما يبذل فيها. والسوار: الذي تسور الخمر في دماغه، فيعربد على إخوانه وندمائه عربدة رديئة، والخمر عندهم تشف عن غرائز شاربيها. وأما رواية"سآر" التي سيذكرها، فهي من السؤر: وهو بقية الخمر في القدح. يريد أنه عرضة شراب، لا يكف عن الخمر، ولا يدع في كأسه سؤرًا من قلة صبره، أو سوء احتماله لشدتها.(6/376)
لأنه يمنع سره أن يظهر، كما قال جرير:
وَلَقَدْ تَسَاقَطَنِي الوُشَاةُ، فَصَادَفُوا ... حَصِرًا بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ ضَنِينَا (1)
وأصل جميع ذلك واحد، وهو المنع والحبس.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6980 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن خلف قال، حدثنا حماد بن شعيب، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله في قوله:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يأتي النساء.
6981 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب أنه قال: حدثني ابن العاص: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: كل بني آدم يأتي يوم القيامة وله ذنبٌ، إلا ما كان من يحيى بن زكريا. قال: ثم دلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم يدَه إلى الأرض، فأخذ عُوَيْدًا صغيرًا، ثم قال: وذلك أنه لم يكن له ما للرجال إلا مثل هذا العود، وبذلك سماه الله"سيدًا وحصُورًا". (2)
__________
(1) ديوانه: 578، ومجاز القرآن 1: 92 واللسان (حصر) (سقط) ، ورواية هذه الكتب وفي المطبوعة: "تَسَقَّطَنِي" غيروا ما في المخطوطة، كما أثبته. وتسقطه واستسقطه: تتبع عثرته وسقطته أن يفرط منه ما يؤخذ عليه. من السقط (بفتحتين) وهو الخطأ في القول، أو من السقطة (بفتح فسكون) وهي العثرة والزلة. وأما ما جاء في المخطوطة: "تساقطني"، فإني أستجيدها. جيد أن يقال"ساقطه" بمعنى"تسقطه واستسقطه"، وكأن"السقاط" بمعنى العثرة والزلة، مصدر"ساقطه"، وقد قال سويد بن أبي كاهل: كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي، بَعْدَ مَا ... جَلَّلَ الرأسَ مشيبٌ وصَلَعْ
كأنه يجاذبه القول، حتى يسقط ويزل، وهو نفس المعنى في"تسقطه واستسقطه"، وإذا جاز في صريح العربية، فلا معنى لاطراحه. وفي المخطوطة، أسقط الناسخ"أميم" من البيت وترك مكانها بياضًا، وضع فيه نقطة حمراء.
(2) الأثر: 6981- انظر التعليق على الأثر: 6983.(6/377)
6982 - حدثني يونس قال، أخبرنا أنس بن عياض، عن يحيى بن سعيد قال، سمعت سعيد بن المسيب يقول: ليس أحدٌ إلا يلقى الله يوم القيامة ذا ذَنْبٌ إلا يحيى بن زكريا، كان حصورًا، معه مثل الهُدْبة.
6983 - حدثنا أحمد بن الوليد القرشي قال، حدثنا عمر بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال: قال ابن العاص - إما عبد الله، وإما أبوه -: ما أحد يلقى الله إلا وهو ذو ذنب، إلا يحيى بن زكريا. قال وقال سعيد بن المسيب:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يغشى النساء، ولم يكن ما معه إلا مثل هُدْبة الثوب. (1)
6984 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن عبد الملك، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في قوله:"وحصورًا" قال: الحصور الذي لا يشتهي النساء. ثم ضرب بيده إلى الأرض فأخذ نواة فقال: ما كان معه إلا مثل هذه.
6985 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: الحصور، الذي لا يأتي النساء.
6986 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء، عن سعيد مثله.
6987 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد مثله.
6988 - حدثني عبد الرحمن بن الأسود قال، حدثنا محمد بن ربيعة قال،
__________
(1) الحديث: 6983- رواه الطبري قبل ذلك: 6981، عن سعيد بن المسيب: "حدثني ابن العاص ... " - فذكره مطولا مرفوعًا. ثم رواه هنا عن ابن المسيب، عن ابن العاص- مع الشك في أنه"عبد الله بن عمرو" أو "أبوه"- موقوفًا. وقد ذكره ابن كثير 2: 135، من رواية ابن أبي حاتم - بهذا الشك - ولكنه مرفوع. ثم ذكره ص 135-136، من رواية ابن أبي حاتم أيضًا"عن عبد الله بن عمرو بن العاص" - موقوفًا. ووصف المرفوع بأنه"غريب جدًا". ثم قال بعد الموقوف: "فهذا موقوف أصح إسنادًا من المرفوع". وكذلك ذكر السيوطي 2: 22 المرفوع والموقوف، وقال: "وهو أقوى إسنادًا من المرفوع".(6/378)
حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد:"وحصورًا"، قال: الذي لا يأتي النساء.
6989 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: الحصور: لا يقرَبُ النساء.
6990 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل قال: زعم الرقاشي:"الحصور" الذي لا يقرب النساء.
6991 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك:"الحصور"، الذي لا يولد له، وليس له ماء.
6992 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وحصورًا"، قال: هو الذي لا ماء له.
6993 - حدثنا بشر قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وحصورًا"، كنا نُحدّث أن الحصور الذي لا يقرب النساء.
6994 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سليمان قال، حدثنا أبو هلال قال، حدثنا قتادة في قوله:"وسيدًا وحصورًا"، قال: الحصور الذي لا يأتي النساء.
6995 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة مثله.
6996 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
6997 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن قابوس، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الحصور الذي لا ينزل الماء.
6998 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد:"وحصورًا"، قال: الحصور الذي لا يأتي النساء.(6/379)
6999 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وحصورًا"، قال: الحصور، الذي لا يريد النساء.
7000 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"وحصورًا"، قال: لا يقرب النساء.
* * *
وأمّا قوله:"ونبيًّا من الصالحين" فإنه يعني: رسولا لربه إلى قومه، ينبئهم عنه بأمره ونهيه، وحلاله وحرامه، ويبلِّغهم عنه ما أرسله به إليهم.
* * *
ويعني بقوله:"من الصّالحين"، من أنبيائه الصالحين. (1)
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى"النبوّة" وما أصلها، بشواهد ذلك والأدلة الدالة على الصحيح من القول فيه، بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف 3: 91.
(2) انظر تفسير"النبي" فيما سلف 2: 140-142.
هذا، وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وكتب هنا ما نصه:
"يتلُوُه، إن شاء الله، القولُ في تأويل قوله:
{قال ربّ أنّى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكِبَر وامرأتي عاقر} .
والحمد لله وحده على إحسانه، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلَّم".
ثم يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يسّر
قال أبو جعفر محمد بن جرير الطبري".(6/380)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40)
القول في تأويل قوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ}
قال أبو جعفر: يعني أنّ زكريا قال = إذ نادته الملائكة:"أنّ الله يُبشرّك بيحيى مصدّقًا بكلمة من الله وسيدًا وحصورًا ونبيًّا من الصالحين" ="أنى يكون لي غلامٌ وقد بلغني الكبر"؟ يعني: مَنْ بلغ من السن ما بلغتُ لم يولد لهُ ="وامرأتي عاقر".
* * *
"والعاقر" من النساء التي لا تلد. يقال منه:"امرأة عاقر، ورجلٌ عاقرٌ"، كما قال عامر بن الطفيل:
لَبِئْسَ الفَتَى! إنْ كُنْتُ أَعْوَرَ عَاقِرًا ... جَبَانًا، فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ!! (1)
* * *
وأما"الكبر" فمصدر:"كبِرَ فهو يَكبَرُ كِبَرا".
وقيل:"بلغني الكبر"، وقد قال في موضع آخر: (قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكِبَرِ)
__________
(1) ديوانه 119، ومجاز القرآن 1: 92، وحماسة الشجري: 7 وغيرها، وسيأتي في التفسير 16: 37 (بولاق) وعامر بن الطفيل، أحد العوران الأشراف (المحبر: 303) ، وقد ذهبت عينه يوم فيف الريح. وأما خبر عقمه، فإنه صدق قول علقمة بن علاثة فيه، فقال: "فقد والله صدق: ما لي ولد، وإني لعاهر الذكر، وإني لأعور البصر" (ديوانه 91، 92) ، وهذا البيت من أبيات قالها في يوم فيف الريح، يذكر صبره في قتالهم، وقد ذهبت عينه حين طعنه مسهر بن يزيد الحارثي بالرمح، ففلق وجنته، وانشقت عين عامر ففقأها. وذكروا أن عامرًا طعن يومئذ بين ثغرة نحره إلى سرته عشرين طعنة، فقال عامر: لَعَمْري، ومَا عَمْري عَلَيَّ بِهَيَّنٍ ... لقَدْ شَانَ حُرَّ الوَجْهِ طَعْنَةُ مُسْهِرِ
فَبِئْسَ الفَتَى. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقول: من يعذرني إذا هبت عدوى وأحجمت عن حر الطعان؟(6/381)
[سورة مريم: 8] ، لأن ما بلغك فقد بلغته. وإنما معناه: قد كبرت، وهو كقول القائل:"قد بلغني الجهد" (1) بمعنى: أني في جهد.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قال زكريا وهو نبيّ الله:"ربّ أني يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر"، وقد بشرته الملائكة بما بشرته به عن أمر الله إياها به؟ أشكّ في صدقهم؟ فذلك ما لا يجوز أن يوصفَ به أهل الإيمان بالله! فكيف الأنبياء والمرسلون؟ أم كان ذلك منه استنكارًا لقدرة ربه؟ فذلك أعظم في البلية!
قيل: كان ذلك منه صلى الله عليه وسلم على غير ما ظننتَ، بل كان قِيله ما قال من ذلك، كما:-
7001 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما سمع النداء - يعني زكريا، لما سمع نداء الملائكة بالبشارة بيحيى - جاءه الشيطان فقال له: يا زكريا، إن الصوت الذي سمعت ليس هو من الله، إنما هو من الشيطان يسخرُ بك! ولو كان من الله أوحاه إليك كما يُوحى إليك في غيره من الأمر! فشكّ مَكانه، (2) وقال:"أنَّي يكون لي غلام"، ذكرٌ؟ = يقول: من أين؟ = (3) "وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر".
7002 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي بكر، عن عكرمة قال: فأتاه الشيطان فأراد أن يكدّر عليه نعمةَ ربه فقال: هل تدري من ناداك؟ قال: نعم! نادتني ملائكتهُ ربي! (4) قال: بل ذلك الشيطان!
__________
(1) في المطبوعة: "وقد بلغني الجهد" زاد واوًا لا خير فيها، والصواب من المخطوطة.
(2) قوله: "فشك مكانه"، أي من ساعته، من فوره. ويقال: "فعل ذلك على المكان"، أي من ساعته غير متلبث ولا متصرف، قبل أن يفارق مكانه.
(3) في المطبوعة: "ومن أين" بالواو، وفي المخطوطة واو أيضًا، لكنه ضرب عليها.
(4) في المطبوعة: "ناداني"، وأثبت ما في المخطوطة.(6/382)
لو كان هذا من ربك لأخفاه إليك كما أخفيت نداءك! فقال:"رب اجعل لي آية".
* * *
= فكان قولهُ ما قال من ذلك، ومراجعته ربَّه فيما راجع فيه بقوله:"أنى يكون لي غلام"، للوسوسة التي خالطتْ قلبه من الشيطان حتى خيَّلت إليه أنّ النداء الذي سمعه كان نداءً من غير الملائكة، فقال:"رب أنَّي يكون لي غلام"، مستثبتًا في أمره، ليتقرّر عنده بآية يريها الله في ذلك - (1) أنه بشارة من الله على ألسن ملائكته، ولذلك قال:"رب اجعل لي آية".
* * *
وقد يجوز أن يكون قيله ذلك، مسألةً منه ربَّه: من أيّ وجه يكون الولدُ الذي بُشر به؟ أمن زوجته؟ فهي عاقر - أم من غيرها من النساء؟ فيكون ذلك على غير الوجه الذي قاله عكرمة والسدي ومن قال مثلَ قولهما.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"كذلك الله"، أي هو ما وصفَ به نفسه أنه هيِّنٌ عليه أن يخلق ولدًا من الكبير الذي قد يَئس من الولد، ومن العاقر التي لا يُرْجى من مثلها الولادة، كما خلقك يا زكريا من قبل خلْق الولدِ منك ولم تك شيئًا، لأنه الله الذي لا يتعذر عليه خلق شيء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شيء شاءَه، لأن قدرَته القدرةُ التي لا تُشبهها قدرة، كما:-
7003 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) في المطبوعة: "يريه الله في ذلك"، والصواب ما في المخطوطة.(6/383)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
السدي قال:"كذلك الله يفعل ما يشاء"، وقد خلقتك من قبل ولم تكُ شيئًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، خبرًا عن زكريا، قال زكريا: ربّ إن كان هذا النداء الذي نُوديتُه، والصوتُ الذي سمعته، صوتَ ملائكتك وبشارةً منك لي، فاجعل لي آية = يقول: علامةً = أن ذلك كذلك، ليزول عنِّي ما قد وسوس إليّ الشيطان فألقاه في قلبي، من أنّ ذلك صوتُ غير الملائكة، وبشارةٌ من عند غيرك، كما:-
7004 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"رب اجعل لي آية"، قال: قال - يعني زكريا -: يا ربّ، فإن كان هذا الصوت منكَ، فاجعل لي آيةً.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على معنى"الآية"، وأنها العلامة، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في سبب ترك العرب همْزها، ومن شأنها همزُ كل"ياء" جاءت بعد"ألف" ساكنة.
فقال بعضهم: ترك همزها، لأنها كانت"أيَّة"، فثقُل عليهم التشديد، فأبدلوه"ألفًا" لانفتاح ما قبل التشديد كما قالوا:"أيْما فلانٌ فأخزاه الله". (2)
* * *
وقال آخرون منهم: بل هي"فاعلة" منقوصة.
__________
(1) انظر ما سلف 1: 106، ثم انظر فهرس اللغة مادة (أيى) في الأجزاء السالفة.
(2) "أيما"، بمعنى "أما" مشددة الميم.(6/384)
فسئلوا فقيل لهم: فما بال العرب تصغرها"أيَيَّة"، ولم يقولوا"أوَيَّة". (1) فقالوا: قيل ذلك، كما قيل في"فاطمة"،"هذه فُطيمة". فقيل لهم: فإنهم إنما يصغرون"فاعلة"، على"فعيلة"، إذا كان اسمًا في معنى فلان وفلانة، فأما في غير ذلك فليس من تصغيرهم"فاعلة" على"فعيلة". (2)
* * *
وقال آخرون: إنه"فَعْلة" صيرت ياؤها الأولى"ألفا"، كما فعل بـ"حاجة، وقامة".
فقيل لهم: إنما تفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة. (3)
وقال من أنكر ذلك من قِيلهم: لو كان كما قالوا: لقيل في"نواة" ناية، وفي"حَياة" حَاية. (4)
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ آيَتُكَ أَلا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلا رَمْزًا}
قال أبو جعفر: فعاقبه الله - فيما ذكر لنا - بمسألته الآية، بعد مشافهة الملائكة إياه بالبشارة، فجعل آيته = على تحقيق ما سمع من البشارة من الملائكة
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أويية"، والصواب ما أثبت بتشديد الياء.
(2) قائل ذلك، هو الكسائي وأصحابه. وسائلوه: هم الفراء وأصحابه. انظر لسان العرب مادة (أيا) .
(3) أولاد الثلاثة: يعني الاسم الثلاثي.
(4) انظر تفصيل ما سلف، وبعضه بنصه في لسان العرب 18: 66، وهذه الردود كلها للفراء، كما يظهر من نص اللسان، وكأن في نص الطبري بعض الاضطراب، فإن قوله: "فقيل لهم: إنما يفعل العرب ذلك في أولاد الثلاثة"، إنما هو رد على قول من زعم إنها"فاعلة" منقوصة، مثل حاجة وقامة، وأن أصلها حائجة وقائمة. وأخشى أن يكون الناسخ قد أسقط، أو قدم شيئًا، فاضطرب الكلام.(6/385)
بيحيى أنه من عند الله = (1) آية من نفسه، جمعَ تعالى ذكره بها العلامة التي سألها ربَّه على ما يبيِّن له حقيقة البشارة أنها من عند الله، وتمحيصًا له من هفوته، وخطإ قِيله ومسألته.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7005 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناسَ ثلاثةَ أيام إلا رمزًا"، إنما عوقب بذلك، لأن الملائكة شافهته مشافهة بذلك، فبشَّرته بيحيى، فسأل الآية بعد كلام الملائكة إياه. فأخِذَ عليه بلسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا ما أومأ وأشار، فقال الله تعالى ذكره، كما تسمعون:"آيتك ألا تكلم الناس ثلاثةَ أيام إلا رمزًا".
7006 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أن الله يبشرك بيحيى مصدِّقًا"، قال: شافهته الملائكة، فقال:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، يقول: إلا إيماءً، وكانت عقوبةً عُوقب بها، إذ سأل الآيةَ مع مشافهة الملائكة إياه بما بشرته به.
7007 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع في قوله:"رب اجعل لي آية، قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة
__________
(1) في المطبوعة: "على تخصيص ما سمع ... "، وهو فاسد لا معنى له، وأوقعه في ذلك أن كاتب المخطوطة كتب أولا تخصيص" ثم عاد فطمس الصاد الأولى، ووضع عليها نقطتي القاف، ثم ركب على حوض الصاد (ص) دائرة القاف، فلم يستطع الناشر الأول أن يقرأ ذلك إلا على الوجه الذي هرب منه الناسخ!!
وسياق هذه العبارة"فجعل آيته. . . آية من نفسه" وتلك الآية: أنه حبس لسانه فلم يكلم الناس إلا كما أمر، رمزًا.(6/386)
أيام إلا رمزًا"، قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه عوقب، لأن الملائكة شافهته مشافهة، فبشرته بيحيى، فسأل الآية بعدُ، فأخِذَ بلسانه.
7008 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه عوقب، لأن الملائكة شافهته فبشرته بيحيى، قالت:"أنّ الله يبشرك بيحيى"، فسأل بعد كلام الملائكة إياه الآية، فأخِذ عليه لسانه، فجعل لا يقدر على الكلام إلا رمزًا - يقول: يومئ إيماءً.
7009 - حدثني أبو عبيد الوَصّابي قال، حدثنا محمد بن حمير قال، حدثنا صفوان بن عمرو، عن جُبير بن نُفير في قوله:"قال رب اجعل لي آيةً قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: ربَا لسانه في فيه حتى ملأه، ثم أطلقه الله بعد ثلاثٍ. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اختارت القرأةُ النصبَ في قوله:"ألا تكلم الناس"، لأن معنى الكلام: قال آيتك أن لا تكلمَ الناسَ فيما يستقبلُ ثَلاثة أيام = فكانت"أن" هي التي تصحب الاستقبال، دون التي تصحب الأسماء فتنصبها. ولو كان المعنى فيه: آيتك أنك لا تكلم الناس ثلاثة أيام = أي: أنك على هذه الحال ثلاثة أيام = كان وجه الكلام الرفع. لأن"أن" كانت تكون حينئذ بمعنى
__________
(1) الأثر: 7009-"أبو عبيد الوصابي" هو: "محمد بن حفص"، مضى في التعليق على رقم: 129، 6780، وكان في المطبوعة: "الرصافي"، وفي المخطوطة"الوصافي"، وكلاهما خطأ. و"محمد بن حمير" مضى أيضًا في: 129: 6870. و"صفوان بن عمرو بن هرم السكسكي الحمصي" روى عن عبد الله بن بسر المازني الصحابي وجبير بن نفير، وجماعة. كان ثقة مأمونًا، مترجم في التهذيب. و"جبير بن نفير"، أدرك زمان النبي صلى الله عليه وسلم وكان جاهليًا، أسلم زمن أبي بكر وروى عن رسول الله وعن أبي بكر مرسلا، وروى عن أبي ذر وأبي الدرداء وغيرهما من الصحابة. قال أبو حاتم: "ثقة من كبار تابعي أهل الشام". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "جويبر بن نصير"!! وهو خطأ لا شك فيه، والصواب في المخطوطة.(6/387)
الثقيلة خففت. ولكن لم يكن ذلك جائزًا، لما وصفت من أن ذلك بالمعنى الآخر.
* * *
وأما"الرّمز"، فإنّ الأغلب من معانيه عند العرب: الإيماءُ بالشفتين، وقد يستعمل في الإيماء بالحاجبين والعينين أحيانًا، وذلك غير كثير فيهم. وقد يقال للخفي من الكلام الذي هو مثلُ الهمس بخفض الصّوت:"الرمز"، ومنه قول جُؤيّة بن عائذ: (1)
وَكَانَ تَكَلُّمُ الأبْطَالِ رَمْزًا ... وَهَمْهَمَةً لَهُمْ مِثْلَ الهَدِيرِ (2)
يقال منه:"رَمز فلان فهو يَرْمِزُ ويرمُز رَمزًا = ويترمَّزُ ترمُّزًا"، ويقال:"ضربه ضربةً فارتمز منها"، أي اضطرب للموت، قال الشاعر: (3)
خَرَرْتُ مِنْهَا لِقِفَايَ أَرْتَمِزْ (4)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي عنى الله عز وجل به في إخباره عن زكريا من قوله:"آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، وأيّ معاني"الرمز" عني بذلك؟
فقال بعضهم: عني بذلك: آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا تحريكًا بالشفتين، من غير أن ترمز بلسانك الكلام.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "حوبة بن عابد"، وهو لا معنى له في الصواب ولا في الخطأ. وهو في المخطوطة بهذا الرسم غير منقوط. والصواب ما أثبت.
وهو جؤبة بن عائذ النصري، فيما روى ابن السكيت في تهذيب الألفاظ: 125. أما الآمدي في المؤتلف والمختلف: 83، فقد سماه: "عائذ بن جؤية بن أسيد بن جرار بن عبد بن عاثرة بن يربوع بن واثلة بن دهمان بن نصر بن معاوية بن بكر بن هوازن"، وذكره أيضًا البغدادي في الخزانة 1: 476. والعجب لبعض من يعلق على تفسير الطبري أن يزعم كالقاطع الجازم أنه"جؤية بن عائذ الكوفي النحوي"!!
(2) لم أجد البيت فيما بين يدي من الكتب، ولكني أذكره. وكان في المطبوعة: "وكان يكلم" والصواب ما أثبت.
(3) لم أعرف هذا الراجز.
(4) اللسان (رمز) .(6/388)
7010 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن النضر بن عربي، عن مجاهد في قوله:"إلا رمزًا"، قال: تحريك الشفتين.
7011 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: إيماؤه بشفتيه.
7012 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: بل عنى الله بذلك: الإيماء والإشارة.
ذكر من قال ذلك:
7013 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"إلا رمزًا"، قال: الإشارة.
7014 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا رمزًا"، قال: الرمز أن يشير بيده أو رأسه، ولا يتكلم.
7015 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إلا رمزًا"، قال: الرمزُ: أنْ أخِذ بلسانه، فجعل يكلم الناس بيده.
7016 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إلا رمزًا"، قال: والرمز الإشارة.
7017- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، الآية، قال:(6/389)
جعل آيته أن لا يكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا، إلا أنه يذكر الله. والرّمز: الإشارة، يشير إليهم.
7018 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"إلا رمزًا"، إلا إيماءً.
7019 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7020 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا رمزًا"، يقول: إشارة.
7021 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عبد الله بن كثير:"إلا رمزًا"، إلا إشارة.
7022 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، قال: أمسكَ بلسانه، فجعل يومئ بيده إلى قومه: أنْ سبِّحوا بُكرة وعشيًّا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإبْكَارِ (41) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: قال الله جل ثناؤه لزكريا: يا زكريا،"آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا"، بغير خرس ولا عاهة ولا مرض، ="واذكر ربك كثيرًا"، فإنك لا تمنع ذكرَه، ولا يحالُ بينك وبين تسبيحه وغير ذلك من ذكره، (1) وقد:-
__________
(1) انظر تفسير"سبح" فيما سلف 1: 472-474، وفهارس اللغة.(6/390)
7023 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن أبي معشر، عن محمد بن كعب قال: لو كان الله رخص لأحد في ترك الذكر، لرخَّص لزكريا حيث قال:"آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزًا واذكر ربك كثيرًا"، أيضًا.
* * *
وأما قوله:"وسبح بالعشي"، فإنه يعني: عَظِّم ربك بعبادته بالعشي.
* * *
و"العَشيّ" من حين تزُول الشمس إلى أن تغيب، كما قال الشاعر: (1)
فَلا الظِّلَّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعَهُ، ... وَلا الفَيْءَ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ (2)
فالفيء، إنما تبتدئ أوْبته عند زوال الشمس، وَيتناهى بمغيبها.
* * *
__________
(1) هو حميد بن ثور الهلالي.
(2) ديوانه: 40، وهو من قصيدته الجيدة التي قالها، لما تقدم عمر بن الخطاب إلى الشعراء، أن لا يشبب أحد بامرأة إلا جلده، فخرج من عقوبة عمر بأن ذكر"سرحة" وسماها"سرحة مالك" فشكا أهلها إلى عمر، فقال لهم: تجرَّمَ أهْلُوهَا، لأَنْ كُنْتُ مُشْعَرًا ... جُنُونًا بها!! يا طُولَ هذَا التَجَرُّمِ!
وَمَا لِيَ من ذَنْبٍ إِلَيْهِمْ عَلِمْتُهُ ... سِوَى أنّني قَدْ قُلْتُ: "يَا سَرْحَةُ اسْلَمِى"
بَلَى، فاسلِمي، ثُمَّ اسْلَمِي، ثُمَّتَ اسلمي، ... ثَلاَثَ تَحِيَّاتٍ، وإن لم تَكَلَّمي
فكان رحمه الله خفيف الدم (كما يقول المصريون) . أما الأبيات التي منها البيت المستشهد به، فإنه ذكر السرحة واستسقى لها، ووصفها واستجاد لصفتها مكارم الصفات، ثم قال: فَيَا طِيبَ رَيَّاهَا، وَيَا بَرْدَ ظِلِّهَا ... إذَا حَانَ من حَامي النّهارِ وُدُوقُ
وهَلْ أنا إنْ عَلَّلْتُ نَفْسِي بِسَرْحةٍ ... من السَّرْحِ، مَسدُودٌ عَلَيَّ طريقُ
حَمَى ظِلَّهَا شَكْسُ الخَلِيقَةِ، خَائِفٌ ... عَلَيْهَا غَرَامَ الطَّائِفينَ، شَفِيقُ
فَلاَ الظِلَّ مِنْهَا بالضُّحَى تَسْتَطِيعُه ... وَلاَ الفَيْءَ مِنْهَا بالعَشِيّ تَذُوقُ
مع اختلاف الروايتين كما ترى.(6/391)
وأما"الإبكار" فإنه مصدر من قول القائل:"أبكر فلان في حاجة فهو يُبْكِر إبكارًا"، وذلك إذا خرج فيها من بين مطلع الفجر إلى وقت الضُّحى، فذلك"إبكار". يقال فيه:"أبكر فلان" و"بكر يَبكُر بُكورًا". فمن"الإبكار"، قول عمر بن أبي ربيعة:
أَمِنْ آلِ نُعَمٍ أَنْتَ غَادٍ فَمُبْكِرُ (1)
ومن"البكور" قول جرير:
أَلا بَكَرَتْ سَلْمَى فَجَدَّ بُكُورُهَا ... وَشَقَّ العَصَا بَعْدَ اجْتِمَاعٍ أَمِيرُهَا (2)
ويقال من ذلك:"بكر النخلُ يَبْكُر بُكورًا = وأبكر يُبكر إبكارًا"، (3) و"الباكور" من الفواكه: أوّلها إدراكًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7024 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وسبِّح بالعشيّ والإبكار"، قال:
__________
(1) ديوانه: 1، من قصيدته النفيسة، يقولها في"نعم"، وهي امرأة من قريش، من بني جمح، كان عمر كثير الذكر لها في شعره. وكأن شعره فيها من أصدق ما قال في امرأة، وهذا الشطر أول القصيدة وتمامه: غَدَاةَ غَدٍ? أمْ رَائحٌ فَمُهَجِّر?"
(2) ديوانه: 293، والنقائض: 7، يجيب حكيم بن معية الربعي، وكان هجا جريرًا. قال أبو عبيدة: "شق العصا: التفرق، ومن هذا يقال للرجل المخالف للجماعة: قد شق العصا. وأميرها: الذي تؤامره، زوجها أو أبوها".
(3) هذا نص خلت منه كتب اللغة، وحفظه أبو جعفر. وهو صواب، فإنهم قالوا: "البكيرة والباكورة والبكور" من النخل: التي تدرك في أول النخل، فذكروا الصفات، وتركوا الفعل. فهي زيادة ينبغي تقييدها.(6/392)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42)
الإبكار أوّل الفجر، والعشيّ مَيْل الشمس حتى تغيب. (1)
7025 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"والله سميعٌ عليم إذ قالت امرأة عمران ربّ نذرتُ لك ما في بطني محرَّرًا"،"وإذ قالت الملائكة يا مريمُ إن الله اصطفاك".
* * *
ومعنى قوله:"اصطفاك"، اختارك واجتباك لطاعته وما خصّك به من كرامته. (2)
* * *
وقوله:"وطهَّرك"، يعني: طهَّر دينك من الرّيب والأدناس التي في أديان نساء بني آدم (3)
* * *
="واصطفاك على نساء العالمين"، يعني: اختارك على نساء العالمين في زمانك، (4) بطاعتك إياه، ففضَّلك عليهم، كما روى عن رسول الله صلى الله
__________
(1) في المخطوطة: "مثل الشمس حيا يعيب"،!!! هكذا كتب وأعجم!!
(2) انظر معنى"اصطفى" فيما سلف 3: 91 / ثم 5: 312 / 6: 326.
(3) انظر معنى"طهر" فيما سلف 3: 38-40، وفهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"العالمين" فيما سلف 1: 143-146 / 2: 23-26 / ثم 5: 375.(6/393)
عليه وسلم أنه قال:"خيرُ نسائها مريم بنت عمران، وخيرُ نسائها خديجة بنت خويلد" = يعني بقوله:"خير نسائها"، خير نساء أهل الجنة.
7026 - حدثني بذلك الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا محاضر بن المورّع قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه، عن عبد الله بن جعفر قال: سمعت عليًّا بالعراق يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خيرُ نسائها مريم بنت عمران، وخيرُ نسائها خديجة. (1)
7027 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني المنذر بن عبد الله الحزامي، عن هشام بن عروة، عن أبيه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير نساء الجنة مريم بنت عمران، وخير نساء الجنة خديجة بنت خويلد. (2)
__________
(1) الحديث: 7026- محاضر بن المورع الهمداني الكوفي، وكنيته"أبو المورع" أيضًا: ثقة، لينة أحمد وأبو حاتم. ورجحنا في المسند: 3823 توثيقه. ووثقه ابن سعد 6: 278. و"محاضر": بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الضاد المعجمة. و"المورع": بضم الميم وفتح الواو وكسر الراء المشددة وآخره عين مهملة.
والحديث رواه أحمد في المسند، عن عبد الله بن نمير: 640، وعن وكيع: 1109، وعن محمد ابن بشر: 1211- ثلاثتهم عن هشام بن عروة. ورواه ابنه عبد الله، في المسند: 938، عن طريق أبي خيثمة، ووكيع، وأبي معاوية - ثلاثتهم عن هشام بن عروة، بهذا الإسناد.
ورواه البخاري 6: 339، و 7: 100-110، ومسلم 2: 243، والترمذي 4: 365- كلهم من طريق هشام بن عروة، به.
ورواه الحاكم في المستدرك 3: 184، عن طريق ابن نمير، ثم من طرق المسند عن وكيع وابن نمير.
وذكره ابن كثير في التفسير 2: 138، وفي التاريخ 2: 59، عن رواية الصحيحين.
وذكره السيوطي 2: 23، ونسبه أيضًا لابن أبي شيبة، وابن مردويه.
(2) الحديث: 7027- المنذر بن عبد الله بن المنذر الحزامي: ثقة، كان من سروات قريش وأهل الندى والفضل. ترجمه البخاري في الكبير 4 / 1 / 359، وابن أبي حاتم 4 / 1 / 243- فلم يذكرا فيه جرحًا.
والحديث هو الحديث السابق. ولكنه هنا من حديث عبد الله بن جعفر عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهناك من حديثه عن عمه علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم. فهو إما مرسل صحابي، وإما قصر الراوي عن هشام، فترك ذكر علي، والأرجح أن يكون عبد الله بن جعفر سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمعه عنه بواسطة علي. فرواه على الوجهين. وهو صحيح بكل حال.(6/394)
7028 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: حسبك بمريم بنت عمران، وامرأة فرعون وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد، من نساء العالمين = قال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"خيرُ نساء ركبن الإبل صوالحُ نساء قريش، أحناهُ على ولد في صغره، وأرعاهُ على زوج في ذات يده" = (1) قال قتادة: وذكر لنا أنهُ كان يقول:"لو علمت أنّ مريم ركبت الإبل، ما فضّلت عليها أحدًا". (2)
__________
(1) من العربية العريقة إعادة الضمير المفرد بعد أفعل التفضيل، على الجمع، وقد جاء في الشعر، وجاء في الآثار كقوله: "كان عمار بن ياسر من أطول الناس سكوتًا وأقله كلامًا". وقد سلف بيان ذلك في رقم: 5968، 6129، (فانظره) .
(2) الحديث: 7028 - هو حديث مرسل. بل هو في حقيقته ثلاثة أحاديث، يقول قتادة في أول كل منها: "ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول":
فأولها -"حسبك بمريم ... "-: ثبت موصولا. فرواه أحمد في المسند: 12418 (ج 3 ص 135 حلبي) - عن عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة، عن أنس - هو ابن مالك - مرفوعًا، بنحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 3: 157-158، عن أبي بكر القطيعي - راوي المسند - عن عبد الله بن أحمد، عن أبيه، عن عبد الرزاق. ولكنه ذكر أنه رواه عن القطيعي "في فضائل أهل البيت، تصنيف أبي عبد الله أحمد بن حنبل". فلم يروه من كتاب (المسند) ، إنما رواه من كتاب آخر لأحمد والإسناد واحد.
ورواه الترمذي 4: 366، وابن حبان في صحيحه (2: 375 من مخطوطة التقاسيم والأنواع) - كلاهما من طريق عبد الرزاق، به.
وقال الترمذي: "هذا حديث صحيح". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه بهذا اللفظ فإن قوله صلى الله عليه وسلم: حسبك من نساء العالمين - يسوي بين نساء الدنيا".
وقد يوهم كلام الحاكم أن الشيخين روياه من حديث أنس بغير هذا اللفظ. والشيخان لم يروياه من حديث أنس أصلا.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 59-60، من رواية المسند، وفي التفسير 2: 138-139، من رواية الترمذي. وأشار في الموضعين إلى رواية ابن مردويه إياه من طريق ثابت عن أنس. وسيأتي من رواية ثابت: 7030. وسنذكره هناك، إن شاء الله.
وأشار الحافظ في الفتح 6: 340، إلى رواية الترمذي إياه، وقال: "بإسناد صحيح".
وثانيها: "خير نساء ركبن الإبل ... " - وسيأتي عقب هذا: 7029، من رواية قتادة، عن أبي هريرة. وسيأتي عقب هذا: ونذكر علته وتخريجه هناك، إن شاء الله.
وثالثها: "لو علمت أن مريم ركبت الإبل، ما فضلت عليها أحدًا". وهو لفظ منكر، ما علمته ثبت من طريق متصل. والصحيح أنه من كلام أبي هريرة، كما سيأتي في الحديث التالي.(6/395)
7029 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، قال: كان أبو هريرة يحدث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: خيرُ نساء ركبن الإبل صُلحُ نساء قُرْيش، أحناه على ولد، وأرعاه لزوج في ذات يده = قال أبو هريرة: ولم تركب مريم بعيرًا قط. (1)
__________
(1) الحديث: 7029- وهذا إسناد منقطع، لأن قتادة بن دعامة السدوسي لم يدرك أبا هريرة، لأنه ولد سنة 61، بعد وفاة أبي هريرة. ولذلك قال هنا: "كان أبو هريرة يحدث"، فهو شبيه في عبارته بالبلاغ.
ومتن الحديث صحيح:
فرواه أحمد في المسند: 7637، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، بنحوه، مطولا.
ورواه كذلك: 7695، بهذا الإسناد، مختصرًا.
ورواه: 7638، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن أبي هريرة، مختصرًا.
وذكره ابن كثير في التفسير 2: 138، عن الرواية الأولى من المسند، ثم قال: "ولم يخرجه من هذا الوجه سوى مسلم، فإنه رواه عن محمد بن رافع وعبد بن حميد - كلاهما عن عبد الرزاق، به". وذكره أيضًا في التاريخ 2: 60، ثم أشار إلى رواية مسلم.
ورواية مسلم، هي في صحيحه 2: 370.
ورواه أيضا البخاري 9: 107-108، و 448، ومسلم 2: 369-370، من طرق عن أبي هريرة.
والروايات الصحاح، هي أن أبا هريرة قال من عند نفسه، في آخر الحديث: "ولم تركب مريم بعيرًا قط".
وأما رفع هذا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، باللفظ الذي في الحديث السابق - فهو كما قلنا: "لفظ منكر".
قوله"صلح" - بضمتين: هكذا في المخطوطة. وكان ناسخها كتب"صوالح"، ثم ضرب عليها وكتب"صلح". و"صلح": جمع"صليح". يقال: صالح وصلح، وهو جمع محمول على"فعيل" في الأسماء، فقالوا في جمع الصفات: "نذير ونذر، وجديد وجدد"، كما قالوا في الأسماء"كثيب وكثب". وهذا حرف لم ينص عليه في كتب اللغة.(6/396)
7030 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"وإذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، قال: كان ثابت البناني يحدث، عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد. (1)
7031 - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا عمرو بن مرة قال، سمعت مرة الهمداني يحدث، عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كمل من الرّجال كثيرٌ،
__________
(1) الحديث: 7030- هذا إسناد ضعيف، لجهالة الشيخ الذي رواه عنه الطبري، إذ قال"حدثت" بالبناء للمجهول.
وابن أبي جعفر: هو عبد الله الرازي. وهو ثقة، وثقه أبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2 / 2 / 127.
أبوه "أبو جعفر الرازي": اختلف في اسمه، والراجح أنه"عيسى بن ماهان". وهو ثقة، وثقه ابن المديني، وابن سعد 7 / 2 / 109، وغيرهما. ترجم في التهذيب في الكنى، وترجمه ابن أبي حاتم في ترجمة"عيسى" 3 / 1 / 280. وقد أشرنا إلى ترجمته في: 164. ولم أستطع أن أجد ما يدل على أنه أدرك ثابتًا البناني.
ثم هذا الحديث ذكره ابن كثير في التفسير 2: 139، والتاريخ 2: 60 أنه رواه ابن مردويه، من طريق عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن ثابت، عن أنس. وزاد في التاريخ أنه رواه ابن عساكر من طريق تميم بن زياد، عن أبي جعفر الرازي، ولكنه لم يكشف عن سنده في ابن مردويه إلى ابن أبي جعفر، ولا عن سنده في ابن عساكر إلى تميم بن زياد، فلا نستطيع أن نتبين صحة هذين الإسنادين أو أحدهما.
وقد مضى في شرح 7028، أنه رواه أحمد، والترمذي، وابن حبان في صحيحه، والحاكم - من حديث معمر، عن قتادة، عن أنس. فأغنى ثبوته من ذاك الوجه الصحيح عن هذا الوجه الضعيف، أو المشكوك في صحته. والحمد لله.(6/397)
ولم يكمل من النساء إلا مريم، وآسية امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد. (1)
7032 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو الأسود المصري قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمارة بن غزية، عن محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان: أن فاطمة بنت حسين بن علي حدثته: أن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا وأنا عند عائشة، فناجاني، فبكيتُ، ثم ناجاني فضحكت، فسألتني عائشة عن ذلك، فقلت: لقد عَجلْتِ! أخبرُك بسرّذ رسول الله صلى الله عليه وسلم!! فتركتني. فلما تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم سألتها عائشة فقالت: نعم، ناجاني فقال: جبريلُ كان يعارضُ القرآنَ كلّ عام مرة، وإنه قد عارضَ القرآنَ مرّتين؛ وإنه ليس من نبيّ إلا عُمِّر نصف عُمر الذي كان قبله، وإن عيسى أخي كان عُمْره عشرين ومئة سنة، وهذه لي ستون، وأحسبني ميتًا في عامي هذا، وإنه لم تُرْزأ امرأةٌ من نساء العالمين بمثل ما رُزئتِ، ولا تكوني دون امرأة صبرًا! قالت: فبكيتُ، ثم قال: أنت سيدة
__________
(1) الحديث: 7031- آدم العسقلاني: هو آدم بن أبي إياس، شيخ البخاري. مضى مرارًا.
عمرو بن مرة: هو الجملي المرادي. مضى توثيقه: 175. واسم جده"عبد الله بن طارق". فمرة أبوه، غير"مرة الهمداني" شيخه هنا. فإنه"مرة بن شراحيل الهمداني" الثقة التابعي المخضرم. وقد مضى مرارًا. والحديث رواه البخاري 6: 340، عن آدم - وهو ابن أبي إياس العسقلاني، بهذا الإسناد، مطولاً.
ورواه أيضا 6: 320، من طريق وكيع، عن شعبة، ورواه أيضًا 7: 83، عن آدم، وعن عمرو - وهو ابن مرزوق - كلاهما عن شعبة.
ونقله ابن كثير في التفسير 2: 139، عن هذا الموضع من الطبري، ثم قال: "وقد أخرجه الجماعة إلا أبا داود، من طرق عن شعبة، به". ثم ذكر أنه استقصى طرقه في التاريخ. ولكنه لم يفعل، فإنه ذكره فيه 2: 61، منسوبًا إلى"الجماعة إلا أبا داود، من طرق عن شعبة".
وذكره السيوطي 2: 23، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.(6/398)
نساء أهل الجنة إلا مريم البتول. فتوفي عامه ذلك. (1)
7033 - حدثني المثنى قال حدثنا أبو الأسود قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن الحارث، أن أبا زياد الحميريّ حدثه، أنه سمع عمار بن سعد يقول: قال
__________
(1) الحديث: 7032- أبو الأسود المصري: هو النضر بن عبد الجبار بن نصير المرادي. وهو ثقة. روى عنه يحيى بن معين، وأبو حاتم، وغيرهما.
عمارة بن غزية - بفتح الغين المعجمة وكسر الزاي وتشديد الياء التحتية - بن الحارث، الأنصاري المازني المدني: ثقة، وثقه ابن سعد، والدارقطني، وغيرهما، وأخرج له مسلم في الصحيح.
محمد بن عبد الله بن عمرو بن عثمان بن عفان: ثقة، وثقه النسائي، والعجلي، وغيرهما. وقال ابن سعد: "كان كثير الحديث عالمًا". وكان جوادًا ممدحًا. وهو المعروف بالديباج، لحسنه. وأبوه"عبد الله بن عمرو بن عثمان": هو المعروف بالمطرف، لحسنه أيضًا.
ووقع في المخطوطة والمطبوعة"محمد بن عبد الرحمن بن عمرو بن عثمان". وهو خطأ يقينًا في اسم والد"محمد". فهو"عبد الله"، لا"عبد الرحمن".
وفاطمة بنت الحسين بن علي بن أبي طالب: تابعية ثقة. كانت تحت ابن عمها"الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب"، وأعقبت منه، فلما مات تزوجت"المطرف عبد الله بن عمرو بن عثمان". زوجه إياها ابنها عبد الله بن حسن بن حسن، بأمرها، فأعقبت منه أولادًا، منهم "محمد" الراوي عنها هنا. وعمرت فاطمة حتى قاربت التسعين.
وروايتها عن جدتها فاطمة الزهراء بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم - رواية منقطعة، ظاهرة الإرسال، لأن الزهراء ماتت بعد أبيها بستة أشهر، وكان ولدها الحسن والحسين صغيرين.
فهذا الحديث ضعيف الإسناد، لهذا الانقطاع.
ولم أجده في شيء من الدواوين غير هذا الموضع.
وقد أشار إليه الحافظ في الفتح مرتين، لم ينسبه فيهما لغير الطبري:
فأشار إليه 6: 104، وجعله"عند الطبري من وجه آخر عن عائشة"، وهو وهم، فإنه من حديث فاطمة، كما ترى.
ثم أشار إليه 7: 82 على الصواب، من حديث فاطمة.
ووقع فيه في الموضعين غلط من ناسخ أو طابع.
وأصل هذه القصة ثابت من حديث عائشة، في الصحيحين وغيرهما. ولكن ليس فيه ذكر عيسى وعمره، ولا أنه"لم ترزأ امرأة ... ".
وعمر عيسى المذكور - في هذه الرواية- منكر جدًا، لم نجد أحدًا قال مثل هذا، فيما نعلم. وهو من دلائل ضعف هذه الرواية.
وانظر حديث عائشة في البخاري 65: 462، و 7: 63-64، و 8: 103-104 (فتح) ، ومسلم 2: 248-249، وابن سعد 2 / 2 / 39-40، و 8: 17.(6/399)
رسول الله صلى الله عليه وسلم: فُضّلت خديجةُ على نساء أمتي، كما فضلت مريم على نساء العالمين. (1)
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى قوله:"وطهرك"، أنه: وطهَّر دِينك من الدّنس والرّيب، قاله مجاهد. (2)
7034 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن الله اصطفاك وطهرك"، قال: جعلك طيبةً إيمانًا.
7035 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
7036 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح:"واصطفاك على نساء العالمين"، قال: ذلك للعالمين يومئذ. (3)
* * *
وكانت الملائكة - فيما ذكر ابن إسحاق - تقول ذلك لمريم شفاهًا.
7037 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال:
__________
(1) الحديث: 7033- هذا إسناد ضعيف بكل حال.
أما أبو زياد الحميري: فلم نعرف من هو؟ ولم نجد له ترجمة ولا ذكرًا. والغالب أنه محرف عن شيء لا ندريه.
وأما "عمار بن سعد بن عابد المؤذن": فإنه المعروف أبوه بلقب"سعد القرظ" المؤذن. وعمار هذا تابعي، نص في التهذيب على أن روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلة. وقد ترجمه الحافظ في الإصابة 5: 83، في القسم الثاني، الذين ولدوا في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "قال مجاهد"، والصواب ما أثبت كما يدل عليه السياق.
(3) انظر ما سلف ص: 393 تعليق: 4، مراجع تفسير"العالمين".(6/400)
يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
كانت مريم حبيسًا في الكنيسة، ومعها في الكنيسة غُلام اسمه يُوسف، وقد كانَ أمه وأبوه جعلاه نذيرًا حبيسًا، فكانا في الكنيسة جميعًا، وكانت مريم، إذا نَفِدَ ماؤها وماء يوسف، أخذا قُلَّتيهما فانطلقا إلى المفازة التي فيها الماء الذي يستعذِبان منه، (1) فيملآن قلتيهما، ثم يرجعان إلى الكنيسة، والملائكة في ذلك مقبلة على مريم:"يا مريم إن الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"، فإذا سمع ذلك زكريا قال: إنّ لابنة عمرانَ لشأنًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله - خبرًا عن قِيل ملائكته لمريم:"يا مريم اقنتي لربك"، أخلصي الطاعة لربك وحده.
* * *
وقد دللنا على معنى"القنوت"، بشواهده فيما مضى قبل. (2) والاختلافُ بين أهل التأويل فيه في هذا الموضع، نحو اختلافهم فيه هنالك. وسنذكر قول بعضهم أيضًا في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معنى"اقنتي"، أطيلي الرُّكود.
ذكر من قال ذلك:
7038 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) يستعذبان: يستقيان، وأصله من قولهم: "استعذب": أي استقى أو طلب ماء عذبًا. وفي الحديث: "أنه كان يستعذب له من بيوت السقيا"، أي يحضر له منها الماء العذب.
(2) انظر ما سلف 2: 538، 539 / ثم 5: 228، 237 / 6: 264.(6/401)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: أطيلي الركود، يعني القنوت.
7039 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7040 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج"اقنتي لربك"، قال قال مجاهد: أطيلي الركود في الصّلاة = يعني القنوت.
7041 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لما قيل لها:"يا مريم اقنتي لربك"، قامت حتى وَرِم كعباها.
7042 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا عبد الله بن إدريس، عن ليث، عن مجاهد قال: لما قيل لها:"يا مريم اقنتي لربك"، قامت حتى ورمت قدَماها.
7043 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي ليلى، عن مجاهد:"اقنتي لربك"، قال: أطيلي الركود.
7044 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: القنوت: الركود. يقول: قومي لربك في الصلاة. يقول: اركدي لربّك: أي انتصبي له في الصلاة ="واسجدي واركعي مع الراكعين".
7045 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: كانت تصلي حتى تَرِم قدماها.(6/402)
7046 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا الأوزاعي:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: كانت تقوم حتى يَسيل القيح من قدميها.
* * *
وقال أخرون: معناه: أخلصي لربك.
ذكر من قال ذلك:
7047 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد:"يا مريم اقنتي لربك"، قال: أخلصي لربك.
* * *
وقال أخرون: معناه: أطيعي ربك.
ذكر من قال ذلك:
7048 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"اقنتي لربك"، قال: أطيعي ربك.
7049 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"اقنتي لربك"، أطيعي ربك.
7050 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال حدثنا ابن لهيعة، عن درّاج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل حرف يذكر فيه القنوت من القرآن، فهو طاعة لله. (1)
7051 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"يا مريم اقنتي لربك"، قال يقول: اعبدي ربك.
* * *
__________
(1) الأثر: 7050 - هذا إسناد آخر للخبر السالف رقم: 5518 من طريق الربيع بن سليمان، عن أسد بن موسى، عن ابن لهيعة.(6/403)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
قال أبو جعفر: وقد بينا أيضًا معنى"الرّكوع""والسجود" بالأدلة الدالة على صحته، (1) وأنهما بمعنى الخشوع لله، والخضوع له بالطاعة والعُبُودة. (2)
* * *
فتأويل الآية، إذًا: يا مريم أخلصي عبادةَ ربك لوجهه خالصًا، واخشعي لطاعته وعبادته مع من خشع له من خلقه، شكرًا له على ما أكرمك به من الاصطفاء والتَّطهير من الأدناس، والتفضيل على نساء عالم دَهرك.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله ذلك: الأخبارَ التي أخبرَ بها عبادَه عن امرأة عمران وابنتها مريم، وزكريا وابنه يحيى، وسائر ما قصَّ في الآيات من قوله:"إن الله اصطفى آدم ونوحًا"، ثم جمعَ جميعَ ذلك تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، فقال: هذه الأنباء من"أنباء الغيب"، أي: من أخبار الغيب.
ويعني ب"الغيب"، أنها من خفيّ أخبار القوم التي لم تطَّلع أنت، يا محمد، عليها ولا قومك، ولم يعلمها إلا قليلٌ من أحبار أهل الكتابين ورهبانهم.
ثم أخبر تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه أوحى ذلك إليه، حجةً على نبوته، وتحقيقًا لصدقه، وقطعًا منه به عذرَ منكري رسالته من كفار أهل الكتابين، الذين يعلمون أنّ محمدًا لم يصل إلى علم هذه الأنباء مع خفائها، ولم يدرك معرفتها مع خُمولها عند أهلها، إلا بإعلام الله ذلك إياه. إذ كان معلومًا عندهم أنّ محمدًا صلى الله عليه وسلم أميٌّ لا يكتب فيقرأ الكتب، فيصل إلى علم ذلك من
__________
(1) انظر تفسير"السجود" فيما سلف 2: 104، 105، 242، وفهارس اللغة، وتفسير"الركوع" فيما سلف 1: 574، 575 / ثم 3: 43، 44، وفهارس اللغة.
(2) في المطبوعة: "العبودية"، وأثبت صواب ما في المخطوطة، والطبري يكثر من استعمالها كذلك. انظر ما سلف: 271؛ والتعليق: 1.(6/404)
قِبَل الكتب، ولا صاحبَ أهل الكتُب فيأخذ علمه من قِبَلهم.
* * *
وأما"الغيْب" فمصدر من قول القائل:"غاب فلان عن كذا فهو يَغيب عنه غيْبًا وَغيبةً". (1)
* * *
وأما قوله:"نُوحيه إليك"، فإن تأويله: نُنَزِّله إليك.
* * *
وأصل"الإيحاء"، إلقاء الموحِي إلى الموحَى إليه.
وذلك قد يكون بكتاب وإشارة وإيماء، وبإلهام، وبرسالة، كما قال جل ثناؤه: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ) [سورة النحل: 68] ، بمعنى: ألقى ذلك إليها فألهمها، وكما قال: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ) [سورة المائدة: 111] ، بمعنى: ألقيت إليهم علمَ ذلك إلهامًا، وكما قال الراجز: (2)
* أَوْحَى لَهَا القَرَارَ فاسْتَقَرَّتِ * (3)
بمعنى ألقى إليها ذلك أمرًا، وكما قال جل ثناؤه: (فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا) [سورة مريم: 11] ، بمعنى: فألقى ذلك إليهم إيماء. (4) والأصل
__________
(1) انظر تفسير"الغيب" فيما سلف 1: 236، 237.
(2) هو العجاج.
(3) ديوانه 5، واللسان"وَحَى"، وسيأتي في التفسير 4: 142 (بولاق) ، وغيرها. ورواية ديوانه، وإحدى روايتي اللسان"وحى" ثلاثيًا، وقال: "أراد أوحى"، إلا أن من لغة هذا الراجز إسقاط الهمزة مع الحرف"، وانظر ما سيأتي في تفسير سورة مريم (16: 41 بولاق) . والبيت من رجز للعجاج يذكر فيه ربه ويثني عليه بآلائه، أوله: الحَمْدُ لِلِه الَّذِي اسْتَقَّلتِ ... بِإِذْنِه السَّماءُ، وَاطْمأَنَّتِ
بِإذْنِهِ الأَرْضُ وما تَعَتَّتِ ... وَحَى لَهَا القرارَ فَاسْتَقَرَّتِ
وَشدَّهَا بِالرَّاسِيَاتِ الثَّبتِ ... رَبُّ البِلادِ والعِبَادِ القُنَّتِ
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "فألقى ذلك إليهم أيضًا"، وهو خطأ بين، والصواب ما أثبته، وانظر ما سلف قريبًا في بيان قوله تعالى: "رمزًا"، ص: 388، وما بعدها.(6/405)
فيه ما وصفتُ، من إلقاء ذلك إليهم. وقد يكون إلقاؤه ذلك إليهم إيماءً، ويكون بكتاب. ومن ذلك قوله: (1) (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ) [سورة الأنعام: 121] ، يلقون إليهم ذلك وسوسةً، وقوله: (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) [سورة الأنعام: 19] ، (2) ألقى إلي بمجيء جبريل عليه السلام به إليّ من عند الله عز وجل.
وأما"الوحْي"، فهو الواقع من الموحِي إلى الموحَى إليه، ولذلك سمت العرب الخط والكتاب"وحيًا"، لأنه واقع فيما كُتِب ثابتٌ فيه، كما قال كعب بن زهير:
أَتَى العُجْمَ والآفَاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ ... بَقِينَ بَقَاءَ الوَحْيِ فِي الحَجَرِ الأصَمّ (3)
يعني به: الكتابَ الثابت في الحجر. وقد يقال في الكتاب خاصةً، إذا كتبه الكاتب:"وحَى" بغير ألف، ومنه قول رؤبة:
كَأَنَّهُ بَعْدَ رِيَاحِ تَدْهَمُهْ ... وَمُرْثَعِنَّاتِ الدُّجُونِ تَثِمُهْ إنْجِيلُ أَحْبَارٍ وَحَى مُنَمْنِمُهْ (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "وذلك قوله"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) قوله: "لأنذركم به ومن بلغ"، ليس في المخطوطة.
(3) ديوانه: 64، من قصيدة مضى منها بيت فيما سلف 1: 106، وهي قصيدة جيدة، يرد فيها ما قاله فيه مزرد، أخو الشماخ، حين ذكر كعب الحطيئة في شعره وقدمه وقدم نفسه، فغضب مزرد وهجاه، فقال يفخر بأبيه ثم بنفسه، بعد البيت السالف في الجزء الأول في التفسير: فَإِنْ تَسْأَلِ الأَقْوَامَ عَنِّي، فَإِنَّنِي ... أَنَا ابْنُ أبِي سُلْمَى عَلَى رَغْمِ مَنْ رَغِمْ
أنَا ابنُ الَّذِي قَدْ عَاشَ تِسْعِينَ حِجَّةً ... فَلَمْ يَخْزَ يَوْمًا في مَعَدٍّ وَلَمْ يُلَمْ
وَأَكْرَمَهُ الأكْفَاءُ فِي كُلِّ مَعْشَرٍ ... كِرَامٍ، فَإِنْ كَذَّبْتَني، فَاسْأَلِ الأُمَمْ
أَتَى العُجْمَ. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4) ديوانه: 149، من رجز طويل بارع غريب المعاني والوجوه، يذكر فيه مآثر أبي العباس السفاح، وهو غريب الكلام، ولكنه حسن المعاني إذا فتشته، فأقرأه وتأمله. وهذه الأبيات في مطلع الرجز، والضمير عائد فيها على ربع دارس طال قدمه، وعفته الرياح. وقوله: "تدهمه" تغشاه كما يغشى المغير جيشًا فيبيده. وارثعن المطر (بتشديد النون) : كثر وثبت ودام. فهو مرثعن. ووثم المطر الأرض يثمها وثمًا: ضربها فأثر فيها، كما يثم الفرس الأرض بحوافره: أي يدقها، إلا أن هذا أخفى وأكثر إلحاحًا. ونمنم الكتاب: رقشه وزخرفه وأدق حظه: وقارب بين حروفه الدقاق، وتلك هي النمنمة.(6/406)
القول في تأويل قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما كنت لديهم"، وما كنت، يا محمد، عندهم فتعلم ما نعلِّمكه من أخبارهم التي لم تشهدها، ولكنك إنما تعلم ذلك فتدركُ معرفته، بتعريفناكَهُ.
* * *
ومعنى قوله:"لديهم"، عندهم.
* * *
ومعنى قوله:"إذ يلقون"، حينَ يلقون أقلامهم.
* * *
وأما"أقلامهم"، فسهامهم التي استهم بها المتسهمون من بني إسرائيل على كفالة مريم، على ما قد بينا قبل في قوله:"وكفَّلها زكريا". (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7052 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام بن عمرو، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"وما كنت لديهم"، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
7053 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،
__________
(1) انظر ما سلف ص: 345-352.(6/407)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يلقون أقلامهم"، زكريا وأصحابه، استهموا بأقلامهم على مريم حين دخلتْ عليهم.
7054 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7055 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لديهم إذ يختصمون"، كانت مريم ابنة إمامهم وسيّدهم، فتشاحّ عليها بنو إسرائيل، فاقترعوا فيها بسهامهم أيُّهم يكفلها، فقَرَعهم زكريا، وكان زوجَ أختها،"فكفَّلها زكريا"، يقول: ضمها إليه. (1)
7056 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"يلقون أقلامهم"، قال: تساهموا على مريم أيُّهم يكفلها، فقرَعهم زكريا.
7057 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم"، وإنّ مريم لما وضعت في المسجد، اقترع عليها أهلُ المصلَّى وهم يكتبون الوَحْى، فاقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفُلها، فقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم وما كنت لدَيهم إذْ يختصمون".
7058 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال، أخبرنا عبيد
__________
(1) قوله: "وكان زوج أختها"، يعني زوج أخت أم مريم، لا زوج أخت مريم، وكأن الخبر لما اختصر، سقط منه ذكر أم مريم، وبقي باقي الخبر على حاله، وقد بينت ذلك فيما سلف ص: 349، تعليق: 4.(6/408)
قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إذ يلقون أقلامهم أيهم يكفل مريم"، اقترعوا بأقلامهم أيُّهم يكفل مريم، فقرَعهم زكريا.
7059 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"وما كنت لديهم إذ يلقون أقلامهم"، قال: حيث اقترعوا على مريم، وكان غَيبًا عن محمد صلى الله عليه وسلم حين أخبرَه الله.
* * *
وإنما قيل:"أيهم يكفل مريم"، لأن إلقاء المستهمين أقلامَهم على مريم، إنما كان لينظروا أيهم أولى بكفالتها وأحقّ. ففي قوله عز وجل:"إذ يلقون أقلامهم"، دلالة على محذوف من الكلام، وهو:"لينظروا أيهم يكفل، وليتبيَّنوا ذلك ويعلموه".
* * *
فإن ظن ظانّ أنّ الواجب في"أيهم" النصبُ، إذ كان ذلك معناه، فقد ظن خطأ. وذلك أن"النظر" و"التبين" و"العلم" مع"أيّ" يقتضي استفهامًا واستخبارًا، وحظ"أىّ" في الاستخبار، الابتداءُ وبطولُ عمل المسألة والاستخبار عنه. وذلك أن معنى قول القائل:"لأنظُرَنّ أيهم قام"، لأستخبرنَ الناس: أيهم قام، وكذلك قولهم:"لأعلمن".
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبل أن معنى"يكفل"، يضمُّ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 348.(6/409)
القول في تأويل قوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما كنتَ، يا محمد، عند قوم مريم، إذ يختصمون فيها أيُّهم أحقّ بها وأولى.
وذلك من الله عز وجل، وإن كان خطابًا لنبيه صلى الله عليه وسلم، فتوبيخٌ منه عز وجل للمكذبين به من أهل الكتابين. يقول: كيف يشكّ أهل الكفر بك منهم وأنت تنبئهم هذه الأنباءَ ولم تشهدْها، ولم تكن معهم يوم فعلوا هذه الأمورَ، ولست ممن قرأ الكتب فعَلِم نبأهم، ولا جالَس أهلها فسمع خبَرَهم؟
كما:-
7060 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وما كنت لديهم إذ يختصمون"، أي ما كنت معهم إذ يختصمون فيها. يخبره بخفيّ ما كتموا منه من العلم عندهم، لتحقيق نبوته والحجة عليهم لما يأتيهم به مما أخفوا منه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إذ قالت الملائكة"، وما كنت لديهم إذ يختصمون، وما كنت لديهم أيضًا إذ قالت الملائكة: يا مريم إنّ الله يبشرك.
* * *
__________
(1) الأثر: 7060- سيرة ابن هشام 2: 229، وهو من بقية الآثار التي كان آخرها رقم: 6911.(6/410)
" والتبشير" إخبار المرء بما يسره من خبر. (1)
* * *
وقوله:"بكلمة منه"، يعني برسالة من الله وخبر من عنده، وهو من قول القائل:"ألقى فلانٌ إليّ كلمةً سَرّني بها"، بمعنى: أخبرني خبرًا فرحت به، كما قال جل ثناؤه: (وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ) [سورة النساء: 171] ، يعني: بشرى الله مريمَ بعيسى، ألقاها إليها.
* * *
فتأويل الكلام: وما كنت، يا محمد، عند القوم إذ قالت الملائكة لمريم: يا مريم إنّ الله يبشرك ببُشرى من عنده، هي ولدٌ لك اسمهُ المسيحُ عيسى ابن مريم.
* * *
وقد قال قوم - وهو قول قتادة -: إن"الكلمة" التي قال الله عز وجل:"بكلمة منه"، هو قوله:"كن".
7061 - حدثنا بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"بكلمة منه"، قال: قوله:"كن".
* * *
فسماه الله عز وجل"كلمته"، لأنه كان عن كلمته، كما يقال لما قدّر الله من شيء:"هذا قدَرُ الله وقضاؤُه"، يعنى به: هذا عن قدر الله وقضائه حدث، وكما قال جل ثناؤه: (وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا) [سورة النساء: 47 \ سورة الأحزاب: 37] ، يعني به: ما أمر الله به، وهو المأمور [به] الذي كان عن أمر الله عز وجل. (2)
* * *
__________
(1) انظر معنى"التبشير" فيما سلف في هذا الجزء: 369، تعليق: 2، والمراجع هناك. وكان في المطبوعة هنا"من خير". وفي المخطوطة غير منقوطة، وصوابه ما أثبت.
(2) ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.(6/411)
وقال آخرون: بل هي اسم لعيسى سماه الله بها، كما سمى سائر خلقه بما شاء من الأسماء.
* * *
وروي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:"الكلمة" هي عيسى.
7062 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه"، قال: عيسى هو الكلمة من الله.
* * *
قال أبو جعفر: وأقربُ الوُجوه إلى الصواب عندي، القولُ الأول. وهو أنّ الملائكة بشَّرت مريمَ بعيسى عن الله عز وجل برسالته وكلمته التي أمرَها أن تُلقيها إليها: أنّ الله خالقٌ منها ولدًا من غير بَعْل ولا فَحل، ولذلك قال عز وجل:"اسمه المسيح"، فذكَّر، ولم يقُل:"اسمُها" فيؤنث، و"الكلمة" مؤنثة، لأن"الكلمة" غير مقصود بها قصدُ الاسم الذي هو بمعنى"فلان"، وإنما هي بمعنى البشارة، فذكِّرت كنايتها كما تذكر كناية"الذرّية" و"الدابّة" والألقاب، (1) على ما قد بيناه قبل فيما مضى. (2)
* * *
فتأويل ذلك كما قلنا آنفًا، من أنّ معنى ذلك: إن الله يبشرك ببشرى = ثم بيَّن عن البشرى أنها ولدٌ اسمه المسيح.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أنه إنما ذكر فقال:"اسمه المسيح"، وقد قال:"بكلمة منه"، و"الكلمة"، عنده هي عيسى = لأنه في المعنى كذلك، كما قال جل ثناؤه: (أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا) ، ثم قال (بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا) [سورة الزمر: 56- 59] ، وكما يقال:"ذو الثُّدَيَّة"، لأن يده
__________
(1) الكناية: الضمير، كما سلف مرارًا، وهو من اصطلاح الكوفيين.
(2) انظر ما سلف 2: 210 / ثم هذا الجزء: 362، 363، ومواضع أخرى.(6/412)
كانت قصيرة قريبة من ثدييه، (1) فجعلها كأنّ اسمها"ثَدْيَة"، ولولا ذلك لم تدخل"الهاء" في التصغير.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة نحو قول من ذكرنا من نحويي البصرة: في أنّ"الهاء" من ذكر"الكلمة"، وخالفه في المعنى الذي من أجله ذكر قوله"اسمه"، و"الكلمة"، متقدمة قبله. فزعم أنه إنما قيل:"اسمه"، وقد قدّمت"الكلمة"، ولم يقل:"اسمها"، لأن من شأن العرب أن تفعل ذلك فيما كان من النعوت والألقاب والأسماء التي لم توضَع لتعريف المسمى به، كـ"فلان" و"فلان"، وذلك، مثل"الذرّية" و"الخليفة" و"الدابة"، ولذلك جاز عنده أن يقال:"ذرية طيبة" و"ذرّيةً طيبًا"، ولم يجز أن يقال:"طلحة أقبلت = ومغيرة قامت". (2)
* * *
وأنكر بعضهم اعتلالَ من اعتلّ في ذلك بـ"ذي الثدية"، وقالوا: إنما أدخلت"الهاء" في"ذي الثدية"، لأنه أريد بذلك القطعة منَ الثَّدْي، كما قيل:"كنا في لحمة ونَبيذة"، يراد به القطعة منه. وهذا القول نحو قولنا الذي قلناه في ذلك.
* * *
وأما قوله:"اسمهُ المسيح عيسى ابن مريم"، فإنه جل ثناؤه أنبأ عباده عن نسبة عيسى، وأنه ابن أمّه مريم، ونفى بذلك عنه ما أضاف إليه الملحدون في الله جل ثناؤه من النصارى، من إضافتهم بنوّته إلى الله عز وجل، وما قَرَفَتْ أمَّه به المفتريةُ عليها من اليهود، (3) كما:-
__________
(1) خبر ذي الثدية مشهور معروف، انظر سنن أبي داود"باب قتال الخوارج" 4: 334-338.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء: 362، 363.
(3) في المطبوعة: "قذفت به"، والصواب من المخطوطة. قرف الرجل بسوء: رماه به واتهمه، فهو مقروف. وقوله: "المفترية" مرفوعة فاعل"قرفت أمه به"، ويعني الفئة المفترية.(6/413)
7063 - حدثني به ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إذ قالت الملائكة يا مريم إنّ الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم وجيهًا في الدنيا والآخرة ومن المقربين"، أي: هكذا كان أمرُه، لا ما يقولون فيه. (1)
* * *
وأما"المسيح"، فإنه"فعيل" صرف من"مفعول" إلى"فعيل"، وإنما هو"ممسوح"، يعني: مَسحه الله فطهَّره من الذنوب، ولذلك قال إبراهيم:"المسيح" الصدّيق ... (2)
7064 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
7065 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم مثله.
* * *
وقال آخرون: مُسح بالبركة.
7066 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، قال سعيد: إنما سمي"المسيح"، لأنه مُسِح بالبركة.
* * *
__________
(1) الأثر: 7063- سيرة ابن هشام 2: 229-230، وهو من بقية الآثار التي آخرها: 7060، ونصه: "لا كما تقولون فيه".
(2) مكان هذه النقط سقط لا شك فيه عندي، وأستظهر أنه إسناد واحد إلى"إبراهيم" ثم يليه الأثر رقم: 7064، فيه أن المسيح هو الصديق، كما ذكر. وكان في المخطوطة والمطبوعة موضع هذه النقط: "وقال آخرون: مسح بالبركة"، وهو كلام لا يستقيم، كما ترى، فأخرت هذه الجملة إلى مكانها قبل الأثر رقم: 7066، واستجزت أن أصنع ذلك، لأنه من الوضوح بمكان لا يكون معه شك أو لجلجة.
هذا، وفي تفسير"المسيح" أقوال أخر كثيرة، لا أظن الطبري قد غفل عنها، ولكني أظن أن في النسخة سقطًا قديمًا، ولذلك اضطرب الناسخ هنا. هذا إذا لم يكن الطبري قد أغفلها اختصارًا.(6/414)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45)
القول في تأويل قوله: {وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله"وجيهًا"، ذا وَجْهٍ ومنزلة عالية عند الله، وشرفٍ وكرامة. ومنه يقال للرجل الذي يَشرُف وتعظمه الملوك والناس"وجيه"، يقال منه:"ما كان فلان وَجيهًا، ولقد وَجُهَ وَجاهةً" ="وإن له لَوجْهًا عند السلطان وَجاهًا ووَجاهةً"، و"الجاه" مقلوب، قلبت، واوه من أوّله إلى موضع العين منه، فقيل:"جاه"، وإنما هو"وجه"، و"فعل" من الجاه:"جاهَ يَجوه". مسموع من العرب:"أخاف أن يجوهني بأكثر من هذا"، بمعنى: أن يستقبلني في وجهي بأعظم منه.
* * *
وأما نصب"الوجيه"، فعلى القطع من"عيسى"، (1) لأن"عيسى" معرفة، و"وجيه" نكرة، وهو من نعته. ولو كان مخفوضًا على الردّ على"الكلمة" كانَ جائزًا.
* * *
وبما قلنا (2) = من أنّ تأويل ذلك: وجيهًا في الدنيا والآخرة عند الله = قال، فيما بلغنا، محمد بن جعفر.
7067 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"وجيهًا"، قال: وجيهًا في الدنيا والأخرة عند الله. (3)
* * *
وأما قوله:"ومِنَ المقرّبين"، فإنه يعني أنه ممن يقرِّبه الله يوم القيامة، فيسكنه في جواره ويدنيه منه، كما:-
__________
(1) "القطع"، كما أسلفنا في مواضع متفرقة، هو الحال، انظر ما سلف في هذا الجزء: 371، تعليق: 2، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 213.
(2) في المطبوعة: "كما قلنا"، والصواب من المخطوطة.
(3) الأثر: 7067- سيرة ابن هشام 2: 230، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 7063.(6/415)
7068 - حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن المقربين"، يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة.
7069 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن المقرّبين"، يقول: من المقربين عند الله يوم القيامة.
7070 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *(6/416)
وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)
القول في تأويل قوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) }
قال أبو جعفر: وأما قوله:"ويكلمُ الناس في المهد"، فإن معناه: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، وجيهًا عند الله، ومُكلِّمًا الناسَ في المهد.
= ف"يكلم"، وإن كان مرفوعًا، لأنه في صورة"يفعل" بالسلامة من العوامل فيه، فإنه في موضع نصب، وهو نظير قول الشاعر: (1)
بِتُّ أُعَشِّيهَا بِعَضْبٍ بَاتِرِ ... يَقْصِدُ فِي أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ (2)
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 213 وأمالي ابن الشجري 2: 167، والخزانة 2: 345، واللسان (كهل) . وقد ذكر البغدادي اختلاف رواية الشعر، "ويعشيها" من العشاء، وهو طعامها عند العشاء. يصف كرم الكريم ينحر عند مجيء الأضياف إبله في قراهم، والعضب: السيف القاطع، والباتر: الذي يفصم الضريبة. وأسوق جمع ساق. وقصد يقصد: توسط فلم يجاوز الحد. يقول: يضرب سوقها بسيفه لا يبالي أيقصد أم يجور، من شدة عجلته وحفاوته بضيفه.
هذا، وانظر تفصيل ما قال أبو جعفر في معاني القرآن للفراء 1: 213، 214.(6/416)
وأما"المهد"، فإنه يعني به: مضجع الصبيّ في رضاعه، كما:-
7071 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"ويكلم الناس في المهد"، قال: مضجع الصبي في رَضَاعه.
* * *
وأما قوله:"وكهلا"، فإنه: وُمحتَنِكًا فوق الغُلومة، (1) ودُون الشيخوخة، يقال منه:"رجل كهل = وامرأة كهلة"، كما قال الراجز: (2)
وَلا أَعُودُ بَعْدَهَا كَرِيَّا ... أُمَارِسُ الكَهْلَةَ وَالصَّبِيَّا (3)
* * *
__________
(1) يقال: "غلام بين الغلومة والغلومية والغلامية"، مثل: "الطفولة والطفولية".
(2) هو عذافر الفقيمي.
(3) الجمهرة 3: 339، المخصص 1: 40 أمالي، القالي 2: 215، والسمط: 836، شرح أدب الكاتب لابن السيد: 217، 389، وللجواليقي: 295، واللسان (كهل) (كرا) (شعفر) (أمم) ، وغيرها، وكان العذافر يكري إبله إلى مكة، فأكرى معه رجل من بني حنيفة، من أهل البصرة، بعيرًا يركبه هو وزوجته، وكان اسمها"شعفر"، فقال يرجز بهما: لَوْ شَاءَ رَبِّي لَمْ أكُنْ كَرِيَّا ... وَلَمْ أَسُقْ بَشَعْفَرَ المطَّيا
بَصْرِيّةٌ تَزَوَّجَتْ بَصْرِيَّا ... يُطْعِمُهَا المَالِحَ والطَّرِيَّا
وَجَيِّدَ البُرِّ لَهَا مَقْلِيَّا ... حَتَّى نَتَتْ سُرَّتُها نَتِيَّا
وَفَعَلَتْ ثُنَّتُها فَرِيَّا ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والرجز المروي بعد هذه الأبيات، فيما يظهر. والكري: المكاري، الذي يستأجر الركاب دابته. وبعد البيتين اللذين رواهما أبو جعفر: وَالْعَزَبَ المُنَفَّهَ الأُمِّيَّا
والمنفه: الذي قد أعياه السير ونفهه، فضعف وتساقط. والأمي: العيي الجلف الجافي القليل الكلام.(6/417)
وإنما عنى جل ثناؤه بقوله:"ويكلم الناسَ في المهد وكهلا"، ويكلم الناس طفلا في المهد = دلالةً على براءَة أمه مما قَرَفها به المفترون عليها، (1) وحجة له على نبوّته = وبالغًا كبيرًا بعد احتناكه، (2) بوحي الله الذي يوحيه إليه، وأمره ونهيه، وما ينزل عليه من كتابه. (3)
* * *
وإنما أخبر الله عز وجل عبادَه بذلك من أمر المسيح، وأنه كذلك كان، وإن كان الغالب من أمر الناس أنهم يتكلمون كهولا وشيوخًا = احتجاجًا به على القائلين فيه من أهل الكفر بالله من النصارى الباطلَ، (4) وأنه كان = [منذ أنشأه] مولودًا طفلا ثم كهلا = يتقلب في الأحداث، (5) ويتغير بمرُور الأزمنة عليه والأيام، من صِغر إلى كبر، ومن حال إلى حال = وأنه لو كان، كما قال الملحدون فيه، كان ذلك غيرَ جائز عليه. فكذّب بذلك ما قاله الوفدُ من أهل نجران الذين حاجُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، واحتج به عليهم
__________
(1) في المطبوعة: "قذفها"، وانظر آنفًا: ص 413، تعليق: 3.
(2) قوله: "وبالغًا" معطوف على قوله آنفًا: "طفلا في المهد". ثم قوله: بعد"بوحي الله" جار ومجرور متعلق بقوله آنفًا: "ويكلم الناس. .".
(3) في المطبوعة: "وما تقول عليه"، ومعاذ الله أن يكون ذلك!! والكلمة في المخطوطة سيئة الكتابة، مستفسدة مستصلحة، وهي على ذلك بينة لمن يدرك بعض معاني الكلام!!
(4) في المطبوعة: "بالباطل"، وهو تبديل لعبارة الطبري التي يألفها قارئ كتابه. وقوله: "الباطل" منصوب مفعول به لقوله: "القائلين ... "
(5) في المطبوعة: "وأنه كان في معناه أشياء مولودًا ... "، وفي المخطوطة: "وأنه كان في معانيه أشيا مولودًا ... "، ولم أستطع أن أجد لشيء من ذلك معنى أرتضيه، وقد جهدت في معرفة تصحيفه أو تحريفه زمنًا، حتى ضفت به، وحتى ظننت أنه سقط من الناسخ شيء يستقيم به هذا الكلام، مع ترجيح التصحيف والتحريف فيه. فرأيت أن أضع بين القوسين ما يستقيم به الكلام، وأن أخلي الأصل من هذه الجملة. هذا مع اعتقادي أن"معه أشيا" هي"منذ أنشأه" كما أثبتها. والسياق: "أنه كان ... يتقلب في الأحداث"، وما بينهما فصل وضعته بين الخطين.(6/418)
لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم أنه كان كسائر بني آدم، إلا ما خصه الله به من الكرامة التي أبانه بها منهم، كما:-
7072 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين": يخبرهم بحالاته التي يتقلب بها في عمره، كتقلب بني آدم في أعمارهم صغارًا وكبارًا، إلا أن الله خَصّه بالكلام في مهده آيةً لنبوته، وتعريفًا للعباد مواقع قدرته. (1)
7073 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويكلم الناس في المهد وكهلا ومن الصالحين"، يقول: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
7074 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: يكلمهم صغيرًا وكبيرًا.
7075 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وكهلا ومن الصالحين"، قال: الكهلُ الحليم.
7076 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كلمهم صغيرًا وكبيرًا وكهلا = وقال ابن جريج، وقال مجاهد: الكهل الحليم.
7077 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: كلمهم في المهد صبيًّا، وكلمهم كبيرًا.
* * *
__________
(1) الأثر: 7072- سيرة ابن هشام 2: 230، وهو من تمام الآثار التي آخرها رقم: 7067.(6/419)
قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
وقال آخرون: معنى قوله:"وكهلا"، أنه سيكلمهم إذا ظهر.
ذكر من قال ذلك:
7078 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته - يعني ابن زيد - يقول في قوله:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: قد كلمهم عيسى في المهد، وسيكلمهم إذا قتل الدجال، وهو يومئذ كهلٌ.
* * *
ونصب"كهلا"، عطفًا على موضع"ويكلم الناس".
* * *
وأما قوله:"ومن الصالحين"، فإنه يعني: من عِدَادهم وأوليائهم، لأنّ أهل الصلاح بعضهم من بعض في الدين والفضل.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه، قالت مريم = إذ قالت لها الملائكة أنّ الله يبشرك بكلمة منه =:"ربِّ أنَّى يكون لي ولد"، من أيِّ وجه يكون لي ولد؟ (1) أمِن قبل زوج أتزوجه وبعل أنكحه، أمْ تبتدئ فيَّ خلقه من غير بعل ولا فحل، (2) ومن غير أن يمسَّني بشر؟ فقال الله لها ="كذلك الله يخلق ما يشاء"، يعني: هكذا يخلق الله منك ولدًا لك من غير أن يمسَّك بشر، فيجعله آيةً للناس وعبرة، فإنه يخلق ما يشاء ويصنعُ ما يريد، فيعطي الولد
__________
(1) انظر تفسير"أنى" فيما سلف 4: 398-416 / 5: 312، 447 / 6: 358.
(2) في المخطوطة: "أي تبتدئ"، وهو خطأ، وفي المطبوعة: "أو تبتدئ" وآثرت الذي أثبت.(6/420)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48)
من يشاء من غير فحل ومن فحلٍ، ويحرِمُ ذلك من يشاءُ من النساء وإن كانت ذات بعلٍ، لأنه لا يتعذر عليه خلق شيء أراد خلقه، إنما هو أن يأمر إذا أراد شيئًا ما أراد [خلقه] فيقول له: (1) "كن فيكون" ما شاء، مما يشاء، وكيف شاء، كما:-
7079 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشرٌ قال كذلك الله يخلق ما يشاء"، يصنع ما أراد، ويخلق ما يشاء، من بشر أو غير بشر ="إذا قضى أمرًا فإنما يقول له كن"، مما يشاء وكيف يشاء ="فيكون" ما أراد. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ (48) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأةُ في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة وبعض قرأة الكوفيين: (وَيُعلِّمُهُ) بالياء، ردًّا على قوله:"كذلك الله يخلق ما يشاء"،"ويعلمه الكتاب"، فألحقوا الخبرَ في قوله:"ويعلمه"، بنظير الخبر في قوله:"يخلق ما يشاء"، وقوله:"فإنما يقول له كنْ فيكون".
* * *
__________
(1) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من السياق.
(2) الأثر: 7079- سيرة ابن هشام 2: 230 من بقية الآثار التي آخرها رقم: 7072، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "أي: إذا قضى أمرًا ... "، وظاهر أن"أي" لا مكان لها هنا، ونص ابن هشام عن ابن إسحاق دال على صواب ذلك، فحذفتها. وكان في المخطوطة والمطبوعة أيضًا"فإنما يقول له كن فيكون، مما يشاء ... ". وظاهر أيضًا زيادة"فيكون" هنا، لأن السياق يقتضي إغفالها هنا، ولأنها ستأتي بعد، كما هو في نص رواية ابن هشام عن ابن إسحاق، فرفعتها من هذا المكان أيضًا. وفي سيرة ابن هشام"فيكون، كما أراد"، وكلاهما صواب.(6/421)
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين وبعض البصريين: (وَنُعَلِّمُهُ) بالنون، عطفًا به على قوله:"نوحيه إليك"، كأنه قال:"ذلك من أنباء الغيب نُوحيه إليك""ونعلمه الكتاب". وقالوا: ما بعد"نوحيه" في صلته إلى قوله:"كن فيكون"، ثم عطف بقوله:"ونعلمه" عليه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أنهما قراءتان مختلفتان، غير مختلفتي المعاني، فبأيتهما قرأ القارئ فهو مصيب الصوابَ في ذلك، لاتفاق معنى القراءتين، في أنه خبر عن الله بأنّه يعلم عيسى الكتاب، وما ذكر أنه يعلمه.
* * *
وهذا ابتداء خبر من الله عز وجل لمريم ما هو فاعلٌ بالولد الذي بشَّرها به من الكرامة ورفعة المنزلة والفضيلة، فقال: كذلك الله يخلق منك ولدًا، من غير فحل ولا بعل، فيعلمه الكتاب، وهو الخطّ الذي يخطه بيده = والحكمة، وهي السنة التي يُوحيها إليه في غير كتاب = والتوراة، وهي التوراة التي أنزلت على موسى، كانت فيهم من عهد موسى = والإنجيل، إنجيل عيسى ولم يكن قبله، ولكن الله أخبر مريمَ قبل خلق عيسى أنه مُوحيه إليه.
وإنما أخبرها بذلك فسَّماه لها، لأنها قد كانت علمت فيما نزل من الكتب أن الله باعثٌ نبيًا، يوحى إليه كتابًا اسمه الإنجيل، فأخبرها الله عز وجل أن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم الذي سَمعت بصفته الذي وعد أنبياءه من قبل أنه منزل عليه الكتاب الذي يسمى إنجيلا هو الولد الذي وهبه لها وبشَّرها به.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7080 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"ونعلمه الكتاب"، قال: بيده.(6/422)
وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49)
7081 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ونعلمه الكتاب والحكمة"، قال: الحكمة السنة.
7082 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:"ونعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل"، قال:"الحكمة" السنة ="والتوراة والإنجيل"، قال: كان عيسى يقرأ التوراةَ والإنجيل.
7083 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ونعلمه الكتاب والحكمة"، قال: الحكمة السنة.
7084 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير قال: أخبرها - يعني أخبر الله مريم - ما يريد به فقال:"ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة" التي كانت فيهم من عهد موسى ="والإنجيل"، كتابًا آخر أحدثه إليه لم يكن عندهم علمه، إلا ذِكرُه أنه كائن من الأنبياء قبله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَرَسُولا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ورسولا"، ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل، فترك ذكر"ونجعله" لدلالة الكلام عليه، كما قال الشاعر:
وَرَأَيْتِ زَوْجَكِ فِي الوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 7084- سيرة ابن هشام 2: 230، من تمام الآثار التي آخرها رقم: 7079. وفي ابن هشام: "لم يكن عندهم إلا ذكره أنه كائن من الأنبياء بعده"، أسقط"علمه" ومكان"قبله""بعده"، والصواب فيها نص الطبري في روايته عن ابن إسحاق.
(2) مضى البيت وتخريجه في 1: 140.(6/423)
وقوله:"أني قد جئتكم بآية من ربكم"، يعني: (1) ونجعله رسولا إلى بني إسرائيل بأنه نبيّي وبشيرى ونذيرى (2) = وحجتي على صدقي على ذلك:"أني قد جئتكم بآية من ربكم"، يعني: بعلامة من ربكم تحقق قولي، وتصدق خبري أني رسول من ربكم إليكم، كما:-
7085 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم"، أي: يُحقق بها نبوّتي، أني رسولٌ منه إليكم. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ورسولا إلى بني إسرائيل أني قد جئتكم بآية من ربكم"، ثم بين عن الآية ما هي، فقال:"أني أخلق لكم".
* * *
فتأويل الكلام: ورسولا إلى بني إسرائيل بأني قد جئتكم بآية من ربكم، بأنْ أخلق لكم من الطين كهيئة الطير.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بمعنى"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "نبي وبشير ونذير"، والصواب من المخطوطة. هذا، وقوله: "ونجعله رسولا ... "، إلى قوله: "ونذيري" بيان عن قول الله تعالى لمريم: "رسولا إلى بني إسرائيل" - ثم ابتدأ في بيان قول عيسى عليه السلام: "أني قد جئتكم بآية"، فقال عيسى عليه السلام: "وحجتي على صدقي في ذلك ... ". وكان في المخطوطة والمطبوعة: "على صدقي على ذلك"، وهو لا يستقيم، خطأ أو سهو من الناسخ، والصواب ما أثبت.
(3) الأثر: 7085- سيرة ابن هشام 2: 230، تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7084، وكان في المطبوعة: تحقق بها نبوتي، وأني رسول ... "، وأثبت ما في المخطوطة، وهو مطابق لرواية ابن هشام.(6/424)
"والطير" جمع"طائر".
* * *
واختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه بعض أهل الحجاز: (كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَائِرًا) ، على التوحيد.
* * *
وقرأه آخرون: (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا) ، على الجماع فيهما. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأعجب القراءات إليّ في ذلك قراءة من قرأ:"كهيئة الطير فأنفخُ فيه فيكون طيرًا، على الجماع فيهما جميعًا، لأن ذلك كان من صفة عيسى أنه يفعل ذلك بإذن الله، وأنه موافق لخطّ المصحف. واتباعُ خطّ المصحف مع صحة المعنى واستفاضة القراءة به، أعجب إليّ من خلاف المصحف.
* * *
وكان خلق عيسى ما كان يخلق من الطير، كما:-
7086 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق: أنّ عيسى صلوات الله عليه جلسَ يومًا مع غلمان من الكُتّاب، فأخذ طينًا، ثم قال: أجعل لكم من هذا الطين طائرًا؟ قالوا: وتستطيع ذلك! قال: نعم! بإذن ربي. ثم هيّأه، حتى إذا جعله في هيئة الطائر نفخ فيه، ثم قال:"كن طائرًا بإذن الله"، فخرج يطيرُ بين كفيه. فخرج الغلمان بذلك من أمره، فذكروه لمعلّمهم،
__________
(1) في المطبوعة: "على الجماع كليهما"، وفي المخطوطة"كلهما" أيضًا، دون شرطة الكاف كأنه أراد أن يكتب"كليهما"، ثم استدرك، فترك عقدة الكاف على حالها ليعود فيجعلها"فيهما" وكذلك أثبتها.(6/425)
فأفشوه في الناس. وترعرع، فهمَّت به بنو إسرائيل، فلما خافت أمه عليه حملته على حُمَيرِّ لها، ثم خرجت به هاربة. (1)
* * *
وذكر أنه لما أراد أن يخلق الطيرَ من الطين سألهم: أيّ الطير أشدّ خلقًا؟ فقيل له: الخفاش، كما:-
7087 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قوله:"أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"، قال: أيّ الطير أشدّ خلقًا؟ قالوا: الخفاش، إنما هو لحم. قال ففعل.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وكيف قيل:"فأنفخ فيه"، وقد قيل:"أني أخلق لكم من الطين كهيئة الطير"؟
قيل: لأن معنى الكلام: فأنفخ في الطير. ولو كان ذلك:"فأنفخ فيها". كان صحيحًا جائزًا، كما قال في المائدة، (فَتَنْفُخُ فِيهَا) [سورة المائدة: 110] : (2) يريد: فتنفخ في الهيئة. (3) وقد ذكر أن ذلك في إحدى القراءتين:"فأنفخها"، بغير"في". (4) وقد تفعل العرب مثل ذلك فتقول:"رب ليلة قد بتُّها، وبتُّ فيها"، قال الشاعر: (5)
__________
(1) "حمير" (بضم الحاء وفتح الميم وتشديد الياء المكسورة) ، تصغير"حمار"، وهو مضبوط هكذا في المخطوطة، وهو الصواب.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "فأنفخ فيها"، وهو مخالف للتلاوة في سورة المائدة، وهو سهو من الناسخ لقرب عهده بآية آل عمران، وتابعه الناشرون.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "فأنفخ" أيضًا، وهو متابعة للسهو السالف.
(4) هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 214، وهو: (وفي إحدى القراءتين: "فأنفخها" وفي قراءة عبد الله بغير"في"، وهو مما تقوله العرب: رب ليلة قد بت فيها وبتها) . ولعله تصرف واختصار من الطبري نفسه كعادته في الذي ينقله عن الفراء، وظني أن في نص الفراء خطأ، وصوابه: "وهي قراءة عبد الله..".
(5) هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري.(6/426)
مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلا قَامَتْكَ نَائِحَةٌ ... وَلا بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أَسْلابِ (1)
بمعنى: ولا قامت عليك، وكما قال الآخر: (2)
إحْدَى بَنِي عَيِّذِ اللهِ اسْتَمَرَّ بِهَا ... حُلْوُ العُصَارَةِ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّوَرُ (3)
* * *
__________
(1) الأغاني 17: 68، ومعاني القرآن للفراء 1: 215. وهو من أبيات من خبرها أن عبيد الله بن زياد، كان عدوًا لابن مفرغ، فلما قتله أصحاب المختار بن أبي عبيد يوم الزاب، قال ابن مفرغ فيه، وفي طغيانه عليه، وهو عظة لكل جبار طاغية: إِنَّ الَّذِي عَاشَ خَتَّارًا بِذِمَّتِه ... وعاشَ عبدًا، قَتِيلُ الله بالزَّابِ
العَبْدُ لِلْعَبْدِ، لا أَصْلٌ وَلاَ طرَفٌ، ... أَلْوَتْ بِهِ ذَاتُ أظْفَارٍ وأنْيَابِ
إِنّ المَنَايَا إِذَا ما زُرْنَ طَاغِيَةً ... هَتَكْنَ عَنْهُ سُتُورًا بَيْنَ أبْوَابِ
هَلاَّ جُمُوعَ نِزَارٍ إذْ لَقِيتَهُمُ ... كُنْتَ امْرَءًا مِنْ نِزَارٍ غَيْرَ مُرْتَابِ
لاَ أنْتَ زَاحَمْتَ عَنْ مُلْكٍ فَتَمنَعَهُ ... وَلاَ مَدَدْتَ إلَى قَوْمِ بأَسْبَابِ
مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلا نَاحَتْكَ نَائِحَةٌ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواية الأغاني"ناحتك"، جارية على القياس، يقال: "ناحت المرأة"، لازمًا، و"ناحت المرأة زوجها"، أما رواية الفراء وأبي جعفر، فهي التي حذف من قوله: "قامتك" حرف الجر، من"قامت عليك". والأسلاب جمع سلب (بفتحتين) : وهو ما على المحارب والرجل من ثيابه وثياب الحرب، فإذا قتل أخذ قاتله سلبه، أي ما عليه من ثياب وسلاح، وما معه من دابة. يقول: لست فارسًا من أهل الحرب والمعارك، فيحبك فرسك، فيبكيك عند مصرعك.
(2) لم أعرف قائله.
(3) "بنو عيذ الله" (بتشديد الياء المكسورة) ، وهم بنو عيذ الله بن سعد العشيرة بن مذحج."استمر بها": ذهب بها."حلو العصارة": حلو الأخلاق. والعصارة والعصير: ما يتحلب من الشيء إذا عصر. يقول: ذهب بها فلن تعود إلى يوم الدين.(6/427)
القول في تأويل قوله: {وَأُبْرِئُ الأكْمَهَ وَالأبْرَصَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"وأبرئ"، وأشفي. يقال منه:"أبرأ الله المريض"، إذا شفاه منه،"فهو يُبرئه إبراءً"، و"بَرَأ المريض فهو يَبرَأ بَرْأ"، وقد يقال أيضًا:"بَرئ المريض فهو يبرَأ"، لغتان معروفتان.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الأكمه".
فقال بعضهم: هو الذي لا يبصر بالليل، ويُبصر بالنهار.
ذكر من قال ذلك:
7088 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأكمه الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، فهو يتكمَّه. (1)
7089 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: هو الأعمى الذي ولدته أمه كذلك.
ذكر من قال ذلك:
7090 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: كنا نحدَّثُ أن"الأكمه"، الذي ولد وهو أعمى مغموم العينين. (2)
7091 - حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، في قوله:"وأبرئ الأكمه والأبرص"، قال: كنا نحدّث أن الأكمه الذي يولد وهو أعمى، مضموم العينين. (3)
* * *
__________
(1) يقال: "خرج يتكمه في الأرض"، إذا خرج متحيرًا مترددًا، راكبًا رأسه، لا يدري أين يتوجه.
(2) كان في المطبوعة: "مضموم العينين"، وتوشك أن تكون في المخطوطة: " مغموم العينين"، وأنا أرجح أنها الصواب، فلذلك أثبتها على قرائى للخط. والأكمه أعمى، مضموم العينين كان أو غير مضموم، ولكنه من غم الشيء: إذ ستره، فهو مغموم: مستور. ومنه الغمامة، وهي غطاء يشد على عيني الناقة أو الثور أو غيرهما.
(3) كان في المطبوعة: "مضموم العينين"، وتوشك أن تكون في المخطوطة: "مغموم العينين"، وأنا أرجح أنها الصواب، فلذلك أثبتها على قرائي للخط، والأكمه أعمى، مضموم العينين كان أو غير مضموم، ولكنه من غم الشيء: إذا ستره، فهو مغموم: مستور. ومنه الغمامة، وهي غطاء يشد على عيني الناقة أو الثور أو غيرهما.(6/428)
7092 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الأكمه، الذي يولد وهو أعمى.
* * *
وقال آخرون: بل هو الأعمى.
ذكر من قال ذلك:
7093 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأبرئ الأكمه"، هو الأعمى.
7094 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: الأعمى.
7095 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأكمه الأعمى.
7096 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور عن الحسن في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأعمى.
* * *
وقال آخرون: هو الأعمش.
ذكر من قال ذلك:
7097 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"وأبرئ الأكمه"، قال: الأعمش.
* * *
قال أبو جعفر: والمعروف عند العرب من معنى"الكمه"، العَمى، يقال منه:"كمِهَت عينه فهي تَكْمَه كمهًا، وأكمهتها أنا" إذا أعميتها، كما قال سويد بن أبي كاهل:(6/429)
كَمَّهَتْ عَيْنَيْهِ حَتَّى ابْيَضّتَا ... فَهْوَ يَلْحَى نَفْسَهُ لَمَّا نزعْ (1)
ومنه قول رؤبة:
هَرَّجْتُ فَارْتَدَّ ارْتِدَادَ الأكْمَهِ ... فِي غَائِلاتِ الحَائِرِ المُتَهْتِهِ (2)
* * *
وإنما أخبر الله عز وجل عن عيسى صلوات الله عليه أنه يقول ذلك لبني إسرائيل، احتجاجًا منه بهذه العِبر والآيات عليهم في نبوته، وذلك أن: الكَمَه والبرص لا علاج لهما، فيقدرَ على إبرائه ذو طِبّ بعلاج، فكان ذلك من أدلته على صدق قيله: إنه لله رسول، لأنه من المعجزات، مع سائر الآيات التي أعطاه الله إياها دلالةً على نبوته.
* * *
فأما ما قال عكرمة من أن"الكمه"، العمش، وما قاله مجاهد: من أنه
__________
(1) المفضليات: 405، اللسان (كمه) في المطبوعة: {كِمِهَتْ عَيْنَاهُ} ، وهي رواية المفضليات وفيها"كمهت عيناه لما ابيضتا". والبيت من قصيدته الفذة. يذكر في هذه الأبيات التي قبل البيت، بعض عدوه، كان يريد سقاطه بعد احتناكه وشدته، وكيف تلقى العداوة عن آبائه، فسعى كما سعى آباؤه فلم يظفر من سويد بشيء، فضرب لنفسه مثلا بالصفاة التي لا ترام، فقال أن عدوه ظل: مُقْعِيًا يَرْدِي صَفَاةً لَمْ تُرَمْ ... فِي ذُرَى أَعْيَطَ وَعْرِ المُطَّلَعْ
مَعْقِلٌ يَأْمَنُ مَنْ كانَ بِهِ ... غَلَبَتْ مَنْ قَبْلَهُ أنْ تُقْتَلَعْ
غَلَبَتْ عَادًا وَمَنْ بَعْدَهُمْ ... فَأَبَتْ بَعْدُ، فَلَيْسَتْ تُتَّضَعْ
لاَ يَرَاها النَّاسُ إِلا فَوْقَهُمْ ... فَهْيَ تَأْتِي كَيْفَ شَاءَتْ وَتَدَعْ
وَهْوَ يَرْمِيهَا، وَلَنْ يَبْلُغَها، ... رِعَةَ الجَاهِلِ يَرْضَى ما صَنَعْ
كَمِهَتْ عَيْنَاهُ. . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقول: عمي من شدة ما يلقى، أو أعمته هي بشدتها. فلما كف عنها ونزع، ظل يلوم نفسه على تعرضه لها.
(2) ديوانه: 166، واللسان (كمه) (هرج) (تهته) وجاز القرآن 1: 93، وسيرة ابن هشام 2: 230، من قصيدة يذكر فيها نفسه وأيامه، وقد سلفت منها أبيات كثيرة، يذكر قبله خصما له قد بالغ في ضلاله، فرده وزجره، "هرج بالسبع": صاح به وزجره. و"الغائلات": التي تغوله وتهلكه. و"المتهته": الذي تهته في الأباطيل. أي تردد فيها. ورواية الديوان"في غائلات الخائب.."، وهي قريب من قريب.(6/430)
سوء البصر بالليل، فلا معنى لهما. لأن الله لا يحتج على خلقه بحجة تكون لهم السبيلُ إلى معارضته فيها، ولو كان مما احتجَّ به عيسى على بني إسرائيل في نبوته، أنه يبرئ الأعمش، أو الذي يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل، لقدروا على معارضته بأن يقولوا:"وما في هذا لك من الحجة، وفينا خَلقٌ ممن يعالج ذلك، وليسوا لله أنبياءَ ولا رسلا"
ففي ذلك دلالة بينة على صحة ما قلنا، من أنّ"الأكمه"، هو الأعمى الذي لا يبصر شيئًا لا ليلا ولا نهارًا. وهو بما قال قتادة: - من أنه المولود كذلك - أشبهُ، لأن علاجَ مثل ذلك لا يدّعيه أحدٌ من البشر، إلا من أعطاه الله مثل الذي أعطى عيسى، وكذلك علاجُ الأبرص.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ}
قال أبو جعفر: وكان إحياء عيسى الموتى بدعاء الله، يدعو لهم، فيستجيب له، كما:-
7098 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معفل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: لما صار عيسى ابن اثنتي عشرة سنة، أوحى الله إلى أمه وهي بأرض مصر، وكانت هربت من قومها حين ولدته إلى أرض مصر: أنِ اطْلُعي به إلى الشام. ففعلت الذي أمرت به. فلم تزل بالشام حتى كان ابن ثلاثين سنة، وكانت نبوّته ثلاث سنين، ثم رفعه الله إليه = قال: وزعم وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى(6/431)
في الجماعة الواحدة خمسون ألفًا، من أطاق منهم أن يبلغه بلغه، ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله.
* * *
وأما قوله:"وأنبئكم بما تأكلون"، فإنه يعني: وأخبرُكم بما تأكلون، مما لم أعاينه وأشاهده معكم في وقت أكلكموه ="وما تدّخرون"، يعني بذلك: وما ترفعونه فتخبَأونه ولا تأكلونه.
= يعلمهم أنّ من حجته أيضًا على نبوّته = مع المعجزات التي أعلمهم أنه يأتي بها حجة على نبوّته وصدقه في خبره أنّ الله أرسله إليهم: من خلق الطير من الطين، وإبراءِ الأكمه والأبرص وإحياء الموتى بإذن الله، التي لا يطيقها أحدٌ من البشر، إلا من أعطاه الله ذلك عَلَمًا له على صدقه، وآيةً له على حقيقة قوله، من أنبيائه ورسله، وَمن أحبّ من خلقه = (1) إنباءَه عن الغيب الذي لا سبيل لأحد من البشر الذين سبيلُهم سبيلُه، عليه. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما كان في قوله لهم:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" من الحجة له على صدقه، وقد رأينا المتنجِّمة والمتكهِّنة تخبرُ بذلك كثيرًا فتصيب؟
قيل: إن المتنجِّم والمتكهِّن معلوم منهما عند من يخبرانه بذلك، (3) أنهما ينبئان به عن استخراج له ببعض الأسباب المؤدية إلى علمه. ولم يكن ذلك كذلك من عيسى صلوات الله عليه ومن سائر أنبياء الله ورُسله، وإنما كان عيسى يخبر به عن غير استخراج، ولا طلب لمعرفته باحتيال، ولكن ابتداءً بإعلام الله إياه، (4)
__________
(1) قوله: "إنباءه" خبر"أن" في قوله آنفًا: "أن من حجته أيضًا على بنوته.. إنباءه".
(2) قوله"عليه" من تمام قوله: "الذي لا سبيل لأحد ... ".
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "عند من يخبره بذلك" وسياق الضمائر يقتضي ما أثبت.
(4) في المطبوعة: "ولكن ابتدأ"، والصواب ما أثبته، ولم يحسن الناشر قراءة المخطوطة.(6/432)
من غير أصل تقدّم ذلك احتذاه، أو بنى عليه، أو فزع إليه، كما يفزَع المتنجم إلى حسابه، والمتكهن إلى رئيِّه. (1) فذلك هو الفصل بين علم الأنبياء بالغيوب وإخبارهم عنها، وبين علم سائر المتكذِّبة على الله، أو المدَّعية علم ذلك، كما:-
7099 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: لما بلغ عيسى تسع سنين أو عشرًا أو نحو ذلك، أدخلته أمه الكتاب، فيما يزعمون. فكان عند رجل من المكتِّبين يعلمه كما يعلّم الغلمان، (2) فلا يذهب يعلمه شيئًا مما يعلمه الغلمان إلا بدره إلى علمه قبل أن يعلمه إياه، فيقول: ألا تعجبون لابن هذه الأرْملة، ما أذهب أعلّمه شيئًا إلا وحدته أعلمَ به منى! !
7100 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي: لما كبر عيسى أسلمته أمه يتعلم التوراة، فكان يلعب مع الغلمان غلمان القرية التي كان فيها، فيحدّث الغلمان بما يصنع آباؤهم.
7101 - حدثني يعقوب بن إبراهيم. قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن سعيد بن جبير في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدّخرون في بيوتكم"، قال: كان عيسى ابن مريم، إذْ كان في الكتّاب، يخبرهم بما يأكلون في بيوتهم وما يدَّخرون.
7102 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم قال، سمعت سعيد بن جبير يقول:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال: إن عيسى ابن مريم كان يقول للغلام في الكتّاب:
__________
(1) الرئي: هو التابع من الجن، يراه الإنسان أو الكاهن، فيؤالفه ويعتاده ويحدثه بما يكذب به من النبأ عن المغيب.
(2) المكتب (بضم الميم وفتح الكاف وتشديد التاء المكسورة) على وزن"معلم": هو الذي يعلم الصغار الكتابة. ويقال أيضًا"المكتب" (بضم الميم وسكون الكاف وكسر التاء) على وزن"مبصر" وهو المعلم أيضًا.(6/433)
"يا فلان، إن أهلكُ قد خبأوا لك كذا وكذا من الطعام، فتطعمني منه"؟
* * *
قال أبو جعفر: فهكذا فعل الأنبياء وحججها، إنما تأتي بما أتت به من الحجج بما قد يوصل إليه ببعض الحيل، على غير الوجه الذي يأتي به غيرها، بل من الوجه الذي يعلم الخلق أنه لا يوصل إليه من ذلك الوجه بحيلة إلا من قِبَل الله.
* * *
وبنحو ما قلناه في تأويل قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7103 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال: بما أكلتم البارحة، وما خبأتم منه = عيسى ابن مريم يقوله.
7104 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7105 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء بن أبي رباح - يعني قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" - قال: الطعام والشيء يدخرونه في بيوتهم، غيبًا علمه الله إياه.
7106 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، قال:"ما تأكلون"، ما أكلتم البارحةَ من طعام، وما خبأتم منه.
7107 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدّي قال: كان - يعني عيسى ابن مريم - يحدّث الغلمان وهو معهم في الكتّاب بما يصنع آباؤهم، وبما يَرْفعون لهم، وبما يأكلون. ويقول للغلام:(6/434)
"انطلق، فقد رفع لك أهلك كذا وكذا، وهم يأكلون كذا وكذا"، فينطلق الصبي فيبكي على أهله حتى يعطوه ذلك الشيء. (1) فيقولون له: من أخبرك بهذا؟ فيقول: عيسى! = فذلك قول الله عز وجل:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم" = فحبسوا صبيانهم عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر! فجمعوهم في بيت، فجاء عيسى يطلبهم، فقالوا: ليس هم هاهنا، فقال: ما في هذا البيت؟ فقالوا: خنازير. قال عيسى: كذلك يكونون! ففتحوا عنهم، فإذا هم خنازير. فذلك قوله: (عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) [سورة المائدة: 78] .
7108 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"وما تدخرون في بيوتكم"، قال: ما تخبأون مخافةَ الذي يمسك أن يخلفه. (2)
* * *
وقال آخرون: إنما عنى بقوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، ما تأكلون من المائدة التي تنزل عليكم، وما تدخرون منها.
ذكر من قال ذلك:
7109 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم"، فكان القومُ لما سألوا المائدةَ فكانت خِوانًا ينزل عليه أينما كانوا ثمَرًا من ثمار الجنة، (3) فأمر القوم أن
__________
(1) "يبكي عليهم"، يلح عليهم بالبكاء، عدى"بكى" بعلى، لتضمينه معنى"الإلحاح".
(2) في المطبوعة: "ما تخبأون مخافة الذي يمسك أن لا يخلفه شيء"، زاد في نص المخطوطة"لا"، و"شيء". أما المخطوطة ففيها" ... الذي يمسك أن يخلفه". وكلاهما لا معنى له. والمخطوطة مضطربة الحروف في هذا الموضع، وأخشى أن يكون صواب الجملة: "ما تخبأون مخافة عليه، الذي تمسكون خيفة عليه". وتركت نص المخطوطة، على حاله في الأصل.
(3) في المطبوعة: "فكانت جرابًا ينزل عليه"، وهو خطأ لا شك فيه، وفي المخطوطة"حوابا" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. والمائدة، هي الخوان، وقال أهل اللغة: "لا تسمى مائدة حتى يكون عليها طعام، وإلا فهي خوان".(6/435)
لا يخونوا فيه ولا يخبأوا ولا يدخروا لغد، بلاءٌ ابتلاهم الله به. فكانوا إذا فعلوا من ذلك شيئًا أنبأهم به عيسى ابن مريم، فقال:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم".
7110 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون"، قال: أنبئكم بما تأكلون من المائدة وما تدخرون منها. قال: فكان أخذ عليهم في المائدة حين نزلتْ: أن يأكلوا ولا يدّخروا، فادخروا وخانوا، فجعلوا خنازير حين ادّخروا وخانوا، فذلك قوله: (فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) [سورة المائدة: 115] .
= قال ابن يحيى قال، عبد الرزاق قال، معمر، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن عمار بن ياسر، ذلك.
* * *
وأصل"يدخرون" من"الفعل"،"يفتعلون" من قول القائل:"ذخرتُ الشيء" بالذّال،"فأنا أذخره". ثم قيل:"يدّخر"، كما قيل:"يدَّكِرُ" من:"ذكرت الشيء"، يراد به"يذتخر". فلما اجتمعت"الذال" و"التاء" وهما متقاربتا المخرج، ثقل إظهارهما على اللسان، فأدغمت إحداهما في الأخرى، وصيرتا"دالا" مشددة، صيروها عَدْلا بين"الذال" و"التاء". (1) ومن العرب من يغلب"الذال" على"التاء"، فيدغم"التاء" في"الذال"، فيقول: وما تَذَّخِرون"،"وهو مذّخَر لك"،"وهو مُذَّكِر".
واللغة التي بها القراءةُ، الأولى، وذلك إدغام"الذال" في"التاء"، وإبدالهما
__________
(1) قوله"عدلا"، أي متوسطة بينهما، وهذا نص عبارة الفراء في معاني القرآن 1: 215.(6/436)
"دالا" مشددة. لا يجوز القراءة بغيرها، لتظاهر النقل من القرأة بها، وهي اللغة الجُودَى، (1) كما قال زهير:
إنّ الكَرِيمَ الَّذِي يُعْطِيكَ نَائِلَهُ ... عَفْوًا، وَيُظْلَمُ أَحْيَانًا فَيَظَّلِمُ (2)
يروى"بالظاء"، يريد:"فيفتعل" من"الظلم"، ويروى"بالطاء" أيضًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ في خلقي من الطين الطيرَ بإذن الله، وفي إبرائي الأكمهَ والأبرصَ، وإحيائي الموتى، وإنبائيَ إياكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم، ابتداءً من غير حساب وتنجيم، ولا كهانة وعرافة = لعبرةً لكم ومتفكَّرًا، تتفكرون في ذلك فتعتبرون به أنيّ محق في قولي لكم:"إني رسولٌ من ربكم إليكم"، وتعلمون به أني فيما أدعوكم إليه من أمر الله ونهيه صادق ="إن كنتم مؤمنين"، يعني: إن كنتم مصدّقين حجج الله وآياته، مقرّين بتوحيده، وبنبيه موسى والتوراة التي جاءكم بها.
* * *
__________
(1) "الجودى"، "فعلى" من"الأجود" مثل"أفضل، وفضلى"، ولم أرها مستعملة إلا قليلا عند أهل طبقة أبي جعفر. وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 215، 216.
(2) ديوانه: 152 وسيبويه 2: 421، والمخصص 2: 206، 207، واللسان (ظلم) وغيرها. هكذا جاء به أبو جعفر، وصواب روايته ما جاء في ديوانه، لأن قبله: إنّ البَخِيلَ مَلُومٌ حَيْثُ كَانَ وَلـ ... ـكِنَّ الجوادَ عَلَى عِلاتِهِ هَرِمُ
هُوَ الجَوَادُ الَّذِي يُعْطِيكَ نائِلَهُ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وانظر روايات مختلفة للبيت، وبيان هذه الروايات في هذه الكتب وغيرها.(6/437)
وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
القول في تأويل قوله: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وبأني قد جئتكم بآية من ربكم، وجئتكم مصدقًا لما بين يديّ من التوراة، ولذلك نصب"مصدّقًا" على الحال من"جئتكم".
والذي يدل على أنه نصب على قوله:"وجئتكم"، دون العطف على قوله:"وجيهًا"، قوله:"لما بين يديّ من التوراة". ولو كان عطفًا على قوله"وجيهًا"، لكان الكلام: ومصدّقًا لما بين يديه من التوراة، وليحل لكم بعض الذي حرم عليكم. (1)
* * *
وإنما قيل:"ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة"، (2) لأن عيسى صلوات الله عليه، كان مؤمنًا بالتوراة مقرًا بها، وأنها من عند الله. وكذلك الأنبياء كلهم، يصدّقون بكل ما كان قبلهم من كتب الله ورسله، وإن اختلف بعضُ شرائع أحكامهم، لمخالفة الله بينهم في ذلك. مع أنّ عيسى كان - فيما بلغنا - عاملا بالتوراة لم يخالف شيئًا من أحكامها، إلا ما خفَّف الله عن أهلها في الإنجيل، مما كان مشددًا عليهم فيها، كما:-
7111 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن عيسى كان على شريعة موسى صلى الله عليه وسلم، وكانَ يسبِت، ويستقبل بيت المقدس، فقال لبني إسرائيل: إني لم أدعكم إلى خلاف حرف مما في التوراة، إلا لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم، وأضع عنكم من الآصار. (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 216.
(2) انظر تفسير"لما بين يدي" و"لما بين يديه" فيما سلف من هذا الجزء: 160، 161.
(3) الآصار جمع إصر (بكسر فسكون) : وهو العهد، أي ما عقد من عقد ثقيل عليهم، مثل قتلهم أنفسهم، وما أشبه ذلك من قرض الجلد إذا أصابته النجاسة، وغير ذلك من الأحكام المشددة.(6/438)
7112 - حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ومصدقًا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حُرّم عليكم"، كان الذي جاء به عيسى ألين مما جاء به موسى، وكان قد حُرّم عليهم فيما جاء به موسى لحومُ الإبل والثُّروب، وأشياء من الطير والحيتان. (1)
7113 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ومصدّقًا لما بين يديّ من التوراة ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: كان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى. قال: وكان حُرّم عليهم فيما جاء به موسى من التوراة، لحومُ الإبل والثُّروب، فأحلها لهم على لسان عيسى - وحرّمت عليهم الشحوم، وأحلت لهم فيما جاء به عيسى - وفي أشياء من السمك، وفي أشياء من الطير مما لا صِيصِيَةَ له، (2) وفي أشياء حرّمها عليهم، وشدّدها عليهم، فجاءهم عيسى بالتخفيف منه في الإنجيل، فكان الذي جاء به عيسى ألينَ من الذي جاء به موسى صلوات الله عليه.
7114 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: لحوم الإبل والشحوم. لما بُعث عيسى أحلَّها لهم، وبُعث إلى اليهود فاختلفوا وتفرّقوا.
7115 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن
__________
(1) الثروب جمع ثرب (بفتح فسكون) : وهي الشحم الرقيق الذي يغشى الكرش والأمعاء والمصارين من الذبائح والأنعام.
(2) صيصية الديك (بكسر الصاد الأولى والثانية وفتح الياء الأخير) ، وجمعها الصياصي: هي الشوكة التي في رجل الديك. وقرون البقر يقال لها"الصياصي"، ومنه قيل للحصون"الصياصي" لأن المقاتلين يحتمون بها كما تحتمي البقر بقرونها.(6/439)
جعفر بن الزبير:"ومصدقًا لما بين يدىّ من التوراة"، أي: لما سبقني منها -"ولأحلّ لكم بعض الذي حرم عليكم"، أي: أخبركم أنه كان حرامًا عليكم فتركتموه، ثم أحله لكم تخفيفًا عنكم، فتصيبون يُسْرَه، وتخرجون من تِباعَته. (1)
7116 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"ولأحل لكم بعض الذي حرم عليكم"، قال: كان حرّم عليهم أشياء، فجاءهم عيسى ليحلّ لهم الذي حرّم عليهم، يبتغي بذلك شُكْرهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بحجة وعبرة من ربكم، تعلمون بها حقيقةَ ما أقول لكم. كما:-
7117 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجئتكم بآية من ربكم"، قال: ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها، وما أعطاه ربه.
7118 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجئتكم بآية من ربكم"، ما بيَّن لهم عيسى من الأشياء كلها.
* * *
ويعني بقوله:"من ربكم"، من عند ربكم.
* * *
__________
(1) الأثر: 7115- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو من تتمة الآثار التي كان آخرها رقم: 7085. وقوله: "وتخرجون من تباعته"، أي من إثمه الذي تبعكم إن اقترفتموه. والتبعة والتباعة (بكسر التاء) : ما كان فيه إثم يتبع به مقترفه، يقال: "ما عليه من الله في هذا تبعة، ولا تباعة".(6/440)
القول في تأويل قوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ 50 إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: وجئتكم بآية من ربكم تعلمون بها يقينًا صدقي فيما أقول ="فاتقوا الله"، يا معشرَ بني إسرائيل، فيما أمركم به ونهاكم عنه في كتابه الذي أنزله على موسى، فأوفوا بعهده الذي عاهدتموه فيه ="وأطيعون"، فيما دعوتكم إليه من تصديقي فيما أرسلني به إليكم ربي وربكم، فاعبدوه، فإنه بذلك أرسلني إليكم، وبإحلال بعض ما كان محرّمًا عليكم في كتابكم، وذلك هو الطريق القويمُ، والهدى المتينُ الذي لا اعوجاج فيه، (1) كما:-
7119 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فاتقوا الله وأطيعون إن الله ربي وربكم"، تبرِّيًا من الذي يقولون فيه - يعني: ما يقول فيه النصارى - واحتجاجًا لربه عليهم ="فاعبدوه هذا صراط مستقيم"، أي: هذا الذي قد حملتُكم عليه وجئتكم به. (2)
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"إن الله ربي وربكم فاعبدوه".
فقرأته عامة قرأة الأمصار: (إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ) بكسر"ألف""إنّ" على ابتداء الخبر.
* * *
وقرأه بعضهم: (أَنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) ، بفتح"ألف""أنّ"، بتأويل:
__________
(1) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170-177 / 3: 140، 141.
(2) الأثر: 7119- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 7115.(6/441)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52)
وجئتكم بآية من ربكم، أنّ الله ربي وربكم، على ردّ"أن" على"الآية"، والإبدال منها.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا ما عليه قرأة الأمصار، وذلك كسر ألف"إن" على الابتداء، لإجماع الحجة من القرأة على صحة ذلك. وما اجتمعت عليه فحجةٌ، وما انفرد به المنفرد عنها فرأيٌ. ولا يعترضُ بالرأي على الحجة.
* * *
وهذه الآية وإن كان ظاهرُها خبرًا، ففيه الحجة البالغة من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم على الوفد الذين حاجُّوه من أهل نجران، بإخبار الله عزّ وجل عن أن عيسى كان بريئًا مما نسبه إليه مَن نسبه إلى غير الذي وصفَ به نفسه، من أنه لله عبدٌ كسائر عبيده من أهل الأرض، إلا ما كان الله جل ثناؤه خصَّه به من النبوة والحجج التي آتاه دليلا على صدقه - كما آتى سائرَ المرسلين غيره من الأعلام والأدلة على صدقهم - وحُجةً على نبوته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فلما أحسّ عيسى منهم الكفر"، فلما وَجد عيسى منهم الكفر.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "والحجة على نبوتهم"، وأثبت ما في المخطوطة وهو الصواب. وقوله: "وحجة على نبوته" معطوف على قوله: "دليلا على صدقه"، والضمير لعيسى، وما بين المعطوف والمعطوف عليه فصل.(6/442)
"والإحساس"، هو الوجود، ومنه قول الله عز وجل: (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) [سورة مريم: 98] .
فأما"الحَسُّ"، بغير"ألف"، فهو الإفناء والقتل، ومنه قوله: (إذ تحسونهم بإذنه) [سورة آل عمران: 152] .
"والحَسُّ" أيضًا العطف والرقة، ومنه قول الكميت:
هَلْ مَنْ بَكَى الدَّارَ رَاجٍ أَنْ تَحِسَّ لَهُ، ... أَوْ يُبْكِيَ الدَّارَ مَاءُ العَبْرَةِ الخَضِلُ? (1)
يعني بقوله:"أن تحس له"، أن ترقّ له.
* * *
فتأويل الكلام: فلما وَجد عيسى - من بني إسرائيل الذين أرسله الله إليهم - جحودًا لنبوّته، وتكذيبًا لقوله، وصدًّا عما دعاهم إليه من أمر الله، قال:"مَن أنصاري إلى الله"؟، يعني بذلك: قال عيسى: من أعواني على المكذبين بحجة الله، (2) والمولِّين عن دينه، والجاحدين نبوة نبيه، ="إلى الله" عز وجل؟
* * *
ويعني بقوله:"إلى الله"، مع الله.
وإنما حَسُن أن يقال:"إلى الله"، بمعنى: مع الله، لأن من شأن العرب إذا ضموا الشيء إلى غيره، ثم أرادوا الخبر عنهما بضم أحدهما مع الآخر إذا ضم إليه، جعلوا مكان"مع"،"إلى" أحيانًا، وأحيانًا تخبر عنهما بـ"مع" فتقول:"الذود إلى الذود إبل"، بمعنى: إذا ضممتَ الذود إلى الذود صارت إبلا. فأما إذا كان الشيء مع الشيء لم يقولوه بـ"إلى"، ولم يجعلوا مكان"مع""إلى".
__________
(1) معاني القرآن للفراء 1: 217، ومجالس ثعلب: 486، وإصلاح المنطق: 240، واللسان (حسس) . والخضل: المتتابع الدائم الكثير الهمول. يتعجب من الباكي على أطلال أحبابه، وما يرجو منها: أترق له، أم تبكي لبكائه؟ يسفه ما يفعل. ثم انظر سائر ما قيل في هذا الحرف من اللغة في المراجع السالفة.
(2) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف 2: 489 / 5: 581.(6/443)
غيرُ جائز أن يقال:"قدم فلانٌ وإليه مالٌ"، بمعنى: ومعه مال. (1)
* * *
وبمثل ما قلنا في تأويل قوله:"مَنْ أنصاري إلى الله"، قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7120 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"من أنصاري إلى الله"، يقول: مع الله. (2)
7121 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"من أنصاري إلى الله"، يقول: مع الله.
* * *
وأما سبب استنصار عيسى عليه السلام من استنصر من الحواريين، فإن بين أهل العلم فيه اختلافًا.
فقال بعضهم: كان سبب ذلك ما:-
7122 - حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: لما بعث الله عيسى، فأمره بالدعوة، نفتْه بنو إسرائيل وأخرجوه، فخرج هو وأمُّه يسيحون في الأرض. فنزل في قرية على رجل فضافَهم وأحسن إليهم. وكان لتلك المدينة ملك جبارٌ معتدٍ، فجاء ذلك الرجل يومًا وقد وقعَ عليه همٌّ وحزن، فدخل منزله ومريم عند امرأته. فقالت مريم لها: ما شأن زوجك؟ أراه حزينًا! قالت: لا تسألي! قالت: أخبريني! لعل الله يُفرِّج كربته! قالت: فإن لنا ملكًا يجعل على كلّ رجل منا يومًا يُطعمه هو وجنودَه
__________
(1) انظر ما سلف 1: 299، ثم انظر معاني القرآن للفراء 1: 218، وهذا مختصر مقالته.
(2) الأثر: 7120- مضى هذا الإسناد قديمًا برقم: 2100، "محمد بن الحسين بن موسى ابن أبي حنين الكوفي"، روى عن عبيد الله بن موسى، وأحمد بن المفضل، وأبي غسان مالك بن إسماعيل. وهو صدوق قاله ابن أبي حاتم في كتابه 3 / 2 / 230. و"أحمد بن المفضل القرشي الأموي" الكوفي الحفري. روى عن الثوري، وأسباط بن نصر، وإسرائيل. روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهما قال أبو حاتم: "كان صدوقًا، وكان من رؤساء الشيعة". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 77.(6/444)
ويسقيهم من الخمر، فإن لم يفعل عاقبه، وإنه قد بلغت نَوبتُه اليوم الذي يريد أن نصنع له فيه، وليس لذلك عندنا سعة! قالت: فقولي له لا يهتم، فإني آمر ابني فيدعُو له، فيُكْفَي ذلك. قالت مريم لعيسى في ذلك، قال عيسى: يا أمَّهْ، إني إن فعلت كان في ذلك شرٌّ. قالت: فلا تُبالِ، فإنه قد أحسنَ إلينا وأكرمنا! قال عيسى: فقولي له: إذا اقترب ذلك، فاملأ قُدُورك وخوَابيك ماء، ثم أعلمني. (1) قال: فلما ملأهنَّ أعلمه، فدعا الله، فتحوَّل ما في القدُور لحمًا ومَرَقًا وخبزًا، وما في الخوابي خمرًا لم ير الناس مثله قطّ وإياه طعامًا. (2) فلما جاء الملك أكل، فلما شرب الخمرَ سأل: من أين هذه الخمر؟ قال له: هي من أرض كذا وكذا. قال الملك: فإنّ خمري أوتَي بها من تلك الأرض، فليس هي مثل هذه! قال: هي من أرض أخرى. فلما خلَّط على الملك اشتدّ عليه، قال: فأنا أخبرك، عندي غلام لا يسأل الله شيئًا إلا أعطاه إياه، وإنه دعا اللهَ، فجعل الماءَ خمرًا. قال الملك = وكان له ابنٌ يريد أن يستخلفه، فمات قبل ذلك بأيام، وكان أحب الخلق إليه = فقال: إن رجلا دعا الله حتى جعل الماء خمرًا، ليُستجابَنّ له حتى يُحييَ ابني! فدعا عيسى فكلمه، فسأله أن يدعو الله فيحيي ابنه، فقال عيسى: لا تفعلْ، فإنه إن عاش كان شرًا. فقال الملك: لا أبالي، أليس أراه، فلا أبالي ما كان. فقال عيسى عليه السلام: فإن أحييته تتركوني أنا وأمي نذهب أينما شئنا؟ قال الملك: نعم. فدعا الله فعاش الغلام. فلما رآه أهل مملكته قد عاش، تنادَوْا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلف ابنه، فيأكلنا كما أكلنا أبوه!! فاقتتلوا، وذهب عيسى وأمُّه، وصحبهما يهودي، وكان مع اليهودي رغيفان، ومع عيسى رغيف، فقال له عيسى: شاركني. فقال اليهودي: نعم. فلما رأى أنه ليس مع عيسى إلا رغيف ندم، فلما ناما جعل اليهوديّ يريد أن يأكلَ الرغيف، فلما أكل لقمة قال له عيسى: ما تصنع؟ فيقول: لا شيء! فيطرحها، حتى فرغ من الرغيف كله. فلما أصبحا قال له عيسى: هلمَّ طعامك! فجاء برغيف، فقال له عيسى: أين الرغيف الآخر؟ قال: ما كان معي إلا واحد. فسكت عنه عيسى، فانطلقوا، فمروا براعي غنم، فنادى عيسى: يا صاحب الغنم، أجزرْنا شاةً من غنمك. (3) قال: نعم، أرسل صاحبك يأخذها. فأرسل عيسى اليهوديّ، فجاء بالشاة فذبحوها وشوَوْها، ثم قال لليهودي: كل، ولا تكسِرنّ عظمًا. فأكلا. (4) فلما شبعوا، قذفَ عيسى العظام في الجلد، ثم ضربها بعصاه وقال: قومي بإذن الله! فقامت الشاة تَثغُو، فقال: يا صاحبَ الغنم، خذ شاتك. فقال له الراعي: من أنتَ؟ فقال: أنا عيسى ابن مريم. قال: أنت الساحر! وفرّ منه. قال: عيسى لليهودي: بالذي أحيى هذه الشاة بعدَما أكلناها، كم كان معك رغيفًا؟ فحلف كان معه إلا رغيف واحد، فمرُّوا بصاحب بَقر، فنادى عيسى فقال: يا صاحب البقر، أجزرنا من بَقرك هذه عجلا. قال: ابعث صاحبك يأخذه. قال: انطلق يا يهوديّ فجئ به. فانطلق فجاءَ به. فذبحه وشواه وصاحبُ البقر ينظر، فقال له عيسى: كلْ ولا تكسِرَن عظمًا. فلما فرغوا، قذف العظام في الجلد ثم ضربه بعصاه، = وقال: قم بإذن الله. فقام وله خُوَارٌ، قال: خُذ عجلك. قال: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى. قال: أنت السحَّار! ثم فر منه. قال اليهودي: يا عيسى أحييته بعد ما أكلناه! قالَ عيسى: فبالذي أحيَى الشاة بعد ما أكلناها، والعجلَ بعد ما أكلناه، كم كان معك رغيفًا؟ فحلف بالله ما كان معه إلا رغيف واحد. فانطلقا، حتى نزلا قريةً، فنزل اليهودي أعلاها وعيسى في أسفلها، وأخذ اليهودي عَصا مثل عصا عيسى وقال: أنا الآنَ أحيي الموتى! وكان ملك تلك المدينة مريضًا شديد المرض، فانطلق اليهودي يُنادي: من يبتغي طبيبًا؟ حتى أتى ملك تلك القرية، فأخبر بوجعه، فقال: أدخلوني عليه فأنا أبرئه، وإن رأيتموه قد مات فأنا أحييه. فقيل له: إن وجع الملك قد أعيَى الأطباء قبلك، ليس من طبيب يُداويه ولا يُفيء دواؤه شيئًا إلا أمر به فصلب. (5) قال: أدخلوني عليه، فإني سأبرئه. فأدخل عليه فأخذ برجل الملك فضربه بعصاه حتى مات، فجعل يضربه بعصاه وهو ميت ويقول: قُم بإذن الله! فأخذ ليُصْلب، فبلغ عيسى، فأقبل إليه وقد رفع على الخشبة، فقال: أرأيتم إن أحييت لكم صاحبكم، أتتركون لي صاحبي؟ قالوا: نعم. فأحيى اللهُ الملكَ لعيسى، فقام وأنزل اليهودي فقال: يا عيسى أنتَ أعظم الناس عليّ منةً، والله لا أفارقك أبدًا. قال عيسى = فيما حدثنا به محمد بن الحسين بن موسى قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي = لليهودي: أنشُدك بالذي أحيى الشاة والعجلَ بعد ما أكلناهما، وأحيى هذا بعد ما مات، وأنزلك من الجِذْع بعد ما رُفعت عليه لتصلب، كم كان معك رغيفًا؟ قال: فحلف بهذا كله ما كان معه إلا رغيف واحد، قال: لا بأس! فانطلقا، حتى مرّا على كنز قد حفرته السباع والدواب، فقال اليهودي: يا عيسى، لمن هذا المال؟ قال عيسى: دعه، فإنّ له أهلا يهلكون عليه. فجعلت نفسُ اليهودي تَطلَّعُ إلى المال، ويكره أن يعصي عيسى، فانطلق مع عيسى. ومرّ بالمال أربعة نَفر، فلما رأوه اجتمعوا عليه، فقال: اثنان لصاحبيهما: انطلقا فابتاعا لنا طعامًا وشرابًا ودوابَّ نحملُ عليها هذا المال. فانطلق الرجلان فابتاعا دوابّ وطعامًا وشرابًا، وقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن نجعل لصاحبينا في طعامهما سَمًّا، فإذا أكلا ماتا، فكان المال بيني وبينك، فقال الآخر: نعم! ففعلا. وقال الآخران: إذا ما أتيانا بالطعام، فليقم كل واحد إلى صاحبه فيقتله، فيكون الطعامُ والدوابّ بيني وبينك. فلما جاءا بطعامهما قاما فقتلاهما، ثم قعدا على الطعام فأكلا منه، فماتا. وأعْلِم ذلك عيسى، (6) فقال لليهودي: أخرجه حتى نقتسمه، فأخرجه، فقسمه عيسى بين ثلاثة، فقال اليهودي: يا عيسى، اتق الله ولا تظلمني، فإنما هو أنا وأنت!! وما هذه الثلاثة؟ قال له عيسى: هذا لي، وهذا لك، وهذا الثلث لصاحب الرغيف. قال اليهودي: فإن أخبرتك بصاحب الرغيف، تعطيني هذا المال؟ فقال عيسى: نعم. قال: أنا هو. قال: عيسى: خذ حظي وحظَّك وحظَّ صاحب الرغيف، فهو حظك من الدنيا والآخرة. فلما حمله مَشى به شيئًا، فخُسِف به. (7) وانطلق عيسى ابن مريم، فمر بالحواريِّين وهم يصطادون السمك، فقال: ما تصنعون؟ فقالوا: نصطاد السمك. فقال: أفلا تمشون حتى نصطادَ الناس؟ قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عيسى ابن مريم، فآمنوا به وانطلقوا معه. فذلك قول الله عز وجل:"مَنْ أنصاري إلى الله قال الحواريون نحنُ أنصارُ الله أمنا بالله واشهدْ بأنا مسلمون".
7122م - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله"، الآية قال: استنصر فنصرَه الحواريون، وظهر عليهم.
* * *
وقال آخرون: كان سببُ استنصار عيسى من استنصرَ، لأن من استنصرَ الحواريِّين عليه كانوا أرادُوا قتله.
ذكر من قال ذلك:
7123 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"فلما أحس عيسى منهم الكفر"، قال: كفروا وأرادُوا قتله، فذلك حين استنصر قومه ="قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصارُ الله".
* * *
"والأنصار"، جمع"نصير"، (8) كما"الأشراف" جمع"شريف"،"والأشهاد" جمع"شهيد".
* * *
وأما"الحواريون"، فإن أهل التأويل اختلفوا في السبب الذي من أجله سموا"حواريون".
فقال بعضهم: سموا بذلك لبياض ثيابهم.
ذكر من قال ذلك:
7124 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال: مما روى أبي قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن ميسرة، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير قال: إنما سمُّوا"الحواريين"، ببياض ثيابهم.
* * *
__________
(1) الخوابي جمع خابية: وهي الحب (بضم الحاء) ، والحب: جرة ضخمة يجعل فيها الماء والخمر وغيرهما.
(2) هذه الكلمة: "وإياه طعامًا" هكذا هي غير منقوطة في المخطوطة، وأما المطبوعة، فإنها جعلتها"وإياه طعامًا"، ولم أجد لها وجهًا أرتضيه. وقد رأيت كل من نقل خبر السدي قد أسقط هذه الكلمة من روايته، فأسقطها الثعلبي في قصص الأنبياء: 341، والبغوي في تفسيره (بهامش ابن كثير) 2: 146، والدر المنثور 2: 34، وغيرهم. وأنا أستبعد أن تكون زيادة من الناسخ، وأقطع بأنها ثابتة في أصل أبي جعفر، ولكني لم أجد لها وجهًا من وجوه التصحيف أحملها عليه، ولكنها ولا شك تعني: "وهيأ طعامًا". وأرجو أن يوفق غيري إلى معرفة صوابها، وأسأل الله أن يوفقني إلى مثله.
(3) في المخطوطة: "اجزر شاة"، والصواب ما في المطبوعة: أجزره شاة: أعطاه شاة تصلح للذبح. وستأتي مرة أخرى على الصواب في حديث البقرة الآتي، في المخطوطة.
(4) خالف بين الضمائر، فقال"فأكلا" يعني عيسى وصاحبه، ثم قال: "فلما شبعوا"، يعني عيسى وصاحبه وأمه مريم عليهما السلام. وهذا سياق لا بأس به في مجاز العربية.
(5) أفا يفيء: رد وأرجع. يعني: لا يرد عليه عافيته. وفي المخطوطة: "لا يفي"، وهذا صواب قراءتها.
(6) في المطبوعة: "أعلم ذلك لعيسى"، والصواب ما في المخطوطة.
(7) قوله: "شيئًا"، أي قليلا، كقول سالم بن وابصة الأسدي: غِنَى النَّفْسِ مَا يَكْفِيكَ مِنْ سَدِّ خَلَّةٍ ... فإن زادَ شيئًا، عَادَ ذَاكَ الغِنَى فَقْرَا
وكقول عمر بن أبي ربيعة: وقالت لَهُنَّ: ارْبَعْنَ شيئًا، لَعَلَّنِي ... وَإنْ لامَني فِيمَا ارْتَأَيْتَ مُلِيمُ
وهذا من نوادر اللغة، مما أغفلت بيانه المعاجم.
(8) انظر تفسير"الأنصار" فيما سلف قريبًا: 443، تعليق: 2. والمراجع هناك.(6/445)
وقال آخرون: سموا بذلك: لأنهم كانوا قَصّارين يبيِّضون الثياب.
ذكر من قال ذلك:
7125 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن أبي أرطأة قال:"الحواريون"، الغسالون الذين يحوّرون الثياب، يغسلونها.
* * *
وقال آخرون: هم خاصّة الأنبياء وصفوتهم.
ذكر من قال ذلك:
7126 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن روح بن القاسم، أن قتادة ذكرَ رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كان من الحواريين. فقيل له: من الحواريُّون؟ قال: الذين تصلح لهم الخلافة.
7127 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا بشر، عن عمارة، عن أبي روق، عن الضحاك في قوله:"إذ قال الحواريون"، قال: أصفِياء الأنبياء.
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه الأقوال التي ذكرنا في معنى"الحواريين"، قولُ من قال:"سموا بذلك لبياض ثيابهم، ولأنهم كانوا غسّالين".
وذلك أن"الحوَر" عند العرب شدة البياض، ولذلك سمي"الحُوَّارَى" من الطعام"حُوّارَى" لشدة بياضه، (1) ومنه قيل للرجل الشديد البياض مقلة العينين"أحور"، وللمرأة"حوراء". وقد يجوز أن يكون حواريو عيسى كانوا سُمُّوا بالذي ذكرنا، من تبييضهم الثيابَ، وأنهم كانوا قصّارين، فعرفوا بصحبة عيسى، واختياره إياهم لنفسه أصحابًا وأنصارًا، فجرى ذلك الاسم لهم، واستُعمل،
__________
(1) الحواري (بضم الحاء وتشديد الواو، وراء مفتوحة) : هو ما حور من الطعام، أي بيض، ودقيق حوارى: هو الدقيق الأبيض، وهو لباب الدقيق وأجوده وأخلصه.(6/450)
حتى صار كل خاصّة للرجل من أصحابه وأنصاره:"حواريُّه"، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
7128 -"إنّ لكلّ نبيَ حواريًّا، وَحوَاريَّ الزبير". (1)
* * *
= يعني خاصته. وقد تسمي العرب النساء اللواتي مساكنهن القرَى والأمصار"حَوَاريَّات"، وإنما سمين بذلك لغلبة البياض عليهن، ومن ذلك قول أبي جَلْدة اليشكري: (2)
فَقُلْ لِلْحَوَارِيَّاتِ يَبْكِينَ غَيْرَنَا ... وَلا تَبْكِنَا إلا الكِلابُ النَّوابِحُ (3)
* * *
ويعني بقوله:"قال الحواريون"، قال هؤلاء الذين صفتهم ما ذكرنا، من تبييضهم الثياب:"آمنا بالله"، صدقنا بالله، واشهد أنتَ يا عيسى بأننا مسلمون.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا خبرٌ من الله عز وجل أن الإسلامَ دينُه الذي ابتعثَ به
__________
(1) الأثر: 7128- ذكره الطبري بغير إسناد، وهو من صحيح الحديث. أخرجه البخاري في مواضع (الفتح 6: 39 / 7: 64، 412 / 13: 203، 204) ، وأخرجه مسلم في صحيحه 15: 188. وكان في المطبوعة: "إن لكل نبي حواري"، وصوابه ما أثبت. والرواية الأخرى بحذف: "إن" أي: "لكل نبي حواري".
(2) هو أبو جلدة بن عبيد بن منقذ اليشكري، من شعراء الدولة الأموية، كان من أخص الناس بالحجاج، ثم فارقه وخرج مع ابن الأشعث، وصار من أشد الناس تحريضًا على الحجاج. فلما قتل وأتى الحجاج برأسه ووضع بين يديه، مكث ينظر إليه طويلا ثم قال: كم من سر أودعته هذا الرأس فلم يخرج منه حتى أتيت به مقطوعًا!!
(3) الؤتلف والمختلف للآمدي: 79، والأغاني 11: 311، والوحشيات: 36، وحماسة ابن الشجري: 65، واللسان (حور) ، وبعده. بَكَيْنَ إِلَيْنَا خَشْيَةً أَنْ تُبِيحَهَا ... رمَاحُ النَّصَارَى والسُّيُوفُ الجوارحُ
بَكَيْنَ لِكَيْمَا يَمْنَعُوهُنَّ مِنْهُمُ ... وَتَأْبَى قُلُوبٌ أَضْمَرَتْها الجَوَانِحُ
يقولها تحريضًا وتحضيضًا على قتال أهل الشام.(6/451)
عيسى والأنبياءَ قبله، لا النصرانية ولا اليهوديةَ = وتبرئةٌ من الله لعيسى ممن انتحل النصرانية ودان بها، كما برّأ إبراهيم من سائر الأديان غير الإسلام، وذلك احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم على وفد نجران، كما:-
7129 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فلما أحسّ عيسى منهم الكفر" والعدوان (1) ="قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله"، وهذا قولهم الذي أصابوا به الفضلَ من ربهم ="واشهد بأنا مسلمون"، لا كما يقول هؤلاء الذين يحاجونك فيه - يعني وفدَ نصارَى نجران. (2)
* * *
__________
(1) في سيرة ابن هشام: "والعدوان عليه".
(2) الأثر: 7129- سيرة ابن هشام 2: 230، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7119.(6/452)
رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53)
القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل عن الحواريين أنهم قالوا:"ربنا آمنا"، أي: صدّقنا ="بما أنزلت"، يعني: بما أنزلتَ على نبيك عيسى من كتابك ="واتبعنا الرسول"، يعني بذلك: صرنا أتباع عيسى على دينك الذي ابتعثته به، وأعوانه على الحق الذي أرسلتَه به إلى عبادك = وقوله:"فاكتبنا مع الشاهدين"، يقول: فأثبت أسماءنا مع أسماء الذين شهدوا بالحق، وأقرُّوا لك بالتوحيد، وصدّقوا رسلك، واتبعوا أمرك ونهيك، فاجعلنا في عدادهم ومعهم فيما تكرمهم به من كرامتك، وأحِلَّنا محلهم، ولا تجعلنا ممن كفر بك، وصدَّ عن سبيلك، وخالف أمرك ونهيك.(6/452)
وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
يعرّف خلقه جل ثناؤه بذلك سبيلَ الذين رضي أقوالهم وأفعالهم، ليحتذوا طريقهم، ويتبعوا منهاجهم، فيصلوا إلى مثل الذي وصلوا إليه من درجات كرامته = ويكذّب بذلك الذين انتحلوا من الملل غير الحنيفية المسلمة، في دعواهم على أنبياء الله أنهم كانوا على غيرها = ويحتجُّ به على الوفد الذين حاجوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجران: بأنّ قِيلَ مَنْ رضي الله عنه من أتباع عيسى كان خلاف قِيلهم، ومنهاجهم غير منهاجهم، كما:-
7130 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ربنا آمنا بما أنزلت واتبعنا الرسول فاكتبنا مع الشاهدين"، أي: هكذا كان قولهم وإيمانهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الذين كفروا من بني إسرائيل، وهم الذين ذكر الله أنّ عيسى أحسّ منهم الكفر.
* * *
وكان مكرهم الذي وصفهم الله به، مُواطأة بعضهم بعضًا على الفتك بعيسى وقَتْله، وذلك أن عيسى صلوات الله عليه، بعد إخراج قومه إياه وأمّه من بين أظهُرِهم، عاد إليهم، فيما:-
7131 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن عيسى سار بهم = يعني: بالحواريين الذين كانوا
__________
(1) الأثر: 7130- سيرة ابن هشام 2: 230، هو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7129.(6/453)
يصطادون السمك، فآمنوا به واتبعوه إذ دعاهم = حتى أتى بني إسرائيل ليلا فصَاح فيهم، فذلك قوله: (فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ) الآية [سورة الصف: 14] .
* * *
وأما مكر الله بهم: فإنه - فيما ذكر السدي - إلقاؤه شبَه عيسى على بعض أتباعه حتى قتله الماكرون بعيسى، وهم يحسبونه عيسى، وقد رفع الله عز وجل عيسى قبل ذلك، كما:-
7132 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن بني إسرائيل حَصروا عيسى وتسعةَ عشر رجلا من الحواريِّين في بيت، فقال عيسى لأصحابه: من يأخذ صورتي فيقتل وله الجنة؟ فأخذها رجل منهم، وصُعِد بعيسى إلى السماء، فذلك قوله:"ومكرُوا ومكر الله والله خير الماكرين". فلما خرج الحواريون أبصرُوهم تسعةَ عشر، فأخبروهم أن عيسى قد صُعد به إلى السماء، فجعلوا يعدّون القوم فيجدُونهم ينقصون رجلا من العِدّة، ويرون صورةَ عيسى فيهم، فشكُّوا فيه. وعلى ذلك قتلوا الرجل وهم يُرَوْن أنه عيسى وصَلبوه، فذلك قول الله عز وجل: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) [سورة النساء: 157] .
* * *
وقد يحتمل أن يكون معنى"مكر الله بهم"، استدراجُه إياهم ليبلغ الكتاب أجله، كما قد بينا ذلك في قول الله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [سورة البقرة: 15] . (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 301-306.(6/454)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55)
القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومكر الله بالقوم الذين حاولوا قتلَ عيسى = مع كفرهم بالله، وتكذيبهم عيسى فيما أتاهم به من عند ربهم = إذ قال الله جل ثناؤه:"إني متوفيك"، فـ"إذ" صلةٌ من قوله:"ومكر الله"، يعني: ومكر الله بهم حين قال الله لعيسى"إني متوفيك ورافعك إليّ، فتوفاه ورفعه إليه.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الوفاة" التي ذكرها الله عز وجل في هذه الآية.
فقال بعضهم:"هي وفاة نَوْم"، وكان معنى الكلام على مذهبهم: إني مُنِيمك ورافعك في نومك.
ذكر من قال ذلك:
7133 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إني متوفيك"، قال: يعني وفاةَ المنام، رفعه الله في منامه = قال الحسن: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لليهود:"إن عيسَى لم يمتْ، وإنه راجعٌ إليكم قبل يوم القيامة. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إني قابضك من الأرض، فرافعك إليّ، قالوا: ومعنى"الوفاة"، القبض، لما يقال:"توفَّيت من فلان ما لي عليه"، بمعنى: قبضته واستوفيته. قالوا: فمعنى قوله:"إني متوفيك ورافعك"، أي: قابضك من
__________
(1) الأثر: 7133- هو أثر مرسل، خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 36، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم، وساقه ابن كثير في تفسيره 2: 150 بإسناد ابن أبي حاتم.(6/455)
الأرض حيًّا إلى جواري، وآخذُك إلى ما عندي بغير موت، ورافعُك من بين المشركين وأهل الكفر بك.
ذكر من قال ذلك:
7134 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا ضمرة بن ربيعة، عن ابن شوذب، عن مطر الورّاق في قول الله:"إني متوفيك"، قال: متوفيك من الدنيا، وليس بوفاة موت. (1)
7135 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"إني متوفيك"، قال: متوفيك من الأرض.
7136 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إني متوفيك ورافعك إليّ ومطهرك من الذين كفروا"، قال: فرفعه إياه إليه، توفِّيه إياه، وتطهيره من الذين كفروا.
7137 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح: أن كعب الأحبار قال: ما كان الله عز وجل ليميت عيسى ابن مريم، إنما بعثه الله داعيًا ومبشرًا يدعو إليه وحده، فلما رأى عيسى قِلة من اتبعه وكثرة من كذّبه، شكا ذلك إلى الله عز وجل، فأوحى الله إليه:"إني متوفيك ورافعك إليّ"، وليس مَنْ رفعته عندي ميتًا، وإني سأبعثك على الأعوَر الدجّال فتقتله، ثم تعيش بعد ذلك أربعًا وعشرين سنة، ثم أميتك ميتة الحيّ.
قال كعب الأحبار: وذلك يصدّق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث
__________
(1) الأثر: 7134-"علي بن سهل الرملي"، ثقة. مضت ترجمته رقم: 1384."ضمرة ابن ربيعة الفلسطيني الرملي"، قال ابن سعد: "كان ثقة مأمونًا خيرًا، لم يكن هناك أفضل منه". وقال آدم بن أبي إياس: "ما رأيت أحدًا أعقل لما يخرج من رأسه منه". وهو رواية ابن شوذب. مترجم في التهذيب."ابن شوذب" هو: عبد الله بن شوذب الخراساني. ثقة. مترجم في التهذيب. و"مطر الوراق" هو: مطر بن طهمان الوراق. مضى في رقم: 1913.(6/456)
قال: كيف تهلك أمة أنا في أوّلها، وعيسى في آخرها. (1)
7138 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"يا عيسى إني متوفيك"، أي قابضُك.
7139 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إني متوفيك ورافعك إليّ"، قال:"متوفيك": قابضك = قال:"ومتوفيك" و"رافعك"، واحدٌ = قال: ولم يمت بعدُ، حتى يقتل الدجالَ، وسيموتُ. وقرأ قول الله عز وجل:"ويكلم الناس في المهد وكهلا"، قال: رفعه الله إليه قبل أن يكون كهلا = قال: وينزل كهلا.
7140 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قول الله عز وجل:"يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي"، الآية كلها، قال: رفعه الله إليه، فهو عنده في السماء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إني متوفيك وفاةَ موتٍ.
ذكر من قال ذلك:
7141 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إني متوفيك"، يقول: إني مميتك.
7142 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه قال: توفى الله عيسى ابن مريم ثلاثَ ساعات من النهار حتى رفعه إليه.
__________
(1) الأثر: 7137- خرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 36، ونسبه للطبري وحده، وقال: "وأخرج ابن جرير بسند صحيح"، وذكر الأثر، وحديثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث مرسل، ومهما كان سنده صحيحًا، فإن روايته كعب الأحبار إنما هي لا شيء، ولا يحتج بها. وصدق معاوية في قوله في كعب الأحبار: "إن كان لمن أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب"، رواه البخاري.(6/457)
7143 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال: والنصارى يزعمون أنه توفاه سبع ساعات من النهار، ثم أحياهُ الله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إذ قال الله يا عيسى إني رافعك إليّ ومطهِّرك من الذين كفروا، ومتوفيك بعد إنزالي إياك إلى الدنيا. وقال: هذا من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا، قولُ من قال:"معنى ذلك: إني قابضك من الأرض ورافعك إليّ"، لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ينزل عيسى ابن مريم فيقتل الدجال، ثم يمكث في الأرض مدة ذكَرها، اختلفت الرواية في مبلغها، ثم يموت فيصلي عليه المسلمون ويدفنونه.
7144 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن مسلم الزهري، عن حنظلة بن علي الأسلمي، عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ليهبطنّ اللهُ عيسى ابن مريم حَكمًا عدلا وإمامًا مُقسِطًا، يكسر الصَّليب، ويقتل الخنزير، ويضَعُ الجزية، ويُفيضُ المالَ حتى لا يجد من يأخذه، وليسكنّ الرّوْحاء حاجًا أو معتمرًا، أو ليُثَنِّينَّ بهما جميعًا. (1)
__________
(1) الحديث: 7144- سلمة: هو ابن الفضل الأبرش. رجحنا توثيقه في: 246.
حنظلة بن علي بن الأسقع الأسلمي - ويقال"السلمي"-: تابعي ثقة معروف.
والحديث رواه أحمد في المسند: 7890 (ج 2 ص 290-291 حلبي) ، بنحوه، مطولا، عن يزيد، وهو ابن هارون، عن سفيان، وهو ابن حسين، عن الزهري، عن حنظلة.
ورواه أحمد قبل ذلك، مختصرًا: 7271، عن سفيان، وهو ابن عيينة. و: 7667، عن عبد الرزاق، عن معمر - كلاهما عن الزهري، عن حنظلة.
ورواه أيضًا مختصرًا: 10671 (ج 2 ص 513) ، من طريق ابن أبي حفصة. و: 10987 (ج 2 ص 540) ، من طريق الأوزاعي - كلاهما عن الزهري، عن حنظلة.
وهذه الرواية المختصرة عند أحمد - رواها مسلم 1: 356-357.
وروى أحمد معنى هذا الحديث مفرقًا في أحاديث، من طرق عن أبي هريرة. انظر المسند: 7267، 7665، 7666، 9110 (ج 2 ص 394) ، 9312 (ص 411) ، 10266 (ص 482-483) ، 10409 (ص 493-494) ، 10957 (ص 538) .
وذكر ابن كثير كثيرًا من طرقه ورواياته، في التفسير 3: 15-16. وانظر أيضًا تاريخه 2: 96-101.
قوله: "أو ليثنين بهما"- هذا هو الصواب الثابت في المخطوطة، والصحيح المعنى. ووقع في المطبوعة"أو يدين بهما"!! وهو تخليط لا معنى له.(6/458)
7145 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الحسن بن دينار، عن قتادة، عن عبد الرحمن بن آدم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأنبياء إخوَةٌ لعَلاتٍ، أمَّهاتهم شتى، ودينهم واحد. وأنا أولى الناس بعيسى ابن مريم، لأنه لم يكن بيني وبينه نبي، وأنه خليفتي على أمتي. وإنه نازل، فإذا رأيتموه فاعرفوه: فإنه رجل مربوع الخلق، إلى الحمرة والبياض، سَبط الشعر، كأن شَعرَه يقطُر، وإن لم يصبه بَللٌ، بين مُمصَّرَتين، يدق الصّليبَ، ويقتل الخنزير، ويُفيضُ المال، ويقاتل الناس على الإسلام حتى يهلك الله في زمانه المِللَ كلها، ويهلك الله في زمانه مسيحَ الضّلالة الكذّاب الدجال وتقعُ في الأرض الأمَنَةُ حتى ترتع الأسُود مع الإبل، والنمر مع البقر، والذئاب مع الغنم، وتلعب الغلمانُ بالحيات، لا يَضرُّ بعضُهم بعضًا، فيثبت في الأرض أربعين سنة ثم يتوفى، ويصلي المسلمون عليه ويدفنونه. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 7145- إسناده ضعيف جدًا. وأصل الحديث صحيح، كما سيأتي.
الحسن بن دينار البصري، كذاب لا يوثق به. وقد مضت ترجمته في: 682.
عبد الرحمن بن آدم البصري، صاحب السقاية، مولى أم برثن: تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له مسلم في صحيحه، وترجمنا له في شرح المسند: 7213.
والحديث سيأتي بإسناد آخر صحيح: من رواية سعيد - وهو ابن أبي عروبة - عن قتادة بهذا الإسناد نحوه (ج 6 ص 16 بولاق) .
وقد رواه أحمد في المسند: 9259 (ج 2 ص 406 حلبي) ، عن عفان، عن همام، عن قتادة، به نحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 2: 595، من طريق عفان. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكر ابن كثير في التفسير 3: 16، من رواية أحمد بن عفان. ثم أشار إلى أن أبا داود رواه من طريق همام، ثم أشار إلى رواية الطبري الآتية، من طريق ابن أبي عروبة.
ورواه أحمد أيضًا: 9630 (ج 2 ص 437) ، من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، به نحوه.
ثم رواه: 9631، من طريق هشام، و: 9632، من طريق شيبان - كلاهما عن قتادة. ولم يذكر لفظه.
ونقله ابن كثير في التاريخ 2: 98-99، عن رواية ابن أبي عروبة في المسند، وأشار إلى روايتي أحمد وأبي داود من طريق همام.
وليس في هذه الروايات ولا في رواية الطبري الآتية-: الكلمة التي هنا في رواية الحسن بن دينار: "وإنه خليفتي على أمتي". وهي عندنا كلمة شاذة، انفرد بروايتها رجل غير موثق به.
وصدر هذا الحديث رواه أحمد، والبخاري، وابن حبان، من أوجه، عن أبي هريرة. وانظر تفسير ابن كثير 3: 16، وتاريخه 2: 98-99.
قوله: "إخوة لعلات" - بفتح العين المهملة وتشديد اللام- قال ابن الأثير: "أولاد العلات: الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد. أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة".
قوله: "وإنه نازل" - نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان: مما لم يختلف فيه المسلمون، لورود الأخبار المتواترة الصحاح عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك. وقد ذكر ابن كثير في تفسيره طائفة طيبة منها، ج 3 ص 15-24. وهذا معلوم من الدين بالضرورة، لا يؤمن من أنكره.
قوله: "مربوع الخلق" - بفتح الخاء وسكون اللام- المربوع: هو بين الطويل والقصير. يقال: رجل ربعة ومربوع.
"الشعر السبط": المنبسط المسترسل.
قوله: "بين ممصرتين" - الممصرة من الثياب، بتشديد الصاد المهملة المفتوحة: هي التي فيها صفرة خفيفة.(6/459)
قال أبو جعفر: ومعلوم أنه لو كان قد أماته الله عز وجل، لم يكن بالذي يميته مِيتةً أخرى، فيجمع عليه ميتتين، لأن الله عز وجل إنما أخبر عباده أنه يخلقهم ثم يُميتهم ثم يُحييهم، كما قال جلّ ثناؤه: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) [سورة الروم: 40] .
* * *(6/460)
فتأويل الآية إذًا: قال الله لعيسى: يا عيسى، إني قابضك من الأرض، ورافعك إليّ، ومطهرك من الذين كفروا فجحدوا نبوّتك.
* * *
وهذا الخبر، وإن كان مخرجه مخرجَ خبر، فإن فيه من الله عز وجل احتجاجًا على الذين حاجُّوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في عيسى من وفد نجرانَ بأن عيسى لم يُقتَل ولم يُصْلب كما زعموا، وأنهم واليهودَ الذين أقرُّوا بذلك وادَّعوا على عيسى - كذَبةٌ في دعواهم وزعمهم، كما:-
7146 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير: ثم أخبرهم - يعني الوفد من نجران - وردّ عليهم فيما أقرُّوا لليهود بصلبه، (1) كيفَ رفعه وطهره منهم، فقال:"إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إليّ". (2)
* * *
وأما"مطهِّرك من الذين كفروا"، فإنه يعني: منظّفك، فمخلّصك ممن كفر بك، وجحد ما جئتهم به من الحق من اليهود وسائر الملل غيرها، كما:-
7147 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ومطهرك من الذين كفروا"، قال: إذْ همُّوا منك بما همّوا. (3)
7148 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد،
__________
(1) في المطبوعة: "فيما أخبروا هم واليهود بصلبه"، وما أثبته هو نص المخطوطة ولكن الناسخ أساء كعادته فكتب"أحروا لليهود" كأنها حاء، فبدل الناشر لما شاء كما شاء. ومع ذلك، فالذي في المخطوطة هو نص ابن هشام أيضًا على الصواب.
(2) الأثر: 7146- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7130.
(3) الأثر: 7147- سيرة ابن هشام 2: 231، تتمة الأثر السالف رقم: 7146.(6/461)
عن الحسن في قوله:"ومطهرك من الذين كفروا"، قال: طهَّره من اليهود والنصارى والمجوس ومن كفار قومه.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وجاعل الذين اتبعوك على منهاجِك وملَّتك من الإسلام وفطرته، فوق الذين جحدوا نبوّتك وخالفوا سبيلهم [من] جميع أهل الملل، (1) فكذّبوا بما جئت به وصدّوا عن الإقرار به، فمصيِّرهم فوقهم ظاهرين عليهم، كما:-
7149 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، هم أهلُ الإسلام الذين اتبعوه على فطرته وملته وسُنته، فلا يزالون ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة.
7150 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، ثم ذكر نحوه.
7151 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة: "وخالفوا بسبيلهم جميع أهل الملل"، وفي المخطوطة: "وخالفوا سبيلهم جميع وهل الملل"، والصواب زيادة [من] ، يعني: وخالفوا سبيل الذين اتبعوك، من جميع أهل الملل. أهو صواب المعنى، إن شاء الله.(6/462)
ابن جريج:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، ثم ذكر نحوه.
7152 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، قال: ناصرُ من اتبعك على الإسلام، على الذين كفروا إلى يوم القيامة.
7153 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، أما"الذين اتبعوك"، فيقال: هم المؤمنون، = ويقال: بل هم الرّوم. (1)
7154 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"وجاعل الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة"، قال: جعل الذين اتبعوه فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة. قال: المسلمون من فوقهم، وجعلهم أعلى ممن ترك الإسلام إلى يوم القيامة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وجاعل الذين اتبعوك من النصارى فوق اليهود.
ذكر من قال ذلك:
7155 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله:"ومطهرك من الذين كفروا"، قال: الذين كفروا من بني إسرائيل ="وجاعل الذين اتبعوك"، قال: الذين آمنوا به من بني إسرائيل وغيرهم ="فوق الذين كفروا"، النصارى فوقَ اليهود إلى يوم القيامة. قال: فليس بلدٌ فيه أحدٌ من النصارى، إلا وهم فوق يهودَ، في شرقٍ ولا غرب، هم في البلدان كلِّها مستذلون.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فيقال هم المؤمنون، ليس هم الروم" بدل ما في المخطوطة، والروم كانوا هم النصارى يومئذ، ويعني بالمؤمنين فيما سلف، أهل الإسلام ممن لم يبدل ولم يقل في عيسى ما قالت النصارى بعد.(6/463)
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ثم إليّ"، ثم إلى الله، أيها المختلفون في عيسى ="مرجعكم"، يعني: مصيركم يوم القيامة ="فأحكم بينكم"، يقول: فأقضي حينئذ بين جَميعكم في أمر عيسى بالحق ="فيما كنتم فيه تختلفون" من أمره.
وهذا من الكلام الذي صُرف من الخبر عن الغائب إلى المخاطبة، وذلك أن قوله:"ثم إليَّ مرجعكم"، إنما قُصد به الخبرُ عن متَّبعي عيسى والكافرين به.
وتأويل الكلام: وجاعلُ الذين اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة، ثم إليّ مَرجعُ الفريقين: الذين اتبعوك، والذين كفروا بك، فأحكم بينهم فيما كانوا فيه يختلفون. ولكن ردَّ الكلام إلى الخطاب لسبوق القول، (1) على سبيل ما ذكرنا من الكلام الذي يخرج على وجه الحكاية، كما قال: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [سورة يونس: 22] . (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "لسوق القول" وهو خطأ لا معنى له. وفي المخطوطة"لسوق" غير منقوطة، فلم يحسن قراءتها. والطبري يكثر استعمال"سبوق" مصدر"سبق"، كما أشرت إليه في 4: 287، تعليق: 4 / ثم ص: 427، تعليق: 1 / ثم ص: 446، تعليق: 4، وغيره من المواضع. ويعني بقوله: "لسبوق القول" مثل ما مضى من قوله في 1: 153 أن من شأن العرب"إذا حكت، أو أمرت بحكاية خبر يتلو القول، أن تخاطب ثم تخبر عن غائب، وتخبر عن غائب ثم تعود إلى الخطاب، لما في الحكاية بالقول من معنى الغائب والمخاطب". والقول هنا هو قوله تعالى: "إذ قال الله يا عيسى ... ". ومعنى ما قال الطبري، أن قوله تعالى: "ثم إلي مرجعكم ... " إنما هو في أمر الذين اختلفوا في أمر عيسى، وقالوا فيه ما قالوا من اليهود والنصارى وغيرهم، وأمر الذين قالوا فيه الحق ولم يمتروا فيه أنه عبد الله ورسوله. وذلك بعد أن كان الخطاب إلى عيسى نفسه، وكان ذكر الذين اتبعوه والذين كفروا به، غائبًا في خطاب عيسى، فرد الخطاب إليهم في آخر الآية.
(2) انظر ما سلف 1: 153، 154 / 3: 304، 305.(6/464)
فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57)
القول في تأويل قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فأما الذين كفروا"، فأما الذين جَحدوا نبوّتك يا عيسى، وخالفوا ملتك، وكذّبوا بما جئتهم به من الحق، وقالوا فيك الباطلَ، وأضافوك إلى غير الذي ينبغي أن يُضيفوك إليه، من اليهود والنصارى وسائر أصناف الأديان، فإني أعذبهم عذابًا شديدًا، أما في الدنيا فبالقتل والسباء والذلة والمسكنة، وأما في الآخرة فبنار جهنم خالدين فيها أبدًا ="وما لهم من ناصرين"، يقول: وما لهم من عذاب الله مانعٌ، ولا عن أليم عقابه لهم دافع بقوة ولا شفاعة، لأنه العزيز ذُو الانتقام.
* * *
وأما قوله:"وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات"، فإنه يعني تعالى ذكره: وأما الذين آمنوا بك يا عيسى - يقول: صدّقوك - فأقروا بنبوتك وبما جئتهم به من الحقّ من عندي، ودانوا بالإسلام الذي بعثتك به، وعملوا بما فرضتُ من فرائضي على لسانك، وشرعتُ من شرائعي، وسننتُ من سنني. كما:
7156 - حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"وعملوا الصالحات"، يقول: أدوا فرائضي.
* * *
="فيوفيهم أجورَهم"، يقول: فيعطيهم جزاءَ أعمالهم الصالحة كاملا لا يُبخسون منه شيئًا ولا يُنقصونه.
* * *(6/465)
ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
وأما قوله:"والله لا يحب الظالمين"، فإنه يعني: والله لا يحبُّ من ظلم غيرَه حقًا له، أو وضع شيئًا في غير موضعه.
فنفى جل ثناؤه عن نفسه بذلك أن يظلم عبادَه، فيجازي المسيءَ ممن كفر جزاءَ المحسنين ممن آمن به، أو يجازي المحسنَ ممن آمن به واتبعَ أمره وانتهى عما نهاه عنه فأطاعه، جزاءَ المسيئين ممن كفر به وكذّب رسله وخالف أمره ونهيه. فقال: إني لا أحبّ الظالمين، فكيف أظلم خلقي؟
* * *
وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان خرج مخرج الخبر، فإنه وعيدٌ منه للكافرين به وبرسله، (1) ووعد منه للمؤمنين به وبرسله، (2) لأنه أعلم الفريقين جميعًا أنه لا يبخسُ هذا المؤمن حقه، ولا يظلمُ كرامته فيضعها فيمن كفر به وخالف أمره ونهيه، فيكون لها بوضعها في غير أهلها ظالمًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ذلك"، هذه الأنباءَ التي أنبأ بها نبيه عن عيسى وأمِّه مريم، وأمِّها حَنَّة وزكريا وابنه يحيى، وما قصَّ من أمر الحواريين واليهودَ من بنى إسرائيل ="نتلوها عليك"، يا محمد، يقول: نقرؤها عليك يا محمد على لسان جبريل صلى الله عليه وسلم، (3) بوحيناها إليك ="من
__________
(1) في المطبوعة: "كأنه وعيد منه"، وهو خطأ بين، لم يحسن قراءة المخطوطة لسوء خط الناسخ.
(2) في المخطوطة: "ووعيد منه للمؤمنين"، وهو خطأ بين، والصواب ما في المطبوعة.
(3) انظر معنى"التلاوة" فيما سلف 2: 411، 569.(6/466)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)
الآيات"، يقول: من العبر والحجج على من حاجَّك من وفد نصارى نجران، (1) ويهود بني إسرائيل الذين كذَّبوك وكذبوا ما جئتهم به من الحق من عندي ="والذكر"، يعني: والقرآن (2) ="الحكيم"، يعني: ذي الحكمة الفاصلة بين الحقّ والباطل، (3) وبينك وبين ناسبي المسيح إلى غير نسبه، كما:-
7157 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم"، القاطع الفاصل الحقّ، الذي لم يخلطه الباطل من الخبر عن عيسى وعما اختلفوا فيه من أمره، فلا تقبلنّ خبرًا غيره. (4)
7158 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"ذلك نتلوه عليك من الآيات والذكر الحكيم"، قال: القرآن.
7159 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والذكر"، يقول: القرآن ="الحكيم" الذي قد كمَلَ في حكمته.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: إن شبه عيسى في خلقي إياه من غير فحل = فأخبرْ به، يا محمد، الوفدَ من نصارى نجران = عندي، كشبه آدمَ الذي
__________
(1) انظر معنى"الآيات"، فيما سلف قريبًا، ومادة (أيي) من فهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"الذكر" فيما سلف 1: 94، 99.
(3) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف، في مادة (حكم) من فهارس اللغة.
(4) الأثر: 7157- سيرة ابن هشام 2: 231، وهو من تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7147، وكان في المطبوعة: "فلا يقبلن" بالياء، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.(6/467)
خلقتُه من تراب ثم قلت له:"كن"، فكان من غير فحل ولا ذكر ولا أنثى. يقول: فليس خلقي عيسى من أمه من غير فحل، بأعجب من خلقي آدم من غير ذكر ولا أنثى، وأمري إذ أمرته أن يكون فكان لحمًا. يقول: فكذلك خلقى عيسى: أمرتُه أن يكون فكانَ. (1)
* * *
وذكر أهل التأويل أن الله عز وجل أنزل هذه الآية احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الوفد من نصارى نجران الذين حاجُّوه في عيسى.
ذكر من قال ذلك:
7160 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال: كان أهل نجران أعظم قوم من النصارى في عيسى قولا فكانوا يجادلون النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل هذه الآية في سورة آل عمران:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، إلى قوله"فنجعل لعنةَ الله على الكاذبين".
7161 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، وذلك أن رهطًا من أهل نجران قدموا على محمد صلى الله عليه وسلم = وكان فيهم السيّد والعاقب = فقالوا لمحمد: ما شأنك تذكر صاحبنا؟ فقال: من هو؟ قالوا: عيسَى، تزعم أنه عبدُ الله! فقال محمد:
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بأعجب من خلقى آدم من غير ذكر ولا أنثى (فكان لحمًا يقول) ، وأمري إذ أمرته أن يكون فكان. فكذلك خلقى عيسى ... " وهي عبارة مضطربة اضطرابًا فاسدًا جدًا، وذلك أن الناسخ عجل نظره وهو ينسخ فكتب ما وضعته بين القوسين آنفًا في هذا المكان ثم استمر يكتب، ثم نسي أن يضرب على هذا الكلام ويعيده إلى مكانه فإن قوله: "وأمري إذ أمرته" معطوف على قوله"بأعجب من خلقى آدم"، وغير ممكن أن يفصل بينهما بمثل قوله: "فكان لحمًا يقول"، واستظهرت أن مكانها حيث أثبت في آخر الجملة، فرددتها إلى مكانها، فاستقام الكلام إن شاء الله.(6/468)
أجل، إنه عبد الله. قالوا له: فهل رأيت مثلَ عيسى، أو أنبئت به؟ ثم خرجوا من عنده، فجاءه جبريل صلى الله عليه وسلم بأمر ربِّنا السميع العليم فقال: قل لهم إذا أتوك:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم"، إلى آخر الآية.
7162 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، ذكر لنا أنّ سيِّديْ أهل نجران وأسقُفَّيْهم: السيد والعاقبُ، لقيا نبيّ الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن عيسى فقالا كل آدمي له أب، فما شأن عيسى لا أب له؟ فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآية:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون".
7163 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن مَثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب"، لما بُعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع به أهل نجران، أتاه منهم أربعة نفر من خيارهم. منهم: العاقب، والسيد، وما سَرجس، ومار يحز. (1) فسألوه ما يقول
__________
(1) هكذا جاء الاسمان في المخطوطة والمطبوعة، أما "ماسرجس" فالمشهور"مَارَسَرْجِسَ"، وهكذا رأيته في أشعارهم كقول جرير للأخطل: قال الأُخَيْطِلُ إِذْ رَأَى رَايَاتِهِمْ ... يَامَارَ سَرْجِسَ لا نُرِيدُ قِتَالاَ
ويقولن فيه أيضًا: "مارسرجيس" بالياء، كما قال الأخطل: لَمَّا رَأَوْنَا وَالصَّلِيبَ طَالِعَا ... وَمَارَ سَرْجِيسَ وسمًّا ناقِعَا
وهذا الذي ذكره جرير والأخطل رجل مشهور من قديسيهم. وأما "ماريحز"، فلم أعرف ضبطه وأظنه غير صحيح، وكأنه مصحف، وقد جاء في الدر المنثور 2: 37"مار بحر"، وقد ذكر ابن هشام في سيرته 2: 224، أسماء الأربعة عشر الذين يؤول إليهم وفد نصارى نجران. فلم أجد فيها"ماسرجس" ولا"مار يحز"، وأخشى أن يكون"مار يحنس" فقد ذكر فيهم"يحنس"، ولكنه رجم لا أحققه.(6/469)
في عيسى، فقال: هو عبد الله ورُوحُه وكلمته. قالوا هم: لا! ولكنه هو الله، نزل من ملكه فدَخل في جوف مريم، ثم خرج منها فأرانا قدرته وأمرَه! فهل رأيتَ قَط إنسانًا خُلق من غير أب؟ فأنزل الله عز وجل:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون". 7164 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريح، عن عكرمة قوله:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، قال: نزلت في العاقب والسيد من أهل نجران، وهما نصرانيان. = قال ابن جريج: بلغنا أنّ نصارى أهل نجران قدم وفدُهم على النبي صلى الله عليه وسلم، فيهم السيد والعاقبُ، وهما يومئذ سيدا أهل نجران، فقالوا: يا محمد، فيما تشتمُ صاحبنا؟ قال: من صاحبكما! قالا عيسى ابن مريم، تزعم أنه عبد! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"أجل، إنه عبدُ الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه. فغضبوا وقالوا: إن كنت صادقًا فأرنا عبدًا يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه، الآية، لكنه الله. فسكتَ حتى أتاه جبريلُ فقال: يا محمد: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) [سورة المائدة: 17، 72] الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا جبريل، إنهم سألوني أن أخبرَهم بمثَل عيسى. قال جبريل: مثلُ عيسى كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له: كُن فيكون. فلما أصبحوا عادُوا، فقرأ عليهم الآيات.
7165 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إن مثل عيسى عند الله"، فاسمع، (1) "كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك فلا تكن من الممترين"، فإن قالوا:
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فاسمع"، وفي سيرة ابن هشام: "فاستمع".(6/470)
خُلق عيسى من غير ذكر، فقد خلقت آدمَ من تراب بتلك القدرة من غير أنثى ولا ذكر، فكان كما كانَ عيسى لحمًا ودمًا وشعرًا وبَشرًا، فليس خلقُ عيسى من غير ذكر بأعجبَ من هذا. (1)
7166 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل:"إنّ مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب"، قال: أتى نجرانيَّان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا له: هل علمتَ أنّ أحدًا وُلد من غير ذكر، فيكون عيسى كذلك؟ قال: فأنزل الله عز وجل:"إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون"، أكان لآدم أب أو أم! ! كما خلقت هذا في بطن هذه؟
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فكيف قال:"كمثل آدم خلقه"،"وآدم" معرفة، والمعارفُ لا تُوصَل؟
قيل: إن قوله:"خلقه من تراب" غير صلة لآدم، (2) وإنما هو بيان عن أمره على وجه التفسير عن المثل الذي ضربه، وكيف كان. (3)
* * *
وأما قوله:"ثم قال له كن فيكون"، فإنما قال:"فيكون" وقد ابتدأ الخبر عن خلق آدم، وذلك خبر عن أمر قد تقضَّى، وقد أخرجَ الخبر عنه مُخرَج الخبر عما قد مضَى فقال جل ثناؤه:"خلقه من تراب ثم قال له كن"، لأنه بمعنى الإعلام من الله نبيَّه أن تكوينه الأشياء بقوله:"كن"، ثم قال:"فيكون"،
__________
(1) الأثر: 7165- سيرة ابن هشام 2: 231، 232، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7157، ولكن أبا جعفر اختصر كلام ابن إسحاق هنا، ولكنه سيسوقه وما حذف منه، برقم: 7169.
(2) يعني بقوله"صلة" التابع، وهو النعت بالجملة. فإن شرط النعت بالجملة أن يكون المنعوت نكرة لفظًا أو معنى، وأن يكون في الجملة ضمير ملفوظ أو مقدر يربطها بالموصوف، وأن تكون الجملة خبرية. فهذه ثلاثة شروط، أحدها في المنعوت، وشرطان في جملة النعت.
(3) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 219.(6/471)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60)
خبرًا مبتدأ، وقد تناهى الخبر عن أمر آدم عند قوله:"كنْ". (1)
فتأويل الكلام إذًا:"إن مثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن"، واعلم، يا محمد، أن ما قال له ربك"كن"، فهو كائن.
فلما كان في قوله:"كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن"، دلالةٌ على أن الكلام يرادُ به إعلام نبي الله صلى الله عليه وسلم وسائر خلقه أنه كائن ما كوّنه ابتداءً من غير أصل ولا أوّل ولا عُنصر، استغنى بدلالة الكلام على المعنى، وقيل:"فيكون"، فعطف بالمستقبل على الماضي على ذلك المعنى.
* * *
وقد قال بعض أهل العربية:"فيكون"، رفع على الابتداء، ومعناه: كن فكان، فكأنه قال: فإذا هو كائن.
* * *
القول في تأويل قوله: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذي أنبأتك به من خبر عيسى، وأنَّ مثله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له ربه"كن" = هو الحق من ربك، يقول: هو الخبر الذي هو من عند ربك ="فلا تكن من الممترين"، يعني: فلا تكن من الشاكين في أنّ ذلك كذلك، (2) كما:-
7167 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الحق من ربك فلا تكن من الممترين"، يعني: فلا تكن في شكّ من عيسى أنه كمثل آدم، عبدُ الله ورسوله، وكلمةُ الله ورُوحه.
__________
(1) انظر الفقرتين الآتيتين، ففيهما تفسير هذه الجملة السالفة. ولقد بين الطبري عنها بيانًا شافيًا قل أن تظفر بمثله في كتاب من كتب التفسير أو غيرها. والمذهب الذي ذهب إليه أبو جعفر في تفسيره، هو عندي أرجح من القول الآتي، وهو الذي اشتهر في كتب التفسير.
(2) انظر تفسير"الامتراء"، وتفسير نظيرة هذه الآية فيما سلف 3: 190، 191.(6/472)
فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61)
7168 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الحق من ربك فلا تكن من الممترين"، يقول: فلا تكن في شكّ مما قصصنا عليك أنّ عيسى عبدُ الله ورسوله، وكلمةٌ منه ورُوحٌ، وأنّ مثله عند الله كمثل آدم خلقه من تُراب ثم قال له كن فيكون.
7169 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"الحق من ربك"، ما جاءك من الخبر عن عيسى ="فلا تكن من الممترين"، أي: قد جاءك الحق من ربك فلا تمتَرِ فيه. (1)
7170 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلا تكن من الممترين"، قال: والممترون الشاكون.
* * *
"والمرية""والشك""والريب"، واحد سواءٌ، كهيئة ما تقول:"أعطني""وناولني""وهلم"، فهذا مختلف في الكلام وهو واحد.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فمن حاجك فيه"، فمن جادلك، يا محمد، في المسيح عيسى ابن مريم. (2)
* * *
والهاء في قوله:"فيه"، عائدة على ذكر عيسى. وجائز أن تكون عائدة
__________
(1) الأثر: 7169- سيرة ابن هشام 2: 231، 232، وهو تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7165، فانظر التعليق على هذا الأثر. وفي سيرة ابن هشام"فلا تمترين فيه"، وهي أجود.
(2) انظر تفسير"حاج" فيما سلف 3: 120، 121 / 5: 429 / 6: 280.(6/473)
على"الحق" الذي قال تعالى ذكره:"الحق من ربك".
* * *
ويعني بقوله:"من بعد ما جاءك من العلم"، من بعد ما جاءك من العلم الذي قد بيَّنته لك في عيسى أنه عبد الله ="فقل تعالوا"، هلموا فلندع = (1) "أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل"، يقول: ثم نلتعن.
* * *
يقال في الكلام:"ما لهُ؟ بَهَله الله" أي: لعنه الله ="وما له؟ عليه بُهْلةُ الله"، يريد اللعن، وقال لبيد، وذكر قومًا هلكوا فقال:
* نَظَرَ الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهِلْ * (2)
يعني: دعا عليهم بالهلاك.
* * *
="فنجعل لعنة الله على الكاذبين" منا ومنكم في أنه عيسى، (3) كما:-
__________
(1) انظر تفسير"تعالوا" فيما يلي ص: 483، 485.
(2) ديوانه قصيدة 39، البيت: 81 وأساس البلاغة (بهل) ، وأمالي الشريف المرتضي 1: 45، من قصيدة مضى بعض أبياتها، وهي من شعره الذي رثى فيه أربد: وَأَرَى أَرْبَدَ قَدْ فَارَقَنِي ... وَمِنَ الأَرْزَاءِ رُزْءٌ ذُو جَلَلْ
مُمْقِرٌ مُرٌّ عَلَى أَعْدَائِهِ، ... وَعَلَى الأَدْنَيْنَ حُلْوٌ كَالْعَسَلْ
فِي قُرُومٍ سَادَةٍ مِنْ قَوْمِهِ ... نَظَر الدَّهْرُ إِلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ
وهذا التفسير الذي ذكره الطبري لمعنى بيت لبيد، جيد. وجيد أيضًا تفسير الزمخشري في أساس البلاغة قال: "فاجتهد في إهلاكهم". وكأن أجود تفسير للابتهال أن يقال: هو الاسترسال في الأمر، والاجتهاد فيه، ومعنى البيت: فاسترسل في أمرهم، واجتهد في إهلاكهم فأفناهم. وأما قوله: "نظر الدهر إليهم"، فقد قال الجوهري وغيره: "نظر الدهر إلى بني فلان فأهلكهم"، فقال ابن سيده: "هو على المثل، وقال: ولست على ثقة منه". وقال الزمخشري: "ونظر الدهر إليهم: أهلكهم"، وهو تفسير سيئ، إذا لم يكن في نسخة الأساس تحريف. وصواب المعنى أن يقال: "نظر الدهر إليهم"، نظر إليهم مكبرًا أفعالهم، فحسدهم على مآثرهم وشرفهم. كما يقال: "هو سيد منظور"، أي: ترمقه الأبصار إجلالا. وإكبارًا. وإنما فسرته بالحسد، لأنهم سموا الحسد"العين"، فيقال: "عان الرجل يعينه عينًا، فهو معين ومعيون"، والنظر بالعين لا يزال مستعملا في الناس بمعنى الحسد، وإنما أغفل شارحو بيت لبيد هذا المعنى.
(3) في المطبوعة: "في آية عيسى"، وهذا لا معنى له هنا والصواب ما في المخطوطة، وإنما أراد: الكاذبين منا ومنكم في أنه عيسى عبد الله ورسوله، لا أنه"الله" تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا، وقد مضى في الأثر رقم 7164، قولهم: "ولكنه الله".(6/474)
7171 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، أي: في عيسى: أنه عبدُ الله ورسوله، من كلمة الله وروحه ="فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"، إلى قوله:"على الكاذبين".
7172 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"فمن حاجّك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، أي: من بعد ما قصصت عليك من خبره، وكيف كان أمره ="فقل تعالوا ندع أبناءَنا وأبناءكم"، الآية. (1)
7173 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، يقول: من حاجك في عيسى من بعد ما جاءك فيه من العلم.
7174 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين"، قال: منا ومنكم.
7175 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، وحدثني ابن لهيعة، عن سليمان بن زياد الحضرمي، عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:"ليتَ بيني وبيني أهل نجرانَ حجابًا فلا أراهم ولا يروني! من شْدّة ما كانوا يمارون النبي صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 7172- سيرة ابن هشام 2: 232، وهو من تتمة الآثار التي آخرها: 7169.
(2) الحديث: 7175- سليمان بن زياد الحضرمي المصري: تابعي ثقة، وثقه ابن معين وغيره. وقال أبو حاتم: "شيخ صحيح الحديث".
عبد الله بن الحارث بن جزء بن عبد الله الزبيدي: صحابي نزل مصر، وهو آخر من مات بها من الصحابة.
و"جزء": بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة. و"الزبيدي": بضم الزاي، نسبة إلى القبيلة.
ووقع هنا في الإسناد قول ابن وهب: "وحدثني ابن لهيعة" - ومثل هذا يكون كثيرًا في الأسانيد: يحدث الرجل عن شيوخه بالأحاديث، فيذكرها بحرف العطف، عطف حديث على حديث، وإسناد على إسناد، فإذا حدث السامع عن الشيخ، فقد يحذف حرف العطف وقد يذكره. والأمر قريب.
والحديث رواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر، ص: 301، بنحوه، عن عبد الملك بن مسلمة، وأبي الأسود النضر بن عبد الجبار - كلاهما عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي 2: 38، عن ابن جرير وحده.(6/475)
إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن هذا الذي أنبأتك به، يا محمد، من أمر عيسى فقصصته عليك من أنبائه، وأنه عبدي ورسولي وكلمتي ألقيتها إلى مريم وروح منّي، لهو القصَص والنبأ الحق، فاعلم ذلك. واعلم أنه ليس للخلق معبودٌ يستوجبُ عليهم العبادةَ بملكه إياهم إلا معبودك الذي تعبُدُه، وهو الله العزيز الحكيم.
* * *
ويعني بقوله:"العزيز"، العزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره، وادعى معه إلهًا غيرَه، أو عبد ربًّا سواه (1) ="الحكيم" في تدبيره، لا يدخل ما دبره وَهَنٌ، ولا يلحقه خللٌ. (2)
* * *
"فإن تولوا"، يعني: فإن أدبر هؤلاء الذين حاجُّوك في عيسى، عما جاءك من الحق من عند ربك في عيسى وغيره من سائر ما آتاك الله من الهدى والبيان،
__________
(1) انظر تفسير"العزيز" فيما سلف 3: 88 / 6: 165، 168، 271.
(2) انظر تفسير"الحكيم" فيما سلف قريبًا: 467، تعليق: 3، والمراجع هناك.(6/476)
فأعرضوا عنه ولم يقبلوه = (1)
"فإن الله عليم بالمفسدين"، يقول: فإن الله ذو علم بالذين يعصون ربهم، ويعملون في أرضه وبلاده بما نهاهم عنه، وذلك هو إفسادهم. (2) يقول تعالى ذكره: فهو عالم بهم وبأعمالهم، يحصيها عليهم ويحفظها، حتى يجازيهم عليها جزاءَهم.
* * *
وبنحو ما قلنا قي ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
7176 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ هذا لهو القصص الحق"، أي: إن هذا الذي جئتَ به من الخبر عن عيسى، ="لهو القصَص الحقّ"، من أمره. (3)
7177 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"إنّ هذا لهو القصص"، إن هذا الذي قُلنا في عيسى ="لهو القصَص الحق".
7178 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إنّ هذا لهو القصص الحق"، قال: إن هذا القصصَ الحقّ في عيسى، ما ينبغي لعيسى أن يتعدَّى هذا ولا يُجاوزُه: أنْ يتعدّى أن يكون كلمة الله ألقاها إلى مريم، (4) وروحًا منه، وعبدَ الله ورسوله.
7179 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إنّ هذا لهو القصص الحق"، إنّ هذا الذي قلنا في
__________
(1) انظر تفسير"تولى" فيما سلف 2: 162-164، 298 / 3: 131 / 4: 237 / 6: 283، 291.
(2) انظر معنى"الفساد" فيما سلف 1: 287، 416 / 4: 238، 243، 244 / 5: 372.
(3) الأثر: 7176- سيرة ابن هشام 2: 232، هو بقية الآثار التي آخرها رقم: 7172.
(4) في المطبوعة: "ولا يجاوز أي يتعدى ... "، والصواب ما في المخطوطة.(6/477)
عيسى، هو الحق ="وما من إله إلا الله"، الآية.
* * *
فلما فصل جل ثناؤه بين نبيه محمد صلى الله عليه وسلم وبين الوفد من نصارى نجران، بالقضاء الفاصل والحكم العادل، أمرَه (1) = إن هم تولوا عما دعاهم إليه من الإقرار بوحدانية الله، وأنه لا ولد له ولا صاحبة، وأنّ عيسى عبدُه ورسوله، وأبوا إلا الجدلَ والخصومة = (2) أن يدعوَهم إلى الملاعنة. ففعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، انخزلوا فامتنعوا من الملاعنة، ودعوا إلى المصالحة، كالذي:-
7180 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن عامر قال: فأمِر - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - بملاعنتهم - يعني: بملاعنة أهل نجران - بقوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، الآية. فتواعدوا أن يلاعنوه وواعدوه الغدَ. فانطلقوا إلى السيد والعاقب، وكانا أعقلهم، فتابعاهم. فانطلقوا إلى رجل منهم عاقل، فذكروا له ما فارقوا عليه رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما صنعتم!! ونَدَّمهم، (3) وقال لهم: إن كان نبيًّا ثم دعا عليكم لا يغضبُه الله فيكم أبدًا، ولئن كان ملِكًا فظهر عليكم لا يستبقيكم أبدًا. (4) قالوا: فكيف لنا وقد واعدنا! فقال لهم: إذا غدوتم إليه فعرض عليكم الذي فارقتموه عليه، فقولوا:"نعوذ بالله"! فإن دعاكم أيضًا فقولوا له:"نعوذ بالله"! ولعله أن يعفيَكم من ذلك. فلما غدَوْا غدَا النبّي صلى الله عليه وسلم محتضِنًا حسَنًا آخذًا بيد الحسين، وفاطمة تمشي خلفه. فدعاهم إلى الذي فارقوه عليه بالأمس،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وأمره ... " بالواو، وهي زائدة مفسدة، فأسقطتها.
(2) سياق الجملة: "أمره ... أن يدعوهم إلى الملاعنة"، وما بينهما فصل.
(3) قوله: "ندمهم" (مشدد الدال) لامهم حتى حملهم على الأسف والندم. وهذا لفظ عربي عريق قل أن تظفر به في كثير من كتب اللغة.
(4) في المطبوعة: "لا يستبقينكم"، بزيادة النون، والصواب من المخطوطة.(6/478)
فقالوا:"نعوذ الله"! ثم دعاهم فقالوا:"نعوذ بالله"! مرارًا قال: فَإن أبيتم فأسلموا ولكم ما للمسلمين وعليكم ما على المسلمين كما قال الله عز وجل، فإن أبيتم فأعطوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون كما قال الله عز وجل. قالوا: ما نملك إلا أنفسنا! قال: فإن أبيتم فإني أنبذ إليكم على سواء كما قال الله عز وجل. قالوا: ما لنا طاقة بحرب العرب، ولكن نؤدّي الجزية. قال: فجعل عليهم في كل سنة ألفي حلة، ألفًا في رجب، وألفًا في صفر. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد أتاني البشير بهلكه أهل نجران، (1) حتى الطير على الشجر = أو: العصافيرُ على الشجر = لو تمُّوا على الملاعنة. (2)
= حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال: فقلت للمغيرة: إن الناس يروُون في حديث أهل نجران أن عليًّا كان معهم! فقال: أما الشعبي فلم يذكره، فلا أدري لسوء رأي بني أمية في عليّ، أو لم يكن في الحديث! (3)
7181 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"إنّ هذا لهو القصص الحق" إلى قوله:"فقولوا اشهدُوا بأنا مسلمون"، فدعاهم إلى النَّصَف، (4) وقطع عنهم الحجة. فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبرُ من الله عنه، والفصلُ من القضاء بينه وبينهم، وأمره بما أمره به من ملاعنتهم، إنْ ردُّوا عليه = (5) دعاهم إلى ذلك، فقالوا: يا أبا القاسم، دعنا ننظر في أمرنا، ثم نأتيك بما نُريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه. فانصرفوا عنه، ثم خلوا بالعاقب، وكان ذا رَأيهم، (6) فقالوا: يا عبد المسيح، ما ترى؟ قال:
__________
(1) في المطبوعة: "قد أتاني"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) "تم على الشي" استمر عليه وأمضاه.
(3) هذه الفقرة من تتمة الأثر السالف، فلذلك لم أفردها بالترقيم.
(4) النصف والنصفة (كلاهما بفتحتين) : هو الإنصاف، وإعطاء الحق لصاحبك كالذي تستحق لنفسك.
(5) في المخطوطة: "أو ردوا عليه"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة مطابقًا لسيرة ابن هشام، وفيها: "إن ردوا ذلك عليه".
(6) "ذو رأيهم"، صاحب الرأي والتدبير، يستشار فيما يعرض لهم لعقله وحسن رأيه.(6/479)
والله يا معشر النصارى، لقد عرفتم أنّ محمدًا لنبيّ مرسل، (1) ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم، ولقد علمتم ما لاعن قَوْمٌ نبيًّا قط فبقي كبيرُهم ولا نبتَ صغيرهم، وإنه للاستئصال منكم إن فعلتم، فإن كنتم قد أبيتم إلا إلْفَ دينكم، والإقامةَ على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم، فوادِعوا الرجلَ، ثم انصرفوا إلى بلادكم حتى يريكم زمنٌ رَأيه. (2) فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نلاعنَك، وأن نتركك على دينك، ونرجع على ديننا، ولكن ابعث معنا رجلا من أصحابك ترضَاهُ لنا، يحكم بيننا في أشياء قد اختلفنا فيها من أموالنا، فإنكم عندنا رِضًى. (3)
7182 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عيسى بن فرقد، عن أبي الجارود، عن زيد بن علي في قوله:"تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم" الآية، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم وعليٌّ وفاطمة والحسن والحسين. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "أن محمد نبي مرسل"، وهو خطأ، وتحريف لما في المخطوطة كما أثبتها، وهو المطابق أيضًا لما في سيرة ابن هشام.
(2) قوله: "حتى يريكم زمن رأيه" ليست في سيرة ابن هشام. ويعني بذلك: حتى يمضي زمن، وتتقلب أحوال، فترون عاقبة أمره، صلى الله عليه وسلم، وقد قال شارح السيرة، السهيلي، في الروض الأنف 2: 50"وفي حديث أهل نجران، زيادة كثيرة عن ابن إسحاق، من غير رواية ابن هشام".
(3) الأثر: 7181- سيرة ابن هشام 2: 232، 233، وهو بقية الآثار التي آخرها رقم: 7176- يقال: "رجل رضى من قوم رضى"، أي مرضى، وصف بالمصدر مثل رجل عدل، كما قال زهير: مَتَى يَشْتَجِرْ قَوْمٌ يَقُلْ سَرَواتُهُمْ: ... هُمُ بَيْنَنَا، فَهُمُ رِضًى، وهُمُ عَدْلُ
(4) الأثر: 7182-"عيسى بن فرقد المروزي"، أبو مطهر. روى عنه عمرو بن رافع، وابن حميد، قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عنه فقال: مروزي. قلت: ما حاله؟ قال: شيخ". مترجم في ابن أبي حاتم 3 / 1 / 284. و"أبو الجارود" هو: زياد بن المنذر الهمداني. قال ابن معين: "كذاب، عدو الله، ليس يسوي فلسًا". وكان رافضيًا يضع الحديث في مثالب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويروى في فضائل أهل البيت رضي الله عنهم أشياء ما لها أصول. لا يحل كتب حديثه، وهو من غلاة الشيعة، وله فرقة تعرف بالجارودية.(6/480)
7183 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم"، الآية، فأخذ - يعني النبيّ صلى الله عليه وسلم - بيد الحسن والحسين وفاطمة، وقال لعلي: اتبعنا. فخرجَ معهم، فلم يخرج يومئذ النصارَى، وقالوا: إنا نخاف أن يكون هذا هو النبيّ صلى الله عليه وسلم، وليس دعوة النبيّ كغيرها! ! فتخلفوا عنه يومئذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو خرجوا لاحترقوا! فصالحوه على صلح: على أنّ له عليهم ثمانين ألفًا، فما عجزت الدراهم ففي العُرُوض: الحُلة بأربعين = وعلى أن له عليهم ثلاثًا وثلاثين درعًا، وثلاثًا وثلاثين بعيرًا، وأربعة وثلاثين فرسًا غازيةً كلّ سنة، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضَامنٌ لها حتى نُؤدّيها إليهم.
7184 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا وفدًا من وفد نجران من النصارى، وهم الذين حاجوه، في عيسى، فنكصُوا عن ذلك وخافوا = وذُكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: والذي نفس محمد بيده، إن كان العذاب لقد تَدَلَّى على أهل نجران، ولو فعلوا لاستُؤصلوا عن جديد الأرض. (1)
7185 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم"، قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم خرج ليُداعي أهل نجران، (2) فلما رأوه خرج، هابوا وفَرِقوا، فَرَجعوا = قال معمر، قال قتادة: لما أراد النبي صلى الله عليه وسلم أهل نَجران، أخذَ بيد حسن وحسين وقال لفاطمة: اتبعينا. فلما رأى ذلك أعداءُ الله، رجعوا.
__________
(1) جديد الأرض، وجدها (بفتح الجيم وكسرها) وجددها (بفتحات) : هو وجه الأرض.
(2) في المطبوعة: خرج ليلاعن أهل نجران"، قرأ"ليداعي""ليلاعن"، و"يداعي" من"الدعاء"، يعني هذه المباهلة والملاعنة.(6/481)
7186 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: لو خرج الذين يُباهلون النبّي صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلا ولا مالا.
7187 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زكريا، عن عدي قال، حدثنا عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثله.
7188 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: والذي نفسي بيده، لو لاعنوني ما حال الحول وبحضرتهم منهم أحدٌ إلا أهلك الله الكاذبين.
7189 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد قال: قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لو لاعنت القوم، بمن كنتَ تأتي حين قلت"أبناءَنا وأبناءَكم"؟ قال: حسن وحسين.
7190 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا المنذر بن ثعلبة قال، حدثنا علباء بن أحمر اليشكري قال: لما نزلت هذه الآية:"فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم"، الآية، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عليّ وفاطمةَ وابنيهما الحسن والحسين، ودعا اليهود ليُلاعنهم، فقال شاب من اليهود، ويحكم! أليس عهدُكم بالأمس إخوانُكم الذين مُسخوا قردةً وخنازير؟! لا تُلاعنوا! فانتهَوْا. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 7190-"المنذر بن ثعلبة بن حرب الطائي"، ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. و"علباء بن أحمر اليشكري" روى عن عكرمة مولى ابن عباس. قال أحمد: "لا بأس به، لا أعلم إلا خيرًا"، وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب.
هذا وأحاديث هذا الباب كلها مرسلة، كما رأيت، إلا خبر ابن عباس.(6/482)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
القول في تأويل قوله: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل"، يا محمد، لأهل الكتاب، وهم أهل التوراة والإنجيل ="تعالوا"، هلموا (1) ="إلى كلمة سواء"، يعني: إلى كلمة عدل بيننا وبينكم، (2) والكلمة العدل، هي أن نوحِّد الله فلا نعبد غيره، ونبرأ من كل معبود سواه، فلا نشرك به شيئًا.
= وقوله:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا"، يقول: ولا يدين بعضُنا لبعض بالطاعة فيما أمر به من معاصي الله، ويعظِّمه بالسجود له كما يسجدُ لربه ="فإن تولوا"، يقول: فإن أعرضوا عما دعوتَهم إليه من الكلمة السواء التي أمرُتك بدعائهم إليها، (3) فلم يجيبوك إليها ="فقولوا"، أيها المؤمنون، للمتولِّين عن ذلك ="اشهدوا بأنا مسلمون".
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في يهود بني إسرائيل الذين كانوا حَوالى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذكر من قال ذلك:
7191 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ أهل المدينة إلى الكلمة السواء، وهم الذين حاجوا في إبراهيم.
__________
(1) انظر تفسير"تعالوا" فيما سلف قريبًا: 474، وسيأتي ص: 485.
(2) انظر تفسير"سواء" فيما سلف 1: 256 / 2: 495-497.
(3) انظر معنى"تولى" فيما سلف قريبًا ص: 477، تعليق: 1، والمراجع هناك.(6/483)
7192 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أنّ نبي الله صلى الله عليه وسلم دَعا اليهود إلى كلمة السَّواء.
7193 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهودَ أهل المدينة إلى ذلك، فأبوا عليه، فجاهدهم = قال: دعاهم إلى قول الله عز وجل:"قل يا أهل الكتاب تَعالوْا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، الآية.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في الوفد من نصارى نجران.
ذكر من قال ذلك:
7194 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن جعفر بن الزبير:"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم" الآية، إلى قوله:"فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، قال: فدعاهم إلى النَّصَف، وقطع عنهم الحجةَ - يعني وفد نجران. (1)
7195 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: ثم دعاهم رسُول الله صلى الله عليه وسلم. - يعني الوفدَ من نصارى نجران - فقال:"يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، الآية.
7196 - حدثني يونس قال، أخبرني ابن وهب قال، حدثنا ابن زيد قال قال: يعني جل ثناؤه:"إنّ هذا لهو القصص الحقّ"، في عيسى = على ما قد بيناه فيما مضى = (2) قال: فأبوا - يعني الوفدَ من نجران - فقال: ادعهم إلى أيسر من هذا،"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"،
__________
(1) الأثر 7194- سيرة ابن هشام 2: 232، ومضى أيضًا برقم: 7181، وهو من بقية الآثار التي آخرها رقم: 7181.
(2) يعني الأثر السالف رقم: 7178.(6/484)
فقرأ حتى بلغ:"أربابًا من دون الله"، فأبوا أن يقبلوا هذا ولا الآخر.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا عنى بقوله:"يا أهل الكتاب"، أهلَ الكتابين، لأنهما جميعًا من أهل الكتاب، ولم يخصص جل ثناؤه بقوله:"يا أهل الكتاب" بعضًا دون بعض. فليس بأن يكون موجَّهًا ذلك إلى أنه مقصود به أهلُ التوراة، بأولى منه بأن يكون موجهًا إلى أنه مقصود به أهل الإنجيل، ولا أهل الإنجيل بأولى أن يكونوا مقصودين به دُون غيرهم من أهل التوراة. وإذ لم يكن أحدُ الفريقين بذلك بأولى من الآخر = لأنه لا دلالة على أنه المخصوص بذلك من الآخر، ولا أثر صحيح = فالواجب أن يكون كل كتابيّ معنيًّا به. لأن إفرادَ العبادة لله وحدَه، وإخلاصَ التوحيد له، واجبٌ على كل مأمور منهيٍّ من خلق الله. واسم"أهل الكتاب"، يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل، (1) فكان معلومًا بذلك أنه عني به الفريقان جميعًا.
* * *
وأما تأويل قوله:"تعالوا"، فإنه: أقبلوا وهلمُّوا. (2) وإنما"هو تفاعلوا" من"العلوّ" فكأن القائل لصاحبه:"تعالَ إليّ"، قائلٌ"تفاعل" من"العلوّ"، (3) كما يقال:"تَدَانَ مني" من"الدنوّ"، و"تقارَبْ مني"، من"القرب".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وأهل الكتاب يعم أهل التوراة وأهل الإنجيل"، غير ما في المخطوطة حين لم يحسن قراءة ما فيه من التصحيف، وكان في المخطوطة: "وأنتم أهل الكتاب يلزم أهل التوراة وأهل الإنجيل" صحف الكاتب فكتب مكان"واسم"، "وأنتم"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) قد فسر أبو جعفر"تعالوا" في موضعين سلفا ص: 474، ص: 483، ولكنه استوفى هنا الكلام في بيانها، ولا أدري لم يفعل مثل ذلك، وكان الأولى أن يفسرها أول مرة.
(3) في المطبوعة: "فكأن القائل تعالى إلى، فإنه تفاعل من العلو" لأنه لم يفهم ما كان في المخطوطة، فبدله، ووضع علامة (3) للدلالة على أنه خطأ لا معنى له، أو سقط في الكلام. والصواب ما أثبت.(6/485)
وقوله:"إلى كلمة سواء". فإنها الكلمة العدلُ،"والسَّواء" من نعتِ"الكلمة". (1)
* * *
وقد اختلف أهل العربية في وجه إتباع"سواء" في الإعراب"لكلمة"، وهو اسمٌ لا صفة.
فقال بعض نحويي البصرة: جر"سواء" لأنها من صفة"الكلمة" وهي العدل، وأراد مستوية. قال: ولو أراد"استواء"، كان النصب. وإن شاء أن يجعلها على"الاستواء" ويجرّ، جاز، ويجعله من صفة"الكلمة"، مثل"الخلق"، لأن"الخلق" هو"المخلوق"."والخلق" قد يكونُ صفةً واسمًا، ويجعل"الاستواء" مثل"المستوى"، قال عز وجل: (الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ) [سورة الحج: 25] ، لأن"السواء" للآخر، وهو اسمٌ ليس بصفة فيجرى على الأول، وذلك إذا أراد به"الاستواء". فإن أراد به"مستويًا" جاز أن يُجرَي على الأول. والرفع في ذا المعنى جيدٌ، لأنها لا تغيَّر عن حالها ولا تثنى ولا تجمع ولا تؤنث فأشبهت الأسماء التي هي مثل"عدل" و"رضًى" و"جُنُب"، وما أشبه ذلك. وقالوا: [في قوله] : (2) (أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ) [سورة الجاثية: 21] ، فـ"السواء" للمحيا والممات بهذا، المبتدأ.
وإن شئت أجريته على الأول، وجعلتَه صفة مقدمة، كأنها من سبب الأول
__________
(1) انظر تفسير"سواء" فيما سلف قريبًا ص: 483، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) الزيادة التي بين القوسين، زدتها ليستقيم الكلام ويستبين، وأخشى أن يكون في هذه الجملة سقط لم أستطع أن أتبينه، وراجع قول أبي جعفر في هذه الآية من تفسيره، 25، 89، 90 (بولاق) .(6/486)
فجرت عليه. وذلك إذا جعلته في معنى"مستوى". والرفع وجه الكلام كما فسَّرتُ لك.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة:"سواء" مصدرٌ وضع موضع الفعل، (1) يعني موضع"متساوية": و"متساو"، فمرة يأتي على الفعل، ومرّةً على المصدر. وقد يقال في"سواء"، بمعنى عدل:"سِوًى وسُوًى"، كما قال جل ثناؤه: (مَكَانًا سُوًى) و (سِوًى) [سورة طه: 58] ، يراد به: عدل ونصَفٌ بيننا وبينك. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان يقرأ ذلك (" إِلَى كَلَمَةٍ عَدْلٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُم ") . (2)
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل قوله:"إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، بأن"السواء" هو العدلٍ، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7197 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم"، عدل بيننا وبينكم ="ألا نعبد إلا الله"، الآية.
7198 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئًا"، بمثله. (3)
* * *
__________
(1) "الفعل" يعني به الصفة المشتقة مثل فاعل ومفعول، كما هو ظاهر هنا، وراجع فهرس المصطلحات.
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 220.
(3) الأثر: 7198- في المخطوطة: "و.. ولا نشرك به شيئًا" الآية، وليس فيها"بمثله"، زادها الناشر أو ناسخ قبله، لما رأى الأثر غير تام، وهو صنيع حسن، وإن كنت لا أرتضيه، وظني أنه قد سقط من الناسخ الأول بقية التفسير.(6/487)
وقال آخرون: هو قولُ"لا إله إلا الله".
ذكر من قال ذلك:
7199 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال، قال أبو العالية:"كلمة السواء"، لا إله إلا الله.
* * *
وأما قوله:"ألا نعبُدَ إلا الله"، فإنّ"أنْ" في موضع خفض على معنى: تعالوا إلى أنْ لا نعبد إلا الله. (1)
* * *
وقد بينا - معنى"العبادة" في كلام العرب فيما مضى، ودللنا على الصحيح من معانيه بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
وأما قوله:"ولا يتخذ بعضُنا بعضًا أربابًا"، فإنّ"اتخاذ بعضهم بعضًا"، ما كان بطاعة الأتباع الرؤساءَ فيما أمروهم به من معاصي الله، (3) وتركِهم ما نهوهم عنه من طاعة الله، كما قال جل ثناؤه: (اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا) [سورة التوبة: 31] ، كما:-
7200 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله"، يقول: لا يطع بعضُنا بعضًا في معصية الله. ويقال إنّ تلك الرُّبوبية: أن يطيعَ الناس سادَتهم وقادتهم في غير عبادة، وإن لم يصلُّوا لهم.
* * *
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 220، فانظر تمامها هناك.
(2) انظر ما سف 1: 160، 161، 362 / 3: 120، 317.
(3) في المطبوعة: "هو ما كان بطاعة الأتباع ... " بزيادة"هو"، وليست في المخطوطة.(6/488)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65)
وقال آخرون:"اتخاذ بعضهم بعضًا أربابًا"، سجودُ بعضهم لبعض.
ذكر من قال ذلك:
7201 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة في قوله:"ولا يتخذ بعضنا بعضًا أربابًا من دون الله"، قال: سجود بعضهم لبعض.
* * *
وأما قوله:"فإن تولَّوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون"، فإنه يعني: فإن تولَّى الذين تدعونهم إلى الكلمة السواء عنها وكفروا، فقولوا أنتم، أيها المؤمنون، لهم: اشهدوا علينا بأنا = بما تولَّيتم عنه، من توحيد الله، وإخلاص العبودية له، وأنه الإلهُ الذي لا شريك له ="مسلمون"، يعني: خاضعون لله به، متذلِّلون له بالإقرار بذلك بقلوبنا وألسنتنا.
* * *
وقد بينا معنى"الإسلام" فيما مضى، ودللنا عليه بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالإنْجِيلُ إِلا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أهل الكتاب"، يا أهل التوراة والإنجيل ="لم تحاجون"، لم تجادلون ="في إبراهيم" وتخاصمون فيه، يعني: في إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه.
وكان حجِاجهم فيه: ادّعاءُ كل فريق من أهل هذين الكتابين أنه كان
__________
(1) انظر ما سلف 2: 510، 511 / 3: 73، 74، 92، 110 / ثم 6: 275، 280.(6/489)
منهم، وأنه كان يدين دينَ أهل نِحْلته. فعابهم الله عز وجل بادِّعائهم ذلك، ودلّ على مُناقضتهم ودعواهم، فقال: وكيف تدَّعون أنه كان على ملتكم ودينكم، ودينُكم إما يهودية أو نصرانية، واليهودي منكم يزعُم أنّ دينه إقامةُ التوراة والعملُ بما فيها، والنصراني منكم يزعم أنّ دينه إقامةُ الإنجيل وما فيه، وهذان كتابان لم ينزلا إلا بعد حين من مَهلِك إبراهيم ووفاته؟ فكيف يكون منكم؟ فما وجه اختصامكم فيه، (1) وادعاؤكم أنه منكم، والأمر فيه على ما قد علمتم؟
* * *
وقيل: نزلت هذه الآية في اختصام اليهود والنصارى في إبراهيم، وادعاء كل فريق منهم أنه كان منهم.
ذكر من قال ذلك:
7202 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثني محمد بن إسحاق = وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق = قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: اجتمعت نصارى نجران وأحبارُ يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده، فقالت الأحبار: ما كان إبراهيمُ إلا يهوديًّا، وقالت النصارى: ما كان إبراهيم إلا نصرانيًّا! فأنزل الله عز وجل فيهم:"يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراةُ والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون"، قالت النصارى: كان نصرانيًّا! وقالت اليهود: كان يهوديًّا! فأخبرهم الله أنّ التوراة والإنجيل ما أنزلا إلا من بعده، وبعده كانت اليهودية والنصرانية. (2)
__________
(1) في المخطوطة: "فكيف يكون منهم، أما وجه اختصامكم فيه.."، وهو خطأ من عجلة الناسخ وصححه في المطبوعة، ولكنه كتب"فما وجه اختصامكم فيه"، وهو ليس بشيء، والصواب ما أثبت.
(2) الأثر: 7202- سيرة ابن هشام 2: 201: 202 مختصرًا، والأثر الذي قبله فيما روى الطبري من سيرة ابن إسحاق، هو ما سلف رقم: 6782.(6/490)
7203 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أهل الكتاب لم تحاجُّون في إبراهيم"، يقول:"لم تحاجون في إبراهيم" وتزعمون أنه كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، ="وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده"، فكانت اليهودية بعد التوراة، وكانت النصرانية بعد الإنجيل، ="أفلا تعقلون"؟
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في دعوى اليهود إبراهيم أنه منهم.
ذكر من قال ذلك:
7204 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا يهود أهل المدينة إلى كلمة السواء، وهم الذين حاجُّوا في إبراهيم، وزعموا أنه مات يهوديًّا. فأكذبهم الله عز وجل ونفاهم منه فقال:"يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده أفلا تعقلون".
7205 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7206 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم"، قال: اليهود والنصارى، برَّأه الله عز وجل منهم، حين ادعت كل أمة أنه منهم، (1) وألحق به المؤمنين، مَنْ كان من أهل الحنيفية.
7207 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "حين ادعى"، وهو سبق قلم من الناسخ.(6/491)
هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66)
وأما قوله:"أفلا تعقلون" فإنه يعني:"أفلا تعقلون"، تفقَهون خطأ قيلكم: إنّ إبراهيم كان يهوديًّا أو نصرانيًّا، وقد علمتم أنّ اليهودية والنصرانية حدَثَت من بعد مَهلكه بحين؟
* * *
القول في تأويل قوله: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ها أنتم"، القومَ الذين (1) [قالوا في إبراهيم ما قالوا ="حاججتم"] ، (2) خاصمتم وجادلتم (3) ="فيما لكم به علم"، من أمر دينكم الذي وجدتموه في كتبكم، وأتتكم به رسل الله من عنده، وفي غير ذلك مما أوتيتموه وثبتت عندكم صحته (4) ="فلم تحاجون"، يقول: فلم تجادلون وتخاصمون="فيما ليس لكم به علم"، يعني: في الذي لا علم لكم به من أمر إبراهيم ودينه، ولم تجدوه في كتب الله، ولا أتتكم به أنبياؤكم، ولا شاهدتموه فتعلموه؟ كما:-
7208 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم فلم تحاجُّون فيما
__________
(1) في المطبوعة: "يعني بذلك جل ثناؤه: ها أنتم هؤلاء، القوم ... "، ومثله في المخطوطة، وليس فيها"هؤلاء"، وصواب السياق يقتضي أن يكون كما أثبت. وقوله: "القوم" مفعول به لقوله: "يعني ... ".
(2) هذه الزيادة التي بين القوسين، أو ما يقوم مقامها، لا بد منها، ولا يستقيم الكلام إلا بها، وظاهر أن الناسخ قد تخطى عبارة أو سطرا من فرط عجلته أو تعبه. واستظهرتها من نهج أبي جعفر وسياق تفسيره.
(3) انظر تفسير"حاج" فيما سلف 3: 120، 121، 200 / 5: 429 / 6: 280، 473.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "ومن غير ذلك"، والصواب ما أثبت، تصحيف ناسخ.(6/492)
مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67)
ليس لكم به علم، أما"الذي لهم به علم"، فما حرّم عليهم وما أمروا به. وأما"الذي ليس لهم به علم"، فشأن إبراهيم.
7209 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم"، يقول: فيما شهدتم ورأيتم وعاينتم ="فلم تحاجُّون فيما ليس لكم به علم"، فيما لم تشاهدوا ولم تروا ولم تعاينوا ="والله يعلم وأنتم لا تعلمون".
7210 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
وقوله:"والله يعلم وأنتم لا تعلمون"، يقول: والله يعلم ما غَاب عنكم فلم تشاهدوه ولم تروه، ولم تأتكم به رسلُه من أمر إبراهيم وغيره من الأمور ومما تجادلون فيه، لأنه لا يغيب عنه شيء، ولا يعزُبُ عنه علم شيء في السموات ولا في الأرض ="وأنتم لا تعلمون"، من ذلك إلا ما عاينتم فشاهدتم، أو أدركتم علمه بالإخبار والسَّماع.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) }
قال أبو جعفر: وهذا تكذيبٌ من الله عز وجل دعوَى الذين جادلوا في إبراهيم وملته من اليهود والنصارى، وادَّعوا أنه كان على ملتهم = وتبرئة لهم منه، وأنهم لدينه مخالفون = وقضاءٌ منه عز وجل لأهل الإسلام ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم أنهم هم أهل دينه، وعلى منهاجه وشرائعه، دون سائر أهل الملل والأديان غيرهم.(6/493)
يقول الله عز وجل: = ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا ولا كان من المشركين، (1) الذين يعبدون الأصنامَ والأوثانَ أو مخلوقًا دون خالقه الذي هو إله الخلق وبارئهم ="ولكن كان حنيفًا"، يعني: متبعًا أمرَ الله وطاعته، مستقيمًا على محجَّة الهدى التي أمر بلزومها ="مسلمًا"، يعني: خاشعًا لله بقلبه، متذللا له بجوارحه، مذعنًا لما فَرَض عليه وألزمه من أحكامه. (2)
* * *
وقد بينا اختلاف أهل التأويل في معنى"الحنيف" فيما مضى، ودللنا على القول الذي هو أولى بالصحة من أقوالهم، بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7211 - حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي قال، حدثنا خالد بن عبد الله، عن داود، عن عامر، قال: قالت اليهود: إبراهيم على ديننا. وقالت النصارى: هو على ديننا. فأنزل الله عز وجل:"ما كان إبراهيم يهوديًّا ولا نصرانيًّا" الآية، فأكذبهم الله، وأدحض حجتهم - يعني: اليهودَ الذين ادّعوا أن إبراهيم ماتَ يهوديًّا. (4)
7212 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
__________
(1) في المطبوعة: "ما كان إبراهيم يهوديًا ولا نصرانيًا ولكن كان حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين"، ساق الآية كقراءتها، وذلك لأن ناسخ المخطوطة كان كتب"وكان من المشركين" ثم كتب بين الواو و"كان"، "لا" ضعيفة غير بينة، فلم يحسن الناشر قراءتها، فساق الآية، ولم يصب فيما فعل ورددت عبارة الطبري إلى صوابها.
(2) انظر تفسير"الإسلام" فيما سلف قريبًا: 489 تعليق: 1، والمراجع هناك.
(3) انظر ما سلف 3: 104 - 108.
(4) الأثر: 7211-"إسحاق بن شاهين الواسطي"، روى عنه أبو جعفر في مواضع من تاريخه، ولم أجد له ترجمة. و"خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن" أبو الهيثم المزني الواسطي. ثقة حافظ صحيح الحديث، مترجم في التهذيب، و"داود" هو: "ابن أبي هند" و"عامر" هو الشعبي.(6/494)
7213 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن موسى بن عقبة، عن سالم بن عبد الله - لا أراه إلا يحدثه عن أبيه -: أنّ زيد بن عمرو بن نفيل خرَج إلى الشام يسأل عن الدِّين، ويتبعه، فلقي عالمًا من اليهود، فسأله عن دينه، وقال: إني لعلِّي أنْ أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. فقال له اليهودي: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من غضب الله. قال زيد: ما أفرّ إلا من غضب الله، ولا أحمل من غَضب الله شيئًا أبدًا وأنا أستطيع. فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ (1) قال: ما أعلمه إلا أن يكون حنيفًا! (2) قال: وما الحنيف؟ قال: دين إبراهيم، لم يك يهوديًّا ولا نصرانيًّا، وكان لا يعبد إلا الله. فخرج من عنده فلقي عالمًا من النصارى، فسأله عن دينه فقال: إني لعلِّي أن أدين دينكم، فأخبرني عن دينكم. قال: إنك لن تكون على ديننا حتى تأخذ بنصيبك من لعنة الله. قال: لا أحتمل من لعنة الله شيئًا، ولا من غضب الله شيئًا أبدًا، وأنا أستطيع، (3) فهل تدلني على دين ليس فيه هذا؟ فقال له نحوًا مما قاله اليهودي: لا أعلمه إلا أن يكون حنيفًا. (4) فخرج من عنده، وقد رَضِي الذي أخبراه والذي اتفقا عليه من شأن إبراهيم، فلم يزل رافعًا يديه إلى الله وقال: (5) اللهم إني أشهِدك أني على دين إبراهيم. (6)
__________
(1) في المطبوعة: "وأنا لا أستطيع"، زاد"لا"، وليست في المخطوطة، وهي خطأ فاحش، ومخالف لرواية الحديث في البخاري كما سيأتي في تخريجه. وفي رواية البخاري: "وأنا أستطيعه، فهل تدلني على غيره؟ "
(2) في المطبوعة: "إلا أن تكون"، بالتاء في الموضعين والصواب بالياء كرواية البخاري.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا: "وأنا لا أستطيع" بزيادة"لا"، وليست في المخطوطة، وانظر التعليق: 1.
(4) في المطبوعة: "إلا أن تكون"، بالتاء في الموضعين والصواب بالياء كرواية البخاري.
(5) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "فلم يزل رافعًا يديه إلى الله"، وأنا في شك من لفظ هذا الكلام، وأكبر ظني أنه تصحيف من كاتب قديم، ونص رواية البخاري"فلما برز رفع يديه فقال" فجعل"فلما"، وجعل"برز""يزل"، وجعل"رفع""رافعًا"، والسياق يقتضي مثل رواية البخاري.
(6) الأثر: 7213-"يعقوب بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله الزهري"، سكن الإسكندرية. ثقة، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي، مترجم في التهذيب.
وهذا الخبر، رواه البخاري (الفتح 7: 109، 110) من طريق فضيل بن سليمان، عن موسى ابن عقبة، بمثل لفظ الطبري مع بعض الاختلاف.
وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي المخطوطة ما نصه:
"يتلوه القول في تأويل قوله عز وجل " ":
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِبنَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ"
والحمد لله على (..!!) وصلى الله على محمد وآله وسلم"
ثم يتلوه ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يَسِّرْ
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال، حدثنا محمد بن جرير الطبري".
وهذا شيء جديد قد ظهر في هذه النسخة، فإن ما مضى جميعه، كان ختام التقسيم القديم، رواية أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر محمد بن جرير الطبري، ثم بدأت رواية التفسير بإسناد آخر لم نكن نعرفه عن رجل آخر غير أبي محمد الفرغاني، وهو المشهور برواية التفسير، فأثبت الإسناد في صلب التفسير لذلك: فلا بد من التعريف هنا بأبي بكر البغدادي. حتى نرى بعد كيف تمضي رواية التفسير، أهي رواية أبي محمد الفرغاني إلى آخر الكتاب، غير قسم منه رواه أبو بكر، أم انقضت رواية أبي محمد الفرغاني، ثم ابتدأت رواية أبي بكر من عند هذا الموضع؟
وراوي هذا التفسير، من أول هذا الموضع هو: "محمد بن داود بن سليمان سيار بن بيان، البغدادي، الفقيه، أبو بكر"، نزل مصر، وحدث بها عن أبي جعفر الطبري، وعثمان بن نصر الطائي. روى عنه أبو الفتح عبد الواحد بن محمد بن مسرور البلخي، كان ثقة. قال الخطيب البغدادي في تاريخه 5: 265 بإسناده إلى أبي سعيد بن يونس: "محمد بن داود بن سليمان، يكنى أبا بكر، بغدادي، قدم مصر، وكان يتولى القضاء بتنيس، وكان يروي كتب محمد بن جرير الطبري عنه. حدث عنه جماعة من البغداديين. وكان نظيفًا عاقلا. وولي ديوان الأحباس بمصر. توفي يوم الخميس لثلاث بقين من جمادى الآخرة سنة ست وثلاثين وثلاثمائة".
ولم أجد له غير هذه الترجمة في تاريخ بغداد، لا في قضاة مصر للكندي، ولا في غيره من الكتب التي تحت يدي الآن، ولعلي أجد في موضع آخر من التفسير، شيئًا يكشف عن روايته التفسير، غير هذا القدر الذي وصلت إليه، والله الموفق.(6/495)
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان قال، حدثنا محمد بن جرير الطبري:
* * *(6/496)
إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"إنّ أولى الناس بإبراهيم"، إنّ أحقّ الناس بإبراهيم ونصرته وولايته ="للذين اتبعوه"، يعني: الذين سلكوا طريقَه ومنهاجه، فوحَّدوا الله مخلصين له الدين، وسنُّوا سُنته، وشرَعوا شرائعه، وكانوا لله حنفاء مسلمين غير مشركين به ="وهذا النبي"، يعني: محمدًا صلى الله عليه وسلم ="والذين آمنوا"، يعني: والذين صدّقوا محمدًا، وبما جاءهم به من عند الله ="والله ولي المؤمنين"، يقول: والله ناصرُ المؤمنين بمحمد، (1) المصدِّقين له في نبوّته وفيما جاءهم به من عنده، على من خالفهم من أهل الملل والأديان.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7214 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه"، يقول: الذين اتبعوه على ملّته وسنَّته ومنهاجه وفطرته ="وهذا النبي"، وهو نبي الله محمد ="والذين آمنوا" معه، وهم المؤمنون الذين صدّقوا نبيّ الله واتبعوه. كان محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم والذين معه من المؤمنين، أولى الناس بإبراهيم.
__________
(1) انظر تفسير"الولي" فيما سلف 1: 489، 564 / 5: 424 / 6: 142، 313.(6/497)
7215 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7216 - حدثنا محمد بن المثنى، وجابر بن الكردي، والحسن بن أبي يحيى المقدسي، قالوا: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لكل نبيّ ولاةً من النبيين، وإن وليِّي منهم أبِي وخليل رَبّي، ثم قرأ:"إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين". (1)
__________
(1) الحديث: 7216- جابر بن الكردي بن جابر الواسطي البزار: ثقة من شيوخ النسائي، مترجم في التهذيب.
الحسن بن أبي يحيى المقدسي: لم أصل إلى معرفة من هو؟
أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي.
سفيان: هو الثوري.
وأبوه: سعيد بن مسروق الثوري الكوفي، وهو ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح - بالتصغير. مضت ترجمته في: 5424.
مسروق: هو ابن الأجدع بن مالك الهمداني. مضت ترجمته في: 4242.
وهذا إسناد صحيح متصل.
وسيأتي - عقبه - بإسناد منقطع: من طريق أبي نعيم، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله -وهو ابن مسعود- منقطعًا، بإسقاط"مسروق" بين أبي الضحى وابن مسعود.
وأبو الضحى لم يدرك ابن مسعود. مات ابن مسعود سنة 33. ومات أبو الضحى سنة 100. وهكذا روى هذا الحديث في الدواوين بالوجهين: متصلا ومنقطعًا. والوصل زيادة ثقة، فهي مقبولة.
فرواه الترمذي 4: 80-81، عن محمود بن غيلان، عن أبي أحمد الزبيري، بهذا الإسناد، متصلا. كمثل رواية الطبري هذه من طريق أبي أحمد.
وكذلك رواه البزار، من طريق أبي أحمد الزبيري، فيما نقل عنه ابن كثير 2: 163.
ولم ينفرد أبو أحمد الزبيري بوصله بذكر"مسروق" في إسناده. تابعه على ذلك راويان ثقتان.
فرواه الحاكم في المستدرك 2: 292، من طريق محمد بن عبيد الطنافسي، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عبد الله - مرفوعًا موصولا. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ونقل ابن كثير 2: 161-162 أنه رواه سعيد بن منصور: "حدثنا أبو الأحوص، عن سعيد بن مسروق [هو والد سفيان] عن أبي الضحى، عن مسروق، عن ابن مسعود ... " - فذكره.
وأبو الأحوص سلام بن سليم: ثقة متقن حافظ، مضى في: 2058. فقد رواه مرفوعًا متصلا، عن سعيد الثوري - والد سفيان - كما رواه سفيان عن أبيه.
فهذا يرجح رواية من رواه عن سفيان موصولا، على رواية من رواه عنه منقطعًا. فإذا اختلفت الرواية على سفيان بين الوصل والانقطاع، فلم تختلف على أبي الأحوص.
بل الظاهر عندي أن هذا ليس اختلافًا على سفيان. وأن سفيان هذا هو الذي كان يصله مرة، ويقطعه مرة. ومثل هذا في الأسانيد كثير.(6/498)
7217 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو نعيم الفضل بن دكين قال، حدثنا سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، أراه قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه. (1)
7218 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس: يقول الله سبحانه:"إنّ أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه"، وهم المؤمنون.
* * *
__________
(1) الحديث: 7217- هذه هي الرواية المنقطعة لهذا الحديث. رواه الطبري من طريق أبي نعيم عن سفيان، منقطعًا.
وكذلك رواه الترمذي 4: 81، عن محمود، وهو ابن غيلان، عن أبي نعيم، بهذا الإسناد.
وتابع أبا نعيم على روايته هكذا منقطعًا رواة آخرون ثقات:
فرواه أحمد في المسند: 3800، عن وكيع، عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله - هو ابن مسعود- مرفوعًا.
وكذلك رواه الترمذي 4: 81، عن أبي كريب، عن وكيع.
ولكن نقله ابن كثير 2: 163-164 عن تفسير وكيع، بهذا الإسناد، وفيه"عن أبي إسحاق" بدل"عن أبي الضحى". وأنا أرجح أن هذا خطأ من بعض ناسخي تفسير وكيع، ترجيحًا لرواية أحمد عن وكيع، والترمذي من طريق وكيع - وفيهما: "عن أبي الضحى".
ورواه أحمد أيضًا: 4088، عن يحيى، وهو القطان، وعن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي - كلاهما عن سفيان، عن أبيه، عن أبي الضحى، عن عبد الله، مرفوعًا.
وقد رجح الترمذي الرواية المنقطعة، وهو ترجيح بغير مرجح. والوصل زيادة تقبل من الثقة دون شك.
وفي رواية الطبري هذه قوله: "أراه عن النبي صلى الله عليه وسلم"، مما يفهم منه الشك في رفعه أيضًا. وهذا الشك لعله من ابن المثنى شيخ الطبري، أو من الطبري نفسه، لأن رواية الترمذي من طريق أبي نعيم ليس فيها الشك في رفعه.
والحديث ذكره السيوطي 2: 42، دون بيان الروايات المتصلة من المنقطعة - وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، ولم يذكر نسبته لمسند أحمد ولا للبزار.(6/499)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69)
القول في تأويل قوله: {وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ودّت"، تمنت = (1) "طائفة"، يعني جماعة ="من أهل الكتاب"، وهم أهل التوراة من اليهود، وأهل الإنجيل من النصارى ="لو يضلُّونكم"، يقولون: لو يصدّونكم أيها المؤمنون، عن الإسلام، ويردُّونكم عنه إلى ما هم عليه من الكفر، فيهلكونكم بذلك.
* * *
و"الإضلال" في هذا الموضع، الإهلاكُ، (2) من قول الله عز وجل: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) [سورة السجدة: 10] ، يعني: إذا هلكنا، ومنه قول الأخطل في هجاء جرير:
كُنْتَ القَذَى فِي مَوْجِ أَكْدَرَ مُزْبِدٍ ... قَذَفَ الأتِيُّ بِهِ فَضَلّ ضلالا (3)
يعنى: هلك هلاكًا، وقول نابغة بني ذبيان:
فَآبَ مُضِلُّوهُ بِعَيْنٍ جَلِيَّةٍ ... وَغُودِرَ بِالجَوْلانِ حَزْمٌ ونَائِلُ (4)
يعني مهلكوه.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470 / 5: 542.
(2) انظر تفسير"ضل" فيما سلف 1: 195 / 2: 495، 496.
(3) مضى تخريجه وشرحه في 2: 496.
(4) ديوانه: 83، واللسان (ضلل) (جلا) ، من قصيدته الغالية في رثاء أبي حجر النعمان بن الحارث بن أبي شمر الغساني، وقبل البيت: فَإِنْ تَكُ قَدْ وَدَّعْتَ غَيْرَ مُذَمَّمٍ ... أَوَاسِيَ مُلْكٍ ثبَّتَتْهُ الأَوَائِلُ
فَلاَ تَبْعَدَنْ، إِنْ المَنَّيَة مَوْعِدٌ، ... وَكُلُّ امْرِئ يَوْمًا به الحَالُ زَائِلُ
فمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْر، لَوْ جَاءَ سَالِمًا ... أَبُو حُجُرٍ، إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ
فَإِنْ تَحْيَ لا أَمْلَلْ حَيَاتِي، وَإنْ تَمُتْ ... فَمَا فِي حَيَاةٍ بَعْدَ مَوْتِكَ طائِل
فَآبَ مُضِلُّوهُ. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ورواية الأصمعي وأبي عبيدة: "فآب مصلوه" بالصاد المهملة. وفسرها الأصمعي فقال: "أراد: قدم أول قادم بخبر موته، ولم يتبينوه ولم يحققوه ولم يصدقوه، ثم جاء المصلون، وهم الذين جاءوا بعد الخبر الأول، وقد جاءوا على أثره، وأخبروا بما أخبر به، بعين جلية: أي بخبر متواتر صادق يؤكد موته، ويصدق الخبر الأول. وإنما أخذه من السابق والمصلي (من الخيل) " وقال أبو عبيدة: "مصلوه: يعني أصحاب الصلاة، وهم الرهبان وأهل الدين منهم".
والذي قاله الأصمعي غريب جدًا، وأنا أرفضه لبعده وشدة غرابته، واحتياله الذي لا يغني، ولو قال: "مصلوه"، هم مشيعوه الذين سوف يتبعون آثاره عما قليل إلى الغاية التي انتهى إليها، وهي اللحد - لكان أجود وأعرق في العربية!! ولكن هكذا تذهب المذاهب أحيانًا بأئمة العلم. والذي قال أبو عبيدة، على ضعفه، أجود مما قاله الأصمعي، وأنا أختار الرواية التي رواها الطبري، ولها تفسيران: أحدهما الذي قاله الطبري، وهو يقتضي أن يكون النعمان مات مقتولا، ولم أجد خبرًا يؤيد ذلك، فإنه غير ممكن أن يكون تفسيره"مهلكوه"، إلا على هذا المعنى، والآخر: "مضلوه" أي: دافنوه الذي أضلوه في الأرض: أي دفنوه وغيبوه، وهو المشهور في كلامهم، كقول المخبل: أَضَلَّتْ بَنْو قيْسِ بن سَعْدٍ عَمِيدَهَا ... وفَارِسَها في الدَّهْرِ قَيْسَ بنَ عاصِمِ
فمعنى قول النابغة: كذب الناس خبر موت النعمان أول ما جاء، فلما جاء دافنوه بخبر ما عاينوه، صدقوا الخبر الأول. هذا أجود ما يقال في معنى البيت. و"الجولان" جبل في نواحي دمشق، من عمل حوران. وتبين من شعر النابغة أنه كانت به منازل النعمان وقصوره ودوره.(6/500)
="وما يضلون إلا أنفسهم"، وما يهلكون - بما يفعلون من محاولتهم صدّكم عن دينكم - أحدًا غير أنفسهم، يعني بـ"أنفسهم": أتباعهم وأشياعَهم على ملَّتِهم وأديانهم، وإنما أهلكوا أنفسَهم وأتباعهم بما حاولوا من ذلك لاستيجابهم من الله بفعلهم ذلك سخَطه، واستحقاقهم به غَضَبه ولعنته، لكفرهم بالله، ونقضِهم الميثاقَ الذي أخذ الله عليهم في كتابهم، في اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وتصديقه، والإقرار بنبوّته.
ثم أخبر جلّ ثناءه عنهم أنهم يفعلون ما يفعلون، من محاولة صدّ المؤمنين عن الهدى إلى الضلالة والردى، على جهل منهم بما اللهُ بهمُ محلٌّ من عقوبته،(6/501)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)
ومدَّخِر لهم من أليم عذابه، فقال تعالى ذكره:"وما يشعرون" أنهم لا يضلون إلا أنفسهم، بمحاولتهم إضلالكم أيها المؤمنون.
* * *
ومعنى قوله:"وما يشعرون"، وما يدرون ولا يعلمون.
* * *
وقد بينا تأويل ذلك بشواهده في غير هذا الموضع، فأغنى ذلك عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"يا أهل الكتاب"، من اليهود والنصارى ="لم تكفرون"، يقول: لم تجحدون ="بآيات الله"، يعني: بما في كتاب الله الذي أنزله إليكم على ألسن أنبيائكم، من آيه وأدلته="وأنتم تشهدون" أنه حق من عند ربكم.
* * *
وإنما هذا من الله عز وجل، توبيخٌ لأهل الكتابين على كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحودهم نبوّته، وهم يجدونه في كتبهم، مع شَهادتهم أن ما في كتبهم حقٌّ، وأنه من عند الله، كما:-
7219 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون"، يقول: تشهدون
__________
(1) انظر تفسير"شعر" فيما سلف 1: 277، 278.(6/502)
أن نَعتَ محمد نبيّ الله صلى الله عليه وسلم في كتابكم، ثم تكفرون به وتنكرونه ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل:"النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته".
7220 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون"، يقول: تشهدون أن نعتَ محمد في كتابكم، ثم تكفرون به ولا تؤمنون به، وأنتم تجدونه عندكم في التوراة والإنجيل:"النبيّ الأميّ".
7221 - حدثني محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون"،"آيات الله" محمد، وأما"تشهدون"، فيشهدون أنه الحق، يجدونه مكتوبًا عندهم.
7222 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون" أنّ الدين عند الله الإسلام، ليس لله دين غيره. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 7222- أسقطت المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا القاسم قال"، فأثبتها، وهو إسناد دائر في التفسير من أوله، أقربه رقم: 7200، وسيأتي بعد قليل على الصواب، رقم: 7226.(6/503)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)
القول في تأويل قوله: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أهل التوراة والإنجيل ="لم تلبسون"، يقول: لم تخلطون ="الحق بالباطل".
* * *(6/503)
وكان خلطهم الحقّ بالباطل، إظهارهم بألسنتهم من التصديق بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، غيرَ الذي في قلوبهم من اليهودية والنصرانية.
كما:-
7223 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن الصيِّف، وعدي بن زيد، والحارث بن عوف، بعضهم لبعض: تعالوا نؤمن بما أنزل على محمد وأصحابه غُدْوةً ونكفُر به عشيةً، حتى نلبس عليهم دينهم، لعلهم يصنعون كما نصنعُ، فيرجعوا عن دينهم! فأنزل الله عز وجل فيهم:"يا أهل الكتاب لم تلبسون الحقّ بالباطل" إلى قوله:"والله واسع عليم". (1)
7224 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل"، يقول: لم تلبسون اليهودية والنصرانية بالإسلام، وقد علمتم أنّ دين الله الذي لا يقبل غيرَه، الإسلام، ولا يجزي إلا به؟
7225 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = إلا أنه قال: الذي لا يقبل من أحد غيرَه، الإسلامُ = ولم يقل:"ولا يجزي إلا به". (2)
7226 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق بالباطل"، الإسلامَ باليهودية والنصرانية.
* * *
وقال آخرون: في ذلك بما:-
__________
(1) الأثر: 7223- سيرة ابن هشام 2: 202، وهو تابع الأثر السالف رقم: 7202.
(2) في المطبوعة: "ولم يقبل ولا يجازى إلا به"، قرأها الناشر كذلك لفساد خط الناسخ في كتابته، وصواب قراءتها ما أثبت، وفي المخطوطة"لا يجزى الآية"، وهو تصحيف قبيح.(6/504)
7227 - حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل:"لم تلبسون الحق بالباطل"، قال:"الحقّ" التوراة التي أنزل الله على موسى، و"الباطل"، الذي كتبوه بأيديهم.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"اللبس" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولم تكتمون، يا أهل الكتاب، الحقّ؟ (2)
* * *
و"الحق" الذي كتموه: ما في كتُبهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه ونبوّته، كما:-
7227 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وتكتمون الحق وأنتم تعلمون"، كتموا شأنَ محمد، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل، يأمرهم بالمعروف وَينهاهم عن المنكر.
7229 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وتكتمون الحق وأنتم تعلمون"، يقول: يكتمون شأن محمد صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر.
7230 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) انظر ما سلف 1: 567، 568.
(2) انظر تفسير نظيرة هذه الآية والتي قبلها فيما سلف 1: 566-572، والآثار التي رواها هنا قد رويت هناك في مواضعها.(6/505)
وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72)
ابن جريج:"تكتمون الحق"، الإسلام، وأمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ="وأنتم تعلمون" أنّ محمدًا رسولُ الله، وأنّ الدين الإسلامُ.
* * *
وأما قوله:"وأنتم تعلمون"، فإنه يعني به: وأنتم تعلمون أنّ الذي تكتمونه من الحق حقّ، وأنه من عند الله. وهذا القول من الله عز وجل، خبرٌ عن تعمُّد أهل الكتاب الكفرَ به، وكتمانِهم ما قد علموا من نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وَوَجدوه في كتبهم، وجاءَتهم به أنبياؤهم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة المعنى الذي أمرت به هذه الطائفة مَنْ أمرَت به: من الإيمان وجهَ النهار، وكفرٍ آخره. (1)
فقال بعضهم: كان ذلك أمرًا منهم إياهم بتصديق النبي صلى الله عليه وسلم في نبوّته وما جاء به من عند الله، وأنه حق، في الظاهر = (2) من غير تصديقه في ذلك بالعزم واعتقاد القلوب على ذلك = وبالكفر به وجحود ذلك كله في آخره.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "والكفر آخره" غير ما في المخطوطة، وهو صواب متمكن.
(2) سياق قوله: "بتصديق النبي ... في الظاهر".(6/506)
7231 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره"، فقال بعضهم لبعض: أعطوهم الرضى بدينهم أوّل النهار، واكفروا آخره، فإنه أجدر أن يصدّقوكم، ويعلموا أنكم قد رأيتم فيهم ما تكرهون، وهو أجدَرُ أن يرجعوا عن دينهم.
7232 - حدثني المثنى قال، حدثنا معلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن حصين، عن أبي مالك في قوله:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره"، قال: قالت اليهود: آمنوا معهم أوّل النهار، واكفروا آخره، لعلهم يرجعون معكم.
7233 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون"، كان أحبارُ قُرَى عربيةَ اثني عشر حبرًا، (1) فقالوا لبعضهم: ادخلوا في دين محمد أول النهار، وقولوا:"نشهد أن محمدًا حقّ صادقٌ"، فإذا كان آخر النهار فاكفروا وقولوا:"إنا رجعنا إلى علمائنا وأحبارنا فسألناهم، فحدَّثونا أن محمدًا كاذب، وأنكم لستم على شيء، وقد رجعنا إلى ديننا فهو أعجب إلينا من دينكم"، لعلهم يشكّون، يقولون: هؤلاء كانوا معنا أوّل النهار، فما بالهم؟ فأخبر الله عز وجل رسوله صلى الله عليه وسلم بذلك.
7234 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: قالت اليهود بعضهم لبعض: أسلِموا أول النهار، وارتدُّوا آخره لعلهم يرجعون. فأطلع الله على سرّهم، فأنزل الله عز وجل:
__________
(1) في المطبوعة: "قرى عرينة" وهي قراءة فاسدة للمخطوطة، إذ كانت غير منقوطة وجاءت على الصواب في الدر المنثور 2: 42. وانظر معجم ما استعجم: 929، فهو اسم مكان.(6/507)
"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون".
* * *
وقال آخرون: بل الذي أمرَت به من الإيمان: الصلاةُ، وحضورها معهم أول النهار، وتركُ ذلك آخرَه.
ذكر من قال ذلك:
7235 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار"، يهودُ تقوله. صلَّت مع محمد صلاةَ الصبح، وكفروا آخرَ النهار، مكرًا منهم، ليُرُوا الناس أن قد بدت لهم منه الضلالةُ، بعد أن كانوا اتَّبعوه.
7236 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله.
7237 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار"، الآية، وذلك أنّ طائفة من اليهود قالوا: إذا لقيتم أصحابَ محمد صلى الله عليه وسلم أوّل النهار فآمنوا، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم، لعلهم يقولون: هؤلاء أهلُ الكتاب، وهم أعلم منا! لعلهم ينقلبون عن دينهم، ولا تُؤمنوا إلا لمن تَبع دينكم.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا:"وقالت طائفة من أهل الكتاب"، يعني: من اليهود الذين يقرأون التوراة ="آمنوا" صدّقوا ="بالذي أنزل على الذين آمنوا"، وذلك ما جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم من الدين الحقّ وشرائعه وسننه ="وجه النهار"، يعني: أوّل النهار.
* * *(6/508)
وسمَّى أوّله"وجهًا" له، لأنه أحسنه، وأوّلُ ما يواجه الناظرَ فيراه منه، كما يقال لأول الثوب:"وجهه"، وكما قال ربيع بن زياد:
مَنْ كَانَ مَسْرُورًا بمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأْتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7238 - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وجه النهار"، أوّلَ النهار.
7239 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وجه النهار"، أول النهار ="واكفروا آخره"، يقول: آخر النهار.
7240 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد: (آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا
__________
(1) مجاز القرآن 1: 97، حماسة أبي تمام 3: 26، والأغاني 16: 27، والخزانة 3: 538، واللسان (وجه) وغيرها، من أبياته التي قالها حين قتل حميمه مالك بن زهير، وحمى لقتله، واستعد لطلب ثأره، وبعد البيت، وهو من تمامه. يَجِدِ النَّسَاءَ حَوَاسِرًا يَنْدُبْنَهُ ... يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّج الأسْحَارِ
قَدْ كُنَّ يَخْبَأْنَ الوُجُوهُ تَسَتُّرًا ... فَالْيَوْمَ حِينَ بَرَزْنَ للنظّارِ
يَخْمِشنَ حُرَّاتِ الوُجُوهِ عَلَى امْرِئٍ ... سَهْلِ الخليقةِ طَيِّبِ الأخبارِ
قالوا في معنى البيت الشاهد: "يقول: من كان مسرورًا بمقتل مالك، فلا يشتمن به، فإنا قد أدركنا ثأره به. وذلك أن العرب كانت تندب قتلاها بعد إدراك الثأر". ومعنى البيت عندي شبيه بذلك، إلا أن قوله: "فليأت نسوتنا بوجه نهار"، أراد به أنه مدرك ثأره من فوره، فمن شاء أن يعرف برهان ذلك، فليأت ليشهد المأتم قد قام يبكيه في صبيحة مقتله. يذكر تعجيله في إدراك الثأر، كأنه قد كان. وتأويل ذلك أنه قال هذه الأبيات لامرأته قبل مخرجه إلى قتال الذين قتلوا مالكًا، فقال لامرأته ذلك، يعلمها أنه مجد في طلب الثأر، وأنه لن يمرض في طلبه، بل هو مدركه من فوره هذا.(6/509)
آخره) ، قال قال: صلوا معهم الصبح، ولا تصلّوا معهم آخرَ النهار، لعلكم تستزلُّونهم بذلك.
* * *
وأما قوله:"واكفروا آخره"، فإنه يعني به، أنهم قالوا: واجحدوا ما صدَّقتم به من دينهم في وَجه النهار، في آخر النهار ="لعلهم يرجعون": يعني بذلك: لعلهم يرجعون عن دينهم معكم ويَدَعونه: كما:-
7241 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"لعلهم يرجعون"، يقول: لعلهم يدَعون دينهم، ويرجعون إلى الذي أنتم عليه.
7242 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7243 - حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لعلهم يرجعون"، لعلهم ينقلبون عن دينهم.
7244 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لعلهم يرجعون"، لعلهم يشكّون.
7245 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"لعلهم يرجعون"، قال: يرجعون عن دينهم.
* * *(6/510)
وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73)
القول في تأويل قوله: {وَلا تُؤْمِنُوا إِلا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تصدّقوا إلا من تبع دينكم فكان يهوديًّا.
* * *
وهذا خبر من الله عن قول الطائفة الذين قالوا لإخوانهم من اليهود:"آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار".
* * *
و"اللام" التي في قوله:"لمن تبع دينكم"، نظيرة"اللام" التي في قوله: (عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ) ، بمعنى: ردفكم، (بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ) [سورة النمل: 72] .
* * *
وبنحو ما قلنا في تأويل ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7246 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم"، هذا قول بعضهم لبعض.
7247 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7247 م - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم" قال: لا تؤمنوا إلا لمن تبع اليهودية.
7248 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن يزيد في قوله:(6/511)
"ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم"، قال: لا تؤمنوا إلا لمن آمن بدينكم، ومَنْ خالفه فلا تؤمنوا له. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُم عِنْدَ رَبِّكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: قوله:"قل إنّ الهدى هدى الله"، اعتراضٌ به في وسط الكلام، (2) خبرًا من الله عن أن البيان بيانُه والهدى هُداه. قالوا: وسائرُ الكلام بعدَ ذلك متصلٌ بالكلام الأول، خبرًا عن قِيل اليهود بعضها لبعض. (3) فمعنى الكلام عندهم: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم، أو أنْ يحاجُّوكم عند ربكم = أي: ولا تؤمنوا أن يحاجّكم أحدٌ عند ربكم. ثم قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل، يا محمد:"إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء"، و"إن الهدى هدى الله".
ذكر من قال ذلك:
7249 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم"، حسدًا من يهود أن تكون النبوة في غيرهم، وإرادةَ أن يُتَّبعوا على دينهم.
__________
(1) في المطبوعة: "لا من خالفه فلا تؤمنوا به" بزيادة"لا" وفي المخطوطة: "من خالفه فلا تؤمنوا به"، والصواب زيادة الواو كما أثبت، والصواب أيضًا"تؤمنوا له"، وذاك تصحيف من الناسخ.
(2) في المطبوعة: "اعترض به في وسط الكلام، خبر من الله. . ." والصواب ما في المخطوطة كما أثبته.
(3) في المطبوعة هنا أيضًا: "خبر عن قيل اليهود" برفع الخبر، والصواب من المخطوطة.(6/512)
7250- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: تأويل ذلك: قل يا محمد:"إن الهدى هدى الله"، إنّ البيان بيانُ الله ="أن يؤتى أحدٌ"، قالوا: ومعناه: لا يؤتى أحدٌ من الأمم مثل ما أوتيتم، كما قال: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) [سورة النساء: 176] ، بمعنى: لا تضلون، وكقوله: (كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) [سورة الشعراء: 200-201] ، يعني: أن لا يؤمنوا ="مثل ما أوتيتم"، يقول: مثل ما أوتيتَ، أنت يا محمد، وأمتك من الإسلام والهدى ="أو يحاجوكم عند ربكم"، قالوا: ومعنى"أو":"إلا"، أيْ: إلا أن"يحاجوكم"، يعني: إلا أن يجادلوكم عند ربكم عند ما فَعل بهم ربُّكم. (1)
ذكر من قال ذلك:
7251 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل إنّ الهدى هُدَى الله أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم"، يقول، مثل ما أوتيتم يا أمة محمد ="أو يحاجوكم عند ربكم"، تقول اليهود: فعل الله بنا كذا وكذا من الكرامة، حتى أنزل علينا المن والسلوى = فإن الذي أعطيتكم أفضلُ فقولوا:"إن الفضْل بيد الله يؤتيه من يشاء"، الآية.
* * *
فعلى هذا التأويل، جميع هذا الكلام، [أمرٌ] من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود، (2) وهو متلاصق بعضه ببعض لا اعتراض فيه. و"الهدى"
__________
(1) انظر تفصيل هذه المقالة في معاني القرآن للفراء 1: 222-223.
(2) في المطبوعة: "جميع هذا الكلام من الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم"، وفي المخطوطة"جميع هذا الكلام من الله نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم"، ولما رأى الناشر عبارة لا تستقيم، اجتهد في إصلاحها، والصواب القريب زيادة ما زدته بين القوسين، سقط من الناسخ"أمر" لقرب رسمها مما بعدها وهو: "من". وقد استظهرته مما سيأتي في أول الفقرة التالية.(6/513)
الثاني ردّ على"الهدى" الأول، و"أن" في موضع رفع على أنه خبر عن"الهدى".
* * *
وقال آخرون: بل هذا أمر من الله نبيَّه أن يقوله لليهود. (1) وقالوا: تأويله:"قل" يا محمد"إن الهدى هُدى الله أن يؤتى أحد" من الناس"مثل ما أوتيتم"، يقول: مثل الذي أوتيتموه أنتُم يا معشر اليهود من كتاب الله، ومثل نبيكم، فلا تحسدوا المؤمنين على ما أعطيتهم، مثلَ الذي أعطيتكم من فضلي، فإن الفضل بيدي أوتيه من أشاء.
ذكر من قال ذلك:
7252 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قل إن الهدى هدى الله أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم"، يقول: لما أنزل الله كتابًا مثلَ كتابكم، وبعثَ نبيًّا مثل نبيكم، حسدتموهم على ذلك ="قلْ إنّ الفضلَ بيد الله"، الآية.
7253 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك:"قل" يا محمد:"إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم" أنتم يا معشر اليهود من كتاب الله. قالوا: وهذا آخر القول الذي أمرَ الله به نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود من هذه الآية. قالوا: وقوله:"أو يحاجوكم"، مردود على قوله:"ولا تؤمنوا إلا لمن تَبع دينكم".
وتأويل الكلام - على قول أهل هذه المقالة -: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، فتتركوا الحقَّ: أنّ يحاجُّوكم به عند ربكم من اتبعتم دينه فاخترتموه: أنه محقٌّ، وأنكم تجدون نعته في كتابكم. فيكون حينئذ قوله:"أو يحاجوكم" مردودًا
__________
(1) في المطبوعة: "أمر من الله لنبيه" زاد لامًا لا ضرورة لها. وانظر التعليق السالف.(6/514)
على جواب نهي متروك، على قول هؤلاء.
ذكر من قال ذلك:
7254 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"إن الهدى هدى الله أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم"، يقول: هذا الأمر الذي أنتم عليه: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم ="أو يحاجوكم عند ربكم"، قال: قال بعضهم لبعض: لا تخبروهم بما بيَّن الله لكم في كتابه، ليحاجُّوكم = قال: ليخاصموكم = به عند ربكم ="قل إن الهدى هدى الله".
* * *
[قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يكون قوله:"قل إن الهدى هُدى الله"] = معترضًا به، (1) وسائر الكلام متَّسِقٌ على سياقٍ واحد. فيكون تأويله حينئذ: ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم، (2) ولا تؤمنوا أن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم = بمعنى: لا يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم = (3) "أو يحاجوكم عند ربكم"، بمعنى: أو أن يحاجوكم عند ربكم. . . . . . . . (4) أحد بإيمانكم،
__________
(1) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها كما سترى في التعليق ص 516، تعليق: 3. وكان في المطبوعة"قل إن الهدى هدى الله، معترض به"، وهو لا يستقيم، وفي المخطوطة مثله إلا أنه كتب"معترضًا به" بالنصب. والظاهر أن الناسخ لما بلغ"قل إن الهدى هدى الله" في الأثر السالف تخطى بصره إلى نظيرتها في كلام الطبري، فكتب بعده: "معترضًا به" وأسقط ما بينهما كما سيتبين لك فيما بعد.
(2) في المطبوعة: "اتبع دينكم"، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "بمثل ما أوتيتم" زاد"باء"، والصواب من المخطوطة.
(4) موضع هذه النقط سقط، لا أشك فيه، وكان في المطبوعة: "أو أن يحاجكم عند ربكم أحد بإيمانكم"، وهو غير مستقيم، وكان في المخطوطة: "أو أن يحاجوكم عند ربكم أحد بإيمانكم"، وهو كلام مختل، حمل ناشر المطبوعة الأولى على تغييره، كما رأيت. وظاهر أنه سقط من هذا الموضع، سياق أبي جعفر لهذا التأويل الذي اختاره، ورد فيه قوله تعالى: "قل إن الهدى هدى الله"، إلى موضعها بعد قوله: "أو يحاجوكم به عند ربكم"، كما هو بين من كلامه. وأنا أظن أن قوله: "أحد بايما لم" وهكذا كتبت في المخطوطة غير منقوطة، صوابها"حسدا لما آتاكم"، كما يستظهر من الآثار السالفة.
هذا، وإن شئت أن تجعل الكلام جاريًا كله مجرى واحدًا على هذا: "أو أن يحاجوكم عند ربكم، حسدًا لما آتاكم، لأنكم أكرم على الله منهم. . ."، كان وجهًا، غير أني لست أرتضيه، بل أرجح أن هاهنا سقطًا لا شك فيه.(6/515)
لأنكم أكرمُ على الله بما فضلكم به عليهم. فيكون الكلام كله خبرًا عن قول الطائفة التي قال الله عز وجل:"وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار" سوى قوله:"قلُ إن الهدى هدى الله". ثم يكون الكلامُ مبتدأ بتكذيبهم في قولهم:"قل"، يا محمد، للقائلين ما قولوا من الطائفة التي وصفتُ لك قولها لتُبَّاعها من اليهود = (1) "إن الهدى هدى الله"، إن التوفيق توفيقُ الله والبيانَ بيانُه، (2) "وإن الفضل بيده يؤتيه من يشاء" لا ما تمنيتموه أنتم يا معشر اليهود.
وإنما اخترنا ذلك من سائر الأقوال التي ذكرناها، (3) لأنه أصحها معنًى، وأحسنُها استقامةً، على معنى كلام العرب، وأشدُّها اتساقًا على نظم الكلام وسياقه. وما عدا ذلك من القول، فانتزاع يبعُد من الصحة، على استكراه شديدٍ للكلام.
* * *
القول في تأويل قوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِمٌ (73) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل" يا محمد، لهؤلاء اليهود الذين وصفتُ قولهم لأوليائهم ="إنّ الفضل بيد الله"، إنّ التوفيق للإيمان والهدايةَ للإسلام، (4) بيد الله وإليه، دونكم ودون سائر خلقه ="يؤتيه من يشاء" من
__________
(1) التباع جمع تابع، مثل: "جاهل وجهال".
(2) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف 1: 166-170، 230، 249، 549-551 / 3: 101، 140، 141، 223 / 4: 283.
(3) من ذكر الطبري اختياره، تبين بلا ريب أن في صدر الكلام سقطًا، كما أسلف في ص: 515، تعليق: 1، ولعل الزيادة التي أسلفتها، قد نزلت منزلها من الصواب إن شاء الله.
(4) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 334 / 5: 571.(6/516)
يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
خلقه، يعني: يعطيه من أراد من عباده، (1) تكذيبًا من الله عز وجل لهم في قولهم لتُبّاعهم:"لا يؤتى أحد مثل ما أوتيتم". فقال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم: ليس ذلك إليكم، إنما هو إلى الله الذي بيده الأشياء كلها، وإليه الفضل، وبيده، يُعطيه من يشاء ="والله واسع عليم"، يعني: والله ذُو سعةٍ بفضله على من يشاء أن يتفضل عليه = (2) "عليم"، ذو علم بمن هو منهم للفضل أهل. (3)
7255 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك قراءةً، عن ابن جريج في قوله:"قل إنّ الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء"، قال: الإسلام.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"يختص برحمته من يشاء"،"يفتعل" من قول القائل:"خصصت فلانًا بكذا، أخُصُّه به". (4)
* * *
وأما"رحمته"، في هذا الموضع، فالإسلام والقرآن، مع النبوّة، كما:-
7256 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يختص برحمته من يشاء"، قال: النبوّة، يخصُّ بها من يشاء.
__________
(1) انظر تفسير: "آتى" فيما سلف 1: 574 / 2: 317 وفهارس اللغة.
(2) انظر تفسير"واسع" فيما سلف 2: 537 / 5: 516، 575.
(3) انظر تفسير"عليم" فيما سلف 1: 438، 496 / 2، 537 / 3: 399، وفهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"يختص" فيما سلف أيضا 2: 471.(6/517)
7257 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7258 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"يختص برحمته من يشاء"، قال: يختص بالنبوة من يشاء.
7259 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قراءةً، عن ابن جريج:"يختص برحمته من يشاء"، قال: القرآن والإسلام.
7260 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج مثله.
* * *
="والله ذو الفضل العظيم"، يقول: ذو فضل يتفضَّل به على من أحبّ وشاء من خلقه. ثم وصف فضله بالعِظَم فقال:"فضله عظيم"، لأنه غير مشبهه في عِظَم موقعه ممن أفضله عليه [فضلٌ] من إفضال خلقه، (1) ولا يقاربه في جلالة خطره ولا يُدانيه.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "غير مشبه ... ممن أفضله عليه أفضال خلقه"، وأما المخطوطة ففيها: " غير مشبهه ... ممن أفضله عليه من أفضال خلقه"، فرأيت أنه قد سقط من ناسخ المخطوطة ما زدته بين القوسين ليستقيم الكلام.(6/518)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
القول في تأويل قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا}
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل: أنّ من أهل الكتاب - وهم اليهود من بني إسرائيل - أهلَ أمانة يؤدُّونها ولا يخونونها، ومنهم الخائن أمانته، الفاجرُ في يمينه المستحِلُّ. (1)
* * *
فإن قال قائل: وما وجه إخبار الله عز وجل بذلك نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وقد علمتَ أنّ الناس لم يزالوا كذلك: منهم المؤدِّي أمانته والخائنُها؟
قيل: إنما أراد جل وعز بإخباره المؤمنين خبرَهم - على ما بينه في كتابه بهذه الآيات - تحذيرَهم أن يأتمنوهم على أموالهم، (2) وتخويفهم الاغترارَ بهم، لاستحلال كثير منهم أموالَ المؤمنين.
* * *
فتأويل الكلام: ومن أهل الكتاب الذي إنْ تأمنه، يا محمد، على عظيم من المال كثير، يؤدِّه إليك ولا يخنْك فيه، ومنهم الذي إن تأمنه على دينار يخنْك فيه فلا يؤدِّه إليك، إلا أن تلح عليه بالتقاضي والمطالبة.
* * *
__________
(1) لعل في المخطوطة سقطًا، صوابه: "المستحل أموال الأميين من العرب" أو "المستحل أموال المؤمنين"، كما يتبين من بقية تفسير الآية.
(2) في المخطوطة: "أن نهوهم على أموالهم" غير منقوطة، والذي قرأه الناشر الأول جيد وهو الصواب.(6/519)
و"الباء" في قوله:"بدينار" و"على" يتعاقبان في هذا الموضع، كما يقال:"مررت به، ومررت عليه". (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا".
فقال بعضهم:"إلا ما دمت له متقاضيًا".
ذكر من قال ذلك:
7261 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، إلا ما طلبته واتبعته.
7262 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، قال: تقتضيه إياه.
7263 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، قال: مواظبًا.
7264 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"إلا ما دمتَ قائمًا على رأسه". (2)
ذكر من قال ذلك:
7265 - حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا ما دمت عليه قائمًا"، يقول: يعترف
__________
(1) انظر ذلك فيما سلف 1: 313.
(2) في المطبوعة: "إلا ما دمت عليه قائمًا" بزيادة"عليه"، وهي فساد، والصواب من المخطوطة.(6/520)
بأمانته ما دمت قائمًا على رأسه، فإذا قمتَ ثم جئت تطلبهُ كافرك = (1) الذي يؤدِّي، والذي يجحد. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بتأويل الآية، قول من قال:"معنى ذلك: إلا ما دمت عليه قائمًا بالمطالبة والاقتضاء". من قولهم:"قام فلان بحقي على فلان حتى استخرجه لي"، أي عمل في تخليصه، وسَعى في استخراجه منه حتى استخرجه. لأن الله عز وجل إنما وصفهم باستحلالهم أموال الأميين، وأنّ منهم من لا يقضي ما عليه إلا بالاقتضاء الشديد والمطالبة. وليس القيام على رأس الذي عليه الدين، بموجب له النقلة عما هو عليه من استحلال ما هو له مستحلّ، ولكن قد يكون - مع استحلاله الذهابَ بما عليه لربّ الحقّ - إلى استخراجه السبيلُ بالاقتضاء والمحاكمة والمخاصمة. (3) فذلك الاقتضاء، هو قيام ربِّ المال باستخراج حقه ممن هو عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأمِّيِّينَ سَبِيلٌ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنّ من استحلّ الخيانةَ من اليهود، وجحودَ حقوق العربيّ التي هي له عليه، فلم يؤدّ ما ائتمنه العربيُّ عليه إلا ما دامَ له متقاضيًا مطالبًا = من أجل أنه يقول: لا حرَج علينا فيما أصبنا من أموال العرب
__________
(1) كافره حقه: جحده حقه.
(2) قوله: "الذي يؤدي، والذي يجحد" بيان عن ذكر الفريقين اللذين ذكرا في الآية، أي: هذا الذي يؤدي، وهذا الذي يجحد.
(3) سياق العبارة: "قد يكون ... إلى استخراجه السبيل بالاقتضاء ... "، وما بينهما فصل.(6/521)
ولا إثم، لأنهم على غير الحق، وأنهم مشركون. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، فقال بعضهم نحو قولنا فيه.
ذكر من قال ذلك:
7266 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل" الآية، قالت اليهود: ليس علينا فيما أصبنا من أموال العرب سبيلٌ.
7267 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: ليس علينا في المشركين سبيل = يعنون من ليس من أهل الكتاب.
7268 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: يقال له: ما بالك لا تؤدِّي أمانتك؟ فيقول: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلَّها الله لنا! !
7269 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير: لما نزلت"ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤدّه إليك إلا ما دمت عليه قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيلٌ"، قال النبي صلى الله عليه وسلم: كذبَ أعداءُ الله، ما من شيء كان في الجاهلية إلا وهو تحت قدميّ، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ إلى البر والفاجر. (2)
__________
(1) انظر تفسير"الأمي" فيما سلف 2: 257- 259 / ثم 5: 442 في كلام الطبري نفسه / ثم 6: 281 / ثم الآثار رقم: 5827، 6774، 6775.
(2) الأثر: 7269-"يعقوب بن عبد الله الأشعري القمي"، و"جعفر" هو: "جعفر ابن أبي المغيرة الخزاعي القمي"، مضيا في رقم: 617. قال أخي السيد أحمد في مثل هذا الإسناد سالفًا: "هو حديث مرفوع، ولكنه مرسل، لأن سعيد بن جبير تابعي، وإسناده إليه إسناد جيد". وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 169، 170 من تفسير ابن أبي حاتم، وخرجه في الدر المنثور 2: 44، ونسبه أيضًا لعبد بن حميد، وابن المنذر.(6/522)
7270- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا هشام بن عبيد الله، عن يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير قال: لما قالت اليهود:"ليس علينا في الأميين سبيل"، يعنون أخذَ أموالهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر نحوه = إلا أنه قال: إلا وهو تحت قدميّ هاتين، إلا الأمانة، فإنها مؤدّاةٌ = ولم يزد على ذلك.
7271 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، وذلك أن أهل الكتاب كانوا يقولون: ليس علينا جناح فيما أصبنا من هؤلاء، لأنهم أمِّيُّون. فذلك قوله: (ليس علينا في الأميين سبيل) ، إلى آخر الآية.
* * *
وقال آخرون في ذلك، ما:-
7272 - حدثنا به القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل"، قال: بايع اليهودَ رجالٌ من المسلمين في الجاهلية، فلما أسلموا تقاضوهم ثمنَ بُيوعهم، فقالوا: ليس لكم علينا أمانةٌ، ولا قضاءَ لكم عندنا، لأنكم تركتم دينكم الذي كنتم عليه! قال: وادّعوا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم، (1) فقال الله عز وجل:"ويقولون على الله الكذبَ وهم يعلمون".
7273 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن صعصعة قال: قلت لابن عباس: إنا نغزو أهلَ الكتاب فنصيبُ من ثمارهم؟ قال: وتقولون كما قال أهلُ الكتاب:"ليس علينا في الأميين سبيل!! (2)
__________
(1) في المطبوعة: "وادعوا ... "، أسقط"قال"، وأثبتها من المخطوطة.
(2) الأثر: 7273-"أبو إسحاق الهمداني" كما بين في الأثر التالي. و"صعصعة بن يزيد"، ويقال"صعصعة بن زيد"، وذكر البخاري الاختلاف في اسمه، وأشار إلى رواية هذا الخبر. في الكبير 2 / 2 / 321، 322، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 446. وانظر التعليق على الأثر التالي.(6/523)
7274 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أبي إسحاق الهمداني، عن صعصعة: أن رجلا سأل ابن عباس فقال: إنا نصيب في الغزْو = أو: [العذق] ، الشك من الحسن = من أموال أهل الذمة الدجاجةَ والشاة، فقال ابن عباس: فتقولون ماذا؟ قال نقول: ليس علينا بذلك بأس! قال: هذا كما قال أهل الكتاب:"ليس علينا في الأميين سبيل"! إنهم إذا أدّوا الجزية لم تحلّ لكم أموالهم إلا بطيِب أنفسهم. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 7274- هذا طريق آخر للأثر السالف، وبلفظ غيره. ورواه أبو عبيد القاسم ابن سلام في كتاب الأموال (ص 149، رقم: 415) من طريق عبد الرحمن، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن صعصعة، بلفظ آخر. ورواه البيهقي في السنن 9: 198 من طريق"شعبة، عن أبي إسحاق، عن صعصعة، قال قلت لابن عباس"، بلفظ آخر غير كل ما سلف. وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 169 من تفسير عبد الرزاق وفيه"عن أبي صعصعة بن يزيد" وهو خطأ صوابه"صعصعة". وقال: "وكذا رواه الثوري عن أبي إسحاق بنحوه". وخرجه السيوطي في الدر المنثور 2: 4، ونسبه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وساقه الزمخشري في تفسير الآية، بنص أبي جعفر، والقرطبي 4: 118، 119، وأبو حيان في تفسيره من تفسير عبد الرزاق أيضًا 2: 501، وفي جميعها"إنا نصيب في الغزو" إلا القرطبي فإن فيه: "إنما نصيب في العمد"، وأما البيهقي ففيه: "إنا نأتي القرية بالسواد فنستفتح الباب ... "، وفي الأموال: "إنا نسير في أرض أهل الذمة فنصيب منهم".
وكان في أصل المخطوطة والمطبوعة من الطبري: "إنا نصيب في العرف، أو العذق، الشك من الحسن"، ولم أجد ذلك في مكان، وهو لا معنى له أيضًا. وقد أطبق كل من ذكرنا ممن نقل من تفسير عبد الرزاق بهذا الإسناد نفسه، على عبارة واحدة هي"إنا نصيب في الغزو"، فأثبتها كذلك، أما ما شك فيه الحسن بن يحيى فقد وضعته بين قوسين، وهو لا معنى له. وأرجح الظن عندي أنها"أو: الغزوة -الشك من الحسن"، أو تكون: "أو: القرية- الشك من الحسن".(6/524)
القول في تأويل قوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إن القائلين منهم:"ليس علينا في أموال الأميين من العرب حَرَجٌ أن نختانهم إياه"، يقولون = بقيلهم إنّ الله أحل لنا ذلك، فلا حرجَ علينا في خيانتهم إياه، وترك قضائهم = (1) الكذبَ على الله عامدين الإثمَ بقيل الكذب على الله، إنه أحلّ ذلك لهم. وذلك قوله عز وجل:"وهم يعلمون"، كما:-
7275 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: فيقول على الله الكذب وهو يعلم = يعني الذي يقول منهم - إذا قيل له: ما لك لا تؤدي أمانتك؟ -: ليس علينا حرج في أموال العرب، قد أحلها الله لنا!
7276 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"، يعني: ادّعاءهم أنهم وجدُوا في كتابهم قولهم:"ليس علينا في الأميين سبيل".
* * *
القول في تأويل قوله: {بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) }
قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله عز وجل عمَّا لمنْ أدَّى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاءَ الله ومراقبتَه، عنده. (2) فقال جل ثناؤه: ليس الأمر كما يقول
__________
(1) قوله: "الكذب" مفعول"يقولون"، وما بينهما فصل.
(2) في المطبوعة: "هذا إخبار من الله عز وجل عمن أدى أمانته إلى من ائتمنه عليها اتقاء الله ومراقبته وعيده"، والذي أثبت هو نص المخطوطة، وهو الصواب المحض. والسياق: "وهذا إخبار من الله ... عما لمن أدى أمانته ... عنده". وقوله: "واتقاء الله ومراقبته" على النصب فيهما، مفعول لأجله.(6/525)
هؤلاء الكاذبون على الله من اليهود، من أنه ليس عليهم في أموَال الأميين حرج ولا إثم، ثمّ قال: بلى، ولكن من أوفى بعهده واتقى - يعني: ولكن الذي أوفى بعهده، وذلك وصيته إياهم التي أوصاهم بها في التوراة، من الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به. (1)
* * *
و"الهاء" في قوله:"من أوفى بعهده"، عائدة على اسم"الله" في قوله:"ويقولون على الله الكذب".
* * *
يقول: بلى من أوفى بعهد الله الذي عاهده في كتابه، فآمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وصَدّق به وبما جاء به من الله، من أداء الأمانة إلى من ائتمنه عليها، وغير ذلك من أمر الله ونهيه ="واتقى"، يقول: واتقى ما نهاه الله عنه من الكفر به، وسائر معاصيه التي حرّمها عليه، فاجتنبَ ذلك مراقبةَ وعيد الله وخوفَ عقابه ="فإنّ الله يحبّ المتقين"، يعني: فإن الله يحب الذين يتقونه فيخافون عقابه ويحذرون عذابه، فيجتنبون ما نهاهم عنه وحرّمه عليهم، ويطيعونه فيما أمرهم به.
* * *
وقد روى عن ابن عباس أنه كان يقول: هو اتقاء الشرك.
7277 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"بلى من أوفى بعهده واتقى" يقول: اتقى الشرك ="فإنّ الله يحب المتقين"، يقول: الذين يتقون الشرك.
* * *
__________
(1) انظر بيان معنى"أوفى" فيما سلف 1: 557-559 / 3: 348. وانظر تفسير"العهد" فيما سلف 1: 410-414، ثم 557-559 / 3: 20-24، 348، 349.(6/526)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
وقد بينا اختلافَ أهل التأويل في ذلك والصوابَ من القول فيه، بالأدلة الدّالة عليه، فيما مضى من كتابنا، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: إنّ الذين يستبدلون - بتركهم عهد الله الذي عهد إليهم، ووصيته التي أوصاهم بها في الكتب التي أنزلها الله إلى أنبيائه، باتباع محمد وتصديقه والإقرار به وما جاء به من عند الله - وبأيمانهم الكاذبة التي يستحلون بها ما حرّم الله عليهم من أموال الناس التي ائتمنوا عليها (2) ="ثمنًا"، يعني عوضًا وبدلا خسيسًا من عرض الدنيا وحُطامها (3) ="أولئك لا خلاق لهم في الآخرة"، يقول: فإن الذين يفعلون ذلك لا حظ لهم في خيرات الآخرة، ولا نصيب لهم من نعيم الجنة وما أعدّ الله لأهلها فيها دون غيرهم. (4)
* * *
وقد بينا اختلاف أهل التأويل فيما مضى في معنى"الخلاق"، ودللنا على
__________
(1) انظر تفسير"اتقى" و"التقوى" فيما سلف 1: 232، 233، 364 / 2: 181، 457 / 4: 162، 244، 425، 426 / ثم 6: 261.
(2) سياق الجملة: "إن الذين يستبدلون بتركهم عهد الله ... وبأيمانهم الكاذبة ... ثمنًا ...
(3) انظر تفسير"اشترى" فيما سلف 1: 311-315، 565 / 2: 316، 317 ثم 341، 342، ثم 452 / 3: 328.
وانظر تفسير"ثمنًا قليلا" فيما سلف 2: 565 / 3: 328.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "دون غيرها"، والسياق يقتضي ما أثبت.(6/527)
أولى أقوالهم في ذلك بالصواب، بما فيه الكفاية. (1)
* * *
وأما قوله:"ولا يكلمهم الله"، فإنه يعني: ولا يكلمهم الله بما يسرُّهم ="ولا ينظر إليهم"، يقول: ولا يعطف عليهم بخير، مقتًا من الله لهم، كقول القائل لآخر:"انظُر إليّ نَظر الله إليك"، بمعنى: تعطف عليّ تعطّف الله عليك بخير ورحمة = وكما يقال للرجل:"لا سمع الله لك دعاءَك"، يراد: لا استجاب الله لك، والله لا يخفى عليه خافية، وكما قال الشاعر: (2)
دَعَوْتُ اللهَ حَتى خِفْتُ أَنْ لا ... يَكْونَ اللهُ يَسْمَعُ مَا أَقُولُ (3)
* * *
وقوله"ولا يُزكيهم"، يعني: ولا يطهرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم ="ولهم عذاب أليم"، يعني: ولهم عذابٌ موجع. (4)
* * *
واختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزلت هذه الآية، ومن عني بها.
فقال بعضهم نزلت في أحبار من أحبار اليهود.
ذكر من قال ذلك:
7278 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قال: نزلت هذه الآية:"إن الذين يشترون بعهد الله
__________
(1) انظر ما سلف 2: 452-454 / 4: 201-203.
(2) هو شمير بن الحارث الضبي، ويقال"سمير" بالمهملة، مصغرًا- وهو جاهلي.
(3) نوادر أبي زيد: 124، والخزانة 2: 363، واللسان (سمع) ، وبعده: لِيَحْمِلَني عَلَى فَرَسٍ، فَإِنِّي ... ضَعِيفُ المَشْيِ، لِلأَدْنَى حَمُولُ
و"يسمع ما أقول"، يستجيب، كقولنا: "سمع الله لمن حمده".
(4) انظر تفسير"التزكية" فيما سلف 1: 573، 574 / 3: 88 / 5: 29 = و"أليم" 1: 283 / 2: 140، 377، 469، 540 / 3: 330، وغيرها، فاطلبه في فهارس اللغة.(6/528)
وأيمانهم ثمنًا قليلا"، في أبي رافع، وكنانة بن أبي الحقيق، وكعب بن الأشرف، وحُييّ بن أخطب.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت في الأشعث بن قيس وخصم له.
ذكر من قال ذلك:
7279 - حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"من حَلف على يمين هو فيها فاجرٌ ليقتطع بها مالَ امرئ مسلم، لقيَ اللهَ وهو عليه غضبان = فقال الأشعث بن قيس: فيّ والله كان ذلك: كان بيني وبين رجل من اليهود أرضٌ فجحدني، فقدّمته إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألك بيِّنة؟ قلت: لا! فقال لليهودي:"احلفْ. قلت: يا رسول الله، إذًا يحلف فيذهبَ مالي! فأنزل الله عز وجل:"إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا" الآية. (1)
__________
(1) الحديث: 7279- أبو وائل: هو شقيق بن سلمة الأسدي.
وهذا الحديث في الحقيقة حديثان: أوله من حديث عبد الله بن مسعود، وآخره في سبب نزول الآية من حديث الأشعث بن قيس.
والأشعث بن قيس بن معد يكرب الكندي، صحابي معروف.
والحديث رواه أحمد: 3597، 4049، عن أبي معاوية، عن الأعمش، بهذا الإسناد.
ثم رواه بالإسناد نفسه، في مسند"الأشعث بن قيس"، ج 5 ص 211 (حلبي) .
وكذلك رواه البخاري 5: 53، 206 (فتح الباري) ، من طريق أبي معاوية.
ورواه مسلم 1: 49-50، من طريق أبي معاوية ووكيع - كلاهما عن الأعمش.
ورواه أحمد مختصرًا، عن ابن مسعود وحده، من أوجه أخر: 3576، 3946، 4212.
ورواه أيضًا، مختصرًا ومطولا، في مسند الأشعث بن قيس، من ثلاثة أوجه أخر، ج 5 ص 211-212 (حلبي) .
وكذلك رواه البخاري من أوجه، مختصرًا ومطولا، في مواضع غير الموضعين السابقين 5: 25، 207، 211، و 11: 473، 485-490 (وهنا شرحه الحافظ شرحًا وافيًا) ، و 13: 156، 364.
ورواه مسلم من وجهين أيضًا 1: 50.
وذكره ابن كثير 2: 172: 173، من رواية المسند عن أبي معاوية، ثم ذكره من روايته الأخيرة في مسند الأشعث بن قيس.
وذكره السيوطي 2: 44، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب.
وسيأتي أيضًا: 7282، من رواية منصور، عن شقيق، وهو أبو وائل، به، نحوه.(6/529)
7280 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جرير بن حازم، عن عدي بن عدي، عن رجاء بن حيوة والعُرس أنهما حدثاه، عن أبيه عدي بن عميرة قال: كان بين امرئ القيس ورجل من حضرموت خصومةٌ، فارتفعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال للحضرمي:"بيِّنَتَك، وإلا فيمينه". قال: يا رسول الله، إن حلف ذهب بأرضي! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها حقّ أخيه، لقي الله وهو عليه غضبان. فقال امرؤ القيس: يا رسول الله، فما لمن تركها، وهو يعلم أنها حقّ؟ قال: الجنة. قال: فإني أشهدك أني قد تركتها = قال جرير: فكنت مع أيوب السختياني حين سمعنا هذا الحديث من عدي، فقال أيوب: إنّ عديًّا قال في حديث العُرْس بن عميرة: فنزلت هذه الآية:"إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا" إلى آخر الآية = قال جرير: ولم أحفظ يومئذ من عدي. (1)
__________
(1) الحديث: 7280- عدي بن عدي بن عميرة الكندي: تابعي ثقة معروف، قال البخاري في الكبير 4 / 1 / 44: "سيد أهل الجزيرة". وهو يروي عن أبيه، ولكنه روى عنه هنا بواسطة عمه العرس بن عميرة ورجاء بن حيوة.
رجاء بن حيوة - بفتح الحاء المهملة والواو بينهما تحتية ساكنة: تابعي ثقة كثير العلم والحديث. وهو من رهط امرئ القيس بن عابس الكندي صاحب هذه الحادثة. جدهما الأعلى: "امرؤ القيس ابن عمرو بن معاوية الأكرمين الكندي".
العرس - بضم العين المهملة وسكون الراء وآخره سين مهملة: هو ابن عميرة الكندي، وهو صحابي، جزم البخاري بصحبته، وروى له حديثًا في الكبير 4 / 1 / 87. وهو أخو عدي بن عميرة، وعم عدي ابن عدي.
عدي بن عميرة بن فروة الكندي: صحابي معروف، يكنى"أبا زرارة"، له أحاديث في صحيح مسلم، كما قال الحافظ في الإصابة.
و"عميرة": بفتح العين وكسر الميم، كما نص عليه في المشتبه للذهبي وغيره. وضبط في طبقات ابن سعد 6: 36 بضمة فوق العين. وهو خطأ صرف، فإن اسم"عميرة" بالضم - من أسماء النساء. وضبط في الطبقات على الصواب في ترجمة أخرى لعدي 7 / 2 / 176.
ووقع في المخطوطة هنا"عدي بن عمير" و"العرس بن عمير" - بدون هاء في آخره فيهما. وهو خطأ.
والحديث رواه أحمد في المسند 4: 191-192 (حلبي) ، عن يحيى بن سعيد، عن جرير ابن حازم، بهذا الإسناد، نحوه.
ثم رواه، ص: 192، عن يزيد، وهو ابن هارون، "حدثنا جرير بن حازم"، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظ الحديث كله. ووقع في نسخة المسند المطبوعة في هذا الموضع سقط قول أحمد: "حدثنا يزيد"، وهو خطأ واضح. وثبت على الصواب في مخطوطة المسند المرموز لها بحرف"م".
وذكره ابن كثير 2: 172، من رواية المسند الأولى، ثم قال: "ورواه النسائي، من حديث عدي بن عدي، به"، وهو يريد بذلك السنن الكبرى، فإنه ليس في السنن الصغرى.
ولذلك ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 178، وقال: "رواه أحمد، والطبراني في الكبير، ورجالهما ثقات".
وهو في الدر المنثور 2: 44، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، والبيهقي في الشعب، وابن عساكر.(6/530)
7281 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال آخرون: إن الأشعث بن قيس اختصم هو ورجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض كانت في يده لذلك الرجل، أخذها لتعزُّزه في الجاهلية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أقم بينتك. قال الرجل: ليس يشهد لي أحدٌ على الأشعث! قال: فلك يمينه. فقام الأشعث ليحلف، فأنزل الله عز وجل هذه الآية، فنكلَ الأشعَث وقال: إني أشهد الله وأشهدكم أنّ خصمي صادق. فرد إليه أرضَه، وزاده من أرض نفسه زيادةً كثيرةً، مخافة أن يبقى في يده شيء من حقه، فهي لعقب ذلك الرجل بعده. (1)
__________
(1) الحديث: 7281- هذا حديث مرسل، لم يذكر ابن جريج من حدثه به. فهو ضعيف الإسناد.
وقول ابن جريج"قال آخرون" - هو ثابت في المخطوطة والمطبوعة. ولم يذكره السيوطي، فلعله اختصره.
ومعناه أن ابن جريج كان يتحدث في شأن نزول الآية، والظاهر أنه تحدث بخبر قبل هذا، ثم قال: "وقال آخرون" - فذكر هذا الحديث. ولعله ذكر الآية الماضية: 7279-، أو الآتية: 7282، أو نحو ذلك، ثم أتى بروايته هذه المرسلة.
وهي ضعيفة الإسناد كما قلنا لإرسالها. ثم هي ضعيفة لما فيها من منافاة لتينك الروايتين الصحيحتين:
أن الخصومة كانت بين الأشعث ورجل يهودي، وأن اليهودي كان المدعى عليه الذي عليه اليمين، وأن الأشعث قال: "إذن يحلف". فهي ضعيفة الإسناد، ضعيفة السياق.
وهذه الرواية ذكرها السيوطي 2: 44، ولم ينسبها لغير الطبري.
وقوله: "فقام الأشعث ليحلف" - هذا هو الثابت في المطبوعة، وهو الصواب إن شاء الله. وفي المخطوطة: "فحلف"، وهو خطأ، يدل على غلطه قوله بعد"فنكل". والنكول إنما يكون عند عرض اليمين أو الهم بالحلف. أما بعد الحلف فلا يكون نكول، بل رجوع إلى الحق، أو إقرار به، ولا يسمى نكولا. وفي الدر المنثور: "فقال الأشعث: نحلف" - والظاهر أنه تصحيف.(6/531)
7282 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن شقيق، عن عبد الله قال: من حلف على يمين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان، ثم أنزل الله تصديق ذلك:"إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا" الآية. ثم إن الأشعث بن قيس خَرَج إلينا فقال: ما حدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه بما قال، فقال: صَدَق، لفيَّ أنزلت! كانت بيني وبين رجل خصومة في بئر، فاختصمنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"شاهداك أو يمينه. فقلت: إذًا يحلف ولا يُبالي! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"من حلف على يمين يستحقّ بها مالا هو فيها فاجرٌ، لقي الله وهو عليه غضبان"، ثم أنزل الله عز وجل تصديقَ ذلك:"إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا"، الآية. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 7282- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي. ومنصور: هو ابن المعتمر. وشقيق: هو أبو وائل.
وهذا الحديث هو الحديث السابق: 7279، بنحوه. ذاك من رواية الأعمش عن أبي وائل، وهذا من رواية منصور عن أبي وائل. وقد بينا تخريجه هناك.
ونذكر هنا أن من روايات البخاري إياه، روايته في 5: 207 (فتح) ، عن عثمان بن أبي شيبة، عن جرير بهذا الإسناد.
وكذلك رواه مسلم 1: 50، عن إسحاق بن إبراهيم -وهو ابن راهويه- عن جرير، به، ولم يذكر لفظه.
ورواه أحمد في المسند 5: 211 (حلبي) ، عن زياد البكائي عن منصور.
ورواه البخاري 11: 473، من طريق شعبة، عن سليمان - وهو الأعمش - ومنصور، كلاهما عن أبي وائل.
ورواه أيضًا 13: 156، من طريق سفيان، وهو الثوري عن منصور.(6/532)
وقال آخرون بما:-
7283 - حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب قال، أخبرني داود بن أبي هند، عن عامر: أنّ رجلا أقام سِلعته أوّل النهار، فلما كان آخرُه جاء رجل يساومه، فحلفَ لقد منعها أوّل النهار من كذا وكذا، ولولا المساء ما باعها به، فأنزل الله عز وجل:"إن الذي يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا".
7284 - حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن رجل، عن مجاهد نحوه.
7285 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا) الآية، إلى:"ولهم عذاب أليم"، أنزلهم الله بمنزلة السَّحَرة.
7286 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن عمران بن حصين كان يقول: من حَلفَ على يمين فاجرة يقتطع بها مالَ أخيه، فليتبوَّأ مقعده من النار. فقال له قائل: شيءٌ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال لهم: إنكم لتجدون ذلك. ثم قرأ هذه الآية:"إنّ الذين يشترُون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا" الآية. (1)
7287 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين بن علي، عن زائدة، عن هشام قال، قال محمد، عن عمران بن حصين: من حلف على يمين مَصْبورَة فليتبوّأ بوجهه مقعده من النار. ثم قرأ هذه الآية كلها:"إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا". (2)
__________
(1) الحديث: 7286- هذا إسناد مرسل، قتادة -وهو ابن دعامة-: لم يدرك عمران ابن حصين، مات عمران سنة 52، وولد قتادة سنة 61.
وسيأتي الحديث عقب هذا بإسناد آخر متصل.
(2) الحديث: 7287- موسى بن عبد الرحمن المسروقي، وحسين بن علي الجعفي: ترجمنا لهما فيما مضى: 174.
زائدة: هو ابن قدامة الثقفي، مضى في: 4897.
هشام: هو ابن حسان.
محمد: هو ابن سيرين. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة: "قال محمد بن عمران بن حصين"! وهو خطأ صرف، حرفت كلمة"عن" إلى"بن". والصواب ما أثبتنا: "محمد، عن عمران بن حصين". وهكذا مخرج الحديث، كما سيأتي.
وهذا الحديث ظاهره هنا أنه موقوف. ولكنه في الحقيقة مرفوع، حتى لو كان موقوفًا لفظًا، فإنه - على اليقين- مرفوع حكمًا، لأن الوعيد الذي فيه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس، ولا مما يدرك بالاستنباط من القرآن. ثم قد ثبت رفعه صريحًا، من هذا الوجه:
فرواه أحمد في المسند 4: 436، 441، عن يزيد، وهو ابن هارون: "أخبرنا هشام، عن محمد، عن عمران بن حصين، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "من حلف على يمين كاذبة مصبورة متعمدًا فليتبوأ بوجهه مقعده من النار". ولم يذكر فيه الاستشهاد بالآية.
وكذلك رواه أبو داود: 3242، عن محمد بن الصباح البزاز، عن يزيد بن هارون به، نحوه.
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 4: 294، من طريق يزيد بن هارون، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 3: 47، من رواية أبي داود والحاكم.
وذكره السيوطي 2: 46، بنحو رواية الطبري هنا: موقوفًا لفظًا مع الاستشهاد بالآية - ونسبه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، وأبي داود، وابن جرير، والحاكم، مع اختلاف السياق بين الروايتين، كما هو ظاهر. وذلك منه دلالة على أنه لا فرق بين رفعه ووقفه لفظًا، إذ كان مرفوعًا حكمًا ولا بد.
"اليمين المصبورة" و"يمين الصبر" - قال القاضي عياض في المشارق 2: 38"من الحبس والقهر"، بمعنى"إلزامها والإجبار عليها".
وقال الخطابي في معالم السنن، رقم: 3115 من تهذيب السنن: "اليمين المصبورة، هي اللازمة لصاحبها من جهة الحكم، فيصبر من أجلها، أي يحبس. وهي يمين الصبر، وأصل الصبر: الحبس. ومن هذا قولهم: قتل فلان صبرًا، أي حبسًا على القتل وقهرًا عليه".(6/533)
7288 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال: إن اليمين الفاجرة من الكبائر. ثم تلا"إنّ الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنًا قليلا".
7289 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، أن عبد الله بن مسعود كان يقول: كنا نَرى ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ من الذنب الذي لا يُغفر: يمين الصَّبر، إذا فجر فيها صاحبها. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 7289- هذا إسناد مرسل. فإن قتادة لم يدرك ابن مسعود. ولد بعد موته بنحو 29 سنة.
والحديث لم أجده إلا عند السيوطي 2: 46 ونسبه لابن جرير فقط.(6/534)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
القول في تأويل قوله: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإنّ من أهل الكتاب = وهم اليهود الذين كانوا حَوالي مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم على عهده، من بني إسرائيل.
* * *
و"الهاء والميم" في قوله:"منهم"، عائدة على"أهل الكتاب" الذين ذكرهم في قوله:"ومن أهل الكتاب مَنْ إن تأمنه بقنطار يؤدّه إليك".
وقوله ="لفريقًا"، يعني: جماعة (1) ="يلوون"، يعني: يحرِّفون ="ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب"، يعني: لتظنوا أن الذي يحرّفونه بكلامهم من كتاب الله وتنزيله. (2) يقول الله عز وجل: وما ذلك الذي لوَوْا به ألسنتهم فحرّفوه وأحدثوه من كتاب الله، (3) ويزعمون أن ما لووا به ألسنتهم من التحريف والكذب والباطل فألحقوه في كتاب الله ="من عند الله"، يقول: مما أنزله الله على أنبيائه ="وما هو من عند الله"، يقول: وما ذلك الذي لووا به ألسنتهم فأحدثوه، مما أنزله الله إلى أحد من أنبيائه، ولكنه مما أحدثوه من قِبَل أنفسهم افتراء على الله.
= يقول عز وجل:"ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون"، يعني بذلك: أنهم يتعمدون قِيلَ الكذب على الله، والشهادة عليه بالباطل، والإلحاقَ بكتاب
__________
(1) انظر تفسير"فريق" فيما سلف 2: 244، 245، ثم 402 / 3: 549.
(2) في المطبوعة"لكلامهم" باللام، ولم يحسن قراءة المخطوطة.
(3) قوله: "وما ذلك. . . من كتاب الله": ليس ذلك. . . من كتاب الله، هذا هو السياق.(6/535)
الله ما ليس منه، طلبًا للرياسة والخسيس من حُطام الدنيا.
* * *
وبنحو ما قلنا في معنى"يلوون ألسنتهم بالكتاب"، قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
7290 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب"، قال: يحرفونه.
7291- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7292 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب"، حتى بلغ:"وهم يعلمون"، هم أعداء الله اليهود، حرَّفوا كتابَ الله، وابتدعوا فيه، وزعموا أنه من عند الله.
7293 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7294 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"وإن منهم لفريقًا يلوون ألسنتهم بالكتاب لتحسبوه من الكتاب"، وهم اليهود، كانوا يزيدون في كتاب الله ما لم ينزل اللهُ.
7295 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"وإن منهم لفريقًا يلوونَ ألسنتهم بالكتاب"، قال: فريقٌ من أهل الكتاب ="يلوون ألسنتهم"، وذلك تحريفهم إياه عن موضعه.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الليّ"، الفَتْل والقلب. من قول القائل:"لوَى(6/536)
فلانٌ يدَ فلان"، إذا فَتلها وقَلبها، ومنه قول الشاعر: (1)
لَوَى يَدَهُ اللهُ الَّذِي هُوَ غَالِبُهْ (2)
يقال منه:"لوى يدَه ولسانه يلوي ليًّا" ="وما لوى ظهر فلان أحد"، إذا لم يصرعه أحدٌ، ولم يَفتل ظهره إنسان ="وإنه لألوَى بعيدُ المستمر"، إذا كان شديد الخصومة، صابرًا عليها، لا يُغلب فيها، قال الشاعر: (3)
فَلَوْ كَانَ فِي لَيْلَى شَدًا مِنْ خُصُومَةٍ ... لَلَوَّيْتُ أَعْنَاقَ الخُصُومِ المَلاوِيَا (4)
* * *
__________
(1) هو فرعان بن الأعرف السعدي التميمي، ويقال: فرعان بن أصبح بن الأعرف.
(2) كتاب العققة لأبي عبيدة (نوادر المخطوطات: 7) ص: 360، الحماسة 3: 10، معجم الشعراء: 317، العيني بهامش الخزانة 2: 398، واللسان (لوى) وسيأتي بتمامه في التفسير 15: 160 (بولاق) ، وغيرها، أبيات يقولها فرعان بن الأعرف في ابنه منازل، وكان عق أباه وضربه، لأنه تزوج على أمه امرأة شابة، فغضب لأمه، ثم استاق مال أبيه واعتزل مع أمه، فقال فيه: جَزَتْ رَحِمٌ بَيْني وَبَيْنَ مُنَازِلٍ ... جَزَاءً، كَمَا يَسْتَنْزِلُ الدَّيْنَ طالِبُهْ
وَمَا كُنْتُ أَخْشَى أنْ يَكُونَ منازلٌ ... عَدُوّي، وَأَدْنَى شَانِئٍ أَنَا رَاهِبُهْ
حَمَلْتُ عَلَى ظَهْرِي، وفَدَّيْتُ صَاحِبي ... صَغِيرًا، إلَى أَنْ أَمْكَنَ الطَّرَّ شَارِبُهْ
وَأَطْعَمْتُه، حَتَّى إِذَا صَارَ شَيْظَمًا ... يَكادُ يُسَاوِي غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ
تَخَوّنَ مالِي ظَالِمًا، وَلَوَى يَدِي! ... لَوَى يَدَه اللهُ الَّذِي هُو غَالِبُهْ
من أبيات كثيرة، فيقال: إن منازلا، أصبح وقد لوى الله يده. ثم ابتلاه الله بابن آخر عقه كما عق أباه، واستاق ماله، فقال فيه: تَظَلَّمَنِي مَالِي خَليجٌ وعَقَّنِي ... عَلَى حِينَ كَانَتْ كالحَنيِّ عظامي
في أبيات. وقد أتم البيت أبو جعفر في التفسير بعد، وصدره هناك: "تظلمني مالي كذا، ولوى يدي". وهي إحدى الروايات فيه.
(3) هو مجنون بني عامر.
(4) ليس في ديوانه، وهو في الأغاني 2: 38، مع أبيات، واللسان (شدا) ، (شذا) ، (لوى) ، وغيرها، وقبله: يَقُولُ أُنَاسٌ: عَلَّ مَجْنُونَ عَامِرٍ ... يَرُومُ سُلُوًّا! قُلْتُ: إِنِّي لِمَا بِيَا
وَقَدْ لاَمَنِي في حُبِّ لَيْلَى أَقَارِبِي ... أَخِي، وَابْنُ عَمِّي، وَابنُ خَالِي، وَخَالِيَا
يَقُولُونَ: لَيْلَى أَهْلُ بَيْتِ عَدَاوة!! ... بِنَفْسِي لَيْلَى من عَدُوٍّ ومَالِيَا
ورواية اللسان وغيره: "أعناق المطى"، ورواية صاحب الأغاني"أعناق الخصوم" كما رواها أبو جعفر، ولكن من سوء صنيع ناشري الأغاني أنهم خالفوا أصول الأغاني جميعًا، لرواية أخرى، مع صحة الرواية التي طرحوها، وهي رواية أبي جعفر وأبي الفرج، وقوله: "شدًا من خصومة"، ويروى"شذًا من خصومة". والشذا: حد كل شيء. ومن معانيه أيضًا طرف من الشيء، أو بقية منه. و"الملاوي" جمع"ملوى" مصدر ميمي من"لوى". يقول: لو خاصموني في ليلى خصومة حديدة، لفتلت أعناقهم حتى أذهب بأرواحهم. وأما رواية"المطى" مكان"الخصوم"، وهي رواية ابن الأعرابي، فكأنه يقول: لو علمت في ليلى بعض ما يقولون من الخصومة والعداوة لأهلي وعشيرتي، لأعرضت عنها إعراض من يأنف لعشيرته ويحمى لها غضبًا وحفيظة، ولفارقتها.(6/537)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79)
القول في تأويل قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما ينبغي لأحد من البشر.
* * *
و"البشر" جمع بني آدم لا واحد له من لفظه مثل:"القوم" و"الخلق". وقد يكون اسمًا لواحد ="أن يؤتيه الله الكتاب" يقول: أن ينزل الله عليه كتابه ="والحكم" يعني: ويعلمه فصْل الحكمة ="والنبوة"، يقول: ويعطيه النبوّة ="ثم يقول للناس كونوا عبادًا لي من دون الله"، يعني: ثم يدعو الناس إلى عبادة نفسه دون الله، وقد آتاه الله ما آتاه من الكتاب والحكم والنبوة. ولكن إذا آتاه الله ذلك، فإنما يدعوهم إلى العلم بالله، ويحدوهم على معرفة شرائع دينه، وأن يكونوا رؤساء في المعرفة بأمر الله ونهيه، وأئمةً في طاعته وعبادته، بكونهم معلِّمي الناس الكتاب، وبكونهم دَارِسيه. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"آتي" و"الحكم"، و"النبوة" فيما سلف من فهارس اللغة مادة (أتى) (حكم) (نبأ) .(6/538)
وقيل: إنّ هذه الآية نزلت في قوم من أهل الكتاب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أتدعونا إلى عبادتك؟ كما:-
7296 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي = (1) حين اجتمعت الأحبار من اليهود والنصارى من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعاهم إلى الإسلام =: أتريد يا محمد أن نعبدك، كما تعبد النصارَى عيسى ابن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرِّبِّيس: (2) أوَ ذاك تريد منا يا محمد، وإليه تدعونا! أو كما قال = فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: معاذَ الله أن نَعبُد غيرَ الله، أو نأمر بعبادة غيره! ما بذلك بعثني، ولا بذلك أمرني = أو كما قال. فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم: (3) "ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوّة"، الآية إلى قوله:"بعد إذ أنتم مسلمون".
7297- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال أبو رافع القرظي، فذكر نحوه. (4)
7298 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا
__________
(1) أبو رافع القرظي، هو سلام بن أبي الحقيق اليهودي.
(2) في المطبوعة: "الرئيس"، وفي المخطوطة: "الريس" غير منقوطة، وهو في سيرة ابن هشام المطبوعة الأوربية والمصرية: "الربيس" مثل"سكيت" (بكسر الراء وتشديد الباء المكسورة) . وربيس السامرة: هو كبيرهم. وفي التعليقات على سيرة ابن هشام. الطبعة الأوروبية"الريس، والرئيس" معًا، وكأن الصواب هو ما جاء في نص ابن هشام الأول.
(3) في سيرة ابن هشام: "من قولهما"، وهي أجود، ولعل هذه من قلم الناسخ.
(4) الأثران: 7296، 7297- سيرة ابن هشام 2: 202، 203، وهما من تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7223، وفي الطبري اختلاف في قليل من اللفظ.(6/539)
عبادًا لي من دون الله"، يقول: ما كان ينبغي لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوةَ، يأمر عبادَه أن يتخذوه ربًّا من دون الله.
7299 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
7300 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: كان ناس من يهود يتعبَّدون الناسَ من دون ربهم، بتحريفهم كتابَ الله عن موضعه، فقال الله عز وجل:"ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دون الله"، ثم يأمر الناس بغير ما أنزل الله في كتابه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"ولكن" يقول لهم:"كونوا ربانيين"، فترك"القول"، استغناء بدلالة الكلام عليه.
* * *
وأما قوله:"كونوا ربانيين"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناه: كونوا حكماء علماء.
ذكر من قال ذلك:
7301 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين:"كونوا ربانيين"، قال: حكماء علماء.
7302 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن منصور، عن أبي رزين:"كونوا ربانيين"، قال: حكماء علماء.(6/540)
7303 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي رزين مثله.
7304 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي رزين:"ولكن كونوا ربانيين"، حكماء علماء.
7305 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: كونوا فقهاء علماء.
7306 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: فقهاء.
7307 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7308 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني القاسم، عن مجاهد قوله:"ولكن كونوا ربانيين"، قال: فقهاء.
7309 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولكن كونوا ربانيين"، قال: كونوا فقهاء علماء.
7310 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن منصور بن المعتمر، عن أبي رزين في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: علماء حكماء = قال معمر: قال قتادة.
7311 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"كونوا ربانيين"، أما"الربانيون"، فالحكماء الفقهاء.
7312 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا سفيان، عن(6/541)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال:"الربانيون"، الفقهاء العلماء، وهم فوق الأحبار.
7313 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولكن كونوا ربانيين"، يقول: كونوا حكماء فقهاء.
7314 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر بن عمارة، عن أبي حمزة الثمالي، عن يحيى بن عقيل في قوله: (الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ) [سورة المائدة: 63] ، قال: الفقهاء العلماء.
7315 - حدثت عن المنجاب قال، حدثنا بشر، عن أبي روق، عن الضحاك، عن ابن عباس مثله.
7316 - حدثني ابن سنان القزاز قال، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال، حدثنا أبو كدينة، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: كونوا حكماء فقهاء.
7317 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"كونوا ربانيين"، يقول: كونوا فقهاء علماء.
* * *
وقال آخرون: بل هم الحكماء الأتقياء.
ذكر من قال ذلك:
7318 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قوله:"كونوا ربانيين"، قال: حكماء أتقياء.
* * *(6/542)
وقال آخرون: بل هم ولاة الناس وقادتهم.
ذكر من قال ذلك:
7319 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال: أخبرنا ابن وهب قال، سمعت ابن زيد يقول في قوله:"كونوا ربانيين"، قال: الربانيون: الذين يربُّون الناس، ولاة هذا الأمر، يرُبُّونهم: يلونهم. وقرأ: (لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأحْبَارُ) [سورة المائدة: 63] ، قال: الربانيون: الولاة، والأحبار العلماء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في"الربانيين" أنهم جمع"رباني"، وأن"الرباني" المنسوب إلى"الرَّبَّان"، الذي يربُّ الناسَ، وهو الذي يُصْلح أمورهم، و"يربّها"، ويقوم بها، ومنه قول علقمة بن عبدة:
وَكُنْتُ امْرَأً أَفْضَتْ إلَيْكَ رِبَابَتي ... وَقَبْلَكَ رَبَّتْني، فَضِعْتُ، رُبُوبُ (1)
يعني بقوله:"ربتني": ولي أمري والقيامَ به قبلك من يربه ويصلحه، فلم يصلحوه، ولكنهم أضاعوني فضعتُ.
يقال منه:"رَبَّ أمري فلان، فهو يُربُّه رَبًّا، وهو رَابُّه". (2) فإذا أريد به المبالغة في مدْحه قيل:"هو ربّان"، كما يقال:"هو نعسان" من قولهم:"نعَس يَنعُس". وأكثر ما يجيء من الأسماء على"فَعْلان" ما كان من الأفعال ماضيه على"فَعِل" مثل قولهم:"هو سكران، وعطشان، وريان" من"سَكِر يسكَر، وعطِش يعطَش، ورَوي يرْوَى". وقد يجيء مما كان ماضيه على"فَعَل يَفعُل"، نحو ما قلنا من"نَعَس يَنعُس" و"ربَّ يَرُبّ".
فإذا كان الأمر في ذلك على ما وصفنا = وكان"الربَّان" ما ذكرنا،
__________
(1) سلف البيت وتخريجه وشرحه في 1: 142.
(2) انظر تفسير"رب" فيما سلف 1: 141، 142.(6/543)
و"الربّاني" هو المنسوب إلى من كان بالصفة التي وصفتُ = وكان العالم بالفقه والحكمة من المصلحين، يَرُبّ أمورَ الناس، بتعليمه إياهم الخيرَ، ودعائهم إلى ما فيه مصلحتهم = وكان كذلك الحكيمُ التقيُّ لله، والوالي الذي يلي أمور الناس على المنهاج الذي وَليه المقسطون من المصْلحين أمورَ الخلق، بالقيام فيهم بما فيه صلاحُ عاجلهم وآجلهم، وعائدةُ النفع عليهم في دينهم، ودنياهم = كانوا جميعًا يستحقون أن [يكونوا] ممن دَخل في قوله عز وجل:"ولكن كونوا ربانيين". (1)
ف"الربانيون" إذًا، هم عمادُ الناس في الفقه والعلم وأمور الدين والدنيا. ولذلك قال مجاهد:"وهم فوق الأحبار"، لأن"الأحبارَ" هم العلماء، و"الرباني" الجامعُ إلى العلم والفقه، البصرَ بالسياسة والتدبير والقيام بأمور الرعية، وما يصلحهم في دُنياهم ودينهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز وبعض البصريين: (بِمَا كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) بفتح"التاء" وتخفيف"اللام"، يعني: بعلمكم الكتابَ ودراستكم إياه وقراءتكم.
__________
(1) في المطبوعة: "كانوا جميعًا مستحقين أنهم ممن دخل في قوله ... "، وهي عبارة سقيمة غير المخطوطة كما شاء. وفي المخطوطة: "كانوا جميعًا مستحقون أن ممن دخل في قوله ... "، وظاهر أن الناسخ جعل"يستحقون"، "مستحقون"، وهو خطأ في الإعراب، وسقط من عجلته قوله: "يكونوا"، فزدتها بين القوسين، فاستقام الكلام.
(2) هذا التفسير قل أن تجده في كتاب من كتب اللغة، وهو من أجود ما قرأت في معنى"الرباني"، وهو من أحسن التوجيه في فهم معاني العربية، والبصر بمعاني كتاب الله. فرحم الله أبا جعفر رحمة ترفعه درجات عند ربه.(6/544)
واعتلُّوا لاختيارهم قراءة ذلك كذلك، بأن الصواب = كذلك، لو كان التشديد في"اللام" وضم"التاء" = لكان الصواب في:"تدرسون"، بضم"التاء" وتشديد"الراء". (1)
* * *
وقرأ ذلك عامة قرأة الكوفيين: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) بضم"التاء" من"تعلمون"، وتشديد"اللام"، بمعنى: بتعليمكم الناسَ الكتابَ ودراستكم إياه.
واعتلوا لاختيارهم ذلك، بأن مَنْ وصفهم بالتعليم، فقد وصفهم بالعلم، إذ لا يعلِّمون إلا بعد علمهم بما يعلِّمون. قالوا: ولا موصوف بأنه"يعلم"، إلا وهو موصوف بأنه"عالم". قالوا: فأما الموصوف بأنه"عالم"، فغير موصوف بأنه معلِّم غيره. قالوا: فأولى القراءتين بالصواب أبلغهما في مدح القوم، وذلك وصفهم بأنهم كانوا يعلمون الناسَ الكتابَ، كما:-
7320 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن ابن عيينة، عن حميد الأعرج، عن مجاهد أنه قرأ:"بما كنتم تَعلَمون الكتابَ وبما كنتم تَدْرسون"، مخففةً بنصب"التاء" = وقال ابن عيينة: ما علَّموه حتى علِموه!
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك، قراءة من قرأه بضم"التاء" وتشديد"اللام". لأن الله عز وجل وصف القوم بأنهم أهل عمادٍ للناس في دينهم ودنياهم، وأهل إصلاح لهم ولأمورهم وتربية.
يقول جل ثناؤه:"ولكن كونوا ربانيين"، على ما بينا قبل من معنى"الرباني"،
__________
(1) في المطبوعة: "بأن الصواب لو كان التشديد في اللام ... "، حذف من المخطوطة"كذلك"بعد" بأن الصواب"، وظاهر أن موضع الخطأ هو سقوط"الواو" قبل قوله: "لو كان التشديد". فأثبتها، واستقام الكلام.(6/545)
ثم أخبر تعالى ذكره عنهم أنهم صاروا أهل إصلاح للناس وتربية لهم بتعليمهم إياهم كتابَ ربِّهم.
* * *
= و"دراستهم" إياه: تلاوته. (1)
* * *
وقد قيل:"دراستهم"، الفقه.
* * *
وأشبه التأويلين بالدراسة ما قلنا: من تلاوة الكتاب، لأنه عطف على قوله:"تعلمون الكتاب"،"والكتاب" هو القرآن، فلأنْ تكون الدراسة معنيًّا بها دراسة القرآن، أولى من أن تكون معنيًّا بها دراسة الفقه الذي لم يجرِ له ذكرٌ.
ذكر من قال ذلك: (2)
7321 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، قال يحيى بن آدم قال، أبو زكريا: كان عاصم يقرأها: (بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ) ، قال: القرآن = (وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) ، قال: الفقه.
* * *
فمعنى الآية: ولكن يقول لهم: كونوا، أيها الناس، سادة الناس، وقادتهم في أمر دينهم ودنياهم، ربَّانيِّين بتعليمكم إياهم كتاب الله وما فيه من حلال وحرام، وفرض وندب، وسائر ما حواه من معاني أمور دينهم، وبتلاوتكم إياه ودراسَتِكموه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "ودراستهم إياه وتلاوته"، بزيادة الواو قبل"تلاوته" والسياق بين في أنه يفسر معنى"الدراسة"، وأنهما تأويلان، كما سيأتي، فحذفت الواو، وفصلت بين الكلامين.
(2) أنا أرتاب في سياق هذا الموضع من التفسير، وأخشى أن يكون سقط من النساخ شيء.(6/546)
وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
القول في تأويل قوله: {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة قوله:"ولا يأمركم".
فقرأته عامة قرأة الحجاز والمدينة: (وَلا يَأْمُرُكُمْ) ، على وجه الابتداء من الله بالخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لا يأمركم، أيها الناس، أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. واستشهد قارئو ذلك كذلك بقراءة ذكروها عن ابن مسعود أنه كان يقرؤها، وهي: (" وَلَنْ يَأْمُرَكُمْ ") ، فاستدلوا بدخول"لن"، على انقطاع الكلام عما قبله، وابتداء خبر مستأنف. قالوا: فلما صير مكان"لن" في قراءتنا"لا"، وجبت قراءَته بالرفع. (1)
* * *
وقرأه بعض الكوفيين والبصريين: (وَلا يَأْمُرَكُمْ) ، بنصب"الراء"، عطفًا على قوله:"ثم يقولَ للناس". وكان تأويله عندهم: ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب، ثم يقولَ للناس، ولا أن يأمرَكم = بمعنى: ولا كان له أن يأمرَكم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك:"ولا يأمرَكم"، بالنصب على الاتصال بالذي قبله، بتأويل: (2) ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتابَ والحكمَ والنبوةَ، ثم يقولَ للناس كونوا عبادًا لي من دون الله = ولا أنْ يأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا. لأن الآية نزلت في سبب القوم الذين قالوا لرسول
__________
(1) هذا وجه ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 224، 225.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "بتأول"، والسياق يقتضي ما أثبت.(6/547)
الله صلى الله عليه وسلم: (1) "أتريد أن نعبدك"؟ فأخبرهم الله جل ثناؤه أنه ليس لنبيّه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناسَ إلى عبادة نفسه، ولا إلى اتخاذ الملائكة والنبيين أربابًا. ولكن الذي له: أنْ يدعوهم إلى أن يكونوا ربانيين.
* * *
فأما الذي ادَّعى من قرأ ذلك رفعًا، (2) أنه في قراءة عبد الله:"ولن يأمركم" استشهادًا لصحة قراءته بالرفع، فذلك خبر غيرُ صحيح سَنَده، وإنما هو خبر رواه حجاج، عن هارون الأعور (3) أنّ ذلك في قراءة عبد الله كذلك. ولو كان ذلك خبرًا صحيحًا سنده، لم يكن فيه لمحتجٍّ حجة. لأن ما كان على صحته من القراءة من الكتاب الذي جاءَ به المسلمون وراثةً عن نبيهم صلى الله عليه وسلم، لا يجوز تركه لتأويلٍ على قراءة أضيفت إلى بعض الصحابة، (4) بنقل من يجوز في نقله الخطأ والسهو.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "في سب القوم.."، وهو باطل المعنى، ولم يحسن قراءة المخطوطة، لأنها غير منقوطة، يعني بقوله: "في سب القوم ... "، من جراء القوم وبسبب قولهم ما قالوا.
(2) يعني الفراء كما أسلفنا في التعليق رقم: 1، ص: 547.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: ". . . عن هارون لا يجوز أن ذلك ... "، وهو كلام بلا معنى، جعل الناشرين الأولين للتفسير يكتبون في وجوه تأويلها وتصويبها خلطًا لا معنى له أيضًا، والصواب ما أثبت. وهذا من التصحيف الغريب في نسخ النساخ.
وحجاج، هو: "حجاج بن محمد المصيصي الأعور" سكن بغداد، ثم تحول إلى المصيصة قال أحمد: "ما كان أضبطه وأشد تعاهده للحروف" ورفع أمره جدًا. كان ثقة صدوقًا، ثم تحول من المصيصة فعاد إلى بغداد في حاجة له، فمات بها سنة 206، وعند مرجعه هذا إلى بغداد كان قد تغير وخلط، فرآه يحيى بن معين، فقال لابنه: "لا تدخل عليه أحدًا"، ولكن روى الحافظ في ترجمة سنيد ابن داود ما يدل على أن حجاجًا قد حدث في حال اختلاطه، حتى ذكره أبو العرب القيرواني في الضعفاء، لسبب الاختلاط. وأخشى أن يكون الطبري، إنما أشار إلى هذا، وإلى رواية سنيد عنه في حال اختلاطه، فقال إن إسناده غير صحيح، لأنه من رواية سنيد عنه.
وأما "هارون الأعور" فهو: "هارون بن موسى أبو عبد الله الأعور العتكي" علامة صدوق نبيل، له قراءة معروفة. وهو من الثقات. وكلاهما مترجم في التهذيب، وفي الطبقات القراء لابن الجزري.
(4) في المطبوعة: "لتأويل نحو قراءة ... "، وهي عبارة مريضة، وسبب ذلك أنه لم يحسن قراءة"على" لسوء حظ الناسخ، فكتبها"نحو"، فمرضت العبارة.(6/548)
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وما كان للنبي أن يأمركم، أيها الناس، (1) "أن يتخذوا الملائكة والنبيين أربابًا" = يعني بذلك آلهة يعبدون من دون الله =، كما ليس له أن يقول لهم: كونوا عبادًا لي من دون الله.
* * *
ثم قال جل ثناؤه = نافيًا عن نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأمرَ عباده بذلك =:"أيأمُركم بالكفر"، أيها الناس، نبيُّكم، بجحود وحدانية الله ="بعد إذ أنتم مسلمون"، يعني: بعد إذ أنتم له منقادون بالطاعة، متذللون له بالعبودة = (2) أي أن ذلك غير كائن منه أبدًا. وقد:-
7322 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال:"ولا يأمركم" النبيُّ صلى الله عليه وسلم ="أن تتخذوا الملائكة والنبيين أربايًا".
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "وما كان للنبي أن يأمر الناس أن يتخذوا ... "، وهي عبارة مستقيمة المعنى، أما المخطوطة فقد كانت فيها عجيبة من عجائب التصحيف - وقد كثر تصحيف الناسخ في هذا الموضع كما ترى وذلك أنه كتب: "وما كان للنبي أن يأمر كما نهى الناس"، وصل ألف"أيها" بالميم في"يأمركم"، ثم قرأ"يها" من"أيها"، "نهى"، وكتبها كذلك. وكأن الناسخ كان قد تعب وكل، فكل مع كلالة ذهنه. وجاء الناشر، فلم يجد لذلك معنى فحذفه. كل هو أيضًا من كثرة تصحيف الناسخ!!
(2) في المطبوعة: "بالعبودية"، وأثبت ما في المخطوطة، ولم يدع الناشر كلمة"العبودة" إلا جعلها"العبودية" في كل ما سلف. انظر آخر تعليق على ذلك ص: 404، تعليق: 2.(6/549)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81)
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا، يا أهل الكتاب،"إذ أخذ الله ميثاق النبيين"، يعني: حين أخذ الله ميثاق النبيين ="وميثاقهم"، ما وثقوا به على أنفسهم طاعةَ الله فيما أمرهم ونهاهم.
* * *
وقد بينا أصل"الميثاق" باختلاف أهل التأويل فيه، بما فيه الكفاية. (1)
* * *
=:"لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، (2) فاختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق (لَمَا آتَيْتُكُمْ) بفتح"اللام" من"لما"، إلا أنهم اختلفوا في قراءة:"آتيتكم".
فقرأه بعضهم:"آتيتكم" على التوحيد.
وقرأه آخرون: (آتينَاكم) على الجمع.
* * *
ثم اختلف أهل العربية إذا قرئ ذلك كذلك.
فقال بعض نحويي البصرة:"اللام" التي مع"ما" في أول الكلام"لام الابتداء"، نحو قول القائل:"لزيدٌ أفضل منك"، لأن"ما" اسم، والذي بعدها صلة لها، (3) "واللام" التي في:"لتؤمنن به ولتنصرنه"، لام القسم، كأنه قال: والله لتؤمنن به = يؤكد في أول الكلام وفي آخره، كما يقال:"أما والله أن لو جئتني
__________
(1) انظر ما سلف 1: 414 / 2: 156، 157، 288.
(2) في المطبوعة: "اختلفت"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة: "لأن لما اسم ... "، وهو جيدًا أيضًا وتركت ما في المطبوعة على حاله.(6/550)
لكان كذا وكذا"، وقد يستغنى عنها. فوكَّد في:"لتؤمنن به"، باللام في آخر الكلام. (1) وقد يستغنى عنها، ويجعل خبر"ما آتيتكم من كتاب وحكمة""لتؤمنن به". مثل:"لعبد الله والله لتأتينَّه". (2) قال: وإن شئت جعلت خبر"ما""من كتاب"، يريد: لما آتيتكم، كتابٌ وحكمة = وتكون"من" زائدة.
* * *
وخطّأ بعضُ نحويي الكوفيين ذلك كله وقال:"اللام" التي تدخل في أوائل الجزاء، تجابُ بجوابات الأيمان، يقال:"لَمَن قام لآتينّه"،"ولَمَن قام ما أحسن"، (3) فإذا وقع في جوابها"ما" و"لا"، علم أن اللام ليست بتوكيد للأولى، لأنه يوضع موضعها"ما" و"لا"، فتكون كالأولى، (4) وهي جواب للأولى. قال: وأما قوله:"لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، بمعنى إسقاط"من"، غلطٌ. لأن"منْ" التي تدخل وتخرج، لا تقع مواقع الأسماء، قال: ولا تقع في الخبر أيضًا، إنما تقع في الجحد والاستفهام والجزاء. (5)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل هذه الآية - على قراءة من قرأ ذلك بفتح"اللام" - بالصواب: أن يكون قوله:"لما" بمعنى"لمهما"، وأن تكون"ما" حرف جزاء أدخلت عليها"اللام"، وصيِّر الفعل معها على"فَعَل"، (6) ثم
__________
(1) في المطبوعة: "فيؤكد في لتومنن به"، والصواب ما في المخطوطة. و"وكد" و"أكد" واحد.
(2) في المطبوعة: "لا يأتينه"، والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "اللام التي تدخل في أوائل الجزاء لا تجاب بما ولا لا"، فلا يقال: لمن قام لا تتبعه، ولا: لمن قام ما أحسن"، أحدثوا في نص المخطوطة تغييرًا تامًا. فاضطرب الكلام اضطرابًا شديدًا، واختلفت معانيه.
(4) يعني"ما" و"لا" التي يتلقى بها القسم.
(5) انظر ذلك فيما سلف 2: 126، 127، 442، 470.
(6) قوله: "على فعل"، يعني على الفعل الماضي، لا المضارع.(6/551)
أجيبت بما تجاب به الأيمان، فصارت"اللام" الأولى يمينًا، إذ تُلقِّيت بجواب اليمين.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (لِمَا آتَيْتكُمْ) "بكسر"اللام" من"لما"، وذلك قراءة جماعة من أهل الكوفة.
* * *
ثم اختلف قارئو ذلك كذلك في تأويله.
فقال بعضهم: معناه إذا قرئ كذلك: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين للذي آتيتكم = فـ"ما" على هذه القراءة. بمعنى"الذي" عندهم. وكان تأويل الكلام: وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين من أجل الذي آتاهم من كتاب وحكمة = ثم"جاءكم رسول"، يعني: ثم إنْ جاءكم رسول، يعني: ذكر محمد في التوراة ="لتؤمنن به"، أي: ليكونن إيمانكم به، للذي عندكم في التوراة من ذكره.
* * *
وقال آخرون منهم: تأويل ذلك إذا قرئ بكسر"اللام" من"لما": وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين، للذي آتاهم من الحكمة. ثم جعل قوله:"لتؤمنن به" من الأخذِ أخذِ الميثاق. كما يقال في الكلام:"أخذتُ ميثاقك لتفعلن". لأن أخذ الميثاق بمنزلة الاستحلاف. فكان تأويل الكلام عند قائل هذا القول: وإذ استحلف الله النبيين للذي آتاهم من كتاب وحكمة، متى جاءهم رسولٌ مصدق لما معهم، ليؤمننّ به ولينصرنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءةُ من قرأ:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم"، بفتح"اللام". لأن الله عز وجل أخذ ميثاقَ جميع الأنبياء بتصديق كل رسول له ابتعثه إلى خلقه فيما ابتعثه به إليهم، كان ممن آتاه كتابًا أو ممن لم يؤته كتابًا. وذلك أنه غير جائز وصف أحد من أنبياء الله عز وجل ورسله، بأنه كان ممن أبيح له التكذيب بأحد من رسله. فإذْ كان ذلك(6/552)
كذلك، وكان معلومًا أن منهم من أنزل عليه الكتابَ، وأنّ منهم من لم ينزل عليه الكتاب = كان بينًا أن قراءة من قرأ ذلك:"لمِا آتيتكم"، بكسر"اللام"، بمعنى: من أجل الذي آتيتكم من كتاب، لا وجه له مفهومٌ إلا على تأويل بعيد، وانتزاع عميق.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن أخذ ميثاقه بالإيمان بمن جاءه من رُسل الله مصدّقًا لما معه.
فقال بعضهم: إنما أخذ الله بذلك ميثاقَ أهل الكتاب دون أنبيائهم. واستشهدوا لصحة قولهم بذلك بقوله:"لتؤمنن به ولتنصرنه". قالوا: فإنما أمر الذين أرسلت إليهم الرّسل من الأمم بالإيمان برسل الله ونُصْرتها على من خالفها. وأما الرسل، فإنه لا وجه لأمرها بنصرة أحد، لأنها المحتاجةُ إلى المعونة على من خالفها من كفَرة بني آدم. فأما هي، فإنها لا تعين الكفرة على كفرها ولا تنصرها. قالوا: وإذا لم يكن غيرُها وغيرُ الأمم الكافرة، فمن الذي ينصر النبي، فيؤخذ ميثاقه بنصرته؟
ذكر من قال ذلك:
7323 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذ أخذَ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، قال: هي خطأ من الكاتب، وهي في قراءة ابن مسعود:"وإذ أخذَ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب". (1)
__________
(1) بمثل هذا الأثر، يستدل من يستدل من جهله المستشرقين وأشياعهم، على الخطأ والتحريف في كتاب الله المحفوظ. وهم لم يكونوا أول من قال به، بل سبقهم إليه أسلافهم من غلاة الرافضة وأشباههم من الملحدة. ولم يقصر علماء أهل الإسلام في بيان ما قالوه، وفي تعقب آرائهم وبيان فسادها، ووهن حجتها. ومن أعظم ما قرأت في ذلك، كتاب"الانتصار لنقل القرآن"، للقاضي الباقلاني، وهو كتاب مخطوط لا يزال، وهي في ملك أخي السيد أحمد صقر، وهو أمين على نشره. وقد عقد القاضي بابًا، بل أبوابًا، في تعلق القائلين بذلك، بالشواذ من القراءات، والزيادات المروية عن السلف رواية الآحاد، وكشف عن فساد تعلقهم بذلك فيما راموه من الطعن في نقل المصحف. وقد أطال في ذلك واستوعب، وذكرها مفصلة، وذكر الروايات التي رويت في ذلك. ومما قال في باب منه: "وأما نحن، وإن كنا نوثق جميع من ذكرنا من السلف وأتباعهم، فإنا لا نعتقد تصديق جميع ما يروى عنهم، بل نعتقد أن فيه كذبًا كثيرًا قد قامت الدلالة على أنه موضوع عليهم، وأن فيه ما يمكن أن يكون حقًا عنهم، وما يمكن أن يكون باطلا، ولا يثبت عليهم من طريق العلم البتات، بأخبار الآحاد. وإذا كان ذلك كذلك، وكانت هذه القراءات والكلمات المروية عن جماعة منهم، المخالفة لما في مصحفنا، مما لا نعلم صحتها وثبوتها، وكنا مع ذلك نعلم اجتماعهم على تسليم مصحف عثمان، وقراءتهم وإقراءهم ما فيه، والعمل به دون غيره = لم يجب أن نحفل بشيء من هذه الروايات عنهم، لأجل ما ذكرنا".
قلت: والقول الذي ذكره مجاهد، أنه: "خطأ من الكاتب"، إنما عنى به أن قراءة ابن مسعود هي القراءة التي كانت في العرضة الأخيرة، وأن الكاتب كتب القراءة التي كانت قبل العرضة الأخيرة، وأنه كان عليه أن يكتب ما كان في العرضة الأخيرة، فأخطأ وكتب القراءة الأولى. ولم يرد بقوله: "خطأ من الكاتب"، أنه وضع ذلك من عند نفسه. كيف؟ والقرآن متلقى بالرواية والوراثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا بما هو مكتوب في الصحف!! هذا بيان قد تعجلته، ولتفصيل هذا موضع غير الذي نحن فيه.(6/553)
7324 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7325 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين"، يقول: وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب، وكذلك كان يقرؤها الربيع:"وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب"، إنما هي أهل الكتاب. (1) قال: وكذلك كان يقرأها أبي بن كعب. قال الربيع: ألا ترى أنه يقول:"ثم جاءكم رسولٌ مصدقٌ لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه؟ يقول: لتؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم ولتنصرنه. قال: هم أهل الكتاب.
* * *
وقال آخرون: بل الذين أخذ ميثاقهم بذلك، الأنبياءُ دون أممها.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "إنما هي أهل الكتاب"، ولها وجه ضعيف، والصواب ما أثبت.(6/554)
7326 - حدثني المثنى وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: إنما أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم.
7327 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين"، أن يصدّق بعضُهم بعضًا.
7328 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم" الآية، قال: أخذ الله ميثاق الأوَل من الأنبياء، ليصدقن وليؤمنن بما جَاء به الآخِرُ منهم.
7329 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عُمر، (1) عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا، آدمَ فمن بعدَه - إلا أخذ عليه العهدَ في محمد: لئن بعث وهو حيّ ليؤمنن به ولينصرَنّه = ويأمرُه فيأخذ العهدَ على قومه، فقال:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية.
7330 - حدثنا بشر قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب"، الآية: هذا ميثاق أخذه الله على النبيين أن يصدق بعضُهم بعضًا، وأن يبلِّغوا كتاب الله ورسالاته، فبلغت الأنبياء كتاب الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذ عليهم - فيما بلَّغتهم رُسلهم - أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدّقوه وينصروه.
__________
(1) في المطبوعة: "سيف بن عمرو"، والصواب ما أثبت من المخطوطة: "سيف بن عمر التميمي" صاحب كتاب الردة والفتوح. أكثر الطبري الرواية عنه في تاريخه، قال ابن عدي: "بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة لم يتابع عليها". وقال ابن حبان: "يروى الموضوعات عن الأثبات، وقالوا: إنه كان يضع الحديث. اتهم بالزندقة". وقال الحاكم: "اتهم بالزندقة، وهو في الرواية ساقط".(6/555)
7331 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية. قال: لم يبعث الله عز وجل نبيًّا قطُّ من لدُنْ نوح، إلا أخذ ميثاقه ليؤمننّ بمحمد ولينصرنَّه إن خَرَج وهو حيّ، وإلا أخذ على قومه أن يؤمنوا به ولينصرُنَّه إن خَرَج وهم أحياء.
7332 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا عبد الكبير بن عبد المجيد أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور قال، سألت الحسن عن قوله:"وإذ أخذ الله ميثاقَ النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، الآية كلها، قال: أخذ الله ميثاق النبيين: ليبلِّغن آخرُكم أولكم، ولا تختلفوا.
وقال آخرون: معنى ذلك: أنه أخذ ميثاق النبيين وأممهم = فاجتزأ بذكر الأنبياء عن ذكر أممها، لأن في ذكر أخذ الميثاق على المتبوع، دلالةٌ على أخذه على التبَّاع، لأن الأمم هم تُبَّاعُ الأنبياء. (1)
ذكر من قال ذلك:
7333 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ثم ذكر ما أخذ عليهم - يعني على أهل الكتاب - وعلى أنبيائهم من الميثاق بتصديقه - يعني بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم - إذا جاءَهم، وإقرارهم به على أنفسهم. فقال:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة" إلى آخر الآية. (2)
7334 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد
__________
(1) في المطبوعة: "هم تباع الأنبياء"، زاد"هم" بلا ضرورة. والصواب ما في المخطوطة.
(2) الأثران: 7333، 7334- سيرة ابن هشام 2: 203، وهما تتمة الآثار التي آخرها رقم: 7296، 7297.(6/556)
بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: الخبرُ عن أخذ الله الميثاقَ من أنبيائه بتصديق بعضهم بعضًا، وأخذ الأنبياء على أممها وتُبَّاعها الميثاقَ بنحو الذي أخذَ عليها ربُّها من تصديق أنبياء الله ورسله بما جاءتها به لأن الأنبياء عليهم السلام بذلك أرسلت إلى أممها. ولم يدَّع أحدٌ ممن صدَّق المرسلين، أن نبيًّا أرسِل إلى أمة بتكذيب أحد من أنبياء الله عز وجل وحُجَجه في عباده بل كلها = وإن كذب بعض الأمم بعض أنبياء الله، بجحودها نبوّته = مقرّةٌ بأنّ من ثبتت صحّة نبوته، فعليها الدينونة بتصديقه. فذلك ميثاق مقرٌّ به جميعهم.
* * *
ولا معنى لقول من زعم أن الميثاق إنما أخذ على الأمم دون الأنبياء. لأن الله عز وجل قد أخبر أنه أخذ ذلك من النبيين، فسواءٌ قال قائل:"لم يأخذ ذلك منها ربها" أو قال:"لم يأمرها ببلاغ ما أرسلت"، وقد نصّ الله عز وجل أنه أمرها بتبليغه، لأنهما جميعًا خبرَان من الله عنها: أحدهما أنه أخذ منها، والآخر منهما أنه أمرَها. فإن جاز الشك في أحدهما، جازَ في الآخر.
* * *
وأما ما استشهد به الربيع بن أنس، على أن المعنيَّ بذلك أهلُ الكتاب من قوله:"لتؤمنن به ولتنصرنه"، فإن ذلك غير شاهد على صحة ما قال. لأن الأنبياء قد أمر بعضُها بتصديق بعض، وتصديقُ بعضها بعضًا، نُصرةٌ من بعضها بعضًا.
* * *
تم اختلفوا في الذين عُنوا بقوله:"ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه".
فقال بعضهم: الذين عنوا بذلك، هم الأنبياء، أخذت مواثيقهم أن يصدّق(6/557)
بعضهم بعضًا وأن ينصروه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عمن قاله. (1)
* * *
وقال آخرون: هم أهل الكتاب، أمروا بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه الله وبنصرته، وأخذ ميثاقهم في كتبهم بذلك. وقد ذكرنا الرواية بذلك أيضًا عمن قاله. (2)
* * *
وقال آخرون = ممن قال: الذين عُنوا بأخذ الله ميثاقهم منهم في هذه الآية هم الأنبياء = قوله:"ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم"، معنيٌّ به أهل الكتاب.
ذكر من قال ذلك:
7335 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة"، قال أخذَ الله ميثاق النبيين أن يصدّق بعضهم بعضًا، ثم قال:"ثم جاءكم رسولٌ مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه"، قال: فهذه الآية لأهل الكتاب، أخذ الله ميثاقهم أن يؤمنوا بمحمد ويصدِّقوه.
7336 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه قال، قال قتادة: أخذ الله على النبيين ميثاقهم: أن يصدق بعضهم بعضًا، وأن يبلغوا كتابَ الله ورسالتَه إلى عباده، فبلَّغت الأنبياء كتابَ الله ورسالاته إلى قومهم، وأخذوا مواثيقَ أهل الكتاب - في كتابهم، فيما بلَّغتهم رسلهم -: أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ويصدّقوه وينصروه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب عندنا في تأويل هذه الآية: أنّ جميع ذلك خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم به، وألزمهم دعاء أممها
__________
(1) انظر ما سلف من رقم: 7326-7332.
(2) انظر ما سلف من رقم: 7323-7325.(6/558)
إليه، (1) والإقرار به. لأن ابتداء الآية خبرٌ من الله عز وجل عن أنبيائه أنه أخذ ميثاقهم، ثم وصف الذي أخذ به ميثاقهم فقال: هو كذا وهو كذا.
وإنما قلنا إنّ ما أخبر الله أنه أخذ به مواثيق أنبيائه من ذلك، قد أخذت الأنبياءُ مواثيق أممها به، لأنها أرسلت لتدعو عبادَ الله إلى الدينونة بما أمرت بالدينونة به في أنفسها، من تصديق رسل الله، على ما قدمنا البيانَ قبل.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية: واذكرُوا يا معشرَ أهل الكتاب، إذ أخذَ الله ميثاق النبيين لَمَهْما آتيتكم، أيها النبيون، من كتاب وحكمة، ثم جاءكم رسول من عندي مصدق لما معكم، لتؤمنن به = يقول: لتصدقنه = ولتنصرنه.
* * *
وقد قال السديّ في ذلك بما:-
7337 - حدثنا به محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"لما آتيتكم"، يقول لليهود: أخذت ميثاقَ النبيين بمحمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي ذكر في الكتاب عندكم.
* * *
فتأويل ذلك على قول السدّي الذي ذكرناه: واذكروا، يا معشر أهل الكتاب، إذ أخذ الله ميثاق النبيين بما آتيتكم، أيها اليهود، من كتاب وحكمة. (2)
وهذا الذي قاله السدي كان تأويلا له وجهٌ، (3) لو كان التنزيل:"بما آتيتكم"، ولكن التنزيل باللام"لما آتيتكم". وغير جائز في لغة أحد من العرب أن يقال:"أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم"، بمعنى: بما آتيتكم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "دعاء أممهم"، وفي المخطوطة"أممها" كما أثبته، والمخالفة بين الضمائر في هذا الموضع سياق صحيح، فرددتها إلى أصل المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "لما آتيتكم" باللام، والسياق دال على خلافه، وعلى صواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "كان تأويلا لا وجه غيره"، وهو تصويب لما جاء في المخطوطة: "كان تأويلا لا وجه له"، وهي عبارة لا تستقيم. ورأيت أن الناسخ عجل فكتب"لا وجه له" مكان"له وجه"، فرددتها إلى هذا، وخالفت المطبوعة.(6/559)
القول في تأويل قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين بما ذكر، فقال لهم تعالى ذكره: أأقررتم بالميثاق الذي واثقتموني عليه: (1) من أنكم مهما أتاكم رسولٌ من عندي مصدق لما معكم ="لتؤمنن به ولتنصرنه" ="وأخذتم على ذلك إصري"؟ يقول: وأخذتم = على ما واثقتموني عليه من الإيمان بالرسل التي تأتيكم بتصديق ما معكم من عندي والقيام بنصرتهم ="إصري". يعني عهدي ووصيتي، وقبلتم في ذلك منّي ورضيتموه.
* * *
و"الأخذ": هو القبول - في هذا الموضع - والرّضى، من قولهم:"أخذ الوالي عليه البيعة"، بمعنى: بايعه وقبل ولايته ورَضي بها.
* * *
وقد بينا معنى"الإصر" باختلاف المختلفين فيه، والصحيح من القول في ذلك فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
وحذفت"الفاء" من قوله:"قال أأقررتم"، لأنه ابتداء كلام، على نحو ما قد بينا في نظائره فيما مضى. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "أقررتم ... " بحذف ألف الاستفهام، وهو فساد.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء: 6: 135-138.
(3) انظر ما سلف 2: 183.(6/560)
وأما قوله:"قالوا أقررنا"، فإنه يعني به: قال النبيون الذين أخذ الله ميثاقهم بما ذكر في هذه الآية: أقرَرْنا بما ألزمتنا من الإيمان برسلك الذين ترسلهم مصدّقين لما معنا من كتبك، وبنصرتهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قال الله: فاشهدوا، أيها النبيون، بما أخذتُ به ميثاقكم من الإيمان بتصديق رسلي التي تأتيكم بتصديق ما معكم من الكتاب والحكمة، ونُصرتهم على أنفسكم وعلى أتباعكم من الأمم إذ أنتم أخذتم ميثاقهم على ذلك، وأنا معكم من الشاهدين عليكم وعليهم بذلك، كما:-
7338 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، قال، أخبرنا سيف بن عمر، (1) عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب في قوله:"قال فاشهدوا"، يقول: فاشهدوا على أممكم بذلك ="وأنا معكم من الشاهدين"، عليكم وعليهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة هنا أيضًا"سيف بن عمرو"، مخالفًا لما في المخطوطة وهو الصواب. وقد سلف تصويب ذلك في الأثر رقم: 7329. وسيأتي خطأ فيما يلي، في مواضع كثيرة، سوف أصححه دون إشارة إليه.(6/561)
فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
القول في تأويل قوله: {فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فمن أعرَض عن الإيمان برسلي الذين أرسلتهم بتصديق ما كان مع أنبيائي من الكتب والحكمة، وعن نصرتهم، فأدبر ولم يؤمن بذلك، ولم ينصر، ونكث عهدَه وميثاقه ="بعد ذلك"، يعني بعد العهد والميثاق الذي أخذَه الله عليه ="فأولئك هم الفاسقون"، يعني بذلك: أن المتولين عن الإيمان بالرسل الذين وصف أمرَهم، ونُصرتهم بعد العهد والميثاق اللذين أخذَا عليهم بذلك ="هم الفاسقون"، يعني بذلك: الخارجون من دين الله وطاعة ربهم، (1)
كما:-
7339 - حدثنا المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن هاشم قال، أخبرنا سيف بن عمر، عن أبي روق، عن أبي أيوب، عن علي بن أبي طالب: فمن تولى عنك، يا محمد، بعد هذا العهد من جميع الأمم ="فأولئك هم الفاسقون"، هم العاصون في الكفر.
7340 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه = قال أبو جعفر: يعني الرازي = (2) "فمن تولى بعد ذلك" يقول: بعد العهد والميثاق الذي أخذَ عليهم ="فأولئك هم الفاسقون".
__________
(1) انظر تفسير"تولى" و"الفاسقون" فيما سلف من فهارس اللغة (ولى) و (فسق) .
(2) قوله: "قال أبو جعفر" فيما بين الخطين، هو أبو جعفر الطبري صاحب هذا التفسير. وقوله"يعني الرازي"، يعني"أبا جعفر الرازي" الذي قال في الإسناد"حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه". وبيان الطبري في هذا الموضع عن"أبي جعفر الرازي" بعد أن مضى مئات من المرات في هذا الإسناد وغيره من الأسانيد، دليل على أن أبا جعفر الطبري، قد كتب تفسيره هذا على فترات متباعدة = أو لعل أحدًا سأله وهو يملي تفسيره، فبين له، وأثبته الذين سمعوه منه كما قاله في مجلسه ذاك. وقد مضى"ذكر أبي جعفر الرازي" في التعليق على الأثر رقم: 164.(6/562)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83)
7341 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، [عن أبيه] ، عن الربيع مثله. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهاتان الآيتان، وإن كان مَخرَج الخبر فيهما من الله عز وجل بما أخبر أنه أشهدَ وأخذَ به ميثاقَ منْ أخذَ ميثاقه به، عن أنبيائه ورسله، (2) فإنه مقصودٌ به إخبارُ من كان حوالَي مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل أيام حياته صلى الله عليه وسلم، عَمَّا لله عليهم من العهد في الإيمان بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم = (3) ومعنيٌّ [به] تذكيرُهم ما كان الله آخذًا على آبائهم وأسلافهم من المواثيق والعهود، وما كانت أنبياءُ الله عرَّفتهم وتقدّمت إليهم في تصديقه واتباعه ونُصرته على من خالفه وكذبه = وتعريفهم ما في كتب الله، التي أنزلها إلى أنبيائه التي ابتعثها إليهم، من صفته وعلامته.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك:
فقرأته عامة قرأة الحجاز من مكة والمدينة، وقرأةُ الكوفة: (" أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ تَبْغُونَ ") ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) على وجه الخطاب.
* * *
__________
(1) الأثر: 7341- هذا إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 7234، أسقط منه الناسخ"عن أبيه"، فوضعتها بين القوسين في مكانها.
(2) السياق: وإن كان مخرج الخبر ... عن أنبيائه ورسله، فإن مقصود به ...
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "ومعنى تذكيرهم ... "، والصواب الراجح زيادة ما زدت بين القوسين. وسياق هذه الجملة وما بعدها: فإنه مقصود به إخبار من كان حوالي مهاجر رسول الله ... ومعنى به تذكيرهم ... وتعريفهم ما في كتب الله ... من صفته وعلامته". فصلتها لتسهل قراءتها وتتبعها.(6/563)
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) بالياء كلتيهما، على وجه الخبر عن الغائب.
* * *
وقرأ ذلك بعض أهل البصرة: (أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ) ، على وجه الخبر عن الغائب، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ، بالتاء على وجه المخاطبة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى ذلك بالصواب، قراءةُ من قرأ:"أفغير دين الله تبغون" على وجه الخطاب"وإليه تُرجعون" بالتاء. لأن الآية التي قبلها خطابٌ لهم، فإتباعُ الخطاب نظيرَه، أولى من صرف الكلام إلى غير نظيره. وإن كان الوجه الآخر جائزًا، لما قد ذكرنا فيما مضى قبل: من أن الحكاية يخرج الكلام معها أحيانًا على الخطاب كله، وأحيانًا على وجه الخبر عن الغائب، وأحيانًا بعضُه على الخطاب، وبعضُه على الغيبة، فقوله:"تبغون" و"إليه ترجعون" في هذه الآية، من ذلك. (1)
* * *
وتأويل الكلام: يا معشرَ أهل الكتاب ="أفغيرَ دين الله تبغون"، يقول: أفغير طاعة الله تلتمسون وتريدون، (2) ="وله أسلم من في السماوات والأرض"، يقول: وله خَشع من في السموات والأرض، فخضع له بالعبودة، (3) وأقرّ له بإفراد الربوبية، وانقاد له بإخلاص التوحيد والألوهية (4) ="طوْعًا وكرهًا"، يقول أسلم لله طائعًا من كان إسلامه منهم له طائعًا، وذلك كالملائكة والأنبياء والمرسلين،
__________
(1) انظر ما سلف: 464 والتعليق رقم: 2، والمراجع هناك. وانظر فهرس مباحث العربية.
(2) انظر تفسير"الدين" فيما سلف 1: 115، 221 / 3: 571 / ثم 6: 273، 274 = ثم معنى"يبغي" فيما سلف 3: 508 / 4: 163 / ثم 6: 196، تعليق: 3.
(3) في المطبوعة: "العبودية"، وأثبت ما في المخطوطة، كما سلف مرارًا. انظر قريبًا: ص: 549 تعلق 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير"أسلم" فيما سلف ص: 489، تعليق: 1، والمراجع هناك.(6/564)
فإنهم أسلموا لله طائعين ="وكرهًا"، من كان منهم كارهًا. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى إسلام الكاره الإسلام وصفته.
فقال بعضهم: إسلامه، إقراره بأنّ الله خالقه وربُّه، وإن أشرك معه في العبادة غيرَه.
ذكر من قال ذلك:
7342 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"وله أسلم من في السموات والأرض"، قال: هو كقوله: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [سورة الزمر: 38] .
7343 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد مثله.
7344 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:" وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه تُرجعون "، قال: كل آدميّ قد أقرّ على نفسه بأن الله ربّي وأنا عبده. فمن أشرَكَ في عبادته فهذا الذي أسلم كَرْهًا، ومن أخلص له العبودة، (2) فهو الذي أسلم طوعًا.
* * *
وقال آخرون: بل إسلام الكاره منهم، كان حين أخذَ منه الميثاق فأقرَّ به.
ذكر من قال ذلك:
7345 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: حين أخذَ الميثاق.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الكره" فيما سلف 4: 297، 298.
(2) في المطبوعة: "العبودية"، وانظر التعليق السالف رقم ص: 564، رقم: 3.(6/565)
وقال آخرون؛ عنى بإسلام الكاره منهم، سُجودَ ظله.
ذكر من قال ذلك:
7346 - حدثنا سوَّار بن عبد الله قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: الطائع المؤمن = و"كرهًا"، ظلّ الكافر.
7347 - حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"طوعًا وكرهًا"، قال: سجود المؤمن طائعًا، وسجود الكافر وهو كاره.
7348 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كَرْهًا"، قال: سجود المؤمن طائعًا، وسجود ظلّ الكافر وهو كاره.
7349 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: سجود وجهه طائعًا، وظله كارهًا. (1)
* * *
وقال آخرون: بل إسلامه بقلبه في مشيئة الله، واستقادته لأمره وإن أنكر ألوهته بلسانه.
ذكر من قال ذلك:
7350 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر:"وله أسلم من في السموات والأرض"، قال: استقاد كلهم له. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "سجود وجهه وظله طائعًا"، وهو لا يستقيم، واستظهرت من أخبار مجاهد السالفة، أن هذا هو حق المعنى، وأنه أولى بالصواب.
(2) الأثر: 7350-"جابر" هو: "جابر بن يزيد الجعفي". روى عن أبي الطفيل وأبي الضحى وعكرمة وعطاء وطاوس. روى عنه شعبة والثوري وإسرائيل وجماعة. و"عامر"، هو الشعبي. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "جابر بن عامر"، وليس في الرواة أحد بهذا الاسم.(6/566)
وقال آخرون: عنى بذلك إسلام من أسلم من الناس كرْهًا، حَذَر السيف على نفسه.
ذكر من قال ذلك:
7351 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا" الآية كلها، فقال: أكره أقوامٌ على الإسلام، وجاء أقوامٌ طائعين.
7352 - حدثني الحسن بن قزعة الباهلي قال، حدثنا روح بن عطاء، عن مطر الورّاق في قول الله عز وجل:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون"، قال: الملائكة طوعًا، والأنصار طوعًا، وبنو سُلَيمُ وعبد القيس طوعًا، والناس كلهم كرهًا.
* * *
وقال آخرون معنى ذلك: أنّ أهل الإيمان أسلموا طوعًا، وأنّ الكافر أسلم في حال المعاينة، حينَ لا ينفعه إسلامٌ، كرهًا.
ذكر من قال ذلك:
7353 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أفغير دين الله تبغون"، الآية، فأما المؤمن فأسلم طائعًا فنفعه ذلك، وقُبِل منه، وأما الكافر فأسلم كارهًا حين لا ينفعه ذلك، ولا يقبل منه.
7354 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: أما المؤمن فأسلم طائعًا، وأما الكافر فأسلم حين رأى بأسَ الله، (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا) [سورة غافر: 85] .
* * *(6/567)
وقال آخرون: معنى ذلك: أيْ: عبادةُ الخلق لله عز وجل. (1)
ذكر من قال ذلك:
7355 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أفغير دين الله تبغون وله أسلم من في السموات والأرض طوعًا وكرهًا"، قال: عبادتهم لي أجمعين طوعًا وكرهًا، وهو قوله: (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا) [سورة الرعد: 15] .
* * *
وأما قوله:"وإليه تُرجعون"، فإنه يعني:"وإليه"، يا معشر من يبتغي غيرَ الإسلام دينًا من اليهود والنصارى وسائر الناس ="ترجعون"، يقول: إليه تصيرون بعد مماتكم، فمجازيكم بأعمالكم، المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيءَ بإساءَته.
* * *
وهذا من الله عز وجل تحذيرٌ خلقَه أن يرجع إليه أحدٌ منهم فيصيرُ إليه بعد وفاته على غير ملة الإسلام.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "في عبادة الخلق"، وفي المخطوطة"أن عبادة الخلق"، وصوابه قراءتها ما أثبت.(6/568)
قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84)
القول في تأويل قوله: {قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"أفغير دين الله تبغون"، يا معشر اليهود،"وله أسلم مَنْ في السموات والأرض طوعًا وكرهًا وإليه ترجعون" = فإن ابتغوا غيرَ دين الله، يا محمد، فقل لهم:"آمنا بالله"، فترك ذكر قوله:"فإن قالوا: نعم"، أو ذكر قوله: (1) "فإن ابتغوا غير دين الله"، لدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
وقوله:"قل آمنا بالله"، يعني به: قل لهم، يا محمد،: صدقنا بالله أنه ربنا وإلهنا، لا إله غيره، ولا نعبد أحدًا سواه ="وما أنزل علينا"، يقول: وقل: وصدَّقنا أيضًا بما أنزل علينا من وَحيه وتنزيله، فأقررنا به ="وما أنزل على إبراهيم"، يقول: وصدقنا أيضًا بما أنزل على إبراهيم خليل الله، وعلى ابنيه إسماعيل وإسحاق، وابن ابنه يعقوب = وبما أنزل على"الأسباط"، وهم ولد يعقوب الاثنا عشر، وقد بينا أسماءَهم بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2) ="وما أوتي موسى وعيسى"، يقول: وصدّقنا أيضًا مع ذلك بالذي أنزل الله على موسى وعيسى من الكتب والوَحْي، وبما أنزل على النبيين من عنده.
والذي آتى الله موسى وعيسى = مما أمرَ الله عز وجل محمدًا بتصديقهما فيه، والإيمان به = التوراة التي آتاها موسى، والإنجيل الذي أتاه عيسى.
="لا نفرق بين أحد منهم"، يقول: لا نصدّق بعضهم ونكذّب بعضَهم،
__________
(1) في المطبوعة: "وذكر قوله"، جعل الواو مكان "أو"، والصواب ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 2: 120، 121 / 3: 111-113.(6/569)
وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
ولا نؤمن ببعضهم ونكفر ببعضهم، كما كفرت اليهود والنصارى ببعض أنبياء الله وصدّقت بعضًا، ولكنا نؤمن بجميعهم، ونصدّقهم ="ونحن له مسلمون". يعني: ونحن ندين لله بالإسلام لا ندين غيره، بل نتبرأ إليه من كل دين سواه، ومن كل ملة غيره.
ويعني بقوله:"ونحن له مسلمون". ونحن له منقادون بالطاعة، متذللون بالعبودة، (1) مقرّون لهُ بالألوهة والربوبية، وأنه لا إله غيره. وقد ذكرنا الروايةَ بمعنى ما قلنا في ذلك فيما مضى، وكرهنا إعادته. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن يطلب دينا غيرَ دين الإسلام ليدين به، فلن يقبل الله منه (3) ="وهو في الآخرة من الخاسرين"، يقول: من الباخسين أنفسَهم حظوظَها من رحمة الله عز وجل. (4)
* * *
وذُكر أنّ أهل كل ملة ادّعوا أنهم هم المسلمون، لما نزلت هذه الآية، فأمرهم الله بالحج إن كانوا صادقين، لأن من سُنة الإسلام الحج، فامتنعوا، فأدحض الله بذلك حجتهم.
__________
(1) في المطبوعة: "بالعبودية" كما فعل في سابقتها، وأثبت ما في المخطوطة، وانظر ما سلف قريبًا ص: 565، تعليق: 2.
(2) يعني ما سلف 3: 109-111، وهي نظيرة هذه الآية، وانظر فهارس اللغة"سلم".
(3) انظر معنى"يبتغي" فيما سلف ص: 564، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(4) انظر تفسير"الخاسرين" فيما سلف 1: 417 / 2: 166، 572.(6/570)
ذكر الخبر بذلك:
7356 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال، زعم عكرمة:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا"، فقالت الملل: نحن المسلمون! فأنزل الله عز وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [سورة آل عمران: 97] ، فحجَّ المسلمون، وقعدَ الكفار.
7357 - حدثني المثنى قال، حدثنا القعنبي قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه"، قالت اليهود: فنحن المسلمون! فأنزلَ الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم يحُجُّهم أنْ: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) . (1)
7358 - حدثني يونس قال، أخبرنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن عكرمة قال: لما نزلت:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا" إلى آخر الآية، قالت اليهود: فنحن مسلمون! قال الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم إنْ: (لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ) من أهل الملل (فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) .
* * *
وقال آخرون: في هذه الآية بما:-
7359 - حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
__________
(1) الأثر: 7357-"القعنبي"، هو: "عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي"، روى عنه الأئمة. قال ابن سعد: "كان عابدًا فاضلا، قرأ عن مالك كتبه". وقال العجلي: "قرأ عليه مالك نصف الموطأ، وقرأ هو على مالك النصف الباقي"، وسئل ابن المديني عنه فقال: "لا أقدم من رواة الموطأ أحدًا على القعنبي".(6/571)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) إلى قوله: (وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) [سورة البقرة: 62] ، فأنزل الله عز وجل بعد هذا:"ومن يبتغ غير الإسلام دينًا فلن يقبل منه".
* * *
القول في تأويل قوله: {كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) }
اختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية، وفيمن نزلت.
فقال بعضهم: نزلت في الحارث بن سويد الأنصاري، وكان مسلمًا فارتدّ بعد إسلامه.
ذكر من قال ذلك:
7360 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع البصري قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك، ثم ندم فأرسل إلى قومه: أرسلوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، هل لي من توبة؟ قال: فنزلت:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم" إلى قوله:"وجاءَهم البيناتُ والله لا يهدي القوم(6/572)
الظالمين إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم"، فأرسل إليه قومه فأسلم.
7361 - حدثني ابن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة بنحوه، ولم يرفعه إلى ابن عباس = إلا أنه قال: فكتب إليه قومه، فقال: ما كذَبني قومي! فرجع.
7362 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حكيم بن جُميع، عن علي بن مُسْهر، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: ارتد رجل من الأنصار، فذكر نحوه. (1)
7363 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا جعفر بن سليمان قال، أخبرنا حميد الأعرج، عن مجاهد قال: جاء الحارث بن سُوَيد فأسلم مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم كفر الحارث فرجع إلى قومه، فأنزل الله عز وجل فيه القرآن:"كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعدَ إيمانهم" إلى"إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ"، قال: فحملها إليه رجل من قومه فقرأها عليه، فقال الحارث: إنك والله ما علمتُ لصَدُوقٌ، وإنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصدقُ منك، وإنّ الله عز وجل لأصدق الثلاثة. قال: فرجع الحارث فأسلم فحسن إسلامه.
7364 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدُوا أنّ الرسول حق"، قال: أنزلت في الحارث بن سُوَيد الأنصاري، كفر بعد إيمانه، فأنزل الله عز وجل فيه هذه الآيات، إلى:"أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"،
__________
(1) الأثر: 7362-"حكيم بن جميع الكوفي"، مترجم في الكبير 2 / 1 / 18، والجرح 1 / 2 / 202.(6/573)
ثم تاب وأسلم، فنسخها الله عنه، فقال:"إلا الذين تابوا من بعد ذلك، وأصلحوا فإنّ الله غفورٌ رحيمٌ".
7365 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق وجاءَهم البينات"، قال: رجلٌ من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه.
7366 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
7367 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: هو رجل من بني عمرو بن عوف، كفر بعد إيمانه = قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد قال: لحق بأرض الرّوم فتنصَّر، ثم كتب إلى قومه:"أرسلوا، هل لي من توبة؟ " قال: فحسبتُ أنه آمن، ثم رَجع = قال ابن جريج، قال عكرمة، نزلت في أبي عامر الرّاهب، والحارث بن سويد بن الصامت، ووَحْوَح بن الأسلت = في اثني عشر رجلا رَجعوا عن الإسلام ولحقوا بقريش، ثم كتبوا إلى أهلهم: هل لنا من توبة؟ فنزلت:"إلا الذي تابوا من بعد ذلك"، الآيات.
* * *
وقال آخرون: عنى بهذه الآية أهل الكتاب، وفيهم نزلت.
ذكر من قال ذلك:
7368 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفرُوا بعد إيمانهم"، فهم أهلُ الكتاب، عرَفوا محمدًا صلى الله عليه وسلم ثم كفروا به.(6/574)
7369 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم" الآية كلها، قال: اليهود والنصارى.
7370 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن يقول في قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم" الآية، هم أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعتَ محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم وأقرّوا به، وشهدوا أنه حقٌّ، فلما بُعث من غيرهم حَسدوا العربَ على ذلك فأنكروه، وكفروا بعد إقرارهم، حسدًا للعرب، حين بُعثَ من غيرهم.
7371 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"كيف يهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم"، قال: هم أهل الكتاب، كانوا يجدون محمدًا صلى الله عليه وسلم في كتابهم، ويستفتحون به، فكفروا بعد إيمانهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه القولين بظاهر التنزيل ما قال الحسن: منْ أنّ هذه الآية معنيٌّ بها أهل الكتاب على ما قال، غيرَ أنّ الأخبار بالقول الآخر أكثر، والقائلين به أعلم، بتأويل القرآن. (1) وجائز أن يكون الله عز وجل أنزل هذه الآيات بسبب القوم الذين ذُكر أنهم كانوا ارتدّوا عن الإسلام، فجمع قصّتهم وقصة من كان سبيله سبيلهم في ارتداده عن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم في هذه الآيات. ثم عرّف عباده سُنته فيهم، فيكون داخلا في ذلك كلّ من كان مؤمنًا بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل أنُ يبعث، ثم كفر به بعد أن بُعث، وكلّ من كان كافرًا ثم أسلم على عهده صلى الله عليه وسلم، ثم ارتد وهو حيٌّ عن
__________
(1) هذا حكم جيد فاصل في هذه الآية، وفي غيرها مما اختلف في معانيه المختلفون.(6/575)
إسلامه. فيكون معنيًّا بالآية جميعُ هذين الصنفين وغيرُهما ممن كان بمثل معناهما، بل ذلك كذلك إن شاء الله.
* * *
فتأويل الآية إذًا:"كيف يَهدي الله قومًا كفروا بعد إيمانهم"، يعني: كيف يُرشد الله للصواب ويوفّق للإيمان، قومًا جحدُوا نبوّة محمد صلى الله عليه وسلم ="بعد إيمانهم"، أي: بعد تصديقهم إياه، وإقرارهم بما جاءَهم به من عند ربه ="وَشهدوا أن الرسول حقّ"، يقول: وبعد أن أقرّوا أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلقه حقًّا ="وجاءهم البينات"، يعني: وجاءهم الحجج من عند الله والدلائلُ بصحة ذلك؟ ="والله لا يهدي القوم الظالمين"، يقول: والله لا يوفّق للحق والصّواب الجماعة الظَّلمة، وهم الذين بدّلوا الحق إلى الباطل، فاختارُوا الكفر على الإيمان.
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبل على معنى"الظلم"، وأنه وضعُ الشيء في غير موضعه، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
="أولئك جزاؤهم"، يعني: هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم، وبعد أن شهدوا أن الرسول حَقّ -"جزاؤهم"، ثوابهم من عملهم الذي عملوه (2) ="أنّ عليهم لعنة الله"، يعني: أن يحلّ بهم من الله الإقصاء والبعد، (3) ومن الملائكة والناس الدعاءُ بما يسوؤهم من العقاب (4) ="أجمعين"، يعني: من جميعهم، لا من
__________
(1) انظر ما سلف 1: 523، 524 / ثم باقي المواضع في فهرس اللغة"ظلم"، وانظر أيضًا فهارس اللغة في سائر ألفاظ الآية.
(2) انظر تفسير"الجزاء" فيما سلف 2: 27، 28، 314، وغيره في فهارس اللغة"جزى".
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "أن حل بهم"، فعل ماض، والسياق يقتضي المضارع.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "ومن الملائكة والناس إلا مما يسوءهم ... "، وهو كلام غير مستقيم، وهو تصحيف لما كتبت، كان في الأصل"الدعاما يسوءهم" بغير همزة"الدعاء"، وبغير نقط"بما"، فاشتبهت الحروف على الناسخ، فحرفها إلى ما ترى.(6/576)
بعض من سمَّاه جل ثناؤه من الملائكة والناس، ولكن من جميعهم. وإنما جعل ذلك جل ثناؤه ثواب عملهم، لأن عملهم كان بالله كفرًا.
* * *
وقد بينا صفة"لعنة الناس" الكافرَ في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
="خالدين فيها" يعني: ماكثين فيها، يعني في عقوبة الله (2)
="لا يخفَّف عنهم العذاب"، لا ينقصون من العذاب شيئًا في حال من الأحوال، ولا ينفَّسون فيه (3) ="ولا هم ينظرون"، يعني: ولا هم ينظرون لمعذرة يعتذرون. (4) وذلك كله عَينُ الخلود في العقوبة في الآخرة. (5)
ثم استثنى جل ثناؤه الذين تابوا، من هؤلاء الذين كفروا بعد إيمانهم فقال تعالى ذكره:"إلا الذين تَابوا من بعد ذلك وأصلحوا"، يعني: إلا الذين تابوا
__________
(1) انظر ما سلف 2: 328، 329 / ثم 3: 254-258، 261-263، وفيها نظير ما في هذه الآية.
(2) انظر تفسير"خالدين" فيما سلف 1: 397، 398 / 2: 287 / 4: 317، وفهارس اللغة.
(3) انظر تفسير"يخفف" فيما سلف 2: 316، 317، والتنفيس: والترفيه والتفريج هنا.
(4) انظر تفسير"ينظرون" في نظيرة هذه الآية فيما سلف 3: 264، 265، وقبله 2: 467، 468.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "وذلك كله أعني الخلود في العقوبة في الآخرة"، وهي جملة فاسدة البناء والمعنى، أخطأ الناسخ فهم مراد أبي جعفر، فكتب ما كتب، والصواب هو ما أثبت. فإن أبا جعفر قد لجأ إلى الاختصار في مواضع كثيرة من تفسيره، منها هذا الموضع، فلم يبين إعراب قوله تعالى: "لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون"، وأهل الإعراب يعربونها حالا متداخلة - أي حالا من حال - لأن"خالدين" حال من الضمير في"عليهم". وأما أبو جعفر، فهو يعدها جملة مستأنفة، وهي بذلك بيان عن الخلود في النار. والدليل على صحة ذلك، وعلى صحة ما أثبت من الصواب في نص أبي جعفر هنا، أنه قال في تفسير نظيرة هذه الآية من"سورة البقرة: 162" في الجزء 3: 264 ما نصه.
"وأما قوله: " لا يخفف عنهم العذاب"، فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن دوام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف". فهذا نص قاطع في أن إعراب الطبري لهذا الموضع من الآية هو ما ذهبت إليه، وفي أنه يرى أن معنى هذه الجملة من الآية، هو معنى"الخلود" بعينه. والحمد لله أولا وآخرًا.(6/577)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90)
من بعد ارتدادهم عن إيمانهم، فراجعوا الإيمان بالله وبرسوله، وصدّقوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند ربهم ="وأصلحوا"، يعني: وعملوا الصالحات من الأعمال ="فإنّ الله غفور رحيم"، يعني: فإن الله لمن فعل ذلك بعد كفره ="غفور"، يعني: ساتر عليه ذنبه الذي كان منه من الرّدّة، فتاركٌ عقوبته عليه، وفضيحته به يوم القيامة، غيرُ مؤاخذه به إذا مَات على التوبة منه ="رحيم"، متعطِّف عليه بالرحمة.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضُهم: عنى الله عز وجل بقوله:"إنّ الذين كفروا" ببعض أنبيائه الذين بعثوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم (1) ="بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا" بكفرهم بمحمد ="لن تقبل توبتهم"، عند حُضور الموت وحَشرجته بنفسه.
ذكر من قال ذلك:
7372 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد بن منصور، عن الحسن في قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، قال: اليهودُ والنصارى، لن تُقبل توبتهم عند الموت.
7373 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
__________
(1) في المطبوعة: "أي: ببعض أنبيائه"، زاد ما ليس في المخطوطة.(6/578)
قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا"، أولئك أعداء الله اليهود، كفروا بالإنجيل وبعيسى، ثم ازدادوا كفرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم والفُرْقان.
7374 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، قال: ازدادوا كفرًا حتى حَضرهم الموت، فلم تقبل توبتهم حين حضرهم الموت = قال معمر: وقال مثلَ ذلك عطاءٌ الخراساني.
7375 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، وقال: هم اليهود، كفروا بالإنجيل، ثم ازدادوا كفرًا حين بَعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، فأنكرُوه، وكذبوا به.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إن الذين كفروا من أهل الكتاب بمحمد، بعد إيمانهم بأنبيائهم ="ثم ازدادوا كفرًا"، يعني: ذنوبًا ="لن تقبل توبتهم" من ذنوبهم، وهم على الكفر مقيمون.
ذكر من قال ذلك:
7376 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال، حدثنا داود، عن رفيع:"إنّ الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا"، ازدادوا ذنوبًا وهم كفار ="لن تقبل توبتهم" من تلك الذنوب، ما كانوا على كفرهم وضَلالتهم.
7377 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود قال: سألت أبا العالية، قال، قلت:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم"؟ قال: إنما هم هؤلاء النصارى واليهود الذين كفروا، ثم ازدادوا كفرًا بذنوب أصابوها، فهم يتوبون منها في كفرهم.
7378 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السُّكري قال، أخبرنا ابن أبي عدي،(6/579)
عن داود قال: سألت أبا العالية عن: الذين آمنوا ثم كفروا، فذكر نحوًا منه. (1)
7379 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود قال: سألت أبا العالية عن هذه الآية:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تُقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، قال: هم اليهود والنصارى والمجوس، أصابوا ذنوبًا في كفرهم، فأرادوا أن يتوبوا منها، ولن يتوبوا من الكفر، (2) ألا ترى أنه يقول:"وأولئك هم الضالون"؟
7380 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن داود، عن أبي العالية في قوله:"لن تقبل توبتهم"، قال: تابوا من بعضٍ، ولم يتوبوا من الأصل.
7381 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية قوله:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا"، قال: هم اليهود والنصارى، يصيبون الذنوبَ فيقولون:"نتوب"، وهم مشركون. قال الله عز وجل: لن تُقبل التوبة في الضّلالة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إن الذين كفروا بعد إيمانهم بأنبيائهم ="ثم ازدادوا كفرًا"، يعني: بزيادتهم الكفر: تمامُهم عليه، (3) حتى هلكوا وهم عليه مقيمون ="لن تقبل توبتهم"، لن تنفعهم توبتهم الأولى وإيمانهم، لكفرهم الآخِر وموتهم.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 7378- في المطبوعة: "عبد الحميد بن بيان اليشكري"، وهو خطأ والصواب ما أثبت من المخطوطة. وقد مضت الرواية عنه كثيرًا، ينسبه أحيانًا"السكري"، وأخرى"القناد" نسبة إلى"القند"، وهو السكر. وقد مضت ترجمته برقم: 30، وسيأتي خطأ مثله في رقم: 7580.
(2) أخشى أن يكون الصواب، "ولم يتوبوا من الكفر"، وانظر التالي.
(3) في المطبوعة"بما هم عليه"، وهو كلام غث. وفي المخطوطة: "ممامهم عليه" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها. يقال: و"تم على الشيء تمامًا" ثبت عليه وأقام، وأمضى أمره فيه.(6/580)
7382 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، قال: تمُّوا على كفرهم = (1) قال ابن جريج:"لن تقبل توبتهم"، يقول: إيمانهم أوّلَ مرة لن ينفعهم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"ثم ازدادوا كفرًا"، ماتوا كفارًا، فكان ذلك هو زيادتهم من كفرهم. وقالوا: معنى"لن تقبل توبتهم"، لن تقبل توبتهم عند موتهم.
ذكر من قال ذلك:
7383 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفرًا لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون"، أمّا"ازدادوا كفرًا"، فماتوا وهم كفار. وأما"لن تقبل توبتهم" فعند موته، إذا تاب لم تقبل توبته.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية، قولُ من قال:"عنى بها اليهودَ" = وأن يكون تأويله: إن الذين كفروا من اليهود بمحمد صلى الله عليه وسلم عند مَبعثه، بعد إيمانهم به قبل مبعثه، ثم ازدادوا كفرًا بما أصَابوا من الذنوب في كفرهم ومُقامهم على ضلالتهم، لن تقبل توبتهم من ذنوبهم التي أصابوها في كفرهم، حتى يتوبوا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويراجعوا التوبة منه بتصديقه بما جاء به من عند الله. (2)
* * *
وإنما قلنا:"ذلك أولى الأقوال في هذه الآية بالصواب"، لأن الآيات
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "نموا على كفرهم" بالنون، وهو تصحيف. وانظر التعليق السالف.
(2) في المطبوعة"بتصديق ما جاء به من عند الله" وفي المخطوطة"بتصديقه ما جاء به من عند الله"، وعلى الميم من"ما" فتحة مائلة، وهي في الحقيقة"باء"، فصواب قراءة المخطوطة ما أثبت.(6/581)
قبلها وبعدها فيهم نزلت، فأولى أن تكون هي في معنى ما قبلها وبعدها، إذ كانت في سياق واحد.
وإنما قلنا:"معنى ازديادهم الكفر: ما أصابوا في كفرهم من المعاصي"، لأنه جل ثناؤه قال:"لن تقبل توبتهم"، فكان معلومًا أن معنى قوله:"لن تقبل توبتهم"، إنما هو معنيٌّ به: لن تقبل توبتهم مما ازدادوا من الكفر على كفرهم بعد إيمانهم، لا من كفرهم. لأن الله تعالى ذكره وعد أن يقبل التوبة من عباده فقال: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ) [سورة الشورى: 25] ، فمحالٌ أنْ يقول عز وجل:"أقبل" و"لا أقبل" في شيء واحد. وإذْ كان ذلك كذلك = وكان من حُكم الله في عباده أنه قابلٌ توبةَ كل تائب من كل ذنب، وكان الكفر بعد الإيمان أحدَ تلك الذنوب التي وعد قَبول التوبة منها بقوله:"إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم" (1) = علم أنّ المعنى الذي لا يقبل التوبةَ منه، غيرُ المعنى الذي يَقبل التوبة منه. (2) وإذْ كان ذلك كذلك، فالذي لا يَقبل منه التوبة، هو الازدياد على الكفر بعد الكفر، لا يقبل الله توبة صاحبه ما أقام على كفره، لأن الله لا يقبل من مشرك عملا ما أقام على شركه وضلاله. فأما إن تاب من شركه وكفره وأصلح، فإنّ الله - كما وصف به نفسه - غفورٌ رحيمٌ.
* * *
فإن قال قائل: وما تُنكر أن يكون معنى ذلك كما قال من قال: (3) "فلن تقبل توبته من كفره عند حضور أجله وتوبته الأولى"؟ (4)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا الذين تابوا وأصلحوا ... "، سها الناسخ فأسقط"من بعد ذلك" من الآية، وهي الآية السابقة. وسياق الكلام: وإذْ كان ذلك كذلك، وكان من حكم ... علم أن المعنى ... ".
(2) في المطبوعة: "تقبل.. تقبل.." بالتاء، وما في المخطوطة هو السياق. ومثل ذلك فيما سيلي.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وما ينكر" بالياء، وهي بالتاء أجود، كما يدل عليه الجواب بعد.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "توبتهم من كفرهم" بالجمع، والسياق ما أثبت، وهو الصواب. وفي المطبوعة: "أو توبته الأولى" والصواب بالواو كما في المخطوطة. وقوله هذا رد على القائلين بذلك فيما سلف في الأثر: 7382، والترجمة التي قبله، وما قبله من الآثار، وما يليه في الأثر رقم: 7382.(6/582)
قيل: أنكرنا ذلك، لأن التوبة من العبد غير كائنة إلا في حال حياته، فأما بعد مماته فلا توبة، وقد وعد الله عز وجل عبادَه قَبول التوبة منهم ما دامت أرواحُهم في أجسادهم. ولا خلاف بين جميع الحجة في أنّ كافرًا لو أسلم قبل خُرُوج نفسه بطرْفة عين، أنّ حكمه حكم المسلمين في الصلاة عليه، والموارثة، وسائر الأحكام غيرهما. فكان معلومًا بذلك أنّ توبته في تلك الحال لو كانت غير مقبولة، لم ينتقل حكمه من حكم الكفار إلى حكم أهل الإسلام، ولا منزلةَ بين الموت والحياة، يجوزُ أن يقال:"لا يقبل الله فيها توبةَ الكافر". فإذْ صحّ أنها في حال حياته مقبولة، ولا سبيلَ بعد الممات إليها، بطل قولُ الذي زعم أنها غير مقبولة عند حُضُور الأجل.
* * *
وأما قول من زعم أنّ معنى ذلك:"التوبة التي كانت قبل الكفر"، فقولٌ لا معنى له. لأن الله عز وجل لم يصف القوم بإيمان كان منهم بعد كفر، ثم كُفْر بعد إيمان = بل إنما وصفهم بكفر بعد إيمان. فلم يتقدم ذلك الإيمانَ كفرٌ كان للإيمان لهم توبة منه، فيكون تأويل ذلك على ما تأوّله قائل ذلك. وتأويل القرآن على ما كان موجودًا في ظاهر التلاوة = إذا لم تكن حجة تدل على باطن خاص - أولى من غيره، وإن أمكن توجيهه إلى غيره.
* * *
وأما قوله:"وأولئك هم الضالون"، فإنه يعني بذلك: وهؤلاء الذين كفرُوا بعد إيمانهم، ثم ازدادوا كفرًا، هم الذين ضلوا سبيل الحقّ فأخطأوا منهجه، وتركوا نِصْف السبيل وهُدَى الدين، حَيرةً منهم، وعَمىً عنه. (1)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " ... وهدى الله الذي أخبرهم عنه فعموا عنه"، ولم يقل ذلك أبو جعفر! وفي المخطوطة: "وهذي الذي حره منهم وعمى عنه" غير منقوطة، فلم يستطع الناشر أن يقرأها على وجه صحيح، ففعل بعبارة الطبري ما فعل، وبئس ما فعل! وصواب قراءتها ما أثبت. وقوله: "نصف السبيل"، كان أحب إلى أن أقرأها"قصد السبيل"، ولكني رجحت أن أبا جعفر يترجم عن معنى قوله تعالى"سواء السبيل"، وهو وسطه، وقد بين شرح ذلك في تفسيره فيما مضى 2: 497، وقال: " ... الذي إذا ركب محجته السائر فيه، ولزم وسطه المجتاز فيه، نجا وبلغ حاجته، وأدرك طلبته"، ورأيتهم يقولون: "منصف الطريق" (بفتح الميم، وسكون النون، وفتح الصاد) : وسط الطريق و"نصف الطريق". وجائز أن تكون كانت"منصف الطريق" في كلام الطبري ومهما يكن من شيء، فهي صحيحة المعنى، جيدة المجاز في العربية.(6/583)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
وقد بينا فيما مضى معنى"الضلال" بما فيه الكفاية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه"إنّ الذين كفروا"، أي: جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ولم يصدقوا به وبما جاء به من عند الله من أهل كل ملة، يهودها ونصاراها ومجوسها وغيرهم ="وماتوا وهم كفار"، يعني: وماتوا على ذلك من جحود نبوته وجحود ما جاء به ="فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذَهبًا ولو افتدى به"، يقول: فلن يقبل ممن كان بهذه الصفة في الآخرة جَزَاءٌ ولا رِشْوةٌ على ترك عقوبته على كفره، ولا جُعْلٌ على العفو عنه، (2) ولو كان له من الذهب قدرُ ما يملأ الأرضَ من مشرقها إلى مغربها، فرَشَا وَجزَى على ترك عقوبته وفي العفو عنه على كفره عوضًا مما الله مُحلٌّ به من عذابه. لأنّ الرُّشا إنما يقبلها من كان ذَا حاجة إلى ما رُشى. فأما من له الدنيا والآخرة، فكيف يقبل
__________
(1) انظر ما سلف 1: 189-196 / 2: 496، 497 / 6: 66.
(2) "الجزاء" هنا: البدل والكفارة. و"الجعل" (بضم الجيم وسكون العين) : الأجر على الشيء. يقول: لا يقبل منه أجر يدفعه على شريطة العفو عنه.(6/584)
الفدية، وهو خلاق كل فدية افتدَى بها مفتدٍ منْ نفسه أو غيره؟ (1)
* * *
وقد بينا أن معنى"الفدية" العوَضُ، والجزاء من المفتدى منه = بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
= ثم أخبر عز وجل عما لهم عنده فقال:"أولئك"، يعني هؤلاء الذين كفروا وماتوا وهم كفار ="لهم عذاب أليم"، يقول: لهم عند الله في الآخرة عذابٌ موجع ="وما لهم من ناصرين"، يعني: وما لهم من قريب ولا حميم ولا صديق ينصره، فيستنقذه من الله ومن عذابه كما كانوا ينصرونه في الدنيا على من حاول أذَاه ومكروهه؟ (3) وقد:-
7384 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، حدثنا أنس بن مالك: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: يُجاء بالكافر يوم القيامة فيقال له: أرأيتَ لو كان لك ملءُ الأرض ذهبًا، أكنت مفتديًا به؟ فيقول: نعم! قال فيقال: لقد سُئلت ما هو أيسرُ من ذلك! فذلك قوله:"إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا ولو افتدى به". (4)
7385 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن قوله:"إنّ الذين كفروا وماتوا وهم كفارٌ فلن يقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا"، قال: هو كل كافر.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "وهو خلاف"، وهو تصحيف، وفي المطبوعة: "عن نفسه"، كأن الناشر استنكر عربية أبي جعفر، فحولها إلى عربيته.
(2) انظر ما سلف 3: 438-439.
(3) اختلاف الضمائر في هذه العبارة جائز حسن، وإن أشكل على بعض من يقرأه.
(4) الأثر: 7384- أخرجه البخاري في صحيحه (الفتح 11: 348-350) من طريقين طريق هشام الدستوائي عن قتادة، ومن طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، كرواية الطبري هنا. ورواه مسلم (17: 148، 149) من طريق هشام عن قتادة، وأشار إلى طريق سعيد، وذكر اختلافه. وللحديث طرق أخرى بغير هذا اللفظ أخرجها البخاري (الفتح 6: 262 / 11: 367) ومسلم 17: 148، 149.(6/585)
ونصب قوله"ذهبًا" على الخروج من المقدار الذي قبله والتفسير منهُ، وهو قوله:"ملءُ الأرض"، كقول القائل:"عندي قدرُ زِقٍّ سمنًا = وقدْرُ رطل عَسلا"، ف"العسل" مبينٌ به ما ذكر من المقدار، وهو نكرة منصوبةٌ على التفسير للمقدار والخروج منه. (1)
* * *
وأما نحويو البصرة، فإنهم زعموا أنه نصب"الذهب" لاشتغال"الملء" بـ"الأرض"، ومجيء"الذهب" بعدهما، فصار نصبهُا نظيرَ نصب الحال. وذلك أن الحال يجيء بعد فعل قد شُغل بفاعله، فينصبُ كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي قد شُغل بفاعله. قالوا: ونظير قوله:"ملء الأرض ذهبًا" في نصب"الذهب" في الكلام:"لي مثلك رجُلا" بمعنى: لي مثلك من الرجال. وزعموا أن نصب"الرجل"، لاشتغال الإضافة بالاسم، فنصب كما ينصب المفعول به، لاشتغال الفعل بالفاعل.
* * *
وأدخلت الواو في قوله:"ولو افتدى به"، لمحذوف من الكلام بعدَه، دلّ عليه دخول"الواو"، وكالواو في قوله: (وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [سورة الأنعام: 75] ، وتأويل الكلام: وليكون من الموقنين أرَيناه ملكوتَ السموات والأرض. فكذلك ذلك في قوله:"ولو افتدى به"، ولو لم يكن في الكلام"واو"، لكان الكلام صحيحًا، ولم يكن هنالك متروك، وكان: فلن يُقبل من أحدهم ملءُ الأرض ذهبًا لو افتدى به. (2)
* * *
__________
(1) "التفسير": هو التمييز، ويقال له أيضًا"التبيين"، والمميز هو: "المفسر والمبين"، وقد سلف ذلك فيما مضى 2: 338، تعليق: 1 / 3: 90، تعليق 2 / وانظر ما فصله الفراء في معاني القرآن 1: 225، 226.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 226.(6/586)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
القول في تأويل قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لن تدركوا، أيها المؤمنون، البرَّ = وهو"البر" من الله الذي يطلبونه منه بطاعتهم إياه وعبادتهم له ويرجونه منه، وذلك تفضّله عليهم بإدخالهم جنته، وصرف عذابه عنهم.
* * *
ولذلك قال كثير من أهل التأويل"البر" الجنة، لأن بر الربّ بعبده في الآخرة، إكرامه إياه بإدخاله الجنة. (1)
ذكر من قال ذلك.
7386 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله:"لن تنالوا البر"، قال: الجنة.
7387 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون في قوله:"لن تنالوا البر"، قال: البر الجنة.
7388 - حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لن تنالوا البر"، أما البر فالجنة.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: لن تنالوا، أيها المؤمنون، جنة ربكم ="حتى تنفقوا مما تحبون"، يقول: حتى تتصدقوا مما تحبون وتهوَوْن أن يكون لكم، من نفيس أموالكم، كما:-
7389 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، يقول: لن تنالوا برَّ ربكم حتى
__________
(1) انظر تفسير"البر" فيما سلف 2: 8 / 3: 336-338، 556 / 4: 425. وفي المطبوعة: "وإكرامه إياه" بزيادة "واو"، وهو خطأ صوابه في المخطوطة.(6/587)
تنفقوا مما يعجبكم، ومما تهوَوْن من أموالكم.
7390 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن قوله:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، قال: من المال.
* * *
وأما قوله:"وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم"، فإنه يعني به: ومهما تنفقوا من شيء فتتصدقوا به من أموالكم، (1) فإنّ الله تعالى ذكرُه بما يتصدَّق به المتصدِّق منكم، فينفقه مما يحبّ من ماله في سبيل الله وغير ذلك -"عليم"، يقول: هو ذو علم بذلك كله، لا يعزُبُ عنه شيء منه، حتى يجازي صاحبه عليه جزاءَه في الآخرة، كما:-
7391 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:"وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم"، يقول: محفوظٌ لكم ذلك، اللهُ به عليمٌ شاكرٌ له.
* * *
وبنحو التأويل الذي قلنا تأوَّل هذه الآية جماعةٌ من الصحابة والتابعين.
ذكر من قال ذلك:
7392 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، قال: كتب عمر بن الخطاب إلى أبي موسى الأشعري أنْ يبتاع له جارية من جَلولاء يوم فُتحت مدائن كسرى في قتال سَعد بن أبي وقاص، فدعا بها عمر بن الخطاب فقال: إن الله يقول:"لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون"، فأعتقها عمر = وهي مثْل قول الله عز وجل: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا) [سورة الإنسان: 8] ، و (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [سورة الحشر: 9] .
__________
(1) انظر"ما" بمعنى"مهما" فيما سلف قريبًا ص: 551.(6/588)
7393 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله سواء.
7394 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن حميد، عن أنس بن مالك، قال: لما نزلت هذه الآية: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) ، أو هذه الآية: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) [سورة البقرة: 245\ الحديد: 11] ، قال أبو طلحة، يا رسول الله، حائطي الذي بكذا وكذا صَدَقة، ولو استطعت أن أجعله سرًّا لم أجعله علانية! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها في فقراء أهلك. (1)
7395 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال، قال حدثنا حماد، عن ثابت، عن أنس بن مالك قال: لما نزلت هذه الآية:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، قال أبو طلحة: يا رسول الله، إنّ الله يسألنا من أموالنا، اشهدْ أني قد جعلت أرضي بأرْيحا لله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اجعلها
__________
(1) الحديث: 7394- حميد: هو ابن أبي حميد الطويل.
والحديث رواه أحمد في المسند: 12170، عن يحيى بن سعيد القطان، و: 12809، عن محمد بن عبد الله الأنصاري، و: 13803، عن عبد الله بن بكر - ثلاثتهم عن حميد، عن أنس ابن مالك (ج 3 ص 115، 174، 262 حلبي) .
ورواه الترمذي 4: 81، من طريق عبد الله بن بكر، عن حميد. وقال: "هذا حديث حسن صحيح".
وذكره السيوطي 1: 50، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن مردويه.
وهو اختصار لرواية مطولة، رواها مالك في الموطأ، ص: 995-996، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة، عن أنس بن مالك.
ورواها أحمد في المسند: 12465 (3: 141 حلبي) ، من طريق مالك.
ورواها البخاري 3: 257، 5: 295-297، و 8: 168، ومسلم 1: 274- كلاهما من طريق مالك أيضًا.
وسيأتي عقب هذا، مختصرًا أيضًا، من رواية ثابت عن أنس.
الحائط: البستان من النخيل إذا كان عليه حائط، وهو الجدار.(6/589)
في قرابتك. فجعلها بين حسان بن ثابت وأبيّ بن كعب. (1)
7396 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا ليث، عن ميمون بن مهران: أنّ رجلا سأل أبا ذَرّ: أيّ الأعمال أفضل؟ قال: الصلاة عمادُ الإسلام، والجهاد سَنامُ العمل، والصدقة شيء عَجبٌ! فقال: يا أبا ذر، لقد تركتَ شيئًا هو أوَثقُ عملي في نفسي، لا أراك ذكرته! قال: ما هو؟ قال: الصّيام! فقال: قُرْبة، وليس هناك! وتلا هذه الآية:"لن تنالوا البر حتى تُنفقوا مما تحبُون". (2)
__________
(1) الحديث: 7395- حماد: هو ابن سلمة.
والحديث رواه أحمد في المسند: 14081 (3: 285 حلبي) ، عن عفان، عن حماد، به، نحوه.
ورواه مسلم 1: 274-275، من طريق بهز، عن حماد بن سلمة، به، نحوه.
ورواه أبو داود: 1689، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد، وهو ابن سلمة.
وذكره السيوطي 1: 50، وزاد نسبته للنسائي.
وقوله"بأريحا"- هكذا ثبت في هذه الرواية في الطبري وليست تصحيفًا، ولا خطأ من الناسخين هنا. بل هي ثابتة كذلك في رواية أبي داود. ونص الحافظ في الفتح: 3: 257، على أنها ثابتة بهذا الرسم في رواية أبي داود من حديث حماد بن سلمة.
ورواية مسلم"بيرحا". واختلف في ضبط هذا الحرف فيه وفي غيره، اختلافًا كثيرًا. ونذكر هنا كلام القاضي عياض في مشارق الأنوار 1: 115-116، بنصه. ثم نتبعه بكلام الحافظ في الفتح 3: 257، بنصه أيضًا:
قال القاضي عياض: "بيرحا، اختلف الرواة في هذا الحرف وضبطه. فرويناه بكسر الباء وضم الراء وفتحها، والمدّ والقصر. وبفتح الباء والراء معًا. ورواية الأندلسيين والمغاربةٌ"بيرُحَا" - بضم الراء وتصريف حركات الإعراب في الراء. وكذا وجدتُها بخط الأصيلي. وقالوا: إنها"بير" مضافةُ إلى"حاء" - اسم مركب. قال أبو عبيد البكري: "حاء" على وزن حرف الهجاء: بالمدينة، مستقبلة المسجد، إليها ينسب"بِيرُحَاء"، وهو الذي صححه. وقال أبو الوليد البَاجِي: أنكر أبو ذَرّ الضم والإعراب في الراء، وقال: إنما هي بفتح الراء في كل حال. قال الباجي: وعليه أدركتُ أهل العلم والحفظ في المَشْرِق، وقال لي أبو عبد الله الصُّورِي: إنما هو"بَيْرَحَاء" بفتحهما في كل حال، وعلى رواية الأندلسيين ضبطنا الحرف عَلى ابن أبي جعفر في مسلم. وبكسر الباء وفتح الراء والقصر ضبطناها في الموطأ علَى ابن عتَّاب وابن حمدين وغيرهما. وبضم الراء وفتحها معًا قيَّده الأصيلي. وهو موضع بقبليّ المسجد، يعرف بقَصْر بني حُدَيْلة، بحاء مهملة مضمومة. وقد رواه من طريق حماد بن سلمة"بَرِيحا". هكذا ضبطناه عن شيوخنا: الحُشَنِي، والأسدي، والصَّدَفِي - فيما قيَّدوه عن العذري، والسمرقندي، والطبري، وغيرهم. ولم أسمع من غيرهم فيه خلافًا، إلاّ أني وجدتُ أبا عبد الله بن أبي نصر الحُميديّ الحافظ ذَكَر هذا الحرف في اختصاره، عن حماد بن سلمة -"بَيْرَحَاء" كما قال الصُّوري. ورواية الرازي في مسلم، في حديث مالك: "بَرِيحا". وهو وَهَم، وإنما هذا في حديث حماد، وإنما لمالك"بيرحا" كما قيده فيها الجميع، على الاختلاف المتقدّم عنهم، وذكر أبو داود في مصنفه هذا الحرف في هذا الحديث - بخلاف ما تقدم، قال: "جعلتُ أرضي بأريحا". وهذا كله يدلّ على أنها ليست بِبِيٍر".
وقال الحافظ: "وقوله فيه"بَيْرَحَاء" - بفتح الموحدة وسكون التحتانية وفتح الراء وبالمهملة والمدّ. وجاء في ضبطه أوجُهٌ كثيرة، جمعها ابن الأثير في النهاية، فقال: يروى بفتح الباء وبكسرها، وبفتح الراء وضمها، وبالمدّ والقصر. فهذه ثمان لغات. وفي رواية حماد بن سلمة"بَرِيحَا" - بفتح أوله وكسر الراء وتقديمها على التحتانية. وفي سنن أبي داود"بَارِيحَا" - مثله، لكن بزيادة ألف. وقال الباجي: أفصحها بفتح الباء وسكون الياء وفتح الراء مقصور. وكذا جزم به الصغاني، وقال: إنه"فَيْعَلى" من"البَرَاح". قال: ومَن ذكره بكسر الموحدة، وظنَّ أنها بئر من آبار المدينة - فقد صَحَّفَ".
وانظر الفتح أيضًا 5: 296، ومعجم البلدان 2: 327-328.
(2) الخبر: 7396- هذا خبر منقطع الإسناد، لأن ميمون بن مهران لم يدرك أبا ذر، أبو ذر مات سنة 32، وميمون ولد سنة 40، ومات سنة 118، كما في تاريخي البخاري، وتهذيب الكمال (مخطوط مصور) .
والخبر ذكره السيوطي 2: 50، ولم ينسبه لغير الطبري.
قوله: "شيء عجب" -"أثبتنا ما في المخطوطة، والذي في المطبوعة والدر المنثور"عجيب".(6/590)
7397 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني داود بن عبد الرحمن المكي، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين، عن عمرو بن دينار قال: لما نزلت هذه الآية:"لن تنالوا البرّ حتى تنفقوا مما تحبون"، جاء زيدٌ بفرس له يقال له:"سَبَل" إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تصدَّق بهذه يا رسول الله. فأعطاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ابنه أسامة بن زيد بن حارثة، فقال: يا رسول الله، إنما أردت أن أتصدّق به! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قد قُبلتْ صَدَقتك. (1)
7398- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر عن أيوب وغيره: أنها حين نزلت:"لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"، جاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبُّها، فقال: يا رسول الله، هذه في سبيل الله. فحملَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليها أسامةَ بن زيد، فكأنَّ زيدًا وَجد في نفسه، فلما رأى ذلك منه النبي صلى الله عليه وسلم قال: أما إن الله قد قبلها. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 7397- هذا حديث مرسل، لأن عمرو بن دينار تابعي.
داود بن عبد الرحمن العطار المكي: ثقة من شيوخ الشافعي. وثقه ابن معين، وأبو داود، وغيرهما.
عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين بن الحارث، المكي النوفلي: ثقة. أخرج له الجماعة. وقد مضى في: 1489.
والحديث أشار إليه السيوطي 2: 50، ولم يذكر لفظه، ولم ينسبه لغير الطبري. وذكر قبله حديثًا"مثله"، عن محمد بن المنكدر. وهو حديث مرسل أيضًا. ونسبه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
اسم الفرس: "سبل" - بفتح السين المهملة والباء الموحدة. ولم تنقط في المخطوطة، ونقطت ياء تحتية في المطبوعة، ورسمت"شبلة" في الدر المنثور. والصواب ما أثبتنا، وهكذا جاء اسمها في كتب الخيل وفي الشعر.
(2) الحديث: 7398- هوس حديث مرسل، مثل سابقه.
وقد ذكره السيوطي 2: 50. ونسبه لعبد الرزاق، والطبري، ولم ينسبه لغيرهما.(6/592)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93)
القول في تأويل قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزِّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه لم يكن حرَّم على بني إسرائيل = وهم ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن = شيئًا من الأطعمة من قبل أن تنزل التوراة، بل كان ذلك كله لهم حلالا إلا ما كان يعقوب حرّمه على نفسه، فإن وَلده حرّموه استنانًا بأبيهم يعقوب، من غير تحريم الله ذلك عليهم في وحي ولا تنزيل، ولا على لسان رسولٍ له إليهم، من قبل نزول التوراة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تحريم ذلك عليهم، هل نزل في التوراة أم لا؟ فقال بعضهم: لما أنزل الله عز وجل التوراةَ، حرّم عليهم من ذلك ما كانوا يحرِّمونه قبل نزولها.
*ذكر من قال ذلك:
7399- حدثني محمد بن الحسين، قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين" قالت اليهود: إنما نحرِّم ما حرّم إسرائيل على نفسه، وإنما حرّم(6/7)
إسرائيل العرُوق، (1) كان يأخذه عِرق النَّسا، كان يأخذه بالليل ويتركه بالنهار، فحلف لئْن الله عافاه منه لا يأكل عِرْقًا أبدًا، فحرّمه الله عليهم ثم قال:"قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، ما حرَّم هذا عليكم غيري ببغيكم، فذلك قوله: (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) [سورة النساء: 160]
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل تنزل التوراة، فإن اللهَ حرّم عليهم من ذلك ما كان إسرائيل حرَّمه على نفسه في التوراة، ببغيهم على أنفسهم وظلمهم لها. قل يا محمد: فأتوا، أيها اليهود، إن أنكرتم ذلك بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين أن الله لم يحرم ذلك عليكم في التوراة، وأنكم إنما تحرّمونه لتحريم إسرائيل إياه على نفسه.
* * *
وقال آخرون: ما كان شيءٌ من ذلك عليهم حرامًا، لا حرّمه الله عليهم في التوراة، وإنما هو شيء حرّموه على أنفسهم اتباعًا لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله. فكذبهم الله عز وجل في إضافتهم ذلك إليه، فقال الله عز وجل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد: إن كنتم صادقين، فأتوا بالتوراة فاتلوها، حتى ننظر هل ذلك فيها، أم لا؟ فيتبين كذبهم لمن يجهلُ أمرهم. (2)
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) العروق هي عروق اللحم، وهو الأجوف الذي يكون فيه الدم، وأما غير الأجوف فهو العصب.
(2) في المطبوعة: "ليتبين"، وأثبت ما في المخطوطة.(6/8)
7400- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت أبا معاذ، قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه" إسرائيل هو يعقوب، أخذه عرق النسا فكان لا يَبيتُ الليل من وجعه، (1) وكان لا يؤذيه بالنهار. فحلف لئن شفاهُ الله لا يأكل عِرْقًا أبدًا، وذلك قبل نزول التوراة على موسى. فسأل نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم اليهود: ما هذا الذي حرم إسرائيل على نفسه؟ فقالوا: نزلت التوراة بتحريم الذي حرَّم إسرائيل. فقال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين" إلى قوله:"فأولئك هم الظالمون"، وكذبوا وافتروا، لم تنزل التوراة بذلك.
* * *
وتأويل الآية على هذا القول: كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة وبعد نزولها، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة = بمعنى: لكن إسرائيل حرم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة بعض ذلك. (2) وكأن الضحاك وجّه قوله:"إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" إلى الاستثناء الذي يسميه النحويون"الاستثناء المنقطع".
* * *
وقال آخرون: تأويل ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة، فإنّ ذلك حرامٌ على ولده بتحريم إسرائيل إياه على ولده، من غير أن يكون الله حرّمه على إسرائيل ولا على ولده.
__________
(1) في المطبوعة: "لا يثبت الليل"، وليست بشيء، وسبب ذلك أن ناسخ المخطوطة قد استكثر من النقط على حروف هذه الكلمة، فاختلط الأمر على الناشر. وليس معنى"يبيت": ينام، فإن أهل اللغة قالوا: "بات: دخل في الليل، ومن قال: بات فلان، إذا نام، فقد أخطأ. ألا ترى أنك تقول: بت أرعى النجوم؟ معناه: بت أنظر إليها، فكيف ينام وهو ينظر إليها؟ " ومعنى"لا يبيت الليل"، أي يسكن الليل ولا يستريح، لأن البتوتة هي دخول الليل، والليل سكن للناس، فمن ضافه هم، أو أقلقه ألم، لم يسكن، فكأن الليل لم يشمله بهدأته. وفي ألفاظ أخرى لهذا الخبر: "لا ينام الليل من الوجع". ثم انظر الأثر رقم: 7402: "لا يبيت بالليل".
(2) انظر"إلا" بمعنى"لكن" فيما سلف 3: 206.(6/9)
*ذكر من قال ذلك:
7401- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" فإنه حرّم على نفسه العروقَ، وذلك أنه كان يشتكي عرق النسا، فكان لا ينام الليل، فقال: والله لئن عافاني الله منه لا يأكله لي ولد = وليس مكتوبًا في التوراة! وسأل محمد صلى الله عليه وسلم نفرًا من أهل الكتاب فقال: ما شأن هذا حرامًا؟ فقالوا: هو حرام علينا من قِبَل الكتاب. فقال الله عز وجل:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل" إلى"إنْ كنتم صادقين".
7402- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس: أخذه -يعني إسرائيل- عرقُ النسا، فكان لا يبيتُ بالليل من شدّة الوجع (1) ، وكان لا يؤذيه بالنهار، فحلف لئن شفاه الله لا يأكل عِرقًا أبدًا، وذلك قبل أن تنزل التوراة. فقال اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم: نزلت التوراة بتحريم الذي حرم إسرائيل على نفسه. قال الله لمحمد صلى الله عليه وسلم:"قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، وكذبوا، ليس في التوراة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول من قال:"معنى ذلك: كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من غير تحريم الله ذلك عليه، فإنه كان حرامًا عليهم بتحريم أبيهم إسرائيل ذلك عليهم، من غير أن يحرمه الله عليهم في تنزيل ولا وحي قبل التوراة، حتى نزلت التوراةُ، فحرّم الله عليهم فيها ما شاءَ، وأحلّ لهم فيها ما أحبّ".
وهذا قول قالته جماعة من أهل التأويل، وهو معنى قول ابن عباس الذي ذكرناه قبل.
ذكر بعض من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "لا يثبت"، وفي المخطوطة: "لا يبيت"، واضحة. وانظر التعليق السالف رقم: 1 ص: 9.(6/10)
7403 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة"، وإسرائيل، هو يعقوب ="قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين" يقول: كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل من قبل أن تنزل التوراة. إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فلما أنزل الله التوراة حرّم عليهم فيها ما شاء وأحلّ لهم ما شاء.
7404- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه.
* * *
واختلف أهل التأويل في الذي كان إسرائيل حرَّمه على نفسه.
فقال بعضهم: كان الذي حرّمه إسرائيل على نفسه العُرُوق.
*ذكر من قال ذلك:
7405- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن يوسف بن مَاهَك قال: جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال إنه جعل امرأته عليه حرامًا، قال: ليست عليك بحرام. قال: فقال الأعرابي: ولم؟ والله يقول في كتابه:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه"؟ قال: فضحك ابن عباس وقال: وما يدريك ما كان إسرائيل حَرّم على نفسه؟ قال: ثم أقبل على القوم يحدثهم فقال: إسرائيل عرَضتْ له الأنساءُ فأضنته، (1) فجعل لله عليه إنَ شفاه الله منها لا يطعم عِرْقًا. قال: فلذلك اليهود تنزع العروق من اللحم.
7406- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،
__________
(1) الأنساء جمع نسا: وهو هذا العرق الذي يخرج من الورك فيستبطن الفخذين، ثم يمر حتى يبلغ الكعب. وهو الذي يأخذه المرض المعروف.(6/11)
عن أبي بشر. قال: سمعت يوسف بن ماهك يحدثُ: أنّ أعرابيًّا أتى ابن عباس، فذكر رجلا حرّم امرأته فقال: إنها ليست بحرام. فقال الأعرابي: أرأيت قول الله عز وجل:"كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه"؟ فقال: إن إسرائيل كان به عِرْق النسا، فحلف لئن عافاه الله أن لا يأكل العرُوق من اللحم، وإنها ليست عليك بحرام.
7407- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز في قوله:"كل الطعام كان حِلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" قال، إن يعقوب أخذه وجع عرق النسا، فجعل لله عليه = أو: أقسم، أو: آلى =: لا يأكله من الدواب. (1) قال: والعروق كلها تبعٌ لذلك العرق.
7408- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنّ الذي حرّم إسرائيل على نفسه: أنّ الأنساء أخذته ذات ليلة، فأسهرته، فتألَّى إنِ الله شفاه لا يطعم نَسًا أبدًا، فتتبعت بنوهُ العروق بعد ذلك يخرجونها من اللحم. (2)
7409- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة بنحوه = وزاد فيه. قال: فتألَّى لئن شفاه الله لا يأكل عرقًا أبدًا، فجعل بنوه بعد ذلك يتتبعون العروق، فيخرجونها من اللحم. وكان"الذي حرّم على نفسه من قبل أن تنزل التوراة"، العُروق.
7410- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" قال، اشتكى
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أو أقسم أو قال لا يأكله من الدواب"، وهو غير مستقيم، وأشبه بالصواب ما أثبت. وانظر الأثر التالي وفيه"تألى"، أي أقسم، ومنه استظهرت هذا التصويب.
(2) في المخطوطة: "يخرجونه"، فلعل ما قبلها"العرق" مفردًا، ولكني تركت ما في المطبوعة فهو أجود، لما في الأثر الذي يليه.(6/12)
إسرائيل عرق النسا فقال: إنِ الله شفاني لأحرِّمنّ العروق! فحرَّمها.
7411- حدثنا الحسن بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان الثوري، عن حبيب بن أبي ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان إسرائيل أخذه عرق النسا، فكان يبيتُ لهُ زُقاء، (1) فجعل لله عليه إن شفاه أن لا يأكل العروق. فأنزل الله عز وجل:"كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه" = قال سفيان:"له زقاء"، يعني صياح.
7412- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه" قال، كان يشتكي عرق النسا، فحرَّم العروق.
7413- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال،: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
7414- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن حبيب بن أبي ثابت، عن ابن عباس في قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة" قال، كان إسرائيل يأخذه عرق النسا، فكان يبيت وله زقاء، فحرَّم على نفسه أن يأكل عرقًا.
* * *
وقال آخرون: بل"الذي كان إسرائيل حرَّم على نفسه"، لحوم الإبل وألبانُها.
*ذكر من قال ذلك:
7415- حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
__________
(1) في المطبوعة: "يبيت وله زقاء"، بالواو، وأثبت ما في المخطوطة وهو جيد أيضًا. الزقاء: صوت الباكي وصياحه. زقا الصبي يزقو: اشتد بكاؤه وصاح. وسيأتي مشروحًا في الأثر.(6/13)
جريج، عن عبد الله بن كثير قال: سمعنا أنه اشتكى شكوى، فقالوا: إنه عرق النسا، فقال: رَبّ، إن أحب الطعام إليّ لحومُ الإبل وألبانُها، فإن شفيتني فإني أحرمها عليّ = قال ابن جريج، وقال عطاء بن أبي رباح: لحومَ الإبل وألبانَها حرّم إسرائيل.
7416- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل" قال، كان إسرائيل حرّم على نفسه لحومَ الإبل، وكانوا يزعمون أنهم يجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه لحومَ الإبل وإنما كان حرّم إسرائيل على نفسه لحوم الإبل قبل أن تنزل التوراة، فقال الله:"فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، فقال: لا تجدون في التوراة تحريم إسرائيل على نفسه، أي لحم الإبل. (1)
7417- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا حبيب بن أبي ثابت قال، حدثنا سعيد، عن ابن عباس: أن إسرائيل أخذَه عرق النسا، فكانَ يبيت بالليل له زُقاء = يعني: صياح = قال: فجعل على نفسه لئن شفاه الله منه لا يأكله = يعني: لحوم الإبل = قال: فحرمه اليهود، وتلا هذه الآية:"كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، أي: إن هذا قبل التوراة.
7418- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في:"إلا ما حرم إسرائيل على نفسه" قال، حرّم العروقَ ولحوم الإبل. قال: كان به عرق النسا، فأكل من لحومها فباتَ بليلةٍ يَزْقُو، فحلف أن لا يأكله أبدا.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "إلا لحم الإبل" وهو لا يستقيم، وظننتها تحريف "أي"، فأثبتها كذلك، ولو حذفت كان الكلام مستقيما.(6/14)
7419- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن مجاهد في قوله:"إلا ما حرم إسرائيل على نفسه". قال: حرم لحم الأنعام. (1)
* * *
قال أبو جعفر: (2) وأولى هذه الأقوال بالصواب، قولُ ابن عباس الذي رواه الأعمش، عن حبيب، عن سعيد عنه: أنّ ذلك، العروقُ ولحوم الإبل، لأنّ اليهود مجمعة إلى اليوم على ذلك من تحريمها، كما كان عليه من ذلك أوائلُها. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك خبر، وهو: ما:-
7420- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس: أن عصابة من اليهود حضرت رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا أبا القاسم، أخبرنا أيّ الطعام حرَّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى، هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب مرضَ مرضًا شديدًا، فطال سقمه منه، فنذر لله نذرًا لئن عافاه الله من سقْمه ليحرّمنّ أحبّ الطعام والشراب إليه، وكان أحبّ الطعام إليه لُحمان الإبل، وأحبّ الشراب إليه ألبانها؟ فقالوا: اللهم نعم. (3)
* * *
وأما قوله:"قل فأتوا بالتوراة فاتلوها إن كنتم صادقين"، فإن معناه: قل، يا محمد، للزاعمين من اليهود أن الله حرم عليهم في التوراة العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها =:"ائتوا بالتوراة فاتلوها"، يقول: قل لهم: جيئوا بالتوراة فاتلوها، حتى يتبين لمن خفى عليه كذبهم وقيلهم الباطلَ على الله من أمرهم: أن ذلك ليس مما
__________
(1) في المطبوعة: "لحوم الأنعام"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "قال أبو جعفر رضي الله عنه".
(3) الأثر: 7420- هذا مختصر الأثر السالف رقم: 1605، وإسناده صحيح، وقد مضى تخريجه هناك.(6/15)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94)
أنزلته في التوراة ="إن كنتم صادقين"، يقول: إن كنتم محقين في دعواكم أنّ الله أنزل تحريمَ ذلك في التوراة، فأتونا بها، فاتلوا تحريمَ ذلك علينا منها.
* * *
وإنما ذلك خبر من الله عن كذبهم، لأنهم لا يجيئون بذلك أبدًا على صحته، فأعلم الله بكذبهم عليه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، وجعل إعلامه إياه ذلك حجةً له عليهم. لأن ذلك إذْ كان يخفى على كثير من أهل ملتّهم، فمحمد صلى الله عليه وسلم وهو أميٌّ من غير ملتهم، لولا أن الله أعلمه ذلك بوحي من عنده = كان أحرَى أن لا يعلمَه. فكان ذلك له صلى الله عليه وسلم، (1) من أعظم الحجة عليهم بأنه نبي الله صلى الله عليه وسلم، إليهم. لأن ذلك من أخبار أوائلهم كان من خفيِّ عُلومهم الذي لا يعلمه غير خاصة منهم، إلا من أعلمه الذي لا يخفى عليه خافية من نبي أو رسول، أو من أطلعه الله على علمه ممن شاء من خلقه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فمن كذَب على الله منا ومنكم، من بعد مجيئكم بالتوراة، وتلاوتكم إياها، وَعَدَمِكم ما ادّعيتم من تحريم الله العروقَ ولحومَ الإبل وألبانها فيها ="فأولئك هم الظالمون" يعني: فمن فعل ذلك منهم ="فأولئك"، يعني: فهؤلاء الذين يفعلون ذلك ="هم الظالمون"، يعني: فهم الكافرون، القائلون على الله الباطل، كما:-
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فكان في ذلك له صلى الله عليه وسلم"، و"في" زيادة لا شك فيها من سبق قلم الناسخ.(6/16)
قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
7421- حدثنا المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن زكريا، عن الشعبي:"فأولئك هم الظالمون" قال، نزلت في اليهود.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى جل ثناؤه: {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل"، يا محمد ="صدق الله"، فيما أخبرنا به من قوله:"كلّ الطعام كان حلا لبني إسرائيل"، وأن الله لم يحرم على إسرائيل ولا على ولده العروقَ ولا لحومَ الإبل وألبانَها، وأنّ ذلك إنما كان شيئًا حرّمه إسرائيل على نفسه وَوَلده بغير تحريم الله إياه عليهم في التوراة = وفي كل ما أخبر به عباده من خبر، (1) دونكم. وأنتم، يا معشر اليهود، الكذبةُ في إضافتكم تحريم ذلك إلى الله عليكم في التوراة، (2) المفتريةُ على الله الباطل في دعواكم عليه غير الحق ="فاتبعوا ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين"، يقول: فإن كنتم، أيها اليهود، محقين في دعواكم أنكم على الدّين الذي ارتضاه الله لأنبيائه ورُسله ="فاتبعوا ملة إبراهيم"، خليل الله، فإنكم تعلمون أنه الحق الذي ارتضَاه الله منْ خلقه دينًا، وابتعث به أنبياءَه، ذلك الحنيفية -يعني الاستقامة على الإسلام وشرائعه- دون اليهودية والنصرانية والمشركة.
* * *
__________
(1) في المخطوطة"في كل ما أخبر ... " بحذف الواو، والصواب ما في المطبوعة. وهو معطوف على قوله آنفا: "صدق الله فيما أخبرنا به ... ". وقوله: "دونكم"، سياقه"صدق الله ... دونكم"، يعني فأنتم غير صادقين.
(2) في المطبوعة: "أنتم يا معشر اليهود الكذبة ... " والصواب إثبات الواو كما في المخطوطة. وسياقه"وأنتم ... الكذبة ... المفترية ... " بالرفع فيهما، خبر"أنتم".(6/17)
وقوله:"وما كان من المشركين"، يقول: لم يكن يشرك في عبادته أحدًا من خلقه. فكذلك أنتم أيضًا، أيها اليهود، فلا يتخذ بعضكم بعضًا أربابًا من دون الله تطيعونهم كطاعة إبراهيم ربه = وأنتم يا معشرَ عبدة الأوثان، فلا تتخذوا الأوثان والأصنام أربابًا، ولا تعبدوا شيئًا من دون الله، فإن إبراهيم خليل الرحمن كان دينُه إخلاص العبادة لربه وحدَه، من غير إشراك أحد معه فيه. فكذلك أنتم أيضًا، فأخلصوا له العبادة ولا تشركوا معه في العبادة أحدًا، فإن جميعكم مقرُّون بأنّ إبراهيم كان على حقّ وَهدْى مستقيم، فاتبعوا ما قد أجمع جميعُكم على تصويبه من ملته الحنيفية، ودعوا ما اختلفتم فيه من سائر الملل غيرها، أيها الأحزاب، فإنها بدَع ابتدعتموها إلى ما قد أجمعتم عليه أنه حق، فإن الذي أجمعتم عليه أنه صوابٌ وحق من ملة إبراهيم، هو الحق الذي ارتضيتُه وابتعثتُ به أنبيائي ورسلي، وسائرُ ذلك هو الباطل الذي لا أقبله من أحد من خلقي جاءَني به يوم القيامة.
* * *
وإنما قال جل ثناؤه:"وما كان من المشركين"، يعني به: وما كان من عَدَدهم وأوليائهم. وذلك أن المشركين بعضهم من بعض في التظاهر على كفرهم. ونصرةِ بعضهم بعضًا. فبرأ الله إبراهيم خليله أن يكون منهم أو [من] نصرائهم وأهل ولايتهم. (1) وإنما عنى جل ثناؤه بالمشركين، اليهودَ والنصارَى وسائر الأديان، غير الحنيفية. قال: لم يكن إبراهيم من أهل هذه الأديان المشركة، ولكنه كان حنيفًا مسلمًا.
* * *
__________
(1) الزيادة بين القوسين يستقيم بها الكلام على وجهه.(6/18)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: إنّ أول بيت وضع للناس، يُعبَد الله فيه مباركًا وهُدًى للعالمين، الذي ببكة. قالوا: وليس هو أوّل بيت وضع في الأرض، لأنه قد كانت قبله بيوت كثيرة.
*ذكر من قال ذلك:
7422- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة قال: قام رجل إلى عليّ فقال: ألا تخبرني عن البيت؟ أهو أوّل بيت وُضع في الأرض؟ فقال: لا ولكنه أول بيت وضع في البرَكة مقامِ إبراهيم، ومن دَخَله كان آمنًا. (1)
7423- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت خالدَ بن عرعرة قال: سمعت عليًّا، وقيل له:"إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة"، هو أوّل بيت كان في الأرض؟ قال: لا! قال: فأين كان قَوْم نُوح؟ وأين كان قوم هود؟ قال: ولكنه أوّل بيت وُضع للناس مبارَكًا وهدًى. (2)
__________
(1) الأثر 7422- هو مختصر الأثر السالف رقم: 2058، وفي المخطوطة والمطبوعة هنا أيضا"وضع في البركة"، كما كان في المطبوعة والمخطوطة هناك. ولكني صححته من المستدرك والدر المنثور: "فيه البركة"، غير أني أعود فأقول إني أرجح أن ما كان هناك صواب، وأنه غير مستساغ أن يكون هذا الخطأ قد تكرر في موضعين متباعدين من الكتاب. وإعراب الكلام فيما أرجح"مقام إبراهيم" بالجر، بدلا من"البركة"، على غير ما ضبطته هناك برفع"مقام إبراهيم". هذا، وقد مضى الكلام على رجال إسناده في الأثر السالف.
(2) الأثر: 7423- مضى إسناده برقم: 2059، ولم يذكر لفظه. وقد مضى ذكر رجاله هناك.(6/19)
7424- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال، سأل حفْصٌ الحسنَ وأنا أسمع عن قوله:"إنّ أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا" قال، هو أول مسجد عُبد الله فيه في الأرض.
7425- حدثنا عبد الجبار بن يحيى الرملي قال، حدثنا ضمرة، عن ابن شوذب، عن مطر في قوله:"إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة" قال: قد كانت قبله بيوتٌ، ولكنه أول بيت وُضع للعبادة. (1)
7426- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن قوله:"إن أوّل بيت وضع للناس"، يُعبد الله فيه ="للذي ببكة".
7427- حدثني المثني قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا" قال، وضع للعبادة.
* * *
وقال آخرون: بل هو أوّل بيت وضع للناس.
ثم اختلف قائلو ذلك في صفة وضعه أوّل.
فقال بعضهم: خُلق قبل جميع الأرَضين، ثم دُحِيت الأرَضون من تحته.
*ذكر من قال ذلك:
7428- حدثنا محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا شيبان، عن الأعمش، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن عبد الله بن عمرو قال: خلق الله البيتَ قبل الأرض بألفي سنة، وكان -إذ كان عرشه على الماء- زَبْدةً (2) بيضاءَ، فدحيتُ الأرض من تحته.
__________
(1) الأثر: 7325-"عبد الجبار بن يحيى الرملي"، شيخ الطبري، لم أجد ترجمته في مكان. وسيأتي برقم: 7446.
(2) "الزبدة": الطائفة من زبد الماء، الأبيض الذي يعلوه.(6/20)
7429- حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال: سمعت مجاهدًا يقول: إنّ أول ما خلق الله الكعبةَ، ثم دَحى الأرض من تحتها.
7430- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"إن أول بيت وضع للناس"، كقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) [سورة آل عمران: 110]
7431- حدثني محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا وهدى للعالمين"، أما"أول بيت"، فإنه يوم كانت الأرض ماء، كان زَبْدَة على الأرض، فلما خلق الله الأرضَ، خلق البيت معها، فهو أول بيت وضع في الأرض.
7432- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا) قال، أوّل بيت وَضَعه الله عز وجل، فطاف به آدم وَمنْ بعده.
* * *
وقال آخرون: موضع الكعبة، موضع أوّل بيت وضعه الله في الأرض.
*ذكر من قال ذلك:
7433- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذُكر لنا أن البيتَ هبط مع آدم حين هبط، قال: أهبِط معك بيتي يُطاف حوله كما يطاف حول عرشي. فطاف حوله آدم ومن كان بَعده من المؤمنين، حتى إذا كان زمنُ الطوفان، زَمنَ أغرقَ الله قوم نوح، رَفعه الله وطهَّره من أن يصيبهُ عقوبة أهل الأرض، فصار معمورًا في السماء. ثم إنّ إبراهيم تتبع منه أثرًا بعد ذلك، فبناه على أساسٍ قديم كانَ قبله.
* * *(6/21)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قال جل ثناؤه فيه: إن أول بيت مباركٍ وهُدًى وُضع للناس، للذي ببكة. ومعنى ذلك:"إن أول بيت وضع للناس"، أي: لعبادة الله فيه ="مباركًا وهدًى"، يعني بذلك: ومآبًا لنُسْك الناسكين وطواف الطائفين، تعظيما لله وإجلالا له ="للذي ببكة" = لصحة الخبر بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك ما:-
7434- حدثنا به محمد بن المثني قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، عن أبي ذر قال، قلت: يا رسول الله، أيُّ مسجد وضع أوّل؟ قال:"المسجد الحرام. قال: ثم أيٌّ؟ قال: المسجد الأقصى. قال: كم بينهما؟ قال: أربعون سنة. (1)
* * *
فقد بين هذا الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ المسجد الحرام هو أوّل مسجد وضعه الله في الأرض، على ما قلنا. فأما في موضعه بيتًا، بغير معنى بيت للعبادة والهدى والبركة، (2) ففيه من الاختلاف ما قد ذكرت بعضَه في هذا الموضع، وبعضه في سورة البقرة وغيرها من سُور القرآن، وبينت الصواب من القول عندنا في ذلك بما أغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 7434- سليمان: هو الأعمش. إبراهيم التيمي: هو إبراهيم بن يزيد بن شريك. مضى هو وأبوه في: 2998.
والحديث رواه أحمد في المسند 5: 166 - 167 (حلبى) ، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به، بزيادة في آخره.
ورواه أيضا 5: 150، 156، 157، 160 (حلبي) ، بأسانيد، عن الأعمش، مطولا. وكذلك رواه مسلم 1: 146 - 147، من طريق علي بن مسهر، عن الأعمش.
وذكره ابن كثير 2: 190، من رواية المسند (5: 150) ، ثم قال: "وأخرجه البخاري، ومسلم - من حديث الأعمش، به". وذكره السيوطي 2: 52، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبيهقي في الشعب.
(2) في المطبوعة: "فأما في وضعه بيتا ... "، غيروا ما في المخطوطة وهو صواب.
(3) انظر ما سلف 3: 57 - 64.(6/22)
وأما قوله:"للذي ببكة مباركا"،، فإنه يعني: للبيت الذي بمُزْدَحم الناس لطوافهم في حجهم وعمَرهم.
* * *
وأصل"البكّ": الزحم، يقال: منه:"بكّ فلانٌ فلانًا" إذا زحمه وصدمه -"فهو يَبُكه بَكًّا، وهم يتباكُّون فيه"، يعني به: يتزاحمون ويتصادمون فيه. فكأن"بَكَّة""فَعْلة" من"بَكَّ فلان فلانًا" زحمه، سُميت البقعة بفعل المزدحمين بها.
* * *
فإذا كانت"بكة" ما وصفنا، وكان موضع ازدحام الناس حَوْل البيت، وكان لا طوافَ يجوز خارج المسجد = كان معلومًا بذلك أن يكون ما حَوْل الكعبة من داخل المسجد، وأن ما كان خارجَ المسجد فمكة، لا"بكة". لأنه لا معنى خارجَه يوجب على الناس التَّباكَّ فيه. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك فسادُ قول من قال:"بكة" اسم لبطن"مكة"، ومكة اسم للحرم. (1) .
* * *
*ذكر من قال في ذلك ما قلنا: من أن"بكة" موضع مزدحم الناس للطواف:
__________
(1) انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي المخطوطة ما نصه:
"يتلوهُ ذكر مَنْ قال في ذلك ما قُلنا من أن بكة موضع مزدحم الناس للطواف والحمد لله على عونه وإحسانه، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين وسلم تسليمًا" ثم يتلوه ما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يَسِّر
أَخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان البغدادي قال حدثنا محمد بن جرير" فأعاد إسناد المخطوطة التي نقل عنها، كما سلف في تعليقنا 6: 495، 496 رقم: 5، وهذا هو الموضع الثاني لذكر هذا الإسناد الجديد.(6/23)
7435- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال،: حدثنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري في قوله:"إن أوّل بيت وضع للناس للذي ببكة" قال،"بكة" موضع البيت،"ومكة" ما سوى ذلك.
7436- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم مثله.
7437- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن أبي جعفر قال: مرت امرأة بين يدي رجل وهو يصلي وهي تطوف بالبيت، فدفعها. قال أبو جعفر: إنها بَكَّةٌ، يبكّ بعضُها بعضًا.
7438- حدثنا ابن المثني قال: حدثنا عبد الصمد قال،: حدثنا شعبة قال، حدثنا سلمة، عن مجاهد قال: إنما سميت"بكة"، لأن الناس يتباكُّون فيها، الرجالَ والنساءَ.
7439- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد قال، قلت لأي شيء سُميت"بكة"؟ قال: لأنهم يتباكُّون فيها =قال: يعني: يزدحمون. (1)
7440- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن الأسود بن قيس، عن أبيه، عن ابن الزبير قال، إنما سميت"بكة"، لأنهم يأتونها حُجّاجًا. (2)
7441- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إنّ أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركًا"، فإن الله بَكَّ به الناس جميعًا، فيصلي النساءُ قدّام الرجال، ولا يصلح ببلد غيره.
7442- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"بكة"، بكّ الناس بعضهم بعضًا، الرجال والنساء، يصلي بعضُهم بين يدَيْ بعض، لا يصلح ذلك إلا بمكة.
__________
(1) في المطبوعة: "يتزاحمون"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 7440-"الأسود بن قيس العبدي"، روى عن أبيه وجماعة، وروى عنه شعبة والثوري وشريك وغيرهم. وأبوه: "قيس العبدي" الكوفي، مترجم في الكبير 4 / 1 / 149. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "عن أخيه"، وهو تصحيف والصواب ما أثبت.(6/24)
7443- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي قال:"بكة"، موضع البيت، و"مكة": ما حولها.
7444- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن أزهر، عن غالب بن عبيد الله: أنه سأل ابن شهاب عن"بكة" قال،"بكة" البيت، والمسجد. وسأله عن"مكة"، فقال ابن شهاب:"مكة": الحرم كله.
7445- حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء ومجاهد قالا"بكة": بكّ فيها الرجالَ والنساءَ.
7446- حدثني عبد الجبار بن يحيى الرملي. قال: قال ضمرة بن ربيعة،"بكة": المسجد،. و"مكة": البيوت. (1)
* * *
وقال بعضهم بما:-
7447- حدثني به يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"إن أوّل بيت وُضع للناس للذي ببكة" قال، هي مكة.
* * *
وقيل:"مباركًا"، لأن الطواف به مغفرةٌ للذنوب. (2)
* * *
فأما نصب قوله:"مباركا"، فإنه على الخروج من قوله:"وضع"، لأن في"وضع" ذكرًا من"البيت" هو به مشغول، وهو معرفة، و"مبارك" نكرة لا يصلح أن يتبعه في الإعراب. (3)
* * *
__________
(1) الأثر: 7446-"عبد الجبار بن يحيى الرملي" شيخ الطبري، مضى برقم: 7425.
(2) هذا كلام الفراء في معاني القرآن 1: 227.
(3) "الخروج" هنا، كأنه الحال، وقد سلف في 5: 253، 254 ما يشبه أن يكون أيضا بمعنى الحال. وانظر ما سلف 6: 586"أن الحال يجيء بعد فعل قد شغل بفاعله، فينصب كما ينصب المفعول الذي يأتي بعد الفعل الذي شغل بفاعله".(6/25)
فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
وأما على قول من قال:"هو أول بيت وضع للناس"، على ما ذكرنا في ذلك قولَ من ذكرنا قوله، فإنه نصبٌ على الحال من قوله:"للذي ببكة". لأن معنى الكلام على قولهم: إن أول بيت وضع للناس البيتُ [الذي] ببكة مباركًا. فـ "البيت" عندهم من صفته"الذي ببكة"، و"الذي" بصلته معرفته، و"المبارك" نكرة، فنصب على القطع منه، في قول بعضهم = وعلى الحال في قول بعضهم. (1) و"هدى" في موضع نصب على العطف على قوله"مباركا".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك،
فقرأه قرأة الأمصار: (فِيهِ أيَاتٌ بَيِّنَاتٌ) على جماع"آية"، بمعنى: فيه علامات بيناتٌ.
* * *
وقرأ ذلك ابن عباس. (فِيهِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ) ، يعني بها: مقام إبراهيم، يراد بها: علامة واحدةٌ.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"فيه آيات بينات" وما تلك الآيات؟. فقال بعضهم: مقامُ إبراهيم والمشعرُ الحرام، ونحو ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
7448- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
__________
(1) "القطع" كأنه باب من الحال، انظر ما سلف 6: 270، 371، 415 وما قبلها في فهرس المصطلحات من الأجزاء السالفة.(6/26)
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فيه آيات بينات"، مقامُ إبراهيم، والمشعر.
7449- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة ومجاهد:"فيه آيات بينات مَقامُ إبراهيم" قال، مقامُ إبراهيم، من الآيات البينات. (1)
* * *
وقال آخرون:"الآيات البينات"، مقام إبراهيم ="ومن دخله كانَ آمنا".
*ذكر من قال ذلك:
7450- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"فيه آيات بينات" قال،"مقام إبراهيم ومن دخله كان آمنا".
وقال آخرون:"الآيات البينات"، هو مقام إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك:
7451- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قوله:"فيه آيات بَينات مقام إبراهيم" أما"الآيات البينات" فمقام إبراهيم.
* * *
قال أبو جعفر: وأما الذين قرأوا ذلك:"فيه آية بينة" على التوحيد، فإنهم عنوا بـ "الآية البينة"، مقام إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك:
7452- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "إسحاق بن يحيى"، والصواب"الحسن بن يحيى"، وهو إسناد يدور دورانًا في التفسير أقربه رقم: 7442.(6/27)
نجيح، عن مجاهد:"فيه آية بينة"، (1) قال: قدمَاه في المقام آية بينة. يقول:"ومن دخله كان آمنا" قال، هذا شيء آخر.
7453- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد:"فيه آية بينة مقام إبراهيم" قال، أثر قدميه في المقام، آية بينة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل ذلك بالصواب، قول من قال:"الآيات البينات، منهنّ مقام إبراهيم"، وهو قول قتادة ومجاهد الذي رواه معمر عنهما. فيكون الكلام مرادًا فيه"منهن"، فترك ذكرُه اكتفاء بدلالة الكلام عليها.
* * *
فإن قال قائل: فهذا المقامُ من الآيات البينات، فما سائر الآيات التي من أجلها قيل:"آيات بينات"؟
قيل: منهنّ المقام، ومنهن الحجرُ، ومنهن الحطيمُ.
* * *
وأصحّ القراءتين في ذلك قراءة من قرأه: (2) "فيه آياتٌ بيناتٌ"، على الجماع، لإجماع قرأة أمصار المسلمين على أن ذلك هو القراءة الصحيحة دون غيرها.
* * *
وأما اختلاف أهل التأويل في تأويل:"مقام إبراهيم"، فقد ذكرناهُ في"سورة البقرة"، وبينا أولى الأقوال بالصواب فيه هنالك، وأنه عندنا المقامُ المعروف به. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فيه آيات بينات"، وهو هنا يذكر قول مجاهد في قراءة ابن عباس على الإفراد، فكتبها الناسخ على قراءته بالجمع. ورددتها إلى ما ينبغي، ودليل ذلك السهو من الناسخ في الأثر التالي.
(2) في المطبوعة: "من قرأ". وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر ما سلف 3: 33-37.(6/28)
فتأويل الآية إذًا: إن أول بيت وُضع للناس مباركًا وهدًى للعالمين، للَّذي ببكة، فيه علاماتٌ بيناتٌ من قدرة الله وآثار خليله إبراهيم، منهن أثر قَدَم خليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم في الحجر الذي قامَ عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: الخبرُ عن أنّ كل من جرّ في الجاهلية جريرةً ثم عاذَ بالبيت، لم يكن بها مأخوذًا.
*ذكر من قال ذلك:
7454- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ومن دخله كان آمنا"، وهذا كان في الجاهلية، كان الرّجل لو جرّ كل جريرة على نفسه، ثم لجأ إلى حَرَم الله، لم يُتناول ولم يُطلب. فأما في الإسلام فإنه لا يمنع من حدود الله، مَنْ سَرَق فيه قطع، ومن زَنى فيه أقيمَ عليه الحدّ، ومن قَتل فيه قُتل = وعن قتادة: أن الحسن كان يقول: إنّ الحرم لا يمنع من حدود الله. لو أصاب حدًّا في غير الحرم، فلجأ إلى الحرم، لم يمنعه ذلك أن يُقام عليه الحدّ.
* * *
*ورأى قتادةُ ما قاله الحسن.
7455- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"ومن دخله كان آمنًا" قال، كان ذلك في الجاهلية.(6/29)
فأما اليوم، فإن سرق فيه أحدٌ قطع، وإن قتل فيه قُتل، ولو قدِر فيه على المشركين قتِلوا.
7456- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، حدثنا خصيف، عن مجاهد = في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم = قال: يؤخَذ، فيخرج من الحرم، ثم يقام عليه الحد. يقول: القتل.
7457- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن حماد، مثل قول مجاهد.
7458- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا هشام، عن الحسن وعطاء = في الرجل يصيب الحدّ ويلجأ إلى الحرم = يُخرج من الحرم، فيقامُ عليه الحد.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على قول هؤلاء: فيه آيات بينات مقامُ إبراهيم، والذي دخله من الناس كان آمنًا بها في الجاهلية.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن يَدْخله يكن آمنًا بها = بمعنى الجزاء، كنحو قول القائل."من قامَ لي أكرمته"، بمعنى: من يَقم لي أكرمه. وقالوا: هذا أمرٌ كان في الجاهلية، كان الحرمُ مَفزَع كل خائف. وملجأ كل جانٍ، لأنه لم يكن يُهاج به ذو جريرة، ولا يَعرِض الرّجل فيه لقاتل أبيه وابنه بسوء. قالوا: وكذلك هو في الإسلام، لأن الإسلام زادَه تعظيمًا وتكريمًا.
*ذكر من قال ذلك:
7459- حدثني محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا خصيف قال، حدثنا مجاهد قال، قال ابن عباس: إذا أصاب الرجل الحدَّ: قتل أو سرق، فدخل الحرم، لم يُبايع ولم يُؤوَ، حتى يتبرّم فيخرج من الحرم، فيقام عليه الحد. قال. فقلت لابن عباس: ولكني لا أرَى(6/30)
ذلك! أرى أن يؤخذ برمُتّه، (1) ثم يخرج من الحرَم، فيقام عليه الحد، فإن الحرم لا يزيده إلا شدّة.
7460- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الملك، عن عطاء قال: أخذَ ابن الزبير سعدًا مولى معاوية -وكان في قلعة بالطائف- فأرسل إلى ابن عباس من يُشاوره فيهم: إنهم لنا عَدوّ. (2) فأرسل إليه ابن عباس: لو وجدت قاتل أبي لم أعرض له. قال: فأرسل إليه ابن الزبير: ألا نخرجهم من الحرم؟ قال: فأرسل إليه ابن عباس: أفلا قبل أن تدخلهم الحرم؟ = زاد أبو السائب في حديثه: فأخرجهم فصلبهم، ولم ينظر إلى قول ابن عباس. (3)
7461- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس قال: من أحدَثَ حَدَثًا في غير الحرم، ثم لجأ إلى الحرم لم يُعرَض له، ولم يبايع، ولم يكلَّم، ولم يؤوَ حتى يخرج من الحرم. فإذا خرج من الحرم، أخذ فأقيم عليه الحد. قال: ومن أحدث في الحرم حدَثًا أقيم عليه. (4)
__________
(1) الرمة (بضم الراء وتشديد الميم المفتوحة) : قطعة حبل يشد بها الأسير أو القاتل إذا قيد إلى القتل للقود. وقوله: أخذ برمته (بالبناء للمجهول) : أي أخذ قسرًا حتى يقتل.
(2) في المطبوعة"لنا عين"، ولا معنى لها. وفي المخطوطة: "لنا عرق"، ولم أجد لها وجهًا، وهي مصحفة، فرأيت أن أقرب ذلك إليها"عدو" فأثبتها، مع مخافتي أن لا تكون كذلك.
(3) في المطبوعة: "ولم يصغ إلى قول ابن عباس"، وفي المخطوطة"لم ينطق إلى قول ابن عباس" وهي لا معنى لها، وهي مصحفة، وأقرب ما يكون صوابها، هو ما أثبته.
هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان بعد الجهد، وقد أشاروا إلى خبر ابن عباس وابن الزبير في كثير من الكتب، ولكنهم لم يأتوا فيه بهذا النص. وقد روى الأزرقي في أخبار مكة 2: 111 معنى هذا الأثر فقال: "حدثنا أبو الوليد، قال حدثني جدي، عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن عطاء: أنكر ابن عباس قتل ابن الزبير سعدًا مولى عتبة وأصحابه ... " ولم يقل"مولى معاوية". وأخشى أن يكون"مولى عتبة"، يعني: عتبة بن أبي سفيان. وقد ذكر الطبري سعدًا مولى معاوية في تاريخه 6: 183، 184 فقال: "وكان على حجابه سعد مولاه". وهذا يحتاج إلى تحقيق لم يتيسر لي عند كتابة هذا. فأرجو أن أبلغ منه ما أريد إن شاء الله.
(4) في المطبوعة: "أقيم عليه الحد"، زاد"الحد"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب.(6/31)
7462- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نَصر السّلمي، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: من أحدث حدَثًا ثم استجار بالبيت فهو آمن، وليس للمسلمين أن يعاقبوه على شيء إلى أن يخرج. فإذا خَرَج أقاموا عليه الحدّ. (1)
7463- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا حجاج، عن عطاء عن ابن عمر قال: لو وجدتُ قاتل عمر في الحرَم، ما هِجْتُه.
7464- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ليث، عن عطاء: أن الوليد بن عتبة أراد أن يُقيم الحدّ في الحرم، فقال له عُبيد بن عمير: لا تقم عليه الحد في الحرَم إلا أن يكون أصابه فيه.
7465- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا مطرف، عن عامر قال: إذا أصاب الحدّ ثم هرب إلى الحرم، فقد أمن فإذا أصابه في الحرم، أقيم عليه الحدُّ في الحرم.
7466- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن فراس، عن الشعبي قال: من أصاب حدًّا في الحرم أقيم عليه في الحرم. ومن أصابه خارجًا من الحرم ثم دخل الحرم، لم يكلَّم ولم يبايع حتى يخرج من الحرم، فيقام عليه.
7467- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير = وعن عبد الملك، عن عطاء بن أبي رباح = في الرجل يقتل ثم يدخل الحرم = قال: لا يبيعه أهلُ مكة ولا يشترون منه، ولا يسقونه ولا يطعمونه ولا يؤونه = عد أشياء كثيرة = حتى
__________
(1) الأثر: 7426-"إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي" هو التبان، مضى في مثل هذا الإسناد رقم: 3439، 3484، 3521."وابن أبي حبيبة"، هو إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهلي. مضى فيها وفي رقم: 4319.(6/32)
يخرج من الحرَم، فيؤخذ بذنبه.
7468- حدثت عن عمار قال،: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنّ الرجل إذا أصاب حدًّا ثم دخل الحرم، أنه لا يُطعَم، ولا يُسقى، ولا يؤوَى، ولا يكلَّم، ولا ينكح، ولا يبايع. فإذَا خرج منه أقيم عليه الحد.
7469- حدثني المثني قال، حدثني حجاج قال،: حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إذا أحدث الرجل حدَثًا ثم دخل الحرم، لم يؤْوَ، ولم يجالس، ولم يبايع، ولم يطعَم، ولم يُسْق، حتى يخرج من الحرَم.
7470- حدثني المثني قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
7471- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"ومن دخله كان آمنًا"، فلو أنّ رجلا قتلَ رجلا ثم أتى الكعبة فعاذّ بها، ثم لقيه أخو المقتول لم يحلّ له أبدًا أن يقتله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن دخله يَكن آمنًا من النار.
*ذكر من قال ذلك:
7472- حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم قال، أخبرنا رزيق بن مسلم المخزومي قال، حدثنا زياد بن أبي عياش، عن يحيى بن جعدة في قوله:"ومن دخله كان آمنًا" قال، آمنًا من النار. (1)
* * *
__________
(1) الخبر: 7472- هذا أثر ليس بحجة في نفسه على أحد. هو قول في معنى الآية قاله تابعي، رأي من الآراء. فإن يحيى بن جعدة بن هبيرة القرشي المخزومي: تابعي ثقة. ولكنه في هذا الخبر لم يرو شيئًا عن غيره. إنما المشكل هنا رجال الإسناد!
رزيق بن مسلم المخزومي: هكذا ثبت هنا في المطبوعة والمخطوطة، ولكن المخطوطة لم تنقط فيها الزاي، فاحتمل أن يكون"رزيق" بتقديم الراء، أو "زريق" بتقديم الزاي. ووقع في ابن كثير 2: 193، نقلا عن إسناد هذا الأثر من تفسير ابن أبي حاتم"زريق بن مسلم الأعمى مولى بني مخزوم" - بتقديم الزاي. وليست مطبوعة ابن كثير بعمدة في التصحيح.
ولم أجد لهذا الرجل ترجمة بعد طول البحث والعناء. إلا أن الحافظ الذهبي فرق في المشتبه، ص: 220 - 224 بين تقديم الراء وتأخيرها في هذا الرسم، مستوعبًا كل الأعلام فيه أو يكاد. وتبعه الحافظ في تحرير المشتبه (مخطوط) . وزاد عليه ما فاته. فقال الذهبي -في تقديم الراء-: "ورزيق بن هشام، عن زياد بن أبي عياش". ثم ذكر آخر، ثم قال: "ورزيق الأعمى، عن أبي هريرة. واه". وهذا الواهي مترجم بإيجاز في لسان الميزان. ولم أستطع الجزم بأن هذين أو أحدهما هو المذكور في هذا الإسناد. فإن اتفاق روايتي الطبري وابن أبي حاتم على تسميته"رزيق بن مسلم" - يبعد معه الظن بتحريفه عن"رزيق بن هشام". ولكن اتفاق اسم شيخه عند ابن أبي حاتم مع ما ذكره الذهبي يكاد يرجح أنه هو.
وأما ترجيح أنه بتقديم الراء، خلافًا لما ثبت في مطبوعة ابن كثير، فمرده إلى ارتفاع الثقة بتصحيحها.
وشيخه"زياد بن أبي عياش": لم أجد له ترجمة أيضًا، إلا ذكره في المشتبه والتحرير. وثبت في مطبوعة الطبري هنا"زياد بن أبي عياض"، بالضاد. وهو تحريف، صوابه ما في ابن كثير عن إسناد ابن أبي حاتم. وكذلك ثبت في مخطوطة الطبري، ولكن بدون نقط على الشين، كأنه"عباس". وهو خطأ واضح، أو تساهل في إعجام الحرف. ورجح إعجامه ثبوته بالشين معجمة في المشتبه والتحرير. وزادنا توثيقًا الحافظ حين نص عليه في تحرير المشتبه، فقال فيما زاده على الذهبي استكمالا لمن عرف باسم"عياش"-: "وزياد بن أبي عياش، عن يحيى بن جعدة".(6/33)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قول ابن الزبير ومجاهد والحسن، ومن قال:"معنى ذلك: ومن دخله من غيره ممن لجأ إليه عائذًا به، كان آمنًا ما كان فيه، ولكنه يخرج منه فيقام عليه الحد، إن كان أصاب ما يستوجبه في غيره ثم لجأ إليه. وإن كان أصابه فيه أقيمَ عليه فيه".
* * *
فتأويل الآية إذا: فيه آيات بينات مقام إبراهيم، ومن يدخله من الناس مستجيرًا به، يكن آمنًا مما استجارَ منه ما كان فيه، حتى يخرج منه.
* * *
فإن قال قائل: وما منعك من إقامة الحد عليه فيه؟
قيل: لاتفاق جميع السلف على أنّ من كانت جريرته في غيره ثم عاذ به،(6/34)
فإنه لا يؤخذ بجريرته فيه. وإنما اختلفوا في صفة إخراجه منه لأخذه بها.
فقال بعضهم: صفة ذلك: منعه المعانىَ التي يضطرّ مع منعه وفقدِه إلى الخروج منه.
وقال آخرون: لا صفة لذلك غيرُ إخراجه منه بما أمكن إخراجه من المعاني التي تُوصِّل إلى إقامة حدّ الله معها.
فلذلك قلنا: غير جائز إقامة الحد عليه فيه إلا بعد إخراجه منه. فأما من أصاب الحدّ فيه، فإنه لا خلاف بين الجميع في أنه يقامُ عليه فيه الحد. فكلتا المسألتين أصل مُجمَع على حكمهما على ما وصفنا.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما دِلالتك على أن إخراج العائذ بالبيت =إذا أتاه مستجيرًا به من جريرة جرّها. أو من حدٍّ أصابه= من الحرم، جائزٌ لإقامة الحد عليه، وأخذه بالجريرة، وقد أقررتَ بأن الله عز وجل قد جَعل من دخله آمنًا، ومعنى"الآمن" غير معنى"الخائف"؟ فبما هما فيه مختلفان؟ (1) .
قيل: قلنا ذلك، لإجماع الجميع من المتقدمين والمتأخرين من علماء الأمة، على أنّ إخراج العائذ به =من جريرة أصابها أو فاحشةٍ أتاها وجبتْ عليه بها عقوبة منه= ببعض معاني الإخراج لأخذه بما لزمه، واجبٌ على إمام المسلمين وأهلِ الإسلام معه. (2)
وإنما اختلفوا في السبب الذي يُخرَج به منه.
فقال بعضهم: السبب الذي يَجوز إخراجه به منه: ترك جميع المسلمين مبايَعته وإطعامَه وسقيه وإيواءَه وكلامه، وما أشبه ذلك من المعاني التي لا قَرار للعائذ به
__________
(1) في المطبوعة: "فيما هما فيه مختلفان"، وفي المخطوطة"فيما" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبته، على الاستفهام. يقول: فيم يختلف معنى الآمن ومعنى الخائف في الحرم؟
(2) سياق هذه الجملة: " ... على أن إخراج العائذ به ... ببعض معاني الإخراج. . واجب على إمام المسلمين ... ".(6/35)
فيه مع بعضها، فكيف مع جميعها؟
وقال آخرون منهم: بل إخراجه لإقامة ما لزمه من العقوبة، واجبٌ بكل معاني الإخراج.
=فلما كان إجماعًا من الجميع على أنّ حكم الله -فيمن عاذ بالبيت من حدّ أصابه أو جريرة جرّها- إخراجه منه، لإقامة ما فرض الله على المؤمنين إقامته عليه، ثم اختلفوا في السبب الذي يَجوز إخراجُه به منه = كان اللازم لهم ولإمامهم إخراجه منه بأيّ معنى أمكنهم إخراجه منه، حتى يقيموا عليه الحدّ الذي لزمه خارجًا منه إذا كان لجأ إليه من خارج، على ما قد بينا قبل.
* * *
وبعدُ، فإن الله عز وجل لم يضع حدًّا من حُدُوده عن أحد من خلقه من أجل بُقعة وموضع صار إليها من لزمه ذلك،. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
7473-"إني حرمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكة". (1)
* * *
=ولا خلاف بين جميع الأمة أن عائذًا لو عَاذَ من عقوبة لزمته بحرَم النبي صلى الله عليه وسلم، يؤاخذ بالعقوبة فيه. ولولا ما ذكرت من إجماع السلف على أنّ حرَم إبراهيم لا يقام فيه على من عاذَ به من عقوبة لزمته حتى يخرج منه ما لزمه، لكان أحقّ البقاع أن تؤدَّى فيه فرائض الله التي ألزمها عبادَه من قتل أو غيره، أعظم البقاع إلى الله، كحرم الله وحرَم رسوله صلى الله عليه وسلم، ولكنا أمرنا بإخراج من أمرنا بإخراجه من حَرَم الله لإقامة الحد، لما ذكرنا من فعل الأمة ذلك وراثةً.
* * *
__________
(1) الأثر: 7473- رواه أبو جعفر بغير إسناد، وهو حديث صحيح، ولفظه في مسلم: 9: 134 والبخاري (الفتح 4: 290) .(6/36)
فمعنى الكلام =إذ كان الأمر على ما وصفنا=: ومن دخله كان آمنًا ما كان فيه. فإذ كان ذلك كذلك، فمن لجأ إليه من عقوبة لزمته عائذًا به، فهو آمن ما كان به حتى يخرج منه، وإنما يصير إلى الخوف بعد الخروج أو الإخراج منه، فحينئذ هو غير داخله ولا هو فيه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وفرضٌ واجبٌ لله =على من استطاع من أهل التكليف السبيلَ إلى حجّ بيته الحرام= الحج إليه.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى"الحج"، ودللنا على صحة ما قلنا من معناه، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله عز وجل:"من استطاع إليه سبيلا"، وما السبيل التي يجبُ مع استطاعتها فرض الحج؟
فقال بعضهم: هي الزّاد والراحلة.
*ذكر من قال ذلك:
7474- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:"من استطاع إليه سبيلا" قال، الزاد والراحلة.
7475- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن
__________
(1) انظر ما سلف 3: 228، 229 / 4: 21.(6/37)
جريج قال، قال عمرو بن دينار: الزاد والراحلة.
7476- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن أبي جناب، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والبعير. (1)
7477- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، والسبيل، أن يصحّ بدن العبد، ويكون له ثمن زاد وراحلة من غير أن يُجْحف به.
7478- حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا النضر بن شميل قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي عبد الله البجلي قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله:"من استطاع إليه سبيلا"، قال قال ابن عباس: من ملك ثلثمائة درهم فهو السبيل إليه.
7479- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو عاصم، عن إسحاق بن عثمان قال: سمعت عطاء يقول: السبيلُ، الزاد والراحلة.
7480- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"من استطاع إليه سبيلا"، فإن ابن عباس قال: السبيلُ، راحلةٌ وزادٌ.
7481- حدثني المثني وأحمد بن حازم قالا حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير:"من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والراحلة.
__________
(1) الأثر: 7476-"أبو جناب الكلبي". هو"يحيى بن أبي حية"، واسم"أبي حية" حي. روي عن أبيه، وعبد الرحمن بن أبي ليلى، والضحاك بن مزاحم، والحسن البصري وغيرهم. روى عنه الثوري، وابن عيينة، وهشيم، ووكيع وغيرهم. فتكلم فيه لأنه كان يدلس فأفسد أحاديثه، كان يحدث بما لم يسمع. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "أبو خباب"، وهو خطأ، وفي المخطوطة: "أبو خباب" غير منقوطة.(6/38)
7482- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، أخبرنا الربيع بن صبيح، عن الحسن، قال: الزادُ والراحلة.
7483- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحسن قال: قرأ النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآية:"ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا"، فقال رجلٌ: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال: الزاد والراحلة.
* * *
واعتل قائلو هذه المقالة بأخبار رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ما قالوا في ذلك.
*ذكر الرواية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
7484- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إبراهيم بن يزيد الخوزي قال: سمعت محمد بن عباد بن جعفر يحدث، عن ابن عمر قال: قام رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما السبيل؟ قال:"الزاد والراحلة". (1)
__________
(1) الحديث: 7484- إبراهيم بن يزيد المكي الخوزي: ضعيف جدًا. ضعفه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.
"الخوزي" بضم الخاء المعجمة: نسبة إلى"شعب الخوز بمكة"، كما في اللباب وغيره.
محمد بن عباد بن جعفر المخزومي المكي: تابعي ثقة.
والحديث جزء من حديث مطول، رواه الترمذي 4: 81 - 82، عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث لا نعرفه إلا من حديث إبراهيم بن يزيد الخوزي المكي. وقد تكلم بعض أهل العلم في إبراهيم بن يزيد من قبل حفظه".
ورواه قبل ذلك 2: 79، مختصرًا، من طريق وكيع، عن إبراهيم بن يزيد، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث حسن". ثم ذكر علته بإبراهيم الخوزي.
ورواه الشافعي في الأم 2: 99 -مطولا- عن سعيد بن سالم، عن إبراهيم الخوزي. وأشار إلى ضعف إسناده. ومن طريقه رواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 330.
ورواه ابن ماجه: 2896- مطولا أيضا - من طريق وكيع، عن إبراهيم الخوزي. وسيأتي عقب هذا، من رواية أبي حذيفة، عن سفيان، وهو الثوري، عن إبراهيم الخوزي.
وكذلك رواه البيهقي 4: 327، من طريق ثلاثة أحدهم أبو حذيفة، عن سفيان.
وذكره السيوطي 2: 55 - 56، مطولا، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عدي، وابن مردويه.
وذكره ابن كثير 2: 195 - 196، من رواية الترمذي المطولة. ثم أشار إلى روايته الأخرى، وإلى رواية ابن ماجه. ثم قال: "لا يشك أن هذا الإسناد رجاله كلهم ثقات، سوى الخوزي هذا، وقد تكلموا فيه من أجل هذا الحديث. لكن قد تابعه غيره". ثم ذكره من رواية ابن أبي حاتم، عن أبيه، عن عبد العزيز بن عبد الله العامري، عن محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي، عن محمد بن عباد بن جعفر، عن عبد الله بن عمر - بهذا الحديث نحوه، مختصرًا. ثم كر أنه"رواه ابن مردويه، من رواية محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير، به".
وهذا الإسناد الآخر الذي نقله ابن كثير عن ابن أبي حاتم وابن مردويه - ضعيف أيضا:
محمد بن عبد الله بن عبيد بن عمير الليثي المكي: ضعيف جدا. قال البخاري في الكبير 1 / 1 / 142: "ليس بذاك الثقة". وروى ابن أبي حاتم 3 / 2 / 300 عن ابن معين قال: "ليس حديثه بشيء". وقال النسائي في الضعفاء، ص 26: "متروك الحديث". وانظر ترجمته في لسان الميزان 5: 216 - 217.
وانظر الأحاديث الآتية: 7485 - 7491.
وانظر أيضا قول الطبري، الآتي، ص: 45، "أنها أخبار في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدين".(6/39)
7485- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان، عن إبراهيم الخوزي، عن محمد بن عباد، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في قوله عز وجل:"من استطاع إليه سبيلا"، قال: السبيل إلى الحج، الزاد والراحلة. (1)
7486- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا يونس =وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس= عن الحسن قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قالوا: يا رسول الله، ما السبيل؟ قال."الزادُ والراحلة. (2)
__________
(1) الحديث: 7485- أبو حذيفة: هو النهدي البصري، موسى بن مسعود. وقد مضى توثيقه: 280، 1693.
سفيان: هو الثوري.
والحديث مكرر ما قبله. وقد بينا هناك أن البيهقي رواه 4: 327، من طريق أبي حذيفة -هذا- وغيره، عن الثوري.
(2) الحديث: 7486- هذا حديث مرسل عن الحسن البصري.
وقد رواه الطبري هنا بإسنادين من طريق يونس، عن الحسن.
وسيأتي: 7488، 7491، من رواية قتادة، عن الحسن.
ثم: 7490، من رواية قتادة وحميد، عن الحسن.
ورواه البيهقي 4: 327، 330، بأسانيد، عن الحسن.
وذكره ابن كثير 2: 196، من رواية الطبري عن يعقوب، التي هنا - ثم قال: "ورواه وكيع في تفسيره، عن سفيان، عن يونس، به".
وذكره السيوطي 2: 56، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، والدارقطني. ونسي أن ينسبه لوكيع.
ونقل الحافظ في التلخيص، ص: 202، عن أبي بكر بن المنذر، قال: "لا يثبت الحديث في ذلك مسندًا. والصحيح من الروايات رواية الحسن المرسلة". يريد أن أسانيدها إلى الحسن أسانيد صحاح، لا أن الحديث المرسل صحيح، لأنه لا شك في ضعف الأحاديث المراسيل.(6/40)
7487- حدثنا أبو عثمان المقدمي والمثني بن إبراهيم قالا حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هلال بن عبد الله مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي قال: حدثنا أبو إسحاق، عن الحارث، عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ملك زادًا وراحلةً تبلغه إلى بيت الله فلم يحجّ فلا عليه أن يموتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا، وذلك أن الله عز وجل يقول في كتابه:"ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا" الآية. (1)
7488- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
__________
(1) الحديث: 7487- مسلم بن إبراهيم: هو الأزدي الفراهيدي الحافظ. مضى في: 1219. هلال بن عبد الله، أبو هاشم، مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي: ضعيف جدًا. قال البخاري"منكر الحديث". وقال الترمذي: "مجهول". ولم يذكروا له رواية إلا هذا الحديث. ولذلك أشار إليه المزي في التهذيب، والذهبي في الميزان. وقال ابن عدي: "هو معروف بهذا الحديث، وليس هو بمحفوظ".
ووقع اسم أبيه في المطبوعة"عبيد الله". وهو خطأ، صوابه"عبد الله" بالتكبير.
أبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني.
الحارث: هو ابن عبد الله الأعور الهمداني. وهو ضعيف جدًا، كما بينا في: 174.
والحديث رواه الترمذي 2: 78، عن محمد بن يحيى القطعي، عن مسلم بن إبراهيم، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وفي إسناده مقال. وهلال بن عبد الله: مجهول. والحارث: يضعف في الحديث".
وسيأتي هذا الحديث: 7489، من رواية شاذ بن فياض، عن هلال أبي هاشم، بهذا
الإسناد.
وقد ذكره ابن كثير 2: 197، من رواية ابن مردويه، من الوجهين اللذين رواه منهما الطبري: من رواية مسلم بن إبراهيم، وشاذ بن فياض.
ونقل عن ابن عدي قال: هذا الحديث ليس بمحفوظ".(6/41)
عن الحسن قال: بلغنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال له قائل، أو رجل: يا رسول الله، ما السبيل إليه؟ قال: من وجد زادًا وراحلةً.
7489- حدثنا أحمد بن الحسن الترمذي قال، حدثنا شاذ بن فياض البصري قال، حدثنا هلال أبو هاشم، عن أبي إسحاق الهمداني، عن الحارث، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من ملك زادًا وراحلة فلم يحجّ ماتَ يهوديًّا أو نصرانيًّا. وذلك أن الله يقول في كتابه:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا" الآية. (1)
7490- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة وحميد، عن الحسن، أن رجلا قال: يا رسول الله، ما السبيل إليه؟ قال: الزاد والراحلة.
7491- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا
__________
(1) الحديث: 7489- أحمد بن الحسن بن جنيدب، أبو الحسن الترمذي، الحافظ العلم الرحال: ثقة من أصحاب أحمد بن حنبل، ومن شيوخ البخاري والترمذي. مترجم في التهذيب وطبقات الحنابلة لأبي يعلى 1: 37 - 38، وتذكرة الحفاظ 2: 106 - 107.
"جنيدب": بضم الجيم وفتح النون، وبعد الدال المهملة باء موحدة. ووقع في تذكرة الحفاظ"جنيد" بحذف الباء، وهو خطأ طابع أو ناسخ، وثبت على الصواب في التهذيب، وأصله"تهذيب الكمال" مخطوط، والتقريب، والخلاصة.
شاذ بن فياض اليشكري، أبو عبيدة البصري: ثقة، وثقه أبو حاتم وغيره. وتكلم فيه بعضهم بغير حجة. واسمه"هلال بن فياض"، و"شاذ": لقب غلب عليه. وقد ترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 211، والصغير، ص: 238، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 78 - في اسم"هلال".
هلال أبو هاشم: هو"هلال بن عبد الله، مولى ربيعة بن عمرو بن مسلم الباهلي" - كما بينا في: 7487. وثبت هنا في المطبوعة"هلال بن هشام". وهو خطأ واضح.
والحديث مكرر: 7487، وقد أشرنا إليه هناك. وذكر ابن كثير 2: 197، أن ابن أبي حاتم رواه"عن أبي زرعة الرازي، حدثنا هلال بن الفياض، حدثنا هلال أبو هاشم ... " - إلخ"(6/42)
حماد، عن قتادة، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله.
* * *
وقال آخرون: السبيل التي إذا استطاعها المرء كان عليه الحج: الطاقةُ للوصول إليه. قالوا: (1) وذلك قد يكون بالمشي وبالركوب، وقد يكون مع وجودهما العجز عن الوصول إليه: بامتناع الطريق من العدوّ الحائل، وبقلة الماء، وما أشبه ذلك. قالوا: فلا بيان في ذلك أبين مما بيَّنه الله عز وجل، بأن يكون مستطيعًا إليه السبيل، وذلك: الوصولُ إليه بغير مانع ولا حائل بينه وبينه، وذلك قد يكون بالمشي وحده وإنْ أعوزَه المركب، وقد يكون بالمركب وغير ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
7492- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن خالد بن أبي كريمة، عن رجل، عن ابن الزبير قوله:"ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا" قال: على قدر القوة.
7493- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"من استطاع إليه سبيلا"، قال: الزاد والراحلة، فإن كان شابًّا صحيحًا ليس له مال، فعليه أن يُؤاجر نفسه بأكله وغُفَّته حتى يقضي حجته به، (2) فقال له قائل: كلَّف الله الناسَ أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو أنّ لبعضهم ميراثًا بمكة، أكان تاركَه؟ والله لانطلق إليه ولو حَبوًا!! كذلك يجبُ عليه الحج.
7494- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر قال، أخبرنا ابن
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "قال"، والسياق بعد يقتضي ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "بأكله وعقبه حتى يقضي حجته"، وليس فيها"به"، وهي في المخطوطة، ومثل هذا في تفسير القرطبي 4: 148، إلا أنه قال: "بأكله أو عقبه"، ولم أجد لذلك معنى. وهي في المخطوطة"وعفته" غير منقوطة، فاستظهرت قراءتها"وغفته". والغفة (بضم الغين، وتشديد الفاء المفتوحة) : البلغة من العيش والقليل منه. وهي هنا أنسب معنى، فأثبتها كذلك.(6/43)
جريج قال، قال عطاء: من وجد شيئًا يبلِّغه، فقد وَجد سبيلا كما قال الله عز وجل:."من استطاع إليه سبيلا".
7495- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو هانئ قال، سئل عامر عن هذه الآية:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"؟ قال: السبيلُ، ما يسَّره الله. (1)
7496- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن: من وجد شيئًا يُبْلغه فقد استطاع إليه سبيلا.
* * *
وقال آخرون: السبيلُ إلى ذلك: الصحةُ.
*ذكر من قال ذلك:
7497- حدثنا محمد بن حميد ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم والمثني بن إبراهيم قالوا، حدثنا أبو عبد الرحمن المقرئ قال، حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا أخبرنا شرحبيل بن شريك المعافري: أنه سمع عكرمة مولى ابن عباس يقول في هذه الآية:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: السبيلُ الصحةُ.
* * *
وقال آخرون بما:-
7498- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله عز وجل:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: من وجد قُوّة في النفقة والجسد والحُمْلان. (2) قال: وإن كان في جَسده ما لا يستطيع
__________
(1) الأثر: 7495-"أبو هانئ"، هو: "عمر بن بشير أبو هانئ الهمداني". مضت ترجمته رقم: 4422، و"عامر" هو: عامر الشعبي. وكان في المخطوطة والمطبوعة هنا شيء عجيب، كان"قال حدثنا أبو هانئ، قال حدثنا سهل بن عامر"، زاد"حدثنا" وجعل"سئل"، "سهل" وزاد بعدها"بن"، فكان خلطًا عجبًا. وسيأتي على الصواب برقم: 7516.
(2) الحملان (بضم الحاء وسكون الميم) : ما يحمل عليه من الدواب.(6/44)
الحج، فليس عليه الحج، وإن كان له قوة في مال، كما إذا كان صحيحَ الجسد ولا يجد مالا ولا قوة، يقولون: لا يكلف أن يَمشي.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال بقول ابن الزبير وعطاء: إنّ ذلك على قدر الطاقة. لأن"السبيل" في كلام العرب: الطريقُ، فمن كان واجدًا طريقًا إلى الحج لا مانعَ له منه من زَمانة، أو عَجز، أو عدوّ، أو قلة ماء في طريقه، أو زاد، أو ضعف عن المشي، فعليه فرضُ الحج، لا يجزيه إلا أداؤه. فإن لم يكن واجدًا سبيلا =أعني بذلك: فإن لم يكن مطيقًا الحجَّ، بتعذُّر بعض هذه المعاني التي وصفناها عليه= فهو ممن لا يجدُ إليه طريقًا ولا يستطيعه. لأن الاستطاعة إلى ذلك، هو القدرة عليه. ومن كان عاجزًا عنه ببعض الأسباب التي ذكرنا أو بغير ذلك، فهو غير مطيق ولا مستطيع إليه السبيلَ.
وإنما قلنا: هذه المقالة أولى بالصحة مما خالفها، لأن الله عز وجل لم يخصُص، إذ ألزم الناسَ فرضَ الحج، بعض مستطيعي السبيل إليه بسقوط فرض ذلك عنه. فذلك على كل مستطيع إليه سبيلا بعموم الآية.
فأما الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك بأنه:"الزاد والراحلة"، فإنها أخبار: في أسانيدها نظر، لا يجوز الاحتجاج بمثلها في الدّين.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة"الحج".
فقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل المدينة والعراق بالكسر: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ) .
* * *
وقرأ ذلك جماعة أخر منهم بالفتح: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حَجُّ البَيْتِ) .
* * *(6/45)
وهما لغتان معروفتان للعرب، فالكسر لغة أهل نجد، والفتح لغة أهل العالية. ولم نر أحدًا من أهل العربية ادّعى فرقًا بينهما في معنى ولا غيره، غير ما ذكرنا من اختلاف اللغتين؛ إلا ما:-
7499- حدثنا به أبو هشام الرفاعي قال، قال حسين الجعفي"الحَج". مفتوح، اسم،"والحِج" مكسورٌ، عمل. (1)
* * *
وهذا قول لم أرَ أهل المعرفة بلغات العرب ومعاني كلامهم يعرفونه، بل رأيتهم مجمعين على ما وصفت، من أنهما لغتان بمعنى واحد.
* * *
والذي نقول به في قراءة ذلك: أنّ القراءتين =إذ كانتا مستفيضتين في قراءة أهل الإسلام، ولا اختلاف بينهما في معنى ولا غيره= فهما قراءتان قد جاءتا مجيءَ الحجة، فبأي القراءتين -أعني: بكسر"الحاء" من"الحج" أو فتحها- قرأ القارئ فمصيبٌ الصوابَ في قراءته.
* * *
وأما"مَنْ" التي مع قوله:"من استطاع"، فإنه في موضع خفض على الإبدال من"الناس". لأن معنى الكلام: ولله على من استطاع من الناس سبيلا إلى حجّ البيت، حَجُّه. فلما تقدم ذكر"الناس" قبل"مَنْ"، بيَّن بقوله:"من استطاع إليه سبيلا"، الذي عليه فرضُ ذلك منهم. لأن فرضَ ذلك على بعض الناس دون جميعهم.
* * *
__________
(1) الأثر: 7499-"حسين الجعفي" هو: "حسين بن علي بن الوليد"، سلفت ترجمته برقم: 29، 174، وفي المخطوطة والمطبوعة: "حسن الجعفي"، وهو خطأ.(6/46)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ومن جَحد ما ألزمه الله من فرض حَجّ بيته، فأنكره وكفر به، فإن الله غنيّ عنه وعن حجه وعمله، وعن سائر خَلقه من الجن والإنس، كما:
7500- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن أبي المجالد قال، سمعت مقسمًا، عن ابن عباس في قوله:"ومن كفر"، قال: من زعم أنه ليس بفرض عليه.
7501- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الحجاج، عن عطاء = وجويبر، عن الضحاك في قوله:"ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين"، قالا من جحد الحجّ وكفر به.
7502- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا هشيم، عن الحجاج بن أرطاة، عن عطاء قال، من جحد به.
7503- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا عمران القطان، يقول: من زعم أن الحجّ ليس عليه. (1)
7504- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ومن كفر فإنّ الله غنيّ عن العالمين"، قال: من أنكره، ولا يَرَى أن ذلك عليه حقًّا، فذلك كُفرٌ.
7505- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن كفر"، قال: من كفر بالحج.
__________
(1) الأثر: 7503-"عمران القطان" هو: "عمران بن داور العمي" أبو العوام القطان، كان من أخص الناس بقتادة. روى عنه عبد الرحمن بن مهدي، وأبو داود الطيالسي، وأبو عاصم.(6/47)
7506- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، قال: من كفر بالحج، كفر بالله.
7507- حدثني المثني قال، حدثنا يعلى بن أسد قال، حدثنا خالد، عن هشام بن حسان، عن الحسن في قول الله عز وجل:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومَنْ كفر"، قال: من لم يره عليه واجبًا. (1)
7508- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن كفر"، قال: بالحج.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"أن لا يكون معتقِدًا في حجه أن له الأجرَ عليه، ولا أن عليه بتركه إثمًا ولا عقوبةً".
*ذكر من قال ذلك:
7509- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني عبد الله بن مسلم، عن مجاهد في قوله:"ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين"، قال: هُو ما إن حجّ لم يره برًّا، وإن قعد لم يره مأثمًا.
7510- حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: هو ما إنْ حجّ لم يره برًّا، وإن قعد لم يره مأثمًا.
7511- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فِطْر، عن أبي داود نفيع قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين"
__________
(1) الأثر: 7507-"خالد"، هو"خالد بن الحارث الهجيمي". روي عن حميد الطويل وأيوب، وابن عون، وهشام بن حسان، وغيرهم. وروى عنه أحمد، وإسحاق بن راهويه، والفلاس وغيرهم.(6/48)
فقام رجل من هذيل، فقال: يا رسول الله، من تركه كفر؟ قال: من تركه ولا يخاف عقوبته، ومن حجّ ولا يرجو ثوابه، فهو ذاك. (1)
7512- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، يقول: من كفر بالحج، فلم يَر حجه برًّا، ولا تركه مأثمًا.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بالله واليوم الآخر.
*ذكر من قال ذلك:
7513- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: سألته عن قوله:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، ما هذا الكفر؟ قال: من كفر بالله واليوم الآخر.
7514- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، في قوله:"ومن كفر"، قال: من كفر بالله واليوم الآخر.
7515- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، قال: لما نزلت آية الحج، جَمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَ الأديان كلَّهم فقال: يا أيها الناس، إن الله عز وجل كتب عليكم الحج فحجُّوا، فآمنتْ به ملة
__________
(1) الأثر: 7511-"أبو داود، نفيع"، هو: "نفيع بن الحارث، أبو داود الأعمى الهمداني القاص". روي عن عمران بن حصين ومعقل بن يسار وابن عباس وابن عمر. روى عنه أبو إسحاق والأعمش والثوري. قال أبو حاتم: "منكر الحديث ضعيف الحديث". وقال النسائي: "ليس بثقة، ولا يكتب حديثه". وقال ابن حبان: "يروى عن الثقات الموضوعات توهمًا، لا يجوز الاحتجاج به" وقال ابن عبد البر: "أجمعوا على ضعفه، وكذبه بعضهم، وأجمعوا على ترك الرواية عنه". مترجم في التهذيب. و"فطر" هو"فطر بن خليفة" مضى مرارًا. وكان في المطبوعة: "مطر"، والصواب من المخطوطة.(6/49)
واحدة، وهي من صدّق النبيّ صلى الله عليه وسلم، وآمن به، وكفرَتْ به خمس ملل، قالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نستقبله. فأنزل الله عز وجل:"ومن كفر فإنّ الله غني عن العالمين".
7516- حدثني أحمد بن حازم قال، أخبرنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو هانئ قال، سئل عامر عن قوله:"ومن كفر"، قال: من كفر من الخلق، فإن الله غنيّ عنه. (1)
7517- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا سفيان، عن إبراهيم، عن محمد بن عباد، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، في قول الله:"ومن كفر"، قال: من كفر بالله واليوم الآخر.
7518- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عنْ ابن أبي نجيح، عن عكرمة مولى ابن عباس في قول الله عز وجل: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا) [سورة آل عمران: 85] ، فقالت الملل: نحن مسلمون! فأنزل الله عز وجل:"ولله على الناس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، فحج المؤمنون، وقعد الكفار. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن كفر بهذه الآيات التي في مقام إبراهيم.
*ذكر من قال ذلك:
7519- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، فقرأ:"إن أوّل بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركًا"، فقرأ حتى بلغ:"من استطاع إليه سبيلا ومن كفر"، قال: من كفر بهذه الآيات ="فإن الله غني عن العالمين"، ليس كما يقولون:"إذا
__________
(1) الأثر: 7516- انظر إسناد الأثر السالف رقم: 7495 والتعليق عليه.
(2) الأثر: 7518- مضى برقم: 7356.(6/50)
لم يحج وكان غنيًّا وكانت له قوة"، فقد كفر بها. (1) وقال قوم من المشركين: فإنا نكفر بها ولا نفعل! فقال الله عز وجل:"فإن الله غني عن العالمين".
* * *
وقال آخرون بما:-
7520- حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم قال، أخبرنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا حماد، عن حبيب بن أبي بقية، عن عطاء بن أبي رباح، في قوله:"ومن كفر فإن الله غني عن العالمين"، قال: من كفر بالبيت. (2)
* * *
وقال آخرون: كفره به: تركه إياه حتى يموت.
*ذكر من قال ذلك:
7521- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"من كفر"، فمن وجدَ ما يحج به ثم لا يحجَّ، فهو كافر.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالصواب في ذلك قولُ من قال:"معنى"ومن كفر"، ومن جحد فرضَ ذلك وأنكرَ وُجوبه، فإن الله غني عنه وعن حَجه وعن العالمين جميعًا".
وإنما قلنا ذلك أولى به، لأن قوله:"ومن كفر" بعقب قوله:"ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا"، بأن يكون خبرًا عن الكافر بالحج، أحقُّ منه بأن يكون خبرًا عن غيره، مع أنّ الكافر بفرض الحج على مَن فرضه
__________
(1) قوله: "فقد كفر بها"، أي بهذه الآيات المذكورة في الآية.
(2) الأثر: 7520-"إبراهيم بن عبد الله بن مسلم"،، و"أبو عمر الضرير" وهو: "حفص بن عمر البصري" مضت ترجمتهما برقم: 3562، و"حماد"، هو"حماد بن سلمة". وأما "حبيب بن أبي بقية" ويقال: "حبيب بن أبي قريبة" فهو: "حبيب المعلم" أبو محمد البصري. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد وابن معين وأبو زرعة: "ثقة"، وقال أحمد: "ما أحتج بحديثه". مترجم في التهذيب.(6/51)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98)
الله عليه، بالله كافر = وأن"الكفر" أصله الجحود، ومن كان له جاحدًا ولفرضه منكرًا، فلا شك إن حج لم يرجُ بحجه برًّا، وإن تركه فلم يحجّ لم يره مأثمًا. فهذه التأويلات، وإن اختلفت العبارات بها، فمتقاربات المعاني.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم من سائر من ينتحل الدِّيانة بما أنزلَ الله عز وجل من كتبه، ممن كفَر بمحمد صلى الله عليه وسلم وجحد نبوَّته: ="لم تكفرون بآيات الله"، يقول: لم تجحدونُ حجج الله التي آتاها محمدًا في كتبكم وغيرها، التي قد ثبتت عليكم بصدقه ونبوَّته وحُجته. (1) وأنتم تعلمون: يقول: لم تجحدون ذلك من أمره، وأنتم تعلمون صدقه؟ (2) فأخبر جل ثناؤه عنهم أنهم متعمِّدون الكفر بالله وبرسوله على علم منهم، ومعرفةٍ من كفرهم، وقد:
7522- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله"، أما"آيات الله"، فمحمد صلى الله عليه وسلم.
7523- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون"، قال: هم اليهودُ والنصارى.
* * *
__________
(1) هذه العبارة، هي هي في المخطوطة والمطبوعة، وأنا في شك منها، وإن كانت قريبة من الاستقامة على بعض وجه الكلام.
(2) ظاهر أن أبا جعفر وهم، وترك تفسير بقية هذه الآية، وفسر مكانها"وأنتم تعلمون"، وهي ليست من هذه الآية في شيء.(6/52)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر يهود بني إسرائيل وغيرهم ممن ينتحل التصديق بكتب الله: ="لم تصدُّون عن سبيل الله"، يقول: لم تضِلُّون عن طريق الله ومحجَّته التي شرَعها لأنبيائه وأوليائه وأهل الإيمان= (1) "من آمن"، يقول: من صدّق بالله ورَسوله وما جاء به من عند الله="تبغونها عوجًا"، يعني: تبغون لها عوجًا.
* * *
"والهاء والألف" اللتان في قوله:"تبغونها" عائدتان على"السبيل"، وأنثها لتأنيث"السبيل".
* * *
ومعنى قوله:"تبغون لها عوجًا"، من قول الشاعر، وهو سحيم عبدُ بني الحسحاس
بَغَاك، وَمَا تَبْغِيهِ حَتَّى وَجَدْتَهُ ... كأَنِّكَ قَدْ وَاعَدْتَهُ أَمْسِ مَوْعِدَا (2)
يعني: طلبك وما تطلبه. (3) يقال:"ابغني كذا"، يراد: ابتغه لي. فإذا أرادوا أعِنِّي على طلبه وابتغه معي قالوا:"أبغني" بفتح الألف. وكذلك يقال:"احلُبْني"، بمعنى: اكفني الحلب -"وأحلبني" أعني عليه. وكذلك جميع ما وَرَد من هذا النوع، فعلى هذا. (4)
* * *
وأما"العِوَج" فهو الأوَد والميْل. وإنما يعني بذلك: الضلال عن الهدى.
* * *
__________
(1) انظر معنى"الصد" فيما سلف 4: 300.
(2) سلف تخريجه في 4: 163، تعليق: 2.
(3) انظر تفسير"بغى" فيما سلف 3: 508 / 4: 163 / 6: 196، 564، 570.
(4) انظر معاني القرآن للفراء 1: 227، 228.(6/53)
يقول جل ثناؤه: لم تصدُّون عن دين الله مَنْ صَدّق الله ورسوله تبغون دينَ الله اعوجاجًا عن سننه واستقامته؟
وخرج الكلام على"السبيل"، والمعنى لأهله. كأن المعنى: تبغون لأهل دين الله، ولمن هو على سبيل الحق، عوجا = يقول: ضلالا عن الحق، وزيغًا عن الاستقامة على الهدى والمحجَّة.
* * *
"والعِوج" بكسر أوله: الأوَد في الدين والكلام."والعَوَج" بفتح أوله: الميل في الحائط والقناة وكل شيء منتصب قائم. (1)
* * *
وأما قوله:"وأنتم شهداء". فإنه يعني: شهداء على أنّ الذي تصدّون عنه من السبيل حقٌّ، تعلمونه وتجدونه في كتبكم ="وما الله بغافل عما تعملون"، يقول: ليس الله بغافل عن أعمالكم التي تعملونها مما لا يرضاه لعباده وغير ذلك من أعمالكم، حتى يعاجلكم بالعقوبة عليها معجَّلة، أو يؤخر ذلك لكم حتى تلقَوْهُ فيجازيكم عليها.
* * *
وقد ذكر أن هاتين الآيتين من قوله:"يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله" والآياتُ بعدَهما إلى قوله:"فأولئك لهم عذاب عظيم"، نزلت في رجل من اليهود حاول الإغراء بين الحيَّين من الأوس والخزرج بعد الإسلام، ليراجعوا ما كانوا عليه في جاهليتهم من العداوة والبغضاء. فعنَّفه الله بفعله ذلك، وقبَّح له ما فعل ووبَّخه عليه، ووعظ أيضًا أصحابَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونَهاهم عن الافتراق والاختلاف، وأمرهم بالاجتماع والائتلاف.
*ذكر الرواية بذلك:
__________
(1) انظر مجاز القرآن 1: 98.(6/54)
7524- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال، حدثني الثقة، عن زيد بن أسلم، قال: مرّ شأسُ بن قيس = وكان شيخًا قد عَسَا في الجاهلية، (1) عظيمَ الكفر، شديد الضِّغن على المسلمين، شديدَ الحسد لهم = على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يتحدّثون فيه. فغاظه ما رأى من جَماعتهم وألفتهم وصَلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع مَلأ بني قَيْلة بهذه البلاد! (2) لا والله ما لنا معهم، إذا اجتمع ملأهم بها، من قرار! (3) فأمر فَتى شابًّا من يهودَ وكان معه، (4) فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، وذَكّرهم يَوْم بعاث وما كان قبله، وأنشدْهم بعض ما كانوا تقاوَلوا فيه من الأشعار =وكان يوم بُعَاث يومًا اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفرُ فيه للأوس على الخزرج= ففعل. فتكلم القوم عند ذلك فتنازعوا وتفاخروا، حتى تواثب رجُلان من الحيَّين على الرُّكَب: أوسُ بن قَيْظي، أحد بني حارثة بن الحارث من الأوس - وجبّار بن صخر، أحد بني سَلمة من الخزرج. فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رَدَدْناها الآن جَذَعَةً! (5) وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ!! موعدُكم الظاهرة =والظاهرةُ: الحَرَّة= فخرجوا إليها. وتحاوز الناس. (6) فانضمت الأوس بعضها إلى بعض،
__________
(1) عسا الشيخ يعسو عسوا وعسيًا: كبر وأسن، ويقال أيضًا في مثله"عتا". وقوله: "في الجاهلية" ليست في نص ابن هشام عن ابن إسحاق.
(2) الملأ: الرؤساء وأشراف القوم ووجوههم ومقدموهم، الذين يرجع إلى قولهم ورأيهم. وبنو قيلة: هم الأنصار من الأوس والخزرج، وقيلة: اسم أم لهم قديمة، هي قيلة بنت كاهل، سموا بها.
(3) في المطبوعة: "والله مالنا"، أسقط"لا"، وهي في المخطوطة وابن هشام.
(4) في المطبوعة: "من اليهود"، وأثبت ما في المخطوطة وابن هشام.
(5) ردها جذعة: أي جديدة كما بدأت. والجذع والجذعة: الصغير السن من الأنعام، أول ما يستطاع ركوبه. يعني أعدناها شابة فتية.
(6) "تحاوز الناس"، مثل"تحوز وتحيز وانحاز"، أي تنحى ناحية وانضم إلى جماعته، والذي يلي هذه الكلمة هو تفسيرها قوله: "فانضمت الأوس ... " وفي المطبوعة: "تحاور" بالراء، ولا معنى لها هنا. والجملة كلها من أول قوله"وتحاوز ... " إلى"التي كانو عليها في الجاهلية" مما أسقطه ابن هشام من نص ابن إسحاق، وليس في السيرة. ونص الطبري هنا أتم من نص ابن هشام في مواضع من هذا الأثر.(6/55)
والخزرج بعضها إلى بعض، على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغَ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم، فقال:"يا معشرَ المسلمين، الله الله، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهُرِكم بعد إذْ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمرَ الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألَّف به بينكم، ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارًا؟ فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان، وكيدٌ من عدوهم، فألقوا السلاح من أيديهم، وبكَوْا، وعانقَ الرجال من الأوس والخزرج بعضُهم بعضًا، ثم انصرفوا مع رَسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله عنهم كيدَ عدوِّ الله شَأس بن قيس وما صنع. فأنزل الله في شأس بن قيس وما صنع:"قل يا أهل الكتاب لم تكفرُون بآيات الله والله شهيدٌ على ما تعملون قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجا" (1) الآية. وأنزل الله عز وجل في أوس بن قَيْظيّ وجبّار بن صخر ومَنْ كان معهما من قومهما الذين صنعوا ما صنعوا عما أدخل عليهم شأس بن قيس من أمر الجاهلية: (2) "يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردُّوكم بعد إيمانكم كافرين" إلى قوله:"أولئك لهم عذابٌ عظيم". (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة، أسقط الناسخ"قل" من أول الآيتين سهوا منه.
(2) في المطبوعة: "مما أدخل عليهم ... "، غيروا ما في المخطوطة، وهو المطابق لنص ابن هشام. وقوله: "عما أدخل عليهم"، أي بسبب ما أدخل عليهم ومن جرائه ومن أجله. و"عن" تأتي بهذا المعنى في كلامهم.
(3) الأثر: 7524- سيرة ابن هشام 2: 204 - 206، وهو بقية الآثار السالفة التي كان آخرها رقم: 7333، 7334.(6/56)
وقيل: إنه عنى بقوله:"قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله"، جماعة يهود بني إسرائيل الذين كانوا بين أظهر مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام نزلت هذه الآيات، والنصارى = وأن صدّهم عن سبيل الله كانَ بإخبارهم من سألهم عن أمر نبيّ الله محمد صلى الله عليه وسلم: هل يجدون ذكره في كتبهم؟. أنهم لا يجدون نعتَه في كتبهم.
*ذكر من قال ذلك:
7525- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجًا"، كانوا إذا سألهم أحدٌ: هل تجدون محمدًا؟ قالوا: لا! فصدّوا عنه الناس، وبغوْا محمدًا عوجًا: هلاكًا.
7526- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله"، يقول: لم تصدون عن الإسلام وعن نبي الله، من آمن بالله، وأنتم شهداء فيما تقرأون من كتاب الله: أن محمدًا رسول الله، وأنّ الإسلام دين الله الذي لا يَقبل غيره ولا يجزى إلا به، تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة والإنجيل.
7527- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحوه.
7528- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"قل يا أهل الكتاب لم تصدّون عن سبيل الله"، قال: هم اليهودُ والنصارى، نهاهم أنْ يصدّوا المسلمين عن سبيل الله، ويريدون أن يعدِلوا الناسَ إلى الضلالة.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على ما قاله السدي: يا معشر اليهود، لم(6/57)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100)
تصدّون عن محمد، وتمنعون من اتباعه المؤمنين به، بكتمانكم صفتَه التي تجدونها في كتبكم؟. و"محمد" على هذا القول: هو"السبيل"، ="تبغونَها عوجًا"، تبغون محمدًا هلاكًا. وأما سائر الروايات غيره والأقوال في ذلك، فإنه نحو التأويل الذي بيّناه قبل: من أن معنى"السبيل" التي ذكرها في هذا الموضع: الإسلام، وما جاء به محمد من الحقّ من عند الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى بذلك.
فقال بعضهم: عنى بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، الأوس والخزرج، وبـ "الذين أوتوا الكتاب"، شأس بن قيس اليهودي، على ما قد ذكرنا قبلُ من خبره عن زيد بن أسلم. (1)
* * *
وقال آخرون، فيمن عُني بالذين آمنوا، مثل قول زيد بن أسلم = غير أنهم قالوا: الذي جرى الكلام بينه وبين غيره من الأنصار حتى همّوا بالقتال ووجد اليهوديّ به مغمزًا فيهم: ثعلبة بن عَنَمة الأنصاري. (2)
*ذكر من قال ذلك:
7529- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا
__________
(1) هو الأثر السالف رقم: 7524.
(2) في المطبوعة: "بن غنمة"، والصواب بالعين المهملة، وهي في المخطوطة تحتها حرف"ع"، وهو الصواب.(6/58)
الكتاب يردُّوكم بعد إيمانكم كافرين"، قال: نزلت في ثعلبة بن عَنمة الأنصاري، (1) كان بينه وبين أناس من الأنصار كلام، فمشى بينهم يهوديٌّ من قَيْنُقاع، فحمَل بعضَهم على بعضٍ، (2) حتى همت الطائفتان من الأوس والخزرج أن يحملوا السلاحَ فيقاتلوا، فأنزل الله عز وجل:"إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين"، يقول: إن حملتم السلاحَ فاقتتلتم، كفرتم.
7530- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب"، قال: كان جِماعُ قبائل الأنصار بطنين: الأوس والخزرج، وكان بينهما في الجاهلية حربٌ ودماء وشنَآنٌ، حتى مَنَّ الله عليهم بالإسلام وبالنبي صلى الله عليه وسلم، فأطفأ الله الحرب التي كانت بينهم، وألفَّ بينهم بالإسلام. قال: فبينا رجل من الأوس ورجلٌ من الخزرج قاعدان يتحدّثان، ومعهما يهوديّ جالسٌ، فلم يزل يذكِّرهما أيامهما والعداوةَ التي كانت بينهم، حتى استَبَّا ثم اقتتلا. قال: فنادى هذا قومه وهذا قومه، فخرجوا بالسلاح، وصفَّ بعضهم لبعض. قال: ورسولُ الله صلى الله عليه وسلم شاهدٌ يومئذ بالمدينة، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزل يمشي بينهم إلى هؤلاء وإلى هؤلاء ليسكنهم، حتى رجعوا ووضعوا السلاح، فأنزل الله عز وجل القرآن في ذلك:"يا أيها الذين آمنوا إن تُطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب" إلى قوله:"عذابٌ عظيم".
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقرُّوا بما جاءهم به نبيهم صلى الله عليه وسلم من عند الله، إن تطيعوا جماعة ممن ينتحل الكتابَ من أهل التوراة والإنجيل، فتقبلوا منهم ما يأمرونكم به، يُضِلُّوكم
__________
(1) انظر ص 58 تعليق 2.
(2) حمل بني فلان على بني فلان: إذا أرش بينهم وأوقع.(6/59)
فيردّوكم بعد تصديقكم رسولَ ربكم، وبعد إقراركم بما جاء به من عند ربكم، كافرين = يقول: جاحدين لما قد آمنتم به وصدَّقتموه من الحقّ الذي جاءكم من عند ربكم. فنهاهم جَلّ ثناؤه: أن ينتصحوهم، ويقبلوا منهم رأيًا أو مشورةً، ويعلِّمهم تعالى ذكره أنهم لهم منطوُون على غِلٍّ وغِش وحسد وبغض، كما:
7531- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقًا من الذين أوتوا الكتاب يردّوكم بعد إيمانكم كافرين"، قد تقدّم الله إليكم فيهم كما تسمعون، وحذَّركم وأنبأكم بضلالتهم، فلا تأتمنوهم على دينكم، ولا تنتصحوهم على أنفسكم، فإنهم الأعداءُ الحسَدَة الضُّلال. كيف تأتمنون قومًا كفروا بكتابهم، وقتلوا رُسلهم، وتحيَّروا في دينهم، وعجزوا عَنْ أنفسهم؟ أولئك والله هم أهل التُّهَمة والعداوة!
7532- حدثنا المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *(6/60)
وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"وكيف تكفرون"، أيها المؤمنون بعد إيمانكم بالله وبرسوله، فترتدّوا على أعقابكم ="وأنتم تتلى عليكم آيات الله"، يعني: حججُ الله عليكم التي أنزلها في كتابه على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ="وفيكم رسوله" حجةٌ أخرَى عليكم لله، مع آي كتابه، يدعوكم جميع ذلك إلى الحقّ، ويبصِّركم الهدَى والرشاد، وينهاكم عن الغيّ والضلال؟. يقول لهم تعالى ذكره: فما وجه عُذْركم عند ربكم في جحودكم نبوَّة نبيِّكم، وارتدادكم على أعقابكم، ورجوعكم إلى أمر جاهليتكم، إنْ أنتم راجعتم ذلك وكفرتم، وفيه هذه الحجج الواضحة والآياتُ البينة على خطأ فعلكم ذلك إن فعلتموه؟ كما:-
7533- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله" الآية، علَمان بيِّنان: وُجْدان نبي الله صلى الله عليه وسلم، وكتابُ الله. فأما نبيّ الله فمضى صلى الله عليه وسلم. وأما كتاب الله، فأبقاه الله بين أظهُركم رحمة من الله ونعمة، فيه حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته.
* * *
وأما قوله:"ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراط مستقيم"، فإنه يعني: ومن يتعلق بأسباب الله، ويتمسَّك بدينه وطاعته ="فقد هدى"، يقول: فقد وُفِّق لطريق واضح، ومحجةٍ مستقيمة غير معوجَّة، فيستقيم به إلى رضى الله، وإلى النجاة من عذاب الله والفوز بجنته، كما:-(7/61)
7534- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"ومن يعتصم بالله فقد هدى" قال: يؤمن بالله.
* * *
وأصل"العَصْم" المنع، فكل مانع شيئًا فهو"عاصمه"، والممتنع به"معتصمٌ به"، ومنه قول الفرزدق:
أَنَا ابنُ العَاصِمينَ بَنِي تَمِيم ... إذَا مَا أَعْظَمُ الحَدَثَانِ نَابَا (1)
ولذلك قيل للحبل"عِصام"، وللسبب الذي يتسبب به الرجل إلى حاجته"عِصام"، ومنه قول الأعشى:
إلَى المَرْءِ قَيْسٍ أُطِيلُ السُّرَى ... وَآخُذُ مِنْ كُلِّ حَيٍّ عُصمْ (2)
يعني بـ "العُصم" الأسباب، أسبابَ الذمة والأمان. يقال منه:"اعتصمت بحبل من فلان" و"اعتصمتَ حبلا منه" و"اعتصمت به واعتصمته"، وأفصح اللغتين إدخال"الباء"، كما قال عز وجل: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا) ، وقد جاء:"اعتصمته"، كما الشاعر: (3)
إذَا أَنْتَ جَازَيْتَ الإخاءَ بِمِثْلِهِ ... وَآسَيْتَنِي، ثمَّ اعْتَصَمْتَ حِبَالِيَا (4)
__________
(1) ديوانه: 115، والنقائض: 451، مطلع قصيدة ينقض بها هجاء جرير.
(2) ديوانه: 29 من قصيدته في ثنائه على صاحبه قيس بن معد يكرب الكندي، وقد مضت منها أبيات في 1: 242 / 5: 422. والسرى: سير الليل كله. والعصم جمع عصام، وهكذا ضبط في شعره، وجائز أن يضبط"عصم" (بكسر العين وفتح الصاد) جمع"عصمة" (بكسر العين وسكون الصاد) وكلاهما مجاز في معنى العهود. وقوله: "وآخذ من كل حي عصم"، يعني أن سطوة قيس في الأحياء، ورهبته في صدورهم، تجعل له عند كل حي عهدًا يأخذه ليجوز به أرضهم آمنًا، لا يمسه أحد ولا ينال منه. وسيأتي مثل هذا المعنى في بيت آخر يأتي بعد قليل ص: 70، تعليق: 3.
(3) لم أعرف قائله.
(4) معاني القرآن للفراء 1: 228، وضبطه"ثم" هكذا، وبقى جواب"إذا" في بيت بعده فيما أرجح. ولو قرأته"ثم" بفتح الثاء، أي هناك، كان جواب"إذا"، "اعتصمت حباليا". وتم البيت، وانفرد عما بعده. ولكني لا أستطيع أن أرجح هذا حتى أعرف بقية الأبيات.(7/62)
فقال:"اعتصمت حباليا"، ولم يدخل"الباء". وذلك نظير قولهم:"تناولت الخِطام، وتناولت بالخطام"، و"تعلَّقت به وتعلقته"، كما قال الشاعر: (1)
تَعَلَّقَتْ هِنْدًا ناشِئًا ذَاتَ مِئْزَرٍ ... وَأَنْتَ وَقَدَ قَارَفْتَ، لم تَدْرِ مَا الحِلْمُ (2)
* * *
وقد بينت معنى"الهدى"،"والصراط"، وأنه معنيّ به الإسلام، فيما مضى قبل بشواهده، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (3)
* * *
وقد ذكر أن الذي نزل في سبب تَحاوُز القبيلين (4) الأوس والخزرج، كان منْ قوله: (5) "وكيف تكفرُون وأنتم تتلى عليكم آيات الله".
*ذكر من قال ذلك:
7535- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا قيس بن الربيع، عن الأغرّ بن الصبّاح، عن خليفة بن حُصَين، عن أبي نصر، عن ابن عباس قال: كانت الأوس والخزرج بينهم حرب في الجاهلية كل شهر، (6)
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) معاني القرآن 1: 228. يقال: "غلام ناشئ، وجارية ناشئة"، ولكنه وصف"هندًا" على التذكير فقال: "ناشئًا"، وقد زعم الليث أنه لم يسمع هذا النعت في الجارية، فكأن الشاعر وصفها به، وأمره على التذكير. وقوله: "وقد قارفت"، أي قاربت ودنوت من الكبر، والجملة حال معترضة. يقول: تعلقها صغيرة لم تحجب بعد، وبلغت ما بلغت، ولم تدر بعد ما الحلم، وهو الأناة والعقل ومفارقة الصبا وطيش الشباب.
(3) انظر تفسير"الهدى" فيما سلف 1: 166 - 170، وفهارس اللغة / وانظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170 - 177 وفهارس اللغة.
(4) في المطبوعة: "تحاور"، وقد أسلفت قراءتي لهذا الحرف وبيانه فيما سلف: ص55 تعليق: 6، وفي المطبوعة: "القبيلتين" بالتاء، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "كان منه قوله"، وهو خطأ، والصواب ما في المخطوطة. ويعني أن الآيات التي نزلت في شأن تحاوز الأوس والخزرج واقتتالهما، كان من أول هذه الآية، لا الآيتين قبلها.
(6) قوله: "كل شهر"، هكذا جاء في المخطوطة واضحا، والذي في الدر المنثور 2: 58: "كانت الأوس والخزرج في الجاهلية بينهم شر"، وفي القرطبي 4: 156: "كان بين الأوس والخزرج قتال وشر في الجاهلية"، ويخشى أن يكون ما في المخطوطة: "كل شهر"، تصحيف"وكل شر"، ولكن ليس هذا موضع الرأي، فإن الذين نقلوا هذا الأثر فيما بين يدي، لم ينقلوه بإسناده هذا، ولا بتمام لفظه كما هنا.(7/63)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102)
فبينما هم جلوس إذْ ذكروا ما كان بينهم حتى غضبوا، فقام بعضهم إلى بعض بالسلاح، فنزلت هذه الآية:"وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله" إلى آخر الآيتين،"واذكروا نعمة الله عليكم إذْ كنتم أعداءً" إلى آخر الآية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا معشر من صدّق الله ورسوله ="اتقوا الله"، خافوا الله ورَاقبوه بطاعته واجتناب معاصيه ="حقّ تُقاته"، حقّ خوفه، (2) وهو أن يُطاع فلا يُعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويُذكر فلا يُنسى =
__________
(1) الأثر: 7535-"حسن بن عطية بن نجيح القرشي"، سلفت ترجمته في رقم: 4962. و"قيس بن الربيع الأسدي" أبو محمد الكوفي. روي عن أبي إسحاق السبيعي، والأغر بن الصباح، وسماك بن حرب وغيرهم. روى عنه الثوري، وهو من أقرانه، وشعبة، ومات قبله، وعبد الرزاق ووكيع. تكلموا فيه، وثقه الثوري وشعبة وغيرهما. وضعفه آخرون وقالوا: "ليس بقوي، يكتب حديثه ولا يحتج به". مترجم في التهذيب. و"الأغر بن الصباح التميمي المنقري". روى عن خليفة بن حصين، روى عنه الثوري وقيس بن الربيع، وأبو شبيبة. قال ابن معين والنسائي: "ثقة"، وقال أبو حاتم"صالح" مترجم في التهذيب. و"خليفة بن حصين بن قيس بن عاصم التميمي المنقري" روى عن أبيه وجده، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن أرقم، وأبي نصر الأسدي. وروى عنه الأغر بن الصباح. ثقة. مترجم في التهذيب. و"أبو نصر الأسدي". روي عن ابن عباس، وعنه خليفة بن حصين. قال البخاري: "لم يعرف سماعه من ابن عباس"، وقال أبو زرعة: "أبو نصر الأسدي الذي يروي عن ابن عباس: ثقة". مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري: 76، وأشار إلى هذا الأثر، وابن أبي حاتم 4 / 2 / 448.
(2) انظر القول في بيان"تقاة" فيما سلف 6: 313 - 317.(7/64)
"ولا تموتن"، أيها المؤمنون بالله ورسوله ="إلا وأنتم مسلمون" لربكم، مذعنون له بالطاعة. مخلصون له الألوهةَ والعبادة. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
7536- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري = عن زبيد، عن مُرّة، عن عبد الله:"اتقوا الله حق تقاته"، قال: أن يطاع فلا يُعصي، ويُذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُكفر. (2)
7537- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن زبيد، عن مرة الهمداني، عن عبد الله مثله.
7538- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن زبيد، عن مرة الهمداني، عن عبد الله مثله.
7539- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن زبيد، عن مرة بن شراحيل البَكيليّ، عن عبد الله بن مسعود، مثله. (3)
7540- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا جرير، عن زبيد، عن عبد الله، مثله.
__________
(1) في المطبوعة: "الألوهية"، وهي صواب، وأثبت ما في المخطوطة، وهي صواب أيضا بمعناها، ولكن هكذا يكتبها أبو جعفر، وانظر ما سلف 6: 275، تعليق: 2.
(2) الأثر: 7537- والآثار التي تليه أسانيد مختلفة لهذا الأثر. وأخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أبي نعيم، عن مسعر، وهو الأثر رقم: 7541، وليس فيه"ويشكر فلا يكفر"، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
(3) الأثر: 7539- في المطبوعة: "مرة بن شراحيل الهمداني". غير ما في المخطوطة، وكلاهما صحيح وصواب، وانظر الأثر رقم: 2521، والتعليق عليه.(7/65)
7541- حدثني المثني قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، مثله.
7542- حدثني المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن المسعودي، عن زبيد الأيامي، عن مرة، عن عبد الله، مثله.
7543- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله، مثله.
7544- حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون:"اتقوا الله حق تقاته"، قال: أن يطاع فلا يعصى، ويشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى. (1)
7545- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو ابن ميمون، نحوه.
7546- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا عمرو بن مرة، عن مرة، عن الربيع بن خُثَيم قال: أن يطاع فلا يعصى، ويُشكر فلا يكفر، ويذكر فلا ينسى.
7547- حدثنا المثني قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة قال، سمعت مرة الهمداني يحدث، عن الربيع بن خُثيم في قول الله عز وجل:"اتقوا الله حق تقاته"، فذكره نحوه. (2)
7548- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
__________
(1) الأثر: 7544-"يحيى" هو: "يحيى بن أبي بكير الأسدي" مضى في رقم: 5797، "وسفيان" هو الثوري، و"أبو إسحاق" هو: أبو إسحاق السبيعي، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "حدثنا يحيى بن سفيان"، وليس في الرواة من يسمى بهذا، والصواب ما أثبته.
(2) الأثران: 7546، 7547 -"الربيع بن خثيم الثوري" مضت ترجمته في رقم: 1430، وكان في المطبوعة"بن خيثم"، وهو خطأ مضى مثله في الأثر الآخر، وفي مواضع غيره، وصححته من المخطوطة.(7/66)
قيس بن سعد، عن طاوس:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته"، أن يطاع فلا يُعصى.
7549- حدثنا محمد بن سنان قال: حدثنا أبو بكر الحنفي قال، حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تُقاته"، قال:"حق تقاته"، أن يطاع فلا يُعصى.
7550- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ثم تقدم إليهم -يعني إلى المؤمنين من الأنصار-. فقال:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، أما"حق تقاته"، يطاع فلا يعصى، ويذكر فلا يُنسى، ويشكر فلا يُكفر.
7551- حدثني المثني قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته"، أن يطاع فلا يعصى، قال:"ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك، كما:-
7552- حدثني به المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اتقوا الله حق تقاته"، قال:"حق تقاته"، أن يجاهدوا في الله حق جهاده، ولا يأخذهم في الله لومةُ لائم، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في هذه الآية: هل هي منسوخة أم لا؟
__________
(1) الأثر: 7552- رواه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 88، مع بعض الخلاف في لفظه. وفي المخطوطة: "أن تجاهد في الله" بالإفراد، والسياق يقتضي الجمع، وجاءت على الصواب في المطبوعة وفي الناسخ والمنسوخ، إلا أنه قال: "أن تجاهدوا ... ولا يأخذكم ... وتقوموا ... ولو على أنفسكم وآبائكم وأبنائكم" على الخطاب.(7/67)
فقال بعضهم: هي محكمة غيرُ منسوخة.
*ذكر من قال ذلك:
7553- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس قوله:"اتقوا الله حق تقاته" أنها لم تنسخ، ولكن"حق تقاته"، أن تجاهدَ في الله حق جهاده = ثم ذكر تأويله الذي ذكرناه عنه آنفًا. (1)
7554- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد، عن طاوس:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته"، فإن لم تفعلوا ولم تستطيعوا، فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
7555- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال طاوس قوله:"ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، يقول: إن لم تتقوه فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون.
* * *
وقال آخرون: هي منسوخة، نسخها قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) [سورة التغابن: 16] .
*ذكر من قال ذلك:
7556- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، ثم أنزل التخفيف واليسر، وعاد بعائدته ورحمته على ما يعلم من ضعف خلقه فقال: (فاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) ، فجاءت هذه الآية، فيها تخفيفٌ وعافيةٌ ويُسر.
7557- حدثني المثني قال، حدثنا الحجاج بن المنهال الأنماطي قال،
__________
(1) الأثر: 7553- هو الأثر السالف، وفي المخطوطة والمطبوعة: "أن تجاهد"، وانظر التعليق السالف.(7/68)
حدثنا همام، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، قال: نسختها هذه الآية التي في"التغابن": (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا) ، وعليها بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة فيما استطاعوا.
7558- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: لما نزلت:"اتقوا الله حق تقاته"، ثم نزل بعدها: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْْ) ، فنسخت هذه الآية التي في"آل عمران".
7559- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، فلم يطق الناسُ هذا، فنسخه الله عنهم، فقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)
7560- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد، في قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته"، قال: جاء أمر شديد! قالوا: ومن يعرف قدر هذا أو يبلغه؟ فلما عرف أنه قد اشتد ذلك عليهم، نسخها عنهم، وجاء بهذه الأخرى فقال: (فاتَّقُوا اللهَ مَا استَطَعْتُمْ) فنسخها. (1)
* * *
__________
(1) ترك أبو جعفر رضي الله عنه، ترجيح أحد القولين على الآخر، وكان حقًا عليه أن يبينه. وقد بينه أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 88، 89، قال بعد سياقه الأثر: 7542، وروايته عن قول قتادة: "قال أبو جعفر: محال أن يقال هذا ناسخ ولا منسوخ إلا على حيلة، وذلك أن معنى نسخ الشيء: إزالته والمجيء بضده، فمحال أن يقال: "اتقوا لله" منسوخ، ولا سيما مع قول النبي صلى الله عليه وسلم مما فيه بيان الآية، كما قرأ على أحمد بن محمد بن الحجاج، عن يحيى بن سليمان قال، حدثنا أبو الأحوص قال، حدثنا أبو إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا معاذ، أتدري ما حق الله على العباد؟ قلت: الله ورسوله أعلم! قال: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا"، أفلا ترى أنه محال أن يقع في هذا نسخ ... قال أبو جعفر: "فكل ما ذكر في الآية واجب على المسلمين أن يستعملوه، ولا يقع فيه نسخ، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: "أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا" وكذا على المسلمين - كما قال ابن مسعود: "أن تطيعوا الله فلا تعصوه، وتذكروه فلا تنسوه، وأن تشكروه فلا تكفروه، وأن تجاهدوا فيه حق جهاده. وأما قول قتادة، مع محله من العلم: أنها نسخت، فيجوز أن يكون معناه: نزلت: فاتقوا الله ما استطعتم - بنسخه: اتقوا الله حق تقاته، وأنها مثلها، لأنه لا يكلف أحدًا إلا طاقته".(7/69)
وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
وأما قوله:" ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، فإن تأويله كما:-
7561- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن طاوس:" ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، قال: على الإسلام، وعلى حُرْمة الإسلام. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعًا. يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسَّكوا بدين الله الذي أمركم به، وعهده الذي عَهده إليكم في كتابه إليكم، من الألفة والاجتماع على كلمة الحق، والتسليم لأمر الله.
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبلُ على معنى"الاعتصام" (2)
* * *
وأما"الحبل"، فإنه السبب الذي يوصَل به إلى البُغية والحاجة، ولذلك سمي الأمان"حبلا"، لأنه سبب يُوصَل به إلى زوال الخوف، والنجاة من الجزَع والذّعر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ ... أَخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَها (3)
__________
(1) انظر تفسير أبي جعفر في نظيرة هذه الآية فيما سلف 3: 96، 97.
(2) انظر تفسير"الاعتصام" فيما سلف قريبا ص: 62، 63.
(3) ديوانه: 24، ومشكل القرآن: 358، والمعاني الكبير: 1120، واللسان (حبل) وغيرها. من قصيدته في قيس بن معد يكرب، ومضت منها أبيات في 4: 238، 327، وهذا البيت في ذكر ناقته، يقول قبله: فَتَرَكْتُها بَعْدَ المِرَاحِ رَذِيةً ... وَأَمِنْتُ عِنْدَ رُكُوبِهَا إِعْجَالَها
فَتَنَاوَلتْ قَيْسًا بِحُرِّ بِلادِه ... فأتَتْهُ بَعْدَ تَنُوفَةٍ فأَنَالَهَا
فإِذَا تُجَوِّزُهَا............ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد مضى قبل مثل هذا البيت الأخير ص: 62، تعليق: 2 إلَى المرءِ قيسٍ أُطِيلُ السُّرَى ... وَآخذُ من كُلّ حَيٍّ عُصُمْ
يقول: إذا أخذت من قبيلة عهودها حتى أجتاز ديارها آمنًا، أعطتها القبيلة التي تليها عهدًا وذمامًا أن تخترق ديارها آمنة لا ينالها أحد بسوء. وذلك أن القبائل كلها ترهب قيسًا وتخافه، فكل قاصد إليه، أجد الأمان حيث سار، لأنه بقصده قيسًا جار له، لا يطيق أحد أن يناله بسوء.(7/70)
ومنه قول الله عز وجل: (إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) [سورة آل عمران: 112]
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
7562- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوّام، عن الشعبي، عن عبد الله بن مسعود أنه قال في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعا"، قال: الجماعة.
7563- حدثنا المثني قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن العوّام، عن الشعبي، عن عبد الله في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، قال: حبلُ الله، الجماعة.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك القرآنَ والعهدَ الذي عَهِدَ فيه.
*ذكر من قال ذلك:
7564- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:" واعتصموا بحبل الله جميعًا"، حبل الله المتين الذي أمر أن يُعتصم به: هذا القرآن.
7565- حدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا" قال: بعهد الله وأمره.(7/71)
7566- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن شقيق، عن عبد الله قال: إن الصراط مُحْتَضَر تحضره الشياطين، ينادون: يا عبد الله، هلمّ هذا الطريق! ليصدّوا عن سبيل الله،. فاعتصموا بحبل الله، فإن حبلَ الله هو كتاب الله. (1)
7567 - حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد بن المفضل، عن أسباط، عن السدي:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، أما"حبل الله"، فكتاب الله.
7568- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"بحبل الله"، بعهد الله.
7569- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء:"بحبل الله"، قال: العهد.
7570- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن عبد الله:"واعتصموا بحبل الله" قال: حبلُ الله: القرآن.
7571- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، قال: القرآن.
7572- حدثنا سعيد بن يحيى قال: حدثنا أسباط بن محمد، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطية، عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كتاب الله، هو حبل الله الممدودُ من السماء إلى الأرض. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 7566- رواه في مجمع الزوائد بغير هذا اللفظ، وهو قريب منه. ونسبه إلى الطبراني وقال: "رواه عن شيخه عبد الله بن محمد بن سعيد بن أبي مريم، وهو ضعيف". وهذا الذي رواه الطبري إسناد صحيح.
(2) الحديث: 7572- عبد الملك بن أبي سليمان العرزمى -بسكون الراء ثم زاي مفتوحة- أحد الأئمة: مضى توثيقه: 1455.
عطية: هو ابن سعد بن جنادة -بضم الجيم- العوفي. وقد بينا في: 305 أنه ضعيف.
وقد سقط من المخطوطة والمطبوعة هنا قوله [عن عطية] . وزدناه من نقل ابن كثير 2: 203، عن هذا الموضع من الطبري.
ثم الحديث -من حديث أبي سعيد- يدور في كل ما رأينا من طرقه على عطية العوفي، كما سيأتي:
فرواه أحمد في المسند: 11229، 11582 (ج3ص 26، 59 حلبي) ، عن ابن نمير، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطية العوفي، عن أبي سعيد، بنحوه، مرفوعًا مطولا.
ورواه أيضا: 11120 (ج 3 ص 14) ، من طريق إسماعيل بن أبي إسحاق الملائي، عن عطية.
ورواه أيضا: 11148 (ج 3 ص 17) ، عن أبي النضر، عن محمد بن طلحة، عن الأعمش عن عطية العوفي.
وكذلك رواه الترمذي 4: 343، من طريق محمد بن فضيل، عن الأعمش، عن عطية، عن أبي سعيد -وعن الأعمش، عن حبيب بن أبي ثابت، عن زيد بن أرقم، مرفوعًا، نحوه مطولا. فهو عنده عن أبي سعيد وعن زيد بن أرقم. ثم قال: "هذا حديث حسن غريب".
فأما حديث أبي سعيد، فقد بينا أنه ضعيف، من أجل عطية العوفي.
وأما حديث زيد بن أرقم، فإنه حديث صحيح. وهو قطعة من قصة مطولة، رواها أحمد في المسند 4: 366 - 367 (حلبي) . ورواها مسلم 2: 237 - 238، مطولة ومختصرة.
وروى ابن حبان في صحيحه، رقم: 123 (بتحقيقنا) - قطعة منه، فيها أن"كتاب الله، هو حبل الله".
ثم نعود لحديث أبي سعيد:
فذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 163، مطولا، بنحو رواية الترمذي. ثم قال: "رواه الطبراني في الأوسط. وفي إسناده رجال مختلف فيهم"!
ولست أدرى، لم ذكره في الزوائد، وهو في الترمذي؟ ثم لم ترك نسبته للمسند، وهو مروي فيه أربع مرات؟!
وذكره السيوطي 2: 60، مختصرًا كما هنا. ولم ينسبه إلا لابن أبي شيبة وابن جرير. ثم ذكر الرواية المطولة عن أبي سعيد. ونسبه لابن سعد، وأحمد، والطبراني.(7/72)
وقال آخرون: بل ذلك هو إخلاص التوحيد لله.
*ذكر من قال ذلك:
7573- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعا"، يقول: اعتصموا بالإخلاص لله وحده.
7574- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واعتصموا بحبل الله جميعًا"، قال: الحبل، الإسلام. وقرأ"ولا تفرقوا".
* * *(7/73)
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَلا تَفَرَّقُوا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ولا تفرقوا"، ولا تتفرقوا عن دين الله وعهده الذي عهد إليكم في كتابه، من الائتلاف والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، والانتهاء إلى أمره. كما:-
7575- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تفرّقوا واذكروا نعمة الله عليكم"، إنّ الله عز وجل قد كره لكم الفُرْقة، وقدّم إليكم فيها، وحذّركموها، ونهاكم عنها، ورضي لكم السمعَ والطاعة والألفة والجماعة، فارضوا لأنفسكم ما رضى الله لكم إن استطعتم، ولا قوّة إلا بالله.
7576- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبى العالية:"ولا تفرّقوا"، لا تعادَوْا عليه، يقول: على الإخلاص لله، وكونوا عليه إخوانًا. (1)
7577- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح: أن الأوزاعي حدثه، أنّ يزيد الرقاشي حدّثه أنه سمع أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسَبعين فرقة، وإن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلهم في النار إلا واحدة. قال: فقيل: يا رسول الله، وما هذه الواحدة؟ قال: فقبض يَدَه وقال: الجماعة،"واعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرّقوا". (2)
__________
(1) في المخطوطة"وتكونوا عليه إخوانا"، والصواب ما في المطبوعة، والدر المنثور 2: 61
(2) الحديث: 7577- يزيد الرقاشي: هو يزيد أبان، أبو عمرو، البصري القاص. وقد أشرنا في شرح: 6654، 6728 إلى أنه ضعيف. وقال البخاري في الكبير 4 / 2 / 320: "كان شعبة يتكلم فيه"، وقال النسائي في الضعفاء: "متروك"، وقال ابن سعد 7 / 2 / 13: "كان ضعيفًا قدريًا".
والحديث رواه ابن ماجه: 3993، من طريق الوليد بن مسلم: "حدثنا أبو عمرو [هو الأوزاعي] ، حدثنا قتادة، عن أنس. فذكره نحوه مرفوعًا، ولكن آخره عنده: "كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة".
وقال البوصيري في زوائده: "إسناده صحيح. رجاله ثقات". وهو كما قال.
فيكون الأوزاعي رواه عن شيخين، أحدهما ضعيف، والآخر ثقة. وأن الضعيف -يزيد الرقاشي- زاد الاستشهاد بالآية. ولا بأس بذلك، فالمعنى قريب.
وذكره السيوطي 2: 60، وزاد نسبته لابن أبي حاتم.(7/74)
7578- حدثني عبد الكريم بن أبي عمير قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، سمعت الأوزاعي يحدث، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه. (1)
7579- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا المحاربي، عن ابن أبي خالد، عن الشعبي، عن ثابت بن قُطْبَة المدنيّ، عن عبد الله: أنه قال:"يا أيها الناس، عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمرَ به، وإنّ ما تكرهون في الجماعة والطاعة، هو خيرٌ مما تستحبون في الفرقة". (2)
7580- حدثنا عبد الحميد بن بيان السكريّ قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي، عن ثابت بن قطبَة قال: سمعت ابن مسعود وهو يخطب وهو يقول: يا أيها الناس، ثم ذكر نحوه. (3)
__________
(1) الحديث: 7578- هذا الحديث تكرار للحديث قبله. وعبد الكريم بن أبي عمير - شيخ الطبري: ذكره الذهبي في الميزان 2: 144 بلقب"للدهان"، وقال: "فيه جهالة. والخبر منكر". يريد حديثًا آخر، بينه الحافظ في لسان الميزان 4: 50 - 51، عن تاريخ بغداد. في ترجمة رجل آخر. وهو في تاريخ بغداد 3: 242. وفيه اسم هذا الشيخ في ذاك الإسناد: "عبد الكريم بن أبي عمير الدهقان". ولم أجد له ترجمة ولا ذكرًا في موضع آخر.
(2) الأثر: 7579-"ثابت بن قطبة المدني الثقفي"، مترجم في الكبير 1 / 2 / 168، والجرح 1 / 1 / 457، قال البخاري: "سمع ابن مسعود، روى عنه أبو إسحاق، والشعبي" وزاد ابن أبي حاتم: "وزياد بن علاقة، وسالم بن أبي الجعد". وكان في المطبوعة في هذا الموضع وفي الأثرين التاليين"ثابت بن قطنة" بالنون من"قطنة"، وهو خطأ. وفي المخطوطة في هذا الأثر"فطنه" غير منقوطة، ونقطت الباء في الأثرين التاليين. وفي المخطوطة والمطبوعة: "المرى" في هذا الأثر وفي رقم: 7581، والصواب"المدني" كما أثبته، وثابت ثقفي، لا مرى.
(3) الأثر: 7580- في المطبوعة: "عبد الحميد بن بيان اليشكري"، وهو خطأ، والصواب المخطوطة. وقد سلف مثل هذا الخطأ في رقم: 7378، فانظر التعليق عليه.(7/75)
7581- حدثنا إسماعيل بن حفص الأبُلِّيُّ قال، حدثنا عبد الله بن نمير أبو هشام قال، حدثنا مجالد بن سعيد، عن عامر، عن ثابت بن قطبة المدني قال: قال عبد الله: عليكم بالطاعة والجماعة، فإنها حبل الله الذي أمرَ به، ثم ذكر نحوه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"واذكروا نعمة الله عليكم"، واذكروا ما أنعم الله به عليكم من الألفة والاجتماع على الإسلام.
واختلف أهل العربية في قوله:"إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم".
فقال بعض نحويي البصرة في ذلك: انقطع الكلام عند قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم"، ثم فسر بقوله:"فألف بين قلوبكم"، وأخبرَ بالذي كانوا فيه قبل التأليف، كما تقول:"أمسَكَ الحائط أن يميل".
وقال بعض نحويي الكوفة: قوله"إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم"، تابع قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم" غير منقطعة منها.
__________
(1) الأثر: 7581-"إسماعيل بن حفص بن عمرو الأبلى، أبو بكر الأودي البصري، و"الأبلي" (بضم الهمزة والباء الموحدة، واللام المشددة المكسورة) نسبة إلى"الأبلة". وفي بعض الكتب"الأيلي" بالياء. روى عن أبيه، وحفص بن غياث، ومعتمر بن سليمان وغيرهم. روى عنه النسائي وابن ماجه، وابن خزيمة وجماعة. وسمع منه أبو حاتم، قال ابن أبي حاتم: "وسألت أبي عنه فقال: كتبت عنه وعن أبيه، وكان أبوه يكذب، وهو بخلاف أبيه. قلت: لا بأس به؟ قال: لا يمكنني أن أقول لا بأس به". وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 165.(7/76)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن قوله:"إذ كنّتم أعداءً فألّف بين قلوبكم"، متصل بقوله:"واذكروا نعمة الله عليكم"، غير منقطع عنه.
وتأويل ذلك: واذكروا، أيها المؤمنون، نعمة الله عليكم التي أنعمَ بها عليكم، حين كنتم أعداء في شرككم، (1) يقتل بعضكم بعضًا، عصبيةً في غير طاعة الله ولا طاعة رسوله، فألف الله بالإسلام بين قلوبكم، فجعل بعضكم لبعض إخوانًا بعد إذ كنتم أعداءً تتواصلون بألفة الإسلام واجتماع كلمتكم عليه، كما:-
7582- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم"، كنتم تذابحون فيها، يأكل شديدكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فآخى به بينكم، وألَّف به بينكم. أما والله الذي لا إله إلا هو، إنّ الألفة لرحمة، وإن الفرقة لعذابٌ.
7583- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء"، يقتل بعضكم بعضًا، ويأكل شديدُكم ضعيفكم، حتى جاء الله بالإسلام، فألف به بينكم، وجمع جمعكم عليه، وجعلكم عليه إخوانًا.
* * *
قال أبو جعفر: فالنعمة التي أنعم الله على الأنصار التي أمرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن يذكرُوها، هي ألفة الإسلام، واجتماع كلمتهم عليها = والعداوةُ التي كانت بينهم، التي قال الله عز وجل:"إذ كنتم أعداء" فإنها عداوة الحروب التي كانت بين الحيين من الأوس والخزرج في الجاهلية قبل الإسلام، يزعم العلماء بأيام العرب أنها تطاولت بينهم عشرين ومائة سنة،. كما:-
__________
(1) في المطبوعة: "أي بشرككم"، وليست بشيء، وفي المخطوطة"أي شرككم" ولا معنى لها، وفيها زيادة ألف"أي"، و"ى" هي"في" فالذي أثبته هو الصواب والسياق.(7/77)
7584- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق: كانت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين ومائة سنة، حتى قام الإسلام وهم على ذلك، فكانت حربهم بينهم وهم أخوان لأب وأم، فلم يسمع بقوم كان بينهم من العداوة والحرب ما كان بينهم. ثم إن الله عز وجل أطفأ ذلك بالإسلام، وألف بينهم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
فذكَّرهم جل ثناؤه إذ وعظهم، عظيمَ ما كانوا فيه في جاهليتهم من البلاء والشقاء بمعاداة بعضهم بعضًا وقتل بعضهم بعضًا، وخوف بعضهم من بعض، وما صارُوا إليه بالإسلام واتباع الرّسول صلى الله عليه وسلم، والإيمان به وبما جاء به، من الائتلاف والاجتماع، وأمن بعضهم من بعض، ومصير بعضهم لبعض إخوانًا، وكأن سبب ذلك ما:-
7585- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثنا عاصم بن عمر بن قتادة المدني، عن أشياخ من قومه، قالوا: قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا. قال: وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره ونسبه وشرفه. قال: فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به، فدعاه إلى الله عز وجل وإلى الإسلام، قال: فقال له سويد: فلعل الذي مَعك مثل الذي معي! قال: فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وما الذي معك؟ قال: مجلة لقمان -يعني: حكمة لقمان- فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:"اعرضْها عليّ" فعرضها عليه، فقال:"إن هذا لكلام حسنٌ، (2) معي أفضل من هذا، قرآنٌ أنزله الله عليّ هدًى ونورٌ. قال: فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآنَ، ودعاه إلى الإسلام، فلم يُبعد منه، وقال: إن هذا لقولٌ حَسن! ثم
__________
(1) الأثر: 7584- لم أستطع أن أهتدي إلى مكانه من سيرة ابن هشام في هذه الساعة.
(2) في المطبوعة: "إن هذا الكلام"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة وسيرة ابن هشام.(7/78)
انصرف عنه وقدم المدينةَ، فلم يلبث أن قتلته الخزرج. فإن كان قومه ليقولون: قد قتل وهو مسلم. وكان قتله قبل يوم بُعاثٍ. (1)
7586- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، (2) أحد بني عبد الأشهل: أن محمودَ بن لبيد، (3) أحدَ بني عبد الأشهل قال: لما قدم أبو الحَيْسر أنس بن رافع مكة، (4) ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، (5) سمع بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فجلس إليهم فقال"هل لكم إلى خير مما جئتم له؟ " قالوا: وما ذاك؟ قال:"أنا رسولُ الله، بعثني إلى العباد أدعوهم إلى الله أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، (6) وأنزل عليَّ الكتاب. ثم ذكر لهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ، وكان غلامًا حدُثًا: (7) أيْ قوم، هذا والله خير مما جئتم له! قال: فيأخذ أبو الحَيْسَر أنس بن رافعَ حفنةً من البطحاء، (8) فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال: دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا! قال: فصمت إياس بن معاذ، وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم، وانصرفوا
__________
(1) الأثر: 7585- سيرة ابن هشام 2: 67 - 69.
(2) في المطبوعة: "الحسين بن عبد الرحمن ... "، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة وسيرة ابن هشام، وهو مترجم في التهذيب.
(3) في المطبوعة: "محمود بن أسد"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة، ولم يحسن الناشر قراءتها لخلوها من النقط، وصوابه أيضًا في ابن هشام. و"محمود بن لبيد الأشهلي" تابعي، واختلف في صحبته. مترجم في التهذيب.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "أبو الجيش أنس بن رافع"، وهو خطأ فاحش، صوابه من سيرة ابن هشام 2: 69، وسائر كتب التاريخ.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "على قوم من الخزرج"، والصواب ما في سيرة ابن هشام. كما أثبت.
(6) في المخطوطة: "أن يعبدون الله. . ." سهو من الناسخ، وفي ابن هشام"أدعوهم إلى أن يعبدوا الله".
(7) غلام حدث (بفتح الحاء وضم الدال) : كثير الحديث حسن السياق له.
(8) في المطبوعة: "فأخذ أبو الجيش"، والصواب ما أثبت من سيرة ابن هشام.(7/79)
إلى المدينة، وكانت وقعةُ بعاث بين الأوس والخزرج. قال. ثم لم يلبث إياسُ بن معاذ أن هلك. قال: فلما أراد الله إظهارَ دينه، وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم، وإنجازَ موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقي فيه النفرَ من الأنصارَ يعرض نفسه على قبائل العرب، (1) كما كان يصنع في كل موسم. فبينا هو عند العقبة، إذ لقي رهطًا من الخزرج أراد الله بهم خيرًا (2) .
=قال ابن حميد قال، سلمة قال، محمد بن إسحاق، فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة؛ عن أشياخ من قومه قالوا: لما لقيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم:"من أنتم؟ " قالوا: نفر من الخزرج قال، أمن موالي يهود؟ (3) قالوا: نعم قال: أفلا تجلسون حتى أكلمكم؟ قالوا: بلى!. قال: فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرَض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن. قال: وكان مما صنَع الله لهم به في الإسلام، (4) أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهلَ كتاب وعلم، وكانوا أهل شرك، أصحابَ أوثان، (5) وكانوا قد غزوهم ببلادهم. فكانوا إذا كان بينهم شيء، قالوا لهم: إن نبيًّا الآن مبعوث قد أظلّ زمانه، نتبعه ونقتلكم معه قتلَ عاد وإرَم!. فلما كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أولئك النفرَ ودعاهم إلى الله عز وجل، قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون والله إنه للنبي الذي تَوَعَّدُكم به يهود، فلا يسبقُنَّكم إليه! (6) فأجابوه فيما دعاهم إليه، بأن صَدّقوه وقبلوا منه
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم الموسم. . ." بإسقاط"في" وأثبتها من ابن هشام. وفي ابن هشام: "فعرض نفسه" بالفاء، وما في مخطوطة الطبري، جيد
(2) في المطبوعة: "لهم خيرًا"، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(3) "موالي يهود": أي من حلفائهم، والمولي: الحليف.
(4) هذا هو النص الصحيح، لما أثبت ناشر سيرة ابن هشام، مخالفا أصول السيرة، وما جاء هنا.
(5) في ابن هشام: "وكانوا هم أهل شرك وأصحاب أوثان"، وما في الطبري صواب أيضا.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "ولا يسبقنكم" بالواو، وأثبت ما في سيرة ابن هشام.(7/80)
ما عَرَض عليهم من الإسلام، وقالوا له: (1) إنا قد تركنا قومَنا ولا قومَ بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسَى الله أن يجمعهم بك، وسنَقْدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين؛ فإن يجمعهم الله عليه، فلا رجلَ أعزّ منك. ثم انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعين إلى بلادهم، قد آمنوا وصدّقوا = وهم فيما ذكر لي ستة نفر. قال: فلما قدموا المدينة على قومهم، ذكرُوا لهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، ودعوهم إلى الإسلام، حتى فَشا فيهم، فلم تَبقَ دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها ذكرٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى إذا كان العامُ المقبل، وافى الموسمَ من الأنصار اثنا عشر رجلا فلقوه بالعقبة، وهي العقبة الأولى، فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيْعَة النساء، (2) وذلك قبل أن تُفترَض عليهم الحرب. (3)
7587- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن عكرمة: أنه لقىَ النبي صلى الله عليه وسلم ستةُ نفرٍ من الأنصار فآمنوا به وصدّقوه، فأراد أن يذهبَ معهم، فقالوا: يا رسول الله، إن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "قالوا" بإسقاط الواو، والصواب ما في سيرة ابن هشام.
(2) بيعة النساء، هي البيعة المذكورة في [سورة الممتحنة: 12] ، ونصها فيما رواه ابن إسحاق بإسناديه عن عبادة بن الصامت أنه قال (ابن هشام 2: 75، 76) : "بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم لَيلَةَ العقبة الأولى على أن لا نُشْرك بالله شيئًا، ولا نَسْرِق، ولا نزني، ولا نقتُل أولادَنا، ولا نأتي ببُهْتانٍ نَفتريهِ من بين أيدينا وأرجُلنا، ولا نَعْصِيه في معروفٍ = فإِن وَفَيْتُم، فلكُمُ الجنَّة. وإن غَشِيتُم من ذلك شيئًا فأُخِذْتم بحدِّه في الدنيا، فهو كفَّارةٌ لكم. وإن سترتُم عليه إلى يوم القيامة، فأمركم إلى الله، إن شاءَ عذب وإن شاءَ غفر". وهذه بيعة لم يذكر فيها القتال والجهاد، مما كتبه الله على الرجال دون النساء، ولذلك سميت بيعة النساء، لأنها مطابقة لبيعتهن المذكورة في سورة الممتحنة.
(3) الأثر: 7586- سيرة ابن هشام 2: 69 - 73، وهو تابع الأثر السالف رقم: 7585.(7/81)
بين قومنا حربًا، وإنا نخافُ إن جئت على حالك هذه أن لا يتهيأ الذي تريدُ. فوعدوه العامَ المقبلَ، وقالوا: يا رسول الله، نذهب، فلعلّ الله أن يُصْلح تلك الحرب! قال: فذهبوا ففعلوا، فأصلح الله عز وجل تلك الحرب، وكانوا يُرَوْن أنها لا تَصْلُح = وهو يوم بُعاث. فلقوه من العام المقبل سبعينَ رجلا قد آمنوا، فأخذ عليهم النقباءَ اثني عشر نقيبًا، فذلك حين يقول:"واذكروا نعمة الله عليكم إذْ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم".
7588- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما:"إذ كنتم أعداء"، ففي حرب ابن سُمَير (1) ="فألف بين قلوبكم"، بالإسلام.
7589- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو سفيان، عن معمر، عن أيوب، عن عكرمة بنحوه = وزاد فيه: فلما كان من أمر عائشة ما كان، (2) فتثاوَر = الحيَّان، فقال بعضهم لبعض: مَوْعدُكم الحَرَّة! فخرجوا إليها، فنزلت هذه الآيةُ:"واذكروا نعمةَ الله عليكم إذْ كنتم أعداء فألَّف بين
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة"ففي حرب فألف ... " أسقط"ابن سمير"، وسيأتي نص قول السدي، كما أثبته بعد ص 83 س: 3.
(2) يعني ما كان من حديث الإفك في أمر عائشة أم المؤمنين، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الناس فذكر لهم رجالا يؤذونه في أهله ويقولون عليهن غير الحق، وتولى كبر ذلك رأس النفاق عبد الله بن أبي ابن سلول في رجال من الخزرج. فقام أسيد بن حضير الأوسي فقال: يا رسول الله، إن يكونوا من الأوس نكفيكهم، وإن يكونوا من إخواننا من الخزرج، فمرنا بأمرك، فوالله إنهم لأهل أن تضرب أعناقهم. فقام سعد بن عبادة الخزرجي، فقال: كذبت لعمر الله، لا تضرب أعناقهم! أما والله ما قلت هذه المقالة إلا لأنك عرفت أنهم من الخزرج، ولو كانوا من قومك ما قلت هذا! فقال أسيد بن الحضير: كذبت لعمر الله: ولكنك منافق تجادل عن المنافقين! وتثاور الناس حتى كاد أن يكون بين هذين الحيين من الأوس والخزرج شر (تاريخ الطبري 3: 69) .
هذا ولم أجد ذكر هذا الخبر في كتاب، ولم أجد في كتب أسباب النزول أن هذه الآية نزلت في شأن عائشة رضي الله عنها، ولا ما كان يومئذ بين الأوس والخزرج. ولم يذكر ذلك أبو جعفر مصرحًا في هذا الموضع، ولا ذكر ذلك في تفسير سورة النور، حيث آيات حديث الإفك وبراءة عائشة أم المؤمنين.(7/82)
قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا"، الآية. فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يزل يتلوها عليهم حتى اعتنق بعضهم بعضًا، وحتى إن لهم لخنينًا = يعني البكاءَ. (1)
* * *
"وسُمَير" الذي زعم السدي أن قوله"إذ كنتم أعداء" عنى به حربه، هو سُمير بن زيد بن مالك، (2) أحد بني عمرو بن عوف الذي ذكره مالك بن العجلان في قوله:
إنَّ سُمَيْرًا أَرُى عَشِيرَتَهُ ... قَدْ حَدِبُوا دُونَهُ وَقَدْ أنِفُوا (3) إنْ يَكًنِ الظَّنُّ صَادِقِي بَبَنِي ... النَّجَّارِ لَمْ يَطْعَمُوا الَّذِي عُلِفُوا (4)
__________
(1) في المطبوعة: "لحنينًا" بالحاء، وأما في المخطوطة، فإن الناسخ على غير عادته نقط حروفها المعجمة جميعًا، كما أثبتها، وهو الصواب المحض. والخنين: تردد البكاء في الأنف والخياشيم حتى يصير في الصوت مثل الغنة، لكتمان البكاء من ألم وحياء وخجل. وقد ورد في كثير من الأحاديث من ذلك: "أنه كان يسمع خنينه في الصلاة"، وفي حديث أنس: "فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم، لهم خنين".
(2) في الأغاني 3: 40"سمير بن يزيد بن مالك"، وذكر في 3: 21 أنه أخو"درهم بن يزيد بن ضبيعة"، وقد رجحت في التعليق على طبقات فحول الشعراء لابن سلام: 247 تعليق: 6 أنه"درهم بن يزيد بن مالك" من بني ضبيعة بن زيد بن مالك بن عوف بن عمر بن عوف. وقد جاء في المطبوعتين"درهم بن زيد" كما جاء هنا في ذكر أخيه"سمير بن زيد".
(3) جمهرة أشعار العرب: 122، والأغاني 20، واللسان (سمر) وهذا البيت والذي يليه كتب في المطبوعة بالقاف"أبقوا" ثم"علقوا" وهما في المخطوطة غير منقوطتين، وأوقعهم في ذلك النقط ما جاء في اللسان (سمر) ، "أبقوا" بالباء والقاف، وهو خطأ محض ينبغي تصحيحه. فقصيدة مالك فائية لا شك فيها. رواها صاحب جمهرة أشعار العرب بطولها، ورواها أبو الفرج، وروى معها نقائضها، لدرهم بن يزيد، ثم لقيس بن الخطيم، فيما بعد هذه الحرب بدهر، ورد حسان بن ثابت عليه ومناقضته له. وخبر هذا الشعر طويل، هو في الأغاني 3: 18 - 26، ثم 39 - 42. ثم انظر ما قاله الطبري بعد الأبيات.
وقوله: "حدبوا دونه"، يقال: "حدب عليه"، إذا تعطف عليه وحنا عليه. وقوله: "دونه"، عني أنهم عطفوا عليه وحاموا دونه ليمنعوه. وقوله: "أنفوا"، يقال: "أنف الرجل من الشيء يأنف أنفا"، إذا حمى وغضب، وأخذته الغيرة من أن يضام. وكان سمير هذا هو الذي قتل الرجل الثعلبي جار مالك بن العجلان -في خبر الحرب- فطالب مالك بني عمرو بن عوف أن يرسلوا إليه سميرًا ليقتله بجاره، أو يأخذ الدية كاملة، فأبى أولئك، وأبى مالك، وحدب بنو عمرو بن عوف على صاحبهم سمير، واستنفر مالك قبائل الخزرج، فأبت بنو الحارث بن الخزرج أن تنصره، فقال هذه الأبيات يحرض بني النجار على نصرته.
(4) في رواية الجمهرة والأغاني: "صادقا"، وهما سواء. وفي شرح هذا البيت قال أبو الفرج في أغانيه: "علفوا الضيم: إذا أقروا به. أي ظني أنهم لا يقبلون الضيم"، وهذا مجاز قلما تظفر بتفسيره في كتب اللغة. وقد جاء مثل ذلك في هذا المعنى من قول سبيع بن زرارة، أو خالد بن نغسلة (الحماسة 1: 186) . إِذَا كُنْتَ في قومٍ عِدًى لَسْتَ مِنْهُمُ ... فَكُلْ مَا عُلِفْتُ من خبيثٍ وطيِّبِ
وقول العباس بن مرداس (الحماسة 1: 225) . ولا تَطْعَمَنْ ما يَعْلِفٌونَك إنَّهُمْ ... أَتَوْكَ عُلىْ قُرْبَاهُمْ بِالمُثَمَّلِ
وكأنهم يريدون بذلك: ما يقدم إليك، مما يكون حسن الظاهر كأنه رعاية وكرم، خبيث الباطن يراد به الأذى والضيم، واستعملوا"العلف" لأنه كالاستغفال لمن يقدم إليه، كأنه بهيمة لا تدرك الخفي الباطن.
هذا وقد ترك ناشرو هذا التفسير هذين البيتين على حالهما من التصحيف. ثم جاء بعض المعلقين، فكتب ما لا قبل لذي عقل بقبوله، إلا على قول القائل: "فكل ما علفت"!(7/83)
وقد ذكر علماء الأنصار: أنّ مبدأ العداوة التي هيَّجت الحروب التي كانت بين قبيلتَيها الأوسِ والخزرجِ وأوَّلها، كان بسبب قتل مَولى لمالك بن العجلان الخزرجيّ، يقال له:"الحرُّ بن سُمَير" من مزينة، (1) وكان حليفًا لمالك بن العجلان، ثم اتصلت تلك العداوة بينهم إلى أن أطفأها الله بنبيه محمد صلى الله عليه وسلم. فذلك معنى قول السدي:"حرْب ابن سمير".
* * *
وأما قوله:"فأصبحتم بنعمته إخوانًا"، فإنه يعني: فأصبحتم بتأليف الله عز وجل بينكم بالإسلام وكلمة الحق، والتعاون على نصرة أهل الإيمان، والتآزر على من خالفكم من أهل الكفر، إخوانًا متصادقين، لا ضغائن بينكم ولا تحاسد، كما:-
7590- حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة،
__________
(1) لست على ثقة من هذا الاسم"الحر بن سمير"، ولكني لم أجده في مكان آخر، والذي يقولونه في غير هذا الخبر أن اسمه"كعب بن العجلان"، ويقال غير ذلك.(7/84)
قوله:"فأصبحتم بنعمته إخوانًا"، وذكر لنا أن رجلا قال لابن مسعود: كيف أصبحتم؟ قال: أصبحنا بنعمة الله إخوانًا.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"وكنتم على شفا حفرة من النار"، وكنّتم، يا معشر المؤمنين، من الأوس والخزرج، على حرف حُفرةٍ من النار. وإنما ذلك مثَلٌ لكفرهم الذي كانوا عليه قبل أن يهديهم الله للإسلام. يقول تعالى ذكره: وكنتم على طرَف جهنم بكفركم الذي كنتم عليه قبل أن يُنعم الله عليكم بالإسلام، فتصيروا بائتلافكم عليه إخوانًا، ليس بينكم وبين الوقوع فيها إلا أن تموتوا على ذلك من كفركم، فتكونوا من الخالدين فيها، فأنقذكم الله منها بالإيمان الذي هداكم له.
* * *
و"شفا الحفرة"، طرفها وَحرفها، مثل"شفا الركيَّة والبئر"؛ ومنه قول الراجز:
نَحْنُ حَفَرنَا لِلْحَجيِجِ سَجْلَهْ ... نَابِتَةٌ فَوْقَ شَفَاهَا بَقْلَةْ (1)
__________
(1) لم أجد هذا الرجز بهذه الرواية في كتاب غير هذا التفسير. أما "سجلة" فهي بئر المطعم ابن عدي بن نوفل بن عبد مناف، ويقال حفرها عدي بن نوفل، ويقال حفرها هاشم بن عبد مناف، ويقال حفرها قصى. وقد ذكرها ابن هشام في سيرته 2: 157، والأزرقي في تاريخ مكة 1: 64، 65 / 2: 175، 176، والبلاذري في فتوح البلدان: 55، 56، والبكري في معجم ما استعجم: 724، ومعجم البلدان (سجلة) ، والروض الأنف 1: 101، وذكرها المصعب في نسب قريش: 31، 197، ولم يذكر اسمها بل قال: "سقاية عدي، التي بالمشعرين، بين الصفا والمروة، وفيها يقول مطرود الخزاعي، يمدح عدى بن نوفل: وَمَا النِّيلُ يَأْتِي بالسَّفِينِ يَكُفُّه ... بأَجْوَدَ سَيْبًا من عَدِىّ بن نَوْفَل
وأنبطْتَ بين المَشْعَرَيْنِ سِقايةً ... لِحُجَّاجِ بَيْتِ الله أفْضَلَ مَنْهَلِ
ونسب أبو الفرج في أغانيه 13: 5 هذا الشعر لقيس بن الحدادية من أبيات. وأما الرجز الذي يشبه هذا وذكروه في المراجع السالفة، فقد اختلف في نسبته، إلى قصى، وإلى خلدة بنت هاشم، تقول: نَحْنُ وَهَبْنَا لِعَدِىٍّ سَجْلَهْ ... في تُرْبةٍ ذَاتِ عَذَاةٍ سَهْلَهْ
تُرْوِى الحَجِيج زُغْلَةً فزُغْلَهْ
أي جرعة فجرعة. ولم يتيسر لي تحقيق ذلك الآن بأكثر من هذا(7/85)
يعني: فوق حرفها. يقال:"هذا شفا هذه الركية" مقصور"وهما شفواها"
* * *
وقال:"فأنقذكم منها"، يعني فأنقذكم من الحفرة، فردّ الخبر إلى"الحفرة"، وقد ابتدأ الخبر عن"الشفا"، لأن"الشفا" من"الحفرة". فجاز ذلك، إذ كان الخبر عن"الشفا" على السبيل التي ذكرها في هذه الآية = خبرًا عن"الحفرة"، كما قال جرير بن عطية:
رَأَتْ مَرَّ السِّنِينَ أَخَذْنَ مِنَّي ... كما أخَذ السِّرَارُ مِنَ الهِلالِ (1)
__________
(1) ديوانه: 426، مجاز القرآن: 98، الكامل 1: 324، وغيرها، وسيأتي في التفسير 12: 94 / 13: 109 / 19: 39 (بولاق) ، من قصيدة يهجو الفرزدق، لم تذكر في نقائضهما، يقول قبل البيت: دَعِيني، إِنَّ شَيْبى قَدْ نَهَانِي ... وَتَجْرِيبِى، وَشَيْبِى، وَاكْتِهَالِى
رَأَتْ مَرَّ السِّنِينِ......... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وَمَنْ يَبْقَى عَلَى غَرَضِ المَنَايا ... وَأَيَّامٍ تَمُرُّ مَعَ اللَّيّالِي?!
والسرار (بكسر السين وفتحها) : آخر ليلة من الشهر، ليلة يستسر القمر، أي يختفي، وأراد جرير بالسرار في هذا البيت: نقصان القمر حتى يبلغ آخر ما يكون هلالا، حتى يخفى في آخر ليلة، فهذا النقصان هو الذي يأخذ منه ليلة بعد ليلة، أما "السرار" الذي شرحه أصحاب اللغة، فهو ليلة اختفاء القمر، وذلك لا يتفق في معنى هذا البيت.(7/86)
فذكر:"مر السنين"، ثم رجع إلى الخبر عن"السنين"، وكما قال العجاج: (1)
طُولُ اللَّيَالِي أَسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طولِي وَطَوَيْنَ عَرْضِي (2)
وقد بيَّنتُ العلة التي من أجلها قيل ذلك كذلك فيما مضى قبل. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل، قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
7591- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته"، كان هذا الحيّ من العرب أذلَّ الناس ذُلا وأشقاهُ عيشًا، (4) وأبْيَنَه ضلالة، وأعراهُ
__________
(1) وينسب للأغلب العجلى، كما سترى في المراجع، وقال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب."ليس هذا الرجز للأغلب، هو لغيره، من شوارد الرجز".
(2) ديوان العجاج: 80، سيبويه 1: 26، كتاب المعمرين: 87، الأغاني 18: 164، والبيان والتبيين 4: 60، والخزانة 2: 168، العيني (هامش الخزانة) 3: 395، وشرح شواهد المغنى: 298 وغيرها. وقد اختلفت في رواية الرجز اختلاف كثير. ورواية أبي محمد الأعرابي: أَصْبَحْتُ لا يَحْمِلُ بَعْضِي بَعْضِي ... مُنَفَّهًا، أَرُوح مِثْلَ النِّقْضِ
مَرُّ اللَّيالي............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثُمَّ الْتَحَيْنَ عَنْ عِظامِي نَحْضِى ... أَقْعِدْنَنِي مِنْ بَعْدِ طُول نَهْضِي
المنفه: الذي عليه الكلال والإعياء. والنقض: البعير المهزول. التحى العود من الشجر: قشر عنه لحاءه، وهو قشره. والنحض: اللحم. يقول: تركته الليالي عظامًا، قد أكلت لحمه.
(3) 5: 77، 78.
(4) قوله: "وأشقاه عيشًا، وأبينه ضلالة. . ." مع عودة الضمير إلى"الناس"، لأن ضمير المثنى والجمع بعد"أفعل" التفضيل، يجوز إفراده وتذكيره، انظر ما سلف من التعليق على الآثار رقم: 5968، 6129، 7028، 7029.(7/87)
جلودًا، وأجوعَه بطونًا، مَكْعُومين (1) على رأس حجر بين الأسدين فارس والروم، لا والله ما في بلادهم يومئذ من شيء يحسدون عليه. مَنْ عاش منهم عاش شقيًّا، ومن مات رُدِّي في النار، (2) يؤكلون ولا يأكلون، والله ما نعلم قبيلا يومئذ من حاضر الأرض، كانوا فيها أصغر حظًّا، وأدق فيها شأنًّا منهم، حتى جاء الله عز وجل بالإسلام، فورَّثكم به الكتاب، وأحل لكم به دار الجهاد، ووضع لكم به من الرزق، (3) وجعلكم به ملوكًا على رقاب الناس. وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا نِعمَه، فإن ربكم منعِمٌ يحب الشاكرين، وإن أهل الشكر في مزيد الله، فتعالى ربنا وتبارك.
7592- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، قوله:"وكنتم على شفا حفرة من النار"، يقول: كنتم على الكفر بالله، ="فأنقذكم منها"، من ذلك، وهداكم إلى الإسلام.
7593- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها"، بمحمد صلى الله عليه وسلم يقول: كنتم على طرَف النار، من مات منكم أوبِقَ في النار، (4) فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم فاستنقذكم به من تلك الحفرة.
__________
(1) في المطبوعة: "معكومين"، والصواب من المخطوطة: كعم فم البعير وغيره شد فاه في هياجه لئلا يعض. ومنه قيل: "كعمه الخوف فهو مكعوم"، أمسك فاه، ومنعه من النطق، وفي حديث على: "فهم بين خائف مقموع، وساكت مكعوم"، وفي شعر ذى الرمة يصف صحراء بعيدة الأرجاء، يخافها سالكها: بَيْنَ الرَّجَا والرَّجَا من جَنْبِ واصِيَةٍ ... يَهْمَاءَ، خَابِطُهَا بالخوف مَكْعُومُ
(2) ردى في النار: ألقى فيها.
(3) هكذا جاءت الجملتان في المخطوطة، ولست على ثقة من صوابهما، ولا أدري ما يعني بقوله: "دار الجهاد"، والذي نعرف أن الإسلام جاء فأحله للمجاهدين هو"الغنائم" غنائم الحرب والجهاد. فأخشى أن يكون في الكلام تحريف. وقوله: "ووضع لكم به من الرزق" كأنه يعني بقوله: "وضع" بسط، كما فسروه في حديث التوبة: "إن الله واضع يده لمسيء الليل ليتوب بالنهار، ولمسيء النهار ليتوب بالليل"، أي بسط، كما جاء في الرواية الأخرى: "إن الله باسط يده. . .".
(4) أوبقه: أهلكه، وقوله: "أوبق" بالبناء للمجهول.(7/88)
7594- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا حسن بن حيّ:"وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها" قال: عصبية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"كذلك"، كما بيَّن لكم ربكم في هذه الآيات، أيها المؤمنون من الأوس والخزرج، من غِلّ اليهود الذي يضمرونه لكم، (2) وغشهم لكم، وأمره إياكم بما أمركم به فيها، ونهيه لكم عما نهاكم عنه، والحال التي كنتم عليها في جاهليتكم، والتي صرتم إليها في إسلامكم،= (3) مُعَرِّفَكم في كل ذلك مواقع نعمة قِبَلكم، وصنائعه لديكم،= (4) فكذلك يبين سائر حججه لكم في تنزيله وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. ="لعلكم تهتدون"، يعني: لتهتدوا إلى سبيل الرشاد وتسلكوها، فلا تضِلوا عنها. (5)
* * *
__________
(1) الأثر: 7594-"الحسن بن حي"، هو: "الحسن بن صالح بن صالح بن حي، وهو حيان، الهمداني" قال البخاري: "يقال: حي، لقب"، وكان في المطبوعة: "حسن بن يحيى"، والصواب في المخطوطة، وهو مترجم في التهذيب.
(2) في المطبوعة: "من علماء اليهود. . ."، وهو فاسد جدًا، والصواب في المخطوطة، ولكنه لم يحسن قراءتها"من عل" غير منقوطة. والغل (بكسر الغين) : الحقد الدفين.
(3) سياق الجملة: كما بين لكم في هذه الآيات. . . من غل اليهود. . . ومن غشهم. . . ومن أمره. . . ومن نهيه. . . ومن الحال التي كنتم عليه. . ." معطوف بعضه على بعض.
(4) في المطبوعة: "يعرفكم" بالياء في أوله، والصواب ما في المخطوطة، وهو منصوب الفاء، نصب على الحال.
(5) عند هذا الموضع، انتهى الجزء الخامس من مخطوطتنا، وفي آخره ما نصه: "نَجَز الجزء الخامس من كتاب البيان، بحمد الله تعالى وعونه وحسن توفيقه، أعان الله على ما بعده بمنه وكرمه، وخفىّ لطفه وسعة رحمته، إنه وَلِيّ ذلك والقادرُ عليه. يتلوه في السادس إنْ شاء الله تعالى: القول في تأويل قوله: "وَلْتَكُنْ منكُمْ أمّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ويَأمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَأُولئكَ هُمُ المُفْلِحُون". * * *
وكان الفراغُ منه في شهر الله المحرّم غُرّة سنة خمس عشرة وسبعمئة، أحسن الله تَقَضِّيها وخاتمتها في خيرٍ وعافية، بمنّه وكرمه ولطفه - على يدِ العبد الفقير إلى رحمة مولاه، الغنيِّ به عمن سواه: علىّ بن محمد بن عباد (أو: عنان) بن عبد الصمد بن صالح الديدبلى (؟؟) الشافعي، غفر الله له ولوالديه، ولصاحب هذا الكتاب، ولمن قرأ فيه ودعا لهم بالتوبة والمغفرة ورضى الله تعالى والجنة، ولجميع المسلمين. وذلك بالقاهرة المحروسة، بحارة العطوفة. الحمد لله رب العالمين" ثم يتلوه الجزء السادس، وأوله:
"بسم الله الرحمن الرحيم ربّ أعِنْ"(7/89)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)
القول في تأويل قوله: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولتكن منكم" أيها المؤمنون ="أمة"، يقول: جماعة (1) ="يدعون" الناس="إلى الخير"، يعني إلى الإسلام وشرائعه
__________
(1) انظر تفسير"أمة" فيما سلف 1: 221 / 3: 74، 100، 128، 141، 275 - 277.(7/90)
التي شرعها الله لعباده (1) ="ويأمرون بالمعروف"، يقول: يأمرون الناس باتباع محمد صلى الله عليه وسلم ودينه الذي جاء به من عند الله (2) "وينهون عن المنكر"،: يعني وينهون عن الكفر بالله والتكذيب بمحمد وبما جاء به من عند الله، بجهادهم بالأيدي والجوارح، حتى ينقادوا لكم بالطاعة.
* * *
وقوله:"وأولئك هم المفلحون"، يعني: المنجحون عند الله الباقون في جناته ونعيمه.
* * *
وقد دللنا على معنى"الإفلاح" في غير هذا الموضع، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (3)
* * *
7595- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عيسى بن عمر القارئ، عن أبي عون الثقفي: أنه سمع صُبيحًا قال: سمعت عثمان يقرأ: (" وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أمَّةٌ يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ وَيَأمُرُونَ بالمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وَيَسْتَعِينُونَ اللهَ عَلَى مَا أَصَابَهُم ") . (4)
7596- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن
__________
(1) انظر تفسير"الخير" فيما سلف 2: 505.
(2) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3: 293 / 4: 547، 548 / 5: 44، 76، 93، 137، 520.
(3) انظر ما سلف 1: 249، 250 / 3: 561.
(4) الأثر: 7595-"عيسى بن عمر الأسدي" المعروف بالهمداني، القارئ الأعمى صاحب الحروف، كوفي ثقة. مترجم في التهذيب وطبقات القراء 1: 612."أبو عون الثقفي" هو: "محمد بن عبيد الله بن سعيد" الأعور، كوفي تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، وطبقات القراء 2: 194. أما "صبيح"، فلم أجد له ترجمة إلا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2 / 1 / 449 قال: "صبيح، قال سمعت عثمان يقرأ: "ولتكن منكم أمة يهدون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون الله على ما أصابهم. روى عيسى بن عمر القارئ، عن أبي عون، عنه". ولم يزد على ذلك، وفي الجرح كما ترى"يهدون إلى الخير" على غير ما جاء في الطبري، فإنه يوافق القراءة الموروثة. وفي التاريخ الكبير للبخاري"صبيح بن عبد الله العبسي" أنه قال: "استعمل عثمان أبا سفيان بن الحارث على الفروض"، ولست أستطيع أن أرجح أنهما رجل واحد. وانظر الدر المنثور 2: 61، 62.(7/91)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105)
عيينة، عن عمرو ابن دينار قال: سمعت ابن الزبير يقرأ، فذكر مثل قراءة عثمان التي ذكرناها قبل سواء.
7597- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر"، قال: هم خاصة أصحابِ رسول الله، وهم خاصَّة الرواة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"ولا تكونوا"، يا معشر الذين آمنوا ="كالذين تفرقوا" من أهل الكتاب="واختلفوا" في دين الله وأمره ونهيه ="من بعد ما جاءهم البينات"، من حجج الله، فيما اختلفوا فيه، وعلموا الحق فيه فتعمدوا خلافه، وخالفوا أمرَ الله، ونقضوا عهده وميثاقه جراءة على الله="وأولئك لهم"، يعني: ولهؤلاء الذين تفرقوا، واختلفوا من أهل الكتاب من بعد ما جاءهم ="عذاب" من عند الله="عظيم"، يقول جل ثناؤه: فلا تتفرقوا، يا معشر المؤمنين، في دينكم تفرُّق هؤلاء في دينهم، ولا تفعلوا فعلهم، وتستنوا في دينكم بسنتهم، فيكون لكم من عذاب الله العظيم مثل الذي لهم، كما:-
7598- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات"، قال: هم أهل الكتاب، نهى الله أهل الإسلام أن يتفرقوا ويختلفوا، كما
__________
(1) الأثر 7597- رواه ابن كثير في تفسيره 2: 209 ولفظه: "قال الضحاك: هم خاصة الصحابة، وخاصة الرواة" ثم بينه فقال: "يعني المجاهدين والعلماء".(7/92)
يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107)
تفرق واختلف أهل الكتاب، قال الله عز وجل:"وأولئك لهم عذابٌ عظيم".
7599- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قوله:"ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا" ونحو هذا في القرآن أمر الله جل ثناؤه المؤمنين بالجماعة، فنهاهم عن الاختلاف والفرقة، وأخبرهم أنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله.
7600 - حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم"، قال: هم اليهود والنصارى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أولئك لهم عذاب عظيم في يوم تبيض وجوه وتسودُّ وجوه.
* * *
وأما قوله:"فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم"، فإن معناه: فأما الذين اسودت وجوههم، فيقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم؟ فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. ولا بدل"أما" من جواب بالفاء، فلما أسقط الجواب سقطت"الفاء" معه. وإنما جاز ترك ذكر"فيقال" لدلالة ما ذكر من الكلام عليه.
* * *(7/93)
وأما معنى قوله جل ثناؤه:"أكفرتم بعد إيمانكم"، فإن أهل التأويل اختلفوا فيمن عُني به.
فقال بعضهم: عني به أهل قبلتنا من المسلمين.
*ذكر من قال ذلك:
7601- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، قوله:"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، الآية، لقد كفر أقوامٌ بعد إيمانهم كما تسمعون، ولقد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"والذي نفس محمد بيده، ليردنّ على الحوض ممن صحبني أقوامٌ، حتى إذا رُفعوا إليّ ورأيتهم، اختُلِجوا دوني، فلأقولن: ربّ! أصحابي! أصحابي! فليقالنّ: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك"! = وقوله:"وأما الذين ابيضتْ وجوههم ففي رحمة الله"، هؤلاء أهل طاعة الله، والوفاء بعهد الله، قال الله عز وجل:"ففي رحمة الله هم فيها خالدون". (1)
7602- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يوم تبيضُّ وجوه وتسودُّ وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، فهذا من كفر من أهل القبلة حين اقتتلوا.
7603- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حماد بن سلمة والربيع بن صبيح، عن أبي مجالد، عن أبي أمامة:"فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم"، قال: هم الخوارج.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك: كلّ من كفر بالله بعد الإيمان الذي آمن،
__________
(1) الأثر: 7601- هذا أثر مرسل، وقد أخرجه البخاري في صحيحه بغير هذا اللفظ (الفتح 11: 408، 412 وما بعدها) ومسلم في صحيحه 17: 194، وقوله: "رفعوا إلى"، أي أظهرهم الله له فرآهم من بعيد. واختلج الشيء: نزعه وجذبه.(7/94)
حين أخذ الله من صلب آدم ذريته وأشهدهم على أنفسهم بما بيَّن في كتابه. (1)
*ذكر من قال ذلك:
7604- حدثني المثني قال، حدثنا علي بن الهيثم قال، أخبرنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبيّ بن كعب، في قوله:"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"، قال: صاروا يوم القيامة فريقين، فقال لمن اسودَّ وجهه، وعيَّرهم."أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذابَ بما كنتم تكفرون"، قال: هو الإيمان الذي كان قبل الاختلاف في زمان آدم، حين أخذ منهم عهدهم وميثاقهم، وأقرُّوا كلهم بالعبودية، وفطرهُمْ على الإسلام، فكانوا أمة واحدة مسلمين، يقول:"أكفرتم بعد إيمانكم"، يقول: بعد ذلك الذي كان في زمان آدم. وقال في الآخرين: الذين استقاموا على إيمانهم ذلك، فأخلصوا له الدين والعمل، فبيَّض الله وجوههم، وأدخلهم في رضوانه وجنته.
* * *
وقال آخرون: بل الذين عنوا بقوله:"أكفرتم بعد إيمانكم"، المنافقون.
*ذكر من قال ذلك:
7605- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن:"يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" الآية، قال: هم المنافقون، كانوا أعطوا كلمةَ الإيمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها في ذلك بالصواب، القولُ الذي ذكرناه عن أبي بن كعب أنه عنى بذلك جميع الكفار، وأنّ الإيمان الذي يوبَّخُون على ارتدادهم عنه، هو الإيمان الذي أقروا به يوم قيل لهم: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) [سورة الأعراف: 172] .
__________
(1) يعني آية"سورة الأعراف: 172 قوله تعالى: {وَإِذْ أخَذَ ربكَ مِنْ بني آدَمَ مِنْ ظُهورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الآية.(7/95)
وذلك أن الله جل ثناؤه جعل جميعَ أهل الآخرة فريقين: أحدهما سودًا وجوهه، والآخر بيضًا وجوهه. (1) فمعلوم -إذ لم يكن هنالك إلا هذان الفريقان- أن جميع الكفار داخلون في فريق من سُوِّد وجهه، وأن جميع المؤمنين داخلون في فريق من بُيِّض وجهه. فلا وجه إذًا لقول قائل:"عنى بقوله:"أكفرتم بعد إيمانكم"، بعض الكفار دون بعض"، وقد عمّ الله جل ثناؤه الخبرَ عنهم جميعهم، وإذا دخل جميعهم في ذلك، ثم لم يكن لجميعهم حالة آمنوا فيها ثم ارتدوا كافرين بعدُ إلا حالة واحدة، كان معلومًا أنها المرادة بذلك. (2)
* * *
فتأويل الآية إذًا: أولئك لهم عذاب عظيمٌ في يوم تبيضُّ وجوه قوم وتسودُّ وجوه آخرين. فأما الذين اسودت وجوههم، فيقال: أجحدتم توحيد الله وعهدَه وميثاقَه الذي واثقتموه عليه، بأن لا تشركوا به شيئًا، وتخلصوا له العبادة - بعد إيمانكم =يعني: بعد تصديقكم به؟ ="فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون"، يقول: بما كنتم تجحدون في الدنيا ما كان الله قد أخذ ميثاقكم بالإقرار به والتصديق="وأما الذين أبيضَّت وجوههم". ممن ثبتَ على عهد الله وميثاقه، فلم يبدِّل دينه، ولم ينقلب على عَقِبيه بعد الإقرار بالتوحيد، والشهادة لربه بالألوهة، وأنه لا إله غيره ="ففي رحمة الله"، يقول: فهم في رحمة الله، يعني: في جنته ونعيمها وما أعد الله لأهلها فيها="هم فيها خالدون"، أي: باقون فيها أبدًا بغير نهاية ولا غاية.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "سوداء ... بيضاء" والصواب ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "أنها المراد" بغير تاء، والصواب ما في المخطوطة.(7/96)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108)
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"تلك آيات الله"، هذه آيات الله.
* * *
وقد بينا كيف وضعت العرب"تلك" و"ذلك" مكان"هذا" و"هذه"، في غير هذا الموضع فيما مضى قبل، بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وقوله:"آيات الله"، (2) يعني: مواعظ الله وعبره وحججه. ="نتلوها عليك"، (3) نقرؤها عليك ونقصُّها=" (بالحق) ، يعني بالصدق واليقين.
وإنما يعني بقوله:"تلك آيات الله"، هذه الآيات التي ذكر فيها أمورَ المؤمنين من أنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمور يهود بني إسرائيل وأهل الكتاب، وما هو فاعل بأهل الوفاء بعهده، وبالمبدِّلين دينه، والناقضين عهدَه بعد الإقرار به. ثم أخبر عز وجل نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه يتلو ذلك عليه بالحق، وأعلمه أن من عاقبَ من خلقه بما أخبر أنه معاقبه [به] : (4) من تسويد وجهه، وتخليده في أليم عذابه وعظيم عقابه =ومن جازاه منهم بما جازاه: من تبييض وجهه وتكريمه وتشريف منزلته لديه، بتخليده في دائم نعيمه، فبغير ظلم منه لفريق منهم، بل بحق استوجبوه، (5) وأعمال لهم سلفت، جازاهم عليها، فقال تعالى ذكره:"وما الله يريد ظلمًا للعالمين"، يعني بذلك: وليس الله يا محمد=
__________
(1) انظر ما سلف 1: 225 - 228 / 3: 335.
(2) انظر تفسير"آية" فيما سلف في فهارس اللغة مادة"أيا".
(3) انظر تفسير"تلا" فيما سلف 2: 409 - 411، 566 - 570 / 6: 466.
(4) في المطبوعة: "أن من عاقبه"، وأثبت ما في المخطوطة فهو صواب. وما بين القوسين زيادة لا بد منها يقتضيها السياق.
(5) في المطبوعة: "بل لحق"، وأثبت ما في المخطوطة.(7/97)
بتسويد وجوه هؤلاء، وإذاقتهم العذاب العظيم، وتبييض وجوه هؤلاء وتنعيمه إياهم في جنته =طالبًا وضعَ شيء مما فعل من ذلك في غير موضعه الذي هو موضعه= إعلامًا بذلك عباده أنه لن يصلح في حكمته بخلقه غير ما وعد أهل طاعته والإيمان به، وغير ما أوعد أهل معصيته والكفر به = وإنذارًا منه هؤلاء وتبشيرًا منه هؤلاء.
* * *(7/98)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (109) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: أنه يعاقب الذين كفروا بعد إيمانهم بما ذكر أنه معاقبهم به من العذاب العظيم وتسويد الوجوه، ويثيب أهلَ الإيمان به الذين ثبتوا على التصديق والوفاء بعهودهم التي عاهدوا عليها بما وصفَ أنه مثيبهم به من الخلود في جنانه، من غير ظلم منه لأحد الفريقين فيما فعل، لأنه لا حاجة به إلى الظلم. وذلك أن الظالم إنما يظلم غيره ليزداد إلى عزه عزة بظلمه إياه، أو إلى سلطانه سلطانًا، أو إلى ملكه ملكًا، = (1) أو إلى نقصان في بعض أسبابه يتمم بها ظلم غيره فيه ما كان ناقصًا من أسبابه عن التمام. (2) فأما من كان له جميع ما بين أقطار المشارق والمغارب، وما في الدنيا والآخرة، فلا معنى لظلمه أحدًا، فيجوز أن يظلم شيئًا، لأنه ليس من أسبابه شيء ناقصٌ يحتاج إلى تمام، فيتم ذلك بظلم
__________
(1) في المطبوعة: "وإلى ملكه" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "وإلى ملكه ملكًا لنقصان في بعض أسبابه يتمم بما ظلم غيره فيه ما كان ناقصًا من أسبابه عن التمام"، وهي جملة تشبه أن تكون مستقيمة، بيد أن الطبري أراد أن الظالم يظلم ليزداد عزة إلى عزه - أو سلطانًا إلى سلطانه - أو ملكًا إلى ملكه - أو أن يتمم بظلمه ما كان ناقصًا من أسبابه. وعبارة الطبري التي أثبتها مستقيمة جدا على طريقته في العبارة.(7/98)
غيره، تعالى الله علوًّا كبيرًا. ولذلك قال جل ثناؤه عَقِيب قوله:"وما الله يريد ظلمًا للعالمين"،"ولله ما في السموات وما في الأرض وإلى الله ترجع الأمور".
* * *
واختلف أهل العربية في وجه تكرير الله تعالى ذكره اسمه مع قوله:"وإلى الله ترجع الأمور" ظاهرًا، وقد تقدم اسمُه ظاهرًا مع قوله:"ولله ما في السموات وما في الأرض".
فقال بعض أهل العربية من أهل البصرة: ذلك نظيرُ قول العرب:"أما زيدٌ فذهب زيدٌ"، وكما قال الشاعر: (1)
لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ ... نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى وَالفَقِيرَا (2)
فأظهر في موضع الإضمار.
* * *
وقال بعض نحويي الكوفة: ليس ذلك نظير هذا البيت، لأن موضع"الموت"
__________
(1) هو عدى بن زيد، وقد ينسب إلى ولده سوادة بن عدي، وربما نسب لأمية بن أبي الصلت.
(2) حماسة البحتري: 98، وشعراء الجاهلية: 468، وسيبويه 1: 30، وخزانة الأدب 1: 183، 2: 534، 4: 552، وأمالي ابن الشجري 1: 243، 288، وشرح شواهد المغني: 296، وهو من أبيات مفرقة في هذه الكتب وغيرها من حكمة عدي في تأمل الحياة والموت، يقول قبل البيت: إنّ للدَّهْرِ صَوْلَةً فَاحْذَرنْهَا ... لا تَبِيتَنَّ قَدْ أمِنْتَ الدّهورَا
قَدْ يَنَامُ الفَتَى صَحِيحًا فَيَرْدَى ... وَلَقَدْ بَاتَ آمِنًا مَسْرُورَا
لا أَرَى المَوْتَ................ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ثم يقول بعد أبيات: أَيْنَ أيْنَ الفِرَارُ مِمَّا سَيَأْتِي ... لا أَرَى طَائِرًا نَجَا أَنْ يَطِيرَا
ويقول: غني الناس وفقيرهم، فيهم مفسد عليه حياته من مخافة هذا الموت، ومن ترقبه، هذا يخاف أن يسبقه الموت إلى ماله الذي جمع، وذاك يفزع أن يسبقه الردى إلى ما يؤمل من متاع الدنيا. وكان هذا البيت في المخطوطة فاسدًا محرفًا ناقصًا، وهو في المطبوعة سوى مستقيم.(7/99)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110)
الثاني في البيت موضع كناية، لأنه كلمة واحدة، (1) وليس ذلك كذلك في الآية، لأن قوله:"ولله ما في السموات وما في الأرض" خبرٌ، ليس من قوله:"وإلى الله ترجع الأمور" في شيء، وذلك أنّ كلّ واحدة من القصتين مفارقٌ معناها معنى الأخرى، مكتفية كل واحدة منهما بنفسها، غير محتاجة إلى الأخرى. وما قال الشاعر:"لا أرى الموت"، محتاجٌ إلى تمام الخبر عنه. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني عندنا أولى بالصواب، لأن كتاب الله عز وجل لا توجَّهُ معانيه وما فيه من البيان، (3) إلى الشواذ من الكلام والمعاني، وله في الفصيح من المنطق والظاهر من المعاني المفهوم، وجهٌ صحيح موجودٌ.
وأما قوله:"وإلى الله ترجع الأمور" فإنه يعني تعالى ذكره: إلى الله مصير أمر جميع خلقه، الصالح منهم والطالح، والمحسن والمسيء، فيجازي كلا على قدر استحقاقهم منه الجزاء، بغير ظلم منه أحدا منهم.
* * *
القول في تأويل قوله جل ثناؤه: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس".
فقال بعضهم: هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة
__________
(1) الكناية: هو الضمير في اصطلاح بقية النحويين.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "كما قال الشاعر"، وهو غير مستقيم، والصواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "لا يؤخذ معانيه"، وفي المخطوطة: "لا يوحد" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت، والناسخ كثير التصحيف كما علمت، والدال هي الهاء في آخر الكلمة.(7/100)
إلى المدينة وخاصة، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
*ذكر من قال ذلك:
7606- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن سماك، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال في:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم الذين خرجوا معه من مكة.
7607- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية، عن قيس، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة.
7608- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال عمر بن الخطاب: لو شاء الله لقال:"أنتم"، فكنا كلنا، ولكن قال:"كنتم" في خاصة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن صنع مثل صنيعهم، كانوا خير أمة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
7609- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، عكرمة: نزلت في ابن مسعود، وسالم مولى أبي حذيفة، وأبيّ بن كعب، ومعاذ بن جبل.
7610- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن المقدام، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه: قال عمر:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا.
7611- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا إسرائيل، عن سماك بن حرب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم الذين هاجروا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. (1)
__________
(1) الأثر: 7611- رواه أحمد في المسند رقم: 2463، 2928، 2989، 3321، وإسناده صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك 2: 294، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.(7/101)
7612- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن عمر بن الخطاب قال في حجّة حجّها ورأى من الناس رِعَة سيئة، (1) فقرأ هذه:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، الآية. ثم قال: يا أيها الناس، من سره أن يكون من تلك الأمة، فليؤد شرط الله منها. (2)
7613- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: هم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة، يعني = وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم. (3)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أمة أخرجت للناس، إذا كنتم بهذه الشروط التي وصفهم جل ثناؤه بها. فكان تأويل ذلك عندهم: كنتم خير أمة تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله، أخرجوا للناس في زمانكم.
*ذكر من قال ذلك:
7614- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، يقول: على هذا الشرط: أن تأمرُوا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر وتؤمنوا بالله = يقول: لمن أنتم بين ظهرانيه، كقوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [سورة الدخان: 32] .
7615- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) الرعة (بكسر الراء وفتح العين) أصلها من الورع، مثل"العدة" من"الوعد". والرعة: الهدى وسوء الهيئة أو حسن الهيئة، أي هي بمعنى: الشأن والأمر والأدب. وفي حديث الحسن: "ازدحموا عليه فرأى منهم رعة سيئة فقال: اللهم إليك"، أي سوء أدب، لم يحسنوا الكف عما يشين.
(2) قوله: "شرط الله منها"، أي شرط الله الذي طلبه منها.
(3) قد مضى تفسير معنى"الرواة" في الأثر رقم 7597، والتعليق عليه.(7/102)
ابن جريج، عن مجاهد قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال يقول: كنتم خير الناس للناس على هذا الشرط: أن تأمروا بالمعروف، وتنهوا عن المنكر. وتؤمنوا بالله = يقول: لمن بين ظَهريه، كقوله: (وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [سورة الدخان: 32] .
7616- وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ميسرة، عن أبي حازم، عن أبي هريرة:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: كنتم خير الناس للناس، تجيئون بهم في السلاسل، تدخلونهم في الإسلام. (1)
7617- حدثنا عبيد بن أسباط قال، حدثنا أبي، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: خيرَ الناس للناس.
* * *
وقال آخرون: إنما قيل:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، لأنهم أكثر الأمم استجابة للإسلام.
*ذكر من قال ذلك:
7618- حدثت عن عمار بن الحسن قال، (2) حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال: لم تكن أمة أكثر استجابة في الإسلام من هذه الأمة، فمن ثمَ قال:"كنتم خير أمة أخرجت للناس".
* * *
__________
(1) الأثر: 7616- أخرجه البخاري من طريق محمد بن سفيان عن ميسرة. (الفتح 8: 169) وقال الحافظ: "ميسرة: هو ابن عمار الأشجعي، كوفي ثقة ماله في البخاري سوى هذا الحديث وآخر تقدم في بدء الخلق". و"أبو حازم" هو"سلمان الأشجعي الكوفي"، وفي الفتح"سليمان"، وهو خطأ وتصحيف. ولفظ البخاري: "تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم، حتى يدخلوا في الإسلام".
وقد استوفى الحافظ في هذا الموضع، الحديث عن معنى الآية، وذكر أكثر الآثار التي سلفت، والتي ستأتي بعد.
(2) في المطبوعة: "عمار بن الحسين"، وهو خطأ، والصواب في المخطوطة.(7/103)
وقال بعضهم: عنى بذلك أنهم كانوا خير أمة أخرجت للناس.
*ذكر من قال ذلك:
7619- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر"، قال: قد كان ما تسمعُ من الخير في هذه الأمة.
7620- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة قال: كان الحسن يقول: نحن آخرُها وأكرمُها على الله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قال الحسن، وذلك أن:
7621- يعقوب بن إبراهيم حدثني قال، حدثنا ابن علية، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"ألا إنكم وفيَّتم سبعين أمَّة، أنتم آخرها وأكرمها على الله.
7622- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده: أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول في قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس"، قال: أنتم تتمُّون سبعين أمة، أنتم خيرُها وأكرمها على الله". (1)
__________
(1) الحديثان: 7621، 7622- هما حديث واحد بإسنادين. وقد مضى بالإسنادين معًا مجموعين، برقم: 873. وقد خرجناه هناك مفصلا، وأشرنا إلى مواضعه هنا في طبعة بولاق. ونزيد هنا أنه رواه أيضا الحاكم في المستدرك 4: 84، من طريق عبد الرزاق، عن معمر، بالإسناد الثاني هنا. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ثم أشار الحاكم إلى متابعة سعيد الجريري، بروايته إياه عن حكيم بن معاوية. ثم رواه من طريق يزيد بن هارون، عن الجريري. ورواية الجريري سبق أن خرجناها هناك من رواية أحمد في المسند.
وذكره الحافظ في الفتح 8: 169، مشيرًا إلى رواية الطبري إياه، ثم قال: "وهو حديث حسن صحيح. أخرجه الترمذي وحسنه. وابن ماجه، والحاكم وصححه".
وقد ورد معناه أيضًا، ضمن حديث مطول عن أبي سعيد الخدري، مرفوعا، رواه أحمد في المسند: 11609 (ج3 ص 61 حلبى) . وإسناده صحيح.(7/104)
7623- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم وهو مسند ظهره إلى الكعبة:"نحن نكمل يوم القيامة سبعين أمة نحن آخرها وخيرُها".
* * *
وأما قوله:"تأمرون بالمعروف"، فإنه يعني: تأمرون بالإيمان بالله ورسوله، والعمل بشرائعه ="وتنهون عن المنكر"، يعني: وتنهون عن الشرك بالله. وتكذيب رسوله، وعن العمل بما نهى عنه، كما:-
7624- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"كنتم خير أمة أخرجت للناس". يقول: تأمرونهم بالمعروف: أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، والإقرار بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، و"لا إله إلا الله"، هو أعظم المعروف = وتنهونهم عن المنكر، والمنكر هو التكذيب، وهو أنكرُ المنكر.
* * *
وأصل"المعروف" كل ما كان معروفًا فعله، جميلا مستحسنًا، (1) غير مستقبح في أهل الإيمان بالله، وإنما سميت طاعة الله"معروفًا"، لأنه مما يعرفه أهل الإيمان ولا يستنكرون فعله. (2) .
* * *
وأصل"المنكر"، ما أنكره الله، ورأوه قبيحًا فعلهُ، ولذلك سميت معصية الله"منكرًا"، لأن أهل الإيمان بالله يستنكرون فعلها، ويستعظمون رُكوبها. (3)
* * *
وقوله:"وتؤمنون بالله"، يعني: تصدّقون بالله، فتخلصون له التوحيد والعبادة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "كل ما كان معروفًا، ففعله جميل مستحسن"، غيروا نص المخطوطة. ظنًا منهم أنه غير مستقيم، وهو أحسن استقامة مما أثبتوا!! بل هو الصواب المحض.
(2) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف قريبًا ص: 91، تعليق: 2، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف قريبا ص: 91.(7/105)
قال أبو جعفر: فإن سأل سائل فقال: وكيف قيل:"كنتم خير أمة"، وقد زعمتَ أن تأويل الآية: أنّ هذه الأمة خيرُ الأمم التي مضت، وإنما يقال:"كنتم خير أمة"، لقوم كانوا خيارًا فتغيَّروا عما كانوا عليه؟
قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما معناه: أنتم خير أمة، كما قيل: (واذكروا إذ أنتم قليل) [الأنفال: 26] وقد قال في موضع آخر: (واذكروا إذ كنتم قليلا فكثركم) [الأعراف: 86] فإدخال"كان" في مثل هذا وإسقاطها بمعنى واحد، لأن الكلام معروف معناه. (1) ولو قال أيضا في ذلك قائل:"كنتم"، بمعنى التمام، كان تأويله: خُلقتم خير أمة = أو: وجدتم خير أمة، كان معنى صحيحًا.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن معنى ذلك: كنتم خير أمة عند الله في اللوح المحفوظ، أخرجت للناس.
* * *
والقولان الأولان اللذان قلنا، أشبهُ بمعنى الخبر الذي رويناه قبلُ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: كنتم خير أهل طريقة. وقال:"الأمة": الطريقة. (2)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 229.
(2) انظر تفسير"أمة" فيما سلف 1: 221 / ثم هذا ص 90، والمراجع هناك في التعليق.(7/106)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: ولو صدَّق أهل التوراة والإنجيل من اليهود والنصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به من عند الله؛ لكان خيرًا لهم عند الله في عاجل دنياهم وآجل آخرتهم ="منهم المؤمنون"، يعني: من أهل الكتاب من اليهود والنصارى، المؤمنون المصدِّقون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم به من عند الله، وهم: عبد الله بن سلام وأخوه، وثعلبة بن سَعْيَة وأخوه، (1) وأشباههم ممن آمنوا بالله وصدّقوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، واتبعوا ما جاءهم به من عند الله ="وأكثرهم الفاسقون"، يعني: الخارجون عن دينهم، (2) وذلك أن من دين اليهود اتباعُ ما في التوراة والتصديقُ بمحمد صلى الله عليه وسلم، ومن دين النصارى اتباعُ ما في الإنجيل، والتصديق به وبما في التوراة، وفي كلا الكتابين صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه، (3) وأنه نبي الله. وكلتا الفرقتين -أعني اليهود والنصارى- مكذبة، فذلك فسقهم وخروجهم عن دينهم الذي يدعون أنهم يدينون به، الذي قال جل ثناؤه:"وأكثرهم الفاسقون".
* * *
وقال قتادة بما:-
__________
(1) في المطبوعة: "ثعلبة بن سعيد"، وهو خطأ، والصواب ما أثبته من المخطوطة و"سعية" بالسين المهملة المفتوحة والياء المنقوطة باثنين. وسيأتي على الصواب في خبر إسلامه وإسلام أخيه، بعد قليل، رقم: 7644.
(2) انظر تفسيره"الفسق" فيما سلف 1: 409، 410 / 2: 118، 399 / 4. 135 - 141 / 6: 91.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "وفي كل الكتابين. . ."، وهو تحريف، والصواب ما أثبت.(7/107)
لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111)
7625- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون"، ذم الله أكثر الناس.
* * *
القول في تأويل قوله: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلا أَذًى}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لن يضركم، يا أهل الإيمان بالله ورسوله، هؤلاء الفاسقون من أهل الكتاب بكفرهم وتكذيبهم نبيَّكم محمدًا صلى الله عليه وسلم شيئا ="إلا أذى"، يعني بذلك: ولكنهم يؤذونكم بشركهم، وإسماعكم كفرهم، وقولهم في عيسى وأمه وعزير، ودعائهم إياكم إلى الضلالة، ولن يضروكم بذلك، (1) .
* * *
وهذا من الاستثناء المنقطع الذي هو مخالف معنى ما قبله، كما قيل:"ما اشتكى شيئًا إلا خيرًا"، وهذه كلمة محكية عن العرب سماعًا.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
7626- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"لن يضروكم إلا أذى"، يقول: لن يضروكم إلا أذى تسمعونه منهم.
7627- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"لن يضروكم إلا أذى"، قال: أذى تسمعونه منهم.
7628- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة: "ولا يضرونكم"، وفي المخطوطة: "ولا يضروكم"، والصواب هو ما أثبت.(7/108)
ابن جريج، قوله:"لن يضروكم إلا آذى"، قال: إشراكهم في عُزير وعيسى والصَّليب.
7629- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"لن يضروكم إلا أذى" الآية، قال: تسمعون منهم كذبًا على الله، يدعونكم إلى الضلالة.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن يقاتلكم أهلُ الكتاب من اليهود والنصارى يهزَموا عنكم، فيولوكم أدبارهم انهزامًا.
* * *
فقوله:"يولوكم الأدبار"، كناية عن انهزامهم، لأن المنهزم يحوِّل ظهره إلى جهة الطالب هربًا إلى ملجأ وموئل يئل إليه منه، خوفًا على نفسه، والطالبُ في أثره. فدُبُر المطلوب حينئذ يكون محاذي وجه الطالب الهازِمِِة.
* * *
="ثم لا ينصرون"، يعني: ثم لا ينصرهم الله، أيها المؤمنون، عليكم، لكفرهم بالله ورسوله، وإيمانكم بما آتاكم نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم. لأن الله عز وجل قد ألقى الرعب في قلوبهم، فأيدكم أيها المؤمنون بنصركم. (1) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "قد ألقى الرعب في قلوب كائدكم"، وهو تصحيح لما في المخطوطة: "قد ألقى الرعب في قلوب فأيدكم"، وظاهر أن"قلوب" صوابها"قلوبهم"، واستقام الكلام على ما في المخطوطة.(7/109)
ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
وهذا وعدٌ من الله تعالى ذكره نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وأهل الإيمان، نصرَهم على الكفرة به من أهل الكتاب.
* * *
وإنما رفع قوله:"ثم لا ينصرون" وقد جَزم قوله:"يولوكم الأدبار"، على جواب الجزاء، ائتنافًا للكلام، لأن رؤوس الآيات قبلها بالنون، فألحق هذه بها، كما قال: (وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) [سورة المرسلات: 36] ، رفعًا، وقد قال في موضع آخر: (لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) [سورة فاطر: 36] إذْ لم يكن رأس آية. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"ضُربت عليهم الذلة"، ألزموا الذلة. و"الذلة""الفعلة" من"الذل"، وقد بينا ذلك بشواهده في غير هذا الموضع. (2)
* * *
"أينما ثقفوا" يعني: حيثما لقوا. (3)
* * *
يقول جل ثناؤه: ألزِم اليهود المكذبون بمحمد صلى الله عليه وسلم الذلة أينما كانوا من الأرض، وبأي مكان كانوا من بقاعها، من بلاد المسلمين والمشركين ="إلا بحبل من الله، وحبل من الناس"، كما:-
7630- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 229.
(2) انظر تفسير"ضربت عليهم الذلة" فيما سلف 2: 136.
(3) انظر تفسير"ثقف" فيما سلف 3: 564.(7/110)
الحسن في قوله:"ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس وباؤوا بغضب من الله وضربت عليهم المسكنة"، (1) قال: أدركتهم هذه الأمة، وإن المجوس لتجبيهم الجزية.
7631- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال: حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: أذلهم الله فلا مَنْعة لهم، وجعلهم الله تحت أقدام المسلمين.
* * *
وأما"الحبل" الذي ذكره الله في هذا الموضع، (2) فإنه السبب الذي يأمنون به على أنفسهم من المؤمنين وعلى أموالهم وذراريهم، من عهد وأمان تقدم لهم عقده قبل أن يُثْقَفوا في بلاد الإسلام. كما:-
7632- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا بحبل من الله"، قال: بعهد ="وحبل من الناس"، قال: بعهدهم.
7633- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
7634- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
7635- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد، عن عثمان بن غياث، قال، (3) عكرمة: يقول:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: بعهد من الله، وعهد من الناس.
__________
(1) سقط من الناسخ: "وباءوا بغضب من الله"، ومضت على ذلك المطبوعة، فأثبت وجه التلاوة.
(2) انظر تفسير"الحبل" فيما سلف قريبا ص: 70، 71.
(3) في المخطوطة: "عثمان بن عتاب"، والصواب ما في المطبوعة.(7/111)
7636- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
7637- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، يقول: إلا بعهد من الله وعهد من الناس.
7638- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، فهو عهد من الله وعهد من الناس، كما يقول الرجل:"ذمة الله وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم"، فهو الميثاق.
7639- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: بعهد من الله وعهد من الناس لهم = قال ابن جريج، وقال عطاء: العهدُ حبل الله.
7640- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أينما ثقفوا إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، قال: إلا بعهد، وهم يهود. قال: والحبل العهد. قال: وذلك قول أبي الهيثم بن التَّيَّهان لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أتته الأنصار في العقبة:"أيها الرجل، إنا قاطعون فيك حبالا بيننا وبين الناس"، يقول: عهودًا، قال: واليهود لا يأمنون في أرضٍ من أرض الله إلا بهذا الحبل الذي قال الله عز وجل. وقرأ: (وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [سورة آل عمران: 55] ، قال: فليس بلد فيه أحد من النصارى إلا وهم فوق يهود في شرق ولا غرب، هم في البلدان كلها مستذَلُّون، قال الله: (وَقَطَّعْنَاهُم(7/112)
فِي الأرْضِ أُمَمًا) [سورة الأعراف: 168] ، يهود. (1)
7641- حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، يقول: بعهد من الله وعهد من الناس.
7642- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في المعنى الذي جلب"الباء" في قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، فقال بعض نحويي الكوفة: (2) الذي جلب"الباء" في قوله:"بحبل"، فعل مضمر قد تُرك ذكره. قال: ومعنى الكلام: ضُربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، إلا أن يعتصموا بحبل من الله = فأضمر ذلك، واستشهد لقوله ذلك بقول الشاعر: (3)
رَأَتْنِي بِحَبْلَيْها فَصَدَّتْ مَخَافَةً ... وَفِي الحَبْلِ رَوْعَاءُ الفُؤَادِ فَرُوقُ (4)
وقال: أراد: أقبلت بحبليها، وبقول الآخر: (5)
__________
(1) الأثر: 7640 - مضى مختصرًا برقم: 7155.
(2) هو الفراء في معاني القرآن 1: 230.
(3) هو حميد بن ثور الهلالي.
(4) ديوانه: 35، ومعاني القرآن للفراء 1: 230، واللسان (نسع) و (فرق) وفي رواية البيت في مادة (فرق) خطأ قبيح وتصحيف، صوابه ما في التفسير هنا. وأما رواية الديوان فهي: فَجِئْتُ بِحَبْلَيْهَا، فَرَدَّتْ مَخَافةً ... إِلى النَّفْسِ رَوْعَاءُ الجنانِ فَرُوقُ
و"روعاء الجنان": شديدة الذكاء، حية النفس، شهمة، كأن بها فزعًا من حدتها وخفة روحها. و"فروق": شديدة الفزع. لم يرد ذمًا، ولكنه مدح ناقته بحدة الفؤاد، تفزع لكل نبأة من يقظتها، كما قالوا في مدحها: "مجنونة". يقول ذلك في ناقته: رأتني أقبلت بالحبلين، لأشد عليها رحلي، فصدت خائفة. يصفها بأنها كريمة لم تبتذلها الأسفار. ثم قال: فلما شددت عليها الرحل، كانت في الحبل ذكية شهمة، تتوجس لكل نبأة من يقظتها وتوقدها.
(5) هو أبو الطمحان القينى، حنظلة بن الشرقي، من بني كنانة بن القين. وهو أحد المعمرين وينسب هذا الشعر أيضًا لعدي بن زيد، وللمسحاج بن سباع الضبي.(7/113)
حَنْتنِي حَانِيَاتُ الدَّهْرِ حَتَّى ... كأَنِّي خَاتِلٌ أَدْنُو لِصَيْدِ (1)
قَرِيبُ الخَطُوِ يَحْسِبُ مَنْ رَآنِي ... وَلْسُت مقَيدًا أَنِّى بِقَيْدِ
فأوجب إعمال فعل محذوف، وإظهار صلته وهو متروك. (2) وذلك في مذاهب العربية ضعيف، ومن كلام العرب بعيد. وأما ما استشهد به لقوله من الأبيات، فغير دالّ على صحة دعواه، لأن في قول الشاعر:"رأتني بحبليها"، دلالة بينة في أنها رأته بالحبل ممسكًا، ففي إخباره عنها أنها"رأته بحبليها"، إخبارٌ منه أنها رأته ممسكًا بالحبلين. فكان فيما ظهر من الكلام مستغنًى عن ذكر"الإمساك"، وكانت"الباء" صلة لقوله:"رأتني"، كما في قول القائل: (3) "أنا بالله"، مكتف بنفسه، ومعرفةِ السامع معناه، أن تكون"الباء" محتاجة إلى كلام يكون لها جالبًا غير الذي ظهر، وأن المعنى:"أنا بالله مستعين".
* * *
__________
(1) كتاب المعمرين: 57، ومعاني القرآن للفراء 1: 230، والأغاني 2: 353، 356، وفيه أيضا 12: 347، وحماسة البحتري: 202، وأمالي القالي 1: 110، وأمالي الشريف 1: 46، 257، ومجموعة المعاني: 123، والمعاني الكبير: 1214، مع اختلاف كبير في الرواية، واللسان (ختل) ، وغيرها. هذا، وقد اقتصرت المطبوعة والمخطوطة على البيت الأول، وهو عمل فاسد جدًا، وليس من فعل أبي جعفر بلا شك، ولكنه من سهو الناسخ. لأن أبا جعفر نقل مقالة الفراء في معاني القرآن، وإسقاط البيت الثاني، وهو بيت الشاهد، فساد عظيم، فأثبت البيت، وأثبت أيضًا تعقيب الفراء عليه، وهو قوله: "يريد مقيدًا بقيد"، ولم أضع هذا بين أقواس، لأن سهو الناسخ أمر مقطوع به بالدليل البين.
وكان في المخطوطة والمطبوعة: "أحنو لصيد"، وهو تصحيف لا شك فيه. ذلك أن أبا جعفر إنما ينقل مقالة الفراء، وهو في كتاب الفراء، وفيما نقله عنه الناقلون في المراجع السالفة، هو الذي أثبته. هذا مع ظهور التصحيف وقربه، ومع فساد معنى هذا التصحيف، ومع فقدان هذه الرواية الغريبة. وقوله: "خاتل"، يعني صائدًا، يقال: "ختل الصيد"، أي: استتر الصائد بشيء ليرمي الصيد، فهو في سبيل ذلك يمشي قليلا قليلا في خفية، لئلا يسمع الصيد حسه. فهذا هو الختل والمخاتلة.
(2) "الصلة" هنا: الجار والمجرور.
(3) في المطبوعة: "كما في قول القائل" بزيادة"في"، وهي أشد إفسادًا للكلام من تصحيف هذا الناسخ في بعض ما يكتب. وقوله: "مكتف بنفسه" خبر لقوله: "كما قول القائل" وقوله: "ومعرفة السامع" معطوف على قوله: "بنفسه" أي: مكتف بنفسه وبمعرفة السامع معناه.(7/114)
وقال بعض نحويي البصرة، قوله:"إلا بحبل من الله" استثناء خارجٌ من أول الكلام. قال: وليس ذلك بأشد من قوله: (لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا) [سورة مريم: 62]
* * *
وقال آخرون من نحويي الكوفة: هو استثناء متصل، والمعنى: ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا، أي: بكل مكان = إلا بموضع حبل من الله، كما تقول: ضُربت عليهم الذلة في الأمكنة إلا في هذا المكان.
* * *
وهذا أيضًا طلب الحق فأخطأ المفصل. وذلك أنه زعم أنه استثناء متصل، ولو كان متصلا كما زعم، لوجب أن يكون القوم إذا ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس غير مضروبة عليهم المسكنة. وليس ذلك صفة اليهود، لأنهم أينما ثقفوا بحبل من الله وحبل من الناس، أو بغير حبل من الله عز وجل وغير حبل من الناس، فالذلة مضروبة عليهم، على ما ذكرنا عن أهل التأويل قبل. فلو كان قوله:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس"، استثناء متصلا لوجب أن يكون القوم إذا ثُقفوا بعهد وذمة أن لا تكون الذلةُ مضروبةً عليهم. وذلك خلاف ما وصَفهم الله به من صفتهم، وخلافُ ما هم به من الصفة، فقد تبين أيضًا بذلك فساد قول هذا القائل أيضًا.
* * *
قال أبو جعفر: ولكن القول عندنا أن"الباء" في قوله:"إلا بحبل من الله"، أدخلت لأن الكلام الذي قبل الاستثناء مقتضٍ في المعنى"الباء". وذلك أن معنى قوله:"ضربت عليهم الذلة أينما ثقفوا" ضربت عليهم الذلة بكل مكان ثقفوا = ثم قال:"إلا بحبل من الله وحبل من الناس" على غير وجه الاتصال بالأول، ولكنه على الانقطاع عنه. ومعناه: ولكن يثقفون بحبل من الله وحبل من الناس،(7/115)
كما قيل: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلا خَطَأً) [سورة النساء: 92] ، فالخطأ وإن كان منصوبًا بما عمل فيما قبل الاستثناء، فليس قوله باستثناء متصل بالأول بمعنى:"إلا خطأ"، فإن له قتله كذلك = ولكن معناه: ولكن قد يقتله خطأ. فكذلك قوله:"أينما ثقفوا إلا بحبل من الله، وإن كان الذي جلب"الباء" التي بعد"إلا" الفعل الذي يقتضيها قبل"إلا"، فليس الاستثناء بالاستثناء المتصل بالذي قبله، بمعنى: أن القوم إذا لُقوا، فالذلة زائلة عنهم، بل الذلة ثابتة بكل حال. ولكن معناه ما بينا آنفا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"وباؤوا بغضب من الله"، وتحمَّلوا غضب الله فانصرفوا به مستحقِّيه. وقد بينا أصل ذلك بشواهده، ومعنى"المسكنة" وأنها ذل الفاقة والفقر وخُشوعهما، ومعنى:"الغضب من الله" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وقوله:"ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله"، يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلك"، أي بوْءُهم الذي باءوا به من غضب الله، وضْربُ الذلة عليهم، بدل مما كانوا
__________
(1) انظر تفسير"باء" فيما سلف 2: 138، 345. وتفسير"غضب الله" 1: 188، 189 / 2: 138، 345. وتفسير"ضربت عليهم" 2: 136 / 7: 110 وتفسير"المسكنة" 2: 137، 292، 293 / 3: 345 / 4: 295.(7/116)
يكفرون بآيات الله = يقول: مما كانوا يجحدون أعلام الله وأدلته على صدق أنبيائه، وما فرض عليهم من فرائضه ="ويقتلون الأنبياء بغير حق"، يقول: وبما كانوا يقتلون أنبياءهم ورسل الله إليهم، اعتداءً على الله وجرأة عليه بالباطل، وبغير حق استحقوا منهم القتل.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: ألزِموا الذلة بأي مكان لُقوا، إلا بذمة من الله وذمة من الناس، وانصرفوا بغضب من الله متحمِّليه، وألزموا ذل الفاقة وخشوع الفقر، بدلا مما كانوا يجحدون بآيات الله وأدلته وحججه، ويقتلون أنبياءه بغير حق ظلمًا واعتداء.
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: فعلنا بهم ذلك بكفرهم، وقتلهم الأنبياء، ومعصيتهم ربَّهم، واعتدائهم أمرَ ربهم.
* * *
وقد بينا معنى"الاعتداء" في غير موضع فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية عن إعادته (1) .
* * *
فأعلم رُّبنا جل ثناؤه عبادَه، ما فعل بهؤلاء القوم من أهل الكتاب، من إحلال الذلة والخزي بهم في عاجل الدنيا، مع ما ذخر لهم في الأجل من العقوبة والنكال وأليم العذاب، (2) إذ تعدوا حدودَ الله، واستحلوا محارمه = تذكيرًا منه تعالى ذكره
__________
(1) انظر ما سلف 2: 142، 167، 307 / 3: 375، 376، 564، 580 / 4: 583، 584، وغيرها.
(2) في المطبوعة: "مع ما ادخر لهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء في المعنى.(7/117)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113)
لهم، وتنبيهًا على موضع البلاء الذي من قِبَاله أتوا لينيبوا ويذّكروا، وعِظة منه لأمتنا أن لا يستنُّوا بسنتهم ويركبوا منهاجهم، (1) فيسلك بهم مسالكهم، ويحل بهم من نقم الله ومثُلاته ما أحل بهم. كما:-
7643- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"، اجتنِبُوا المعصية والعدوان، فإن بهما أهلِك مَنْ أُهْلك قبلكم من الناس.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ليسوا سواء"، ليس فريقًا أهل الكتاب، أهل الإيمان منهم والكفر: سواء. يعني بذلك: أنهم غير متساوين. يقول: ليسوا متعادلين، ولكنهم متفاوتون في الصلاح والفساد، والخير والشر. (2) .
* * *
وإنما قيل:"ليسوا سواء"، لأن فيه ذكر الفريقين من أهل الكتاب اللذين ذكرهما الله في قوله: (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) ، (3) ثم أخبر جل ثناؤه عن حال الفريقين عنده، المؤمنة منهما والكافرة فقال:"ليسوا سواء"، أي: ليس هؤلاء سواء، المؤمنون منهم والكافرون. ثم ابتدأ الخبرَ جل ثناؤه عن صفة الفرقة المؤمنة من أهل
__________
(1) في المطبوعة: "منها جهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو أجود.
(2) انظر تفسير"سواء" فيما سلف 1: 256.
(3) هي الآية السالفة قبل قليل: 110 من سورة آل عمران.(7/118)
الكتاب، ومدحَهم، وأثنى عليهم، بعد ما وصف الفِرقة الفاسقة منهم بما وصفها به من الهلع، ونَخْب الجَنان، (1) ومحالفة الذل والصغار، وملازمة الفاقة والمسكنة، وتحمُّل خزي الدنيا وفضيحة الآخرة، فقال:"من أهل الكتاب أمَّة قائمةٌ يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون"، الآيات الثلاث، إلى قوله:"والله عليم بالمتقين".
* * *
فقوله: (2) "أمة قائمة" مرفوعةٌ بقوله:"من أهل الكتاب".
* * *
وقد توهم جماعة من نحويي الكوفة والبصرة والمقدَّمين منهم في صناعتهم: (3) أن ما بعد"سواء" في هذا الموضع من قوله:"أمة قائمة"، ترجمةٌ عن"سواء" وتفسيرٌ عنه، (4) بمعنى: لا يستوي من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وأخرى كافرة. وزعموا أنّ ذكر الفرقة الأخرى، ترك اكتفاء بذكر إحدى الفرقتين، وهي"الأمة القائمة"، ومثَّلوه بقول أبي ذئيب:
عَصَيْتُ إلَيْهَا القَلْبَ: إنِّي لأمْرِهَا ... سَمِيعٌ، فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلابُهَا? (5)
ولم يقل:"أم غير رشد"، اكتفاء بقوله:"أرشد" من ذكر"أم غير رشد"،. وبقول الآخر: (6)
أَرَاك فَلا أَدْرِي أَهَمٌّ هَمَمْتُه? ... وَذُو الهَمِّ قِدْمًا خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ (7)
* * *
__________
(1) النخب (بفتح فسكون) : الجبن وضعف القلب. ورجل منخوب الجنان ونخيب الجنان: جبان لا قلب له، كأنه منتزع الفؤاد فلا فؤاد له.
(2) في المطبوعة: "قوله" بغير فاء في أولها، والصواب من المخطوطة.
(3) يعني الفراء في معاني القرآن 1: 230، 231، وهذا قريب من نص كلامه، وبعض شواهده.
(4) الترجمة: يعني البدل، وانظر تفسير ذلك فيما سلف 2: 340، 374، 420، 424، 426، وغيرها من المواضع في فهرس المصطلحات.
(5) سلف البيت وتخريجه وشرحه فيما سلف 1: 327.
(6) لم أعرف قائله.
(7) معاني القرآن للفراء 1: 231. وكان في المطبوعة: "أزال فلا أدري ... "، وهو لا معنى له، والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن. ولست أدري أيخاطب امرأة فيقول لها: إن الهم يغلبني إذا رأيتك. فأنا له خاشع متضائل = أم هو يريد الهم والفتك، فيقول: إن الذي يضمر في نفسه شيئًا يهم به من الفتك، يخفى شخصه حتى يبلغ غاية ثأره بعدوه. ولا أرجح شيئًا حتى أجد إخوة هذا البيت.(7/119)
قال أبو جعفر: وهو مع ذلك عندهم خطأٌ قولُ القائل المريد أن يقول:"سواء أقمتَ أم قعدت" =:"سواء أقمت"، حتى يقول:"أم قعدت".، وإنما يجيزون حذف الثاني فيما كان من الكلام مكتفيًا بواحد، دون ما كان ناقصًا عن ذلك، وذلك نحو:"ما أبالي" أو"ما أدري"، فأجازوا في ذلك:"ما أبالي أقمت"، وهم يريدون:"ما أبالي أقمت أم قعدت"، لاكتفاء"ما أبالي" بواحد = وكذلك في"ما أدري". وأبوا الإجازة في"سواء"، من أجل نقصانه، وأنه غير مكتف بواحد، فأغفلوا في توجيههم قوله:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة" على ما حكينا عنهم، إلى ما وجهوه إليه -مذاهبَهم في العربية = (1) إذّ أجازوا فيه من الحذف ما هو غير جائز عندهم في الكلام مع"سواء"، وأخطأوا تأويل الآية. فـ"سواء" في هذا الموضع بمعنى التمام والاكتفاء، لا بالمعنى الذي تأوَّله من حكينا قوله.
* * *
وقد ذكر أن قوله:"من أهل الكتاب أمة قائمة" الآيات الثلاث، نزلت في جماعة من اليهود أسلموا فحسن إسلامهم.
*ذكر من قال ذلك:
7644- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما أسلم عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سَعْية، وأسَيْد بن سعية، وأسد بن عُبيد، ومن أسلم من يهود معهم، فآمنوا وصدَّقوا ورغبوا في الإسلام، ورسخوا
__________
(1) قوله: "مذاهبهم" مفعول"فأغفلوا". والسياق: فأغفلوا في توجيههم قوله إلى ما وجهوه إليه - مذاهبهم في العربية. . .(7/120)
فيه، (1) قالت: أحبار يهود وأهل الكفر منهم: ما آمن بمحمد ولا تبعه إلا أشرارنا! (2) ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وذهبوا إلى غيره، فأنزل الله عز وجل في ذلك من قولهم:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله" إلى قوله:"وأولئك من الصالحين". (3)
7645- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير، (4) عن محمد بن إسحاق قال، حدثني بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، بنحوه. (5)
7646- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة" الآية، يقول: ليس كل القوم هلك، قد كان لله فيهم بقية. (6)
7647- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج:"أمة قائمة"، عبد الله بن سلام، وثعلبة بن سلام أخوه، وسعية، (7) ومبشر، وأسَيْد وأسد ابنا كعب.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ليس أهل الكتاب وأمة محمد القائمة بحق الله، سواء عند الله.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "ومنحوا فيه"، وفي المخطوطة: "ومحوا" غير منقوطة، وهي تصحيف للذي أثبته من سيرة ابن هشام.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أشرارنا" كما أثبتها، والذي في سيرة ابن هشام"شرارنا". وهي أجود.
(3) الأثران: 7644، 7645 - سيرة ابن هشام 2: 206.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "يونس عن بكير"، وهو خطأ، وهذا إسناد كثير الدوران في التفسير أقربه رقم: 7334.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "أشرارنا" كما أثبتها، والذي في سيرة ابن هشام"شرارنا". وهي أجود.
(6) في المخطوطة"لله فيهم عليه" غير منقوطة، وتركت ما في المطبوعة، لأنه وافق ما في الدر المنثور 2: 64، 65.
(7) في المطبوعة: "شعية"، وأثبت ما في المخطوطة.(7/121)
7648- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقول في قوله:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة"، قال: لا يستوي أهل الكتاب وأمةُ محمد صلى الله عليه وسلم. (1)
7649- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة"، الآية، يقول: ليس هؤلاء اليهود، كمثل هذه الأمة التي هي قائمة.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا أن أولى القولين بالصواب في ذلك، قولُ من قال: قد تمت القصة عند قوله:"ليسوا سواء"، عن إخبار الله بأمر مؤمني أهل الكتاب وأهل الكفر منهم، وأنّ قوله:"من أهل الكتاب أمة قائمة"، خبر مبتدأ عن مدح مؤمنهم ووصفهم بصفتهم، على ما قاله ابن عباس وقتادة وابن جريج.
* * *
ويعني جل ثناؤه بقوله:"أمة قائمة"، جماعة ثابتةٌ على الحق.
* * *
وقد دللنا على معنى"الأمة" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2)
وأما"القائمة"، فإن أهل التأويل اختلفوا في تأويله.
فقال بعضهم: معناها: العادلة.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الحديث: 7648- أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد. مضى في: 2155. عيسى: هو ابن ميمون الجرشي المكي. مضى في: 278.
الحسن بن يزيد العجلى: تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمة البخاري في الكبير، 1 / 2 / 306، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 42 - فلم يذكرا فيه جرحًا وهذا الحديث ذكره ابن كثير 2: 224، عن ابن أبي نجيح غير منسوب لتخريج وسيأتي له بقية بهذا الإسناد 7660، وقد جمعها السيوطي حديثا واحدا 2: 65، كما سيأتي هناك.
(2) انظر ما سلف قريبًا ص: 106 والتعليق: 2، وفيه المراجع.(7/122)
7650- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أمة قائمة"، قال: عادلة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أنها قائمة على كتاب الله وما أمر به فيه.
*ذكر من قال ذلك:
7651- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"أمة قائمة"، يقول: قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده.
7652- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"أمة قائمة"، يقول: قائمة على كتاب الله وحدوده وفرائضه.
7653- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"من أهل الكتاب أمة قائمة"، يقول: أمة مهتدية، قائمة على أمر الله، لم تنزع عنه وتتركه كما تركه الآخرون وضيعوه.
* * *
وقال آخرون. بل معنى"قائمة"، مطيعة.
*ذكر من قال ذلك:
7654- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أمة قائمة"، الآية، يقول: ليس هؤلاء اليهود كمثل هذه الأمة التي هي قانتة لله و"القانتة"، المطيعة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، ما قاله ابن عباس وقتادة ومن قال بقولهما على ما روينا عنهم، وإن كان سائر الأقوال الأخَر متقاربة المعنى من معنى ما قاله ابن عباس وقتادة في ذلك. وذلك أن معنى قوله:"قائمة"، مستقيمة على الهدى وكتاب الله وفرائضه وشرائع دينه، والعدلُ والطاعةُ(7/123)
وغير ذلك من أسباب الخير، (1) من صفة أهل الاستقامة على كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ونظير ذلك، الخبرُ الذي رواه النعمان بن بشير، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
7655-"مثل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قوم ركبوا سفينة"، ثم ضرب لهم مثلا. (2) .
* * *
فالقائم على حدود الله: هو الثابت على التمسك بما أمره الله به، واجتناب ما نهاهُ الله عنه.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: من أهل الكتاب جماعة معتصمة بكتاب الله، متمسكة به، ثابتة على العمل بما فيه وما سن لهم رسوله صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "بالعدل والطاعة. . ."، وهو خطأ وفساد كبير في السياق، والصواب ما أثبت، لأن الطبري فسر"قائمة" بمعنى مستقيمة، ثم ذكر أقوال أهل التأويل التي قالوها قبل من"العدل" و"الطاعة"، ثم قال إنها"من صفة أهل الاستقامة". فهي بذلك داخلة في معنى"قائمة" كما فسرها.
(2) الحديث: 7655- هذا حديث صحيح، أشار إليه الطبري إشارة، دون أن يذكره بتمامه، ولم يذكر إسناده.
وقد رواه أحمد في المسند 4: 268 (حلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن الشعبي، عن النعمان بن بَشِير قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَثَلُ القائم على حدود الله تعالى، والمُدْهِنِ فيها، كَمَثَلِ قوم اسْتَهَمُوا على سَفِينة في البحر فأصاب بعضُهم أَسْفَلهَا، وأصاب بعضُهم أَعْلاها، فكان الذين في أسفلها يَصْعَدُون فيَسْتَقُون الماءَ، فيَصُبُّون على الذين في أعلاها، فقال الذين في أَعلاها: لا نَدَعُكم تَصْعَدون فتؤْذوننا، فقال الذين في أسفلها: فإننا نَنْقُبُها من أسفلها فنَسْتَقِي! قال: فإن أَخَذُوا على أيديهم فمَنَعُوهم نَجَوْا جميعًا، وإن تركوهم غَرِقُوا جميعًا".
ثم رواه أحمد أيضًا 4: 269، عن يحيى بن سعيد، عن زكريا، و 270، عن إسحاق بن يوسف، عن زكريا بن أبي زائدة، و 273 - 274، عن سفيان، عن مجالد - كلاهما، أعني زكريا ومجالد، عن الشعبي، عن النعمان بن بشير، نحوه.
ورواه البخاري 5: 94 (فتح) ، عن أبي نعيم، عن زكريا، عن الشعبي.
ثم رواه أيضا 5: 216: 217، عن عمر بن حفص بن غياث، عن أبيه، عن الأعمش، عن الشعبي، به نحوه.(7/124)
القول في تأويل قوله: {يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"يتلون آيات الله"، يقرءون كتاب الله آناء الليل. ويعني بقوله:"آيات الله"، ما أنزل في كتابه من العبَر والمواعظ. يقول: يتلون ذلك آناء الليل، يقول: في ساعات الليل، فيتدبَّرونه ويتفكرون فيه.
* * *
وأما"آناء الليل"، فساعات الليل، واحدها"إنْيٌ"، كما قال الشاعر: (1)
حُلْوٌ وَمُرٌّ كَعَطْفِ القِدْحِ مِرَّتُهُ ... فِي كُلِّ إِنْيٍ حذَاه اللَّيْلُ يَنْتَعِلُ (2)
__________
(1) هو المتنخل الهذلي، ولكنه سيأتي في الطبري منسوبًا إلى"المنخل السعدي"، وهو خطأ حققته في موضعه بعد.
(2) ديوان الهذليين 2: 35، ومجاز القرآن 1: 102، وسيرة ابن هشام 2: 206، واللسان"أنى"، وسيأتي من التفسير 16: 168 (بولاق) ، من قصيدته في رثاء ابنه أثيلة، والبيت في صفة ولده، وقد رواه ابن الأنباري، كما جاء في اللسان: السَّالِكُ الثَّغْرَ مَخْشِيًّا مَوَارِدُهُ ... بِكُلِّ إِنْيٍ قَضَاه اللَّيلُ يَنْتَعِلُ
فذكر الأزهري رواية ابن الأنباري، وقال: وأنشده الجوهري، ثم ساق البيت كما هو في التفسير، ثم قال: "ونسبه أيضا للمنخل، فإما أن يكون هو البيت بعينه، أو آخر من قصيدة أخرى". وهذا كلام لا شك في ضعفه، والذي رواه ابن الأنباري خلط خلطه من بيت آخر في القصيدة، أخطأ في روايته. وهو قوله قبل ذلك بأبيات: السَّالِكُ الثَّغْرَةَ اليَقْظَانَ كَالِئُهَا ... مَشْىَ الهَلُوكِ عَلَيْها الخَيْعَلُ الفُضُلُ
وأما معنى البيت الذي رواه في التفسير، فإنه يعني بقوله: "حلو ومر"، أنه سهل لمن لاينه، صعب على من خاشنة. وقوله"كعطف القدح"، يريد أنه يطوى كما يطوى القدح ثم يعود إلى شدته واستقامته. والمرة: القوة والشدة. ورواية الديوان والطبري"حذاه الليل"، أي قطعه الليل حذاء، وهو شبيه في المعنى بقوله: "قضاه"، لأن معنى"قضاه": أي صنعه وقدره وفصله. وانتعل الليل: اتخذه نعلا، يعني سرى فيه، غير حافل بما يلقى. هذا، وقد كان في المطبوعة من التفسير: "قضاه الليل"، نقله ناشر من مكان غير التفسير، لأن في المخطوطة"حداه" غير منقوطة، فلم يعرف معناها، ولم يعرف صوابها فاستبدل بها ما أثبته من اللسان أو غيره.(7/125)
وقد قيل إنّ واحد"الآناء"،"إنًى" مقصور، كما واحد"الأمعاء""مِعًى".
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: ساعات الليل، كما قلنا.
*ذكر من قال ذلك:
7656- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"يتلون آيات الله آناء الليل"، أي: ساعات الليل.
* * *
7657- حدثت عن عمار قال، حدثنا أبن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال:"آناء الليل"، ساعات الليل.
7658- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال، عبد الله بن كثير: سمعنا العرب تقول:"آناء الليل"، ساعات الليل.
وقال آخرون"آناء الليل"، جوف الليل.
*ذكر من قال ذلك:
7659- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يتلون آيات الله آناء الليل"، أما"آناء الليل"، فجوفُ الليل.(7/126)
وقال آخرون: بل عنى بذلك قومٌ كانوا يصلون العشاء الآخرة. (1)
*ذكر من قال ذلك:
7660- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن عبد الله بن مسعود في قوله:"يتلون آيات الله آناء الليل"، صلاة العَتَمة، هم يصلُّونها، ومَنْ سِواهم من أهل الكتاب لا يصلِّيها. (2)
7661- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زحر، عن سليمان، عن زِرّ بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود قال: احتبس علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، كان عند بعض أهله ونسائه: فلم يأتنا لصلاة العشاء حتى ذهب ليلٌ، فجاء ومنا المصلي ومنا المضطجع، فبشَّرنا وقال:"إنه لا يصلي هذه الصلاة أحدٌ من أهل الكتاب! فأنزل الله:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "العشاء" الأخيرة"، والصواب من المخطوطة.
(2) الحديث: 7660- هذا تتمة الحديث الماضي بهذا الإسناد: 7648، كما أشرنا هناك. وقد جمعهما السيوطى 2: 65 حديثًا واحدًا، نسبه للفريابي، والبخاري في تاريخه. وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
ولم نر من هذه المصادر إلا ابن جرير، وهو قد رواه مفرقًا حديثين، كما ترى - وإلا التاريخ الكبير للبخاري، وهو لم يروه كله. بل روى هذا القسم الأخير وحده موجزًا كعادته، في ترجمة الحسن بن يزيد 1 / 2 / 306، قال، "قال محمد بن يوسف، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن الحسن بن يزيد العجلي، عن ابن مسعود (يتلون آيات الله آناء الليل) ، قال: صلاة العتمة. وروى عمر بن ذر، عن الحسن بن يزيد العجلى، مرسلا".
وانظر الحديثين بعد هذا.
(3) الحديث: 7661- عبيد الله بن زحر الضمري الإفريقي: ثقة، وثقه البخاري فيما نقل عنه الترمذي، كما في التهذيب، وكذلك وثقه أحمد بن صالح، فيما روى عنه أبو داود. وضعفه أحمد، وابن معين، وابن المديني. وروى ابن أبي حاتم 2 / 2 / 315 عن أبيه، أنه قال: "لين الحديث". وعن أبي زرعة، أنه قال: "لا بأس به، صدوق". ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء، ونرى أن من تكلم فيه إنما هو من أجل نسخة يرويها عن علي بن يزيد الألهاني، الحمل فيها على علي بن يزيد. وانظر التهذيب.
و"زحر": بفتح الزاي وسكون الحاء المهملة.
سليمان: هو الأعمش.
وأنا أخشى أن يكون قد سقط من هذا الإسناد"عن عاصم" - بين سليمان الأعمش وزر بن حبيش. فإن الأعمش لم يذكر أنه يروى عن زر، وإنما روايته عنه بواسطة"عاصم بن أبي النجود" وأقرانه من هذه الطبقة.
والحديث سيأتي -نحوه- عقب هذا. وتخريجه هناك.(7/127)
7662- حدثني يونس قال، حدثنا علي بن معبد، عن أبي يحيى الخراساني، عن نصر بن طريف، عن عاصم، عن زر بن حبيش، عن عبد الله بن مسعود قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن ننتظر العشاء -يريد العَتَمة- فقال لنا: ما على الأرض أحدٌ من أهل الأديان ينتظر هذة الصلاة في هذا الوقت غيركم! قال: فنزلت:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" (1)
__________
(1) الحديث: 7662- علي بن معيد بن شداد العبدي. الرقي، نزيل مصر: ثقة، روى عنه أبو حاتم ووثقه. وقال الحاكم: "شيخ من جلة المحدثين".
أبو يحيى الخراساني: لم أعرف من هو، بعد طول البحث والتتبع. وفي كنية"أبي يحيى"، وفي نسبة"الخراساني" كثرة.
نصر بن طريف، أبو جزى القصاب الباهلي: ضعيف جدًا، أجمعوا على ضعفه. ترجمه البخاري في الكبير 4 / 2 / 105، وقال: "سكتوا عنه، ذاهب"، وابن سعد 7 / 2 / 41، وقال: "ليس بشيء، وقد ترك حديثه". وقال يحيى: "من المعروفين بوضع الحديث"؛ وذكره الفلاس فيمن"أجمع عليه من أهل الكذب أنه لا يروى عنهم".
وكنيته"أبو جزى": بفتح الجيم وكسر الزاي، كما ضبطه الذهبي في المشتبه، ص 104. والحديث ثابت، بنحوه - بإسناد آخر صحيح، يغني عن إسنادى الطبري هذين: فرواه أحمد في المسند: 3760، عن أبي النضر وحسن بن موسى، كلاهما عن شيبان، عن عاصم، عن زر، عن ابن مسعود.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 312. وقال: "رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار، والطبراني في الكبير"، ثم ذكره بنحوه، بلفظ يكاد يكون لفظ الرواية الماضية: 7661. ثم قال: "ورجال أحمد ثقات، ليس فيهم غير عاصم بن أبي النجود، وهو مختلف في الاحتجاج به. وفي إسناد الطبراني عبيد الله بن زحر. وهو ضعيف". وذكره السيوطي 2: 65، وزاد نسبته للنسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.(7/128)
وقال آخرون: بل عُني بذلك قومٌ كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء.
* * *
*ذكر من قال ذلك:
7663- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور قال، بلغني أنها نزلت:"ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون" فيما بين المغرب والعشاء.
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرتُها على اختلافها، متقاربة المعاني. وذلك أن الله تعالى ذكره وَصف هؤلاء القوم بأنهم يتلون آيات الله في ساعات الليل، وهي آناؤه، وقد يكون تاليها في صلاة العشاء تاليًا لها آناء الليل، وكذلك من تلاها فيما بين المغرب والعشاء، ومن تلاها جوفَ الليل، فكلٌّ تالٍ له ساعات الليل. غير أن أولى الأقوال بتأويل الآية، قولُ من قال:"عني بذلك تلاوة القرآن في صلاة العشاء"، لأنها صلاة لا يصلِّيها أحد من أهل الكتاب"، فوصف الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأنهم يصلونها دون أهل الكتاب الذين كفروا بالله ورسوله.
* * *
وأما قوله:"وهم يسجدون"، فإن بعض أهل العربية زعم أن معنى"السجود" في هذا الموضع، اسم الصلاة لا للسجود، (1) لأن التلاوة لا تكون في السجود ولا في الركوع. فكان معنى الكلام عنده: يتلون آيات الله آناء الليل وهم يصلون، (2) .
* * *
وليس المعنى على ما ذهب إليه، وإنما معنى الكلام: من أهل الكتاب أمة قائمة، يتلون آيات الله آناء الليل في صلاتهم، وهم مع ذلك يسجدون فيها، فـ"السجود"، هو"السجود" المعروف في الصلاة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "لا السجود"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 231.(7/129)
يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114)
القول في تأويل قوله: {يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل وعز:"يؤمنون بالله واليوم الآخر"، يصدِّقون بالله وبالبعث بعد الممات، ويعلمون أن الله مجازيهم بأعمالهم; وليسوا كالمشركين الذين يجحدون وحدانية الله، ويعبدون معه غيره، ويكذبون بالبعث بعد الممات، وينكرون المجازاة على الأعمال والثوابَ والعقابَ.
* * *
وقوله:"ويأمرون بالمعروف"، يقول: يأمرون الناس بالإيمان بالله ورسوله، وتصديق محمد صلى الله عليه وسلم وما جاءهم به. (1) "وينهون عن المنكر"، يقول: وينهون الناس عن الكفر بالله، وتكذيب محمد وما جاءهم به من عند الله: (2) يعني بذلك: أنهم ليسوا كاليهود والنصارى الذين يأمرون الناس بالكفر وتكذيب محمد فيما جاءهم به، وينهونهم عن المعروف من الأعمال، وهو تصديق محمد فيما أتاهم به من عند الله. ="ويسارعون في الخيرات"، يقول: ويبتدرون فعل الخيرات خشية أن يفوتهم ذلك قبل معاجلتهم مناياهم.
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه أن هؤلاء الذين هذه صفتهم من أهل الكتاب، هم من عداد الصالحين، (3) لأن من كان منهم فاسقًا، قد باء بغضب من الله لكفره بالله وآياته، وقتلهم الأنبياء بغير حق، وعصيانه ربّه واعتدائه في حدوده.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف ص: 105 تعليق: 2، والمراجع هناك.
(2) انظر تفسير"المنكر" فيما سلف ص: 105 تعليق: 3، والمراجع هناك.
(3) انظر تفسير"الصالح" فيما سلف 3: 91 / 6: 380.(7/130)
وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) }
قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الكوفة: (وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) ، جميعًا، ردًّا على صفة القوم الذين وصفهم جل ثناؤه بأنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.
وقرأته عامة قرأة المدينة والحجاز وبعض قرأة الكوفة بالتاء في الحرفين جميعًا: (" وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ تُكْفَروهُ ") ، بمعنى: وما تفعلوا، أنتم أيها المؤمنون، من خير فلن يكفُرَكموه ربُّكم.
* * *
وكان بعض قرأة البصرة يرى القراءتين في ذلك جائزًا بالياء والتاء، في الحرفين.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا:"وما يفعلوا، من خير فلن يُكفروه"، بالياء في الحرفين كليهما، يعني بذلك الخبرَ عن الأمة القائمة، التالية آيات الله.
وإنما اخترنا ذلك، لأن ما قبل هذه الآية من الآيات، خبر عنهم. فإلحاق هذه الآية = إذْ كان لا دلالة فيها تدل على الانصراف عن صفتهم = بمعاني الآيات قبلها، أولى من صرفها عن معاني ما قبلها. وبالذي اخترنا من القراءة كان ابن عباس يقرأ.
7664- حدثني أحمد بن يوسف التغلبيّ قال، حدثنا القاسم بن سلام قال، حدثنا حجاج، عن هارون، عن أبي عمرو بن العلاء قال: بلغني عن ابن عباس أنه كان يقرأهما جميعًا بالياء. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 7664-"أحمد بن يوسف التغلبي" سلفت ترجمته في رقم: 5954، وأما المطبوعة فقد حذفت"التغلبي"، لأن الناشر لم يحسن قراءة الكلمة، فإنها كانت فيها"التعلبى" غير منقوطة ولا بينة، فحذفها الناشر.(7/131)
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا، على ما اخترنا من القراءة: وما تفعل هذه الأمة من خير، وتعمل من عملٍ لله فيه رضًى، فلن يكفُرهم الله ذلك، يعني بذلك: فلن يبطل الله ثوابَ عملهم ذلك، ولا يدعهم بغير جزاء منه لهم عليه، ولكنه يُجزل لهم الثواب عليه، ويسني لهم الكرامة والجزاء.
* * *
وقد دللنا على معنى"الكفر" فيما مضى قبل بشواهده، وأنّ أصله تغطية الشيء (1)
* * *
فكذلك ذلك في قوله:"فلن يكفروه"، فلن يغطّى على ما فعلوا من خير فيتركوا بغير مجازاة، ولكنهم يُشكرون على ما فعلوا من ذلك، فيجزل لهم الثواب فيه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك من التأويل تأوَّل من تأول ذلك من أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
7665- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما تفعلوا من خير فلن تكفروه" يقول: لن يضلّ عنكم.
7666- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله.
* * *
وأما قوله:"والله عليم بالمتقين"، فإنه يقول تعالى ذكره: والله ذو علم بمن اتقاه، لطاعته واجتناب معاصيه، وحافظٌ أعمالهم الصالحة حتى يثيبهم عليها ويجازيهم بها، تبشيرًا منه لهم جل ذكره في عاجل الدنيا، وحضًّا لهم على التمسك بالذي هم عليه من صالح الأخلاق التي ارتضاها لهم.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 255، 382، 552، ثم ما بعد ذلك في فهارس اللغة من الأجزاء السالفة.(7/132)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116)
القول في تأويل قوله: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) }
قال أبو جعفر: وهذا وعيدٌ من الله عز وجل للأمة الأخرى الفاسقة من أهل الكتاب، الذين أخبر عنهم بأنهم فاسقون، وأنهم قد باؤوا بغضب منه، ولمن كان من نظرائهم من أهل الكفر بالله ورسوله وما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله.
يقول تعالى ذكره:"إن الذين كفروا"، يعني: الذين جحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به وبما جاءهم به من عند الله ="لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئًا"، يعني: لن تدفع أمواله التي جمعها في الدنيا، وأولاده الذين ربَّاهم فيها، شيئًا من عقوبة الله يوم القيامة إن أخرها لهم إلى يوم القيامة، ولا في الدنيا إنْ عجَّلها لهم فيها.
* * *
وإنما خصّ أولاده وأمواله، لأن أولاد الرجل أقربُ أنسبائه إليه، وهو على ماله أقدر منه على مال غيره، (1) وأمرُه فيه أجوز من أمره في مال غيره. فإذا لم يغن عنه ولده لصلبه، وماله الذي هو نافذ الأمر فيه، فغير ذلك من أقربائه وسائر أنسبائه وأموالهم، أبعد من أن تغني عنه من الله شيئا.
* * *
ثم أخبر جل ثناؤه أنهم هم أهل النار الذين هم أهلها بقوله:"وأولئك أصحاب النار". وإنما جعلهم أصحابها، لأنهم أهلها الذين لا يخرجون منها ولا يفارقونها،
__________
(1) في المطبوعة: "وهو على ماله أقرب ... "، وهي في المخطوطة شبيهة بها، إلا أنها سيئة الكتابة، ولكن لا معنى لها، والصواب ما أثبت، فهو حق السياق.(7/133)
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
كصاحب الرجل الذي لا يفارقه، وقرينه الذي لا يزايله. (1) ثم وكد ذلك بإخباره عنهم إنهم"فيها خالدون"، أنّ صحبتهم إياها صحبة لا انقطاع لها، (2) إذْ كان من الأشياء ما يفارق صاحبه في بعض الأحوال، ويزايله في بعض الأوقات، وليس كذلك صحبة الذين كفروا النارَ التي أصْلوها، ولكنها صحبة دائمة لا نهاية لها ولا انقطاع. نعوذ بالله منها ومما قرَّب منها من قول وعمل.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: شَبَهُ ما ينفق الذين كفروا، أي: شَبَهُ ما يتصدق به الكافر من ماله، (3) فيعطيه من يعطيه على وجه القُربة إلى ربّه وهو لوحدانية الله جاحد، ولمحمد صلى الله عليه وسلم مكذب، في أن ذلك غير نافعه مع كفره، وأنه مضمحلّ عند حاجته إليه، ذاهبٌ بعد الذي كان يرجو من عائدة نفعه عليه = كشبه ريح فيها برد شديد، أصابت هذه الريح التي فيها البرد الشديد ="حرثَ قوم"، (4) يعني: زرع قوم قد أمَّلوا إدراكه، ورجَوْا رَيْعه وعائدة نفعه ="ظلموا أنفسهم"، يعني: أصحاب الزرع، عصوا الله، وتعدَّوا حدوده ="فأهلكته"، يعني: فأهلكت الريح التي فيها الصرُّ زرعهم ذلك، بعد الذي كانوا عليه من الأمل ورجاء عائدة نفعه عليهم.
__________
(1) انظر تفسير"أصحاب النار" فيما سلف 1: 286، 287 / 4: 317 / 5: 429 / 6: 14.
(2) في المطبوعة أسقط"أن" من أول هذه العبارة، وهي ثابتة في المخطوطة. وفيهما جميعًا بعد: "إذا كان من الأشياء"، وصواب السياق"إذ"، كما أثبتها.
(3) انظر تفسير"النفقة" فيما سلف 5: 555، 580 / 6: 265.
(4) انظر تفسير"الحرث" فيما سلف 4: 240، 397 / 6: 257.(7/134)
يقول تعالى ذكره: فكذلك فعل الله بنفقة الكافر وصدقته في حياته، حين يلقاه، يبطل ثوابها ويخيب رجاؤه منها. وخرج المثَل للنفقة، والمراد بـ "المثل" صنيع الله بالنفقة، فبيَّن ذلك قوله:"كمثل ريح فيها صرٌّ"، فهو كما قد بيّنا في مثله قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) (1) [سورة البقرة: 17] وما أشبه ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام،: مثل إبطال الله أجرَ ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا، كمثل ريح فيها صر. وإنما جاز ترك ذكر"إبطال الله أجر ذلك"، لدلالة آخر الكلام عليه، وهو قوله:"كمثل ريح فيها صرٌّ"، ولمعرفة السامع ذلك معناه.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"النفقة" التي ذكرها في هذه الآية.
فقال بعضهم: هي النفقة المعروفة في الناس.
*ذكر من قال ذلك:
7667- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا"، قال: نفقة الكافر في الدنيا.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك قوله الذي يقوله بلسانه، مما لا يصدِّقه بقلبه.
*ذكر من قال ذلك:
7668- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثني أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"مثل ما ينفقون في هذ الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرثَ قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته"، يقول: مثل ما يقول فلا يقبل
__________
(1) انظر ما سلف 1: 318 - 328.(7/135)
منه، كمثل هذا الزرع إذا زرعه القوم الظالمون، فأصابه ريح فيها صر، أصابته فأهلكته. فكذلك أنفقوا فأهلكهم شِرْكهم.
* * *
وقد بينا أولى ذلك بالصواب قبل.
* * *
وقد تقدم بياننا تأويل"الحياة الدنيا" بما فيه الكفاية من إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وأما"الصر" فإنه شدة البرد، وذلك بعُصُوف من الشمال في إعصار الطَّلّ والأنداء، في صبيحة مُعْتمة بعقب ليلة مصحية، (2) كما:
7669- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن عثمان بن غياث قال، سمعت عكرمة يقول:"ريح فيها صر"، قال: بردٌ شديد.
7670- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:"ريح فيها صر"، قال: برد شديد وزمهرير.
7671- حدثنا علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قوله:"ريح فيها صر"، يقول: برد.
7672- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن هارون بن عنترة، عن أبيه، عن ابن عباس:"الصر"، البرد.
7673- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"كمثل ريح فيها صر"، أي: برد شديد.
7674- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
7675- حدثنا محمد قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي في"الصر"، البرد الشديد.
__________
(1) انظر ما سلف 1: 314، 316.
(2) هذا البيان عن معنى"الصر" قلما تصيب مثله في كتب اللغة.(7/136)
7676- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"كمثل ريح فيها صر"، يقول: ريح فيها برد.
7677- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ريح فيها صر"، قال:"صر"، باردة أهلكت حرثهم. قال: والعرب تدعوها"الضَّريب"، تأتي الريح باردة فتصبح ضريبًا قد أحرق الزرع، (1) تقول:"قد ضُرب الليلة" أصابه ضريبُ تلك الصر التي أصابته.
7678- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا جويبر، عن الضحاك:"ريح فيها صر"، قال: ريح فيها برد.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما فعل الله بهؤلاء الكفار ما فعل بهم، من إحباطه ثواب أعمالهم وإبطاله أجورها ظلمًا منه لهم = يعني: وضعًا منه لما فعل بهم من ذلك في غير موضعه وعند غير أهله، بل وضَع فعله ذلك في موضعه، وفعل بهم ما هم أهله. لأن عملهم الذي عملوه لم يكن لله وهم له بالوحدانية دائنون، ولأمره مُتبعون، ولرسله مصدقون، بل كان ذلك منهم وهم به مشركون، ولأمره مخالفون، ولرسله مكذبون، بعد تقدُّم منه إليهم أنه لا يقبل عملا من عامل إلا مع إخلاص التوحيد له، والإقرار بنبوة أنبيائه، وتصديق ما جاءوهم به، وتوكيده الحجج بذلك عليهم. فلم يكن = بفعله ما فعل بمن كفر به وخالف أمره في ذلك = بعد
__________
(1) الضريب: الصقيع والجليد.(7/137)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118)
الإعذار إليه، (1) من إحباط وَفْر عمله = له ظالمًا، بل الكافرُ هو الظالم نفسه، لإكسابها من معصية الله وخلاف أمره، ما أوردها به نار جهنم، وأصلاها به سعير سقَرَ. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، وأقروا بما جاءهم به نبيهم من عند ربهم ="لا تتخذوا بطانة من دونكم"، يقول: لا تتخذوا أولياء وأصدقاء لأنفسكم ="من دونكم" يقول: من دون أهل دينكم وملَّتكم، يعني من غير المؤمنين.
* * *
وإنما جعل"البطانة" مثلا لخليل الرجل، فشبهه بما ولي بطنه من ثيابه، لحلوله منه -في اطِّلاعه على أسراره وما يطويه عن أباعده وكثير من أقاربه- محلَّ ما وَلِيَ جَسده من ثيابه.
* * *
فنهى الله المؤمنين به أن يتخذوا من الكفار به أخلاء وأصفياء، ثم عرّفهم ما هم عليه لهم منطوون من الغش والخيانة، وبغيهم إياهم الغوائل، فحذرهم بذلك منهم ومن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "الاعتذار إليه"، وهو خطأ صرف. وأعذر إعذارًا: أي بلغ الغاية في البلاغ، ومنه قولهم: "أعذر من أنذر"، أي بالغ في الإنذار حتى بان عذره، إذا أنزل بمن أنذره ما يسوءه. وقوله: "وفر عمله" أي كثير عمله ووافره. و"الوفر" (بفتح فسكون) . وكان في المطبوعة"وافر عمله"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) سياق الجملة: "فلم يكن. . . له ظالما"، وما بينهما فصل للبيان متعلق بقوله: "ظالما" ولكنه مقدم عليه.(7/138)
مخالَّتهم، (1) فقال تعالى ذكره: "لا يألونكم خبالا"، يعني لا يستطيعونكم شرًّا، من"ألوت آلُو ألوًا"، يقال: "ما ألا فلان كذا"، أي: ما استطاع، كما قال الشاعر: (2)
جَهْرَاءُ لا تَأْلُو، إذَا هِيَ أَظْهَرَتْ، ... بَصَرًا، وَلا مِنْ عَيْلَةٍ تُغْنِيني (3)
يعني: لا تستطيع عند الظهر إبصارًا.
* * *
وإنما يعني جل ذكره بقوله:"لا يألونكم خبالا"، البطانةَ التي نهى المؤمنين
__________
(1) في المطبوعة: "فحذرهم بذلك منهم عن مخاللتهم"، فك إدغام اللام وحذف الواو قبل"عن"، وفي المخطوطة"وعن مخالتهم"، والصواب في قراءتها ما أثبت، إلا أن يكون سقط من الكلام"نهاهم" فيكون"ونهاهم عن مخالتهم".
(2) هو أبو العيال الهذلي.
(3) ديوان الهذليين 2: 263، الحيوان 3: 535، المعاني الكبير: 690، اللسان (ألا) (جهر) . من شعر جيد في مقارضات بينه وبين بدر بن عامر الهذلي، قال بدر بن عامر أبياتًا، حين بلغه أن ابن أخ لأبي العيال، أنه ضلع مع خصمائه، فانتفى من ذلك وزعم أنه ليس ممن يأتي سوءًا إلى أخيه أبي العيال، فكذبه أبو العيال، فبادر بدر يرده. وكله شعر حسن في معناه. فشبه أبو العيال شعر بدر فيه وفي الثناء عليه بالشاة فقال له: أَقْسَمْتَ لا تَنْسَى شَبابَ قَصِيدَةٍ ... أبدًا!! فَمَا هذا الَّذِي يُنْسِينِي?
فَلَسَوْفَ تَنْسَاهَا وَتَعْلَمُ أَنَّها ... تَبَعٌ لآبِيَةِ العِصَابِ زَبُونِ
وَمَنَحْتَني فَرَضِيتُ زِىَّ مَنِيحَتي ... فَإِذَا بِهَا، وَأَبِيكَ، طَيْفُ جُنُونِ
جَهْرَاءَ لا تَأْلُو................... ... ....................................
والجهراء: هي التي لا تبصر في الشمس، وهو ضعف في البصر. ويقال:"عال يعيل عيلا وعيلة" افتقر. يقول: أهديت لي شعرًا وثناء وقولا فرضيته، ثم إذا لا شيء إلا قول وكلام، إذا انكشف الأمر وظهر، عمى هذا الشعر وانطفأ، وإذا جد الجد، لم يغن قولك شيئًا، بل كنت كما قلت لك آنفًا: فَلَقَد رَمَْقُتك فِي المجَالِسِ كلِّهَا ... فَإِذَا، وأنتَ تُعِينُ من يَبْغِيني"(7/139)
عن اتخاذها من دونهم، فقال: إن هذه البطانة لا تترككم طاقتها خبالا أي لا تدع جهدها فيما أورثكم الخبال. (1)
* * *
وأصل"الخبْل" و"الخبال"، الفساد، ثم يستعمل في معان كثيرة، يدل على ذلك الخبرُ عن النبي صلى الله عليه وسلم:
7679-"من أصيب بخبْل = أو جرَاح". (2)
* * *
وأما قوله:"ودوا ما عنِتُّم"، فإنه يعني: ودوا عنتكم، يقول: يتمنون لكم العنَت والشر في دينكم وما يسوءكم ولا يسرُّكم. (3)
* * *
وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم من المسلمين كانوا يخالطوهم حلفائهم من اليهود وأهل النفاق منهم، ويصافونهم المودَّة بالأسباب التي كانت بينهم في جاهليتهم قبل الإسلام، فنهاهم الله عن ذلك وأن يستنصحوهم في شيء من أمورهم.
*ذكر من قال ذلك:
__________
(1) لقد أبعد أبو جعفر المذهب في احتياله في تفسير"لا يألونكم"، فإن بيان أهل اللغة عن معنى هذا الحرف من العربية، أصدق وأكمل من بيانه، فقد ذكروا المعنى الذي ذكره ثم قالوا: "ما ألوت ذلك: أي ما استطعته؛ وما ألوت أن أفعله: أي ما تركت" وقالوا: "هي من الأضداد؛ ألا: فتر وضعف = وألا: اجتهد"، فراجع ذلك في كتب العربية.
(2) الأثر: 7679- رواه أبو جعفر غير مسند؛ ورواه أحمد في مسنده 4: 31، والبيهقي في السنن 8: 53، ورواية أحمد من طريق شيخه"محمد بن سلمة الحراني، عن ابن إسحاق = ويزيد بن هرون قال أنبأنا محمد بن إسحاق = عن الحارث بن فضيل، عن فضيل، عن سفيان بن أبي العوجاء -قال يزيد: السلمي- عن أبي شريح الخزاعي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم -وقال يزيد: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول-: من أصيب بدم أو خبل =الخبل: الجراح= فهو بالخيار بين إحدى ثلاث: إما أن يقتص، أو يأخذ العقل، أو يعفو، فإن أراد رابعة فخذوا على يده، فإن فعل شيئا من ذلك ثم عدا بعد فقتل، فله النار خالدا فيها مخلدا".
يعني بالدم: قتل النفس -وبالخبل أو الجراح: قطع العضو. وقد تركت ما في الطبري على حاله: "أو جراح" وبينت بالترقيم أنها كأنها رواية أخرى في قوله: "خبل"، شك من الراوي. ولكن سياق الخبر يرجح عندي أنها: "أي: جراح"، لأنه قد جاء في الحديث نفسه تفسير"الخبل" بالجراح.
(3) انظر تفسير"العنت" فيما سلف 4: 358 - 361.(7/140)
7680- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، قال، قال محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الجوار والحِلْف في الجاهلية، فأنزل الله عز وجل فيهم، ينهاهم عن مباطنتهم (1) تخوُّف الفتنة عليهم منهم:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" إلى قوله:"وتؤمنون بالكتاب كله". (2)
7681- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا"، في المنافقين من أهل المدينة. نهى الله عز وجل المؤمنين أن يتولَّوهم.
7682- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا ودوا ما عنتم"، نهى الله عز وجل المؤمنين أن يستدخلوا المنافقين، (3) أو يؤاخوهم، أو يتولوهم من دون المؤمنين. (4)
7683- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"لا تتخذوا بطانة من دونكم"، هم المنافقون.
7684- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن
__________
(1) في المطبوعة: "فنهاهم" بالفاء في أوله، والصواب من المخطوطة وابن هشام.
(2) الأثر: 7680- سيرة ابن هشام 2: 207، وهو تابع الأثرين السالفين رقم: 7644، 7645.
(3) قوله: "يستدخلوا" أي يتخذوهم أخلاء. استدخله: اتخذه دخيلا، مثل قولهم استصحبه: اتخذه صاحبًا، والدخيل والمداخل: الذي يداخل الرجل في أموره كلها. وهذا البناء"استدخله" مما أغفلته كتب اللغة، وهو عربي معرق كما ترى.
(4) في المطبوعة: "أي يتولوهم"، وفي المخطوطة: "أن يتولوهم"، والصواب ما أثبت.(7/141)
الربيع، قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالا"، يقول: لا تستدخلوا المنافقين، (1) تتولوهم دون المؤمنين.
7685- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب، عن الأزهر بن راشد، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تستضيئوا بنار أهل الشرك، ولا تنقشوا في خواتيمكم عربيا قال: فلم ندر ما ذلك، حتى أتوا الحسن فسألوه، فقال: نعم، أما قوله:"لا تنقشوا في خواتيمكم عربيًّا"، فإنه يقول: لا تنقشوا في خواتيمكم"محمد"، وأما قوله:"ولا تستضيئوا بنار أهل الشرك"، فإنه يعني به المشركين، يقول: لا تستشيروهم في شيء من أموركم. قال: قال الحسن: وتصديق ذلك في كتاب الله، ثم تلا هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم". (2) .
__________
(1) انظر ص 141، تعليق: 3.
(2) الحديث: 7685- الأزهر بن راشد البصري: ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 1 / 1 / 455، وابن أبي حاتم 1 / 1 / 313 - فلم يذكر فيه جرحا.
وهناك راو آخر، اسمه"الأزهر بن راشد الكاهلي"، وهو كوفي، وهو غير البصري، ومتأخر عنه. وترجمه البخاري وابن أبي حاتم أيضا. فإن البصري يروى عنه"العوام بن حوشب" المتوفي سنة 148، والكوفي الكاهلي يروى عنه"مروان بن معاوية الفزاري" المتوفي سنة 193. ومروان بن معاوية من شيوخ أحمد. والعوام بن حوشب من شيوخ شيوخه. فشتان هذا وهذا.
ومع هذا الفرق الواضح أخطأ الحافظ المزي، فذكر في التهذيب الكبير أن أبا حاتم قال في البصري: "مجهول". وتبعه الحافظ في تهذيب التهذيب، والذهبي في الميزان. وزاد الأمر تخليطًا، فذكر أنه ضعفه ابن معين.
وابن معين وأبو حاتم إنما قالا ذلك في الكاهلي الكوفي. فروى ابن أبي حاتم في ترجمة"الكاهلي" 1 / 1 / 313، رقم: 1180، عن ابن معين، قال: "أزهر بن راشد، الذي روى عنه مروان بن معاوية: ضعيف". ثم قال: "سألت أبي عن أزهر بن راشد؟ فقال: هو مجهول".
ولم يحقق الحافظ ابن حجر، واشتبه عليه الكلام في الترجمتين، فقال في ترجمة"الكاهلي" -بعد ترجمة"البصري"-: "أخشى أن يكونا واحدًا! لكن فرق بينهما ابن معين". والفرق بينهما كالشمس.
والحديث رواه أحمد في المسند: 11978 (ج 3 ص 99 حلبى) ، عن هشيم، بهذا الإسناد - دون كلام الحسن، وهو البصري.
ورواه البخاري كذلك في الكبير 1 / 1 / 455 - دون كلام الحسن، عن مسدد، عن هشيم، به. ثم فسر البخاري بعضه، فقال: "قال أبو عبد الله [هو البخاري نفسه] : عربيًا، يعني"محمد رسول الله". يقول: لا تكتبوا مثل خاتم النبي: "محمد رسول الله".
ورواه أبو يعلى مطولا -مثل رواية الطبري أو أطول قليلا- وفيه كلام الحسن. رواه عن إسحاق بن إسرائيل، عن هشيم، بهذا الإسناد. نقله عنه ابن كثير 2: 227، ثم قال: "هكذا رواه الحافظ أبو يعلى رحمه الله. وقد رواه النسائي، عن مجاهد بن موسى، عن هشيم، به. ورواه الإمام أحمد، عن هشيم، بإسناده مثله، من غير ذكر تفسير الحسن البصري. وهذا التفسير فيه نظر"- إلى آخر ما قال. ولم أجده في سنن النسائي، فلعله في السنن الكبرى.
وذكره السيوطي 2: 66، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب. ولم ينسبه للنسائي، ولا لتاريخ البخاري.(7/142)
7686- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم"، أما"البطانة"، فهم المنافقون.
7687- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" الآية، قال: لا يستدخل المؤمن المنافق دون أخيه. (1)
7688- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم" الآية، قال: هؤلاء المنافقون. وقرأ قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم" الآية.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفوا في تأويل قوله:"ودّوا ما عنِتُّم".
فقال بعضهم معناه: ودوا ما ضللتم عن دينكم. (2)
*ذكر من قال ذلك:
7689- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ودوا ما عنتم"، يقول: ما ضللتم.
* * *
وقال آخرون بما:-
__________
(1) انظر: 141، تعليق: 3 / ص: 142، تعليق: 1.
(2) انظر تفسير"العنت" فيما سلف ص4: 358 - 361.(7/143)
7690- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ودوا ما عنتم"، يقول: في دينكم، يعني: أنهم يودون أن تعنتُوا في دينكم.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"ودوا ما عنتم"، فجاء بالخبر عن"البطانة"، بلفظ الماضي في محل الحال، والقطع بعد تمام الخبر، والحالات لا تكون إلا بصور الأسماء والأفعال المستقبلة دون الماضية منها؟ (1) .
قيل: ليس الأمر في ذلك على ما ظننت من أنّ قوله:"ودوا ما عنتم" حال من"البطانة"، وإنما هو خبر عنهم ثان منقطعٌ عن الأول غير متصل به. وإنما تأويل الكلام: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة صفتهم كذا، صفتهم كذا. فالخبر عن الصفة الثانية غير متصل بالصفة الأولى، وإن كانتا جميعًا من صفة شخص واحد.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن قوله:"ودوا ما عنتم"، من صلة البطانة، وقد وصلت بقوله:"لا يألونكم خبالا"، فلا وجه لصلة أخرى بعد تمام"البطانة" بصلته. (2) ولكن القول في ذلك كما بينا قبل، من أن قوله:"ودوا ما عنتم"، خبر مبتدأ عن"البطانة"، غير الخبر الأول، وغير حال من البطانة ولا قطع منها. (3) .
* * *
__________
(1) انظر"القطع" فيما سلف 6: 270، تعليق: 3، وسائر فهارس المصطلحات.
(2) انظر تفسير"الصلة" فيما سلف 5: 299، تعليق: 5، وهو نعت النكرة.
(3) انظر"القطع" فيما سلف 6: 270، تعليق: 3، وسائر فهارس المصطلحات.(7/144)
القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد بدت بغضاء هؤلاء الذين نهيتكم أيها المؤمنون، أن تتخذوهم بطانة من دونكم لكم ="من أفواههم"، يعني بألسنتهم. والذي بدا لهم منهم بألسنتهم، (1) إقامتهم على كفرهم، وعداوتهم من خالف ما هم عليه مقيمونَ من الضلالة. فذلك من أوكد الأسباب في معاداتهم أهل الإيمان، لأن ذلك عداوة على الدين، والعداوة على الدين العداوة التي لا زوال لها إلا بانتقال أحد المتعاديين إلى ملة الآخر منهما، وذلك انتقال من هدى إلا ضلالة كانت عند المنتقل إليها ضلالة قبل ذلك. فكان في إبدائهم ذلك للمؤمنين، ومقامهم عليه، أبينُ الدلالة لأهل الإيمان على ما هم عليه من البغضاء والعداوة.
* * *
وقد قال بعضهم: معنى قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، قد بدت بغضاؤهم لأهل الإيمان، إلى أوليائهم من المنافقين وأهل الكفر، بإطلاع بعضهم بعضًا على ذلك. وزعم قائلو هذه المقالة أنّ الذين عنوا بهذه الآية أهل النفاق، دون من كان مصرحًا بالكفر من اليهود وأهل الشرك.
* ذكر من قال ذلك:
7691- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة، قوله:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، يقول: قد بدت البغضاء من أفواهُ المنافقين إلى إخوانهم من الكفار، من غشهم للإسلام وأهله، وبغضهم إياهم.
7692- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"قد بدت البغضاء من أفواههم"، يقول: من أفواه المنافقين.
* * *
وهذا القول الذي ذكرناه عن قتادة، قول لا معنى له. وذلك أن الله تعالى
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "بأفواههم"، والصواب المطابق لنص هذه الآية، هو ما أثبت.(7/145)
ذكره إنما نهى المؤمنين أن يتخذوا بطانة ممن قد عرفوه بالغش للإسلام وأهله والبغضاء، إما بأدلة ظاهرة دالة على أنّ ذلك من صفتهم، وإما بإظهار الموصوفين بذلك العداوة والشنآن والمناصبة لهم. فأما من لم يُثبِتوه معرفةً أنه الذي نهاهم الله عز وجل عن مخالَّته ومباطنته، (1) فغير جائز أن يكونوا نهوا عن مخالته ومصادقته، إلا بعد تعريفهم إياهم، إما بأعيانهم وأسمائهم، وإما بصفات قد عرفوهم بها.
وإذْ كان ذلك كذلك = وكان إبداء المنافقين بألسنتهم ما في قلوبهم من بغضاء المؤمنين إلى إخوانهم من الكفار، غير مدرِك به المؤمنون معرفةَ ما هم عليه لهم، مع إظهارهم الإيمانَ بألسنتهم لهم والتودد إليهم = كان بيِّنًا أن الذي نهى الله المؤمنون عن اتخاذهم لأنفسهم بطانة دونهم، هم الذين قد ظهرت لهم بغضاؤهم بألسنتهم، على ما وصفهم الله عز وجل به، فعرَفهم المؤمنون بالصفة التي نعتهم الله بها، وأنهم هم الذين وصفهم تعالى ذكره بأنهم أصحاب النار هم فيها خالدون، ممن كان له ذمةٌ وعهدٌ من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من أهل الكتاب. لأنهم لو كانوا المنافقين، لكان الأمر فيهم على ما قد بينا. ولو كانوا الكفار ممن قد ناصب المؤمنين الحربَ، لم يكن المؤمنون متخذيهم لأنفسهم بطانة من دون المؤمنين، مع اختلاف بلادهم وافتراق أمصارهم، ولكنهم الذين كانوا بين أظهُر المؤمنين من أهل الكتاب أيامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن كان له من رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد وعقدٌ من يهود بني إسرائيل.
* * *
و"البغضاء"، مصدر. وقد ذكر أنها في قراءة عبد الله بن مسعود: (" قَدْ بَدَا البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ") ، على وجه التذكير. وإنما جاز ذلك بالتذكير ولفظه لفظ المؤنث، لأن المصادر تأنيثها ليس بالتأنيث اللازم، فيجوز تذكيرُ ما خرج منها
__________
(1) في المطبوعة: "فأما من لم يتئسوه معرفة"، ولا معنى له، وفي المخطوطة: "لم سوه معرفة" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. يقال: "أثبته معرفة" أي: عرفه حق المعرفة.(7/146)
على لفظ المؤنث وتأنيثه، كما قال عز وجل: (وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [سورة هود: 67] ، وكما قال: (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ) [سورة الأنعام: 157] ، وفي موضع آخر: (وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ) [سورة هود: 94] (" وجَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ") [سورة الأعراف: 73، 85] (1)
* * *
وقال:"من أفواههم"، وإنما بدا ما بدا من البغضاء بألسنتهم، لأن المعنيّ به الكلام الذي ظهر للمؤمنين منهم من أفواههم، فقال:"قد بدت البغضاء من أفواههم" بألسنتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذي تخفي صدورهم = يعني: صدور هؤلاء الذين نهاهم عن اتخاذهم بطانة، فتخفيه عنكم، أيها المؤمنون ="أكبر"، يقول: أكبر مما قد بدا لكم بألسنتهم من أفواههم من البغضاء وأعظم. كما:-
7693- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وما تخفي صدورهم أكبر"، يقول: وما تخفي صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم.
7694- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وما تخفي صدورهم أكبر" يقول: ما تكن صدورهم أكبر مما قد أبدوا بألسنتهم.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 231.(7/147)
القول في تأويل قوله: {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قد بينا لكم" أيها المؤمنون ="الآيات"، يعني بـ"الآيات" العبر. قد بينا لكم من أمر هؤلاء اليهود الذين نهيناكم أن تتخذوهم بطانة من دون المؤمنين، ما تعتبرون وتتعظون به من أمرهم ="إن كنتم تعقلون"، يعني: إن كنتم تعقلون عن الله مواعظه وأمره ونهيه، وتعرفون مواقع نفع ذلك منكم، ومبلغ عائدته عليكم.
* * *
القول في تأويل قوله: {هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ها أنتم، أيها المؤمنون، الذين تحبونهم، يقول: تحبون هؤلاء الكفار الذين نهيتكم عن اتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، فتودونهم وتواصلونهم وهم لا يحبونكم، بل يبطنون لكم العداوة والغش (1) = "وتؤمنون بالكتاب كله".
* * *
ومعنى "الكتاب" في هذا الموضع معنى الجمع، كما يقال:"كثر الدرهم في أيدي الناس"، بمعنى الدراهم.
فكذلك قوله:"وتؤمنون بالكتاب كله"، إنما معناه: بالكتب كلها،
__________
(1) في المطبوعة: "بل سطروه"، وفي المخطوطة: "بل ينتظرون" غير منقوطة، وصوابها ما أثبت كما استظهره طابع الأميرية.(7/148)
كتابكم الذي أنزل الله إليكم، وكتابهم الذي أنزله إليهم، وغير ذلك من الكتب التي أنزلها الله على عباده.
يقول تعالى ذكره: فأنتم = إذ كنتم، أيها المؤمنون، تؤمنون بالكتب كلها، وتعلمون أنّ الذين نهيتكم عن أن تتخذوهم بطانة من دونكم كفار بذلك كله، بجحودهم ذلك كله من عهود الله إليهم، وتبديلهم ما فيه من أمر الله ونهيه = (1) أولى بعداوتكم إياهم وبغضائهم وغشهم، منهم بعداوتكم وبغضائكم، مع جحودهم بعضَ الكتب وتكذيبهم ببعضها. كما:-
7695- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"تؤمنون بالكتاب كله"، أي: بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك، وهم يكفرون بكتابكم، فأنتم أحقّ بالبغضاء لهم، منهم لكم. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وقال:"ها أنتم أولاء" ولم يقل:"هؤلاء أنتم"، (3) ففرق بين"ها و"أولاء" بكناية اسم المخاطبين، لأن العرب كذلك تفعل في"هذا" إذا أرادت به التقريب ومذهب النقصان الذي يحتاج إلى تمام الخبر، (4) وذلك مثل
__________
(1) سياق هذه العبارة: فأنتم ... أولى بعداوتكم إياهم.
(2) الأثر: 7695- سيرة ابن هشام 2: 207، وهو من تمام الآثار السالفة التي آخرها: 7680.
(3) في المخطوطة: "ولم يقل: هذا أنتم"، والصواب ما في المطبوعة، فهو حق السياق.
(4) التقريب" من اصطلاح الكوفيين، وقد فسره السيوطي في همع الهوامع 1: 113، فقال [ذهب الكوفيون إلى أن"هذا" و"هذه"، إذا أريد بها التقريب كانا من أخوات"كان"، في احتياجهما إلى اسم مرفوع وخبر منصوب، نحو: "كيف أخاف الظلم وهذا الخليفة قادمًا؟ "، "وكيف أخاف البرد، وهذه الشمس طالعة؟ "، وكذلك كل ما كان فيه الاسم الواقع بعد أسماء الإشارة لا ثاني له في الوجود، نحو: "هذا ابن صياد أسقى الناس"، فيعربون"هذا" تقريبًا، والمرفوع اسم التقريب، والمنصوب خبر التقريب. لأن المعنى إنما هو عن الخليفة بالقدوم، وعن الشمس بالطلوع، وأتى باسم الإشارة تقريبا للقدوم والطلوع. ألا ترى أنك لم تشر إليهما وهما حاضران؟ وأيضًا، فالخليفة والشمس معلومان، فلا يحتاج إلى تبيينهما بالإشارة إليهما. وتبين أن المرفوع بعد اسم الإشارة يخبر عنه بالمنصوب، لأنك لو أسقطت الإشارة لم يختل المعنى، كما لو أسقطت"كان" من: "كان زيد قائما"] .(7/149)
أن يقال لبعضهم: أين أنت"، فيجيب المقول ذلك له."ها أنا ذا" = (1) فتفرق بين التنبيه و"ذا" بمكنيّ اسم نفسه، (2) ولا يكادون يقولون:"هذا أنا"، ثم يثني ويجمع على ذلك. وربما أعادوا حرف التنبيه مع:"ذا" فقالوا:"ها أنا هذا". ولا يفعلون ذلك إلا فيما كان تقريبًا، (3) فأما إذا كان على غير التقريب والنقصان قالوا:"هذا هو""وهذا أنت". وكذلك يفعلون مع الأسماء الظاهرة، يقولون:"هذا عمرو قائمًا"، إن كان"هذا" تقريبًا. (4) وإنما فعلوا ذلك في المكني مع التقريب، (5) تفرقة بين"هذا" إذا كان بمعنى الناقص الذي يحتاج إلى تمام، وبينه إذا كان بمعنى الاسم الصحيح. (6)
* * *
وقوله:"تحبونهم" خَبَرٌ للتقريب. (7)
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية إبانة من الله عز وجل عن حال الفريقين - أعني المؤمنين والكافرين، ورحمة أهل الإيمان ورأفتهم بأهل الخلاف لهم، وقساوة قلوب أهل الكفر وغلظتهم على أهل الإيمان، كما:-
__________
(1) في المطبوعة: "فيفرق"، والصواب بالتاء، لأنه يريد"العرب". وسياق الكلام: "لأن العرب كذلك تفعل ... فتفرق ... ".
(2) في المخطوطة: "بين التنبيه وأولاء". والذي في المطبوعة أجود وأمضى على السياق، وهو تغيير مستحسن. والظاهر أن الخطأ قديم في نسخ الطبري، بل لعله من فعل أبي جعفر نفسه، وكأنه لما نقل هذا الكلام، وهو كلام الفراء، اختصر أوله فقال: "لأن العرب كذلك تفعل في هذا"، واقتصر عليها، مع أن الفراء ذكر"هذا، وهذان، وهؤلاء". هذا مع اشتغال ذهنه بنص الآية نفسها، فدخل عليه السهو فيما كتب. هذا ما أرجحه والله ولي التوفيق.
(3) انظر معنى"التقريب" فيما سلف ص: 149 تعليق: 4.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن كان ... " بالواو، وإثباتها فساد في الكلام شديد لأنه يعني أنهم ينصبون: "قائما"، إن كان"هذا" بمعنى التقريب. والجملة الآتية مؤيدة لذلك.
(5) انظر معنى"التقريب" فيما سلف ص: 149 تعليق: 4.
(6) في المطبوعة: "وبينه وبين ما إذا كان بمعنى الاسم الصحيح"، زاد من زاد"وبين ما" ظنا منه أن ذلك أقوم في الدلالة على المعنى من عبارة أبي جعفر التي ثبتها من المخطوطة. وقد أساه غاية الإساءة!
(7) يعني بقوله: "خبر للتقريب"، أي هو في موضع نصب خبرًا للتقريب، كما أسلفت بيان ذلك من كلام السيوطي في ص 149، تعليق: 4.(7/150)
هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119)
7696- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله"، فوالله إن المؤمن ليحب المنافق ويأوى له ويرحمه. ولو أن المنافق يقدر على ما يقدر عليه المؤمن منه، لأباد خضراءه. (1)
7697- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: المؤمن خير للمنافق من المنافق للمؤمن، يرحمه. ولو يقدر المنافق من المؤمن على مثل ما يقدر المؤمن عليه منه، لأباد خضراءه.
* * *
وكان مجاهد يقول: نزلت هذه الآية في المنافقين.
7698- حدثني بذلك محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره: أن هؤلاء الذين نهى الله المؤمنين أن يتخذوهم بطانة من دونهم، ووصفهم بصفتهم، إذا لقوا المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أعطوهم بألسنتهم تقيةً حذرًا على أنفسهم منهم فقالوا لهم:"قد آمنا وصدقنا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم"، وإذا هم خلوا فصاروا في خلاء حيث لا يراهم المؤمنون، (2) عضوا - على ما يرون من ائتلاف
__________
(1) أوى له وأوى إليه: رثى له وأشفق عليه ورحمه. ويقال: "أباد خضراءهم"، أي سوادهم ومعظمهم، واستأصلهم. وذلك أن الكثرة المجتمعة، ترى من بعيد سوداء، والعرب تسمى الأخضر، أسود.
(2) انظر تفسير"خلا" فيما سلف 1: 298، 299.(7/151)
المؤمنين واجتماع كلمتهم وصلاح ذات بينهم - أناملَهم، وهي أطراف أصابعهم، تغيُّظًا مما بهم من الموجدة عليهم، وأسىً على ظهرٍ يسنِدون إليه لمكاشفتهم العداوة ومناجزتهم المحاربة. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
7699- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، إذا لقوا المؤمنين قالوا:"آمنا"، ليس بهم إلا مخافة على دمائهم وأموالهم، فصانعوهم بذلك ="وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، يقول: مما يجدون في قلوبهم من الغيظ والكراهة لما هم عليه. لو يجدون ريحًا لكانوا على المؤمنين، (2) فهم كما نعت الله عز وجل.
7700- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = إلا أنه قال: من الغيظ لكراهتهم الذي هم عليه = ولم يقل:"لو يجدون ريحًا"، وما بعده.
7701- حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا مسلم قال: حدثني يحيى بن عمرو بن مالك النُّكري قال، حدثنا أبي قال: كان أبو الجوزاء إذا تلا هذه الآية:"وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، قال: هم الإباضية. (3)
* * *
__________
(1) الظهر: الأعوان والأنصار، كأنهم لمن ينصرونه ظهر.
(2) الريح: القوة والغلبة، ومنه قول تأبط شرًا أو السليك بن السلكة: أَتَنْظُرَانِ قَلِيلا رَيْثَ غَفْلَتِهمْ ... أَوْ تَعْدُوَان، فَإِنَّ الرِّيحَ للعَادِي
(3) الأثر: 7701-"عباس بن محمد بن حاتم" الدوري، روى عنه الأربعة. مترجم في التهذيب. و"مسلم" هو"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي"، مضت ترجمته برقم: 2861. و"يحيى بن عمرو بن مالك النكري". روى عن أبيه، وهو منكر الحديث. و"النكرى" بضم النون وتسكين الكاف، نسبة إلى بني نكرة بن لكيز من عبد قيس. وأبوه"عمرو بن مالك النكري"، ثقة وتكلم فيه البخاري وضعفه. روى عن أبيه وعن أبي الجوزاء. و"أبو الجوزاء" هو"أوس بن عبد الله الربعي من الأزد"، روى عن أبي هريرة وعائشة وابن عباس. كان عابدًا فاضلا. واستضعف البخاري إسناده إلى عائشة وابن مسعود وغيرهما من الصحابة. مترجم في التهذيب.
و"الإباضية"، فرقة من الحرورية، وهم أصحاب عبد الله بن إباض التميمي، الخارج في أيام مروان بن محمد. ومن قولهم: إن مخالفينا من أهل القبلة كفار غير مشركين، ومناكحتهم جائزة، وموارثتهم حلال، وغنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب حلال، وما سواه حرام، وإن دار مخالفيهم من أهل الإسلام دار توحيد. وقالوا: إن مرتكب الكبيرة موحد، لا مؤمن.(7/152)
و"الأنامل" جمع"أنملة" ويقال"أنملة"، (1) وربما جمعت"أنملا"، (2) قال الشاعر: (3)
أوَدُّكُما، مَا بَلَّ حَلْقِيَ رِيقَتِي ... وَما حَمَلَتْ كَفَّايَ أَنْمُلِيَ العَشْرَا (4) وهي أطراف الأصابع; كما:-
7702- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"الأنامل"، أطراف الأصابع.
7702 م - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، بمثله.
7703- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل"، الأصابع.
7704- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي
__________
(1) يعني بفتح الهمزة وضم الميم، وضم الهمزة والميم جميعا.
(2) "أنمل" هذا جمع لم تورده كتب اللغة، وإنما ذكروا"أنملات"، وقالوا إنه أحد ما كسر وسلم بالتاء، قال ابن سيدهْ: "إنما قلت هذا، لأنهم قد يستغنون بالتكسير عن جمع السلامة، وبجمع السلامة بالتكسير، وربما جمع الشيء بالوجهين جميعًا".
(3) لم أعرف قائله.
(4) قوله: "أود كما" أي: لا أود كما، حذفت"لا" مع القسم. والريقة: الريق. وقوله: "ما بل حلقي ريقي ... " إلى آخر البيت بمعنى التأييد، أي. لا أود كما أبدًا ما حييت.(7/153)
الأحوص، عن عبد الله، قوله:"عضوا عليكم الأنامل من الغيظ"، قال: عضوا على أصابعهم. (1)
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) }
قال أب جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"قل"، يا محمد، لهؤلاء اليهود الذين وصفت لك صفتهم، وأخبرتك أنهم إذا لقوا أصحابك قالوا: آمنا، وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ =:"موتوا بغيظكم" الذي بكم على المؤمنين لاجتماع كلمتهم وائتلاف جماعتهم.
وخرَج هذا الكلام مخرج الأمر، وهو دعاء من الله نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم بأن يدعو عليهم بأن يهلكهم الله، كمَدًا مما بهم من الغيظ على المؤمنين، قبل أن يروا فيهم ما يتمنون لهم من العنت في دينهم، والضلالة بعد هداهم، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل يا محمد: أهلكوا بغيظكم ="إن الله عليم بذات الصدور"،
__________
(1) عند هذا آخر قسم من التقسيم القديم، وفي المخطوطة هنا ما نصه: "يتلوه القولُ في تأويل قوله: قُلْ مُوتُوا بِغَيظكم إنَّ الله عليمٌ بذات الصُّدُور وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرًا"
ثم يتلوه بعد:
"بسم الله الرحمن الرحيم
أخبرنا أبو بكر محمد بن داود بن سليمان، قال: حدثنا أبو جعفر محمد بن جرير" ثم انظر ما سلف في بيان هذا الإسناد الجديد للنسخة، في 6: 495، 496 تعليق: 5 / ثم 7: 23، تعليق 1.(7/154)
إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
يعني بذلك: إن الله ذو علم بالذي في صدور هؤلاء الذين إذا لقوا المؤمنين، قالوا:"آمنا"، وما ينطوون لهم عليه من الغل والغم، ويعتقدون لهم من العداوة والبغضاء، وبما في صدور جميع خلقه، حافظٌ على جميعهم ما هو عليه منطوٍ من خير وشر، حتى يجازي جميعهم على ما قدَّم من خير وشر، واعتقد من إيمان وكفر، وانطوى عليه لرسوله وللمؤمنين من نصيحة، أو غِلّ وغِمْر. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"إن تمسسكم حسنة تسؤهم"، إن تنالوا، أيها المؤمنون، سرورًا بظهوركم على عدوكم، وتتابع الناس في الدخول في دينكم، وتصديق نبيكم ومعاونتكم على أعدائكم = يسؤهم. (2) وإن تنلكم مساءة بإخفاق سرية لكم، أو بإصابة عدوٍّ لكم منكم، أو اختلاف يكون بين جماعتكم = يفرحوا بها. كما:-
7705- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها"، فإذا رأوا من أهل الإسلام ألفة وجماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك وساءهم، وإذا رأوا من أهل الإسلام فُرقة واختلافًا، أو أصيب طرف من أطراف المسلمين، سرَّهم
__________
(1) الغمر (بكسر الغين وسكون الميم) ، والغمر (بفتحتين) ، الحقد والغل، الذي يغمر القلب غمرًا.
(2) انظر تفسير"المس" فيما سلف 5: 118.(7/155)
ذلك وأعجبوا به وابتهجوا به. فهم كلما خرج منهم قَرْنٌ أكذبَ الله أحدوثته، وأوطأ محلَّته، وأبطل حجته، وأظهر عورته، فذاك قضاء الله فيمن مضى منهم وفيمن بقى إلى يوم القيامة.
7706- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها"، قال: هم المنافقون، إذا رأوا من أهل الإسلام جماعة وظهورًا على عدوهم، غاظهم ذلك غيظًا شديدًا وساءهم. وإذا رأوا من أهل الإسلام فرقة واختلافًا، أو أصيب طرفٌ من أطراف المسلمين، سرَّهم ذلك وأعجبوا به. قال الله عز وجل:"وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا إن الله بما يعملون محيط".
7707- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قوله:"إن تمسكم حسنه تسؤهم"، قال: إذا رأوا من المؤمنين جماعة وألفة ساءهم ذلك، وإذا رأوا منهم فرقة واختلافًا فرحوا.
* * *
وأما قوله:"وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا، أيها المؤمنون، على طاعة الله واتباع أمره فيما أمركم به، واجتناب ما نهاكم عنه: من اتخاذ بطانة لأنفسكم من هؤلاء اليهود الذين وصف الله صفتهم من دون المؤمنين، وغير ذلك من سائر ما نهاكم ="وتتقوا" ربكم، فتخافوا التقدم بين يديه فيما ألزمكم وأوجبَ عليكم من حقه وحق رسوله ="لا يضركم كيدهم شيئًا"، أي: كيد هؤلاء الذين وصف صفتهم.
* * *
ويعني بـ "كيدهم"، غوائلهم التي يبتغونها للمسلمين، ومكرهم بهم ليصدّوهم عن الهدى وسبيل الحق.
* * *(7/156)
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة قوله:"لا يضركم".
فقرأ ذلك جماعة من أهل الحجاز وبعضُ البصريين: (لا يَضُرُّكُمْ) مخففة بكسر"الضاد"، من قول القائل:"ضارني فلان فهو يضيرني ضيرًا". وقد حكي سماعًا من العرب:"ما ينفعني ولا يضورني"، فلو كانت قرئت على هذه اللغة لقيل: (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) ، ولكني لا أعلم أحدًا قرأ به". (1)
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل المدينة وعامة قرأة أهل الكوفة: (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا) بضم"الضاد" وتشديد"الراء"، من قول القائل: ضرّني فلان فهو يضرني ضرًا".
* * *
وأما الرفع في قوله:"لا يضركم"، فمن وجْهين.
أحدهما: على إتباع"الراء" في حركتها = إذْ كان الأصل فيها الجزم، ولم يمكن جزمها لتشديدها = أقربَ حركات الحروف التي قبلها. وذلك حركة"الضاد" وهي الضمة، فألحقت بها حركة الراء لقربها منها، كما قالوا:"مُدُّ يا هذا".
والوجه الآخر من وجهي الرفع في ذلك: أن تكون مرفوعة على صحة، وتكون"لا" بمعنى"ليس"، وتكون"الفاء" التي هي جواب الجزاء، متروكة لعلم السامع بموضعها.
وإذا كان ذلك معناه، كان تأويل الكلام: وإن تصبروا وتتقوا، فليس يضرُّكم كيدهم شيئًا - ثم تركت"الفاء" من قوله:"لا يضركم كيدهم"، ووجهت"لا" إلى معنى"ليس"، كما قال الشاعر: (2)
فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي ... إلَى قَطَرِيٍّ، لا إخَالُكَ رَاضِيَا (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 232.
(2) هو سوار بن المضرب السعدي التميمي.
(3) نوادر أبي زيد: 45، الكامل 1: 300، حماسة ابن الشجري: 54، 55، معاني القرآن للفراء 1: 232، من أبيات ضرب بها وجه الحجاج بن يوسف الثقفي، لما كتب على بني تميم البعث إلى قتال الخوارج، فهرب سوار وقال: أَقَاتِلِىَ الحَجَّاجُ أَنْ لَمْ أَزُرْ لَهُ ... دَرَابَ، وَأَتْرُكْ عِنْدَ هِنْدٍ فُؤَادِيَا?
فَإن كُنْتَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي ... إلَى قَطَرِيٍّ، لا إِخالُكَ رَاضِيَا!!
إذَا جَاوَزَتْ دَرْبَ المُجِيزِينَ نَاقَتي ... فَبِأسْتِ أبي الحَجَّاجِ لَمَّا ثَنَانِيَا
أَيَرْجُو بَنُو مَرْوَانَ سَمْعِي وطَاعَتِي، ... وَدُونِي تَمِيمٌ، والفَلاةُ وَرَائِيَا!!
وقوله: "دراب" يعني: دراب جرد، وهي بلدة في بلاد فارس، وكان المهلب يومئذ يقاتل بها الخوارج ورأسهم قطرى بن الفجاءة. ثم يقول له في البيت الثاني: إن كان لا يرضبيك إلا ردي إلى قتال قطري، فلا أظنك تبلغ رضاك، فإنك غير مدركي، ولن تنالني يدك. يسخر بسطوة الحجاج. وقوله: "درب المجيزين" هم المقيمون على أبواب المدن والثغور. يمنعون الخارج والداخل، إلا من كان بيده جواز معطى من أميره. يقول: إذا جاوزت الدرب فيا بعد يديك عن أن تنالني وتثنيني عن وجهتي! والشاهد عند الطبري هو في قوله: "لا إخالك راضيًا"، أي: فلست إخالك راضيًا.(7/157)
ولو كانت"الراء" محركة إلى النصب والخفض، كان جائزًا، كما قيل:"مُدَّ يا هذا، ومُدِّ. (1)
* * *
وقوله:"إنّ الله بما يعملون محيطٌ"، يقول جل ثناؤه: إن الله بما يعمل هؤلاء الكفار في عباده وبلاده من الفساد والصدّ عن سبيله، والعداوة لأهل دينه، وغير ذلك من معاصي الله ="محيط" بجميعه، حافظ له، لا يعزب عنه شيء منه، حتى يوفيهم جزاءهم على ذلك كله، ويذيقهم عقوبته عليه. (2)
* * *
__________
(1) الذي سلف هو مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 232.
(2) انظر تفسير"الإحاطة" فيما سلف 2: 284 / 5: 396.(7/158)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين"، وإن تصبروا وتتقوا لا يضرُّكم، أيها المؤمنون، كيد هؤلاء الكفار من اليهود شيئًا، ولكن الله ينصرُكم عليهم إن صبرتم على طاعتي واتباع أمر رسولي، كما نصرتكم ببدر وأنتم أذلة. وإن أنتم خالفتم، أيها المؤمنون، أمري ولم تصبروا على ما كلفتكم من فرائضي، ولم تتقوا ما نهيتكم عنه وخالفتم أمري وأمر رسولي، فإنه نازل بكم ما نزل بكم بأحُد، واذكروا ذلك اليوم، إذ غدا نبيكم يبوئ المؤمنين.
=فترك ذكر الخبر عن أمر القوم إن لم يصبروا على أمر ربهم ولم يتقوه، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام على معناه، إذ ذكر ما هو فاعل بهم من صرف كيد أعدائهم عنهم إن صبروا على أمره واتقوا محارمه، وتعقيبه ذلك بتذكيرهم ما حلّ بهم من البلاء بأحُد، إذ خالف بعضهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وتنازعوا الرأي بينهم.
=وأخرج الخطاب في قوله:"وإذ غدوت من أهلك"، على وجه الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، والمراد بمعناه: الذين نهاهم أن يتخذوا الكفار من اليهود بطانة من دون المؤمنين. فقد بيَّن إذًا أن قوله:"وإذ"، إنما جرَّها في معنى الكلام على ما قد بينت وأوضحت.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في اليوم الذي عنى الله عز وجل بقوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال".
فقال بعضهم: عنى بذلك يوم أحُد.
*ذكر من قال ذلك:(7/159)
7708- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، قال: مشى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ على رجليه يبوئ المؤمنين.
7709- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، ذلك يوم أحد، غدا نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحُد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.
7710- حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، فغدا النبي صلى الله عليه وسلم من أهله إلى أحد يبوئ المؤمنين مقاعد للقتال.
7711- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قوله:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، فهو يوم أحد.
7712- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين"، قال: هذا يوم أحد.
7713- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: مما نزل في يوم أحد:"وإذ غدوت من أهلك تبوئ المؤمنين". (1)
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك يوم الأحزاب.
*ذكر من قال ذلك:
7714- حدثني محمد بن سنان القزاز قال، حدثنا أبو بكر الحنفي قال،
__________
(1) الأثر: 7713- مختصر من سيرة ابن هشام 3: 112.(7/160)
حدثنا عباد، عن الحسن في قوله:"وإذ غدوتَ من أهلك تبوئ المؤمنين مقاعد للقتال"، قال: يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم، غدا يبوئ المؤمنين مقاعدَ للقتال يوم الأحزاب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب قول من قال:"عنى بذلك يوم أحد". لأن الله عز وجل يقول في الآية التي بعدها: (إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) ، ولا خلاف بين أهل التأويل أنه عُنى بالطائفتين: بنو سلمة وبنو حارثة، (1) ولا خلاف بين أهل السير والمعرفة بمغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنّ الذي ذكر الله من أمرهما إنما كان يوم أحد، دون يوم الأحزاب.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف يكون ذلك يوم أحد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم إنما رَاح إلى أحُد من أهله للقتال يوم الجمعة بعد ما صلى الجمعة في أهله بالمدينة بالناس، كالذي حدثكم:-
7715- ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، وغيرهم من علمائنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم راح حين صلَّى الجمعة إلى أحُد، دخل فلبس لأمته، وذلك يوم الجمعة حين فرغ من الصلاة، وقد مات في ذلك اليوم رجل من الأنصار، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم خرج عليهم وقال:"ما ينبغي لنبيّ إذا لبس لأمته أن يضعها حتى يقاتل"؟. (2)
* * *
__________
(1) بنو سلمة (بفتح السين وكسر اللام) ، وليس في العرب"سلمة" بكسر اللام غيرها، وسائرها بفتح اللام. وهم بنو سلمة بن سعد بن علي بن أسد بن سادرة بن تزيد بن جشم بن الخزرج.
(2) الأثر: 7715- إسناده في سيرة ابن هشام 3: 64، ثم اختصر أبو جعفر خبر ابن إسحاق الذي رواه ابن هشام في السيرة 3: 67، 68. واللأمة: هي الدرع الحصينة، وسائر أداة الحرب من السلاح كالسيف والرمح. هذا وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ما ينبغي للنبي صلى الله عليه وسلم". وهذا غير جيد، وكأنه عجلة من الناسخ، وأثبت نص ابن هشام.(7/161)
قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم وإن كان خروجه للقوم كان رَواحًا، (1) فلم يكن تبوئته للمؤمنين مقاعدَهم للقتال عند خروجه، بل كان ذلك قبل خروجه لقتال عدوّه. وذلك أنّ المشركين نزلوا منزلهم من أحُد -فيما بلغنا- يوم الأربعاء، فأقاموا به ذلك اليوم ويومَ الخميس ويومَ الجمعة، حتى راح رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم يوم الجمعة، بعد ما صَلى بأصحابه الجمعة، فأصبح بالشِّعب من أحد يوم السبت للنصف من شوّال.
7716- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن مسلم الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن وغيرهم. (2)
* * *
فإن قال: وكيف كانت تبوئته المؤمنين مقاعدَ للقتال غُدُوًّا قبل خروجه، وقد علمت أن"التبوئة"، اتخاذ الموضع.
قيل: كانت تبوئته إياهم ذلك قبل مناهضة عدوه، عند مشورته على أصحابه بالرأي الذي رآه لهم، بيوم أو يومين، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سمع بنزول المشركين من قريش وأتباعها أحُدًا قال = فيما:-
7717- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط عن السدي = لأصحابه: أشيروا عليَّ ما أصنع؟ " فقالوا: يا رسول الله، اخرج إلى هذه الأكلُب! فقالت الأنصار: يا رسول الله، ما غلبنا عدوٌّ لنا أتانا في ديارنا، فكيف وأنت فينا!! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبيّ ابن سلول، ولم يدعه قط قبلها، فاستشاره، فقال: يا رسول الله، اخرج بنا إلى هذه الأكلب!
__________
(1) الرواح: هو وقت العشى آخر النهار.
(2) الأثر: 7716- جمعه أبو جعفر من مواضع متفرقة من خبر ابن إسحاق في يوم أحد.(7/162)
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعجبه أن يدخلوا عليه المدينة فيقاتلوا في الأزقة، فأتاه النعمان بن مالك الأنصاري فقال: يا رسول الله لا تحرمني الجنة، فوالذي بعثك بالحق لأدخلن الجنة! فقال له: بم؟ قال: بأني أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وأني لا أفرُّ من الزحف! قال:"صدقت. فقُتل يومئذ. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بدرعه فلبسها، فلما رأوه وقد لبس السلاح، ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، نشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم والوحي يأتيه!! فقاموا واعتذروا إليه، وقالوا: اصنع ما رأيت. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا ينبغي لنبيّ أن يلبس لأمته فيضعها حتى يقاتل. (1)
7718- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني ابن شهاب الزهري، ومحمد بن يحيى بن حبان، وعاصم بن عمر بن قتادة، والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ وغيرهم من علمائنا، قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون بالمشركين قد نزلوا منزلهم من أحد، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّي قد رأيتُ بقرًا فأوّلتها خيرًا، ورأيت في ذباب سيفي ثَلْمًا، (2) ورأيت أنّي أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلتها المدينة، فإن رأيتم أن تقيموا بالمدينة وتدعوهم حيث نزلوا، فإن أقاموا أقاموا بشر مقام، وإن هم دخلوا علينا قاتلناهم فيها. وكان رأيُ عبد الله بن أبي ابن سلول مع رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرى رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك: أن لا يخرج إليهم. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكره الخروج من المدينة، فقال رجال من المسلمين ممن أكرم الله بالشهادة يوم أحد، وغيرهم ممن كان فاته بدر وحضروه: يا رسول الله، اخرج بنا إلى أعدائنا، لا يرون أنا جبُنَّا عنهم وضعُفنا! فقال عبد الله بن أبى ابن سلول: يا رسول الله، أقم بالمدينة لا تخرج إليهم، فوالله
__________
(1) الأثر: 7717- هو في تاريخ الطبري 3: 11، 12.
(2) ذباب السيف: طرفه المتطرف الذي يضرب به. والثلم: هو الكسر في حرفه.(7/163)
ما خرجنا منها إلى عدو لنا قط إلا أصاب منا، ولا دخلها علينا قط إلا أصبنا منه، فدعْهم يا رسول الله، فإن أقاموا أقاموا بشرِّ محبِس، وإن دخلوا قاتلهم الرجال في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رَجعوا خائبين كما جاؤوا. فلم يزل الناس برسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كان من أمرهم حُبُّ لقاء القوم، حتى دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لأمته. (1) .
* * *
فكانت تبوئة رسول الله صلى الله عليه وسلم المؤمنين مقاعدَ للقتال، ما ذكرنا من مشورته على أصحابه بالرأي الذي ذكرنا، على ما وصفه الذين حكينا قولهم.
* * *
يقال منه:"بوَّأت القوم منزلا وبوّأته لهم، فأنا أبوِّئهم المنزل تبوئة، وأبوئ لهم منزلا تبوئة".
وقد ذكر أن في قراءة عبد الله بن مسعود: (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِِ) ، وذلك جائز، كما يقال:"رَدِفَك ورَدِفَ لك"، و"نقدت لها صَداقها ونقدتها"، كما قال الشاعر:
أَسْتغِفرُ اللهَ ذَنْبًا لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ وَالعَمَلُ (2)
والكلام: أستغفر الله لذنب. (3) وقد حكي عن العرب سماعًا:"أبأت القوم منزلا فأنا أبيئهم إباءة"، ويقال منه:"أبأت الإبل". إذا رددتها إلى المباءة. و"المباءة"، المُرَاح الذي تبيت فيه.
* * *
"والمقاعد" جمع"مقعد"، وهو المجلس.
* * *
__________
(1) الأثر: 7718- سيرة ابن هشام 3: 66، 67، وهو السابق مباشرة للأثر السالف رقم: 7751، وهو من تمامه.
(2) مضى تخريجه فيما سلف 1: 169، وهو في معاني القرآن للفراء 1: 233.
(3) هذه الفقرة من معاني القرآن للفراء 1: 233.(7/164)
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام: واذكر إذ غدوت، يا محمد، من أهلك تتخذ للمؤمنين معسكرًا وموضعًا لقتال عدوهم.
* * *
وقوله:"والله سميع عليم"، يعني بذلك تعالى ذكره:"والله سميع"، لما يقول المؤمنون لك فيما شاورتهم فيه، من موضع لقائك ولقائهم عدوّك وعدوّهم، من قول من قال:"اخرج بنا إليهم حتى نلقاهم خارج المدينة"، وقول من قال لك:"لا تخرج إليهم وأقم بالمدينة حتى يدخلوها علينا"، على ما قد بينا قبل - ولما تشير به عليهم أنت يا محمد = (1) "عليم" بأصلح تلك الآراء لك ولهم، وبما تخفيه صدور المشيرين عليك بالخروج إلى عدوك، وصدور المشيرين عليك بالمقام في المدينة، وغير ذلك من أمرك وأمورهم، كما:-
7719- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في قوله:"والله سميع عليم"، أي: سميع لما يقولون، عليم بما يخفون. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " ومما تشير به. . ."، والصواب الذي يقتضيه السياق، هو ما أثبت.
(2) الأثر: 7719- سيرة ابن هشام 3: 112، وهو تابع الأثر السالف رقم: 7713.(7/165)
إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122)
القول في تأويل قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله سميع عليم، حين همت طائفتان منكم أن تفشلا.
والطائفتان اللتان همتا بالفشل، ذكر لنا أنهم بنو سَلِمة وبنو حارثة. (1)
__________
(1) انظر ضبط"سلمة" ص: 161 تعليق: 1.(7/165)
*ذكر من قال ذلك:
7720- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، قال: بنو حارثة، كانوا نحو أحُد، وبنو سلِمة نحو سَلْع، وذلك يوم الخندق.
* * *
قال أبو جعفر: وقد دللنا على أن ذلك كان يوم أحد فيما مضى، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1)
* * *
7721- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، الآية، وذلك يوم أحد، والطائفتان: بنو سلِمة وبنو حارثة، حيان من الأنصار، همُّوا بأمر فعصمهم الله من ذلك = قال قتادة: وقد ذكر لنا أنه لما أنزلت هذه الآية قالوا: ما يسرُّنا أنَّا لم نَهُمَّ بالذي هممنا به، وقد أخبرنا الله أنه ولينا.
7722- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قوله:"إذ همت طائفتان منكم" الآية، وذلك يوم أحد، فالطائفتان بنو سلمة وبنو حارثة، حيان من الأنصار. فذكر مثل قول قتادة.
7723- حدثنا محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل، قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أحد في ألف رجل، وقد وعدهم الفتحَ إن صبروا. فلما رجع عبد الله بن أبي ابن سلول في ثلاثمائة فتبعهم أبو جابر السلمي يدعوهم، فلما غلبوه وقالوا له: ما نعلم قتالا ولئن أطعتنا لترجعنَّ معنا = وقال [الله عز وجل] :"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، وهم بنو سلمة وبنو حارثة = هموا بالرجوع حين رجع عبد الله بن أبي، فعصمهم
__________
(1) انظر ما سلف ص: 161 وما قبلها.(7/166)
الله، وبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبعمئة. (1)
7724- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عكرمة: نزلت في بني سلِمة من الخزرج، وبني حارثة من الأوس، ورأسهم عبد الله بن أبيّ ابن سلول.
7725- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، فهو بنو حارثة وبنو سلمة.
7726- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، والطائفتان: بنو سلمة من جشم بن الخزرج، وبنو حارثة من النبيت من الأوس، وهما الجناحان. (2)
7727- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد، عن الحسن في قوله:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا" الآية، قال: هما طائفتان من الأنصار هَّما أن يفشلا فعصمهم الله، وهزَم عدوهم.
7728- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"،قال: هم بنو سلمة وبنو حارثة، وما نحبُّ أن لو لم نكن هممنا لقول الله عز وجلّ:"والله وليهما". (3) .
7729- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول، فذكر نحوه.
__________
(1) الأثر: 7723- في تاريخ الطبري 3: 12، وهو تمام الأثر السالف رقم: 7177، والزيادة بين القوسين من التاريخ.
(2) الأثر: 7726- سيرة ابن هشام 3: 112، وهو من تتمة الأثر السالف رقم: 7791.
(3) الأثر: 7728- رواه البخاري في صحيحه (الفتح 7: 275 / 8: 169) من طريق علي بن عبد الله، عن سفيان بن عيينة، بغير هذا اللفظ. وكان في المطبوعة: "وما نحب أن لو لم تكن همتا"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ولكن الناشر لم يحسن قراءتها.(7/167)
7730- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا"، قال: هذا يوم أحد.
* * *
وأما قوله:"أن تفشلا"، فإنه يعني: همَّا أن يضعفا ويجبنا عن لقاء عدوّهما.
* * *
=يقال منه:"فشل فلان عن لقاء عدوه ويفشل فشلا"، كما:-
7731- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"الفشل"، الجبن.
* * *
قال أبو جعفر: وكان همُّهما الذي همَّا به من الفشل، الانصرافَ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين حين انصرف عنهم عبد الله بن أبي ابن سلول بمن معه، جبنًا منهم، من غير شك منهم في الإسلام ولا نفاق، فعصمهم الله مما هموا به من ذلك، ومضوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لوجهه الذي مضى له، وتركوا عبد الله بن أبي ابن سلول والمنافقين معه، فأثنى الله عز وجل عليهما بثبوتهما على الحق، وأخبر أنه وليُّهما وناصرهما على أعدائهما من الكفار، (1) كما:
7732- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"والله وليُهما"، أي: المدافع عنهما ما همَّتا به من فشلهما. (2) وذلك أنه إنما كان ذلك منهما عن ضعف ووهن أصابهما، من غير شك أصابهما في دينهما، فتولى دفع ذلك عنهما برحمته وعائدته حتى سلمتا من وهنهما وضعفهما، ولحقتا بنبِّيهما صلى الله عليه وسلم. يقول:"وعلى الله فليتوكل المؤمنون"، أي: من كان به ضعف من المؤمنين أو وهَن،
__________
(1) انظر تفسير"الولي" فيما سلف 6: 497 تعليق: 1. والمراجع هناك.
(2) في المطبوعة: "الدافع عنهما"، وأثبت ما في المخطوطة وسيرة ابن هشام. وفي المطبوعة والمخطوطة"ما هما به"، وهو صواب، ولكني أثبت نص ابن هشام، فهو أقوم على السياق، والتصحيف في مثل هذا قريب، ولست أظنه من أصل الطبري.(7/168)
وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
فليتوكل عليّ، وليستعن بي أعنِه على أمره، وأدفع عنه، حتى أبلغ به وأقوّيه على نيته. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وذكر أن ابن مسعود رضي الله عنه كان يقرأ: (" وَاللهُ وَليُّهُمْ ") ، وإنما جاز أن يقرأ ذلك كذلك، لأن"الطائفتين" وإن كانتا في لفظ اثنين، فإنهما في معنى جماع، بمنزلة"الخصمين" و"الحزبين". (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئًا، وينصركم ربكم، ="ولقد نصركم الله ببدر" على أعدائكم وأنتم يومئذ ="أذلة" يعني: قليلون، في غير منعة من الناس، حتى أظهركم الله على عدوكم، مع كثرة عددهم وقلة عددكم، وأنتم اليوم أكثر عددًا منكم حينئذ، فإن تصبروا لأمر الله ينصركم كما نصركم ذلك اليوم، ="فاتقوا الله"، يقول تعالى ذكره: فاتقوا ربكم بطاعته واجتناب محارمه ="لعلكم تشكرون"، يقول: لتشكروه على ما منَّ به عليكم من النصر على أعدائكم وإظهار دينكم، ولما هداكم له من الحق الذي ضلّ عنه مخالفوكم، كما:-
__________
(1) الأثر: 7732- سيرة ابن هشام 3: 112، 113، وهو من سياق الأثر السالف رقم: 7726.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 133.(7/169)
7733- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة"، يقول: وأنتم أقل عددًا وأضعف قوة ="فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، أي: فاتقون، فإنه شكر نعمتي. (1)
* * *
واختلف في المعنى الذي من أجله سمي بدر"بدرًا".
فقال بعضهم: سمي بذلك، لأنه كان ماء لرجل يسمى"بدرًا"، فسمي باسم صاحبه.
*ذكر من قال ذلك:
7734- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن زكريا، عن الشعبي قال: كانت"بدر" لرجل يقال له"بدر"، فسميت به.
* * *
7735- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا زكريا، عن الشعبي أنه قال:"ولقد نصركم الله ببدر"، قال: كانت"بدر" بئرًا لرجل يقال له"بدر"، فسميت به.
وأنكر ذلك آخرون وقالوا: ذلك اسم سميت به البقعة، كما سمى سائر البلدان بأسمائها.
*ذكر من قال ذلك:
7736- حدثنا الحارث بن محمد قال، حدثنا ابن سعد قال، حدثنا محمد بن عمر الواقدي قال، حدثنا منصور، عن أبي الأسود، عن زكريا، عن الشعبي قال: إنما سمي"بدرًا"، لأنه كان ماء لرجل من جهينة يقال له"بدر" = وقال الحارث، قال ابن سعد، قال الواقدي: فذكرت ذلك لعبد الله بن جعفر ومحمد بن صالح فأنكراه وقالا فلأيّ شيء سميت"الصفراء"؟ ولأي شيء سميت
__________
(1) الأثر: 7733- سيرة ابن هشام 3: 113، هو بقية الآثار التي آخرها رقم: 7732، وسياق أبي جعفر في روايته، أقوم من سياق ابن هشام.(7/170)
"الحمراء"؟ ولأيّ شيء سمي"رابغ"؟ هذا ليس بشيء، إنما هو اسم الموضع = قال: وذكرت ذلك ليحيى بن النعمان الغفاريّ فقال: سمعت شيوخنا من بني غفار يقولون: هو ماؤنا ومنزلنا، وما ملكه أحدٌ قط يقال له"بدر"، وما هو من بلاد جهينة، إنما هي بلاد غِفار = قال الواقدي: فهذا المعروف عندنا.
7737- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول:"بدر"، ماء عن يمين طريق مكة، بين مكة والمدينة.
* * *
وأما قوله:"أذلة"، فإنه جمع"ذليل"، كما"الأعزة" جمع"عزيز"،"والألِبَّة" جمع"لبيب".
* * *
قال أبو جعفر: وإنما سماهم الله عز وجل"أذلة"، لقلة عددهم، لأنهم كانوا ثلثمئة نفس وبضعة عشر، وعدوهم ما بين التسعمئة إلى الألف -على ما قد بينا فيما مضى- فجعلهم لقلة عددهم"أذلة".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
7738- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، وبدر ماء بين مكة والمدينة، التقى عليه نبي الله صلى الله عليه وسلم والمشركون، وكان أول قتال قاتله نبي الله صلى الله عليه وسلم = وذكر لنا أنه قال لأصحابه يومئذ:"أنتم اليوم بعدَّة أصحاب طالوت يوم لقى جالوت": فكانوا ثلثمئة وبضعة عشر رجلا والمشركون يومئذ ألفٌ، أو راهقوا ذلك. (1)
__________
(1) الأثر: 7738- مضى بعضه برقم: 5730، وانظر عدة أهل بدر فيما سلف من 5724 - 5732. وقوله: "راهقوا ذلك" أي: قاربوا ذلك.(7/171)
7739- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر، عن عباد، عن الحسن في قوله:"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، قال: يقول:"وأنتم أذلة"، قليل، وهم يومئذ بضعة عشر وثلثمئة.
7740- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحو قول قتادة.
7741- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة"، أقل عددًا وأضعف قوة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، فإن تأويله، كالذي قد بيَّنت، كما:-
7742- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق:"فاتقوا الله لعلكم تشكرون"، أي: فاتقوني، فإنه شكر نعمتي. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 7741- سيرة ابن هشام 3: 113، وهو بعض الأثر السالف قريبًا رقم: 7733.
(2) الأثر: 7742- سيرة ابن هشام 3: 113، وهو أيضًا بعض الأثر: 7733. وكان في المطبوعة والمخطوطة هنا"نعمى"، وأثبت ما مضى في المخطوطة والمطبوعة في الأثر السالف، وهو مطابق نص ابن هشام.(7/172)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125)
القول في تأويل قوله: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزِلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة، إذ تقول للمؤمنين بك من أصحابك: ألن يكفيكم أن يمدكم ربَكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين؟ وذلك يوم بدر.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في حضور الملائكة يوم بدر حرَبهم، في أيّ يوم وُعدوا ذلك؟
فقال بعضهم: إن الله عز وجل كان وعد المؤمنين يوم بدر أن يمدَّهم بملائكته، إن أتاهم العدو من فورهم، فلم يأتوهم، ولم يُمَدُّوا. (1)
*ذكر من قال ذلك:
7743- حدثني حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر قال، حُدِّث المسلمون أن كُرز بن جابر المحاربي يُمِدُّ المشركين، قال: فشق ذلك على المسلمين، فقيل لهم:"ألن يكفيَكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين * بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومِّين"، قال: فبلغت كرزًا الهزيمة، فرجع، ولم يمدّهم بالخمسة.
__________
(1) في المخطوطة: "ولم يعدوا"، وهو خطأ صرف. هذا والمخطوطة في هذا الموضع كثيرة الخطأ فيما هو واضح كهذا الحرف الذي أثبته، ولذلك أغفلت كثيرًا من أشباهه، ونبهت عليه.(7/173)
7744- حدثني ابن المثني قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر قال: لما كان يوم بدر بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم = ثم ذكر نحوه، إلا أنه قال:"ويأتوكم من فورهم هذا" -يعني كرزا وأصحابه-"يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين"، قال: فبلغ كرزًا وأصحابه الهزيمة، فلم يمدهم، ولم تنزل الخمسة، وأمِدّوا بعد ذلك بألف، فهم أربعة آلاف من الملائكة مع المسلمين.
7745- حدثني محمد بن سنان قال، حدثنا أبو بكر الحنفي، عن عباد عن الحسن في قوله:"إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة"، الآية كلها، قال: هذا يوم بدر.
7746- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: حُدِّث المسلمون أن كرزَ بن جابر المحاربي يريد أن يمدّ المشركين ببدر، قال: فشق ذلك على المسلمين؛ فأنزل الله عز وجلّ:"ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم" إلى قوله:"من الملائكة مسومِّين"، قال: فبلغته هزيمة المشركين، فلم يمدّ أصحابه، ولم يمدُّوا بالخمسة.
* * *
وقال آخرون: كان هذا الوعد من الله لهم يوم بدر، فصبر المؤمنون واتقوا الله، فأمدهم بملائكته على ما وعدهم.
*ذكر من قال ذلك:
7747- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة قال: سمعت أبا أسيد مالك بن ربيعة بعد ما أصيب بصره يقول: لو كنت معكم ببدر الآن(7/174)
ومعي بَصَري، لأخبرتكم بالشِّعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشُك ولا أتمارى.
7748- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال ابن إسحاق، وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة، عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، وكان شهد بدرًا: أنه قال بعد إذ ذهب بصره: لو كنت معكم اليوم ببدر ومعي بصري، لأريتكم الشِّعب الذي خرجت منه الملائكة، لا أشك ولا أتمارَى. (1)
7749- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني عبد الله بن أبي بكر: أنه حُدِّث عن ابن عباس: أن ابن عباس قال: حدثني رجل من بني غفار قال: أقبلت أنا وابن عمّ لي حتى أصعدنا في جبل يُشرف بنا على بدر، ونحن مشركان، ننتظر الوقعة، على من تكون الدَّبْرة فننتهِبُ مع من ينتهب. (2) قال: فبينا نحن في الجبل، إذ دنت منا سحابة، فسمعنا فيها حمحمة الخيل، فسمعت قائلا يقول: أقدم حيزوم. (3) قال: فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه، (4) وأما أنا فكدت أهلك، ثم تماسكت. (5)
7750- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق قال، وحدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم مولى عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس قال: لم تُقاتل الملائكة في يوم من الأيام سوى يوم بدر، وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عَددًا ومَددًا لا يضربون. (6)
7751- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد بن إسحاق،
__________
(1) الأثران: 7747، 7748 - سيرة ابن هشام 2: 286، وانظره بإسناد آخر يأتي برقم: 7777 مع اختلاف في لفظه، ومع نسبته إلى يوم أحد، لا يوم بدر. وانظر التعليق عليه هناك.
(2) الدبرة (بفتح الدال وسكون الباء، وبفتحتين أيضًا) والدابرة: الهزيمة في القتال، وهي اسم من"الإدبار". يقال: على من الدبرة؟ أي الهزيمة. ثم يقال: لمن الدبرة؟ أي لمن الدولة والظفر.
(3) قوله: "أقدم" هي كلمة زجر تزجر بها الخيل، وأمر لها بالتقدم. وحيزوم: اسم فرس من خيل الملائكة يومئذ. ويقال هو فرس جبريل عليه السلام. هذا وفي المخطوطة: "إذ ذهب منا سحابة" وهو تصحيف.
(4) قناع القلب: غشاؤه، تشبيهها له بقناع المرأة الذي تلبسه.
(5) الأثر: 7749- سيرة ابن هشام 2: 285.
(6) الأثر: 7750- سيرة ابن هشام 2: 286.(7/175)
حدثني أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بني مازن بن النجار، عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرًا قال: إني لأتبعُ رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أن قد قتله غيري. (1)
7752- حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، قال محمد: حدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس قال: قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: كنت غلامًا للعباس بن عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهلَ البيت، فأسلم العباس وأسلمتْ أم الفضل وأسلمتُ. وكان العباس يهاب قومه ويكرَهُ أن يخالفهم، وكان يكتم إسلامه، وكان ذا مال كثير متفرق في قومه. وكان أبو لهب عدوّ الله قد تخلَّف عن بدر وبعث مكانه العاصى بن هشام بن المغيرة. وكذلك صنعوا، لم يتخلَّف رجل إلا بعث مكانه رجلا. فلما جاء الخبرُ عن مُصاب أصحاب بدر من قريش كبته الله وأخزاه، ووجدنا في أنفسنا قوة وعِزًّا. (2) قال: وكنت رجلا ضعيفًا، وكنت أعمل القِداح أنحتها في حجرة زمزم، فوالله إني لجالس فيها أنحت القداح، وعندي أم الفضل جالسة، وقد سرَّنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل الفاسق أبو لهب يجرُّ رجليه بشرٍّ حتى جلس على طُنُب الحجرة، (3) فكان ظهره إلى ظهري. فبينا هو جالس إذ قال الناس: هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب قد قدم! قال: قال أبو لهب: هلُمّ إليّ يا ابن أخي، فعندك الخبر! قال: فجلس إليه والناس قيام عليه، فقال: يا ابن أخي أخبرني، كيف كان أمرُ الناس؟ قال: لا شيء والله، إن كان إلا أن لقيناهم فمنحناهم أكتافنا يقتلوننا ويأسروننا كيف شاؤوا! وايم الله،
__________
(1) الأثر: 7751- سيرة ابن هشام 2: 286.
(2) في المطبوعة: "قوة وعونة"، وليست بشيء، وفي المخطوطة"قوة وعبدا" وصواب قراءتها ما أثبته من سيرة ابن هشام.
(3) طنب الحجرة: جانبها المسدل. أخذ من طنب الخباء، وهو الحبل يشد به إلى الأرض.(7/176)
مع ذلك ما لمتُ الناس، لقينا رجالا بيضًا على خيل بلق ما بين السماء والأرض ما تلِيق شيئًا، ولا يقوم لها شيء. (1) قال أبو رافع: فرفعت طنب الحجرة بيدي ثم قلت: تلك الملائكة! (2)
7753- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد قال، حدثني الحسن بن عمارة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس قال: كان الذي أسر العباس أبا اليَسَر كعب بن عمرو أخو بني سلِمة، (3) وكان أبو اليسر رَجلا مجموعًا، (4) وكان العباس رجلا جسيما، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي اليسر:"كيف أسرت العباس أبا اليسر؟! قال: يا رسول الله، لقد أعانني عليه رجلٌ ما رأيته قبل ذلك ولا بعده، هيئته كذا وكذا! (5) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لقد أعانك عليه ملك كريم". (6)
7754- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، قوله:"ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين"، أمدوا بألف، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف ="بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين"،
__________
(1) يقال الكريم: "فلان لا يليق شيئًا" من"ألاق"، أي: ما يحبس شيئا ولا يمسكه. ويقال للسيف: "سيف لا يليق شيئًا"، أي: ما يرد ضربته شيء. وهذا الأخير هو المراد هنا. وكان في المطبوعة: "ما يليق لها شيء" بدل ما في المخطوطة، إذ لم يفهمه. وأثبت ما في المخطوطة والسيرة.
(2) الأثر: 7752- سيرة ابن هشام 2: 301، مع اختلاف يسير في بعض اللفظ.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "أبا اليسر ... أخا بني سلمة"، وأثبت ما في التاريخ، فهو أجود عربية.
(4) قوله: "مجموعًا"، يعني: قد اجتمع خلقه فلم يبسط، وهو نقيض الجسيم، كما يظهر من سياق الأثر. ولم أجده في كتب اللغة التي بين يدي.
(5) في المخطوطة: "هيئته كذا، هيئته كذا"، وتركت ما في المطبوعة على حاله، لأنه مطابق لما في التاريخ.
(6) الأثر: 7753- لم أجده في المطبوع من سيرة ابن هشام، وهو في تاريخ الطبري 2: 288، 289.(7/177)
وذلك يوم بدر، أمدَّهم الله بخمسة آلاف من الملائكة.
7755- حدثت عن عمار، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه، عن الربيع، بنحوه.
7756- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، (1) عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوِّمين"، فإنهم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم مسوِّمين.
7757- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا سفيان، عن ابن خثيم، عن مجاهد قال: لم تقاتل الملائكة إلا يوم بدر.
* * *
وقال آخرون: إن الله عز وجلّ: إنما وعدهم يوم بدر أن يمدَّهم إن صبروا عند طاعته وجهاد أعدائه، واتقوه باجتناب محارمه، أن يمدهم في حروبهم كلها، فلم يصبروا ولم يتقوا إلا في يوم الأحزاب، فأمدَّهم حين حاصروا قريظة.
*ذكر من قال ذلك:
7758- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا سليمان بن زيد أبو إدام المحاربي، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا محاصري قريظة والنضير ما شاء الله أن نحاصرهم، فلم يفتح علينا، فرجعنا، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بماء فهو يغسل رأسه، (2) إذ جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، وضعتم أسلحتكم ولم تضع الملائكة أوزارها! فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخرقة، فلفَّ بها رأسه ولم يغسله، ثم نادى فينا فقمنا
__________
(1) "قال حدثني أبي" هذه، سقطت من المطبوعة، والصواب من المخطوطة، وهو إسناد دائر في التفسير.
(2) في المطبوعة: "فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يغسل رأسه"، وهو تصرف لا شك فيه من ناشر أو ناسخ آخر، فإن الذي في المخطوطة: "فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو يغسل رأسه"، لما سقط من الجملة قوله: "بماء"، تصرف الناسخ، وما كان له أن يفعل! والصواب كما أثبته، مطابقًا لما في الخصائص الكبرى للسيوطي. وانظر البغوي (بهامش ابن كثير) 2: 235.(7/178)
كالِّين مُعْيِينَ لا نعبأ بالسير شيئًا، (1) حتى أتينا قريظة والنضير، فيومئذ أمدنا الله عز وجل بثلاثة آلاف من الملائكة، وفتح اللهُ لنا فتحًا يسيرًا، فانقلبنا بنعمة من الله وفضل. (2)
* * *
وقال آخرون بنحو هذا المعنى، غير أنهم قالوا: لم يصبر القوم ولم يتقوا ولم يُمدوا بشيء في أحُد.
* ذكر من قال ذلك:
7759- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، حدثني عمرو بن دينار، عن عكرمة، سمعه يقول:"بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا"، قال: يوم بدر. قال: فلم يصبروا ولم يتقوا فلم يمدوا يوم أحد، ولو مُدُّوا لم يُهزموا يومئذ.
__________
(1) في المخطوطة: "فقمنا كالبر معين" غير منقوطة، فلم يحسن الناشر أن يقرأها، فجعلها في المطبوعة: "كالزمعين"، فجاء معلق على التفسير ففسر الكلمة تفسيرًا لا يصلح أن يكون كلامًا ها هنا، فخرج الكلام تصحيفًا وخلطًا معًا!! وأما السيوطي في الخصائص الكبرى، فالظاهر أنه لم يحسن هو أيضًا قراءة المخطوطة، أو كانت في نسخة مصحفة عنده كمثل هذا التصحيف، فأسقط الجملة كلها وساق الكلام هكذا: "فقمنا حتى أتينا بني قريظة". وكذلك فعل البغوي. وصواب القراءة هو ما أثبت، وهو مطابق لصفة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في مخرجهم إلى بني قريظة. يقال"كل الرجل يكل من المشي فهو كال": إذا بلغ منه التعب والإعياء. ويقال: "أعيى الرجل والبعير وغيره يعيي إعياء فهو معي"، إذا أكله السير وطلحه وبرح به. يقول: فقمنا وقد بلغ منا ومن دوابنا التعب.
(2) الأثر: 7785- أخرجه السيوطي في الخصائص الكبرى 1: 233 نقلا عن ابن جرير في تفسيره هذا. و"عبيد الله بن موسى بن أبي المختار العبسي"، مضت ترجمته برقم: 5796، وكان في المخطوطة والمطبوعة: "عبد الله بن موسى"، وهو خطأ. وأما "سليمان بن زيد أبو إدام المحاربي" فهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2 / 2 / 15، وابن أبي حاتم 2 / 1 / 117، قال يحيى بن معين"ليس بثقة، كذاب، ليس يسوى حديثه فلسًا". وقال النسائي: "متروك الحديث". وكان في المطبوعة: "أبو آدم" وهو خطأ، ومثله في التهذيب في ترجمته، وهو خطأ أيضًا صوابه ما أثبت من المخطوطة. و"عبد الله بن أبي أوفى الأسلمي"، شهد بيعة الرضوان، ومات رضي الله عنه سنة 88، كما صححه الذهبي في تاريخه.
وهذا الأثر، وإن كان إسناده لا يقوم، فإن معناه يشبه أن يكون حقًا، لموافقته ما جاءت به الرواية عن غزوة بني قريظة في الروايات الصحيحة عن غير عبد الله بن أبي أوفى.(7/179)