معنى أوجبت لها الصحة دون غيرها. وأما إذا كانت المعاني في جميعها متفقة، فلا وجه للحكم لبعضها بأنه أولى أن يكون مقروءا به من غيره.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: لا حرج عليكم، أيها الناس، لأن طلقتم النساء وقد فرضتم لهن ما لم تماسوهن، (1) وإن طلقتموهن ما لم تماسوهن قبل أن تفرضوا لهن، ومتعوهن جميعا على ذي السعة والغنى منكم من متاعهن حينئذ بقدر غناه وسعته، وعلى ذي الإقتار والفاقة منكم منه بقدر طاقته وإقتاره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومتعوهن متاعا. وقد يجوز أن يكون"متاعا" منصوبا قطعا من"القدر". (2) لأن"المتاع" نكرة، و"القدر" معرفة.
* * *
ويعني بقوله:"بالمعروف"، بما أمركم الله به من إعطائكم إياهن ذلك، (3) بغير ظلم، ولا مدافعة منكم لهن به. (4)
ويعني بقوله:"حقا على المحسنين"، متاعا بالمعروف الحق على المحسنين. فلما دل إدخال"الألف واللام" على"الحق"، وهو من نعت"المعروف"، و"المعروف" معرفة، و"الحق" نكرة، نصب على القطع منه، (5) كما يقال:"أتاني الرجل راكبا".
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "لأن طلقتم النساء" والسياق يقتضي صواب ما أثبت.
(2) القطع: الحال، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة.
(3) في المطبوعة: "من إعطائكم لهن ذلك"، وفي المخطوطة"إعطائكم هن" قد سقط منها"إيا".
(4) انظر معنى"المعروف" فيما سلف 3: 371 / ثم 4: 547، 548 / 5: 7، 44، 76، 93.
(5) القطع: الحال، وانظر فهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة.(5/137)
وجائز أن يكون نصب على المصدر من جملة الكلام الذي قبله، كقول القائل:"عبد الله عالم حقا"، ف"الحق" منصوب من نية كلام المخبر، كأنه قال: أخبركم بذلك حقا. (1)
والتأويل الأول هو وجه الكلام، لأن معنى الكلام: فمتعوهن متاعا بمعروف حق على كل من كان منكم محسنا.
* * *
وقد زعم بعضهم أن ذلك منصوب بمعنى: أحق ذلك حقا. والذي قاله من ذلك، بخلاف ما دل عليه ظاهر التلاوة. لأن الله تعالى ذكره جعل المتاع للمطلقات حقا لهن على أزواحهن، فزعم قائل هذا القول أن معنى ذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عن نفسه أنه يحق أن ذلك على المحسنين. فتأويل الكلام إذا- إذ كان الأمر كذلك-: ومتعوهن على الموسع قدره، وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف الواجب على المحسنين.
* * *
ويعني بقوله:"المحسنين"، الذين يحسنون إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله فيما ألزمهم به، وأدائهم ما كلفهم من فرائضه.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إنك قد ذكرت أن"الجناح" هو الحرج، (2) وقد قال الله تعالى ذكره:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، فهل علينا من جناح لو طلقناهن بعد المسيس، فيوضع عنا بطلاقنا إياهن قبل المسيس؟ قيل: قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إن الله لا يحب الذواقين ولا الذواقات". (3)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 154-155.
(2) انظر معنى"الجناح" في فهارس اللغة عن هذا الجزء والأجزاء السالفة.
(3) رجل ذواق: مطلاق كثير النكاح، كثير الطلاق، وكذلك المرأة. والذوق: استطراف النكاح وقتا بعد وقت، كأنه يذوق ويختبر، ثم يتحول ليذوق غيره.(5/138)
5244- حدثنا بذلك ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن شهر بن حوشب، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
* * *
وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ما بال أقوام يلعبون بحدود الله، يقولون: قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك".
5245- حدثنا بذلك ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
* * *
فجائز أن يكون"الجناح" الذي وضع عن الناس في طلاقهم نساءهم قبل المسيس، هو الذي كان يلحقهم منه بعد ذوقهم إياهن، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) الحديث: 5244- شهر بن حوشب: تابعي ثقة، كما بينا في: 1489. فالحديث بهذا الإسناد مرسل. وقد ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 335، من حديث عبادة بن الصامت. وقال: "رواه الطبراني، وفيه راو لم يسم. وبقية إسناده حسن". وذكر أيضًا حديثا لأبي موسى، مرفوعا: "لا تطلق النساء إلا من ريبة، إن الله تبارك وتعالى لا يحب الذواقين ولا الذواقات". وقال: "رواه الطبراني في الكبير والأوسط. وأحد أسانيد البزار فيه عمران القطان، وثقه أحمد وابن حبان، وضعفه يحيى بن سعيد وغيره". وليس بين يدي أسانيد هذين الحديثين، حتى أعرف مدى درجاتهما، ولا أن شهر بن حوشب روى واحدا منها. وقوله: "الذواقين والذواقات"- قال ابن الأثير: "يعني السريعي النكاح السريعي الطلاق". وذكره الزمخشري في المجاز من كتاب الأساس. وقال: "كلما تزوج أو تزوجت، مد عينه أو عينها إلى أخرى أو آخر".
(2) الحديث: 5245- هذا إسناد صحيح. ورواه ابن ماجه: 2017، عن محمد بن بشار -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد. وقد مضت الإشارة إليه، وإلى ما قيل في تعليله والرد عليه. وإلى رواية البيهقي إياه من هذا الوجه ومن رواية موسى بن مسعود عن سفيان الثوري= في: 4925، 4926. ولم نكن رأينا رواية الطبري - هذه، إذ ذاك.(5/139)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
وقد كان بعضهم يقول: معنى قوله في هذا الموضع:"لا جناح"، لا سبيل عليكم للنساء- إن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن، ولم تكونوا فرضتم لهن فريضة -في إتباعكم بصداق ولا نفقة. وذلك مذهب، لولا ما قد وصفت من أن المعني بالطلاق قبل المسيس في هذه الآية صنفان من النساء: أحدهما المفروض لها، والآخر غير المفروض لها. فإذ كان ذلك كذلك، فلا وجه لأن يقال: لا سبيل لهن عليكم في صداق، إذا كان الأمر على ما وصفنا.
* * *
وقد يحتمل ذلك أيضا وجها آخر: وهو أن يكون معناه: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن، في أي وقت شئتم طلاقهن. لأنه لا سنة في طلاقهن، فللرجل أن يطلقهن إذا لم يكن مسهن حائضا وطاهرا في كل وقت أحب. وليس ذلك كذلك في المدخول بها التي قد مست، لأنه ليس لزوجها طلاقها إن كانت من أهل الأقراء- إلا للعدة طاهرا في طهر لم يجامع فيه. فيكون"الجناح" الذي أسقط عن مطلق التي لم يمسها في حال حيضها، (1) هو"الجناح" الذي كان به مأخوذا المطلق بعد الدخول بها في حال حيضها، أو في طهر قد جامعها فيه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلا أَنْ يَعْفُونَ}
قال أبو جعفر: وهذا الحكم من الله تعالى ذكره، إبانة عن قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة". (2) وتأويل ذلك:
__________
(1) في المخطوطة: "لم يمسهن" وهو خطأ وسهو.
(2) في المخطوطة: "ما لم تماسوهن"، وهي قراءة الطبري كما أسلفنا مرارا. وستأتي على قراءته في تأويل الآية.(5/140)
لا جناح عليكم أيها الناس إن طلقتم النساء ما لم تماسوهن وقد فرضتم لهن فريضة، فلهن عليكم نصف ما كنتم فرضتم لهن من قبل طلاكم إياهن، يعني بذلك: فلهن عليكم نصف ما أصدقتموهن.
وإنما قلنا: إن تأويل ذلك كذلك، لما قد قدمنا البيان عنه من أن قوله:"أو تفرضوا لهن فريضه"، بيان من الله تعالى ذكره لعباده حكم غير المفروض لهن إذا طلقهن قبل المسيس. فكان معلوما بذلك أن حكم اللواتي عطف عليهن ب"أو"، غير حكم المعطوف بهن بها.
وإنما كرر تعالى ذكره قوله:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة"، وقد مضى ذكرهن في قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن" ليزول الشك عن سامعيه واللبس عليهم، من أن يظنوا أن التي حكمها الحكم الذي وصفه في هذه الآية، هي غير التي ابتدأ بذكرها وذكر حكمها في الآية التي قبلها.
* * *
وأما قوله:"إلا أن يعفون"، فإنه يعني: إلا أن يعفو اللواتي وجب لهن عليكم نصف تلك الفريضة، فيتركنه لكم، ويصفحن لكم عنه تفضلا منهن بذلك عليكم، إن كن ممن يجوز حكمه في ماله وهن بوالغ رشيدات، فيجوز عفوهن حينئذ ما عفون عنكم من ذلك، فيسقط عنكم ما كن عفون لكم عنه منه. وذلك النصف الذي كان وجب لهن من الفريضة بعد الطلاق وقيل العفو إن عفت عنه- أو ما عفت عنه. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قالة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5246- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني
__________
(1) السياق: وذلك النصف. . . أو ما عفت عنه.(5/141)
معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"؛ فهذا الرجل يتزوج المرأة وقد سمى لها صداقا، ثم يطلقها من قبل أن يمسها، فلها نصف صداقها، ليس لها أكثر من ذلك.
5247- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، (1) قال: إن طلق الرجل امرأته وقد فرض لها، فنصف ما فرض، إلا أن يعفون.
5248- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5249- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، إذا كان لم يدخل بها وقد كان سمى لها صداقا، فجعل لها النصف ولا متاع لها.
5250- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، قال: هو الرجل يتزوج المرأة وقد فرض لها صداقا ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فلها نصف ما فرض لها، ولها المتاع، ولا عدة عليها.
5251- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم
__________
(1) ساق بقية الآية في المطبوعة، وأخطأ الناسخ في المخطوطة، فساق بقيتها ولم يتمها، ووضع في أول ما أراد حذفه"لا" وفي آخره"إلى"، وهي علامة الحذف قديما، تقوم مقام الضرب عليها بالقلم والمداد.(5/142)
لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، قال: إذا طلق الرجل المرأة وقد فرض لها ولم يمسها، فلها نصف صداقها ولا عدة عليها.
* * *
* ذكر من قال في قوله:"إلا أن يعفون" القول الذي ذكرناه من التأويل:
5252- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، قال، أخبرنا يحيى بن بشر: أنه سمع عكرمة يقول: إذا طلقها قبل أن يمسها وقد فرض لها، فنصف الفريضة لها عليه، إلا أن تعفو عنه فتتركه.
5253- حدثنا عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إلا أن يعفون"، قال: المرأة تترك الذي لها.
5254- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"إلا أن يعفون"، هي المرأة الثيب أو البكر يزوجها غير أبيها، فجعل الله العفو إليهن: إن شئن عفون فتركن، وإن شئن أخذن نصف الصداق.
5255- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إلا أن يعفون"، تترك المرأة شطر صداقها، وهو الذي لها كله.
5256- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5257- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"إلا إذ يعفون"، قال: المرأة تدع لزوحها النصف.
5258- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني(5/143)
عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح:"إلا أن يعفون"، قال: إن شاءت المرأة عفت فتركت الصداق.
5259- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح مثله.
5260- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع قوله:"إلا أن يعفون"، هي المرأة يطلقها زوجها قبل أن يدخل بها، فتعفو عن النصف لزوجها.
5261- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إلا أن يعفون"، أما أن"يعفون"، فالثيب أن تدع من صداقها، أو تدعه كله.
5262- حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب:"إلا أن يعفون"، قال: العفو إليهن، إذا كانت المرأة ثيبا فهي أولى بذلك، ولا يملك ذلك عليها ولي، لأنها قد ملكت أمرها. فإن أرادت أن تعفو فتضع له نصفها الذي عليه من حقها، جاز ذلك. وإن أرادت أخذه، فهي أملك بذلك.
5263- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا معمر قال، وحدثني ابن شهاب:"إلا أن يعفون"، قال: النساء.
5264- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح:"إلا أن يعفون"، قال: الثيب تدع صداقها.
5265- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو أسامة حماد بن زيد بن أسامة قال، حدثنا إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح:"إلا أن يعفون"، قال قال: تعفو المرأة عن الذي لها كله.
* * *(5/144)
قال أبو جعفر: ما سمعت أحدا يقول:"حماد بن زيد بن أسامة"، إلا أبا هشام. (1)
* * *
5266- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: إن شاءت عفت عن صداقها= يعني في قوله:"إلا أن يعفون".
5267- حدثنا أبو هشام قال، (2) حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن شريح قال: تعفو المرأة وتدع نصف الصداق.
5268- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، قال الزهري:"إلا أن يعفون"، الثيبات.
5269- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"إلا أن يعفون"، قال: تترك المرأة شطرها.
5270- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إلا أن يعفون"، يعني النساء.
5271- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إلا أن يعفون"، إن كانت ثيبا عفت.
5272- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قوله:"إلا أن يعفون"، يعني المرأة.
5273- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد= وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= جميعا، عن سفيان:"إلا أن يعفون"، قال: المرأة إذا لم يدخل بها: أن تترك له المهر، فلا تأخذ منه شيئا.
* * *
__________
(1) الأثر: 5265- هو"حماد بن أسامة بن زيد"، وقد سلفت ترجمته في رقم: 29، 51، 223 والذي قاله أبو هشام الرفاعي لم يذكر في كتب التراجم.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "ابن هشام"، والصواب أبو هشام الرفاعي، الذي مضى في الأسانيد السالفة.(5/145)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره بقوله:"الذي بيده عقدة النكاح".
فقال بعضهم: هو ولي البكر. وقالوا: ومعنى الآية: أو يترك، الذي يلي على المرأة عقد نكاحها من أوليائها، للزوج النصف الذي وجب للمطلقة عليه قبل مسيسه فيصفح له عنه، إن كانت الجارية ممن لا يجوز لها أمر في مالها.
* ذكر من قال ذلك:
5274- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: قال ابن عباس رضي الله عنه: أذن الله في العفو وأمر به، فإن عفت فكما عفت، وإن ضنت وعفا وليها جاز وإن أبت.
5275- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، وهو أبو الجارية البكر، جعل الله سبحانه العفو إليه، ليس لها معه أمر إذا طلقت، ما كانت في حجره.
5276- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة:"الذي بيده عقدة النكاح"، الولي.
5277- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال، قال علقمة: هو الولي.
5278- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال: هو الولي.
5279- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر، عن حجاج، عن النخعي، عن علقمة قال: هو الولي.(5/146)
5280- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله، عن بيان النحوي، (1) عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة وأصحاب عبد الله قالوا: هو الولي.
5281- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قال: هو الولي.
5282- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر، عن حجاج، أن الأسود بن زيد، قال: هو الولي.
5283- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو خالد، عن شعبة، عن أبي بشر قال: قال طاوس ومجاهد: هو الولي = ثم رجعا فقالا هو الزوج.
5284- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر قال، قال مجاهد وطاوس: هو الولي = ثم رجعا فقالا هو الزوج.
5285- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: هو الولي.
5286- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: زوج رجل أخته، فطلقها زوجها قبل أن يدخل بها، فعفا أخوها عن المهر، فأجازه شريح ثم قال: أنا أعفو عن نساء بني مرة. فقال عامر: لا والله، ما قضى قضاء قط أحق منه: أن يجيز عفو الأخ في قوله:"إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، فقال فيها شريح بعد: هو الزوج، إن عفا عن الصداق كله فسلمه إليها كله، أو عفت هي عن النصف الذي سمى لها، وإن تشاحا كلاهما أخذت نصف صداقها، قال:"وأن تعفوا هو أقرب للتقوى". (2)
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة: "بيان النحوي"، وأنا أرجح أنه: شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي. مترجم في التهذيب يروي عن الأعمش، ويروي عنه عبيد الله بن موسى. فكأن الصواب"شيبان النحوي".
(2) الأثر: 5286- رواه البيهقي في السنن 8: 251 بإسناده"عن سعيد بن منصور، عن جرير، عن مغيرة" بغير هذا اللفظ، ولكنه يصححه. فقد كان في المطبوعة والمخطوطة"ما قضى قضاء قط أحق منه"، والصواب من البيهقي، وما أعرف قومه: "نساء بني مرة". كأن مرة من أهله، أخت أو بنته. والله أعلم.(5/147)
5287- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصم الأسدي: أن عليا سأل شريحا عن الذي بيده عقدة النكاح، فقال: هو الولي.
5288- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، قال مغيرة، أخبرنا عن الشعبي، عن شريح أنه كان يقول: الذي بيده عقدة النكاح هو الولي - ثم ترك ذلك فقال: هو الزوج.
5289- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا سيار، عن الشعبي: أن رجلا تزوج امرأة فوجدها دميمة فطلقها قبل أن يدخل بها، فعفا وليها عن نصف الصداق، قال: فخاصمته إلى شريح فقال لها شريح: قد عفا وليك. قال: ثم إنه رجع بعد ذلك، فجعل الذي بيده عقدة النكاح: الزوج.
5290- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن - في الذي بيده عقدة النكاح - قال: الولي.
5291- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن منصور أو غيره، عن الحسن، قال: هو الولي.
5292- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن الحسن قال: هو الولي.
5293- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سئل الحسن عن الذي بيده عقدة النكاح، قال: هو الولي.
5294- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن، قال: هو الذي أنكحها.
5295- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: الذي بيده عقدة النكاح، هو الولي.
5296- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع وابن مهدي، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: هو الولي.(5/148)
5297- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدي، عن أبي عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا هو الولي.
5298- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: هو الولي.
5299- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عن أبي صالح:"أو يعفو الذي بيد عقدة النكاح"، قال: ولي العذراء.
5300- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال: قال لي الزهري:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، ولي البكر.
5301- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، هو الولي.
5302- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا ابن طاوس، عن أبيه= وعن رجل، عن عكرمة= قال معمر: وقاله الحسن أيضا= قالوا: الذي بيده عقدة النكاح، الولي.
5303- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: الذي بيده عقدة النكاح، الأب.
5304- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم عن علقمة قال: هو الولي.
5305- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن مجاهد قال: هو الولي.
5306- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الذي بيده عقدة النكاح"، هو ولي البكر.(5/149)
5307- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد - في الذي بيده عقدة النكاح-: الوالد= ذكره ابن زيد عن أبيه.
5308- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن مالك، عن زيد وربيعة:"الذي بيده عقدة النكاح"، الأب في ابنته البكر، والسيد في أمته. (1)
5309- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك: وذلك إذا طلقت قبل الدخول بها، فله أن يعفو عن نصف الصداق الذي وجب لها عليه، ما لم يقع طلاق.... (2)
5310- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: الذي بيدة عقدة النكاح، هي البكر التي يعفو وليها، فيجوز ذلك، ولا يجوز عفوها هي.
5311- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يحيى بن بشر، أنه سمع عكرمة يقول:"إلا أن يعفون"، أن تعفو المرأة عن نصف الفريضة لها عليه فتتركه. فإن هي شحت إلا أن تأخذه، فلها ولوليها الذي أنكحها الرجل = عم، أو أخ، أو أب= أن يعفو عن النصف، فإنه إن شاء فعل وإن كرهت المرأة.
5312- حدثنا سعيد بن الربيع الرازي قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: أذن الله في العفو وأمر به، فإن امرأة عفت جاز عفوها، وإن شحت وضنت عفا وليها وجاز عفوه. (3) .
__________
(1) الأثر: 5308- في الموطأ: 528.
(2) مكان النقط بياض في المطبوعة والمخطوطة. وقد جهدت أن أجد نص مالك فيما بين يدي من الكتب، فلم أجده.
(3) الخبر: 5312- سعيد بن الربيع الرازي، شيخ الطبري: لم نجد له ترجمة بعد طول البحث. وستأتي الرواية عنه أيضًا: 5520، دون نسبته الرازي". وفي المطبوعة"المرادي"- بدل"الرازي". وهو خطأ. فإن ابن كثير نقل هذا الخبر 1: 574، عن هذا الموضع، وفيه"الرازي". وكذلك روى الطبري عنه، في كتاب"ذيل المذيل"، الملحق بتاريخه 13: 53، قال: "حدثني حوثرة بن محمد المنقري، وسعيد بن الربيع الرازي، قالا: حدثنا سفيان، عن عمرو. . ". ثم لم نجدهم ذكروا للربيع بن سليمان المرادي ولدا.(5/150)
5313- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: الذي بيده عقدة النكاح، الولي.
* * *
وقال آخرون: بل الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. قالوا: ومعنى ذلك: أو يعفو الذي بيده نكاح المرأة فيعطيها الصداق كاملا.
* ذكر من قال ذلك:
5314- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو شحمة قال، حدثنا حبيب، عن الليث، عن قتادة، عن خلاس بن عمرو، عن علي قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. (1)
5315-حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا جرير بن حازم، عن عيسى بن عاصم الأسدي: أن عليا سأل شريحا عن الذي بيده عقدة النكاح فقال: هو الولي. فقال علي: لا ولكنه الزوج.
5316- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا إبراهيم قال، حدثنا جرير بن حازم عن عيسى بن عاصم قال: سمعت شريحا قال: قال: قال لي علي: من الذي
__________
(1) الخبر: 5314-"أبو عثمة"؛ هكذا رسم في المخطوطة دون نقط. وأما المطبوعة ففيها"أبو شحمة"!! وهو خطأ. إذ لم نجد من يدعى بها. و"أبو عثمة": الراجح عندنا أنه"محمد بن خالد بن عثمة"، وقد مضت ترجمته برقم: 90، 91. وبينا هناك أن"عثمة" أمه. فليس ببعيد أن يكنى باسمها، خصوصا أنهم لم يذكروا له كنية أخرى. ويرجح أنه هو: أن من الرواة عنه في ترجمته"بندار"، وهو محمد بن بشار، الراوي عنه هنا.
و"عثمة": بفتح العين المهملة وسكون الثاء المثلثة.
"حبيب"، الذي يروي عن الليث بن سعد هنا: لم نعرف من هو، ولا وجدنا ما يرشد إليه. وهو هكذا في المخطوطة والمطبوعة. ولو كان محرفا عن"شعيب" -أعني شعيب بن الليث- لم يكن بعيدا. "خلاس" -بكسر الخاء المعجمة وتخفيف اللام- بن عمرو الهجري البصري: تابعي كبير ثقة ثقة. تكلموا في سماعه من علي، وأن حديثه عنه من صحيفة كانت عنده. ونص البخاري على ذلك في التاريخ الكبير 2 / 1 / 208.(5/151)
بيده عقدة النكاح؟ قلت: ولي المرأة. قال: لا بل هو الزوج.
5317- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: هو الزوج.
5318- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال: قلت لحماد بن سلمة: من الذي بيده عقده النكاح؟ فذكر عن علي بن زيد، عن عمار بن أبي عمار، عن ابن عباس قال: الزوج.
5319- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله قال، أخبرنا إسرائيل، عن خصيف، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: هو الزوج.
5320- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن ابن عباس وشريح قالا هو الزوج.
5321- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدي، عن عبد الله بن جعفر، عن واصل بن أبي سعيد، عن محمد بن جبير بن مطعم: أن أباه تزوج امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فأرسل بالصداق وقال: أنا أحق بالعفو. (1)
5322- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن صالح بن كيسان: أن جبير بن مطعم تزوج امرأه، فطلقها قبل أن يبني بها، وأكمل لها الصداق، وتأوّل:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح" (2)
5323- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عمرو،
__________
(1) الأثر: 5321- عبد الله بن جعفر، هو المخرمي الزهري، من ولد المسور بن مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف. مترجم في التهذيب. و"واصل بن أبي سعيد" مترجم في الجرح والتعديل 4 / 2 / 30، والكبير للبخاري 4 / 2 / 172.
(2) الخبر: 5322- هكذا ثبت هذا الخبر هنا: "صالح بن كيسان: أن جبير بن مطعم" فيكون منقطعا، لأن صالح بن كيسان لم يدرك جبير بن مطعم. ثم هو مخالف لما ثبت في مصنف عبد الرزاق 3: 284 (مخطوط مصور) ، فإن الخبر ثابت فيه"عن صالح بن كيسان: أن نافع بن جبير تزوج. . . " - فيكون الخبر متصل الإسناد، لأن صالحا يروي عن نافع بن جبير بن مطعم. وهو الصواب، إن شاء الله. ولعل الطبري أو شيخه الحسن بن يحيى وهم فيه.(5/152)
عن نافع، عن جبير: أنه طلق امرأته قبل أن يدخل بها، فأتم لها الصداق وقال: أنا أحق بالعفو.
5324- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين، عن شريح:"أو يعفو الذي بيدة عقدة النكاح"، قال: إن شاء الزوج أعطاها الصداق كاملا.
5325- حدثنا حميد قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين بنحوه.
5326- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن شريح قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج.
5327- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أن شريحا قال: الذي بيده عقدة النكاح، الزوج. فرد ذلك عليه.
5328- حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: الذي بيده عقدة النكاح، هو الزوج. قال، وقال إبراهيم: وما يدري شريحا!
5329- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معمر قال، حدثنا حجاج، عن شريح قال: هو الزوج.
5330- حدثنا أبو كريب قال، أخبرنا الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: هو الزوج.
5331- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو أسامة حماد بن زيد بن أسامة قال، حدثنا إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، وهو الزوج. (1)
__________
(1) الأثر: 5331-"حماد بن زيد بن أسامة"، هو حماد بن أسامة بن زيد، وانظر الأثر السالف رقم: 5265، والتعليق عليه.(5/153)
5332- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن أبي حصين، عن شريح قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، قال: الزوج يتم لها الصداق.
5333- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل، عن الشعبي، وعن الحجاج، عن الحكم، عن شريح، وعن الأعمش، عن إبراهيم، عن شريح قال: هو الزوج.
5334- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا إسماعيل، عن الشعبي، عن شريح قال: هو الزوج، إن شاء أتم لها الصداق، وإن شاءت عفت عن الذي لها.
5335- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد قال: قال شريح:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
5336- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أيون، عن ابن سيرين، عن شريح:"أن يعفو الذي بيدة عقدة النكاح"، قال: إن شاء الزوج عفا فكمل الصداق.
5337- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، عن شريح قال: هو الزوج.
5338- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، قال: هو الزوج.
5339- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، قال: هو الزوج.
5340- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن مهدى، عن حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد قال: هو الزوج.(5/154)
5341- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: الزوج.
5342- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى= وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل= جميعا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، زوجها: أن يتم لها الصداق كاملا.
5343- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب= وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد= وعن أيوب، وعن ابن سيرين، عن شريح= قالوا:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
5344- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال، قال مجاهد:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج ="أن يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، إتمام الزوج الصداق كله.
5345- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج، عن عبد الله بن أبي مليكة قال، قال سعيد بن جبير:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
5346- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، هو الزوج. قال: وقال مجاهد وطاوس: هو الولي. قال قلت لسعيد: فإن مجاهدا وطاوسا يقولان: هو الولي؟ قال سعيد:"فما تأمرني إذا؟ " (1) قال: أرأيت لو أن الولي عفا وأبت المرأة، أكان
__________
(1) هكذا في المطبوعة، وفي المخطوطة: "فما أنا مرني" غير معجمة، ولم أجد الأثر في مكان آخر، وأنا في شك من صحة هذه العبارة. هذا وقد رواه ابن حزم في المحلى 9: 512 من طريق"الحجاج بن المنهال، حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر -وهو جعفر بن إياس بن أبي وحشية- عن سعيد بن جبير قال: الذي بيده عقدة النكاح، هو الزوج. وقال مجاهد وطاوس وأهل المدينة: هو الولي. قال فأخبرتهم بقول سعيد بن جبير، فرجعوا عن قولهم. وانظر السنن الكبرى 8: 251، قريب من لفظ ابن حزم.(5/155)
يجوز ذلك؟ فرجعت إليهما فحدثتهما، فرجعا عن قولهما وتابعا سعيدا.
5347- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حميد، عن الحسن بن صالح، عن سالم الأفطس، عن سعيد قال: هو الزوج. (1)
5348- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد قال: هو الزوج= وقال طاوس ومجاهد: هو الولي- فكلمتهما في ذلك حتى تابعا سعيدا.
5349- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير وطاوس ومجاهد بنحوه.
5350- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو الحسين، يعني زيد بن الحباب، عن أفلح بن سعيد قال، سمعت محمد بن كعب القرظي قال: هو الزوج، أعطى ما عنده عفوا. (2)
5351- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود الطيالسي، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن الشعبي قال: هو الزوج.
5352- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبد الله، عن نافع قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج-"إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، قال: أما قوله:"إلا أن يعفون"، فهي المرأة التي يطلقها زوجها قبل أن يدخل بها. فإما أن تعفو عن النصف لزوجها، وأما أن يعفو الزوج فيكمل لها صداقها.
__________
(1) الأثر: 5347-"حميد" هو: حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي. ثقة، مات سنة 192. مترجم في التهذيب. و"الحسن بن صالح" بن صالح الثوري. قال ابن سعد: "كان ناسكا عابدا فقيها حجة، صحيح الحديث كثيره، وكان متشيعا"، مات سنة 169. مترجم في التهذيب و"سالم الأفطس"، هو: سالم بن عجلان الأموي. ثقة كثير الحديث. كان يخاصم في الإرجاء. قتل بحران سنة 132. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 5350- في المخطوطة والمطبوعة: "أبو الحسن"، والصواب"أبو الحسين"، وهو مترجم في التهذيب، والجرح والتعديل 1 / 2 / 560. وفي المخطوطة"أفلح بن سعد"، والصواب ما في المطبوعة.(5/156)
5353- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
5354- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن المسعودي، عن القاسم قال: كان شريح يجاثيهم على الركب (1) ويقول: هو الزوج.
5355- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج، يعفو أو تعفو". (2)
5356- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، قال: الزوج، وهذا في المرأة يطلقها زوجها ولم يدخل بها وقد فرض لها، فلها نصف المهر، فإن شاءت تركت الذي لها وهو النصف، وإن شاءت قبضته.
5357- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
5358- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
__________
(1) يجاثيهم على الركب: أي يقعد لهم بالخصومة ويخاصمهم خصاما شديدا، وكان الخصم يجثو على ركبتيه ويخاصم، إذا اشتد الخصام.
(2) الأثر: 5355- قال ابن كثير في تفسيره 1: 573-574: "قال ابن أبي حاتم: ذكر ابن لهيعة، حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ولى عقدة النكاح، الزوج -وهكذا أسنده ابن مردويه من حديث عبد الله بن لهيعة، وقد أسنده ابن جرير عن ابن لهيعة، عن عمرو بن شعيب أن رسول الله. . . - فذكره، ولم يقل عن أبيه عن جده".
وقال البيهقي في السنن 8: 251-252: "وروي عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم: ولى عقدة النكاح الزوج. قال البيهقي: "وهذا غير محفوظ، وابن لهيعة غير محتج به، والله أعلم".(5/157)
5359- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال: سمعت تفسير هذه الآية:"إلا أن يعفون"، النساء، فلا يأخذن شيئا="أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج، فيترك ذلك فلا يطلب شيئا.
5360- ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور قال، قال شريح في قوله:"إلا أن يعفون"، قال: يعفو النساء="أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: المعني بقوله:"الذي بيده عقدة النكاح"، الزوج. وذلك لإجماع الجميع على أن ولي جارية بكر أو ثيب، صبية صغيرة كانت أو مدركة كبيرة، لو أبرأ زوجها من مهرها قبل طلاقه إياها، أو وهبه له أو عفا له عنه- أن إبراءه ذلك وعفوه له عنه باطل، وأن صداقها عليه ثابت ثبوته قبل إبرائه إياه منه. فكان سبيل ما أبرأه من ذلك بعد طلاقه إياها، سبيل ما أبرأه منه قبل طلاقه إياها.
وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن ولي امرأة محجور عليها أو غير محجور عليها، لو وهب لزوجها المطلقها بعد بينونتها منه درهما من مالها، على غير وجه العفو منه عما وجب لها من صداقها قبله، أن هبته ما وهب من ذلك مردودة باطلة. وهم مع ذلك مجمعون على أن صداقها مال من مالها، فحكمه حكم سائر أموالها.
وأخرى: أن الجميع مجمعون على أن بني أعمام المرأة البكر وبني إخوتها من أبيها وأمها من أوليائها، وأن بعضهم لو عفا عن مالها [لزوجها، قبل دخوله بها] أو بعد دخوله بها (1) -: إن عفوه ذلك عما عفا له عنه منه باطل، وإن حق المرأة
__________
(1) هذه الجملة التي بين القوسين، استظهرتها من السياق حتى يستقيم الكلام، وبين أن فيه سقطا قبل قوله: "أو بعد دخوله بها". والمخطوطة والمطبوعة متفقتان في هذا السقط.(5/158)
ثابت عليه بحاله. فكذلك سبيل عفو كل ولي لها كائنا من كان من الأولياء، والدا كان أو جدا أو خالا لأن الله تعالى ذكره لم يخصص بعض الذين بأيديهم عقد النكاح دون بعض في جواز عفوه، إذا كانوا ممن يجوز حكمه في نفسه وماله.
ويقال لمن أبى ما قلنا= ممن زعم أن"الذي بيده عقدة النكاح"، ولي المرأة=: هل يخلو القول في ذلك من أحد أمرين، إذ كان الذي بيده عقدة النكاح هو الولي عندك: إما أن يكون ذلك كل ولي جاز له تزويج وليته، أو يكون ذلك بعضهم دون بعض؟ = فلن يجد إلى الخروج من أحد هذين القسمين سبيلا.
فإن قال: إن ذلك كذلك.
قيل له: فأي ذلك عني به؟
فإن قال: لكل ولي جاز له تزويج وليته.
قيل له: أفجائز للمعتق أمة تزويج مولاته بإذنها بعد عتقه إياها؟
فإن قال نعم!
قيل له: أفجائز عفوه إن عفا عن صداقها لزوجها بعد طلاقه إياها قبل المسيس؟
فإن قال: نعم خرج من قول الجميع. وإن قال: لا! قيل له: ولم؟ وما الذي حظر ذلك عليه وهو وليها الذي بيده عقدة نكاحها؟
ثم يعكس القول عليه في ذلك، ويسأل الفرق بينه وبين عفو سائر الأولياء غيره.
وإن قال: لبعض دون بعض.
سئل البرهان على خصوص ذلك، وقد عمه الله تعالى ذكره فلم يخصص بعضا دون بعض.
ويقال له: من المعني به، إن كان المراد بذلك بعض الأولياء دون بعض؟
فإن أومأ في ذلك إلى بعض منهم، سئل البرهان عليه، وعكس القول فيه، وعورض في قوله ذلك بخلاف دعواه. ثم لن يقول في ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *(5/159)
فإن ظن ظان أن المرأة إذا فارقها زوجها فقد بطل أن يكون بيده عقدة نكاحها، والله تعالى ذكره إنما أجاز عفو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة، فكان معلوما بذلك أن الزوج غير معني به، وأن المعني به هو الذي بيده عقدة نكاح المطلقة بعد بينونتها من زوجها. وفي بطول ذلك أن يكون حينئذ بيد الزوج، صحة القول أنه بيد الولي الذي إليه عقد النكاح إليها. وإذا كان ذلك كذلك، صح القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي= فقد غفل وظن خطأ. (1)
وذلك أن معنى ذلك: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحه، وإنما أدخلت"الألف واللام" في"النكاح" بدلا من الإضافة إلى"الهاء" التي كان"النكاح" - لو لم يكونا فيه (2) مضافا إليها، كما قال الله تعالى ذكره: (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) [سورة النازعات: 41] ، بمعنى: فإن الجنة مأواه، وكما قال نابغة بني ذبيان:
لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ... من الناس، فالأحلام غير عوازب (3)
__________
(1) قوله:: فقد أغفل. . . "، جواب"إن" في قوله: "فإن ظن ظان". وأغفل: دخل في الغفلة، كما بينته فيما سلف 1: 151، وغيره من المواضع.
(2) في المطبوعة: "لو لم تكن أل فيه"، والذي حدا بهم إلى هذا التغيير أنها في المخطوطة مضطربة، كتبت هكذا: "لو لم يكن ما فيه" - الواو ممدودة منقوطة كأنها نون. والصواب ما أثبت. والضمير في"يكونا" إلى"الألف واللام".
(3) ديوانه: 45، وسيأتي في التفسير 13: 4 (بولاق) من قصيدته في مدح عمرو بن الحارث الأصغر الأعرج الغساني، وذلك حين فر من النعمان بن المنذر إلى الشام في أمر المتجردة. والضمير في: "لهم" إلى ملوك غسان من بني جفنة. والشيمة: الطبيعة. ورواية الديوان: "من الجود" بدل"من الناس" ورواية الطبري في سياق هذه القصيدة أجود، لأن البيت جاء بعد وصفهم في الحروب بشدة القتال، حتى قال قبله: بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كإيزاغ المخاض الضوارب
فالشيمة هنا: هي صبرهم على لأواء القتال. فلا تطير نفوسهم من الروع، ولا تضطرب عقولهم وتدبيرهم إذا بلغ القتال مبلغا يشتت حكمة الحكيم، والعوازب جمع عازب، من قولهم"عزب حلمه" إذا فارقه وبعد عنه.(5/160)
بمعنى: فأحلامهم غير عوازب. والشواهد على ذلك أكثر من أن تحصى.
* * *
فتأويل الكلام: إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح، (1) وهو الزوج الذي بيده عقدة نكاح نفسه في كل حال قبل الطلاق وبعده= لأن معناه: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن، فيكون تأويل الكلام ما ظنه القائلون أنه الولي ولي المرأة. لأن ولي المرأة لا يملك عقدة نكاح المرأة بغير إذنها، إلا في حال طفولتها، وتلك حال لا يملك العقد عليها إلا بعض أوليائها، في قول أكثر من رأى أن الذي بيده عقدة النكاح الولي. ولم يخصص الله تعالى ذكره بقوله:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح" بعضا منهم، فيجوز توجيه التأويل إلى ما تأولوه، لو كان لما قالوا في ذلك وجه.
* * *
وبعد، فإن الله تعالى ذكره إنما كنى بقوله:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون" = عن ذكر النساء اللاتي قد جرى ذكرهن في الآية قبلها، وذلك قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، والصبايا لا يسمين"نساء"، وإنما يسمين صبيا أو جواري، وإنما"النساء" في كلام العرب أجمع، اسم المرأة، ولا تقول العرب للطفلة والصبية والصغيرة"امرأة"، كما لا تقول للصبي الصغير"رجل".
وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله:"أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح"، عند الزاعمين أنه الولي إنما هو: أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح عما وجب لوليته التي تستحق أن يولي عليها مالها إما الصغر وإما السفه، (2) والله تعالى ذكره إنما اقتص في الآيتين قصص النساء المطلقات لعموم الذكر دون خصوصه، وجعل
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة"عقدة النكاح"، والصواب الذي يقتضيه التأويل وسياق الكلام بعده، هو ما أثبت.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "إما لصغر وإما لسفه"، والصواب ما أثبت.(5/161)
لهن العفو بقوله:"إلا أن يعفون"= (1) كان معلوما بقوله:"إلا أن يعفون"، أن المعنيات منهن بالآيتين اللتين ذكرهن فيهما جميعهن دون بعض، إذ كان معلوما أن عفو من تولى عليه ماله منهن باطل.
وإذ كان ذلك كذلك، فبين أن التأويل في قوله: أو يعفو الذي بيده عقدة نكاحهن، يوجب أن يكون لأولياء الثيبات الرشد البوالغ، من العفو عما وهب لهن من الصداق بالطلاق قبل المسيس، (2) مثل الذي لأولياء الأطفال الصغار المولى عليهن أموالهن السفه. وفي إنكار القائلين:"إن الذي بيده عقدة النكاح الولي"، عفو أولياء الثيبات الرشد البوالغ على ما وصفنا، وتفريقهم بين أحكامهم وأحكام أولياء الأخر- ما أبان عن فساد تأويلهم الذي تأولوه في ذلك.
ويسأل القائلون بقولهم في ذلك، الفرق بين ذلك من أصل أو نظير، فلن يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في خلافه مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيمن خوطب بقوله:"وأن تعفوا أقرب للتقوى".
فقال بعضهم: خوطب بذلك الرجال والنساء.
* ذكر من قال ذلك:
5361- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعت أبن جريج يحدث، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس:"وأن تعفوا أقرب للتقوى"، قال: أقربهما للتقوى الذي يعفو.
__________
(1) السياق من أول العبارة: وإذ كان ذلك كذلك. . . كان معلومًا.
(2) في المخطوطة"السا الرشد"، وكأنها كانت"النساء الرشد" ولكنها ستأتي بعد أسطر"الثيبات الرشد". وأنا أرجح أنها في الموضعين"النساء الرشد".(5/162)
5362- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال: سمعت تفسير هذه الآية:"وأن تعفوا أقرب للتقوى"، قال: يعفون جميعا.
* * *
فتأويل الآية على هذا القول: وأن يعفوا، أيها الناس، بعضكم عما وجب له قبل صاحبه من الصداق قبل الافتراق عند الطلاق، أقرب له إلى تقوى الله.
* * *
وقال آخرون: بل الذي خوطبوا بذلك أزواج المطلقات.
* ذكر من قال ذلك:
5363- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي:"وأن تعفوا أقرب للتقوى"،: وأن يعفو هو أقرب للتقوى.
* * *
فتأويل ذلك على هذا القول: وأن تعفوا أيها المفارقون أزواجهم، فتتركوا لهن ما وجب لكم الرجوع به عليهن من الصداق الذي سقتموه إليهن، أو تتموا لهن- (1) بإعطائكم إياهن الصداق الذي كنتم سميتم لهن في عقدة النكاح إن لم تكونوا سقتموه إليهن- أقرب لكم إلى تقوى الله.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى القولين بتأويل الآية عندي في ذلك. ما قاله ابن عباس، وهو أن معنى ذلك: وأن يعفو بعضكم لبعض= أيها الأزواج والزوجات، بعد فراق بعضكم بعضا عما وجب لبعضكم قبل بعض، فيتركه له إن كان قد بقي له قبله. وإن لم يكن بقي له، فبأن يوفيه بتمامه= أقرب لكم إلى تقوى الله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أو إليهن بإعطائكم. . . " بياض في أصولها، وفي المخطوطة: "وأن + بإعطائكم"؛ كأن الناسخ لم يستطع أن يجيد قراءة الكلمة، فكتب التاءين في الأول ثم وقف، ولم يعد. وقد مضت الآثار في إكمال الصداق وإتمامه مثل رقم: 5323 وما بعده وما قبله، فمن هناك استظهرت صواب هذه الأحرف الناقصة، وبما يقتضيه معنى الكلام.(5/163)
فإن قال قائل: وما في الصفح عن ذلك من القرب من تقوى الله، فيقال للصافح العافي عما وجب له قبل صاحبه: فعلك ما فعلت أقرب لك إلى تقوى الله؟ قيل له: الذي في ذلك من قربه من تقوى الله، مسارعته في عفوه ذلك إلى ما ندبه الله إليه، ودعاه وحضه عليه. فكان فعله ذلك- إذا فعله ابتغاء مرضاة الله، وإيثار ما ندبه إليه على هوى نفسه- معلوما به، إذ كان مؤثرا فعل ما ندبه إليه مما لم يفرضه عليه على هوى نفسه، أنه لما فرضه عليه وأوجبه أشد إيثارا، ولما نهاه أشد تجنبا. وذلك هو قربه من التقوى.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: ولا تغفلوا، أيها الناس، الأخذ بالفضل بعضكم على بعض فتتركوه، (1) ولكن ليتفضل الرجل المطلق زوجته قبل مسيسها، فيكمل لها تمام صداقها إن كان لم يعطها جميعه. وإن كان قد ساق إليها جميع ما كان فرض لها، فليتفضل عليها بالعفو عما يجب له ويجوز له الرجوع به عليها، وذلك نصفه. فإن شح الرجل بذلك وأبى إلا الرجوع بنصفه عليها، فالتتفضل المرأة المطلقة عليه برد جميعه عليه، إن كانت قد قبضته منه. وإن لم تكن قبضته، فتعفو [عن] جميعه. (2) فإن هما لم يفعلا ذلك وشحا وتركا ما ندبهما الله إليه - من أخذ أحدهما على صاحبه بالفضل - فلها نصف ما كان فرض لها في عقد النكاح وله نصفه.
__________
(1) انظر معنى"النسيان" فيما سلف 2: 9، 476.
(2) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق.(5/164)
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5364- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن أبي ذئب، عن سعيد بن جبير بن مطعم، عن أبيه جبير: أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه ابنة له فتزوجها، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق. قال: قيل له: فلم تزوجتها؟ قال: عرضها علي فكرهت ردها! قيل: فلم تبعث بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟
5365- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تنسوا الفضل بينكم". قال: إتمام الزوج الصداق، أو ترك المرأة الشطر.
5366- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: إتمام الصداق، أو ترك المرأة شطره.
5367- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5368- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، في هذا وفي غيره.
5369- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: يقول ليتعاطفا.
5370- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير"، يرغبكم الله في المعروف، ويحثكم على الفضل.
5371- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر،(5/165)
عن الضحاك في قوله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: المرأة يطلقها زوجها وقد فرض لها ولم يدخل بها، فلها نصف الصداق. فأمر الله أن يترك لها نصيبها، وإن شاء أن يتم المهر كاملا. وهو الذي ذكر الله:"ولا تنسوا الفضل بينكم".
5372- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، حض كل واحد على الصلة- يعني الزوج والمرأة، على الصلة.
5373- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخيرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يحيى بن بشر: أنه سمع عكرمة يقول في قول الله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، وذلك الفضل هو النصف من الصداق، وأن تعفو عنه المرأة للزوج أو يعفو عنه وليها.
5374- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: يعفى عن نصف الصداق أو بعضه.
5375- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: حث بعضهم على بعض في هذا وفي غيره، حتى في عفو المرأة عن الصداق، والزوج بالإتمام.
5376- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: المعروف.
5377- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن سعيد قال، سمعت تفسير هذه الآية:"ولا تنسوا الفضل بينكم"، قال: لا تنسوا الإحسان.
* * *(5/166)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"إن الله بما تعملون"، أيها الناس، مما ندبكم إليه وحضكم عليه، من عفو بعضكم لبعض عما وجب له قبله من حق بسبب النكاح الذي كان بينكم وبين أزواجكم، وتفضل بعضكم على بعض في ذلك، وفي غيره (1) مما تأتون وتذرون من أموركم في أنفسكم وغيركم مما حثكم الله عليه وأمركم به أو نهاكم عنه ="بصير"، يعني بذلك: ذو بصر، (2) لا يخفى عليه منه شيء من ذلك، بل هو يحصيه عليكم ويحفظه، حتى يجازي ذا الإحسان منكم على إحسانه، وذا الإساءة منكم على إساءته. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة "ولغيره"، وفي المطبوعة: "وبغيره"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) انظر القول في تفسير"بصير" فيما سلف 2: 140، 376، 506 / ثم 5: 76.
(3) انتهى عند هذا الموضع جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه.
"يتلوه القول في تأويل قوله:
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه وسلم"
ثم يبتدئ بعده:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن"(5/167)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)
القول في تأويل قوله: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واظبوا على الصلوات المكتوبات في أوقاتهن، وتعاهدوهن والزَمُوهن، وعلى الصلاة الوسطى منهنّ.(5/167)
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5378- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا أبو زهير، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في قوله:"حافظوا على الصلوات"، قال: المحافظة عليها: المحافظة على وقتها، وعدم السهو عنها.
5379- حدثني يحيى بن إبراهيم المسعودي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن جده، عن الأعمش، عن مسلم، عن مسروق في هذه الآية:"حافظوا على الصلوات"، فالحفاظ عليها: الصلاة لوقتها= والسهو عنها: ترك وقتها. (1)
* * *
ثم اختلفوا في"الصلاة الوسطى". فقال بعضهم: هي صلاة العصر.
* ذكر من قال ذلك:
5380- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد= جميعا قالا حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: والصلاة الوسطى"صلاة العصر. (2) .
__________
(1) الأثر: 5379- هو: يحيى بن إبراهيم بن أبي عبيدة بن معن بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود المسعودي. روى عن أبيه وجده. قال النسائي: "صدوق"، وذكره ابن حبان في الثقات مترجم في التهذيب.
(2) الخبر: 5380- روى أبو جعفر هنا، في تفسير الصلاة الوسطى 113 خبرا، بين مرفوع وموقوف وأثر، على اختلاف الروايات في ذلك، بعضها صحيح، وبعضها ضعيف، مما لم نجده مستوعبا وافيا في غير هذا الموضع من الدواوين. واجتهد -لله دره- حتى أوفى على الغاية، ثم أبان عن القول الراجح الصحيح: أنها صلاة العصر، كعادته في الترجيح، واختيار ما يراه أقوى دليلا. فأولها: هذا الخبر عن علي، وهو موقوف عليه، وإسناده ضعيف جدا.
سفيان: هو الثوري الإمام.
أبو إسحاق: هو السبيعي الإمام.
الحارث: هو ابن عبد الله الأعور الهمداني. وهو ضعيف جدا، كما بينا فيما مضى: 174.
وهذا الخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من طريق إبراهيم بن طهمان، عن أبي إسحاق به، ولم يذكر لفظه، إحالة على روايات قبله. وسيأتي هذا القول عن علي، بأسانيد، فيها صحاح كثيرة 5382 - 5386، 5422 - 5429، 5444.(5/168)
5381- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق قال، حدثني من سمع ابن عباس وهو يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: العصر. (1)
5382- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب بن سلام، عن أبي حيان، عن أبيه، عن علي قال: والصلاة الوسطى صلاة العصر. (2)
5383- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أبو حيان، عن أبيه، عن علي مثله. (3)
5384- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مصعب عن الأجلح، عن أبي إسحاق، عن الحارث قال: سمعت عليا يقول: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (4)
5385- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق،
__________
(1) الخبر: 5381- وهذا موقوف على ابن عباس أيضًا. وإسناده ضعيف، لجهالة الرجل المبهم الرواية عنه"من سمع ابن عباس".
وسيأتي عن ابن عباس، من أوجه كثيرة: 5413، 5416، 5433-5435، 5468، 5472-5479، 5481.
(2) الخبر: 5382- هذا إسناد حسن على الأقل. مصعب بن سلام التميمي: صدوق، وثقه بعضهم، وضعفه آخرون. والظاهر من ترجمته أن الكلام فيه لأحاديث غلط فيها، فما لم يثبت غلطه فيه فهو مقبول. وله ترجمة مفصلة في تاريخ بغداد 13: 108-110. أبو حيان: هو التيمي الكوفي العابد، واسمه: يحيى بن سعيد بن حيان. وهو ثقة، كان الثوري يعظمه ويوثقه. أخرج له أصحاب الكتب الستة. أبوه سعيد بن حيان: تابعي ثقة، روى عن علي، وأبي هريرة.
(3) الخبر: 5383- وهذا إسناد صحيح، متابعة صحيحة من ابن علية لمصعب بن سلام، في حديثه السابق.
وقد ذكر ابن حزم في المحلى 4: 259، نحو هذا المعنى: "عن يحيى بن سعيد القطان، عن أبي حيان يحيى بن سعيد التيمي، حدثني أبي: أن سائلا سأل عليا: أي الصلوات، يا أمير المؤمنين، الوسطى؟ وقد نادى مناديه العصر، فقال: هي هذه".
(4) الخبر: 5384- الأجلح: هو ابن عبد الله الكندي، وهو ثقة، تكلم فيه بعضهم بغير حجة. وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 68، فلم يذكر فيه جرحا.(5/169)
عن الحارث قال: سألت عليا عن الصلاة الوسطى، فقال: صلاة العصر. (1)
5386- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبو زرعة وهب بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا أبو صخر: أنه سمع أبا معاوية البجلي من أهل الكوفة يقول: سمعت أبا الصهباء البكري يقول: سألت علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى فقال: هي صلاة العصر، وهي التي فتن بها سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم. (2)
5387- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا سيمان التيمي= وحدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن الفضل قال حدثنا التيمي= عن أبي صالح، عن أبي هريرة أنه قال:"الصلاة الوسطى"صلاة العصر. (3)
__________
(1) الخبر: 5385- عنبسة: هو ابن سعيد بن الضريس الأسدي. مضى مرارا، منها: 3356. وهذا الإسناد والذي قبله ضعيفان، من أجل الحارث الأعور، كما قلنا في: 5380.
(2) الخبر: 5386- أبو زرعة، وهب الله بن راشد، مضى في: 2377، 2891. ووقع في المطبوعة هنا"وهب بن راشد"، وهو خطأ، وثبت على الصواب في المخطوطة. أبو صخر: هو حميد بن زياد الخراط، صاحب العباء، سكن مصر. وهو ثقة، أخرج له مسلم في الصحيح.
أبو معاوية البجلي: عقد له صاحب التهذيب ترجمة خاصة في الكنى 12: 240، ونقل عن أبي أحمد الحاكم أنه"عمار الدهني"، وجعل ذلك قولا. والصحيح أنه هو"عمار بن معاوية الدهني البجلي"، وهو ثقة، أخرج له مسلم في الصحيح. وترجمه ابن أبي حاتم 3 / 1 / 390. و"الدهني": بضم الدال المهملة وسكون الهاء، نسبة إلى"دهن بن معاوية"، بطن من بجيلة.
أبو الصهباء البكري: لم أجد له ترجمة إلا في كتاب ابن أبي حاتم 4 / 2 / 394، قال: "أبو الصهباء البكري، أنه سأل علي بن أبي طالب، روى عنه سعيد بن جبير". ثم قال: "سئل أبو زرعة عن اسمه؟ فقال: لا أعرف اسمه". ولم يذكر فيه جرحا. وقد استفدنا من هذا الموضع من الطبري أنه روى عنه أيضًا أبو معاوية البجلي، فارتفعت عنه الجهالة، وعرف شخصه. فهذا إسناد صحيح.
وقد ذكر ابن حزم في المحلى 4: 259، نحو معناه عن علي، من وجه آخر، من رواية سلمة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن علي.
وذكر السيوطي 1: 305، نحوه أيضًا، وذكر كثيرا ممن خرجوه، منهم: وكيع، وابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والبيهقي في الشعب.
(3) الخبر: 5387- أبو صالح: هو السمان الزيات، مولى جويرية بنت الأحمس، واسمه: ذكوان. وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وهو والد سهيل، وصالح، وعبد الله، روى عنه أولاده وغيرهم، من التابعين فمن بعدهم.
وهذا الخبر ذكره ابن حزم في المحلى 4: 258، "من طريق يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان التيمي، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة"، موقوفا. وكذلك رواه البيهقي 1: 460 - 461، من طريق إبراهيم بن عبد الله البصري، عن الأنصاري، وهو محمد بن عبد الله بن المثنى الأنصاري، عن سليمان التيمي، قال: "فذكره موقوفا". ثم رواه من طريق عبد الله بن أحمد بن حنبل. عن أبيه؛"حدثنا يحيى بن سعيد، عن التيمي، فذكره موقوفا". ثم حكى عن عبد الله بن أحمد، بالإسناد نفسه متصلا به، قال: "قال أبي: ليس هو أبو صالح السمان، ولا باذام. هذا بصري، أراه ميزان، يعني: اسمه باذام". وهذا الظن من الإمام أحمد رحمه الله، ينفيه تصريح من ذكرنا من الرواة بأنه"أبو صالح السمان". وأما"أبو صالح ميزان"، فإنه تابعي آخر ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4 /2 / 67. ولكنهم لم يذكروا له رواية عن أبي هريرة.
بل إنَّه قد رواه البيهقي أيضًا، قبل ذلك مرفوعا: فرواه من طريق عبد الوهاب بن عطاء، عن سليمان التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، مرفوعا.
وسيأتي -مرفوعا- من هذا الوجه: 5432.
وسيأتي -موقوفا- من رواية سليمان التيمي، عن أبي صالح: 5390.(5/170)
5388- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن عبد الله بن عثمان بن غنم، عن ابن لبيبة، عن أبي هريرة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، ألا وهي العصر، ألا وهي العصر. (1)
__________
(1) الخبر: 5388- سويد: هو ابن نصر بن سويد المروزي، مضى في: 2941. عبد الله بن عثمان بن خثيم: مضى في: 4341. وجده"خثيم": بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة. ووقع في المطبوعة"غنم"، وهو خطأ. وثبت على الصواب في المخطوطة.
ابن لبيبة: هو عبد الرحمن بن نافع بن لبيبة الطائفي، لم أجد له ترجمة إلا في ابن أبي حاتم 2 /2 /294، قال: "روى عن أبي هريرة، وابن عمر. روى عنه عبد الله بن عثمان بن خثيم، ويعلى بن عطاء". فهو تابعي معروف، لم يذكر بجرح، فهو ثقة. وذكر اسمه عند الطحاوي والسيوطي: "عبد الرحمن بن لبيبة"، وعند ابن حزم"عبد الرحمن نافع" فقط. كما سيأتي في التخريج.
والخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103-104، من طريق إسماعيل بن عياش، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، "عن عبد الرحمن بن لبيبة الطائفي: أنه سأل أبا هريرة. . . " فذكره مطولا.
وذكره السيوطي 1: 304، مطولا، كرواية الطحاوي. ونسبه إليه وإلى عبد الرزاق في المصنف. وهو تساهل منه. لأن رواية عبد الرزاق مختصرة جدا.
وذكره ابن حزم في المحلى 4: 258-259، مطولا، "من طريق إسماعيل بن إسحاق، حدثنا علي بن عبد الله، هو ابن المديني، حدثنا بشر بن المفضل، حدثنا عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن نافع: أن أبا هريرة سئل عن الصلاة الوسطى؟ . . . "، فذكره.
وأما رواية عبد الرزاق في المصنف 1: 182 (مخطوط مصور) - فإنها مختصرة جدا: "عبد الرزاق عن معمر، عن ابن خثيم، عن ابن لبيبة، عن أبي هريرة، قال: هي العصر".(5/171)
5389- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله"،"فكان ابن عمر يرى لصلاة العصر فضيلة للذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها أنها الصلاة الوسطى. (1)
5390- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه قال، زعم أبو صالح، عن أبي هريرة أنه قال: هي صلاة العصر. (2)
__________
(1) الحديث: 5389- هذا إسناد صحيح جدا. وأصل الحديث المرفوع، دون رأي ابن عمر في آخره- رواه أحمد في المسند: 4545، عن سفيان، وهو ابن عيينة، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه أصحاب الكتب الستة، كما في المنتقى: 556.
ورواه أحمد أيضًا، من طرق كثيرة، عن نافع، عن ابن عمر. بيناها في الاستدراكين: 1299، 1542.
وأما الحديث، على النحو الذي رواه أبو جعفر هنا، بزيادة رأي عبد الله بن عمر-: فقد رواه عبد الرزاق في المصنف 1: 181، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، بنحوه، مختصرا قليلا.
وكذلك ذكره السيوطي 1: 304، ونسبه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد. ونسى أن ينسبه للطبري. وسيأتي بنحوه: 5391. وذكر ابن حزم في المحلى 4: 259- رأى ابن عمر، دون أن يذكر الحديث المرفوع. وكذلك روى الطحاوي في معاني الآثار 1: 101 قول ابن عمر، موقوفا عليه، صريح اللفظ: "الصلاة الوسطى صلاة العصر" - من طريق عبد الله بن صالح، ومن طريق عبد الله بن يوسف، كلاهما عن الليث، عن ابن الهاد، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه.
قوله: "وتر أهله وماله": هو بالبناء لما لم يسم فاعله. قال ابن الأثير: "أي نقص، يقال: وترته، إذا نقصته. فكأنك جعلته وترا بعد أن كان كثيرا. وقيل: هو من الوتر: الجناية التي يجنيها الرجل على غيره، من قتل أو نهب أو سبي. فشبه ما يلحق من فاتته صلاة العصر بمن قتل حميمه، أو سلب أهله وماله. يروى بنصب الأهل ورفعه، فمن نصب جعله مفعولا ثانيا لوتر، وأضمر فيه مفعولا لم يسم فاعله عائدا إلى الذي فاتته الصلاة. ومن رفع لم يضمر، وأقام الأهل مقام ما لم يسم فاعله، لأنهم المصابون المأخوذون. فمن رد النقص إلى الرجل نصبهما، ومن رده إلى الأهل والمال رفعهما".
(2) الخبر: 5390- هو تكرار للخبر: 5387. وكان مكانه أن يذكر عقبه، أو عقب الذي بعده. لأن إثباته في هذا الموضع فصل بين حديثي ابن عمر: 5389، 5391- دون ما حاجة لذلك ولا حكمة. و"معتمر" - في هذا الإسناد: هو ابن سليمان التيمي.(5/172)
5391- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، حدثني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه= قال ابن شهاب، وكان ابن عمر يرى أنها الصلاة الوسطى. (1)
5392- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عفان بن مسلم قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن الحسن، عن أبي سعيد الخدري قال: الصلاة الوسطى: صلاة العصر. (2)
5393- حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا ابن عامر قال، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن حميدة ابنة أبي يونس مولاة عائشة قالت: أوصت عائشة لنا بمتاعها، فوجدت في مصحف عائشة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي العصر وقوموا لله قانتين". (3)
__________
(1) الحديث: 5391- هو تكرار للحديث: 5389، فصل بينهما -دون ما حاجة- بخبر أبي هريرة. فأوجب شبهة أن يكون قوله في هذا الحديث"بنحوه"، راجعا إلى خبر أبي هريرة. وليس كذلك، بل هو تكرار للحديث المرفوع ولرأي ابن عمر الذي استنبطه من الحديث.
(2) الخبر: 5392- عفان بن مسلم بن عبد الله الصفار: ثقة من شيوخ أحمد والبخاري. وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وله ترجمة جيدة في تاريخ بغداد 12: 269-277. الحسن: هو البصري. وقد روى ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: 15، عن علي بن المديني، أن الحسن لم يسمع من أبي سعيد الخدري شيئا، وكذلك روى نحوه عن بهز. فهذا الخبر منقطع لهذا.
والخبر رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، عن ابن مرزوق، عن عفان عن همام، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، إحالة على ما قبله.
وسيأتي في: 5451، رواية عن أبي سعيد الخدري: أنها الظهر. وهذا هو الذي ذكره السيوطي 1: 302 نقلا عن الطبري.
وأبو سعيد ممن روي عنه أنها الظهر، وروي عنه أنها العصر، كما في ابن كثير 1: 577، 578، وفتح الباري 8: 146. وقد ذكر الحافظ في الفتح أن أحمد روى عن أبي سعيد -من قوله- أنها صلاة العصر. وهذه الرواية لم أجدها في المسند، فما أدري: أهي في موضع آخر عرضا غير مسند أبي سعيد؟ أم في كتاب آخر من كتب أحمد غير المسند؟ وإن كان مقتضى الإطلاق أن يراد المسند!
(3) الخبر: 5393- ابن عامر: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة! ولست أدري من هو؟ والراجح -عندنا- أنه خطأ، صوابه"أبو عامر"، وهو"أبو عامر العقدي عبد الملك بن عمرو" فهو يروي عن محمد بن أبي حميد، ويروي عنه محمد بن معمر، شيخ الطبري.
حميدة ابنة أبي يونس مولاة عائشة: لا أدري من هي، ولا ما شأنها؟ لم أجد لها ذكرا في كل المصادر التي بين يدي، ولا في كتاب الثقات لابن حبان، فأمرها مشكل حقا. وسيأتي خبران"عن أبي يونس مولى عائشة": 5466، 5467، وهذا تابعي معروف، كما سيأتي، فلعل هذه ابنته. وقد ذكر السيوطي 1: 304 نحو هذا الخبر، هكذا: "وأخرج وكيع عن حميدة، قالت: قرأت في مصحف عائشة: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، صلاة العصر".
وكذلك رواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: 84، عن محمد بن معمر، عن أبي عاصم، عن ابن جريج، عن ابن أبي حميد، قال: "أخبرتني حميدة"، ولم يذكر نسبها.
وستأتي أخبار أخر عن عائشة: 5394 - 4397، 5400، 5401، 5466، 5467.(5/173)
5394- حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، أخبرنا عبد الملك بن عبد الرحمن: أن أمه أم حميد بنت عبد الرحمن سألت عائشة عن الصلاة الوسطى، قالت: كنا نقرؤها في الحرف الأول على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى= [قال أبو جعفر: أنه قال] = صلاة العصر وقوموا لله قانتين".
5395- حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عبد الملك بن عبد الرحمن، عن أمه أم حميد ابنة عبد الرحمن: أنها سألت عائشة، فذكر نحوه= إلا أنه قال: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (1)
__________
(1) الحديثان: 5394، 5395- عبد الملك بن عبد الرحمن بن خالد بن أسيد -بفتح الهمزة- القرشي: ثقة ترجمه ابن أبي حاتم 2 /2 /355، قال: "روى عن أمه أم حميد، قالت: سمعت عائشة. روى عنه ابن جريج". ووهم العقيلي، فلم يرفع نسبه، وقال: "من ولد عتاب بن أسيد". واستدرك عليه الحافظ في لسان الميزان 4: 65-66، ونقل ترجمته من ثقات ابن حبان، نحو كلام ابن أبي حاتم.
أمه"أم حميد ابنة عبد الرحمن": لم أتوثق من ترجمتها. ففي التهذيب 12: 465- ترجمة هكذا: "أم حميد، ويقال: أم حميدة، بنت عبد الرحمن، عن عائشة، روى ابن جريج عن أبيه عنها". فإن لم تكنها فلا أدري؟
وهذان الحديثان بمعنى واحد، إلا أن في أولهما: "صلاة العصر"، بدون الواو، وفي ثانيهما: "وصلاة العصر"، بإثبات الواو. وهذه الواو العاطفة- في رواية إثباتها: هي من عطف الصفة على الموصوف، لا عطف المغايرة. كما يدل عليه الرواية الآتية: 5397، "وهي صلاة العصر". وانظر فتح الباري 8: 148، وما يأتي: 5465-5468.
وهذا المعنى -عن عائشة- رواه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن ابن جريج، بهذا الإسناد، ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية قبله، فيها إثبات الواو.
ورواه ابن حزم في المحلى 4: 257-258، بإسناده، من طريق عبد الرزاق.
ورواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: 84، بإسنادين: من طريق أبي عاصم، ومن طريق حجاج- كلاهما عن ابن جريج، به. ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 102، من طريق الحجاج بن محمد، عن ابن جريج، به.(5/174)
5396- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن محمد بن عمرو أبي سهل الأنصاري، عن القاسم بن محمد، عن عائشة في قوله:" الصلاة الوسطى"، قالت: صلاة العصر. (1)
5397- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان في مصحف عائشة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر". (2)
__________
(1) الخبر: 5396- أبو سهل محمد بن عمرو الأنصاري الواقفي البصري: الراجح عندنا توثيقه، ترجم له البخاري في الكبير 1 /1 /194، فلم يذكر فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات، ثم ذكره في الضعفاء. وترجمه ابن أبي حاتم 4 /1 /32، فذكر الأقوال في تضعيفه فقط. وقال ابن حزم في المحلى 4: 256، "ثقة. روى عنه ابن مهدي، ووكيع، ومعمر، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم". ووقع في المطبوعة: "محمد بن عمرو وأبي سهل الأنصاري"! وزيادة الواو قبل الكنية خطأ، وقع في المخطوطة أيضًا.
ووقع في المطبوعة أيضًا: "قال صلاة العصر". وهو خطأ واضح. صوابه"قالت".
والخبر، ذكر ابن حزم في المحلى 4: 256 أنه رواه"من طريق عبد الرحمن بن مهدي، عن أبي سهل محمد بن عمرو الأنصاري، عن محمد بن أبي بكر، عن عائشة أم المؤمنين، قالت: الصلاة الوسطى صلاة العصر". ثم قال ابن حزم: "فهذه أصح رواية عن عائشة".
وقوله في الإسناد"عن محمد بن أبي بكر" - هكذا وقع في المحلى، فلا أدري، الرواية عن ابن مهدي هكذا؟ فيكون محمد بن عمرو رواه عن القاسم بن محمد وعن أبيه! أم هو خطأ من ناسخي المحلى؟ وأنا أرجح أنه خطأ؛ لأن محمد بن أبي بكر الصديق قديم الوفاة. وشيوخ محمد بن عمرو كلهم مقارب لطبقة القاسم بن محمد، ثم إنهم لم يذكروا محمد بن أبي بكر في شيوخ محمد بن عمرو. وأكثر من هذا أنهم لم يذكروا -قط- راويا عن محمد بن أبي بكر، غير ابنه القاسم بن محمد. ولكن ابن حزم يشير بعد ذلك، ص: 259 إلى رواية القاسم بن محمد عن عائشة"مثل ذلك". فالظاهر أن الخطأ قديم، في الكتب التي نقل عنها ابن حزم.
(2) الخبر: 5397 -المثنى- شيخ الطبري: هو ابن إبراهيم الآملي، كما بينا فيما مضى: 186، 187. ووقع في ابن كثير، نقلا عن هذا الموضع: "ابن المثنى"، وهو خطأ.
الحجاج: هو ابن المنهال الأنماطي، كما مضى في رواية المثنى عنه: 682، 1682، 1683 حماد: هو ابن سلمة، كما تبين من رواية ابن حزم التي سنذكر.
والخبر نقله ابن كثير 1: 580، عن هذا الموضع. ونقله الحافظ في الفتح 8: 146، والسيوطي 1: 304، ولم ينسباه لغير الطبري.
وذكره ابن حزم في المحلى 4: 254"عن حماد بن سلمة، عن هشام بن عروة". ولكن فيه: "وصلاة العصر"، بدون كلمة"هي".
وكذلك هو بنحوه، في كتاب المصاحف لابن أبي داود، ص: 83، من طريق يزيد، عن حماد، عن هشام، عن أبيه.
ورواه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن معمر، عن هشام بن عروة، قال: "قرأت في مصحف عائشة رضي الله عنها: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". فلم يذكر كلمة"هي". وجعله من قراءة هشام نفسه في مصحف عائشة، لا من روايته عن أبيه.
وهذه الرواية ذكرها السيوطي 1: 302، ونسبها لعبد الرزاق، وابن أبي داود. ولم أجدها في كتاب المصاحف.(5/175)
5398- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن داود بن قيس قال، حدثني عبد الله بن رافع مولى أم سلمة قال: أمرتني أم سلمة أن أكتب لها مصحفا وقالت: إذا انتهيت إلى آية الصلاة فأعلمني. فأعلمتها، فأملت علي:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر". (1)
5399- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال: كان الحسن يقول: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (2)
__________
(1) الخبر: 5398- داود بن قيس الفراء الدباغ المدني: ثقة حافظ، كما قال الشافعي. ووثقه ابن المديني وغيره.
عبد الله بن رافع المخزومي، أبو رافع المدني، مولى أم سلمة أم المؤمنين عتاقة: تابعي ثقة. وهذا الخبر رواه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن داود بن قيس ولكن بلفظ: "وصلاة العصر"، بزيادة الواو.
وكذلك هو في المحلى 4: 254، نقلا عن عبد الرزاق.
وكذلك نقله السيوطي 1: 303. ونسبه لوكيع، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي داود في المصاحف، وابن المنذر. ونسى أن ينسبه لعبد الرزاق.
وهو في كتاب المصاحف لابن أبي داود، ص: 87 - 88، من طريق ابن نافع، وطريق وكيع، وطريق سفيان - ثلاثتهم عن داود بن قيس. وفي الطريقين الأولين بإثبات الواو، وفي الثالث بحذفها.
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 148، ونسبه لابن المنذر، فقط. ووقع فيه"عبيد الله بن رافع" وهو خطأ من ناسخ أو طابع.
(2) الخبر: 5399- هو أثر من كلام الحسن، بإسناد ضعيف مجهول، بقول الطبري: "حدثت عن عمار".
وسيأتي بإسناد آخر عن الحسن: 5419.
وسيأتي نحو معناه عن الحسن، مرفوعا مرسلا: 5441.(5/176)
5400- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه قال، حدثنا قتادة، عن أبي أيوب، عن عائشة أنها قالت: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
5401- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سليمان التيمي، عن قتادة، عن أبي أيوب، عن عائشة مثله. (1)
5402- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: كان يقال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
5403- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا عن علي بن أبي طالب أنه قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
5404- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال: صلاة الوسطى صلاة العصر.
5405- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سالم، عن حفصة: أنها أمرت رجلا يكتب لها مصحفا فقالت: إذا بلغت هذا المكان فأعلمني. فلما بلغ"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: اكتب
__________
(1) الخبران: 5400، 5401- المعتمر -في الإسناد الأول: هو ابن سليمان التيمي. يحيى- في الإسناد الثاني: هو ابن سعيد القطان.
أبو أيوب: هو يحيى بن مالك المراغي العتكي الأزدي. وهو تابعي ثقة مأمون.
و"المراغي": نسبة إلى"المراغ"، وهي بطن من الأزد. و"العتكي": نسبة إلى"العتيك" ابن الأزد". فالظاهر أن المراغ من العتيك. وأخطأ ابن حزم في المحلى، فذكر أن اسم أبي أيوب: "يحيى بن يزيد". وهو خلاف لما في الدواوين، بل قد ثبت اسمه في صحيح مسلم 1: 170 في حديث آخر: "عن قتادة، عن أبي أيوب، واسمه: يحيى بن مالك الأزدي، ويقال المراغي. والمراغ: حي من الأزد".
والخبر نقله ابن حزم في المحلى 4: 259، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان التيمي، به. وذكره السيوطي 1: 305، قال: "وأخرج ابن أبي شيبة، وابن جرير، من طرق عن عائشة".(5/177)
"صلاة العصر". (1)
5406- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت لكاتب مصحفها: إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى أخبرك بما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما أخبرها قالت: اكتب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وهي صلاة العصر". (2)
__________
(1) الخبر: 5405- أبو بشر: هو جعفر بن أبي وحشية، مضى في: 3348. وسيأتي هذا الخبر مطولا: 5461، من طريق شعبة، عن أبي بشر، عن عبد الله بن يزيد الأزدي، عن سالم. وفيه هناك: "وصلاة العصر". فظهر أن هذا الإسناد منقطع بين أبي بشر وسالم. وندع الكلام عليه إلى ذاك الموضع، إن شاء الله.
(2) الخبر: 5406- نافع مولى ابن عمر: تابعي ثقة. ولكن روايته عن حفصة بنت عمر مرسلة، كما نص على ذلك ابن أبي حاتم في المراسيل، ص: 81، وكذلك نقل عنه في التهذيب. وهذا الخبر سيأتي أيضًا: 5463، من طريق أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد.
وفيه: "وصلاة العصر"، بدل"وهي صلاة العصر".
وكذلك سيأتي: 5462، من طريق عبد الوهاب، عن عبيد الله. ويدل على انقطاع هذا الإسناد والإسنادين الآتيين: أن ابن أبي داود رواه في المصاحف، ص 85، عن محمد بن بشار -قال: ولم نكتبه عن غيره-: "حدثنا حجاج بن منهال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن حفصة. . . ". وفيه أيضًا: "وصلاة العصر".
ثم رواه: 85-86، عن عمه وإسحق بن إبراهيم، قالا: "حدثنا حجاج، حدثنا حماد، قال: أخبرنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن حفصة، مثله. ولم يذكر فيه ابن عمر".
فقد ظهر أنه اختلف على الحجاج بن منهال في وصله وانقطاعه. والوصل زيادة ثقة، فتقبل. وروى نحوه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن ابن جرير، قال: "أخبرني نافع: أن حفصة. . . " - وفيه أيضًا: "وصلاة العصر". ورواية ابن جريج هذه -ذكرها ابن حزم في المحلى 4: 253. ونستدرك هنا: أننا أشرنا في التعليق عليه إلى رواية الطبري هذه-: 5406- وقلنا هناك: "وإسناده صحيح جدا". وقد تبين لنا الآن أن هذا كان خطأ، وأن الإسناد ضعيف لانقطاعه، كما قلنا. نعم إن رواية ابن أبي داود، التي فيها زيادة"عن ابن عمر"، دلت على وصل الخبر، ولكنه إنما يكون صحيحا فيها، لا في رواية الطبري هذه.
وستأتي أسانيد أخر عن حفصة: 5458، 5464، 5465، 5470.(5/178)
5407- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش قال: صلاة الوسطى هي العصر.
5408- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، كنا نحدث أنها صلاة العصر، قبلها صلاتان من النهار، وبعدها صلاتان من الليل.
5409- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: أمروا بالمحافظة على الصلوات. قال: وخص العصر،"والصلاة الوسطى"، يعني العصر. (1)
5410- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"والصلاة الوسطى"، هي العصر. (2)
5411- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا عن علي بن أبي طالب أنه قال:"الصلاة الوسطى" صلاة العصر.
5412- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"حافظوا على الصلوات" - يعني المكتوبات-"والصلاة الوسطى"، يعني صلاة العصر.
5413- حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن أبي إسحاق، عن رزين بن عبيد، عن ابن عباس قال: سمعته يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: صلاة العصر. (3)
__________
(1) الخبر: 5409- في المطبوعة"جبير" بدل"جويبر". وهو خطأ.
(2) الأثر: 5410- في المخطوطة والمطبوعة: "عبد الله بن سليمان"، وهو خطأ. هذا إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 5356.
(3) الخبر: 5413- أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. قيس: هو ابن الربيع الأسدي الكوفي، رجحنا توثيقه في: 4842، وفي المسند: 661، 7115.
أبو إسحق: هو السبيعي. وفي المطبوعة: "عن ابن إسحاق"، وهو تحريف ناسخ أو طابع. رزين بن عبيد: تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /296، وابن أبي حاتم 1 /2/ 507 - فلم يذكرا فيه جرحا. وهذا كاف في توثيقه.
والخبر سيأتي: 5416، من رواية إسرائيل، وهو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن جده أبي إسحاق.
وكذلك رواه البخاري في الكبير، في ترجمة"رزين"، من طريق إسرائيل.
وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 102، من طريق إسرائيل. ووقع فيه خطأ في اسم التابعي.
وذكره السيوطي 1: 305، "عن رزين بن عبيد: أنه سمع ابن عباس يقرؤها: والصلاة الوسطى صلاة العصر"! هكذا ذكره السيوطي، ونسبه لأبي عبيد، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جرير، والطحاوي؛ وفيه تساهل، فاللفظ عند البخاري والطبري والطحاوي ليس النص على قراءة الآية كذلك.
وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 309، أن البزار روى عن ابن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الوسطى صلاة العصر". قال الهيثمي: "ورجاله موثقون"(5/179)
5414- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن ثوير، عن مجاهد قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (1)
5415- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر.
5416- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن رزين بن عبيد قال: سمعت ابن عباس يقول: هي صلاة العصر. (2)
5417- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي قال، أنبأنا إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"الصلاة الوسطى صلاة العصر". (3)
__________
(1) الخبر: 5414- ثوير -بالتصغير-: هو ابن أبي فاختة، وهو ضعيف جدا. كما مضى في: 3212. ووقع في المطبوعة "ثور". وهو خطأ، وثبت على الصواب في المخطوطة.
(2) الخبر: 5416- هو تكرار للخبر: 5413، بمعناه. وقد سبق الكلام عليه مفصلا.
(3) الخبر: 5417- إسماعيل بن مسلم: هو المكي، بصري سكن مكة. وحديثه عندنا حسن، كما بينا في المسند في حديث آخر: 1689، وفي شرح الترمذي 1: 454. الحسن: هو البصري. وسمرة: هو ابن جندب الصحابي المعروف.
وسماع الحسن من سمرة، فيه كلام طويل لأئمة الحديث. والراجح سماعه منه. كما رجحه ابن المديني، والبخاري، والترمذي، والحاكم، وغيرهم. وانظر في ذلك شرحنا للترمذي 1: 343، والجوهر النقي 5: 288-289، وعون المعبود 1: 369-370، وغير ذلك من المراجع.
والحديث سيأتي بأسانيد أخر: 5438-5439.
ورواه أحمد في المسند 5: 7، 12، 13 -بأسانيد، من طريق سعيد، وهو ابن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة.
وكذلك رواه الترمذي، رقم: 182 بشرحنا، في كتاب الصلاة (1: 159-160 شرح المباركفوري) ، ورواه أيضًا في كتاب التفسير 4: 77 (شرح المباركفوري) ، من طريق ابن أبي عروبة. وقال في الموضع الأول: "حديث سمرة في الصلاة الوسطى حديث حسن". وقال في الموضع الثاني: "هذا حديث حسن صحيح". وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من طريق روح بن عبادة، عن ابن أبي عروبة، به. مرفوعا. ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية سابقة. ورواه البيهقي 1: 460، من طريق همام، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وذكره ابن كثير 1: 578-579، عن روايات المسند بأسانيدها. وذكره السيوطي 1: 304، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والطبراني. وذكره قبله بلفظ: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وسماها لنا، وإنما هي صلاة العصر". ونسبه لأحمد، وابن جرير، والطبراني. هكذا قال. ولم أجد هذا اللفظ في المسند، ولا في تفسير الطبري، وإن كان موافقا في المعنى لما عندنا فيهما.(5/180)
5418- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا أبي قال، سمعت يحيى بن أيوب يحدث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة بن مخمر، عن سعيد بن الحكم قال: سمعت أبا أيوب يقول: صلاة الوسطى صلاة العصر. (1)
__________
(1) الخبر: 5418- مرة بن مخمر: ترجمه ابن أبي حاتم 4 /1 /366، قال: "مرة بن مخمر، روى عن سعيد بن الحكم، عن أبي أيوب، روى عنه يزيد بن أبي حبيب". ولم أجد له غير هذه الترجمة. ومن عجب أن البخاري لم يترجم له، في حين أنه أشار إليه مرتين، في الإشارة إلى هذا الخبر، كما سيأتي، ووقع اسمه في المشتبه للذهبي، ص: 6"مرة بن حمير"!
وهو خطأ. سعيد بن الحكم: تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2 /1/ 425، قال: "سمع أبا أيوب: "الوسطى العصر". قاله وهب، حدثنا أبي سمعت يحيى بن أيوب، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة. ويقال سعد بن أحكم". وهذه إشارة إلى هذا الإسناد، إذ رواه الطبري هنا من طريق وهب بن جرير عن أبيه.
ثم ترجم البخاري 2 /2 /53، قال: "سعد بن أحكم، من السفاكة، بطن من يحصب ثم من حمير، سمع أبا أيوب. قاله يعقوب بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن إسحاق، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة. وقال وهب بن جرير، عن أبيه". ثم انقطع الكلام، ويظهر أن فيه سقطا، يفهم مضمونه من الترجمة الماضية.
وترجم ابن أبي حاتم 2 /1 /13: "سعيد بن الحكم، مصري روى عن أبي أيوب. روى يزيد بن أبي حبيب، عن مرة بن مخمر، عنه".
وترجم ابن أبي حاتم 2 /1 /81-82: "سعد بن الحكم، مصري، من حمير. . . "،. ثم ذكر نحو ما قاله في"سعيد".
والذي لا أشك فيه أن ابن أبي حاتم أخطأ في الترجمة الثانية، إذ أتى بقول ثالث لم يقله أحد، وهو"سعد بن الحكم". وإنما الاختلاف فيه بين"سعيد بن الحكم"، و"سعد بن أحكم"، كما صنع البخاري. وقد نقل العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني -في تعليقه على الموضع الأول من التاريخ الكبير - أن ابن حبان ذكره على القولين، كصنيع البخاري، وأن الأمير ابن ماكولا ذكره كذلك، وأنه رواه أيضًا "ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن مرة بن مخمر الحميري، عن سعد بن أحكم".
وكذلك نص على ضبطه"سعد بن أحكم" - الذهبي في المشتبه، ص: 6، والحافظ ابن حجر في تحرير المشتبه (المخطوط مصور عندنا) .
وعندي أن رواية"سعد بن أحكم" أرجح وأقرب إلى الصواب، لأنه هكذا رواه اثنان عن يزيد بن أبي حبيب، وهما: ابن إسحاق، فيما ذكر البخاري، وابن لهيعة، فيما ذكر ابن ماكولا. وانفرد يحيى ابن أيوب بتسميته"سعيد بن الحكم". واثنان أولى بالحفظ والثبت من واحد.
والخبر رواه البخاري في الكبير -إشارة- كما ذكرنا. وذكره السيوطي 1: 305، وزاد نسبته لابن المنذر. أبو أيوب: هو الأنصاري الخزرجي، الصحابي الجليل. واسمه: "خالد بن زيد".(5/181)
5419- حدثنا ابن سفيان قال، حدثنا أبو عاصم، عن مبارك، عن الحسن قال: صلاة الوسطى صلاة العصر. (1)
* * *
وعلة من قال هذا القول ما: -
5420- حدثني به محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا محمد -يعني ابن طلحة- عن زبيد، عن مرة، عن عبد الله قال: شغل المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى اصفرَّت، أو احمرت- فقال: شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا (2)
__________
(1) الخبر: 5419- ابن سفيان - شيخ الطبري: هكذا ثبت في المخطوطة والمطبوعة، ولا ندري من هو؟ ويحتمل أن يكون محرفا عن"ابن سنان". وهو: "محمد بن سنان القزاز". مضت روايته عن أبي عاصم، ورواية الطبري عنه: 157، 485، 702.
(2) الحديث: 5420 - أبو عامر: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو.
محمد بن طلحة بن مصرف اليامي، مضى في: 5088.
زبيد، بالتصغير: هو ابن الحارث بن عبد الكريم، مضى في: 2521
مرة: هو مرة الطيب، بن شراحيل الهمداني، مضى أيضًا في: 2521. عبد الله: هو ابن مسعود الصحابي الكبير.
وهذا الحديث رواه الطبري هنا من طريق أبي عامر العقدي. وسيرويه بعد ذلك: 5421، من طريق يزيد بن هرون. ثم: 5430، من طريق ثابت بن محمد - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة بن مصرف.
وقد رواه أيضًا أبو داود الطيالسي في مسنده: 366، عن محمد بن طلحة، مختصرا. ورواه أحمد في المسند: 3716، عن يزيد، وهو ابن هارون. و: 3829، عن خلف بن الوليد. و: 4365، عن هاشم، وهو ابن القاسم أبو النضر - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة، مطولا ومختصرا.
ورواه مسلم 1: 174، عن عون بن سلام، عن محمد بن طلحة.
ورواه الترمذي: 181 بشرحنا، مختصرا، من طريق الطيالسي، وأبي النضر - كلاهما عن محمد بن طلحة. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه ابن ماجه: 686، من طريق عبد الرحمن بن مهدي، ويزيد بن هارون - كلاهما عن محمد بن طلحة.
ورواه البيهقي 1: 460، من طريق الفضل بن دكين، وعون بن سلام - وكلاهما عن محمد بن طلحة. وذكره السيوطي 1: 303، ونسبه لبعض من ذكرنا ولعبد بن حميد، وابن المنذر.(5/182)
5421- حدثني أحمد بن سنان الواسطي قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا محمد بن طلحة، عن زبيد عن مرة، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه- إلا أنه قال: ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى". (1)
5422- حدثنا محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث، عن أبي حسان، عن عبيدة السلماني، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس، ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا= أو بطونهم نارا= شك شعبة في البطون والبيوت. (2)
__________
(1) الحديث: 5421- أحمد بن سنان الواسطي، القطان، الحافظ - شيخ الطبري: ثقة متقن من الأثبات. روى عنه الشيخان وغيرهما. مترجم في تذكرة الحفاظ 2: 93-94. والحديث مكرر ما قبله.
(2) الحديث: 5422- أبو حسان الأعرج: اسمه"مسلم"، دون ذكر اسم أبيه، في جميع المراجع، إلا التهذيب وفروعه ورجال الصحيحين، فإن فيها زيادة"بن عبد الله". وهو تابعي ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه.
عبيدة- بفتح العين: هو السلماني، مضت ترجمته في: 245.
والحديث رواه مسلم 1: 174، عن محمد بن المثنى ومحمد بن بشار -شيخي الطبري هنا- بهذا الإسناد.
ورواه ابن حزم في المحلى 4: 252، من طريق مسلم.
ورواه أحمد في المسند: 1150، عن محمد بن جعفر عن شعبة، بهذا الإسناد.
ثم رواه: 1151، عن حجاج، وهو ابن محمد، عن شعبة، به.
ورواه النسائي 1: 83، مختصرا، من طريق خالد، عن شعبة.
وسيأتي الحديث من رواية أبي حسان عن عبيدة: 5429، 5444، ومضى قول علي: "الصلاة الوسطى صلاة العصر": 4380، وأشرنا إلى سائر الروايات الآتية من حديثه، ومنها هذا الحديث.(5/183)
5423- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر قال: قلت لعبيدة السلماني: سل علي بن أبي طالب عن الصلاة الوسطى. فسأله، فقال: كنا نراها الصبح= أو الفجر= حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب:"شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وأجوافهم نارا"! (1)
__________
(1) الحديث: 5423- عبد الرحمن: هو ابن مهدي وسفيان: هو الثوري. وعاصم: هو ابن أبي النجود. وزر: هو ابن حبيش. وهذا الحديث من رواية زر بن حبيش عن علي، بحضرته سؤال عبيدة السلماني وجواب علي. وهو يؤيد رواية أبي حسان الأعرج عن عبيدة: 5422. والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف 1: 181-182، عن الثوري، عن عاصم، عن زر ابن حبيش، به. وسيأتي: 5428، من رواية إسرائيل، عن عاصم. ورواه ابن أبي حاتم -فيما نقل عنه ابن كثير 1: 578- عن أحمد بن سنان، عن عبد الرحمن بن مهدي، بهذا الإسناد. ثم قال ابن كثير: "رواه ابن جرير، عن بندار، عن ابن مهدي، به". يعني هذا الإسناد. وبندار: هو محمد بن بشار شيخ الطبري. ورواه ابن حزم في المحلى 4: 252-253، بإسناده إلى محمد بن أبي بكر المقدمي، عن يحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، كلاهما عن سفيان الثوري، به. ورواه البيهقي 1: 460، من طريق محمد بن كثير، عن سفيان، عن عاصم، عن زر. ورواه ابن ماجه: 684، مختصرا، من طريق حماد بن زيد، عن عاصم، عن زر. وأشار ابن حزم في المحلى 4: 253، إلى رواية حماد بن زيد. وذكره السيوطي 1: 303، وزاد نسبته لابن أبي شيبة وعبد بن حميد، والبخاري والنسائي، وابن المنذر. وهو تساهل منه في نسبته للبخاري، فإني لم أجده في البخاري إلا من رواية ابن سيرين عن عبيدة، كما سيأتي في: 5427. وإسناد هذا الحديث -من رواية سفيان، عن عاصم، عن زر- إسناد صحيح. ومع ذلك فإن الإمام أحمد لم يروه في المسند من هذا الوجه بإسناد صحيح. بل روى نحوه مختصرا: 1287، من طريق شعبة، عن جابر، وهو الجعفي، عن عاصم، عن زر. وهو إسناد ضعيف، من أجل جابر الجعفي. وروى ابنه عبد الله -في المسند-: 990، معناه مختصرا جدا، بإسناد ضعيف أيضًا.(5/184)
5424- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل، عن علي قال: شغلونا يوم الأحزاب عن صلاة العصر، حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا= أو أجوافهم نارا (1)
5425- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن يحيى بن الجزار عن علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال، يوم الأحزاب، على فرضة من فرض الخندق، فقال:"شغلونا
__________
(1) الحديث: 5424- أبو الضحى: هو مسلم بن صبيح -بضم الصاد المهملة- الهمداني الكوفي، وهو تابعي ثقة كثير الحديث.
شتير بن شكل بن حميد العبسي: تابعي ثقة، يقال إنه أدرك الجاهلية. ولذلك ترجمه الحافظ في الإصابة، في قسم المخضرمين 3: 219-220. "شتير": بضم الشين المعجمة وفتح التاء المثناة. و"شكل": بالشين المعجمة والكاف المفتوحتين. وهذان الاسمان من نادر الأسماء.
والحديث سيأتي: 5426، بنحوه من طريق أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، وهو أبو الضحى.
ورواه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن سفيان الثوري، به.
ورواه أحمد في المسند: 1245، عن عبد الرزاق.
ورواه أيضًا: 1036، عن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي، عن سفيان.
ورواه البيهقي 1: 460، من طريق محمد بن شرحبيل بن جعشم، عن الثوري.
وأما طريق أبي معاوية الآتية: فقد رواه أحمد في المسند: 617، 911، عن أبي معاوية، عن الأعمش. ورواه مسلم 1: 174، من طريق أبي معاوية.
وذكره ابن حزم في المحلى 4: 253، من طريق مسلم.
ورواه أيضًا أحمد في المسند: 1298، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الأعمش.
وذكره ابن كثير 1: 578، من رواية أحمد عن أبي معاوية. ثم ذكر أنه رواه مسلم والنسائي.(5/185)
عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس! ملأ الله قبورهم وبيوتهم، نارا= أو بطونهم وبيوتهم نارا. (1)
5426- حدثني أبو السائب وسعيد بن نمير قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، عن شتير بن شكل، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا! ثم صلاها بين العشاءين، بين المغرب والعشاء. (2)
5427- حدثنا الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا علي بن عاصم، عن خالد، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي قال، لم يصل رسول الله صلى الله عليه وسلم العصر يوم الخندق إلا بعد ما غربت الشمس، فقال: ما لهم! ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارا! منعونا عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس. (3)
__________
(1) الحديث: 5425- الحكم: هو ابن عتيبة، مضى في: 3297. يحيى بن الجزار العرني الكوفي: تابعي ثقة. وجزم شعبة بأنه لم يسمع من علي بن أبي طالب إلا ثلاثة أحاديث، هذا أجدها.
والحديث رواه أحمد في المسند: 1305، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، بهذا الإسناد. ورواه أيضًا: 1132، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن شعبة.
ورواه مسلم 1: 174، من طريق وكيع، ومعاذ، وهو العنبري الحافظ - كلاهما عن شعبة. وأشار ابن كثير 1: 578، إلى رواية مسلم هذه.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من طريق أبي عامر العقدي، عن شعبة، بهذا الإسناد. الفرضة: ما انحدر من جانب الخندق في موضع شقه. من"الفرض": وهو الشق. ومنه"فرضة النهر": وهو مشرب الماء منه. وهي ثلمة في شاطئه. وفرضة البحر: محط السفن.
(2) الحديث: 5426- أبو السائب -شيخ الطبري: هو مسلم بن جنادة، مضى مرارا.
سعيد بن نمير- شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ذكرا ولا ترجمة في شيء من المراجع. وأخشى أن يكون محرفا عن شيء لا أعرفه الآن.
وكلمة"نمير" رسمت في المخطوطة رسما غير واضح، يمكن أن يكون محرفا عن"يحيى". فإن يكنه يكن: "سعيد بن يحيى بن الأزهر الواسطي". وهو ثقة، يروي عن أبي معاوية، وهو من طبقة شيوخ الطبري. ولا نجزم ولا نرجح عن غير ثبت.
والحديث مضى: 5424، من رواية الثوري عن الأعمش، وأشرنا إلى هذا، وإلى تخريجه هناك.
(3) الحديث: 5427- الحسين بن علي الصدائي: مضى في: 2093.
علي بن عاصم بن صهيب الواسطي: ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني. وبعضهم تكلم فيه، ورجحنا توثيقه في المسند: 343.
خالد: هو ابن مهران الحذاء، مضى في: 1683.
الحديث رواه أحمد في المسند، مختصرا قليلا: 994، عن يحيى، وهو القطان، عن هشام، وهو ابن حسان، عن محمد، وهو ابن سيرين. ورواه أيضًا: 1220، عن يزيد، وهو ابن هرون، عن هشام. ورواه البخاري 6: 76 / و7: 312 / و8: 145 /و11: 165 (فتح) ، من طرق عن هشام. ورواه أبو داود: 409، من طريق هشام أيضًا. ورواه ابن حزم في المحلى 4: 252، من طريق البخاري. وانظر ما مضى: 5423.(5/186)
5428- حدثنا زكريا بن يحيى الضرير قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن عاصم، عن زر قال: انطلقت أنا وعبيدة السلماني إلى علي، فأمرت عبيدة أن يسأله عن الصلاة الوسطى فقال: يا أمير المؤمنين، ما الصلاة الوسطى؟ فقال: كنا نراها صلاة الصبح، فبينا نحن نقاتل أهل خيبر، فقاتلوا، حتى أرهقونا عن الصلاة، وكان قبيل غروب الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم املأ قلوب هؤلاء القوم الذين شغلونا عن الصلاة الوسطى وأجوافهم نارا= أو املأ قلوبهم نار = قال: فعرفنا يومئذ أنها الصلاة الوسطى. (1)
5429- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن عبيدة السلماني، عن علي بن أبي طالب: أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب: اللهم املأ قلوبهم وبيوتهم نارا كما شغلونا= أو: كما حبسونا= عن الصلاة الوسطى حتى غربت الشمس! (2)
__________
(1) الحديث: 5428- هذا الحديث في معنى الحديث: 5423. ولكن هذه الرواية فيها شذوذ، في أن الحديث كان في غزوة خيبر. والروايات الصحاح كلها على أنه كان في غزوة الأحزاب. ولذلك أفردها السيوطي بالذكر 1: 303، فقال: "وأخرج ابن جرير من وجه آخر عن زر. . . ". فلم ينسبها لغير الطبري، ولم أجد ما يؤيدها.
بل روى الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من هذا الوجه، مثل سائر الروايات: فرواه من طريق زائدة بن قدامة، عن عاصم، عن زر، عن علي، وفيه: "قاتلنا الأحزاب". ثم روى من طريق سفيان، عن عاصم، عن زر، أنه كلف عبيدة سؤال علي، قال: "فذكر نحوه".
(2) الحديث: 5429- يزيد: هو ابن زريع. وسعيد: هو ابن أبي عروبة. والحديث مضى: 5422، من رواية شعبة، عن قتادة.
ورواه أحمد في المسند: 591، عن محمد بن أبي عدي. و: 1134، عن عبد الوهاب، وهو ابن عطاء الخفاف، و: 1307، عن محمد بن جعفر -ثلاثتهم عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة. ورواه أيضًا: 1313، عن بهز، و: 1326، عن عفان- كلاهما عن همام، عن قتادة. ورواه الترمذي 4: 77، عن هناد، عن عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، وقال: "هذا حديث حسن صحيح. وقد روى من غير وجه عن علي".(5/187)
5430- حدثنا سليمان بن عبد الجبار قال، حدثنا ثابت بن محمد قال، حدثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود قال: حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى اصفرت الشمس= أو: احمرت= فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى! ملأ الله بيوتهم وقلوبهم نارا= أو حشا الله قلوبهم وبيوتهم نارا. (1)
5431- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا سهل بن عامر قال، حدثنا مالك بن مغول قال، سمعت طلحة قال: صليت مع مرة في بيته فسها = أو قال: نسي = فقام قائما يحدثنا= وقد كان يعجبني أن أسمعه من ثقة= قال: لما كان يوم الخندق - يعني يوم الأحزاب - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لهم! شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر! ملأ الله أجوافهم وقبورهم نارا. (2)
__________
(1) الحديث: 5430- ثابت بن محمد، أبو إسماعيل الشيباني العابد: ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 1 /2 /170. وفي التهذيب كلمة موهمة، لعلها سبق قلم من الحافظ! قال: ذكره البخاري في الضعفاء، وأورد له حديثا وبين أن العلة من غيره"! والبخاري لم يذكره في الضعفاء، وإنما روى له حديثا -كما قال الحافظ- وبين أن العلة في غيره - فلا شأن له في ضعف الحديث إن كان ضعيفا. وهذه عادة للبخاري في كثير من التراجم.
والحديث مضى: 5420، 5421، بإسنادين من طريق محمد بن طلحة. وانظر الحديث التالي لهذا.
(2) الحديث: 5431- هذا الحديث ضعيف من وجهين: أولهما: من جهة"سهل بن عامر البجلي"، وهو ضعيف جدا، كما بينا في: 1971، وثانيهما: من جهة إرساله. لأن مرة تابعي. مالك بن مغول -بكسر الميم وسكون الغين المعجمة وفتح الواو- بن عاصم، البجلي: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
طلحة: هو ابن مصرف اليامي، وهو تابعي ثقة باتفاقهم. قال ابن إدريس: "كانوا يسمونه سيد القراء".
وهذا الحديث في ذاته صحيح. مضى بثلاثة أسانيد صحاح، من رواية محمد بن طلحة بن مصرف، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود: 5420، 5421، 5430.(5/188)
5432- حدثنا أحمد بن منيع قال، حدثنا عبد الوهاب، عن ابن عطاء، عن التيمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صلاة الوسطى صلاة العصر. (1)
5433- حدثني علي بن مسلم الطوسي قال، حدثنا عباد بن العوام، عن هلال بن خباب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة له، فحبسه المشركون عن صلاة العصر حتى أمسى بها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم املأ بيوتهم وأجوافهم نارا كما حبسونا عن الصلاة الوسطى! (2)
__________
(1) الحديث: 5432- أحمد بن منيع البغوي الأصم الحافظ -شيخ الطبري: ثقة، أخرج له الجماعة. عبد الوهاب بن عطاء الخفاف: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق. وثقه ابن معين وغيره. ووقع في المطبوعة هنا: "عبد الوهاب عن ابن عطاء"! جعله راويين. وهو خطأ لا شك فيه.
التيمي: هو سليمان بن طرخان.
وهذا الحديث مضى موقوفا من كلام أبي هريرة: 5387، 5388، 5390. وهو هنا مرفوع بإسناد صحيح. والرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة.
ورواه البيهقي 1: 460، من طريق محمد بن عبيد الله بن المنادي: "حدثنا عبد الوهاب بن عطاء، حدثنا سليمان التيمي. . . ".
ونقله ابن كثير 1: 579، عن هذا الموضع من الطبري.
وذكره الحافظ في الفتح 8: 145، ونسبه للطبري.
وذكره السيوطي 1: 304، ونسبه للطبري والبيهقي.
(2) الحديث: 5433- علي بن مسلم الطوسي -شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 4170. عباد بن العوام -بتشديد الباء والواو فيهما- الواسطي. ثقة، من شيوخ أحمد.
هلال بن خباب -بالخاء المعجمة وتشديد الباء- العبدي: ثقة مأمون. من شيوخ الثوري وأبي عوانة بينا في شرح المسند: 2303 أنه لم يختلط ولم يتغير، خلافا لمن قال ذلك.
والحديث رواه أحمد في المسند: 2745، عن عبد الصمد، وهو ابن عبد الوارث، عن ثابت، وهو ابن يزيد الأحول، عن هلال، وهو ابن خباب، به.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من طريق أبي عوانة، عن هلال بن خباب، به. نحوه. ثم رواه من طريق عباد، عن هلال.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 309. وقال: "رواه أحمد، والطبراني في الكبير، والأوسط، ورجاله موثقون".
وذكره السيوطي 1: 303-304، ونسبه لعبد بن حميد، وابن جرير، فقط.
وسيأتي عقب هذا: 5434، 5435، بنحوه، من رواية مقسم، عن ابن عباس.(5/189)
5434- حدثنا موسى بن سهل الرملي قال، حدثنا إسحاق، عن عبد الواحد الموصلي قال، حدثنا خالد بن عبد الله عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى غابت الشمس! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا! (1)
5435- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا خالد، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: شغل الأحزاب
__________
(1) الحديث: 5434- موسى بن سهل الرملي -شيخ الطبري: صدوق ثقة، كما قال ابن أبي حاتم 4 /1 /146. ومضت رواية أخرى للطبري عنه: 878.
إسحاق بن عبد الواحد الموصلي القرشي: ثقة، ذكره ابن حبان في الثقات، وفي التهذيب أن أبا علي النيسابوري الحافظ قال فيه: "متروك الحديث" -فيما نقل ابن الجوزي. وجزم الذهبي في الميزان- دون دليل - بأنه واه. وفي التهذيب أن الخطيب روى خبرا باطلا، من طريق عبد الرحمن بن أحمد الموصلي، عن إسحاق -هذا- عن مالك، وقال الخطيب: "الحمل فيه على عبد الرحمن، وإسحاق بن عبد الواحد لا بأس به". وترجمه ابن أبي حاتم 1 /1 /229، فلم يذكر فيه جرحا. وهذا دليل على توثيقه إياه.
ثم إن إسحاق لم ينفرد برواية هذا الحديث، فسيأتي -عقبه- من رواية عمرو بن عون، عن خالد.
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "إسحاق، عن عبد الواحد الموصلي"، وهو خطأ.
خالد بن عبد الله: هو الطحان، مضت ترجمته في: 4433.
ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وقد بينا فيما مضى في الحديث: 32 أنه صدوق سيئ الحفظ، ولكنه لم ينفرد برواية هذا الحديث، فقد سبق قبله بإسناد آخر صحيح عن ابن عباس. الحكم: هو ابن عتيبة، مضى في: 3297.
مقسم: هو ابن بجرة، مضى في: 4086.
وفي التهذيب عن أحمد -في ترجمة الحكم- أن الحكم لم يسمع من مقسم إلا خمسة أحاديث، عينها. وليس هذا منها، فعلى هذا فهو منقطع.
والحديث ذكره الحافظ في الفتح 8: 146، ونسبه لابن المنذر فقط.
وذكره السيوطي 1: 303، وزاد نسبته للطبراني في الكبير، ولكنه جعله"من طريق مقسم وسعيد بن جبير، عن ابن عباس". فلعل رواية سعيد بن جبير تكون عند الطبراني.
ثم وجدت رواية سعيد بن جبير عند الطحاوي، فرواه في معاني الآثار 1: 103، من طريق محمد ابن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن أبيه، عن ابن أبي ليلى -وهو محمد والد عمران- عن الحكم، عن مقسم وسعيد بن جبير، عن ابن عباس.
وهذا إسناد جيد متصل. محمد بن عمران بن أبي ليلى، وأبوه: ثقتان. والحكم بن عتيبة: لم يختلف في سماعه من سعيد بن جبير، بل روايته عنه ثابتة في الصحيحين في غير هذا الحديث، كما في كتاب رجال الصحيحين، ص 100.(5/190)
النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر حتى غربت الشمس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى! ملأ الله قبورهم وبيوتهم نارا= أو أجوافهم نارا. (1)
5436- حدثني المثنى قال، حدثنا سليمان بن أحمد الحرشي الواسطي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرني صدقة بن خالد قال، حدثني خالد بن دهقان، عن جابر بن سيلان، عن كهيل بن حرملة قال: سئل أبو هريرة عن الصلاة الوسطى فقال: اختلفنا فيها كما اختلفتم فيها ونحن بفناء بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفينا الرجل الصالح أبو هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، فقال: أنا أعلم لكم ذلك. فقام فاستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخل عليه، ثم خرج إلينا فقال: أخبرنا أنها صلاة العصر. (2)
__________
(1) الحديث: 5435- عمرو بن عون بن أوس الواسطي الحافظ: ثقة، أخرج له الجماعة. والحديث مكرر ما قبله.
(2) الحديث: 5436- سليمان بن أحمد الجرشي الشامي، نزيل واسط: ضعيف، بل رماه بعضهم بالكذب، ولكنه لم ينفرد بهذا الحديث، كما سيجيء. وهو مترجم في الكبير 2 /2 /4. وقال: "فيه نظر". وعند ابن أبي حاتم 2 /1 /101، وتاريخ بغداد 9: 49-50، ولسان الميزان 3: 72. صدقة بن خالد الأموي الدمشقي: ثقة. وثقه أحمد، وابن معين، وأبو زرعة، وغيرهم. وأخرج له البخاري في صحيحه.
خالد بن دهقان الدمشقي: ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /135، وقال: "سمع خالد سبلان، روى عنه صدقة بن خالد، ومحمد بن شعيب". وبذلك ترجمه أيضًا ابن أبي حاتم 1 /2 /329. خالد سبلان: هو خالد بن عبد الله بن الفرج، أبو هاشم مولى بني عبس. وهو ثقة، وثقه أبو مسهر، كما نقل ابن عساكر، وترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /141، قال: "خالد سبلان. عن كهيل بن حرملة الشامي. روى عنه خالد بن دهقان، وسمع منه سعيد بن عبد العزيز". ونحو ذلك عند ابن أبي حاتم 1 /2 /363، ولم يذكرا فيه جرحا. وترجمه ابن عساكر في تاريخ دمشق (5: 67 من تهذيبه للشيخ عبد القادر بدران) ، وزاد أنه سمع معاوية وعمرو بن العاص.
"سبلان": بفتح السين المهملة والباء الموحدة وتخفيف اللام، كما ضبطه ابن ماكولا، فيما نقل عنه ابن عساكر، وكما في المشتبه للذهبي، ص: 256. وهو لقب لخالد هذا، لقب به لعظم لحيته.
والبخاري وابن أبي حاتم لم يذكرا نسب خالد هذا، بل ترجمه البخاري في"باب السين" فيمن اسمه"خالد". وابن أبي حاتم ترجمه في باب"خالد" الذين لا ينسبون".
وإنما ذكر نسبه -الذي ذكرنا- ابن عساكر، وابن ماكولا في الإكمال، كما نقل عنه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني في هوامش التاريخ الكبير وابن أبي حاتم. وذكره الذهبي في المشتبه باسم"خالد بن عبد الله". وذكر الحافظ في التهذيب 3: 87، في شيوخ"خالد بن دهقان"، باسم"خالد بن عبد الله سبلان". فيكون"سبلان" لقب خالد، كما بينا.
ووقع اسمه في المطبوعة هنا محرفا جدا: "جابر بن سيلان"!! وشتان هذا وذاك والراجح -عندي- أن هذا تحريف من الناسخين، لم يجدوا في التهذيب أو أحد فروعه. اسم"خالد سبلان"، ثم وجدوا ترجمة"جابر بن سيلان" (التهذيب 2: 40) فظنوه هو، وغيروه إلى ذلك. أو شيئا نحو هذا. وثبت اسمه على الصواب في ابن كثير، إذ نقله عن هذا الموضع من الطبري، ولكن زيد فيه"بن" بين الاسم واللقب. والظاهر أنه من تصرف الناسخين.
كهيل بن حرملة النميري: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 4 /1 /238، وقال: "سمع أبا هريرة. روى عنه خالد سبلان". ونحو ذلك في ابن أبي حاتم 3 /2 /173، ولم يذكرا فيه جرحا. وذكره ابن حبان في الثقات، ص: 318.
والحديث رواه ابن حبان في الثقات -في ترجمة كهيل- من طريق أبي مسهر، وهو عبد الأعلى بن مسهر الدمشقي الثقة الثبت، عن صدقة بن خالد، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 103، من طريق أبي مسهر.
ورواه الحاكم في المستدرك 3: 638، من طريق العباس بن الوليد بن مزيد، وهو ثقة من شيوخ الطبري، مضت ترجمته: 891، عن محمد بن شعيب بن شابور، وهو أحد الثقات الكبار - عن خالد سبلان، بهذا الإسناد.
ورواه ابن عساكر في تاريخ دمشق، بإسناده إلى خالد سبلان - في ترجمته، ولكن مختصره الشيخ عبد القادر بدران حذف الإسناد إليه.
ونقله ابن كثير 1: 579، عن هذا الموضع. ثم قال: "غريب من هذا الوجه جدا".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 309، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، والبزار، وقال: لا نعلم روى أبو هاشم بن عتبة عن النبي صلى الله عليه وسلم - إلا هذا الحديث وحديثا آخر. قلت [القائل الهيثمي] : ورجاله موثقون".
ونقله الحافظ في الفتح 8: 145 - 146، ولم ينسبه لغير الطبري.
ونقله السيوطي 1: 304، ونسبه لابن سعد، والبزار، وابن جرير، والطبراني، والبغوي في معجمه. ووهم الحافظ في الإصابة جدا، في ترجمة"أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس" راوي هذا الحديث 7: 197 - 198، ونسبه لأبي داود، والترمذي، والنسائي، والبغوي، والحاكم أبي أحمد!! أما كتابا البغوي والحاكم أبي أحمد، فليسا عندي، ولا أستطيع أن أقول في نقله عنهما شيئا.
وأما السنن الثلاث، فأستطيع أن أجزم بأنه ليس في واحد منها، على اليقين من ذلك. ولذلك لم ينسبه الحافظ نفسه إليها في الفتح. ولذلك ذكره صاحب مجمع الزوائد، وهو الزوائد على الكتب الستة. ولذلك لم يذكره النابلسي في ذخائر المواريث في ترجمة"أبي هاشم بن عتبة". وقد نبهت إلى هذا الوهم، في شرحي للترمذي 1: 341 - 342.(5/191)
5437- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال، حدثنا أبي، وحدثنا ابن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد = قالا جميعا، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن شقيق بن عقبة العبدي، عن البراء بن عازب قال: نزلت هذه الآية:"حافظوا(5/192)
على الصلوات وصلاة العصر"، قال: فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما شاء الله أن نقرأها. ثم إن الله نسخها فأنزل:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين"، قال: فقال رجل كان مع شقيق: فهي صلاة العصر! قال: قد حدثتك كيف نزلت، وكيف نسخها الله، والله أعلم. (1)
5438- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع، وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر ومحمد بن عبد الله الأنصاري= قالا جميعا، حدثنا سعيد بن أبي عروبة، وحدثنا! بو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان، ومحمد بن بشر وعبد الله بن إسماعيل، عن سعيد= عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: الصلاة الوسطى صلاة العصر. (2)
5439- حدثني عصام بن رواد بن الجراح قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن الحسن عن سمرة قال: أنبأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الصلاة الوسطى هي العصر. (3)
__________
(1) الحديث: 5437- الحسين بن علي الصدائي -شيخ الطبري- وأبوه، مضيا في 2093. ابن إسحاق الأهوازي - شيخ الطبري بعد تحويل الإسناد: هو أحمد بن إسحاق بن عيسى، مضى في: 1841.
أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي.
فضل بن مرزوق الأغر الكوفي: ثقة، وثقه الثوري، وابن معين، وغيرهما. وأخرج له مسلم في صحيحه. ووقع اسمه في المخطوطة والمطبوعة هنا"فضيل بن مسروق"! وهو خطأ من الناسخين.
شقيق بن عقبة العبدي الكوفي: تابعي ثقة. وثقه أبو داود، وابن حبان.
والحديث رواه مسلم في صحيحه 1: 75، عن إسحاق بن راهويه، عن يحيى بن آدم، عن فضيل بن مرزوق، به. ثم قال: "ورواه الأشجعي، عن سفيان الثوري، عن الأسود بن قيس، عن شقيق بن عقبة، عن البراء بن عازب".
فوهم صاحب التهذيب، في ترجمة"شقيق بن عقبة" 4: 363، فقال: "له في مسلم حديث واحد في الصلاة الوسطى، قال: وهو معلق. . . "، ثم ذكر كلام مسلم. وغفل عن أنه رواه متصلا قبل هذا التعليق مباشرة.
ورواه ابن حزم في المحلى 4: 258، من طريق مسلم.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 102، من طريق محمد بن يوسف الفريابي، عن فضيل بن مرزوق، به. ولكن وقع في نسخة الطحاوي: "محمد بن فضيل بن مرزوق"! وهو خطأ يقينا. ثم ليس في الرواة من يسمى بهذا.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 281، من طريق يحيى بن جعفر بن الزبرقان، عن أبي أحمد الزبيري، عن فضيل بن مرزوق، به. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي! وعليهما في ذلك استدراك، أنه رواه مسلم، كما ذكرنا.
ورواه البيهقي 1: 459، عن الحاكم، بإسناده.
ووقع في المستدرك المطبوع بياض في"أبو أحمد الزبيري". صححناه من البيهقي.
ثم ذكر البيهقي أنه رواه مسلم، ثم ذكر إشارة مسلم إلى الرواية المعلقة، رواية الأشجعي عن سفيان الثوري. ثم رواه البيهقي من طريق الأشجعي، بإسناده متصلا.
والحديث ذكره أيضًا الحافظ في الفتح 1: 147، عن صحيح مسلم.
وذكره السيوطي 1: 303، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وأبي داود في ناسخه. ولكنه لم ينسبه للحاكم. وذكره ابن كثير 1: 582، عن صحيح مسلم. ثم قال: "فعلى هذا تكون هذه التلاوة، وهي تلاوة الجادة - ناسخة للفظ رواية عائشة وحفصة ولمعناها، إن كانت الواو دالة على المغايرة. وإلا فلفظها فقط" وهذا فقه دقيق وبديع.
وقوله في متن الحديث: "فقرأناها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" - هذا هو الصواب الموافق لسياق القول: "فقرأناها"، والموافق لسائر الروايات. ورسمت في المطبوعة"فقرأتها". وهو غير جيد. ولعلها رسمت الأصول المنقول عنها على الكتبة القديمة بدون ألف ولا نقط "فقراتها" -فظنها الناسخ تاء المتكلم، إذ لم يجد بعدها ألفا. فأثبتها بالتاء على ظنه ومعرفته.
(2) الحديث: 5438- رواه الطبري عن ثلاثة من شيوخه: حميد بن مسعدة، ومحمد بن بشار، وأبي كريب محمد بن العلاء. فحميد رواه له عن شيخ واحد، وابن بشار عن شيخين، وأبو كريب عن ثلاثة شيوخ. وهؤلاء الستة: يزيد بن زريع، ومحمد بن بكر، ومحمد بن عبد الله الأنصاري، وعبدة بن سليمان، ومحمد بن بشر، وعبد الله بن إسماعيل - رووه جميعا عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة. يزيد بن زريع: مضت ترجمته في: 1769.
محمد بن بكر بن عثمان البرساني - بضم الباء وسكون الراء: ثقة، وثقه ابن معين، وأبو داود، وغيرهما. وأخرج له أصحاب الكتب الستة.
محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري: ثقة من شيوخ أحمد، وابن المديني، والبخاري أخرج له الجماعة.
عبدة بن سليمان الكلابي: مضت ترجمته في: 2323.
محمد بن بشر بن الفرافصة العبدي: مضى في: 4222.
عبد الله بن إسماعيل: كوفي، زعم أبو حاتم - فيما رواه عنه ابنه 2 /2 /3: أنه مجهول، وجزم الحافظ المزي في الأطراف بأنه"عبد الله بن إسماعيل بن أبي خالد"، كما نقل عنه الحافظ ابن حجر في التهذيب.
والحديث مضى: 5417، من رواية إسماعيل بن مسلم، عن الحسن، عن سمرة. وخرجناه هناك من طريق سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. وهي هذه الطريق.
(3) الحديث: 5439- عصام بن رواد بن الجراح، وأبوه: مضيا في: 2183.
سعيد بن بشير الأزدي: مضى في: 126 أنه صدوق يتكلمون في حفظه، ولكن كان سفيان بن عيينة يصفه بأنه"كان حافظا". والظاهر أن الكلام فيه عن غير تثبت، فإنهم أنكروا كثرة ما روى عن قتادة. فروى ابن أبي حاتم عن أبيه، قال: "قلت لأحمد بن صالح: سعيد بن بشير دمشقي شامي، كيف هذه الكثرة عن قتادة؟ قال: كان أبوه بشير شريكا لأبي عروبة، فأقدم بشير ابنه سعيدا بالبصرة يطلب الحديث مع سعيد بن أبي عروبة". فهذا هذا. فالإسناد إذن صحيح كالإسناد قبله.(5/193)
5440- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن سليمان، عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل، عن أم حبيبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، يوم الخندق: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس= قال أبو موسى: هكذا قال ابن أبي عدي. (1)
__________
(1) الحديث: 5440- هذا إسناد صحيح على شرط مسلم. وسليمان: هو الأعمش.
وهذا الحديث -عن أم حبيبة- لم أجده في مصدر آخر، غير هذا الموضع من الطبري، بل لم أجد إشارة إليه قط، إلا فيما نقل ابن كثير 1: 578، عن الحافظ أبي محمد عبد المؤمن بن خلف الدمياطي، أنه ذكر"أم حبيبة" فيمن حكي عنهم القول بأن الصلاة الوسطى هي العصر. وهذه إشارة أرجح أنها إشارة لهذا الحديث، دون تصريح.
وشتير بن شكل: تابعي قديم، كما قلنا في: 5424. ولكن التهذيب، حين ذكر الصحابة الذين روى عنهم (4: 311) . قال: "وأم حبيبة، إن كان محفوظا"؛ فجهدت أن أعرف إلى أي حديث يشير؟ إلى هذا الحديث أم غيره؟
فوجدت أحمد قد روى في المسند: 6: 325 (حلبي) ، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، عن منصور، عن أبي الضحى، عن شتير بن شكل، عن أم حبيبة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبل وهو صائم". وهذا إسناد كالشمس صحة.
ولكن رواه مسلم 1: 305، وابن ماجه: 1685، عن أبي بكر بن أبي شيبة وغيره، عن أبي معاوية، عن الأعمش، عن مسلم -وهو أبو الضحى- عن شتير بن شكل، عن حفصة. ثم رواه مسلم -أعني حديث القبلة للصائم- من طريق أبي عوانة وجرير، كلاهما عن منصور، كذلك، أي من حديث حفصة.
ففهمت أن الإشارة بالتعليل"إن كان محفوظا"، هي لحديث القبلة للصائم، وأنهم رجحوا رواية ثلاثة: أبي معاوية عن الأعمش، وأبي عوانة وجرير عن منصور -في روايتهم ذاك الحديث من حديث حفصة- على رواية شعبة، في روايته إياه من حديث أم حبيبة! وهذا ترجيح تحكم، لا دليل عليه.
وشتير بن شكل: سمع عليا، وابن مسعود، وحفصة. وهم أقدم موتا من أم حبيبة. والمعاصرة -مع ثقة الراوي، وبراءته من تهمة التدليس- كافية في الحكم بوصل الحديث. ورواية التابعي حديثا عن صحابي، لا تنفي أبدا روايته إياه عن صحابي آخر، بل إن كلا من الروايتين تؤيد الأخرى، إلا أن يقوم دليل قوي على الخطأ في إحدى الروايتين.
ورواية شتير عن أم حبيبة -إن فرض وجود شبهة فيها في حديث القبلة للصائم- فإن روايته عنها هنا -في حديث الصلاة الوسطى- ترفع كل شبهة، وتدل على أن روايته عنها محفوظة.
ثم إن رواية ذاك الحديث، رواها محمد بن جعفر عن شعبة، ورواية هذا الحديث رواها محمد بن أبي عدي عن شعبة، وكلاهما لا يدفع عن الحفظ والإتقان والتثبت والمعرفة. وذاك من رواية شعبة عن منصور عن أبي الضحى، وهذا من روايته عن الأعمش عن أبي الضحى.
وقد استوثق الطبري -رحمه الله- من رواية هذا الحديث هنا، خشية أن يظن به الخطأ أو بشيخه، فحكى كلمة شيخه"ابن المثنى"، وهو: محمد بن المثنى أبو موسى الزمن الحافظ، إذ استوثق هو أيضًا مما قاله شيخه"ابن أبي عدي"، وهو: محمد بن إبراهيم بن أبي عدي - فقال: "قال أبو موسى: هكذا قال ابن أبي عدي". وهذا احتياط دقيق، قصد به إلى رفع شبهة الخطأ أو التعليل، عن رواية شعبة هذه.
وشعبة بن الحجاج: أمير المؤمنين في الحديث، كما قال الثوري. والذي"كان أمة وحده في هذا الشأن"، كما قال أحمد -لا يدفع عن رواية يرويها، ولا يحكم عليه بالخطأ فيها، إلا أن يستبين ذلك عن دلائل قاطعة، أو كالقاطعة. ولا يكفي في تعليل روايته حديثي أم حبيبة- في قبلة الصائم والصلاة الوسطى - كلمة عابرة: "إن كان محفوظا"!! وشعبة الحافظ الحجة الثقة المأمون.(5/195)
5441- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، وهي العصر (1)
5442- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام، عن سالم مولى أبي نصير قال، حدثني إبراهيم بن يزيد الدمشقي قال: كنت جالسا عند عبد العزيز بن مروان فقال: يا فلان، اذهب إلى فلان فقل له: أي شيء سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة الوسطى؟ فقال رجل جالس: أرسلني أبو بكر وعمر وأنا غلام صغير أسأله عن الصلاة الوسطى، فأخذ إصبعي الصغيرة فقال: هذه الفجر- وقبض التي تليها. وقال: هذه الظهر- ثم قبض الإبهام فقال: هذه المغرب- ثم قبض التي تليها ثم قال: هذه العشاء- ثم قال: أي أصابعك بقيت؟ فقلت: الوسطى: فقال: أي صلاة بقيت؟ قلت: العصر. قال: هي العصر. (2)
__________
(1) الحديث: 5441- هذا الحديث مرسل. ولكن معناه صحيح، بما مضى من أحاديث صحاح.
(2) الحديث: 5442- هذا إسناد مجهول - عندي على الأقل؟
فلست أدري من"عبد السلام" شيخ أبي أحمد؟ وفي هذا الاسم كثرة.
سالم مولى أبي نصير: هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وفي ابن كثير 1: 579 - نقلا عن هذا الموضع: "مسلم مولى أبي جبير"! ولم أجد هذا ولا ذاك. بل لم أجده أيضًا في ترجمة"سلم"، لاحتمال التصحيف، بزيادة ميم في أوله، أو زيادة ألف بعد السين.
إبراهيم بن يزيد الدمشقي: مترجم في التهذيب، وأنه كان من حرس عمر بن عبد العزيز، وترجمه البخاري في الكبير 1 /1 /335. وابن أبي حاتم 1 /1 /145، وترجمه ابن عساكر في تاريخ دمشق، ونسبه: "النصري من أهل دمشق". (مختصر تاريخ ابن عساكر 2: 310) . وذكره ابن حبان في الثقات، كما في التهذيب.
ولو عرفنا مخرج هذا الحديث، وعرفنا الروايتين"عبد السلام" وشيخه، وكانا مقبولين -لكان الحديث جيدا: حسنا أو صحيحا، لأن الرجل الجالس عند عبد العزيز بن مروان، الذي حدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكون صحابيا، إذ يخبر أنه أرسله أبو بكر وعمر لسؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهما لا يرسلان لمثل هذا السؤال -إن شاء الله- إلا غلاما فاهما مميزا.
ويظهر لي أن الحافظ ابن كثير خفي عليه مخرجه، فوصفه بعد نقله عن الطبري، بأنه"غريب جدا".
ونقله أيضًا السيوطي 1: 304، ولم يقل فيه شيئا، إلا نسبته للطبري.
وكذلك نقله الحافظ ابن حجر في الفتح 1: 146، عن الطبري - مختصرا.(5/196)
5443- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أن المشركين شغلوهم يوم الأحزاب عن صلاة العصر حتى غابت الشمس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر حتى غربت الشمس! ملأ الله بيوتهم وقبورهم نارا!
5444- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن أبي سلمة قال، حدثنا صدقة، عن سعيد، عن قتادة، عن أبي حسان، عن عبيدة السلماني، عن علي بن أبي طالب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال يوم الأحزاب: اللهم املأ بيوتهم وقبورهم نارا، كما شغلونا عن الصلاة الوسطى حتى آبت الشمس. (1)
__________
(1) الحديث: 5444- ابن البرقي: هو أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، مضى في: 22، 160. عمرو بن أبي سلمة التنيسي الدمشقي: ثقة، من شيوخ الشافعي. وله رواية بالموطأ عن مالك.
ووقع في المطبوعة هنا: "عمرو عن أبي سلمة"! وهو خطأ بين، من ناسخ أو طابع.
صدقة: هو ابن عبد الله السمين الدمشقي. وهو ضعيف جدا، كما قال أحمد. وقال مسلم: "منكر الحديث". وضعفه البخاري، وابن معين، وأبو زرعة، وغيرهم.
سعيد: هو ابن أبي عروبة.
والحديث -وإن كان إسناده هذا ضعيفا- فقد مضى بإسناد صحيح: 5429، من رواية يزيد بن زريع، عن ابن أبي عروبة، به. وخرجناه هناك.
ومضى أيضًا: 5422، بإسناد آخر صحيح، من رواية شعبة، عن قتادة.
ومضى معناه من أوجه كثيرة عن علي، أشرنا إليها في: 5380.(5/197)
5445- حدثني محمد بن عوف الطائي قال، حدثني محمد بن إسماعيل بن عياش قال، حدثنا أبي قال، حدثني ضمضم بن زرعة، عن شريح بن عبيد، عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصلاة الوسطى صلاة العصر". (1)
* * *
وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى صلاة الظهر.
* ذكر من قال ذلك:
5446- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عفان قال، حدثنا همام قال،
__________
(1) الحديث: 5445- محمد بن عوف بن سفيان الطائي الحمصي -شيخ الطبري، حافظ ثقة، معروف بالتقدم والمعرفة. وهو من الرواة عن أحمد بن حنبل، له عنه مسائل. ومع ذلك فإن أحمد سمع منه حديثا، كما في تذكرة الحفاظ، في ترجمته 2: 144 - 145، وهو مترجم أيضًا في التهذيب. مات سنة 272.
محمد بن إسماعيل بن عياش الحمصي: ضعيف. قال أبو داود: "لم يكن بذاك، قد رأيته، ودخلت حمص غير مرة وهو حي، وسألت عمرو بن عثمان عنه فذمه". والظاهر أنهم ضعفوه لروايته عن أبيه دون سماع، قال أبو حاتم: "لم يسمع من أبيه شيئا، حملوه على أن يحدث فحدث"! ومثل هذا جريء على الحديث، لا يوثق بروايته.
أبوه إسماعيل بن عياش الحمصي: ثقة، تكلم فيه بعضهم من أجل خطئه في بعض ما يروي عن غير الشاميين، أما أحاديثه عن أهل الشأم فمقبولة.
ضمضم بن زرعة بن ثوب -بضم الثاء المثلثة وفتح الواو وآخره باء موحدة- الحضرمي الحمصي: ثقة، وثقه ابن معين، وضعفه أبو حاتم، وترجمه البخاري في الكبير 2 /2 /339، فلم يذكر فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات.
شريح بن عبيد بن شريح الحضرمي الحمصي: تابعي ثقة.
والحديث نقله ابن كثير 1: 579، عن هذا الموضع. ثم قال: "إسناده لا بأس به".
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد -ضمن حديث-وقال: "رواه الطبراني، وفيه محمد بن إسماعيل بن عياش، وهو ضعيف".
وذكره السيوطي 1: 304، ونسبه للطبري والطبراني.(5/198)
حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (1)
5447- حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن زيد، يعني ابن ثابت- مثله. (2)
5448- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت حفص بن عاصم يحدث عن زيد بن
__________
(1) الخبر: 5446- إسناده صحيح. وهو موقوف من كلام زيد بن ثابت.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 99، عن ابن مرزوق، عن عفان، بهذا الإسناد.
ورواه البيهقي 1: 459، من طريق إبراهيم بن مرزوق، عن عفان، به.
ورواه عبد الرزاق في المصنف 1: 182، عن سعيد بن بشير، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن زيد بن ثابت. فسقط من إسناده"ابن عمر" بين ابن المسيب وزيد. فإما أنه رواه هكذا، وإما أنه خطأ من الناسخين؟
وسيأتي هذا المعنى من أوجه مختلفة، عن زيد بن ثابت: 5447، 5448، 5449، 5450، 5452، 5453، 5454، 5458، 5459، 5460.
(2) الخبر: 5447- محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي - بضم الميم وفتح الخاء وكسر الراء المشددة: ثقة حافظ حجة. مضى في: 3730. مترجم في تاريخ بغداد 5: 423-425، وتذكرة الحفاظ 2: 92-93. ووقع هنا في المخطوطة والمطبوعة"المخزومي". وهو خطأ.
أبو عامر: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو.
والخبر مكرر ما قبله. وإسناده صحيح أيضًا.
وقد ذكره ابن كثير 1: 577، مع الذي قبله، دون نسبة.
وذكرهما السيوطي، وزاد نسبتهما لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن الأنباري في المصاحف.
ثم قال السيوطي: "وأخرج مالك، وعبد الرزاق، وابن أبي شيبة، وأحمد، وعبد بن حميد، والبخاري في تاريخه، وابن جررير، وابن المنذر، من طرق، عن زيد بن ثابت، قال: "الصلاة الوسطى صلاة الظهر".
وهذا يصلح إشارة إلى كثير من الروايات الآتية عن زيد بن ثابت.
ورواية مالك، هي في الموطأ ص: 139، عن داود بن الحصين، عن ابن يربوع المخزومي، سمع زيد بن ثابت.
ورواية عبد الرزاق، هي في المصنف 1: 182، عن مالك، به.(5/199)
ثابت قال: الصلاة الوسطى الظهر. (1)
5449- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا سليمان بن داود قال، حدثنا شعبة، وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن شعبة= قال، أخبرني عمر بن سليمان -من ولد عمر بن الخطاب- قال: سمعت عبد الرحمن بن أبان بن عثمان، يحدث عن أبيه، عن زيد بن ثابت قال: الصلاة الوسطى هي الظهر. (2)
5450- حدثنا زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن عمر بن سليمان= هكذا قال أبو زائدة=، عن عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت في حديثه، رفعه -: الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (3)
__________
(1) الخبر: 5448- حفص: هو ابن عاصم بن عمر بن الخطاب. وهو تابعي ثقة مجمع عليه. والخبر مكرر ما قبله. وإسناده صحيح كذلك.
(2) الخبر: 5449- إسناده صحيح.
عمر بن سليمان بن عاصم بن عمر بن الخطاب: ثقة، وثقه ابن معين، والنسائي، وغيرهما. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3 /1 /112، وروي عن ابن معين أنه وصفه بأنه"صاحب حديث زيد بن ثابت"، وفي التهذيب أنه"قيل في اسمه: عمرو". وهو ثابت باسم"عمرو" في رواية الدارمي والطحاوي، كما سنذكر في التخريج، إن شاء الله.
عبد الرحمن بن أبان بن عثمان بن عفان: ثقة عابد، قليل الحديث، وثقه النسائي، وذكره ابن حبان في الثقات.
أبوه أبان بن عثمان: ثقة من كبار التابعين. وعده يحيى القطان في فقهاء المدينة.
وهذا الخبر موقوف أيضًا على زيد بن ثابت، كالأخبار الثلاثة قبله.
وذكره ابن كثير 1: 577، قال: "وقال أبو داود الطيالسي، وغيره، عن شعبة. . . "، فساقه بهذا الإسناد.
وكذلك رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 99، من طريق حجاج بن محمد، عن شعبة، عن"عمرو بن سليمان"، به فسمى شيخ شعبة في هذه الرواية"عمرا". وسيأتي عقب هذا روايته مرفوعا. وهو -عندي- وهم ممن فهم أنه مرفوع.
(3) الحديث: 5450- إسناده صحيح، إلا أن في رفعه علة، سنذكرها إن شاء الله.
زكريا بن يحيى: مضت ترجمته في: 1219.
عبد الصمد: هو ابن عبد الوارث العنبري.
"عمر بن سليمان": مضت ترجمته في الخبر الذي قبل هذا. وهكذا ثبت في المطبوعة! فلا يكون هناك معنى لقول الطبري: "هكذا قال أبو زائدة" - يعني شيخه زكريا بن يحيى، إذ لا اختلاف في اسمه بين هذه الرواية وتلك. ووقع في المخطوطة: "عمر بن سلمان". فتكون المغايرة بين الروايتين واقعة. ولكني أرجح أن كليهما خطأ، إذ لم يذكر قول في اسمه أنه"عمر بن سلمان". والراجح -عندي- أن الصواب في هذا الإسناد"عمرو بن سليمان". وهو القول الثاني في اسمه عند بعض الرواة، كما ذكرنا. وقوله في هذه الرواية: "في حديثه رفعه" -يعني أن رفع الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وجعل لفظ"الصلاة الوسطى صلاة العصر"- من كلامه صلى الله عليه وسلم.
وكذلك نقل السيوطي 1: 302، "وأخرج ابن جرير في تهذيبه، من طريق عبد الرحمن بن أبان، عن أبيه، عن زيد بن ثابت، في حديث يرفعه. . . ". ولعله لم يره في تفسير الطبري، فنقله عن كتابه"التهذيب". ولفظ السيوطي الذي نقله: "في حديث" -أجود من اللفظ الثابت هنا: "في حديثه". بل الظاهر أن هذه محرفة من الناسخين.
وعندي أن ادعاء رفع الحديث وهم ممن قاله: اختصر حديثا مطولا، فأوهم وظن أن كلمة في آخره مرفوعة. وهي واضحة في أصل الحديث أنها موقوفة.
فقد رواه أحمد في المسند 5: 183 (حلبي) -مطولا- عن يحيى بن سعيد، عن شعبة، بهذا الإسناد إلى أبان بن عثمان: "أن زيد بن ثابت خرج من عند مروان نحوا من نصف النهار، فقلنا: ما بعث إليه الساعة إلا لشيء سأله عنه، فقمت إليه فسألته، فقال: أجل، سألنا عن أشياء، سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: نضر الله امرءا سمع منا حديثا فحفظه. . . " فذكر حديثا مطولا مرفوعا، ثم قال في آخره: "وسألنا عن الصلاة الوسطى، وهي الظهر". فهذا ظاهر واضح أن مروان سأل زيدا عن الصلاة الوسطى فأجابه، لم يذكره في الحديث المرفوع، ولا وصله به.
ورواه الدارمي 1: 75، عن عصمة بن الفضل، عن حرمى -بفتح الحاء والراء- بن عمارة، عن شعبة، عن عمرو بن سليمان، بهذا الإسناد، نحو رواية المسند، مطولا. وفي آخره بعد سياق الحديث المرفوع: "قال: وسألته عن صلاة الوسطى، فقال: هي الظهر". فسمى شيخ شعبة في هذه الطريق"عمرا".
والظاهر من سياق هذه الرواية أن أبان بن عثمان هو الذي سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى. والأمر في هذا قريب. أما الأمر البعيد، والذي لا يدل عليه سياق الكلام في الروايتين: رواية أحمد، ورواية الدارمي -فهو الزعم بأن"الصلاة الوسطى" مرفوع من كلام النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هو وهم -كما قلنا- ممن اختصر الحديث، فأخذ آخره دون أن يتأمل سياق القول ومعناه. والقسم المرفوع المطول من هذا الحديث -رواه ابن حبان في صحيحه، رقم: 66 بتحقيقنا، من طريق يحيى بن سعيد -شيخ أحمد فيه- وطوى أيضًا الكلمة الموقوفة. وقد خرجناه هناك.
ويؤيد ما قلنا: أن زيد بن ثابت إنما قال هذا استنباطا، كما سيأتي: 5459، 5460. ولو كان هذا عنده مرفوعا لما جاوزه إلى الاستنباط، إن شاء الله.(5/200)
5451- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الله بن يزيد قال، حدثنا حيوة بن شريح وابن لهيعة قالا حدثنا أبو عقيل زهرة بن معبد: أن سعيد بن المسيب(5/201)
حدثه أنه كان قاعدا هو وعروة بن الزبير وإبراهيم بن طلحة، فقال سعيد بن المسيب: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: الصلاة الوسطى هي الظهر. فمر علينا عبد الله بن عمر، فقال عروة: أرسلوا إلى ابن عمر فاسألوه. فأرسلوا إليه غلاما فسأله، ثم جاءنا الرسول فقال: يقول: هي صلاة الظهر. فشككنا في قول الغلام، فقمنا جميعا فذهبنا إلى ابن عمر، فسألناه فقال: هي صلاة الظهر. (1)
5452- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا العوام بن حوشب قال، حدثني رجل من الأنصار، عن زيد بن ثابت أنه كان يقول: هي الظهر. (2)
5453- حدثني أحمد بن إسحاق، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا ابن أبي ذئب= وحدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا ابن أبي ذئب=، عن
__________
(1) الخبر: 5451- عبد الله بن يزيد: هو المقرئ. مضت ترجمته في: 3180. زهرة بن معبد بن عبد الله بن هشام التيمي: تابعي ثقة، قال ابن أبي حاتم 1 /2 / 615"أدرك ابن عمر، ولا أدري سمع منه أم لا؟ " وتعقبه الحافظ في التهذيب، بالجزم بأنه سمع منه، وأن في البخاري ما يدل على ذلك.
إبراهيم بن طلحة: لم أتبين من هو؟ وليس له رواية في الخبر، ولا شأن في الإسناد، إنما كان أحد حاضري المجلس.
والخبر رواه البيهقي 1: 458-459، من طريق محمد بن سنان البصري، عن عبد الله بن يزيد، به.
وسيأتي: 5457، من طريق نافع، عن زهرة بن معبد، بنحوه.
وذكره السيوطي 1: 302، ونسبه للبيهقي، وابن عساكر فقط.
وهذا الخبر على صحة إسناده - فيه أن أبا سعيد الخدري وعبد الله بن عمر يريان أن الصلاة الوسطى هي الظهر.
وقد مضى عن أبي سعيد بإسناد صحيح أيضًا: 5392، أنها العصر.
وكذلك مضى عن ابن عمر بإسنادين صحيحين: 5389، 5391، أنه يرى أنها العصر.
وأبو سعيد وابن عمر ممن اختلفت الرواية عنهما في ذلك على القولين. ذلك أنهما لم يرويا فيه حديثا مرفوعا يكون حجة عليهما، إنما اجتهدا واستنبطا ما استطاعا، وانظر ابن كثير 1: 577.
(2) الخبر: 5452- العوام -بتشديد الواو- بن حوشب بن يزيد الشيباني: ثقة مجمع عليه. يروي عن كبار التابعين. ولكنه هنا روى عن رجل مجهول، صار به الإسناد ضعيفا.(5/202)
الزبرقان بن عمرو، عن زيد بن ثابت قال، الصلاة الوسطى صلاة الظهر. (1)
5454- حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن زيد بن ثابت أنه قال: الصلاة الوسطى: هي صلاة الظهر. (2)
5455- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع بن يزيد قال، حدثني الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان قال، حدثني عبد الله بن دينار، عن عبد الله بن عمر: أنه سئل عن الصلاة الوسطى قال: هي التي على أثر الضحى. (3)
5456- حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا نافع بن يزيد قال، حدثني الوليد بن أبي الوليد: أن سلمة بن أبي مريم حدثه: أن نفرا من قريش أرسلوا إلى عبد الله بن عمر يسألونه عن الصلاة الوسطى فقال له: هي التي على أثر صلاة الضحى. فقالوا له: ارجع واسأله، فما زادنا إلا عياء بها!! فمر بهم عبد الرحمن بن أفلح مولى عبد الله بن عمر، فأرسلوا إليه أيضا فقال: هي التي توجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة. (4)
__________
(1) الخبر: 5453- هذا الخبر مختصر. وسيأتي مطولا: 5460، من هذا الوجه، من رواية ابن أبي ذئب، عن الزبرقان.
(2) الخبر: 5454- الحجاج: هو ابن المنهال. وحماد: يحتمل أن يكون ابن زيد، وأن يكون ابن سلمة.
عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم. ونافع: هو مولى ابن عمر. وأخشى أن تكون روايته عن زيد بن ثابت مرسلة. فما أظنه أدرك طبقته من الصحابة. وقد نص ابن أبي حاتم على أن روايته عن حفصة وعائشة مرسلة.
(3) الخبر: 5455- ابن أبي مريم: هو سعيد بن أبي مريم، وهو سعيد بن الحكم، مضت ترجمته في: 3877.
نافع بن يزيد الكلاعي المصري: ثقة مأمون، ثبت في الحديث، لا يختلف فيه.
الوليد بن أبي الوليد أبو عثمان: تابعي ثقة. وقد حققنا ترجمته في شرح المسند: 5721.
وهذا الخبر مختصر. وسيأتي عقبه مطولا، عن تابعي آخر، غير عبد الله بن دينار.
(4) الخبر: 5456- مسلم بن أبي مريم، واسم أبيه: يسار، السلولي المدني: تابعي ثقة، روى عنه شعبة، ومالك، وابن جريج، والليث، وغيرهم. ووقع في المخطوطة والمطبوعة اسمه"سلمة" بدل"مسلم"، وهو خطأ من الناسخين. وليس في التراجم من يسمى بهذا.
والخبر رواه -بنحوه- الطحاوي 1: 99، من طريق يحيى بن عبد الله بن بكير، عن موسى بن ربيعة، عن الوليد بن أبي الوليد المديني، عن عبد الرحمن بن أفلح: "أن نفرا من أصحابه أرسلوه إلى عبد الله بن عمر. . . "، فذكر معناه.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 309 مختصرا، بنحوه. قال: "وعن عبد الرحمن بن أفلح: أن نفرا من الصحابة أرسلوني إلى ابن عمر، يسألونه عن الصلاة الوسطى. فقال: كنا نتحدث أنها الصلاة التي وجه فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القبلة، الظهر". وقال: "رواه الطبراني، ورجاله موثقون". ونقله السيوطي بنحوه 1: 301 أكثر اختصارا من هذا، ونسبه للطبراني في الأوسط"بسند رجاله ثقات". فروايتا الطحاوي والطبراني تؤيدان رواية ابن جرير هذه، لأنها عن"عبد الرحمن بن أفلح" الذي أرسله هؤلاء النفر من قريش يسأل ابن عمر.
وموسى بن ربيعة المصري: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم 4 /1 /142 - 143. وقال: "سئل أبو زرعة عنه؟ فقال: كان يكون بمصر، وهو ثقة لا بأس به". ولم أجد له ترجمة عند غيره.
والوليد بن أبي الوليد، كما سمع الخبر من مسلم بن أبي مريم، سمعه أيضًا من الرسول الذي أرسله النفر من قريش إلى ابن عمر.
و"عبد الرحمن بن أفلح": مترجم في ابن أبي حاتم 2 /2 /210: "عبد الرحمن بن أفلح مولى أبي أيوب. وهو أخو كثير بن أفلح. روى عن. . . روى عنه أبو النضر حديث العزلة. سمعت أبي يقول ذلك". وموضع النقط بياض في أصل كتاب ابن أبي حاتم وقال مصححه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني: "في الثقات: عن أم ولد أبي أيوب".
وترجمه ابن سعد 5: 220، هكذا: "عبد الرحمن بن أفلح، مولى أبي أيوب الأنصاري. وهو رضيع الخارجة بن زيد بن ثابت الأنصاري. وسمع من عبد الله بن عمر بن الخطاب".
ولم أجد له ترجمة غير ذلك، فهو هو الذي في هذا الخبر.
ولعل بعض الرواة وهم في جعله"مولى عبد الله بن عمر".
وقوله"إلا عياء بها": يقال"عي بالأمر عيا (بالكسر) وعياء": جهله وأشكل عليه أمره. وفي الحديث: "شفاء العي السؤال". وذكر المصدر الثاني (عياء) في المعيار للشيرازي.(5/203)
5457- حدثني ابن البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، أخبرنا نافع قال، حدثني زهرة بن معبد قال، حدثني سعيد بن المسيب: أنه كان قاعدا هو وعروة وإبراهيم بن طلحة، فقال له سعيد: سمعت أبا سعيد يقول: إن صلاة الظهر هي الصلاة الوسطى. فمر علينا ابن عمر، فقال عروة: أرسلوا إليه فاسألوه. فسأله الغلام فقال: هي الظهر. فشككنا في قول الغلام، فقمنا إليه جميعا فسألناه، فقال: هي الظهر. (1)
__________
(1) الخبر: 5457- نافع في هذا الإسناد: هو نافه بن يزيد، الذي ترجمنا له في: 5455. وهذا إسناد صحيح. والخبر مختصر من الخبر الماضي: 5451، من رواية حيوة وابن لهيعة، عن زهرة بن معبد.(5/204)
5458- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا أبو عامر، عن عبد الرحمن بن قيس، عن ابن أبي رافع، عن أبيه - وكان مولى لحفصة - قال: استكتبتني حفصة مصحفا وقالت لي: إذا أتيت على هذه الآية فأعلمني حتى أملها عليك كما أقرأنيها. فلما أتيت على هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، أتيتها فقالت: اكتب:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". فلقيت أبي بن كعب أو زيد بن ثابت، فقلت: يا أبا المنذر، إن حفصة قالت كذا وكذا!! قال: هو كما قالت، أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في غنمنا ونواضحنا! (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 5458- عثمان بن عمر بن فارس بن لقيط العبدي: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق، أخرج له الجماعة.
أبو عامر: هو الخزاز -بمعجمات- واسمه: صالح بن رستم، وهو ثقة، وثقه الطيالسي، وأبو داود، وغيرهما.
عبد الرحمن بن قيس العتكي، أبو روح البصري: ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات، وأخرج له هو وابن خزيمة في صحيحيهما، وترجمه ابن أبي حاتم 2 /2 /277-278 ترجمتين: 1320، 1321، وهما واحد، ولم يذكر فيه جرحا.
"ابن أبي نافع عن أبيه": لم أعرف من"ابن أبي رافع" هذا؟ ولم أجد له ترجمة، إلا أنه ذكر في التهذيب هكذا، في ترجمة عبد الرحمن بن قيس العتكي، في شيوخه الذين روى عنهم.
ويحتمل جدا أن يكون ابنا لعمرو بن رافع، الذي سيأتي ذكره في شرح: 5463.
وفي إسناد: 5464. وهذا الحديث مجهول الإسناد، كما ترى. وسيأتي بهذا الإسناد واللفظ: 5470، إلا حرفا واحدا، سنذكره.
وذكره السيوطي 1: 302، بنحوه مختصرا قليلا، قال: "أخرج عبد الرزاق، والبخاري في تاريخه وابن جرير، وابن أبي داود في المصاحف عن أبي رافع مولى حفصة. . . ".
فأما ابن جرير، فهذه روايته. وأما البخاري في التاريخ، فلم أعرف موضعه منه. وأما عبد الرزاق وابن أبي داود -فلم أجد عندهما من رواية أبي رافع- على اليقين عندي من ذلك. فلا أدري كيف هذا؟!
وهو حديث مرفوع، لقول حفصة: "حتى أملها عليك كما أقرأنيها". وفي الرواية الآتية: "كما أقرئتها"، بالنباء لما لم يسم فاعله. والذي يقرئ حفصة وتأخذ عنه القرآن، هو زوجها المنزل عليه الكتاب، صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي تصريحها بذلك، في: 5462، 5463، 5465.
وقولها"أملها": هكذا ثبت في المخطوطة. وفي المطبوعة"أمليها". وكلاهما صحيح، يقال: "أمللت الكتاب، وأمليته". وكلاهما نزل به القرآن: (فليملل وليه بالعدل) . من"أمللت". و: (فهي تملى عليه بكرة وأصيلا) ، من"أمليت". قال الفراء: "أمللت: لغة أهل الحجاز وبني أسد. وأمليت: لغة بني تميم وقيس".
قوله: "فلقيت أبي بن كعب، أو زيد بن ثابت، فقلت: يا أبا المنذر" - إلخ: شك الراوي في أيهما لقي، ثم رجح أنه أبي بن كعب، إذ أن كنيته: "أبو المنذر"، وأما زيد فكنيته: "أبو سعيد" ويقال: "أبو خارجة".
النواضح: جمع"ناضح"، وهو من الإبل: ما يستقى عليه الماء. ونضح زرعه: سقا بالدلو. يعني: أنهم في شغل بسقي نخيلهم على النواضح من إبلهم.(5/205)
وعلة من قال ذلك، ما: -
5459- حدثنا به محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني عمرو بن أبي حكيم قال: سمعت الزبرقان يحدث عن عروة بن الزبير، عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة، ولم يكن يصلي صلاة أشد على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم منها، قال: فنزلت:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى". وقال:"إن قبلها صلاتين وبعدها صلاتين". (1)
__________
(1) الحديث: 5459- عمرو بن أبي حكيم: هو عمرو بن كردي، أبو سعيد الواسطي، وهو ثقة، وثقه أبو داود، والنسائي، وغيرهما. ورواية شعبة عنه أمارة توثيقه عنده أيضًا.
الزبرقان: هو ابن عمرو بن أمية الضمري، بذلك جزم ابن سعد 5: 184، ذكره بعد"جعفر ابن عمرو"، بأنه"لم يفرق البخاري فمن بعده بينهما، إلا ابن حبان، ذكر هذا في ترجمة مفردة عن الذي يوي عنه كليب بن صبح"، ثم أنحى على ابن حبان لما فعل. وهذا عجب من العجب! فإن البخاري أفرد ترجمة"زبرقان، عن عمرو بن أمية، روى عنه كليب. ولكنهما فرقا بينهما، فما أدري ما الذي أنكره احافظ على ابن حبان؟!
والزبرقان بن عمرو، هذا: ثقة.
والحديث رواه أحمد في المسند 5: 183، عن محمد بن جعفر، عن شعبة، به.
ورواه أبو داود: 411، عن محمد بن المثنى -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد.
ورواه البخاري في الكبير - في ترجمة الزبرقان، عن إسحاق. عن عبد الصمد، عن شعبة، به، موجزا كعادته.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 99، من طريق عمرو بن مرزوق، عن شعبة، به.
وكذلك رواه البيهقي 1: 458، من طريق عمرو بن مرزوق.
وذكره ابن كثير 1: 577، عن رواية المسنج. ثم أشار إلى رواية أبي داود.
وذكره السيوطي 1: 301، وزاد نسبته للروياني، وأبي يعلى، والطبراني.
وهذه أسانيد صحاح.
وسيأتي عقب هذا، مطولا، غير موصول الإسناد.(5/206)
5460- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال: أخبرنا ابن أبي ذئب، عن الزبرقان قال: إن رهطا من قريش مر بهم زيد بن ثابت فأرسلوا إليه رجلين يسألانه عن الصلاة الوسطى. فقال زيد: هي الظهر. فقام رجلان منهم فأتيا أسامة بن زيد فسألاه عن الصلاة الوسطى فقال: هي الظهر. إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير، فلا يكون وراءه إلا الصف والصفان، الناس يكونون في قائلتهم وفي تجارتهم، فقال رسول الله:"لقد هممت أن أحرق على أقوام لا يشهدون الصلاة بيوتهم! قال: فنزلت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى". (1)
* * *
وكان آخرون يقرءون ذلك:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر".
* ذكر من كان يقول ذلك كذلك:
__________
(1) الحديث: 5460- هو مطول للحديث قبله، ولكنه هنا منقطع، كما سنذكر.
ورواه أحمد في المسند 5: 206 (حلبي) ، عن يزيد - وهو ابن هرون، عن ابن أبي ذئب، به، ولكن في روايته زيادة في أوله: "مر بهم زيد بن ثابت وهم مجتمعون، فأرسلوا إليه غلامين لهم يسألانه عن الصلاة الوسطى، فقال: هي العص. فقام إليه رجلان منهم فسألاه، فقال: هي الظهر".
ففي رواية أحمد أن زيد بن ثابت قال للغلامين: هي العصر. وأنه قال للرجلين اللذين قاما إليه: هي الظهر. وقد حذف من رواية الطبري هنا سؤال الغلامين وجواب زيد بأنها العصر. وهذه الزيادة ثابتة أيضًا في ابن كثير 1: 577، في نقله الحديث من مسند أحمد.
ولم أجدها في شيء من مصادر هذا الحديث غير ذلك.
ووقع في المسند"حدثنا يزيد بن أبي ذئب، عن الزبرقان"! وهو تخليط من الناسخين، ثبت أيضًا في مخطوطة المسند (م) ! فليس في الرواة من هذا اسمه. والحديث حدي"يزيد بن هرون"، عن"ابن أبي ذئب"، كما دلت عليه رواية الطبري هنا.
وزادت نسخة ابن كثير تخليطا إلى تخليط. في النقل عن المسند: "حدثنا يزيد بن أبي وهب، عن الزبرقان"!! ولسنا ندري، أهو من الناسخين أم من المطبعة؟!
والحديث رواه أيضًا الطحاوي في معاني الآثار 1: 99، عن الربيع بن سليمان المرادي، عن خالد بن عبد الرحمن، عن ابن أبي ذئب، عن الزبرقان. ولكنه مختصر، حذف منه ذكر أسامة بن زيد، وجعل قوله: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي الظهر بالهجير. . . " -إلى آخر الحديث- من كلام زيد بن ثابت، لا من كلام أسامة، ولعل هذا الاختصار سهو من بعض الرواة.
فقد أشار البخاري إليه من طريق ابن أبي ذئب، كعادته في الإيجاز، وأثبت أنه عن زيد وأسامة، فذكره في ترجمة الزبرقان 2 /1 /397، قال:
"وقال هشام: حدثنا صدقة، عن ابن أبي ذئب، قال: حدثنا زبرقان الضمري، عن زيد وأسامة- نحوه". يعني نحو حديث قبله سنذكره.
ثم قال حدثنا آدم، حدثنا ابن أبي ذئب، قال حدثنا زبرقان الضمري- نحوه".
ثم قال: "ورواه يحيى بن أبي بكير، عن ابن أبي ذئب نحوه".
فرواية أسامة بن زيد ثابتة في هذا الحديث من هذا الوجه، في كل الروايات، فحذفها وهم.
وكذلك هي ثابتة في مصادر أخر. فقد ذكره السيوطي كاملا 1: 301، ونسبه لأحمد، وابن منيع والنسائي، وابن جرير، والشاشي، والضياء.
وروى الطيالسي، نحوه، مختصرا: 628، عن أبي ذئب، عن الزبرقان، عن زهرة، قال"كنا جلوسا عند زيد بن ثابت، فأرسلوا إلى أسامة بن زيد، فسألوه عن الصلاة الوسطى؟ فقال: هي: الظهر، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصليها بالهجير".
وكذلك رواه البيهقي 1: 458، من طريق الطيالسي.
وذكره البخاري في الكبير 2 /1 /396-697، عن أبي داود، وهو الطيالسي، به.
ونقله ابن كثير 1: 577، من مسند الطيالسي.
والحديث المطول الذي هنا منقطع الإسناد كما قلنا. ودل على انقطاعه: الإسناد قبله، الذي فيه رواية الزبرقان عن عروة، ورواية الطيالسي، التي فيها روايته عن زهرة.
ولذلك قال ابن كثير -بعد نقله إياه من رواية مسند الإمام أحمد: "والزبرقان: هو ابن عمرو بن أمية الضمري، لم يدرك أحدا من الصحابة. والصحيح ما تقدم من روايته عن زهر بن معبد، وعروة. ابن الزبير".
وقال الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 308-309، "رواه أحمد، ورجاله موثقون، إلا أن الزبرقان لم يسمع من أسامة بن زيد بن ثابت".
ومما يجدر التنبيه إليه: أن السيوطي نسبه للنسائي -كما ذكرنا- ولكني لم أجده في النسائي. وقد قال الهيثمي في مجمع الزوائد: "رواه النسائي. وقال الشيخ في الأطاف: ليس في السماع، ولم يذكره أبو القاسم". يريد أن الحافظ المزي قال ذلك، فلعله ثابت في رواية بعض الرواة لسنن النسائي دون بعض.
الهاجرة، والهجير: نصف النهار عند زوال الشمس إلى العصر، وهو حينئذ أشد الحر.
والقائلة: الظهيرة، نصف النهار. والقيلولة: نومة نصف النهار، قال يقيل. وتسمى القيلولة"القائلة" أيضًا. وهو المراد هنا.(5/207)
5461- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا(5/208)
شعبة، عن أبي بشر، عن عبد الله بن يزيد الأزدي، عن سالم بن عبد الله: أن حفصة أمرت إنسانا فكتب مصحفا فقالت: إذا بلغت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى" فآذني. فلما بلغ آذنها، فقالت: اكتب:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (1)
5462- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن حفصة أمرت مولى لها أن يكتب لها مصحفا، فقالت: إذا بلغت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، فلا تكتبها حتى أمليها عليك كما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها. فلما بلغها، أمرته فكتبها:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا الله قانتين"= قال نافع: فقرأت ذلك المصحف فوجدت فيه"الواو". (2)
__________
(1) الخبر: 5461- أبو بشر: هو جعفر بن أبي وحشية، مضت ترجمت في: 3348.
عبد الله بن يزيد الأزدي". ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم 2 /2 /2000، فلم يذكر فيه جرحا، ونسبه: "الأزدي أو الأزدي".
والخبر رواه ابن أبي داود في المصاحف- ص: 85، عن محمد بن بشار -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد، وفيه بعد قوله: "الأزدي"-: "قال ابن أبي داود: وبعضهم يقول: الأودي".
ونقله ابن كثير 1: 581، عن ذا الموضع من الطبري.
وقد مضى هذا الخبر مختصرا: 5405، من رواية هشيم، عن أبي بشر، عن سالم، وظهر من هذه الرواية انقطاع ذاك الإسناد، إذ سقط منه"عبد الله بن يزيد" بين أبي بشر وسالم.
(2) الحديث: 5462- عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي. مضت تجمت في: 2039. عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم.
والحديث رواه ابن أبي داود، ص: 86، عن محمد بن بشار، عن عبد الوهاب، وهو القفي، بذا الإسناد. ولفظه في آخره: "قال نافع: فقرأت ذلك في المصحف، فوجدت الواوات"! هكذا ثبت فيه، وأخشى أن يكون من تخليط المستشرق ناشر الكتاب.
ورواه البيهقي 1: 462، بنحوه، من طريق عارم بن الفضل، عن حماد بن زيد، عن عبيد الله، به، وفي آخره: "قال نافع: فرأيت الواو معلقة".
قال البيهقي: "وهذا مسند، إلا أن فيه إرسالا من جهة نافع، ثم أكده بما أخبر عن رؤيته".
ونقله ابن كثير 1: 581، عن هذا الموضع من الطبري.
وقد مضى نحو هذا الحديث: 5406، من رواية حماد بن سلمة، عن عبيد الله. وبينا هناك انقطاعه بين نافع وحفصة، وسيأتي عقب هذا بنحو، من طريق حماد بن سلمة أيضًا.(5/209)
5463- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: أنها قالت: لكاتب مصحفها: إذا بلغت مواقيت الصلاة فأخبرني حتى آمرك ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول. فلما أخبرها قالت: اكتب، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (1)
__________
(1) الحديث: 5463- هو تكرار للذي قبله، بنحوه، إلا أن في هذا التصريح برفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، كمثل الرواية الماضية: 5406، من طريق حماد بن سلمة أيضًا، وهو منقطع بين نافع وحفصة، كسابقيه.
وهذه الروايات الثلاث المنقطعة بين نافع وحفصة: 5406، 5462، 5463- هي في حقيقتها متصلة، إذ عرفنا الواسطة بينهما، وهو"عمرو بن رافع" مولى عمر، أو مولى حفصة بنت عمر. وهو الذي كتب لها المصحف المذكور في هذه الروايات:
فروى نحوه الطحاوي في معاني الآثار 1: 102، من طريق إبراهيم بن سعد، عن ابن إسحاق، قال: "حدثني أبو جعفر محمد بن علي، ونافع مولى عبد الله بن عمر، أن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب حدثهما: أنه كان يكتب المصاحف عى عهد أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. قال: استكتبتني حفصة بنت عمر زوج النبي صلى الله عليه وسلم مصحفا، وقالت لي: إذا بلغت هذه الآية من سورة البقرة فلا تكتبها حتى تأتيني، فأمليها عليك كما حفظتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فلما بلغتها أتيتها بالورقة التي أكتبها، فقالت: اكتب: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". وكذلك رواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: 86، من طريق محمد بن إسحاق. بهذا الإسناد، نحوه.
وكذلك رواه البيهقي 1: 462 - 463، بإسناده من طريق ابن إسحاق، إلا أن في روايته"عمر بن رافع" بدل"عمرو"، وكأنه في كلامه يشير إلى أن هذا خطأ من ابن إسحاق. وهو في هذا واهم، فإن روايتي الطحاوي وابن أبي داود من طريق ابن إسحاق - فيما"عمرو" على الصواب. فالخطأ هو ممن دون ابن إسحاق عنده.
وإسناد الحديث من هذا الوجه صحيح.
أبو جعفر محمد بن علي: هو الباقر، محمد بن علي بن الحسين علي بن أبي طالب، وهو تابعي ثقة مجمع عليه.
عمرو بن رافع مولى عمر: تابعي ثقة. ترجمه ابن سعد في الطبقات 5: 220، وابن أبي حاتم 3 /1 /232، ووثقه ابن حبان. وقال السيوطي في رجال الموطأ: "ليست له رواية في الكتب الستة، ولا مسند أحمد". وفي التهذيب أن البخاري ذكره فقال: "قال بعضهم: عمر بن رافع، ولا يصح. وقال بعضهم: أبو رافع". وقال بعضهم أيضًا: "عمرو بن نافع". وهي ثابتة في رواية ابن أبي داود. والراجح الصحيح: "عمرو بن رافع"، لثبوته كذلك في روايات أخر لهذا الحديث مرفوعا وموقوفا، ومنها الروايتان الآتيان عقب هذه.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 320"عن عمرو بن رافع مولى عمر بن الخطاب". وقال: "رواه أبو يعلى، ورجاله ثقات".
وذكره السيوطي 1: 302، وزاد نسبته لأبي عبيد، وعبد بن حميد، وابن الأنباري في المصاحف. وروى مالك في الموطأ، نحو هذا الحديث، ص: 139، موقوفا على حفصة - عن زيد بن أسلم، عن عمرو بن رافع.
وكذلك رواه الطحاوي 1: 102، وابن أبي داود. ص: 86-87، والبيهقي 1: 162 - كلهم من طريق مالك، به.(5/210)
5464- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبدة بن سليمان قال، حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثني أبو سلمة، عن عمرو بن رافع مولى عمر قال: كان مكتوبا في مصحف حفصة:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". (1)
5465- حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبي وشعيب، عن الليث قال، حدثنا خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن زيد، عن عمرو بن رافع قال: دعتني حفصة فكتبت لها مصحفا فقالت: إذا بلغت آية الصلاة فأخبرني. فلما كتبت:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قالت:"وصلاة العصر"، أشهد أني سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. (2)
__________
(1) الخبر: 5464- هذا إسناد صحيح. وهو مختصر مما قبله.
وكذلك رواه الطحاوي 1: 102، مختصرا، من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن عمرو، به. ورواه ابن أبي داود، ص: 87، من طريق يزيد، وهو ابن هارون، عن محمد بن عمرو، مطولا. ورواية ابن أبي داود: "وصلاة العصر"، كرواية الطبري هنا. وأما رواية الطحاوي ففيها: "وهي صلاة العصر".
وانظر 5458، 5470.
(2) الحديث 5465- خالد بن يزيد الجمحي الإسكندراني المصري. أبو عبد الحيم: ثقة، قال ابن يونس: "كان فقيها مفتيا"، ووثقه أبو زرعة، والنسائي، وغيرهما.
ابن أبي هلال: هو سعيد بن أبي هلال الليثي المصري، مضت ترجمته في: 1495.
زيد: هو ابن أسلم العدوي، الفقيه المدني، وهو تابعي ثقة. روى عنه مالك، وابن جرير، والثوري وغيرهم.
عمرو بن رافع: مضت ترجمته في شرح: 5463.
ووقع هنا في المخطوطة: "عن أبي هلال، عن زيد بن عمر بن رافع". وهو تخليط من الناسخ.
والحديث مضى معناه مرارا، وخرجناه مفصلا.(5/211)
5466- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب بن الليث، عن الليث قال، أخبرني خالد بن يزيد، عن ابن أبي هلال، عن زيد: أنه بلغه عن أبي يونس مولى عائشة مثل ذلك.
5467- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خالد، عن سعيد، عن زيد بن أسلم: أنه بلغه عن أبي يونس مولى عائشة، عن عائشة مثل ذلك. (1)
__________
(1) الحديثان: 5466، 5467- أولهما منقطع بين زيد بن أسلم وأبي يونس، ثم هو مرسل، لم تذكر فيه. والثاني منقطع، ولكن فيه"عن عائشة".
وهما حديث واحد، وحقيقته أنه متصل صحيح.
فرواه مالك في الموطأ، ص: 138-139، عن زيد بن أسلم، عن القعقاع بن حكيم، عن أبي يونس، قال: "أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفا، ثم قالت: إذا بلغت هذه الآية فآذني: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين) . فلما بلغتها آذنتها، فأملت على: "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين". قالت عائشة: سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
ورواه أحمد في المسند 6: 73 (حلبي) ، عن إسحاق، وهو ابن عيسى الطباع، عن مالك، به.
ونقله ابن كثير 1: 580، عن رواية أحمد في هذا الموضع.
ورواه أحمد أيضًا 6: 178 (حلبي) ، عن عبد الرحمن، وهو ابن مهدي، عن مالك. وكذلك رواه مسلم 1: 174-175، وأبو داود: 410، والترمذي 4: 76، والنسائي 1: 82-83، والطحاوي في معاني الآثار 1: 102، وابن أبي داود في المصاحف، ص: 84، والبيهقي 1: 462 - كلهم من طريق مالك.
وذكره ابن حزم في المحلى 4: 254، من رواية مالك.
وذكره السيوطي 1: 302، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن الأنباري في المصاحف.
ورواه ابن أبي داود أيضًا، ص: 83-84، بنحوه، عن محمد بن إسماعيل الأحمسي، عن جعفر ابن عون، عن هشام، وهو ابن سعد، عن زيد، عن أبي يونس - فذكره كرواية مالك، ولكن ليس قولها أنها سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وهذا أيضًا إسناد صحيح، رواته ثقات.(5/212)
5468- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قالا أخبرنا شعبة، عن أبي إسحاق، عن عمير بن مريم، عن ابن عباس:" حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر". (1)
- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: كان عبيد بن عمير يقرأ:"وحافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين".
5470- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عثمان بن عمر قال، حدثنا أبو عامر، عن عبد الرحمن بن قيس، عن ابن أبي رافع، عن أبيه - وكان مولى حفصة - قال: استكتبتني حفصة مصحفا وقالت: إذا أتيت على هذه الآية فأعلمني حتى أملها عليك كما أقرئتها. فلما أتيت على هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، أتيتها فقالت: اكتب:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر"، فلقيت أبي بن كعب أو زيد بن ثابت فقلت: يا أبا المنذر،
__________
(1) الخبر: 5468- هبيرة، بضم الهاء وفتح الباء الموحدة، بن يريم، بفتح الياء التحتية في أوله وكسر الراء بعدها تحتية ساكنة: مضت ترجمته: 3001. ووقع اسمه هنا في المخطوطة والمطبوعة"عمير بن مريم". وهو خطأ. ووقع في المحلى -في رواية هذا الخبر- مرتين"عمير بن يريم"، ولم نعرف صوابه حين كتبنا التعليق على المحلى، فذكرنا أقوالا فيما يحتمل من التصويب، كلها تكلف. ثم استبان الصواب من رواية البيهقي هذا الخبر، كما سيأتي.
والخبر رواه البيهقي 1: 463، من طريق إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير، عن شعبة، عن أبي إسحاق -وهو السبيعي- عن هبيرة بن يريم، عن ابن عباس، ولم يذكر لفظه.
وذكره ابن حزم في المحلى 4: 254، تعليقا - عن يحيى بن سعيد القطان، عن شعبة، عن أبي إسحاق، به، بلفظ: "وصلاة العصر".
ثم ذكره 4: 255، تعليقا أيضًا - عن وكيع، عن شعبة، به بلفظ: "صلاة العصر"، وقال: "هكذا بلا واو".
ورواه ابن أبي داود في المصاحف، ص: 77، عن محمد بن بشار، عن محمد [وهو ابن جعفر] ، عن شعبة، به، بلفظ: "وصلاة العصر". ووقع في الإسناد أيضًا "عمير بن يريم". وصوابه: "هبيرة"، كما قلنا آنفًا.
وذكره السيوطي 1: 303، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد. ووقع أيضًا: "عمير بن مريم".(5/213)
إن حفصه قالت كذا وكذا. قال: هو كما قالت! أو ليس أشغل ما نكون عند صلاة الظهر في نواضحنا وغنمنا؟ (1)
* * *
وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى صلاة المغرب.
* ذكر من قال ذلك:
5471- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد السلام، عن إسحاق بن أبي فروة، عن رجل عن قبيصة بن ذؤيب قال: الصلاة الوسطى صلاة المغرب، ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها، ولا تقصر في السفر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها ولم يعجلها؟ (2)
* * *
قال أبو جعفر: ووجه قبيصة بن ذؤيب قوله:"الوسطى" إلى معنى: التوسط الذي يكون صفة للشيء، يكون عدلا بين الأمرين، كالرجل المعتدل القامة، الذي لا يكون مفرطا طوله ولا قصيرة قامته، ولذلك قال:"ألا ترى أنها ليست بأقلها ولا أكثرها".
* * *
وقال آخرون: بل الصلاة الوسطى التي عناها الله بقوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، هي صلاة الغداة.
* ذكر من قال ذلك:
5472- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عفان قال، حدثنا همام قال، حدثنا
__________
(1) الحديث: 5470- مضى بهذا الإسناد: 5458، وفصلنا القول فيه هناك. وثبت هنا في المطبوعة، كما ثبت هناك"أمليها" -بدل"أملها". وانظر أيضًا: 5464، 5465.
(2) الحديث: 5471- هذا إسناد منهار، لا شيء!
عبد السلام: هو ابن حرب، وهو ثقة. مضى في: 1184.
إسحاق بن أبي فروة: هو إسحاق بن عبد الله بن أبي فروة المدني، وهو ضعيف جدا. قال ابن معين: "كذاب". وقال أبو حاتم: "متروك الحديث". وقال البخاري: "تركوه". وقال أيضًا: "نهى أحمد بن حنبل عن حديثه".
ثم رواه إسحاق -على ضعفه- عن رجل مبهم فزاده ضعفا، مما جعله"عن قبيصة بن ذؤيب"، مرسلا، فضاعف ضعفه.
وقبيصة بن ذؤيب بن حلحلة الخزاعي: تابعي كبير ثقة، من علماء هذه الأمة وفقهائها، ولكن أنى يصل هذا الإسناد إليه؟!
وهذا الحديث نقله السيوطي 1: 305، ولم ينسبه لغير الطبري.
ونقل ابن كثير 1: 582، والحافظ في الفتح 8: 147 - القول بأنها المغرب، عن قبيصة بن ذؤيب، نقلا عن رواية الطبري وحده! وما كان لهما أن ينسباه إليه مع انهيار إسناده! فالقول لا ينسب لعالم إلا أن يثبت عنه. وهذا لم يثبت عن قبيصة.(5/214)
قتادة، عن صالح أبي الخليل، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: الصلاة الوسطى صلاة الفجر. (1)
5473- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر، عن عوف، عن أبي رجاء قال: صليت مع ابن عباس الغداه في مسجد البصرة، فقنت بنا قبل الركوع وقال: هذه الصلاة الوسطى التي قال الله:
__________
(1) الخبر: 5472- صالح أبو الخليل: هو صالح بن أبي مريم الضبعي، كنيته: أبو الخليل. مضى في: 1899، 3343. ووقع في المطبوعة: "صالح بن الخليل". وهو خطأ، والصواب من المخطوطة.
والخبر رواه الطحاوي 1: 101، عن ابن مرزوق، عن عفان، بهذا الإسناد.
ورواه البيهقي 1: 461، من طريق إبراهيم بن مروزق، عن عفان، بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي 1: 301، ولم ينسبه لغير الطبري والبيهقي.
ورواه النسائي 1: 102 في حديث مطول، رواه عن أبي عاصم، عن حبان بن هلال، عن حبيب، عن عمرو بن هرم، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، قال: "أدلج رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عرس، فلم يستيقظ حتى طلعت الشمس أو بعضها، فلم يصل حتى ارتفعت الشمس، فصلى. وهي صلاة الوسطى".
فالحديث مرفوع، إلا بيان أنها صلاة الوسطى، فإنه موقوف على ابن عباس من كلامه، كما هو ظاهر.
وهذا إسناد صحيح. حبان بن هلال الباهلي: ثقة. قال أحمد: "إليه المنتهى في التثبت بالبصرة". و"حبان" في هذا: بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة.
حبيب: هو ابن أبي حبيب الأنماطي الجرمي - بفتح الجيم وسكون الراء. وهو ثقة/ لينه بعضهم دون حجة. وذكر البخاري في الكبير 1 /2 /313 في ترجمته، عن حبان، قال"حدثنا حبيب بن أبي حبيب الجرمي، ثقة". ولم يذكر فيه جرحا.
عمرو بن هرم الأزدي البصري: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وأبو حاتم وغيرهم.
جابر بن زيد: هو أبو الشعثاء الأزدي البصري، وهو تابعي ثقة عالم مشهور، مجمع عليه.(5/215)
"وقوموا لله قانتين".
5474- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن عوف، عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس، فذكر نحوه.
5475- حدثنا عباد بن يعقوب الأسدي قال، حدثنا شريك، عن عوف الأعرابي، عن أبي رجاء العطاردي قال: صليت خلف ابن عباس الفجر، فقنت فيها ورفع يديه ثم قال: هذه الصلاة الوسطى التي أمرنا الله أن نقوم فيها قانتين.
5476- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عوف، عن أبي رجاء قال: صلى بنا ابن عباس الفجر، فلما فرغ قال: إن الله قال في كتابه:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، فهذه الصلاة الوسطى.
5477- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مروان، يعني ابن معاوية -، عن عوف، عن أبي رجاء العطاردي، عن ابن عباس نحوه. (1)
5478- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف،
__________
(1) الأخبار: 5473-5477، كلها بمعنى، وكلها من رواية عوف، وهو ابن أبي جميلة الأعرابي، عن أبي رجاء، وهو العطاردي.
وعوف بن أبي جميلة: مضى في: 2905.
وأبو رجاء العطاردي: هو عمران بن ملحان، وهو تابعي قديم مخضرم، ثقة. أخرج له الجماعة. عمر عمرا طويلا، أزيد من 120سنة.
وعباد بن يعقوب الرواجني الأسدي -شيخ الطبري في الإسناد (5475) -: ثقة في الحديث، شيعي في الرأي. روى عنه البخاري، والترمذي، وابن خزيمة، وغيرهم.
والخبر رواه الطحاوي 1: 101، من طريق أبي عاصم الضحاك بن مخلد، عن عوف به.
ورواه البيهقي 1: 461، من طريق عمرو بن حبيب، عن عوف، به.
ونقله ابن كثير 1: 576، عن روايات الطبري هذه.
وذكره الحافظ في الفتح 8: 146، عن الطبري.
وذكره السيوطي 1: 301، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وابن أبي شيبة في المصنف، وابن الأنباري في المصاحف، وعبد بن حميد، وابن المنذر.
وهو في مصنف عبد الرزاق 1: 83، مختصرا، عن جعفر بن سليمان، وهو الضبعي، عن عوف. والخبر بالإسنادين الأولين: 5473، 5474 سيأتي بهما مجموعين في سياق واحد: 5533.(5/216)
عن أبي المنهال، عن أبي العالية، عن ابن عباس: أنه صلى الغداة في مسجد البصرة، فقنت قبل الركوع وقال: هذه الصلاة الوسطى التي ذكر الله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين". (1)
5479- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا المهاجر، عن أبي العالية قال: سألت ابن عباس بالبصرة ها هنا، وإن فخذه لعلى فخذي، فقلت: يا أبا فلان، أرأيتك صلاة الوسطى التي ذكر الله في القرآن، ألا تحدثني أي صلاة هي؟ قال: وذلك حين انصرفوا من صلاة الغداة، فقال: أليس قد صليت المغرب والعشاء الآخرة؟ قال قلت: بلى! قال: ثم صليت هذه؟ قال: ثم تصلي الأولى والعصر؟ قال قلت: بلى! قال: فهي هذه. (2)
5480- حدثنا محمد بن عيسى الدامغاني قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال: صليت خلف عبد الله بن قيس بالبصرة زمن عمر صلاة الغداة، قال: فقلت لرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبي: ما الصلاة الوسطى؟ قال: هذا الصلاة. (3)
__________
(1) الخبر: 5478- هذا إسناد صحيح. عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي.
أبو المنهال: هو سيار بن سلامة الرياحي البصري. وهو ثقة معروف، أخرج له الجماعة.
أبو العالية: هو رفيع بن مهران الرياحي البصري. مضى في: 184، 1783.
والخبر نقله ابن كثير 1: 576، عن هذا الموضع.
وكذلك نقله السيوطي 1: 301.
وأشار الحافظ في الفتح 8: 146، إلى هذا الخبر مع الأخبار الثلاثة بعده - إشارة واحدة.
(2) الخبر: 5479- وهذا إسناد صحيح.
المهاجر: هو ابن مخلد، أبو مخلد، مولى البكرات. وهو ثقة، لينه بعضهم. وترجمه البخاري في الكبير 4 /1 /381، فلم يذكر فيه جرحا.
وهذا الخبر لم يذكره ابن كثير ولا السيوطي، إنما أشار إليه الحافظ في الفتح مع الذي قبله واللذين بعده، كما قلنا آنفًا.
(3) الخبر: 5480- الربيع بن أنس البكري الخراساني: تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2 /1 /248، وابن سعد 7 /2 /102-103، وابن أبي حاتم 1 /2 / 454.
عبد الله بن قيس، الذي صلى خلفه أبو العالية: هو أبو موسى الأشعري رضي الله عنه. كما بين ذلك في رواية الطحاوي هذا الخبر.
وهذا الخبر رواه أبو العالية عن رجل من الصحابة لم يذكر اسمه. وجهالة الصحابي لا تضر، كما هو معروف عند أهل العلم بالحديث.
ورواه الطحاوي 1: 101، من طريق أبي داود، عن عبد الله بن المبارك، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير 1: 576، عن هذا الموضع من الطبري.
وكذلك ذكره السيوطي 1: 301، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن الأنباري.
وإسناده صحيح، وسيأتي بنحوه: 5482 بإسناد ضعيف.(5/217)
5481- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عوف، عن خلاس بن عمرو، عن ابن عباس: أنه صلى الفجر فقنت قبل الركوع، ورفع إصبعيه وقال: هذه الصلاة الوسطى. (1)
5482- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: أنه صلى مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فلما أن فرغوا قال، قلت لهم: أيتهن الصلاة الوسطى؟ قالوا: التي صليتها قبل. (2)
5483- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن عثمة قال، حدثنا سعيد بن
__________
(1) الخبر: 5481- خلاس بن عمرو: مضى في: 5314. وهذا إسناد صحيح.
والخبر ذكره ابن كثير 1: 576، موجزا منسوبا لابن جرير. ولم يذكره السيوطي.
(2) الخبر: 5482- هو في معنى الخبر: 5480، ولكن هذا ضعيف الإسناد لإبهام الشيخ الذي روى عنه الطبري.
وذكره ابن كثير 1: 576، فقال: "وروى من طريق أخرى عن البيع. . . ". يعني هذه الرواية.
ومع هذا فإن مخرج الخبر معروف بإسناد صحيح، غير هذا الذي جهله الطبري.
فرواه عبد الرزاق في المصنف 1: 183، "عبد أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية، قال: صلينا مع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الغداة، فلما فرغنا قلت: أي صلاة صلاة الوسطى؟ قال: التي صليت الآن".
فلا يضر بعد جهالة شيخ الطبري، لأن عبد الرزاق عن أبي جعفر الرازي -والد ابن أبي جعفر- مباشرة.
وأبو جعفر: مضت ترجمته في: 164.
ولذلك ذكر السيوطي 1: 301 هذا الخبر، نسبه لعبد الرزاق، وابن جرير.(5/218)
بشير، عن قتادة، عن جابر بن عبد الله قال: الصلاة الوسطى صلاة الصبح. (1)
5484- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا عبد الملك بن أبي سليمان قال: كان عطاء يرى أن الصلاة الوسطى صلاة الغداة.
5485- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة في قوله:" والصلاة الوسطى"، قال: صلاة الغداة.
5486- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: الصبح.
5487- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5488- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن عبد الله بن شداد بن الهاد قال: الصلاة الوسطى صلاة الغداة.
5489- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى"، قال: الصلاة الوسطى صلاة الغداة.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة: أن الله تعالى ذكره قال:"حافظوا على الصلوات
__________
(1) الخبر: 5483- إسناده صحيح.
ابن عثمة: هو محمد بن خالد، و"عثمة" أمه. مضى في: 90، 5314.
والخبر نقله ابن كثير 1: 576، عن هذا الموضع.
وذكره السيوطي 1: 301، ولم ينسبه لغير الطبري.(5/219)
والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين"، بمعنى: وقوموا لله فيها قانتين. قال: فلا صلاة مكتوبة من الصلوات الخمس فيها قنوت سوى صلاة الصبح، فعلم بذلك أنها هي دون غيرها.
* * *
وقال آخرون: هي إحدى الصلوات الخمس، ولا نعرفها بعينها.
* ذكر من قال ذلك:
5490- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني هشام بن سعد قال: كنا عند نافع، ومعنا رجاء بن حيوة، فقال لنا رجاء: سلوا نافعا عن الصلاة الوسطى. فسألناه، فقال: قد سأل عنها عبد الله بن عمر رجل فقال: هي فيهن، فحافظوا عليهن كلهن. (1)
5491- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن قيس بن الربيع، عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة قال: سألت الربيع بن خثيم عن الصلاة الوسطى، قال: أرأيت إن علمتها كنت محافظا عليها ومضيعا سائرهن؟ قلت: لا! فقالا فإنك إن حافظت عليهن فقد حافظت عليها. (2)
__________
(1) الخبر: 5490- وهذا إسناد صحيح. هشام بن سعد المدني: ثقة. تكلم فيه بعضهم من جهة حفظه. وترجمه البخاري في الكبير 4 /2 /200، فلم يذكر فيه جرحا. وقال: "سمع نافعا".
والخبر ذكره السيوطي 1: 300، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
وذكره الحافظ في الفتح 8: 147، وأنه أخرجه ابن أبي حاتم"بإسناد حسن، عن نافع". وأنه"آخر ما صححه ابن أبي حاتم".
وأشار ابن كثير 1: 582، إلى روايته عند ابن أبي حاتم فقط. ثم قال: "وفي صحته نظر. والعجب أن هذا القول اختاره الشيخ أبو عمر بن عبد البر النمري، إمام ما وراء البحر [يعني الأندلس] . وإنها لإحدى الكبر؛ إذا اختار مع اطلاعه وحفظه، ما لم يقم عليه دليل من كتاب ولا سنة ولا أثر"!!
هكذا قال ابن كثير. والظاهر من سياق هذا الخبر: أن ابن عمر يريد الحض على المحافظة على الصلوات كلها، لا أنه يريد أنها غير معينة. وقد صح عنه تعيينها في قولين: العصر، والظهر. انظر ما مضى: 5389، 5391، 5451، 5455.
ولا معنى للإنكار على ابن عبد البر، فإنه لم ينفرد بذلك. وقد اختاره أيضًا إمام الحرمين من الشافعية، كما ذكر الحافظ في الفتح 8: 147.
(2) الخبر: 5491- نسير بن ذعلوق أبو طعمة: تابعي ثقة. وثقه ابن معين وغيره.
"نسير": بضم النون وفتح السين المهملة، و"ذعلوق": بضم الذال المعجمة وسكون العين المهملة وضم اللام، "أبو طعمة": بضم الطاء وسكون العين المهملتين، وهي كنية"نسير".
ووقع اسم في المخطوطة"سير" بدون النون. وهو خطأ. ووقع فيها وفي المطبوعة: "بن ذعلوق، عن أبي فطيمة"! وهو خطأ سخيف. فليس في الرواة من يسمى بهذا. بل هو: "عن نسير بن ذعلوق أبي طعمة" ذكر باسمه ونسبه وكنيته. فأخطأ الناسخون، فحرفوا"طعمة" إلى"فطيمة"؛ ثم زادوا الخطأ تخليطا، فزادوا بين الرجل وكنيته حرف"عن".
ونسير معروف بالرواية عن الربيع بن خثيم، وهو الذي سأله.
الربيع بن خثيم: مضى في: 1430. ووقع في المطبوعة هنا"خيثم"، كما وقع فيها هناك. وهو خطأ صوابه"خثيم": بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة وسكون الياء التحتية. وثبت على الصواب في المخطوطة.
وهذا القول عن الربيع بن خثيم، نقله عنه أيضًا الحافظ في الفتح 8: 147، وذكر أنه قال به أيضًا: سعيد بن جبير وشريح القاضي.(5/220)
5492- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن سعيد بن المسيب قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه هكذا= يعني مختلفين في الصلاة الوسطى= وشبك بين أصابعه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها قبل في تأويله: وهو أنها العصر.
والذي حث الله تعالى ذكره عليه من ذلك، نظير الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحث عليه. كما: -
5493- حدثني به أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي قال، حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا أبي، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن خير بن نعيم الحضرمي، عن عبد الله بن هبيرة النسائي= قال:
__________
(1) الخبر: 5492- إسناده صحيح جدا.
والخبر نقله ابن كثير 1: 583، عن هذا الموضع.
وكذلك نقله الحافظ في الفتح 8: 147، عن ابن جرير، وقال: "بإسناد صحيح".
ونقله السيوطي 1: 300، ولم ينسبه لغير الطبري.(5/221)
وكان ثقة=، عن أبي تميم الجيشاني، عن أبي بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر، فلما انصرف قال: إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فتوانوا فيها وتركوها، فمن صلاها منكم أضعف أجره ضعفين، ولا صلاة بعدها حتى يرى الشاهد= والشاهد: النجم. (1)
5494- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني خير بن نعيم، عن ابن هبيرة، عن أبي تميم الجيشاني: أن أبا بصرة الغفاري قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة العصر بالمخمص فقال: إن هذه الصلاة فرضت على من كان قبلكم فضيعوها وتركوها، فمن حافظ عليها منكم أوتي أجرها مرتين. (2)
* * *
وقال صلى الله عليه وسلم:"بكروا بالصلاة في يوم الغيم، فإنه من فاتته العصر حبط عمله".
__________
(1) الحديث: 5493- أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي، شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة، ولكن رواية الطبري عنه ثابتة في تاريخه مرارا.
يعقوب: هو ابن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف.
يزيد بن أبي حبيب المصري: مضت ترجمته في: 4348.
خير بن نعيم بن مرة الحضرمي المصري، قاضي مصر: ثقة. قال يزيد بن أبي حبيب: "ما أدركت من قضاة مصر، ص: 348-352.
"خير": بفتح الخاء المعجمة وسكون الياء التحتية، وكتب في المخطوطة -في هذه الرواية والتي بعدها- غير منقوط. وكتب في المطبوعة -في الموضعين-"جبر"، وهو تصحيف.
عبد الله بن هبيرة السبائي: مضت ترجمته في: 1914. و"السبائي"! بفتح السين المهملة والباء الموحدة ثم همزة مقصورة، نسبة إلى"سبأ بن يشجب". ووقع في المطبوعة"النسائي"! وهو تصحيف جاهل.
أبو تميم الجيشاني: هو عبد الله بن مالك بن أبي الأسحم الجيشاني الرعييني المصري، وأصله من اليمن. وهو من كبار التابعين، ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ثقة معروف. وترجم له الحافظ في الإصابة، في الكنى 7: 25، وأحال على موضعه في الأسماء ولكنه لم يذكره حيث أشار!
"الجيشاني": بفتح الجيم وسكون الياء التحتية ثم شين معجمة، نسبة إلى"جيشان": قبيل كبير من اليمن.
أبو بصرة الغفاري: صحابي معروف، روى عنه بعض الصحابة وبعض التابعين. واختلف في اسمه: والراجح الذي جزم به البخاري في الكبير 2 /1 /114 أنه"حميل -بضم الحاء المهملة- بن بصرة". وكذلك هو في التهذيب، وذكره ابن أبي حاتم 1 /1 /517 في حرف الجيم، في اسم"جميل". وترجمه الحافظ في الإصابة، في الكنى 7: 20.
و"بصرة": بفتح الباء الموحدة وسكون الصاد المهملة. ووقع في المخطوطة -في هذا الحديث والذي بعده-"نصرة". في المطبوعة في الموضعين"نضرة". وكلاما خطأ وتصحيف، وهذا التصحيف في كنيته قديم. وقع فيه الدبري راوي المصنف عن عبد الرزاق، (المصنف 1: 183) . وقال أبو سعيد راويه عن الدبري راوي المصنف عن عبد الرزاق، (المصنف 1: 183) . وقال أبو سعيد راويه عن الدبري: "هكذا قال الدبري: أبو نصرة، بالصاد والنون في أصله وكذا قال الدبري. والصواب: "أبو بصرة".
والحديث رواه أحمد في المسند 6 396-397، عن يعقوب، وهو ابن إبراهيم بن سعد، بهذا الإسناد.
ورواه مسلم 1: 228، عن زهير بن حرب، عن يعقوب، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، إحالة على الرواية التي قبله، وهي التالية لهذا هنا.
ورواه أحمد أيضًا 6: 397، عن يحيى بن إسحاق، عن ابن لهيعة، عن عبد الله بن هبيرة، بهذا الإسناد، نحوه.
وسيأتي عقب هذا بإسناد آخر.
وقوله هنا وفي الرواية الآتية: "فرضت على من كان قبلكم" - في رواية المسند عن يعقوب: "عرضت"، بدل"فرضت". وكذلك في روايته عن يحيى بن إسحاق. وكذلك في سائر الروايات التي سنذكر في الحديث التالي، وأنا أرجح أن ما هنا تحريف من الناسخين.
(2) الحديث: 5494- علي بن داود بن يزيد التميمي القنطري، شيخ الطبري: ثقة، وثقه الخطيب وغيره. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد 11: 424 - 425.
عبد الله بن صالح: هو أبو صالح، كاتب الليث بن سعد. مضت ترجمته في: 186.
والحديث رواه أحمد 6: 397 (حلبي) ، عن يحيى بن إسحاق، عن ليث بن سعد، بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية ابن لهيعة قبله.
ورواه مسلم 1: 228، عن قتيبة بن سعيد، عن الليث، به - وساق لفظه.
ورواه البيهقي 1: 448، من طريق يحيى بن بكير، عن الليث، به.
ورواه النسائي 1: 90، عن قتيبة، كرواية مسلم عن قتيبة نفسه. ولكن وقع في طبعتي النسائي بمصر خطأ في الإسناد، ففيهما: "الليث عن خالد بن نعيم الحضرمي، عن ابن جبيرة"! والظاهر أنه خطأ قديم من بعض الناسخين، إذ ثبت الخطأ نفسه في مخطوطة الشيخ عابد السندي، ولكن ثبت الإسناد على الصواب في نسخة النسائي المطبوعة في الهند سنة 1296، ص: 92. ولم يقع هذا الخطأ للحفاظ الذين ترجموا لرواة الكتب الستة، إذن لأشاروا إليه. ولم يفعلوا.
ونقله ابن كثير 1: 580، من رواية المسند من طريق ابن لهيعة. ثم أشار إلى روايتي مسلم والنسائي ووقع فيه هناك تحيف مطبعي كثير.
وذكره السيوطي 1: 299، ونسبه لمسلم، والنسائي، والبيهقي.
"المخمص": بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الميم الثانية مفتوحة وآخره صاد مهملة. وهو طريق في جبل عير إلى مكة، كما قال ياقوت. واختلف في ضبطه: فضبط بالقلم في ياقوت بفتحة فوق الميم وسكون على الخاء وكسرة تحت الميم الثانية، ولم ينص ياقوت بالكتابة على ضبطه. وقال الفيروزبادي"والمخمص، كمنزل: اسم طريق". ونقل شارحه الزبيدي أن الصاغاني ضبطه"كمقعد". وبهذا ضبطه البكري في معجم ما استعجم، ص: 1197، وقال: "موضع في ديار بني كنانة". فالظاهر من هذا أنه غير الذي في هذا الحديث.
والعبرة هنا بالرواية المتلقاة عن الثقات الأثبات حفاظ السنة. فالذي ضبطناه به هو الثابت في نسخ مسلم المعتمدة الموثقه، مثل مخطوطة الشطي التي عندي، ومثل طبعة الآستانة 2: 208. ويؤيد هذا ويوكده ضبطه فيه ضبط رواية ولغة، لا ضبط لغة فقط. وهو الذروة العليا في الإتقان.
ووقع في مطبوعة الطبري هنا بدله"بالمغمس"، بالغين المعجمة والسين. وهو اسم موضع آخر، ولكنه غير الذي في هذه الرواية. فالظاهر أنه تصحيف أو تحريف من الناسخين.(5/222)
5495- حدثنا بذلك أبو كريب قال، حدثنا وكيع، وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، [عن الأوزاعي، عن يحيى بن كثير] عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. (1)
__________
(1) الحديث: 5495- وقع هذا الإسناد ناقصا راويين في المخطوطة والمطبوعة. وقد اضطررت لزيادتهما بين قوسين: [عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير] ، حتى يستقيم الإسناد.
فأما أولا: فإن وكيعا وأيوب بن سويد لم يدركا أن يرويا عن أبي قلابة، وكلاهما يروي عن الأوزاعي.
وأما ثانيا: فإن هذا الحديث حديث الأوزاعي، عرف به، وعرف أنه خالف غيره في إسناده ومتنه. ونص على ذلك الأئمة.
وأما ثالثا: فإن تخريجه إنما هو على هذا النحو، كما سيأتي في التخريج، إن شاء الله.
وقد رواه أبو جعفر هنا من طريقين: رواه عن أبي كريب عن وكيع، ورواه عن محمد بن عبد الله ابن عبد الحكم عن أيوب بن سويد - ثم يجتمع الإسنادان. فيرويه وكيع وأيوب بن سويد، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة.
وأيوب بن سويد الرملي، أبو مسعود السيباني: ضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وقال البخاري في الكبير 1 /1 / 417: "يتكلمون فيه". وقد قلت في شرح الحديث 7000 من المسند، ج11 ص204: "عندي أن أعدل ما قيل فيه، ما نقل الحافظ في التهذيب عن ابن حبان في الثقات، قال: كان رديء الحفظ، يخطئ، يتقي حديثه من رواية ابنه محمد بن أيوب عنه، لأن أخباره إذا سبرت من غير رواية ابنه عنه، وجد أكرها مستقيمة".
ثم هو لم ينفرد هنا برواية هذا الحديث، بل رواه معه وكيع. ووكيع هو وكيع.
و"السيباني"، بفتح السين المهملة: نسبة إلى"سيبان"، بطن من حمير.
وأبو المهاجر: تابعي، كما هو ظاهر من الإسناد. ولم يقولوا فيه شيئا، إلا أن الأوزاعي ذكره هكذا في الإسناد، وأن المحفوظ: "عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن بريدة". كما سيأتي.
والحديث -من هذا الوجه- رواه أحمد في المسند 5: 361 (حلبي) ، عن وكيع: "حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة، قال: كما معه في غزاة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: بكروا بالصلاة في اليوم الغنيم، فإنه من فاته صلاة العصر فقد حبط عمله".
وكذلك رواه ابن ماجه: 694، من طريق الوليد بن مسلم: "حدنا الأوزاعي، حدثني يحيى ابن أبي كير، عن أبي قلابة. . . " فذكره بنحوه.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبري 1: 444، من طريق عيسى بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن الأوزاعي، بهذا الإسناد، نحوه.
وأما الرواية التي خالفها الأوزاعي:
فهي ما روى البخاري 2: 26 (فتح) ، عن مسلم بن إبراهيم، عن هشام -وهو الدستوائي-: "أخبرنا يحيى بن أبي كير، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، قال: كنا مع بريدة في غزوة، في يوم ذي غنيم، فقال: بكروا بصلاة العصر، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله".
ثم رواه البخاري مرة أخرى 2: 53 (فتح) ، عن معاذ بن فضالة، عن هشام، عن يحيى، بهذا الإسناد نحوه. وقد جعل البخاري عنوان الباب لهذا الحديث: "باب التبكير بالصلاة في يوم غيم". وهذا يدل على أنه لا يرى ضعف رواية الأوزاعي، وإن لم تكن على شرطه، وهذه عادته. ولذلك قال الحافظ: "من عادة البخاري أن يترجم ببعض ما اشتمل عليه ألفاظ الحديث، ولو لم يوردها، بل ولو لم يكن على شرطه.
وقال الحافظ في الموضع الأول: "وتابع هشاما على هذا الإسناد عن يحيى بن أبي كير-: شيبان، ومعمر، وحديثهما عند أحمد. وخالفهم الأوزاعي، فرواه عن يحيى، عن أبي قلابة، عن أبي المهاجر، عن بريدة. والأول هو المحفوظ. وخالفهم أيضًا في سياق المتن".
يعني لأن الأوزاعي جعل الأمر بالتبكير في صلاة الغيم، من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. والآخرون جعلوه من كلام بريدة. وأن المرفوع هو: "من فاتته العصر فقد حبط عمله".
وأنا أميل إلى صحة الروايتين، إذ هما من مخرجين: فأحد الروايين سمع الصحابي يقوله من عند نفسه، والآخر يقوله مرفوعا. ومثل هذا كثير.
وقد وهم الحافظ ابن كثير وهما شديدا، حين ذكر رواية الأوزاعي 1: 580، وقال إنها"في الصحيح"! فإن رواية الأوزاعي لم يروها من أصحاب الكتب الستة إلا ابن ماجه. والرواية الأخرى -رواية هشام الدستوائي- لم يروها منهم إلا البخاري والنسائي. ووقع في نسخة ابن كثير خطأ في الإسناد. نرجح أنه من الناسخين.
ورواية هشام الدستوائي، رواها أيضًا أحمد في المسند 5: 349-350، 357، 360 (حلبي) ورواه النسائي 1: 83، والبيهقي 1: 444.
ورواية شيبان، ومعمر، عن يحيى بن أبي كثير، اللتين أشار الحافظ إلى أنهما عند أحمد - ما في المسند 5: 350، 360 (حلبي) .
وذكر السيوطي 1: 299 آخره المرفوع في الروايتين، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.(5/224)
* * *(5/225)
وقال صلى الله عليه وسلم:"من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". (1)
* * *
5497- وقال صلى الله عليه وسلم:"من صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها لم يلج النار" (2) .
* * *
فحث صلى الله عليه وسلم على المحافظة عليها حثا لم يحث مثله على غيرها من الصلوات، وإن كانت المحافظة على جميعها واجبة، فكان بينا بذلك أن التي خص الله بالحث على المحافظة عليها، (3) بعد ما عم الأمر بها جميع المكتوبات، هي التي اتبعه فيها نبيه صلى الله عليه وسلم، فخصها من الحض عليها بما لم يخصص به غيرها من الصلوات، وحذر أمته من تضييعها ما حل بمن قبلهم من الأمم التي وصف أمرها، ووعدهم من الأجر على المحافظة عليها ضعفي ما وعد على غيرها من سائر الصلوات.
وأحسب أن ذلك كان كذلك، لأن الله تعالى ذكره جعل الليل سكنا، والناس من شغلهم بطلب المعاش والتصرف في أسباب المكاسب= هادئون، إلا القليل منهم، وللمحافظة على فرائض الله وإقام الصلوات المكتوبات فارغون. (4) وكذلك
__________
(1) الحديث: 5496- ووقع في المطبوعة هنا: "قال" بدون واو العطف، ودون ذكر الصلاة على رسول الله صلى عليه وسلم. فأوهم هذا الصنيع أن هذا الحديث متن للإسناد السابق. وهو غير مستقيم. والصواب ما أثبتنا عن المخطوطة: أن هذا حديث آخر مستأنف، ذكره الطبري دون إسناد.
وقد مضى من حديث عبد الله بن عمر، بإسناده: 5389.
(2) الحديث: 5497- هذا حديث معلق أيضًا، ذكره الطبري دون إسناد.
وهو حديث صحيح، رواه مسلم 1: 175-176، عن عمارة بن رويبة، قال: "سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها. يعني الفجر والعصر".
ورواه أيضًا أبو داود والنسائي، كما في ذخائر المواريث، رقم: 5537.
ولعل الطبري رواه بالمعنى.
(3) في المطبوعة: "حض الله"، وفي المخطوطة غي منقوطة، وصواب قراءتها هو ما أثبت، والسياق قاطع بوجوب قراءتها كذلك.
(4) في المطبوعة: "فازعون"، وفي المخطوطة غير منقوطة، والصواب ما أثبت.(5/226)
ذلك في صلاة الصبح، لأن ذلك وقت قليل من يتصرف فيه للمكاسب والمطالب، ولا مؤونة عليهم في المحافظة عليها. وأما صلاة الظهر، فان وقتها وقت قائلة الناس واستراحتهم من مطالبهم، في أوقات شدة الحر وامتداد ساعات النهار، ووقت توديع النفوس والتفرغ لراحة الأبدان في أوان البرد وأيام الشتاء= وأن المعروف من الأوقات لتصرف الناس في مطالبهم ومكاسبهم، والاشتغال بسعيهم لما لا بد منه لهم من طلب أقواتهم- وقتان من النهار.
أحدهما أول النهار بعد طلوع الشمس إلى وقت الهاجرة. وقد خفف الله تعالى ذكره فيه عن عباده عبء تكليفهم في ذلك الوقت، وثقل ما يشغلهم عن سعيهم في مطالبهم ومكاسبهم، وإن كان قد حثهم في كتابه وعلى لسان رسوله في ذلك الوقت على صلاة، ووعدهم عليها الجزيل من ثوابه، من غير أن يفرضها عليهم، وهي صلاة الضحى.
والآخر منهما آخر النهار، وذلك من بعد إبراد الناس إمكان التصرف وطلب المعاش صيفا وشتاء، إلى وقت مغيب الشمس. وفرض عليهم فيه صلاة العصر، ثم حث على المحافظة عليها لئلا يضيعوها= لما علم من إيثار عباده أسباب عاجل دنياهم وطلب معايشهم فيها، على أسباب آجل آخرتهم= بما حثهم به عليه في كتابه، وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، ووعدهم من جزيل ثوابه على المحافظة عليها ما قد ذكرت بعضه في كتابنا هذا، وسنذكر باقيه في كتابنا الأكبر إن شاء الله من (كتاب أحكام الشرائع) .
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قيل لها"الوسطى" لتوسطها الصلوات المكتوبات الخمس، وذلك أن قبلها صلاتين، وبعدها صلاتين، وهي بين ذلك وسطاهن.
* * *
"والوسطى""الفعلى" من قول القائل:"وسطت القوم أسطهم سطة ووسوطا"، إذا دخلت وسطهم. ويقال للذكر فيه:"هو أوسطنا" وللأنثى:"هي وسطانا". (1)
* * *
__________
(1) انظر معنى"الوسط" فيما سلفه 3: 141، 172.(5/227)
القول في تأويل قوله: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قوله"قانتين".
فقال بعضهم: معنى"القنوت"، الطاعة. ومعنى ذلك: وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له فيما أمركم به فيها ونهاكم عنه.
* ذكر من قال ذلك:
5498- حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن ابن عون، عن الشعبي في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين.
5499- حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن ابن عون، عن الشعبي مثله.
5500- حدثني ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو المنيب، عن جابر بن زيد:"وقوموا لله قانتين"، يقول: مطيعين. (1) .
5501- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن عثمان بن الأسود، عن عطاء:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين.
5502- حدثنا أحمد بن عبدة الحمصي قال، حدثنا أبو عوانة، عن ابن يشر، عن سعيد بن جبير في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين. (2)
5503- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) الأثر: 5500-"أبو المنيب"، هو: عبيد الله بن عبد الله العتكي، مضى في رقم: 1634.
(2) الأثر: 5502- هكذا في المطبوعة والمخطوطة"أحمد بن عبدة الحمصي"، ولم أجده منسوبا حمصيا، وقد مضى في الإسناد رقم: 59"الضبي" وروي عنه في التاريخ أيضًا، و"أحمد بن عبدة الضبي"، هو أبو عبد الله البصري، مات سنة 245، مترجم في التهذيب.(5/228)
عن الربيع بن أبي راشد، عن سعيد بن جبير أنه سئل عن"القنوت"، فقال: القنوت الطاعة. (1)
5504- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قال: القنوت، الذي ذكره الله في القرآن، إنما يعني به الطاعة.
5505- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"وقوموا لله قانتين"، قال: إن أهل كل دين يقومون لله عاصين، فقوموا أنتم لله طائعين.
5506- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: قوموا لله مطيعين في كل شيء، وأطيعوه في صلاتكم.
5507- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول:"وقوموا لله قانتين"، القنوت الطاعة، يقول: لكل أهل دين صلاة، يقومون في صلاتهم لله عاصين، فقوموا لله مطيعين.
5508- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"قانتين"، يقول: مطيعين.
5509- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين.
5510- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثني شريك، عن
__________
(1) الأثر: 5503-"الربيع بن أبي راشد"، هو أخو: "جامع بن أبي راشد الكوفي"، سمع سعيد بن جبير، وروى عنه مالك بن مغول، وسيفان الثوري، وشريك، مترجم في الكبير للبخاري 2 /1 /250، والجرح 1 / 2 / 461.(5/229)
سالم، عن سعيد:"وقوموا لله قانتين"، يقول: مطيعين.
5511- حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا خطاب بن عثمان قال، حدثنا أبو روح عبد الرحمن بن سنان السكوني= حمصي لقيته بأرمينية= قال، سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في قوله:" وقوموا لله قانتين"، قال: طائعين.
5512- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وقوموا لله قانتين"، قال: مطيعين.
5513- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5514- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وقوموا لله قانتين"، يقول: مطيعين.
5515- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية قال: كانوا يأمرون في الصلاة بحوائجهم، حتى أنزلت:"وقوموا لله قانتين"، فتركوا الكلام. قال:"قانتين"، مطيعين.
5516- حدثني محمد بن عمارة الأسدي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: كانوا يتكلمون في الصلاة بحوائجهم حتى نزلت:"وقوموا لله قانتين"، فتركوا الكلام في الصلاة.
5517- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: كان أهل دين يقومون فيها عاصين، فقوموا أنتم لله مطيعين.
5518- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا ابن لهيعة قال، حدثنا دراج، عن أبي الهيثم، عن أبي سعيد، عن رسول الله صلى(5/230)
الله عليه وسلم أنه قال: كل حرف في القرآن فيه"القنوت"، فإنما هو الطاعة". (1)
5519- حدثنا العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، حدثنا سعيد بن عبد العزيز قال: القنوت طاعة الله، يقول الله تعالى ذكره:"وقوموا لله قانتين"، مطيعين.
5520- حدثنا سعيد بن الربيع قال، حدثنا سفيان قال، قال ابن طاوس: كان أبي يقول: القنوت طاعة الله.
* * *
وقال آخرون:"القنوت" في هذه الآية، السكوت. وقالوا: تأويل الآية: وقوموا لله ساكتين عما نهاكم الله أن تتكلموا به في صلاتكم.
* ذكر من قال ذلك:
5521- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقوموا لله قانتين"، القنوت، في هذه الآية، السكوت.
5522- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدى في خبر ذكره، عن مرة، عن ابن مسعود قال: كنا نقوم في الصلاة فنتكلم، ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته، ويخبره، ويردون عليه إذا سلم، حتى أتيت أنا فسلمت فلم يردوا علي السلام، فاشتد ذلك علي، فلما قضى النبي صلى الله عليه وسلم صلاته قال: إنه لم يمنعني أن أرد عليك السلام إلا أنا أمرنا أن
__________
(1) الحديث 5518- دراج أبو السمح، وأبو الهيثم سليمان بن عمرو: ترجمنا لما فيما مضى: 1387.
والحديث رواه أحمد في المسند: 11734 (3: 75 حلبي) ، عن حسن، وهو ابن موسى الأشيب، عن ابن لهيعة، بهذا الإسناد.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 320، وقال: "رواه أحمد، وأبو يعلى، والطبراني في الأوسط. وفي إسناد أحمد، وأبي يعلى،: ابن لهيعة، وهو ضعيف". وابن لهيعة: ليس بضعيف، كما قلنا مضى: 2941. وانظر الأثر الآتي رقم: 7050، حيث رواه بإسناد آخر إلى ابن لهيعة.(5/231)
نقوم قانتين لا نتكلم في الصلاة= والقنوت: السكوت. (1)
5523- حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله قال: كنا نتكلم في الصلاة، فسلمت على النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرد علي، فلما انصرف قال: قد أحدث الله أن لا تكلموا في الصلاة، ونزلت هذه الآية:"وقوموا لله قانتين". (2)
5524- حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري قال، أخبرنا محمد بن يزيد، وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، وابن نمير، ووكيع، ويعلى بن عبيد= جميعا، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الحارث بن شبل، عن أبي عمرو الشيباني، عن زيد بن أرقم قال: كنا نتكلم في الصلاة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يكلم أحدنا صاحبه في الحاجة، حتى نزلت هذه الآية:"حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين"، فأمرنا بالسكوت. (3)
__________
(1) الحديث: 5522- هذا الإسناد من تفسير السدي. وقد مضى شرحه مفصلا في الخبر: 168. وأما هذا الحديث بعينه، فقد ذكره السيوطي 1: 306، ولم ينسبه لغير الطبري. ولكن في لفظه: و" يسارر الرجل صاحبه" - بدل: "ويسأل الرجل صاحبه عن حاجته".
وانظر الحديث التالي لهذا، والحديث: 5526.
(2) الحديث: 5523- وهذا الإسناد ضعيف جدا، من أجل الحكم بن ظهير. وقد بينا ضعفه فيما مضى: 249.
والحديث -من هذا الوجه- ذكره السيوطي 1: 306، ولم ينسبه لغير الطبري. وانظر الحديث الذي قبله، والحديث الآتي: 5526.
(3) الحديث: 5524- عبد الحميد بن بيان السكري - شيخ الطبري: مضى في رقم 30، بوصف"القناد"، وهما واحد معنى.
الحارث بن شبيل بن عوف الكوفي: ثقة. قال ابن معين -فيما روى عنه ابن أبي حاتم 1 /2 /76-77: "لا يسأل عن مثله". يعني لجلالته.
و"شبيل": بالشين المعجمة مصغرا. وفي المطبوعة"شبل". والتصويب من المخطوطة، ولكن يقال فيه قول آخر أن اسم أبيه"شبل". وأشار الحافظ في التهذيب إلى أن هذا القول شبه خطأ من المزي صاحب تهذيب الكمال، وأنه تبع في ذلك الكلاباذي، لأن البخاري وابن أبي حاتم فرقا بين" الحارث بن شبيل" و"الحارث بن شبل". وأن الأول كوفي ثقة، والثاني بصري ضعيف. وحقا لقد فرقا بينهما في الكبير 1 /2 /268-269، وابن أبي حاتم 1 / 2 /76-77. ولكن البخاري مع فرقة بينهما، حكى في ترجمة"ابن شبيل" أنه يقال فيه أيضًا "ابن شبل". فلم يخطئ المزي ولا الكلاباذي فيما حكيا من القول الآخر.
أبو عمرو الشيباني: وسعد بن إياس الكوفي. وهو تابعي قديم مخضرم، أدرك الجاهلية كبيرا، وعاش 120 سنة، وهو مجمع على ثقته.
والحديث رواه أحمد في المسند 4: 368 (حلبي) عن يحيى بن سعيد القطان، عن إسماعيل بن أبي خالد، به.
وكذلك رواه البخاري في الصحيح 3: 59، و 8: 149، وفي التاريخ الكبير 1 /2 /269. ومسلم 1: 151 - كلاهما من طريق إسماعيل بن أبي خالد، به.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 1: 248، من طريق إسماعيل.
ورواه أيضًا أبو جعفر النحاس، في كتاب الناسخ والمنسوخ، ص: 16، من طريق إسماعيل وقال: "وهذا إسناد صحيح".
ونقله ابن كثير 1: 583-306، من رواية المسند. ثم قال: "رواه الجماعة، سوى ابن ماجه، من طرق، عن إسماعيل، به".
وذكره السيوطي 1: 305 - 306، وزاد نسبته إلى وكيع، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وأبي داود، والترمذي، والنسائي، وابن خزيمة، والطحاوي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن حبان، والطبراني. ولكن وقع فيه اسم الصحابي: "زيد بن أسلم"! وهذا خطأ مطبعي يقينا، صوابه: "زيد بن أرقم".(5/232)
5525- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله:" وقوموا لله قانتين"، قال: كانوا يتكلمون في الصلاة، يجيء خادم الرجل إليه وهو في الصلاة فيكلمه بحاجته، فنهوا عن الكلام.
5526- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة عن عنبسة، عن الزبير بن عدي، عن كلثوم بن المصطلق، عن عبد الله بن مسعود قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان عودني أن يرد علي السلام في الصلاة، فأتيته ذات يوم فسلمت فلم يرد علي، وقال: إن الله يحدث في أمره ما يشاء، وإنه قد أحدث لكم في الصلاة أن لا يتكلم أحد إلا بذكر الله، وما ينبغي من تسبيح وتمجيد:"وقوموا لله قانتين". (1)
__________
(1) الحديث: 5526- هذا إسناد صحيح.
هارون بن المغيرة بن حكيم البجلي. وعنبسة، وهو ابن سعيد بن الضريس قاضي الري. والزبير بن عدي قاضي الري: مضوا في: 3356.
كلثوم بن المصطلق الخزاعي: تابعي ثقة. خلط بعضهم بينه وبين آخرين يختلفان عنه نسبا ورواية. والحق أنهم ثلاثة، كما صنع البخاري 4 /1 /226-227، بالأرقام: 976، 977، 978.
وابن أبي حاتم 3 /2 /163-164، بالأرقام: 922، 923، 625.
والحديث -من هذا الوجه، وبهذا اللفظ- ذكره السيوطي 1: 306، ولم ينسبه لغير الطبري. وقد قصر السيوطي في ذلك. فإن الحديث رواه النسائي 1: 181، من طريق سفيان، وهو الثوري، عن الزبير بن عدي، بهذا الإسناد، وبلفظ أطول قليلا.
وهو في معنى الحديثين الماضيين: 5522، 5523، إلا أن إسناد الأول محل نظر، وإسناد الثاني ضعيف جدا، وهذا إسناده صحيح.
وأصل المعنى ثابت عن ابن مسعود، في المسند، والصحيحين، وغيرهما، إلا أنه ليس فيه النص على آية (قوموا لله قانتين) .
فروى أحمد في المسند: 3563، من حديث علقمة، عن ابن مسعود، قال: "كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة، فيرد علينا. فلما رجعنا من عند النجاشي سلمنا عليه فلم يرد علينا. فقلنا: يا رسول الله، كنا نسلم عليك في الصلاة فترد علينا؟ فقال: إن في الصلاة لشغلا".
وكذلك رواه البخاري 3: 58-59، ومسلم: 1: 151 - كلاهما من حديث علقمة عن ابن مسعود.
وانظر المسند: 3575، 3884، 3885، 3944، 4145.(5/233)
5527- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: إذا قمتم في الصلاة فاسكتوا، لا تكلموا أحدا حتى تفرغوا منها. قال: والقانت المصلي الذي لا يتكلم.
* * *
وقال آخرون:"القنوت" في هذه الآية، الركوع في الصلاة والخشوع فيها. وقالوا في تأويل الآية: وقوموا لله في صلاتكم خاشعين، خافضي الأجنحة، غير عابثين ولا لاعبين.
* ذكر من قال ذلك:
5528- حدثني سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد:"وقوموا لله قانتين"، قال: فمن القنوت طول الركوع، وغض البصر، وخفض الجناح، والخشوع من رهبة الله. كان العلماء إذا قام أحدهم يصلي يهاب الرحمن أن يلتفت، أو أن يقلب الحصى، أو يعبث بشيء، أو يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا.(5/234)
5529- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد نحوه= إلا أنه قال: فمن القنوت الركود والخشوع.
5530- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد:"وقوموا لله قانتين"، قال: من القنوت الخشوع، وخفض الجناح من رهبة الله. وكان الفقهاء من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا قام أحدهم إلى الصلاة، لم يلتفت، ولم يقلب الحصى، ولم يحدث نفسه بشيء من أمر الدنيا إلا ناسيا حتى ينصرف.
5531- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، عن مجاهد في قوله"وقوموا لله قانتين"، قال: إن من القنوت الركود، ثم ذكر نحوه.
5532- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وقوموا لله قانتين"، قال: القنوت الركود- يعني القيام في الصلاة والانتصاب له.
* * *
وقال آخرون: بل"القنوت"، في هذا الموضع، الدعاء. قالوا: تأويل الآية: وقوموا لله راغبين في صلاتكم. (1)
* ذكر من قال ذلك:
5533- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الوهاب ومحمد بن جعفر= جميعا، عن عوف، عن أبي رجاء، قال: صليت مع ابن عباس الغداة في مسجد البصرة، فقنت بنا قبل الركوع، وقال: هذه الصلاة الوسطى التي قال الله:"وقوموا لله قانتين". (2)
__________
(1) أخشى أن يكون الصواب"داعين"، ولكن"راغبين" صحيحة المعنى، لأن الراغب إلى ربه إنما رغبته دعاؤه، والقنوت: دعاء رغبة.
(2) الحديث: 5533- مضى بالإسنادين جميعا مفرقين: 5473، 5474. وجمعهما أبو جعفر هنا سياقا واحدا.(5/235)
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"وقوموا لله قانتين"، قول من قال: تأويله:"مطيعين".
وذلك أن أصل"القنوت"، الطاعة، وقد تكون الطاعة لله في الصلاة بالسكوت عما نهى الله [عنه] من الكلام فيها. (1) ولذلك وجه من وجه تأويل"القنوت" في هذا الموضع، إلى السكوت في الصلاة= أحد المعاني التي فرضها الله على عباده فيها= إلا عن قراءة قرآن أو ذكر له بما هو أهله. ومما يدل على أنهم قالوا ذلك كما وصفنا، قول النخعي ومجاهد الذي: -
5534- حدثنا به أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، ومجاهد قالا كانوا يتكلمون في الصلاة، يأمر أحدهم أخاه بالحاجة، فنزلت"وقوموا لله قانتين"، قال: فقطعوا الكلام. و"القنوت": السكوت، و"القنوت" الطاعة.
* * *
فجعل إبراهيم ومجاهد"القنوت" سكوتا في طاعة الله، على ما قلنا في ذلك من التأويل.
وقد تكون الطاعة لله فيها بالخشوع، وخفض الجناح، وإطالة القيام، وبالدعاء، لأن كل [ذلك] غير خارج من أحد معنيين: (2) من أن يكون مما أمر به المصلي، أو مما ندب إليه، والعبد بكل ذلك لله مطيع، وهو لربه فيه قانت. و"القنوت": أصله الطاعة لله، ثم يستعمل في كل ما أطاع الله به العبد.
* * *
فتأويل الآية إذا: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى، وقوموا لله فيها مطيعين، بترك بعضكم فيها كلام بعض وغير ذلك من معاني الكلام، سوى قراءة
__________
(1) في المطبوعة: "عما نهى الله من الكلام"، وفي المخطوطة"عما نهاه الله"، والزيادة بين القوسين لا بد منها، كأنها سقط من ناسخ.
(2) في المطبوعة: "لأن كلا غير خارج"، وفي المخطوطة: "لأن كل غير خارج"، فرجحت سقوط"ذلك" من ناسخ المخطوطة، واجتهد مصحح المطبوعة.(5/236)
فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
القرآن فيها، أو ذكر الله بالذي هو أهله، أو دعائه فيها، غير عاصين لله فيها بتضييع حدودها، والتفريط في الواجب لله عليكم فيها وفي غيرها من فرائض الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقوموا لله في صلاتكم مطيعين له= لما قد بيناه من معناه= فإن خفتم من عدو لكم، أيها الناس، تخشونهم على أنفسكم في حال التقائكم معهم أن تصلوا قياما على أرجلكم بالأرض قانتين لله= فصلوا"رجالا"، مشاة على أرجلكم، وأنتم في حربكم وقتالكم وجهاد عدوكم="أو ركبانا"، على ظهور دوابكم، فإن ذلك يجزيكم حينئذ من القيام منكم، قانتين. (1)
* * *
ولما قلنا من أن معنى ذلك كذلك، جاز نصب"الرجال" بالمعنى المحذوف. وذلك أن العرب تفعل ذلك في الجزاء خاصة، لأن ثانيه شبيه بالمعطوف على أوله. ويبين ذلك أنهم يقولون:"إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا"، بمعنى: إن تفعل خيرا تصب خيرا، وإن تفعل شرا تصب شرا، فيعطفون الجواب على الأول لانجزام الثاني بجزم الأول. فكذلك قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، بمعنى: إن خفتم أن تصلوا قياما بالأرض، فصلوا رجالا.
* * *
"والرجال" جمع"راجل" و"رجل"، وأما أهل الحجاز فإنهم يقولون لواحد"الرجال""رجل"، مسموع منهم:"مشى فلان إلى بيت الله حافيا رجلا"، (2)
__________
(1) في المخطوطة: "من القيام منكم أو قانتين"، بزيادة"أو"، وهو لا معنى له، إلا أن يكون في الكلام سقطا، وتركت ما في المطبوعة على حاله، فهو مستقيم.
(2) هذا البيان عن لغات العرب في"رجل"، غي مستوفي في كتب اللغة.(5/237)
وقد سمع من بعض أحياء العرب في واحدهم"رجلان"، كما قال بعض بني عقيل:
على إذا أبصرت ليلى بخلوة ... أن ازدار بيت الله رجلان حافيا (1)
فمن قال"رجلان" للذكر، قال للأنثى"رجلى"، وجاز في جمع المذكر والمؤنث فيه أن يقال:"أتى القوم رجالى ورجالى" مثل"كسالى وكسالى".
* * *
وقد حكي عن بعضهم أنه كان يقرأ ذلك:"فإن خفتم فرجالا"مشددة. وعن بعضهم أنه كان يقرأ:"فرجالا"، (2) وكلتا القراءتين غير جائزة القراءة بها عندنا، لخلافها القراءة الموروثة المستفيضة في أمصار المسلمين. (3)
* * *
وأما"الركبان"، فجمع"راكب"، يقال:"هو راكب، وهم ركبان وركب وركبة وركاب وأركب وأركوب"، يقال:"جاءنا أركوب من الناس وأراكيب".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5535- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم قال: سألته عن قوله:"فرجالا أو ركبانا"، قال: عند المطاردة، يصلى حيث كان وجهه، راكبا أو راجلا ويجعل السجود أخفض من الركوع، ويصلي ركعتين يومئ إيماء.
5536- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) اللسان (رجل) ، عن ابن الأعرابي، واستشهد به ابن هشام في"باب الحال" وتعدده للمفرد، وروايته: ". . . ليلى بخفية زيارة بيت الله. . . ". وقوله: "ازدار" هو"افتعل" من"الزيارة".
(2) يعني بضم الراء وتخفيف الجيم المفتوحة، وهي مذكورة في شواذ القراءات.
(3) في المطبوعة: "بخلاف القراءة الموروثة"، والصواب ما في المخطوطة.(5/238)
عن مغيرة عن إبراهيم في قوله:"فرجالا أو ركبانا" قال: صلاة الضراب ركعتين، يومئ إيماء.
5537- حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله:"فرجالا أو ركبانا"، قال: يصلي ركعتين حيث كان وجهه، يومئ إيماء.
5538- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير."فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا طردت الخيل فأومئ إيماء.
5539- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن مالك، عن سعيد قال: يومئ إيماء.
5540- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن:"فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا كان عند القتال صلى راكبا أو ماشيا حيث كان وجهه، يومئ إيماء.
5541- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في القتال على الخيل، فإذا وقع الخوف فليصل الرجل على كل جهة قائما أو راكبا، أو كما قدر على أن يومئ برأسه أو يتكلم بلسانه.
5542- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: أو راكبا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. وقال أيضا: أو راكبا، أو ما قدر أن يومئ برأسه= وسائر الحديث مثله.
5543- حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر،(5/239)
عن الضحاك في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا التقوا عند القتال وطلبوا أو طلبوا أو طلبهم سبع، فصلاتهم تكبيرتان إيماء، أي جهة كانت.
5544- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"رجالا أو ركبانا"، قال: ذلك عند القتال، (1) يصلي حيث كان وجهه، راكبا أو راجلا إذا كان يطلب أو يطلبه سبع، فليصل ركعة، يومئ إيماء، فإن لم يستطع فليكبر تكبيرتين.
5545- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: ركعة وأنت تمشي، وأنت يوضع بك بعيرك ويركض بك فرسك، على أي جهة كان. (2)
5546- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، أما"رجالا" فعلى أرجلكم، إذا قاتلتم، يصلي الرجل يومئ برأسه أينما توجه، والراكب على دابته يومئ برأسه أينما توجه. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "ذاك عند القتال"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) وضع البعير يضع وضعا، وأوضعه أيضاعا: وهو سير حثيث وإن كان لا يبلغ أقصى الجهد.
(3) عند هذا انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه المخطوطة، فيها هنا ما نصه:
"وصلى الله على محمد النبي وعلى آل وصحبه وسلم كثيرا
على الأصل المنقول منه هذه النسخة:
بغلت بالسماع وأخي علي حرسه الله، وأبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري، ومحمد بن علي الأرموي، ونصر بن الحسين الطبري - بقراءتي على القاضي أبي الحسن الخصيب بن عبد الله، عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري. وذلك في شعبان من سنة ثمان وأربعمئة، وهو يقابلني بكتابه. وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي في التاريخ، وسمع عبد الرحيم بن أحمد (النحوي؟؟) من موضع سماعه إلى هاهنا مع الجماعة".(5/240)
5547- (1) حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، الآية، أحل الله لك إذا كنت خائفا عند القتال، أن تصلي وأنت راكب، وأنت تسعى، تومئ برأسك من حيث كان وجهك، إن قدرت على ركعتين، وإلا فواحدة.
5548- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: ذاك عند المسايفة.
5549- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: إذا طلب الأعداء فقد حلَّ لهم أن يصلوا قِبَل أي جهة كانوا، رجالا أو ركبانا، يومئون إيماء ركعتين= وقال قتادة: تجزي ركعة.
5550- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: كانوا إذا خشوا العدو صلوا ركعتين، راكبا كان أو راجلا.
5551- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو راكبانا"، قال: يصلي الرجل في القتال المكتوبة على دابته وعلى راحلته حيث كان جهه، يومئ إيماء عند كل ركوع وسجود، ولكن السجود أخفض من الركوع. فهذا حين تأخذ السيوف بعضها بعضا، هذا في المطاردة.
5552- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي قال: كان قتادة يقول: إن استطاع ركعتين وإلا فواحدة، يومئ إيماء، إن شاء راكبا أو راجلا قال الله تعالى ذكره:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا".
__________
(1) بدأ في التقسيم القديم:
"بسم الله الرحمن الرحيم"(5/241)
5553- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن الحسن قال، في الخائف الذي يطلبه العدو، قال: إن استطاع أن يصلي ركعتين، وإلا صلى ركعة.
5554- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن يونس، عن الحسن قال: ركعة.
5555- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة عن صلاة المسايفة، فقالوا: ركعة.
5556- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم وحمادا وقتادة، عن صلاة المسايفة، فقالوا: يومئ إيماء حيث كان وجهه.
5557- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن حماد والحكم وقتادة: أنهم سئلوا عن الصلاة عند المسايفة، فقالوا: ركعة حيث وجهك.
5558- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أشعث بن سوار قال: سألت ابن سيرين عن صلاة المنهزم فقال: كيف استطاع.
5559- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن جابر بن غراب قال: كنا نقاتل القوم وعلينا هرم بن حيان، فحضرت الصلاة فقالوا: الصلاة، الصلاة! فقال هرم: يسجد الرجل حيث كان وجهه سجدة. قال: ونحن مستقبلو المشرق. (1)
5560- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن الجريري، عن أبي
__________
(1) الأثر: 5559-"جابر بن غراب النمري البصري"، روى عن هرم بن حيان، روى عنه أبو نصرة. مترجم في الكبير 1 /2 /209، والجرح والتعديل 1 /1 / 497. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "جابر بن عراب"، وهو تصحيف. و"سعيد بن يزيد"، و"أبو مسلمة" الآتي في رقم: 5561. وهذا الأثر رواه ابن حزم في المحلى 5: 36 من طريق: "شعبة عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة. . . "، بغير هذا اللفظ كما سيأتي في رقم: 5561.(5/242)
نضرة قال: كان هرم بن حيان على جيش، فحضروا العدو فقال: يسجد كل رجل منكم تحت جنته حيث كان وجهه سجدة، أو ما استيسر= فقلت لأبي نضرة: ما"ما استيسر"؟ قال: يومئ. (1)
5561- حدثنا سوار بن عبد الله قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا أبو مسلمة، عن أبي نضرة قال، حدثني جابر بن غراب قال: كنا مع هرم بن حيان نقاتل العدو مستقبلي المشرق، فحضرت الصلاة فقالوا: الصلاة! فقال: يسجد الرجل تحت جنته سجدة. (2)
5562- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء في قوله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، قال: تصلي حيث توجهت راكبا وماشيا، وحيث توجهت بك دابتك، تومئ إيماء للمكتوبة.
5563- حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا هبة بن الوليد قال، حدثنا المسعودي قال، حدثني يزيد الفقير، عن جابر بن عبد الله قال: صلاة الخوف ركعة. (3)
__________
(1) الأثر: 5560- هو مختصر الذي قبله والذي يليه، غير مرفوع إلى جابر بن غراب. وفي المخطوطة: "فحصروا العدو" بالصاد المهملة، وكأن الصواب ما في المطبوعة. كما تدل عليه معاني الأثرين: السالف والتالي. وفي المطبوعة: "تحت جيبه" وفي المخطوطة: "تحت حسه" غي منقوطة. والصواب من المحلى 5: 36. والجنة (بضم الجيم وتشديد النون) : هي ما واراك من السلاح واستترت به، كالدروع وغيره من لباس الوقاية في الحرب. في المطبوعة: "ما استيسر"، بحذف"ما" الثانية الاستفهامية، وهو خطأ.
(2) الأثر: 5561- انظر الأثرين السالفين، والتعليق عليهما. وفي المطبوعة: "مستقبل المشرق"، وهو خطأ ناسخ. وفي المطبوعة: "تحت جيبه" كما في رقم: 5560، وفي المخطوطة: "تحت حسه" غير منقوطة، والصواب من المحلى 5: 36، ونص ما رواه: "وعن شعبة، عن أبي مسلمة سعيد بن يزيد، عن أبي نضرة، عن جابر بن غراب، كنا مصافي العدو بفارس، ووجوهنا إلى المشرق، فقال هرم بن حيان: ليركع كل إنسان منكم ركعة تحت جنته حيث كان وجهه".
(3) الأثر: 5563-"سعيد بن عمرو بن سعيد السكوني" أبو عثمان الحمصي، روى عن بقية، والمعافى بن عمران الحمصي وغيرهما. وعنه النسائي، صدوق، ذكره ابن حبان في القات. مترجم في التهذيب. و"بقية بن الوليد"، قال أحمد، وسئل عن بقية وإسماعيل بن عياش: "بقية أحب إلي، وإذا حدث عن قوم ليسوا بمعروفين فلا تقبلوا عنه". وكان في المطبوعة والمخطوطة: "هبة بن الوليد" وهو خطأ. والصواب من تفسير ابن كثبر 1: 585. و"المسعودي"، هو: عبد الرحمن بن عبد الله المسعودي. و"يزيد الفقير" هو: يزيد بن صهيب الفقير، أبو عثمان الكوفي، روي عن جابر وأبي سعيد وابن عمر، ثقة صدوق. وسمي"الفقير"، لأنه كان يشكو فقار ظهره. مترجم في التهذيب وغيره. وانظر السنن الكبرى 3: 263، والمحلى 5: 35.(5/243)
5564- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا موسى بن محمد الأنصاري، عن عبد الملك، عن عطاء في هذه الآية قال: إذا كان خائفا صلى على أي حال كان. (1) .
5565- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك- وسألته عن قول الله:"فرجالا أو ركبانا" - قال: راكبا وماشيا، ولو كانت إنما عنى بها الناس، لم يأت إلا"رجالا" وانقطعت الآية. (2) إنما هي"رجال": مشاة، وقرأ: (3) (يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ) [سورة الحج: 87] ، قال: يأتون مشاة وركبانا.
* * *
قال أبو جعفر: الخوف الذي للمصلي أن يصلي من أجله المكتوبة ماشيا راجلا وراكبا جائلا (4) الخوف على المهجة عند السلة والمسايفة في قتال من أمر
__________
(1) الأثر: 5564"موسى بن محمد الأنصاري"، يعد في الكوفيين، مترجم في الكبير للبخاري 4 /1 /294، وابن أبي حاتم 4 /1 /160، وهو ثقة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "انقطعت الألف"، وقد استظهر مصحح الطبعة الأميرية أنها"وانقطعت الآية"، وأرجح أنها الصواب، والناسخ في هذا الموضع من النسخة عجل كثير السهو والخطأ، كما رأيت فيما مضى، وكما سترى فيما يأتي. وقد خلط بعضهم في تعليقه على هذا الموضع من الطبري.
(3) في المطبوعة: "وعن يأتوك رجالا. . . "، وهو خطأ لا شك فيه. أما المخطوطة ففيها"ومزايا ترك"، وصواب تحريفها وتصحيفها، هو ما أثبت. ويعني أن مالكا استدل بهذه الآية على معنى"فرجالا" كما هو بين.
(4) الجائل: هو الذي يجول في الحرب جولة على عدوه، وجولته: دورانه وهو على فرسه ليستمكن من قرنه.(5/244)
بقتاله، (1) من عدو للمسلمين، أو محارب، أو طلب سبع، أو جمل صائل، أو سيل سائل فخاف الغرق فيه. (2)
وكل ما الأغلب من شأنه هلاك المرء منه إن صلى صلاة الأمن، فإنه إذا كان ذلك كذلك، فله أن يصلي صلاة شدة الخوف حيث كان وجهه، يومئ إيماء لعموم كتاب الله:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، ولم يخص الخوف على ذلك على نوع من الأنواع، بعد أن يكون الخوف، صفته ما ذكرت.
* * *
وإنما قلنا إن الخوف الذي يجوز للمصلي أن يصلي كذلك، هو الذي الأغلب منه الهلاك بإقامة الصلاة بحدودها، وذلك حال شدة الخوف، لأن: -
5566- محمد بن حميد وسفيان بن وكيع حدثاني قالا حدثنا جرير، عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الخوف: يقوم الأمير وطائفة من الناس معه فيسجدون سجدة واحدة، ثم تكون طائفة منهم بينهم وبين العدو. ثم ينصرف الذين سجدوا سجدة مع أميرهم، ثم يكونون مكان الذين لم يصلوا، ويتقدم الذين لم يصلوا فيصلون مع أميرهم سجدة واحدة. ثم ينصرف أميرهم وقد قضى صلاته، ويصلي بعد صلاته كل واحد من الطائفتين سجدة لنفسه، وإن كان خوف أشد من ذلك"فرجالا أو ركبانا". (3)
__________
(1) في المطبوعة: "الخوف على المهمة عند السلمة"، وهو خلط غث. وفي المخطوطة: "الخوف على المهمة عند المسلة"، والصواب ما أثبت من قراءتي لهذا النص. والمهجة: الروح، وخالص النفس. والسلة: استلال السيوف، يقال: "أتيناهم عند السلة"، أي عند استلال السيوف إذا حمي الوطيس.
(2) صال الجمل يصول، فهو صائل وصؤول: وذلك إذا وثب على راعيه فأكله، وواثب الناس يأكلهم ويعدو عليهم ويطردهم من مخافته.
(3) الحديث: 5566- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي. عبد الله بن نافع مولى ابن عمر: ضعيف جدا. قال فيه البخاري في الضعفاء: "منكر الحديث". فصلنا القول في تضعيفه في المسند: 4769.
وهذا الحديث هكذا رواه جرير عن عبد الله بن نافع، عن أبيه، عن ابن عمر - مرفوعا.
وكذلك رواه ابن ماجه: 12587، عن محمد بن الصباح، عن جرير، عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر - مرفوعا أيضًا. وإسناده صحيح. وأشار الحافظ في الفتح 2: 360 إلى رواية ابن ماجه هذه، وقال: "وإسناده جيد".
ورواه -بمعناه- مالك في الموطأ، ص: 184، "عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف قال. . . "، فذكر نحوه من كلام ابن عمر، ثم قال في آخره: "قال مالك: قال نافع: لا أرى عبد الله بن عمر حدثه إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وكذلك رواه البخاري 8: 150، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك.
وروى الشافعي في الأم 1: 197، عن مالك - قطعه من أوله، ثم أشار إلى سائره وذكر آخره. وكذلك رواه البيهقي3: 256، من طريق الشافعي عن مالك.
وذكره السيوطي 1: 308، من رواية مالك، وزاد نسبته لعبد الرزاق.
فهذا الشك في رفعه من نافع عند مالك -ثم الجزم برفعه في رواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عند ابن ماجه-: يقويان رواية جرير عن عبد الله بن نافع، التي هنا.(5/245)
5567- حدثني سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثني أبي قال، حدثنا ابن جريح، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا اختلطوا - يعني في القتال - فإنما هو الذكر، وأشارة بالرأس. قال ابن عمر: قال النبي صلى الله عليه وسلم: وإن كانوا أكثر من ذلك، فيصلون قياما وركبانا". (1)
* * *
= ففصل النبي بين حكم صلاة الخوف في غير حال المسايفة والمطاردة، وبين حكم صلاة الخوف في حال شدة الخوف والمسايفة، على ما روينا عن ابن عمر. فكان معلوما بذلك أن قوله تعالى ذكره:"فإن خفتم فرجالا أو ركبانا"، إنما عنى به الخوف الذي وصفنا صفته.
__________
(1) الحديث: 5567- سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: مضت ترجمته في: 2255.
وهذا الحديث رواه البخاي 3: 259 (فتح) ، عن سعيد بن يحيى -شبخ الطبري- بهذا الإسناد ولم يذكر لفظه كاملا. وذكر الحافظ، ص: 360، رواية الطبري هذه، أيضاحا لرواية البخاري.
ورواه البيهقي 3: 255-256، من طريق الهيثم بن خلف الدوري، عن سعيد بن يحيى الأموي، به. وذكر لفظه، ثم أشار إلى رواية البخاري.
وقوله: "اختلطوا": يعني اختلط الجيشان، حال المسايفة والالتحام. وهكذا ثبت هذا الحرف في الفتح نقلا عن الطبري، والسنن الكبرى للبيهقي، ووقع في المخطوطة والمطبوعة: "اختلفوا" - بالفاء بدل الطاء. وهو تحريف من الناسخين.
وقوله: "وإشارة بالرأس": يعني أنهم يصلون بالإيماء، يذكرون ويقرءون، ويشيرون إلى الركوع والسجود. وهذا هو الثابت في الفتح والسنن الكبرى. ووقع في المخطوطة والمطبوعة: "وأشار بالرأس". وهو تحريف أيضًا.(5/246)
وبنحو الذي روى ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم، روى عن ابن عمر أنه كان يقول:
5568- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: في صلاة الخوف: يصلى بطائفة من القوم ركعة، وطائفة تحرس. ثم ينطلق هؤلاء الذين صلى بهم ركعة حتى يقوموا مقام أصحابهم. ثم يحيي أولئك فيصلي بهم ركعة، ثم يسلم، وتقوم كل طائفة فتصلي ركعة. قال: فإن كان خوف أشد من ذلك"فرجالا أو ركبانا". (1)
* * *
وأما عدد الركعات في تلك الحال من الصلاة، فإني أحب أن لا يقصر من عددها في حال الأمن. وإن قصر عن ذلك فصلى ركعة، رأيتها مجزئة، لأن: -
5569- بشر بن معاذ حدثني قال، حدثنا أبو عوانة، عن بكر بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. (2)
* * *
__________
(1) الخبر: 5568- هذا موقوف على ابن عمر، صريحا، وهو في معنى الحديث الماضي: 5566.
(2) الحديث: 5569 بكير بن الأخنس الليثي الكوفي: تابعي ثقة. و"بكير": بالتصغير. ووقع في المطبوعة"بكر" - بدون الياء، وهو خطأ.
والحديث رواه أحمد بن المسند: 2124 عن يزيد، و: 2293، عن عفان، و: 3332، عن وكيع - ثلاثتهم عن أبي عوانة، به.
ورواه البخاري في التاريخ الكبير -موجزا كعادته- في ترجمة بكير 1 /2 /112، عن أبي نعيم، عن أبي عوانة. ورواه مسلم 1: 192، عن أربعة شيوخ، عن أبي عوانة.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 3: 135، من طريق يحيى بن يحيى، عن أبي عوانة. ورواه أحمد أيضًا: 2177، عن القاسم بن مالك المزني، عن أيوب بن عائذ، عن بكير بن الأخنس، به.
وكذلك رواه مسلم 1: 192، من طريق القاسم بن مالك.
ورواه البيهقي 3: 263-264، بإسنادين من طريق أيوب بن عائذ. وذكره ابن كثير 1: 585، وزاد نسبته لأبي داود، والنسائي، وابن ماجه.(5/247)
القول في تأويل قوله: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) }
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك:"فإذا أمنتم"، أيها المؤمنون، من عدوكم أن يقدر على قتلكم في حال اشتغالكم بصلاتكم التي فرضها عليكم- ومن غيره ممن كنتم تخافونه على أنفسكم في حال صلاتكم- فاطمأننتم، ="فاذكروا الله" في صلاتكم وفي غيرها بالشكر له والحمد والثناء عليه، على ما أنعم به عليكم من التوفيق لإصابة الحق الذي ضل عنه أعداؤكم من أهل الكفر بالله، = كما ذكركم بتعليمه إياكم من أحكامه، وحلاله وحرامه، وأخبار من قبلكم من الأمم السالفة، والأنباء الحادثة بعدكم- في عاجل الدنيا وآجل الآخرة، التي جهلها غيركم وبصركم، من ذلك وغيره، إنعاما منه عليكم بذلك، فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون.
* * *
وكان مجاهد يقول في قوله:"فإذا أمنتم"، ما: -
5570- حدثنا به أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"فإذا أمنتم"، قال: خرجتم من دار السفر إلى دار الإقامة.
* * *
وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد:
5571- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" فإذا أمنتم فاذكروا الله"، قال: فإذا أمنتم فصلوا الصلاة كما افترض الله عليكم- إذا جاء الخوف كانت لهم رخصة.
* * *
وقوله ها هنا:"فاذكروا الله"، قال: الصلاة،"كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون". (1)
* * *
__________
(1) من أول قوله: "وقوله ها هنا: اذكروا الله. . . " إلى آخر هذه الفقرة، هي من كلام مجاهد في الأثر: 5570 فيما أرجح، وأخشى أن يكون الناسخ قد أفسد سياق الكلام، وأنا أرجح ان قوله آنفًا: "وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد" ثم الأثر رقم 5571، ينبغي أن يكون مقدما على الأثر: 5570. وأرجح أن قوله: "وقوله ها هنا" كلام فاسد، وأن"ها هنا" كانت في الأصل القديم إشارة إلى تأخير الكلام من أول قوله: "وكان مجاهد يقول. . . " ثم الأثر: 5570، إلى ما بعد الأثر: 5571، فيكون السياق:
"فعلمكم منه ما لم تكونوا من قبل تعليمه إياكم تعلمون. وبمثل الذي قلنا من ذلك قال ابن زيد:
5570- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب. . .
وكان مجاهد يقول في قوله: "فإذا أمنتم" ما: -
5571- حدنا به أبو كريب، قال حدثنا وكيع، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد: "فإذا أمنتم"، قال: خرجتم من السفر إلى دار الإقامة. وقوله: "اذكروا الله"، قال: الصلاة، "كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون".
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد. . . "
هذا ما أرجح أن أصل الطبري كان عليه، وأخطأ الناسخ فهم إشارة الناسخ قبله بقوله: "ها هنا" يعني نقل الكلام من هناك إلى"ها هنا". ولكني لم أستجز هذا التغيير في المطبوعة، وإن كنت لا أشك فيما رجحته(5/248)
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرنا عن مجاهد، قول غيره أولى بالصواب منه، لإجماع الجميع على أن الخوف متى زال، فواجب على المصلي المكتوبة- وإن كان في سفر- أداؤها بركوعها وسجودها وحدودها، وقائما بالأرض غير ماش ولا راكب، كالذي يجب عليه من ذلك إذا كان مقيما في مصره وبلده، إلا ما أبيح له من القصر فيها في سفره. ولم يجر في هذه الآية للسفر ذكر، فيتوجه قوله:"فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون"، إليه. وإنما جرى ذكر الصلاة في حال الأمن، وحال شده الخوف، فعرف الله سبحانه وتعالى عباده صفة الواجب عليهم من الصلاة فيهما. (1) ثم قال:"فإذا أمنتم" فزال الخوف، فأقيموا صلاتكم
__________
(1) في المخطوطة: "وصفه الواجب عليهم"، والصواب ما في المطبوعة.(5/249)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)
وذكري فيها وفي غيرها، مثل الذي أوجبته عليكم قبل حدوث حال الخوف.
وبعد، (1) فإن كان جرى للسفر ذكر، ثم أراد الله تعالى ذكره تعريف خلقه صفة الواجب عليهم من الصلاة بعد مقامهم، لقال: فإذا أقمتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون= ولم يقل:"فإذا أمنتم".
وفي قوله تعالى ذكره:"فإذا أمنتم"، الدلالة الواضحة على صحة قول من وجه تأويل ذلك إلى الذي قلنا فيه، وخلاف قول مجاهد. (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والذين يتوفون منكم"، أيها الرجال ويذرون أزواجا = يعني زوجات كن له نساء في حياته، بنكاح= لا ملك يمين. ثم صرف الخبر عن ذكر من ابتدأ الخبر بذكره، نظير الذي مضى من ذلك في قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: 234] (3) إلى الخبر عن ذكر أزواجهم. وقد ذكرنا وجه
__________
(1) في المطبوعة: "قبل حدوث حال الخوف وبعده، فإن كان جرى للسفر ذكر. . . " وهو خلط قبيح، جعل بعض المصححين يضع مكان"فإن كان جرى"، "فلو كان جرى. . . " فترك الكلام خلطا لا معنى له، وصحح ما ليس في حاجة إلى تصحيح!! هذا، والصواب ما في المخطوطة كما أثبته.
(2) في المطبوعة: "وإلى خلاف قول مجاهد"، بزيادة"إلى"، وهي زيادة فاسدة مفسدة. وقوله: "خلاف" معطوف على قوله: "على صحة قول. . . "
(3) اقتصر في المخطوطة والمطبوعة على ذكر الآية إلى قوله: "ويذرون أزواجا"، فأتممتها للبيان.(5/250)
ذلك، ودللنا على صحة القول فيه في نظيره الذي قد تقدم قبله، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
ثم قال تعالى ذكره:"وصية لأزواجهم"، فاختلفت القرأة في قراءة ذلك: فقرأ بعضهم:"وصية لأزواجهم"، بنصب"الوصية"، بمعنى: فليوصوا وصية لأزواجهم، أو: عليهم [أن يوصوا] وصية لأزواجهم. (2)
* * *
وقرأ آخرون: (وَصِيِّةٌ لأزْوَاجِهِمْ) برفع"الوصية".
* * *
ثم اختلف أهل العربية في وجه رفع"الوصية".
فقال بعضهم: رفعت بمعنى: كتبت عليهم الوصية. واعتل في ذلك بأنها كذلك في قراءة عبد الله. (3)
فتأويل الكلام على ما قاله هذا القائل: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، كتبت عليهم وصية لأزواجهم- ثم ترك ذكر"كتبت"، ورفعت"الوصية" بذلك المعنى، وإن كان متروكا ذكره.
* * *
وقال آخرون منهم: بل"الوصية" مرفوعة بقوله:"لأزواجهم" فتأول: لأزواجهم وصية.
* * *
والقول الأول أولى بالصواب في ذلك، وهو أن تكون"الوصية" إذا رفعت مرفوعة بمعنى: كتبت عليكم وصية لأزواجكم. لأن العرب تضمر النكرات مرافعها قبلها إذا أضمرت، فإذا أظهرت بدأت به قبلها، فتقول:"جاءني رجل اليوم"،
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 77-79.
(2) ما بين القوسين زيادة لا يستقيم الكلام إلا بها.
(3) قراءة عبد الله بن مسعود: {كتب عليكم الوصية لأزواجكم} انظر شواذ القراءات لابن خالويه: 15، ومعاني القرآن للفراء: 1/156، وغيرها المصححون.(5/251)
وإذا قالوا:"رجل جاءني اليوم" لم يكادوا أن يقولونه إلا والرجل حاضر يشيرون إليه ب"هذا"، (1) أو غائب قد علم المخبر عنه خبره، أو بحذف"هذا" وإضماره وإن حذفوه، لمعرفة السامع بمعنى المتكلم، كما قال الله تعالى ذكره: (سورة أنزلناها) [سورة النور: 1] و (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة التوبة: 1] ، فكذلك ذلك في قوله:" وصية لأزواجهم".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا قراءة من قرأه رفعا، لدلالة ظاهر القرآن على أن مقام المتوفى عنها زوجها في بيت زوجها المتوفى حولا كاملا كان حقا لها قبل نزول قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: 234] ، وقبل نزول آية الميراث (2) =ولتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو الذي دل عليه الظاهر من ذلك، أوصى لهن أزواجهن بذلك قبل وفاتهن، أو لم يوصوا لهن به.
* * *
فإن قال قائل: وما الدلالة على ذلك؟
قيل: لما قال الله تعالى ذكره:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم"، وكان الموصي لا شك، إنما يوصي في حياته بما يأمر بإنفاذه بعد وفاته، (3) وكان محالا أن يوصي بعد وفاته، كان تعالى ذكره إنما جعل لامرأة الميت سكن الحول بعد وفاته (4) =، (5) علمنا أنه حق لها وجب في ماله بغير وصية منه
__________
(1) في المخطوطة"لم يكادوا أن يقولونه. . . "، وفي المطبوعة: "أن يقولوه"، وأرجح أن الصواب ما أثبت بإسقاط"أن" التي في المخطوطة.
(2) انظر ما سيأتي ص: 254-258.
(3) في المطبوعة: "يؤمر بإنفاذه. . . "، والصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "فكان تعالى ذكره إنما جعل. . . " بالفاء مكان الواو، والصواب من المخطوطة. وفي المطبوعة: "سكنى الحول"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء.
(5) في المطبوعة: "علما بأنه حق لها"، وفي المخطوطة"علمنا به حق" غير منقوطة، والصواب ما أثبت، وسياق الجملة: "لما قال الله تعالى. . . وكان الموصى. . . وكان محالا. . . وكان تعالى ذكره. . . = علمنا أنه حق. . . "(5/252)
لها، إذ كان الميت مستحيلا أن يكون منه وصية بعد وفاته.
* * *
ولو كان معنى الكلام على ما تأوله من قال:"فليوص وصية"، لكان التنزيل: والذين تحضرهم الوفاة ويذرون أزواجا، وصية لأزواجهم، (1) كما قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) [سورة البقرة: 18]
* * *
وبعدُ، فلو كان ذلك واجبًا لهن بوصية من أزواجهن المتوفّين، لم يكن ذلك حقًّا لهن إذا لم يوص أزواجهن لهن قبل وفاتهم، ولكان قد كان لورثتهم إخراجهن قبل الحول، (2) وقد قال الله تعالى ذكره:"غير إخراج". ولكن الأمر في ذلك بخلاف ما ظنه في تأويله قارئُه:"وصيةً لأزواجهم"، بمعنى: أن الله تعالى كان أمر أزواجهن بالوصية لهنّ. وإنما تأويل ذلك: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجًا، كتب الله لأزواجهم عليكم وصية منه لهن أيها المؤمنون- أن لا تخرجوهن من منازل أزواجهن حولا كما قال تعالى ذكره في"سورة النساء" (غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ) [سورة النساء: 12] ، ثم ترك ذكر:"كتب الله"، اكتفاء بدلالة الكلام عليه، ورفعت"الوصية" بالمعنى الذي قلنا قبل.
* * *
فإن قال قائل: فهل يجوز نصب"الوصية" [على الحال، بمعتى موصين] لهن وصية؟ (3)
__________
(1) هذا رد الطبري على من قرأها بالنصب.
(2) في المطبوعة: "ولكان لورثتهم إخراجهن" بإسقاط"قد كان"، وفي المخطوطة: "ولكان لورثتهم قد كان إخراجهن"، بتقديم"لورثتهم"، والصواب ما أثبت.
(3) كان مكان ما بين القوسين بياض في المخطوطة والمطبوعة، وهذه الزيادة بين القوسين استظهرتها من سياق الكلام. وهو يريد في كلامه الآتي خروج الحال مصدرا نحو قولهم: "طلع بغتة، وجاء ركضا، وقتلته صبرا، ولقيته كفاحا". وانظر سيبوبه 1: 186، وأوضح المسالك 1: 195 وغيرهما. هذا ما استطعت أن أقدره من كلام أبي جعفر ورده هذا القول، وكأنه الصواب إن شاء الله.(5/253)
قيل: لا لأن ذلك إنما كان يكون جائزا لو تقدم"الوصية" من الكلام ما يصلح أن تكون الوصية خارجة منه، فأما ولم يتقدمه ما يحسن أن تكون منصوبة بخروجها منه، فغير جائز نصبها بذلك المعنى.
* * *
* ذكر بعض من قال: إن سكنى حول كامل كان حقا لأزواج المتوفين بعد موتهم= على ما قلنا= (1) أوصى بذلك أزواجهن لهن أو لم يوصوا لهن به، وأن ذلك نسخ بما ذكرنا من الأربعة الأشهر والعشر والميراث.
5572- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن منهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال: سألت قتادة عن قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، فقال: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا في مال زوجها، ما لم تخرج. ثم نسخ ذلك بعد في"سورة النساء"، فجعل لها فريضة معلومة: الثمن إن كان له ولد، والربع إن لم يكن له ولد، وعدتها أربعة أشهر وعشرا، فقال تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: 234] ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها من أمر الحول.
5573- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج" الآية، قال: كان هذا من قبل أن تنزل آية الميراث، فكانت المرأة إذا توفي عنها زوجها كان لها السكنى والنفقة حولا إن شاءت، فنسخ ذلك في"سورة النساء"، فجعل لها فريضة معلومة: جعل لها الثمن إن كان له ولد، وإن لم يكن له ولد فلها الربع، وجعل عدتها أربعة أشهر وعشر، فقال: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) .
__________
(1) انظر ما سلف ص: 252 والتعليق رقم: 3.(5/254)
5574- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، فكان الرجل إذا مات وترك امرأته، اعتدت سنة في بيته، ينفق عليها من ماله، ثم أنزل الله تعالى ذكره بعد: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها. إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها. وقال في ميراثها: (وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ) [سورة النساء: 12] ، فبين الله ميراث المرأة، وترك الوصية والنفقة.
5575- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال سمعت أبا معاذ قال، سمعت عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، كان الرجل إذا توفي أنفق على امرأته في عامه إلى الحول، ولا تزوج حتى تستكمل الحول. وهذا منسوخ: نسخ النفقة عليها الربع والثمن من الميراث، ونسخ الحول أربعة أشهر وعشر.
5576- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، قال: الرجل إذا توفي أنفق على امرأته إلى الحول، ولا تزوج حتى يمضي الحول، فأنزل الله تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، فنسخ الأجل الحول، ونسخ النفقة الميراث الربع والثمن.
5577- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، قال: كان ميراث المرأة من زوجها(5/255)
من ربعه: (1) أن تسكن إن شاءت من يوم يموت زوجها إلى الحول، يقول:"فإن خرجن فلا جناح عليكم" الآية، ثم نسخها ما فرض الله من الميراث= قال، وقال مجاهد:"وصية لأزواجهم" سكنى الحول، ثم نسخ هذه الآية الميراث.
5578- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان لأزواج الموتى حين كانت الوصية، نفقة سنة. فنسخ الله ذلك الذي كتب للزوجة من نفقة السنة بالميراث، فجعل لها الربع أو الثمن= وفي قوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، قال: هذه الناسخة.
* * *
* ذكر من قال: كان ذلك يكون لهن بوصية من أزواجهن لهن به:
5579- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" الآية، قال: كانت هذه من قبل الفرائض، فكان الرجل يوصي لامرأته ولمن شاء. ثم نسخ ذلك بعد، فألحق الله تعالى بأهل المواريث ميراثهم، وجعل للمرأة إن كان له ولد الثمن، وإن لم يكن له ولد فلها الربع. وكان ينفق على المرأة حولا من مال زوجها، ثم تحول من بيته. فنسخته العدة أربعة أشهر وعشرا، ونسخ الربع أو الثمن الوصية لهن، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون.
5580- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم"، إلى"فيما فعلن في أنفسهن من معروف"، يوم نزلت هذه الآية، كان الرجل إذا مات أوصى لامرأته
__________
(1) في المطبوعة: "من ريعه" بالياء المثناة التحتية. وليس لها معنى هنا. والربع: المنزل والدار والمسكن، وفي حديث أسامة أنه قال له: "هل ترك لنا عقيل من ربع؟ ": أي منزل، والجمع رباع وربوع وأربع. وهذه الكلمة"من ربعه" أسقطها الدر المنثور من روايته للأثر 1: 309.(5/256)
بنفقتها وسكناها سنة، وكانت عدتها
أربعة أشهر وعشرا، فإن هي خرجت حين تنقضي أربعة أشهر وعشرا، انقطعت عنها النفقة، فذلك قوله:"فإن خرجن"، وهذا قبل أن تنزل آية الفرائض، فنسخه الربع والثمن، فأخذت نصيبها، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة.
5581- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، يزعم قتادة أنه كان يوصى للمرأة بنفقتها إلى رأس الحول.
* * *
* ذكر من قال:"نسخ ذلك ما كان لهن من المتاع إلى الحول، من غير تبيينه على أي وجه كان ذلك لهن": (1)
5582- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حبيب، عن إبراهيم في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصيه لأزواجهم متاعا إلى الحول"، قال: هي منسوخة.
5583- حدثنا الحسن بن الزبرقان قال، حدثنا أسامة، عن سفيان، عن حبيب بن أبي ثابت قال: سمعت إبراهيم يقول، فذكر نحوه.
5584- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن حصين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، نسخ ذلك بآية الميراث وما فرض لهن فيها من الربع والثمن، ونسخ أجل الحول أن جعل أجلها أربعة أشهر وعشرا.
5585- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عباس: أنه قام يخطب الناس ها هنا، فقرأ لهم سورة
__________
(1) في المطبوعة: "من غير بينة"، والصواب ما في المخطوطة.(5/257)
البقرة، فبين لهم فيها، (1) فأتى على هذه الآية: (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ) [سورة البقرة: 180] ، قال: فنسخت هذه. ثم قرأ حتى أتى على هذه الآية:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا" إلى قوله:"غير إخراج"، فقال: وهذه. (2)
* * *
وقال آخرون: هذه الآية ثابتة الحكم، لم ينسخ منها شيء.
* ذكر من قال ذلك:
5586- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) [سورة البقرة: 234] ، قال: كانت هذه للمعتدة، تعتد عند أهل زوجها، واجبا ذلك عليها، فأنزل الله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج"، إلى قوله:"من معروف". قال: جعل الله لهم تمام السنة، سبعة أشهر وعشرين ليلة، وصية: إن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، وهو قول الله تعالى ذكره:"غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم"، قال: والعدة كما هي واجبة.
5587- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5588- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى= وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل= عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قال: نسخت هذه الآية عدتها عند أهله، تعتد
__________
(1) في المطبوعة: "فبين لهم فيها"، والصواب ما في المخطوطة ورقم: 2652، أي فسر لهم منها ما فسر.
(2) الأثر: 5585- مضى مختصرا برقم: 2652.(5/258)
حيث شاءت، وهو قول الله:"غير إخراج". قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهله وسكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت، لقول الله تعالى ذكره:"فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن" = قال عطاء: جاء الميراث بنسخ السكنى، تعتد حيث شاءت ولا سكنى لها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره كان جعل لأزواج من مات من الرجال بعد موتهم، سكنى حول في منزله، ونفقتها في مال زوجها الميت إلى انقضاء السنة، (1) ووجب على ورثة الميت أن لا يخرجوهن قبل تمام الحول من المسكن الذي يسكنه، وإن هن تركن حقهن من ذلك وخرجن، لم تكن ورثة الميت من خروجهن في حرج. ثم إن الله تعالى ذكره نسخ النفقة بآية الميراث، وأبطل مما كان جعل لهن من سكنى حول سبعة أشهر وعشرين ليلة، وردهن إلى أربعة أشهر وعشر، على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم.
5589- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا حجاج قال، أخبرنا حيوة بن شريح، عن ابن عجلان، عن سعيد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، وأخبره عن عمته زينب ابنة كعب بن عجرة، عن فريعة أخت أبي سعيد الخدري: أن زوجها خرج في طلب عبد له، فلحقه بمكان قريب فقاتله، وأعانه عليه أعبد معه فقتلوه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: إن زوجها خرج في طلب عبد له، فلقيه علوج فقتلوه، وإني في مكان ليس فيه أحد غيري، وإن أجمع لأمري أن أنتقل إلى أهلي! فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل امكثي مكانك حتى يبلغ الكتاب أجله. (2)
__________
(1) في المخطوطة: "إلى انقضاء وجب"، وما بينهما بياض، وما في المطبوعة أشبه بالصواب
(2) الحديث: 5589- حجاج: هو ابن رشدين بن سعد. وهو الذي يروي عن حيوة بن شريح، ويروي عنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. وهو -عندنا- ثقة. وقد مضت ترجمته مفصلة في: 763.
ابن عجلان: هو محمد بن عجلان المدني الثقة، مضى في: 304.
سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة: مضى في: 5090. وقد وقع في المطبوعة هنا"سعيد" بدل"سعد" - كما وقع فيما مضى. والأشهر ما أثبتنا.
والحديث مضى مختصرا: 5090، من رواية فليح بن سليمان، عن سعد بن إسحاق، بهذا الإسناد. وفصلنا القول في تخريجه، مطولا ومختصرا، كأنا استوعبنا هناك ما وجدنا من طرقه، إلا روايات الطحاوي فقد رواه في معاني الآثار 2: 45-46 بتسعة أسانيد. وإلا الطريق التي هنا، فلم نكن رأيناها. ثم لم نجد هذه الطريق في شيء من الدواوين، غير الطبري.
أما الحديث في ذاته فصحيح، ورواياته الصحاح - التي أشرنا إليها هناك: مطولة مفصلة بأكثر مما هنا.
فريعة بنت مالك، أخت أبي سعيد: هي بضم الفاء بالتصغير، في أكثر الروايات. ووقع اسمها في المخطوطة هنا"الفارعة". ولم أجدها في شيء من الروايات هكذا، إلا في إحدى روايات النسائي 2: 113. وكذلك لم يذكر الحافظ في الإصابة هذ الرواية إلا عن رواية النسائي.
والحديث ذكره ابن كثير 1: 588-589، عن رواية الموطأ، التي أشرنا إليها فيما مضى. وهي في الموطأ، ص: 591.(5/259)
وأما قوله:"متاعا"، فإن معناه: جعل ذلك لهن متاعا، أي الوصية التي كتبها الله لهن.
وإنما نصب"المتاع"، لأن في قوله:"وصية لأزواجهم"، معنى متعهن الله، فقيل:"متاعا"، مصدرا من معناه لا من لفظه.
* * *
وقوله:"غير إخراج"، فإن معناه أن الله تعالى ذكره جعل ما جعل لهن من الوصية متاعا منه لهن إلى الحول، لا إخراجا من مسكن زوجها= يعني: لا إخراج فيه منه حتى ينقضي الحول. فنصب"غير" على النعت ل"لمتاع"، كقول القائل:"هذا قيام غير قعود"، بمعنى: هذا قيام لا قعود معه، أو: لا قعود فيه.
* * *
وقد زعم بعضهم أنه منصوب بمعنى: لا تخرجوهن إخراجا، وذلك خطأ من القول. لأن ذلك إذا نصب على هذا التأويل، كان نصبه من كلام آخر غير الأول، وإنما هو منصوب بما نصب"المتاع" على النعت له. (1)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 156.(5/260)
القول في تأويل قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن المتاع الذي جعله الله لهن إلى الحول في مال أزواجهن بعد وفاتهم وفي مساكنهم، ونهى ورثته عن إخراجهن، إنما هو لهن ما أقمن في مساكن أزواجهن، وأن حقوقهن من ذلك تبطل بخروجهن إن خرجن من منازل أزواجهن قبل الحول من قبل أنفسهن، بغير إخراج من ورثة الميت.
ثم أخبر تعالى ذكره أنه لا حرج على أولياء الميت في خروجهن وتركهن الحداد على أزواجهن. لأن المقام حولا في بيوت أزواجهن والحداد عليه تمام حول كامل، لم يكن فرضا عليهن، وإنما كان ذلك إباحة من الله تعالى ذكره لهن إن أقمن تمام الحول محدات. فأما إن خرجن فلا جناح على أولياء الميت ولا عليهن فيما فعلن في أنفسهن من معروف، وذلك ترك الحداد. يقول: فلا حرج عليكم في التزين إن تزينّ وتطيبن وتزوجن، لأن ذلك لهن.
وإنما قلنا:"لا حرج عليهنّ في خروجهن"، وإن كان إنما قال تعالى ذكره:"فلا جناح عليكم"، لأن ذلك لو كان عليهن فيه جناح، لكان على أولياء الرجل فيه جناح بتركهم إياهن والخروج، مع قدرتهم على منعهنّ من ذلك. ولكن لما لم يكن عليهن جناح في خروجهن وترك الحداد، وضع عن أولياء الميت وغيرهم الحرج فيما فعلن من معروف، وذلك في أنفسهن.
وقد مضت الرواية عن أهل التأويل بما قلناه في ذلك قبل.
* * *
وأما قوله:"والله عزيز حكيم"، فإنه يعني تعالى ذكره:"والله عزيز"، في انتقامه ممن خالف أمره ونهيه وتعدى حدوده من الرجال والنساء، فمنع من(5/261)
وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241)
كان من الرجال نساءهم وأزواجهم ما فرض لهن عليهم في الآيات التي مضت قبل: من المتعة والصداق والوصية، وإخراجهن قبل انقضاء الحول، وترك المحافظة على الصلوات وأوقاتها= ومنع من كان من النساء ما ألزمهن الله من التربص عند وفاة أزواجهن عن الأزواج، وخالف أمره في المحافظة على أوقات الصلوات="حكيم"، فيما قضى بين عباده من قضاياه التي قد تقدمت في الآيات قبل قوله:"ولله عزيز حكيم"، وفي غير ذلك من أحكامه وأقضيته.
* * *
القول في تأويل قوله جل ذكره {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولمن طلق من النساء على مطلقها من الأزواج،"متاع". يعني بذلك: ما تستمتع به من ثياب وكسوة أو نفقة أو خادم، وغير ذلك مما يستمتع به. وقد بينا فيما مضى قبل معنى ذلك، واختلاف أهل العلم فيه، والصواب من القول من ذلك عندنا، بما فيه الكفاية من إعادته. (1)
* * *
وقد اختلف أهل العلم في المعنية بهذه الآية من المطلقات.
فقال بعضهم: عني بها الثيِّبات اللواتي قد جومعن. قالوا: وإنما قلنا ذلك، لأن [الحقوق اللازمة للمطلقات] غير المدخول بهن في المتعة، (2) قد بينها الله
__________
(1) انظر معنى"المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 /ثم 3: 53-55 /ثم الموضع الذي عناه الطبري هنا: 120-135.
(2) في المخطوطة: "لأن غير المدخول بهن"، وبينهما بياض، فجاءت المطبوعة وصلت الكلام: "لأن غير المدخول بهن" فاختلت الجملة، واستظهرت ما زدته بين القوسين من معنى الآيات.(5/262)
تعالى ذكره في الآيات قبلها، فعلمنا بذلك أن في هذه الآية بيان أمر المدخول بهن في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
5590- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء في قوله:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، قال: المرأة الثيب يمتعها زوجها إذا جامعها بالمعروف.
5591- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله= وزاد فيه: ذكره شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء.
* * *
وقال آخرون: بل في هذه الآية دلالة على أن لكل مطلقة متعة، وإنما أنزلها الله تعالى ذكره على نبيه صلى الله عليه وسلم، لما فيها من زيادة المعنى الذي فيها على ما سواها من آي المتعة، إذ كان ما سواها من آي المتعة إنما فيه بيان حكم غير الممسوسة إذا طلقت، وفي هذه بيان حكم جميع المطلقات في المتعة.
* ذكر من قال ذلك:
5592- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، قال: لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين.
5593- حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يونس، عن الزهري- في الأمة يطلقها زوجها وهي حبلى- قال: تعتد في بيتها. وقال: لم أسمع في متعة المملوكة شيئا أذكره، (1) وقد قال الله تعالى ذكره:"متاع بالمعروف حقا على المتقين"، ولها المتعة حتى تضع.
__________
(1) في المطبوعة: "وقال: لم أسمع. . . "، وأثبت ما في المخطوطة.(5/263)
5594- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى (1) قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: قلت له: أللأمة من الحر متعة؟ قال: لا. قلت: فالحرة عند العبد؟ قال: لا= وقال عمرو بن دينار: نعم،"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين".
* * *
وقال آخرون: إنما نزلت هذه الآية، لأن الله تعالى ذكره لما أنزل قوله: (وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [سورة البقرة: 236] ، قال رجل من المسلمين: فإنا لا نفعل إن لم نرد أن نحسن. فأنزل الله:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، فوجب ذلك عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
5595- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، فقال رجل: فإن أحسنت فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل! فأنزل الله:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله سعيد بن جبير، من أن الله تعالى ذكره أنزلها دليلا لعباده على أن لكل مطلقة متعة. لأن الله تعالى ذكره ذكر في سائر آي القرآن التي فيها ذكر متعة النساء، خصوصا من النساء، فبين في الآية التي قال فيها: (لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) [سورة البقرة: 236] ، وفي قوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "هناد بن موسى"، وليس في الرواة أحد بهذا الاسم. والصواب ما أثبت/ انظر الأثر قبله رقم: 5593، وفي مواضع كثيرة قبل ذلك بمثل هذا الإسناد.(5/264)
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ) [سورة الأحزاب: 49] ، ما لهن من المتعة إذا طلقن قبل المسيس، وبقوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ) [سورة الأحزاب: 28] ، حكم المدخول بهن، وبقي حكم الصبايا إذا طلقن بعد الابتناء بهن، وحكم الكوافر والإماء. فعم الله تعالى ذكره بقوله:" وللمطلقات متاع بالمعروف" ذكر جميعهن، وأخبر بأن لهن المتاع، كما خص المطلقات الموصوفات بصفاتهن في سائر آي القرآن، (1) ولذلك كرر ذكر جميعهن في هذه الآية.
* * *
وأما قوله: (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ، فإنا قد بينا معنى قوله:"حقا"، ووجه نصبه، والاختلاف من أهل العربية في قوله: (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) [سورة البقرة: 236] ، ففي ذلك مستغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
فأما"المتقون": فهم الذين اتقوا الله في أمره ونهيه وحدوده، فقاموا بها على ما كلفهم القيام بها خشية منهم له، ووجلا منهم من عقابه.
وقد تقدم بيان تأويل ذلك نصا بالرواية. (3)
* * *
القول في تأويل قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره، كما بينت لكم ما يلزمكم لأزواجكم ويلزم أزواجكم لكم، أيها المؤمنون، وعرفتكم أحكامي والحق الواجب لبعضكم على بعض
__________
(1) في المطبوعة: "كما أبان المطلقات. . . "، وفي المخطوطة: "كما المطلقات" وما بين الكلامين بياض، واستظهرت من قوله: "نعم الله تعالى. . . "، أن اللفظ الناقص في البياض هو"خص"، أو معنى يشبهه ويقاربه.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء: 137، 138.
(3) انظر فهارس اللغة فيما سلف مادة"وقى".(5/265)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)
في هذه الآيات، فكذلك أبين لكم سائر الأحكام في آياتي التي أنزلتها على نبيي محمد صلى الله عليه وسلم في هذا الكتاب، لتعقلوا- أيها المؤمنون بي وبرسولي- حدودي، فتفهموا اللازم لكم من فرائضي، وتعرفوا بذلك ما فيه صلاح دينكم ودنياكم، وعاجلكم وآجلكم، فتعلموا به ليصلح ذات بينكم، وتنالوا به الجزيل من ثوابي في معادكم.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"ألم تر"، ألم تعلم، يا محمد؟ = وهو من"رؤية القلب" لا رؤية العين"، (1) لأن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم لم يدرك الذين أخبر الله عنهم هذا الخبر، و"رؤية القلب": ما رآه، وعلمه به. (2) فمعنى ذلك: ألم تعلم يا محمد، الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف؟
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"وهم ألوف".
فقال بعضهم: في العدد، بمعنى جماع"ألف".
* ذكر من قال ذلك:
5596- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي= وحدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع= قال، حدثنا سفيان، عن ميسرة النهدي، عن المنهال بن عمرو، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"الرؤية" 3: 75-79.
(2) في المطبوعة: "وعلمه به" بزيادة الواو، وهي فاسدة، والصواب من المخطوطة.(5/266)
وهم ألوف حذر الموت"، كانوا أربعة آلاف، خرجوا فرارا من الطاعون، قالوا:"نأتي أرضا ليس فيها موت"! حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال لهم الله:"موتوا". فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم، فأحياهم، فتلا هذه الآية:"إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". (1)
5597- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ميسرة النهدي، عن المنهال، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: كانوا أربعة آلاف خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم الله، فمر عليهم نبي من الأنبياء، فدعا ربه أن يحييهم حتى يعبدوه، فأحياهم.
5598- حدثنا محمد بن سهل بن عسكر قال، أخبرنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد: أنه سمع وهب بن منبه يقول: أصاب ناسا من بني إسرائيل بلاء وشدة من الزمان، فشكوا ما أصابهم وقالوا:"يا ليتنا قد متنا فاسترحنا مما نحن فيه"! فأوحى الله إلى حزقيل: إن قومك صاحوا من البلاء، وزعموا أنهم ودوا لو ماتوا فاستراحوا، وأي راحة لهم في الموت؟ أيظنون أني لا أقدر أن أبعثهم بعد الموت؟ فانطلق إلى جبانة كذا وكذا، فإن فيها أربعة آلاف= قال وهب: وهم الذين قال الله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"= فقم فيهم فنادهم، وكانت عظامهم قد تفرقت، فرقتها الطير والسباع. فناداهم حزقيل فقال: (2) "يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي"! فاجتمع عظام كل
__________
(1) الأثران: 5596، 5597- أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 281، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وقال الذهبي"ميسرة، لم يرويا له وروى له البخاري في الأدب المفرد. وانظر ابن كثير 1: 590، والدر المنثور 1: 310. و"ميسرة"، هو: "ميسرة بن حبيب النهدي"، مترجم في التهذيب.
(2) في المخطوطة: "فناداه"، وعلى الهاء من فوق حرف"ط"، وفي الدر المنثور 1: 311"فنادى حزقيل"، وفي المطبوعة: "فناداهم"، وأثبت ما في تاريخ الطبري 1: 237.(5/267)
إنسان منهم معا. (1) ثم نادى ثانية حزقيل فقال:"أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي اللحم"، فاكتست اللحم، وبعد اللحم جلدا، فكانت أجسادا. ثم نادى حزقيل الثالثة فقال:"أيتها الأرواح، إن الله يأمرك أن تعودي في أجسادك"! (2) فقاموا بإذن الله، وكبروا تكبيرة واحدة. (3)
5599- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، يقول: عدد كثير خرجوا فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله، ثم أحياهم وأمرهم أن يجاهدوا عدوهم، فذلك قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) .
5600- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أشعث بن أسلم البصري قال: بينما عمر يصلي ويهوديان خلفه = وكان عمر إذا أراد أن يركع خوى= (4) فقال أحدهم لصاحبه، (5) أهو هو؟ فلما انفتل عمر قال: (6)
__________
(1) بعد هذا في الدر المنثور 1: 311: [ثم قال: "أيتها العظام، إن الله يأمرك أن ينبت العصب والعقب" فتلازمت واشتدت بالعصب والعقب] . وفي تاريخ الطبري: "يا أيتها العظام النخرة"
(2) في المطبوعة: "إلى أجسادك"، وأثبت ما في المخطوطة، وتاريخ الطبري، والدر المنثور.
(3) الأثر: 5598: "محمد بن سهل بن عسكر" التميمي، أبو بكر النجاري الحافظ الجوال قال النسائي وابن عدي: "ثقة" سكن بغداد ومات بها سنة 251، مترجم في التهذيب و"إسماعيل بن عبد الكريم بن معقل بن منبه الصنعاني"، روى عن ابن عمه إبراهيم بن عقيل، وعمه عبد الصمد بن معقل، وروى عنه أحمد بن حنبل، قال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حبان في الثقات. توفي باليمن سنة 210. مترجم في التهذيب. والأثر رواه الطبري بهذا الإسناد في التاريخ 1: 237، والدر المنثور 1: 311.
(4) خوى الرجل في سجوده: تجافى وفرج ما بين عضديه وجنبيه وفي الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد خوى.
(5) في المطبوعة: "فقال أحدهم"، والصواب من المخطوطة وتاريخ الطبري.
(6) انفتل فلان من صلاته: انصرف بعد قضائها، ومثله: "فتل وجهه عن القوم"، صرفه ولواه عنهم.(5/268)
أرأيت قول أحدكما لصاحبه: أهو هو؟ (1) فقالا إنا نجده في كتابنا: (2) "قرنا من حديد، يعطى ما يعطى حزقيل الذي"أحيى الموتى بإذن الله". فقال عمر: ما نجد في كتاب الله"حزقيل" ولا"أحيى الموتى بإذن الله"، إلا عيسى. فقالا أما تجد في كتاب الله (وَرُسُلا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ) ، (3) [سورة النساء: 164] ، فقال عمر: بلى! قالا وأما إحياء الموتى فسنحدثك: إن بني إسرائيل وقع عليهم الوباء، فخرج منهم قوم حتى إذا كانوا على رأس ميل أماتهم الله، فبنوا عليهم حائطا، حتى إذا بليت عظامهم بعث الله حزقيل فقام عليهم فقال شاء الله، (4) فبعثهم الله له، فأنزل الله في ذلك:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، الآية. (5)
5601- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن الحجاج بن أرطأة قال: كانوا أربعة آلاف.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "رأيت" بغير همزة استفهام، والصواب من الطبري، والدر المنثور. وقول العرب"أرأيت كذا"، يريدون به معنى الاستخبار، بمعنى أخبرني عن كذا.
(2) في المطبوعة وتاريخ الطبري: "إنا نجد في كتابنا"، وفي المخطوطة والد المنثور: "نجده" وهو الذي أثبت. وفي تاريخ الطبري بعد"يعطي ما أعطى حزقيل". والقرن (بفتح فسكون) : الحصن، والقرن أيضًا: الجبيل المنفرد. وقرن الجبل: أعلاه.
(3) في المطبوعة: "رسلا لم يقصصهم" بحذف الواو، وبالياء من"يقصصهم"، وفي المخطوطة كذلك إلا أن"الياء" غير منقوطة، وأثبت نص الآية، على ما جاءت في تاريخ الطبري.
(4) في المطبوعة: "فقام عليهم ما شاء الله"، والصواب من المراجع والمخطوطة.
(5) الأثر: 5600- رواه الطبري في تاريخه 1: 238، وأخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 311. وفي المطبوعة والمخطوطة والدر: "أشعث بن أسلم البصري"، وفي التاريخ"أشعث عن سالم النصري"، و"أشعث بن أسلم العجلي البصري ثم الربعي"، روى عن أبيه أنه رأى أبا موسى الأشعري، روى عنه سعيد بن أبي عروبة. مترجم في ابن أبي حاتم 1 /1 /269. وأما"سالم النصري"، فهو: سالم بن عبد الله النصري، هو"سالم سبلان"، مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 2 /1 /184، روى عن عمان وعائشة وأبي سعيد، وأبي هريرة. روى عنه سعيد المقبري، وبكير بن عبد الله وغيرهما. وأنا أظن أن الذي في التاريخ أقرب إلى الصواب.(5/269)
5602- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، إلى قوله:"ثم أحياهم"، قال: كانت قرية يقال لها داوردان قبل واسط، (1) وقع بها الطاعون، فهرب عامة أهلها فنزلوا ناحية منها، فهلك من بقي في القرية وسلم الآخرون، فلم يمت منهم كبير. (2) فلما ارتفع الطاعون رجعوا سالمين، فقال الذين بقوا: أصحابنا هؤلاء كانوا أحزم منا، لو صنعنا كما صنعوا بقينا! ولئن وقع الطاعون ثانية لنخرجن معهم! فوقع في قابل فهربوا، وهم بضعة وثلاثون ألفا، حتى نزلوا ذلك المكان، وهو واد أفيح، (3) فناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه: أن موتوا! فماتوا، حتى إذا هلكوا وبليت أجسادهم، مر بهم نبي يقال له حزقيل، فلما رآهم وقف عليهم فجعل يتفكر فيهم ويلوى شدقه وأصابعه، (4) فأوحى الله إليه: يا حزقيل، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم؟ = قال: وإنما كان تفكره أنه تعجب من قدرة الله عليهم= فقال: نعم! فقيل له: ناد! فنادى:"يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تجتمعي! "، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض، حتى كانت أجسادا من عظام، ثم أوحى الله إليه أن ناد:"يا أيتها العظام، إن الله يأمرك أن تكتسي لحما"، فاكتست لحما ودما، وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها. ثم قيل له: ناد! فنادى:"يا أيتها الأجساد إن الله يأمرك أن تقومي"، فقاموا.
5603- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، قال: فزعم منصور بن المعتمر، عن مجاهد: أنهم قالوا حين أحيوا:"سبحانك ربنا وبحمدك
__________
(1) في المخطوطة: "دار وردان" بزيادة راء، والصواب ما في تاريخ الطبري، والدر المنثور، ومعجم البلدان، وهي من نواحي شرقي واسط، بينهما فرسخ.
(2) في التاريخ: "فلم يمت منهم كثير".
(3) الأفيح والفياح: الواسع المنتشر النواحي، ويقال: روضة فيحاء، من ذلك.
(4) في المطبوعة: "يلوي شدقيه"، وأثبت ما في المخطوطة وتاريخ الطبري. ولوى شدقه: أماله متعجبا مما يرى ويشهد.(5/270)
لا إله إلا أنت"، فرجعوا إلى قومهم أحياء يعرفون أنهم كانوا موتى، سحنة الموت على وجوههم، (1) لا يلبسون ثوبا إلا عاد دسما مثل الكفن، (2) حتى ماتوا لآجالهم التي كتبت لهم. (3)
5604- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبد الرحمن بن عوسجة، عن عطاء الخراساني:" ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، قال: كانوا ثلاثة آلاف أو أكثر.
5605- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: كانوا أربعين ألفا وثمانية آلاف، (4) حظر عليهم حظائر، وقد أروحت أجسادهم وأنتنوا، (5) فإنها لتوجد اليوم في ذلك السبط من اليهود تلك الريح، وهم ألوف فرارا من الجهاد في سبيل الله، فأماتهم الله ثم أحياهم، فأمرهم بالجهاد، فذلك قوله:" وقاتلوا في سبيل الله" الآية.
5606- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا محمد بن إسحاق،
__________
(1) السحنة (بفتح فسكون) : الهيئة واللون والحال، وبشرة الوجه والمنظر.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "إلا عاد كفنا دسما"، وضبط في التاريخ بضم الدال وسكون السين، وهو خطأ، فإن هذا جمع أدسم ودسما، وليس هذا مقام جمع. وقوله: "كفنا دسما مثل الكفن" ليس بلبسان عربي، فحذفتها وأثبت ما في التاريخ، وأما الرواية الأخرى في الدر المنثور فهي: "إلا عاد كفنا دسما"، بحذف"مثل الكفن"، فهذه أو تلك هي الصواب.
والدسم: ودك اللحم والشحم. وفلان: دسم الثوب وأدسم الثوب، إذا كان ثوبه متلطخا وسخا قد علق به وضر اللحم والشحم. وأكفان الموتى دسم، لما يسيل من أجسادهم بعد تهرئهم وتعفن أبدانهم.
(3) الأثران: 5602، 5603- في تاريخ الطبري 1: 237، 238، والدر المنثور 1: 310 بغير هذا اللفظ.
(4) في المخطوطة والمطبوعة"أو ثمانية آلاف"، وهو لا يستقيم، والصواب في الدر المنثور 1: 311.
(5) الحظائر جمع حظيرة: ما أحاط بالشيء، تكون من قصب وخشب، ليقي البرد والريح والعادية. وحظ حظيرة: اتخذها. والحظر: الحبس والمنع. أروح الماء واللحم وغيرهما وأراح: تغيرت رائحته وأنتن.(5/271)
عن وهب بن منبه أن كالب بن يوقنا لما قبضه الله بعد يوشع، (1) خلف فيهم - يعني في بني إسرائيل - حزقيل بن بوزي= (2) وهو ابن العجوز، وإنما سمي"ابن العجوز" أنها سألت الله الولد وقد كبرت وعقمت، فوهبه الله لها، فلذلك قيل له"ابن العجوز"= وهو الذي دعا للقوم الذين ذكر الله في الكتاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما بلغنا:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". (3) .
5607- حدثني ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني محمد بن إسحاق قال: بلغني أنه كان من حديثهم أنهم خرجوا فرارا من بعض الأوباء= من الطاعون، أو من سقم كان يصيب الناس= حذرا من الموت، وهم ألوف، حتى إذا نزلوا بصعيد من البلاد قال لهم الله:"موتوا"، فماتوا جميعا. فعمد أهل تلك البلاد فحظروا عليهم حظيرة دون السباع، ثم تركوهم فيها، وذلك أنهم كثروا عن أن يغيبوا. فمرت بهم الأزمان والدهور، حتى صاروا عظاما نخرة، فمر بهم حزقيل بن بوزى، (4) فوقف عليهم، فتعجب لأمرهم ودخلته رحمة لهم، (5) فقيل له: أتحب أن يحييهم الله؟ فقال: نعم! فقيل له: نادهم فقل: (6) "أيتها العظام الرميم التي قد رمت وبليت، ليرجع كل عظم إلى صاحبه". فناداهم بذلك، فنظر إلى العظام تواثب يأخذ بعضها بعضا. ثم قيل له: قل:"أيها اللحم والعصب والجلد، اكس العظام بإذن ربك"، قال: فنظر إليها والعصب يأخذ العظام ثم اللحم والجلد والأشعار، حتى استووا خلقا ليست فيهم الأرواح. ثم دعا لهم بالحياة، فتغشاه من السماء شيء
__________
(1) في التاريخ: "يوفنا" بالفاء.
(2) في التاريخ: "بوذي" بالذال.
(3) الأثر: 5606- في تاريخ الطبري 1: 237، ثم 238 مختصرا، والدر المنثور: 1: 311.
(4) في التاريخ: "بوذى" بالذال.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "ودخله رحمة. . . "، وأثبت ما في تاريخ الطبري.
(6) في المخطوطة والمطبوعة: "نادهم فقال. . . "، والصواب من التاريخ.(5/272)
كربه حتى غشي عليه منه، (1) ثم أفاق والقوم جلوس يقولون:"سبحان الله، سبحان الله" قد أحياهم الله. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله"وهم ألوف" وهم مؤتلفون. (3)
* ذكر من قال ذلك:
5608- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال ابن زيد في قول الله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم"، قال: قرية كانت نزل بها الطاعون، فخرجت طائفة منهم وأقامت طائفة، فألح الطاعون بالطائفة التي أقامت، والتي خرجت لم يصبهم شيء. (4) ثم ارتفع، ثم نزل العام القابل، فخرجت طائفة أكثر من التي خرجت أولا فاستحر الطاعون بالطائفة التي أقامت. فلما كان العام الثالث، نزل فخرجوا بأجمعهم وتركوا ديارهم، فقال الله تعالى ذكره:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف"، ليست الفرقة أخرجتهم، كما يخرج للحرب والقتال، قلوبهم مؤتلفة، إنما خرجوا فرارا. فلما كانوا حيث ذهبوا يبتغون الحياة، قال لهم الله:"موتوا"، في المكان الذي ذهبوا إليه يبتغون فيه الحياة. فماتوا، ثم أحياهم الله،"إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون". قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، (5) فوقف
__________
(1) في المخطوطة: "فتغساه من السماء كربه" غير منقوطة. وفي المطبوعة: "فتغشاهم من السماء كدية"، وهذا كلام بلا معنى، وما أثبته هو نص الطبري في التاريخ. وكربه الأمر: غشيه واشتد عليه وأخذ بنفسه، فهو مكروب النفس.
(2) الأثر: 5607- في تاريخ الطبري 1: 238.
(3) يعني أنه جمع"إلف" (بكسر الهمزة وسكون اللام) . وقال ابن سيده في"ألوف": "وعندي أنه جمع آلف، كشاهد وشهود"، وانظر سائر كتب التفسير.
(4) في المطبوعة: "لم يصبها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(5) لاح البرق والسيف والعظم يلوح: تلألأ ولمح، وذلك لبياض العظام في ضوء الشمس.(5/273)
ينظر فقال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها؟ "، فأماته الله مائة عام. (1)
* * *
* ذكر الأخبار عمن قال: كان خروج هؤلاء القوم من ديارهم فرارا من الطاعون.
5609- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن الأشعث، عن الحسن في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال. خرجوا فرارا من الطاعون، فأماتهم قبل آجالهم، ثم أحياهم إلى آجالهم.
5610- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: 34"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: فروا من الطاعون، فقال لهم الله:"موتوا"! ثم أحياهم ليكملوا بقية آجالهم.
5611- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار في قول الله تعالى ذكره:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"، قال: وقع الطاعون في قريتهم، فخرج أناس وبقي أناس، فهلك الذين بقوا في القرية، وبقي الآخرون. ثم وقع الطاعون في قريتهم الثانية، فخرج أناس وبقي أناس، ومن خرج أكثر ممن بقي. فنجى الله الذين خرجوا، وهلك الذين بقوا. فلما كانت الثالثة خرجوا بأجمعهم إلا قليلا فأماتهم الله ودوابهم، ثم أحياهم فرجعوا إلى بلادهم [وقد أنكروا قريتهم، ومن تركوا] . وكثروا بها، حتى يقول بعضهم لبعض: من أنتم؟ (2)
__________
(1) الأثر: 5608- أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 311 مختصرا. وسيأتي مختصرا برقم: 5905.
(2) في المخطوطة: "فرجعوا إلى بلادهم، وقد قريتهم ومن تركوا، وكثروا بها، يقول بعضهم لبعض"، بياض بين الكلام، أما المطبوعة فقد أسقطت هذا البياض، فجعلت الكلام: "فرجعوا إلى بلادهم وكروا بها، حتى يقول بعضهم لبعض"، بزيادة"حتى"، فآثرت أن استظهر معنى الكلام، فأثبت ما في المخطوطة، وظننت أن مكان البياض ما أثبت. هذا ولم أجد هذا الأثر في مكان آخر.(5/274)
5612- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح قال: سمعت عمرو بن دينار يقول: وقع الطاعون في قريتهم= ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم.
5613- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف" الآية، مقتهم الله على فرارهم من الموت، فأماتهم الله عقوبة، ثم بعثهم إلى بقية آجالهم ليستوفوها، ولو كانت آجال القوم جاءت ما بعثوا بعد موتهم.
5614- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن هلال بن يساف في قوله تعالى:"ألم تر إلى الذين خرجوا" الآية، قال: هؤلاء القوم من بني إسرائيل، (1) كان إذا وقع فيهم الطاعون خرج أغنياؤهم وأشرافهم، وأقام فقراؤهم وسفلتهم. قال: فاستحر الموت على المقيمين منهم، ونجا من خرج منهم. فقال الذين خرجوا: لو أقمنا كما أقام هؤلاء، لهلكنا كما هلكوا! وقال المقيمون: لو ظعنا كما ظعن هؤلاء، لنجونا كما نجوا! فظعنوا جميعا في عام واحد، أغنياؤهم وأشرافهم وفقراؤهم وسفلتهم. فأرسل عليهم الموت فصاروا عظاما تبرق. قال: فجاءهم أهل القرى فجمعوهم في مكان واحد، فمر بهم نبي فقال: يا رب لو شئت أحييت هؤلاء فعمروا بلادك وعبدوك! قال: أو أحب إليك أن أفعل؟ قال نعم! قال: فقل: كذا وكذا، فتكلم به، فنظر إلى العظام، وإن العظم ليخرج من عند العظم الذي ليس منه إلى العظم الذي هو منه. ثم تكلم بما أمر، فإذا العظام تكسى لحما. ثم أمر بأمر فتكلم به، فإذا هم قعود يسبحون ويكبرون. ثم قيل لهم: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ)
__________
(1) في المطبوعة: "كان هؤلاء القوم من بني إسرائيل، إذا وقع فيهم الطاعون" وفي المخطوطة: "كان هؤلاء قوما من بني إسرائيل، كان إذا وقع. . . "، وضرب الناسخ على ألف"قوما"، وجعلها"قوم"، فتبين لي أن"كان" زائدة من الناسخ، كما جاءت على الصواب في الدر المنثور 1: 311.(5/275)
5615- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن حماد بن عثمان، عن الحسن: أنه قال في الذين أماتهم الله ثم أحياهم قال: هم قوم فروا من الطاعون، فأماتهم الله عقوبة ومقتا، ثم أحياهم لآجالهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل قوله:"وهم ألوف" بالصواب، قول من قال:"عنى بالألوف كثرة العدد"= دون قول من قال:"عنى به الائتلاف"، بمعنى ائتلاف قلوبهم، وأنهم خرجوا من ديارهم من غير افتراق كان منهم ولا تباغض، ولكن فرارا: إما من الجهاد، وإما من الطاعون= لإجماع الحجة على أن ذلك تأويل الآية، ولا يعارض بالقول الشاذ ما استفاض به القول من الصحابة والتابعين.
* * *
وأولى الأقوال- في مبلغ عدد القوم الذين وصف الله خروجهم من ديارهم- بالصواب، قول من حد عددهم بزيادة عن عشرة آلاف، دون من حده بأربعة آلاف، وثلاثة آلاف، وثمانية آلاف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر عنهم أنهم كانوا ألوفا، وما دون العشرة آلاف لا يقال لهم:"ألوف". وإنما يقال"هم آلاف"، إذا كانوا ثلاثة آلاف فصاعدا إلى العشرة آلاف. وغير جائز أن يقال: هم خمسة ألوف، أو عشرة ألوف.
وإنما جمع قليله على"أفعال"، (2) ولم يجمع على"أفعل"= مثل سائر الجمع القليل الذي يكون ثاني مفرده ساكنا (3) للألف التي في أوله. وشأن العرب في كل
__________
(1) الأثر: 5615-"حماد بن عثمان"، وروى عن عبد العزيز الأعمى عن أنس. روى عنه سعيد بن أبي أيوب، وروى عن الحسن البصري قال ابن أبي حاتم: "سألت أبي عن حماد بن عثمان فقال: هو مجهول". ترجم له البخاري في الكبير 2 /1 /20، وابن أبي حاتم 1 /2 /144.
(2) في المخطوطة: "وإنما جمع قليله وكثيره على أفعال"، وزيادة"كثيره" خطأ، والصواب ما في المطبوعة.
(3) في المخطوطة: "وعلى سائر مثل الجمع القليل"، والصواب ما في المطبوعة.(5/276)
حرف كان أوله، ياء أو واوا أو ألفا، اختيار جمع قليله على أفعال، كما جمعوا"الوقت""أوقاتا" و"اليوم""أياما"، و"اليسر"و"أيسارا"، للواو والياء اللتين في أول ذلك. وقد يجمع ذلك أحيانا على"أفعل"، إلا أن الفصيح من كلامهم ما ذكرنا، ومنه قول الشاعر: (1)
كانوا ثلاثة آلف وكتيبة ... ألفين أعجم من بني الفدام (2)
* * *
وأما قوله:"حذر الموت"، فإنه يعني: أنهم خرجوا من حذر الموت، فرارا منه. (3) كما: -
5616- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
__________
(1) هو بكير، أصم بني الحارث بن عباد.
(2) النقائض: 645، وتاريخ الطبري 2: 155، والأغاني 20: 139، واللسان (ألف) وغيرها. وهذا البيت من أبيات له في يوم ذي قار، وهو اليوم الذي انتصفت فيه العرب من العجم، وهزمت كسرى أبرويز بن هرمز. وكانت وقعة ذي قار بعد يوم بدر بأشهر، فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبرها قال: "هذا يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا". وكانت بنو شيبان في هذا اليوم أهل جد وحد، فمدحهم الأعشى وبكير الأصم.
هذا وقد روى الطبري هنا"كانوا ثلاثة آلف"، ورواية المراجع جميعا:
"عربا ثلاثة آلف. . . "
وذلك أن كسرى عقد للنعمان بن زرعة على تغلب والنمر، وعقد لخالد بن يزيد البهراني على قضاعة وإياد، وعقد لإياس بن قبيصة على جميع العرب، ومعه كتيبتاه: الشهباء والدوسر، فكانت العرب ثلاثة آلف. وعقد أيضًا للهامرز التستري على ألف من الأساورة، وعقد الخنابزين على ألف، فكانت العجم ألفين. (الأغاني 20/134) ، فهذا تصحيح الرواية المجمع عليها وبيانها، وأول هذه الأبيات: إن كنت ساقية المدامة أهلها ... فاسقي على كرم بني همام
وأبا ربيعة كلها ومحلما ... سبقا بغاية أمجد الأيام
ضربوا بني الأحرار يوم لقوهم ... بالمشرفي على مقيل الهام
عربا ثلاثة آلف. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وعنى بقوله: "بني الفدام"، الفرس. وذلك أن المجوس كان مما يتدينون به أنهم إذا شرابا، شدوا على أفواههم خرقة كاللثام، فسميت هذه الطائفة منهم: بنو الفدام.
(3) انظر ما سلف 1: 354، 355 في تفسير: "حذر الموت" وإعرابها.(5/277)
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"حذر الموت"، فرارا من عدوهم، حتى ذاقوا الموت الذي فروا منه. فأمرهم فرجعوا، وأمرهم أن يقاتلوا في سبيل الله، وهم الذين قالوا لنبيهم: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [سورة البقرة: 246]
* * *
قال أبو جعفر: وإنما حث الله تعالى ذكره عباده بهذه الآية، على المواظبة على الجهاد في سبيله، (1) والصبر على قتال أعداء دينه. وشجعهم بإعلامه إياهم وتذكيره لهم، أن الإماتة والإحياء بيديه وإليه، دون خلقه= وأن الفرار من القتال والهرب من الجهاد ولقاء الأعداء، إلى التحصن في الحصون، والاختباء في المنازل والدور، غير منج أحدا من قضائه إذا حل بساحته، ولا دافع عنه أسباب منيته إذا نزل بعقوته، (2) كما لم ينفع الهاربين من الطاعون= الذين وصف الله تعالى ذكره صفتهم في قوله:"ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت"= فرارهم من أوطانهم، وانتقالهم من منازلهم إلى الموضع الذي أملوا بالمصير إليه السلامة، وبالموئل النجاة من المنية، حتى أتاهم أمر الله، فتركهم جميعا خمودا صرعى، وفي الأرض هلكى، ونجا مما حل بهم الذين باشروا كرب الوباء، وخالطوا بأنفسهم عظيم البلاء.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله لذو فضل ومن. على خلقه، بتبصيره إياهم سبيل الهدى، وتحذيره لهم طرق الردى، وغير ذلك من نعمه التي
__________
(1) في المطبوعة: "في سبيل الله" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "بعقوبته"، وهي في المخطوطة غير منقوطة. وعقوة الدار: ساحتها وما حولها قريبا منها. يقال: نزل بعقوته، ونزلت الخيل بعقوة العدو.(5/278)
ينعمها عليهم في دنياهم ودينهم، وأنفسهم وأموالهم- كما أحيى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت بعد إماتته إياهم، وجعلهم لخلقه مثلا وعظة يتعظون بهم، عبرة يعتبرون بهم، وليعلموا أن الأمور كلها بيده، فيستسلموا لقضائه، ويصرفوا الرغبة كلها والرهبة إليه. (1)
ثم أخبر تعالى ذكره أن أكثر من ينعم عليه من عباده بنعمه الجليلة، ويمن عليه بمننه الجسيمة، يكفر به ويصرف الرغبة والرهبة إلى غيره، ويتخذ إلها من دونه، كفرانا منه لنعمه التي توجب أصغرها عليه من الشكر ما يفدحه، ومن الحمد ما يثقله، فقال تعالى ذكره:"ولكن أكثر الناس لا يشكرون"، يقول: لا يشكرون نعمتي التي أنعمتها عليهم، وفضلي الذي تفضلت به عليهم، بعبادتهم غيري، وصرفهم رغبتهم ورهبتهم إلى من دوني ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا، ولا يملك موتا ولا حياة ولا نشورا. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فيستسلمون. . . ويصرفون"، وفي المخطوطة: "فيستسلمون. . . ويصرفوا"
(2) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم، وفي المخطوطة بعده ما نصه:
"وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا".
ثم يبدأ التقسيم التالي بما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن"(5/279)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244)
القول في تأويل قوله: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"وقاتلوا"، أيها المؤمنون="في سبيل الله"، يعني: في دينه الذي هداكم له، (1) لا في طاعة الشيطان= أعداء دينكم، (2) الصادين عن سبيل ربكم، ولا تحتموا عن قتالهم عند لقائهم، ولا تجبنوا عن حربهم، (3) فإن بيدي حياتكم وموتكم. ولا يمنعن أحدكم من لقائهم وقتالهم حذر الموت وخوف المنية على نفسه بقتالهم، فيدعوه ذلك إلى التعريد عنهم والفرار منهم، (4) فتذلوا، ويأتيكم الموت الذي خفتموه في مأمنكم الذي وألتم إليه، (5) كما أتى الذين خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، الذين قصصت عليكم قصتهم، فلم ينجهم فرارهم منه من نزوله بهم حين جاءهم أمري، وحل بهم قضائي، ولا ضر المتخلفين وراءهم ما كانوا لم يحذروه، إذ دافعت عنهم مناياهم، وصرفتها عن حوبائهم، (6) فقاتلوا في سبيل الله من أمرتكم بقتاله من أعدائي وأعداء ديني، فإن من حيي منكم فأنا أحييه، (7) ومن قتل منكم فبقضائي كان قتله.
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير: "سبيل الله" 3: 583، 592، والمراجع هناك.
(2) "أعداء. . . " مفعول"قاتلوا"، والسياق: "قاتلوا أيها المؤمنون. . . أعداء دينكم".
(3) في المخطوطة"ولا تحموا عن قتاله عند لقائهم، ولا تحبوا عن حربهم" غير منقوطة، بإفراد ضمير"قتاله"، فغيرها مصححوا المطبوعة، إذ لم يحسنوا قراءتها فجعلوها: "ولا تجبنوا عن لقائهم، ولا تقعدوا عن حربهم" غيروا وبدلوا واسقطوا وفعلوا ما شاءوا!! . وقوله: "ولا تحتموا عن قتالهم" من قولهم: احتميت من كذا وتحاميته: إذا اتقيته وامتنعت منه. و"من" و"عن" في هذا الموضع سواء.
(4) في المطبوعة: "فيدعوه ذلك إلى التفريد"، وهو خطأ، وزاده خطأ بعض من علق على التفسير، بشرح هذا اللفظ المنكر. والتعريد: الفرار وسرعة الذهاب في الهزيمة. يقال: "عرد الرجل عن قوله"، إذا أحجم عنه ونكل وفر.
(5) وأل إلى المكان يئل، وؤولا ووئيلا ووألا: لجأ إليه طلب النجاة. والموئل: الملجأ.
(6) الحوباء: النفس، أو ورع القلب.
(7) في المطبوعة: "فأنا أحيحه"، وأثبت ما في المخطوطة.(5/280)
ثم قال تعالى ذكره لهم: واعلموا، أيها المؤمنون، أن ربكم"سميع" لقول من يقول من منافقيكم لمن قتل منكم في سبيلي: لو أطاعونا فجلسوا في منازلهم ما قتلوا="عليم" بما تجنه صدورهم من النفاق والكفر وقلة الشكر لنعمتي عليهم، (1) وآلائي لديهم في أنفسهم وأهليهم، ولغير ذلك من أمورهم وأمور عبادي.
يقول تعالى ذكره لعباده المؤمنين: فاشكروني أنتم بطاعتي فيما أمرتكم من جهاد عدوكم في سبيلي، وغير ذلك من أمري ونهيي، إذ كفر هؤلاء نعمي. واعلموا أن الله سميع لقولهم، وعليم بهم وبغيرهم وبما هم عليه مقيمون من الإيمان والكفر، والطاعة والمعصية، محيط بذلك كله، حتى أجازي كلا بعمله، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.
* * *
قال أبو جعفر: ولا وجه لقول من زعم أن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، أمر من الله الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف بالقتال، بعد ما أحياهم. لأن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، لا يخلو- إن كان الأمر على ما تأولوه- من أحد أمور ثلاثة:
= إما أن يكون عطفا على قوله:"فقال لهم الله موتوا"، وذلك من المحال أن يميتهم، ويأمرهم وهم موتى بالقتال في سبيله.
= أو يكون عطفا على قوله:"ثم أحياهم"، وذلك أيضا مما لا معنى له. لأن قوله:"وقاتلوا في سبيل الله"، أمر من الله بالقتال، وقوله:"ثم أحياهم"، خبر عن فعل قد مضى. وغير فصيح العطف بخبر مستقبل على خبر ماض، لو كانا جميعا خبرين، لاختلاف معنييهما. فكيف عطف الأمر على خبر ماض؟
= أو يكون معناه: ثم أحياهم وقال لهم: قاتلوا في سبيل الله، ثم أسقط"القول"،
__________
(1) في المطبوعة: "بما تخفيه صدورهم"، وأثبت ما في المخطوطة. وأجن الشيء: ستره وكتمه وأخفاه.(5/281)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
كما قال تعالى ذكره: (إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا) [سورة السجدة: 12] ، بمعنى يقولون: ربنا أبصرنا وسمعنا. وذلك أيضا إنما يجوز في الموضع الذي يدل ظاهر الكلام على حاجته إليه، ويفهم السامع أنه مراد به الكلام وإن لم يذكر. فأما في الأماكن التي لا دلالة على حاجة الكلام إليه، فلا وجه لدعوى مدع أنه مراد فيها.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: من هذا الذي ينفق في سبيل الله، فيعين مضعفا، (1) أو يقوي ذا فاقة أراد الجهاد في سبيل الله، ويعطي منهم مقترا؟ وذلك هو القرض الحسن الذي يقرض العبد ربه.
وإنما سماه الله تعالى ذكره"قرضا"، لأن معنى"القرض" إعطاء الرجل غيره ماله مملكا له، ليقضيه مثله إذا اقتضاه. فلما كان إعطاء من أعطى أهل الحاجة والفاقة في سبيل الله، إنما يعطيهم ما يعطيهم من ذلك ابتغاء ما وعده الله عليه من جزيل الثواب عنده يوم القيامة، سماه"قرضا"، إذ كان معنى"القرض" في لغة العرب ما وصفنا.
وإنما جعله تعالى ذكره"حسنا"، لأن المعطي يعطي ذلك عن ندب الله إياه وحثه له عليه، احتسابا منه. فهو لله طاعة، وللشياطين معصية. (2) وليس
__________
(1) أضعف الرجل فهو مضعف: ضعفت دابته، يعينه بإبداله دابة غيرها.
(2) في المطبوعة: "وللشياطين معصية"، وفي المخطوطة: "وللسلطان"، وهو سهو من الناسخ.(5/282)
ذلك لحاجة بالله إلى أحد من خلقه، ولكن ذلك كقول العرب:"عندي لك قرض صدق، وقرض سوء"، للأمر يأتي فيه للرجل مسرته أو مساءته، (1) كما قال الشاعر: (2)
كل امرئ سوف يجزى قرضه حسنا ... أو سيئا، ومدينا بالذي دانا (3)
* * *
فقرض المرء: ما سلف من صالح عمله أو سيئه. وهذه الآية نظيرة الآية التي قال الله فيها تعالى ذكره: (4) (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 261] .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:
5617- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"، قال: هذا في سبيل الله="فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، قال: بالواحد سبعمئة ضعف.
5618- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم قال: لما نزلت:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، جاء ابن الدحداح إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله، ألا أرى ربنا يستقرضنا؟ مما أعطانا لأنفسنا! وإن لي أرضين: إحداهما بالعالية، والأخرى بالسافلة، وإني قد جعلت خيرهما صدقة! قال: فكان النبي صلى الله
__________
(1) في المطبوعة"يأتي فيه الرجل. . . "، وفي المخطوطة: "يأتي فيه الرجل" غير منقوطة، ونقل أبو حيان في تفسيره 2: 248 هذا القول عن الأخفش، ونصه: "لأمر تأتي مسرته أو مساءته"، ولكني استظهرت قراءتها كما أثبت، فجميع ما مضى تحريف.
(2) هو أمية بن أبي الصلت.
(3) ديوانه: 63، واللسان (قرض) ، وروايته"أو مدينا مثل ما دنا"، وفي الديوان: "كالذي دانا".
(4) في المطبوعة: "قال الله فيها تعالى ذكره"، وأثبت ما في المخطوطة.(5/283)
عليه وسلم يقول:"كم من عذق مذلل لابن الدحداح في الجنة! (1) .
5619- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن رجلا على عهد النبي صلى الله عليه وسلم لما سمع بهذه الآية قال:"أنا أقرض الله"، فعمد إلى خير حائط له فتصدق به. قال، وقال قتادة: يستقرضكم ربكم كما تسمعون، وهو الولي الحميد ويستقرض عباده. (2)
5620- حدثنا محمد بن معاوية الأنماطي النيسابوري قال، حدثنا خلف بن خليفة، عن حميد الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن مسعود قال: لما نزلت:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا"، قال أبو الدحداح:
__________
(1) الحديث: 5618 - هذا حديث مرسل، فهو ضعيف الإسناد، لأن زيد بن أسلم تابعي، ولم يذكر من حدثه به من الصحابة.
والحديث ثابت في تفسير عبد الرزاق، ص: 31 (مخطوط مصور) ، عن معمر، به.
وهو عند السيوطي 1: 312، ولم ينسبه لغير عبد الرزاق والطبري.
وقد ذكر ابن كثير 1: 594 أن ابن مردويه روى نحو الحديث الآتي: 5620"من حديث عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن عمر، مرفوعا بنحوه".
وعبد الرحمن بن زيد بن أسلم: ضعيف جدا، كما بينا في: 185 فلا قيمة لهذا الرواية.
وسيأتي عقب هذا حديث آخر مرسل بمعناه، ثم: 5620، من حديث ابن مسعود. ونرجئ بيان أصل القصة حتى نتحدث عنها هناك.
قوله"ابن الدحداح" و"لابن الدحاح": هذا هو الثابت في تفسير عبد الرزاق، وهو الذي أثبتناه هنا. وفي المخطوطة -فيهما-"الدحداحة". وفي المطبعة"أبو الدحداح"، و"لأبي الدحداح". وما في تفسير عبد الرزاق أرجح، لأنه الأصل الذي روى عنه الطبري.
قوله: "إنما أعطانا لأنفسنا": هو الثابت عند عبد الرزاق، وهو أجود. وكان في المطبوعة"مما" بدل"إنما".
"العذق" (بفتح فسكون) : النخلة. أما"العذق" -بكسر العين: فهو عرجون النخلة. و"المذلل"- بفتح اللام الأولى مشددة: الذي قد دليت عناقيده، حتى يسهل اجتناء ثمرته، لدنوها من قاطفها.
(2) الحديث: 5619- وهذا مرسل أيضًا، فهو ضعيف الإسناد، وآخره موقوف من كلام قتادة. وذكره السيوطي 1: 312، ونسبه لعبد بن حميد، وابن جرير، فقط. ولم يذكر كلام قتادة في آخره.
في المخطوطة: "ويسعر عباده"، هكذا غير معجمة ولا مبينة، وتركت ما في المطبوعة على حاله، فهو في سياقة المعنى. والأثر في الدر المنثور 1: 321، ولكنه أسقط هذه الجملة الأخيرة عن قتادة.(5/284)
يا رسول الله، أو إن الله يريد منا القرض؟! قال: نعم يا أبا الدحداح! قال: يدك! قال: (1) .
فناوله يده، قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، حائطا فيه ستمئة نخلة. ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وأم الدحداح فيه في عيالها، فناداها: يا أم الدحداح! قالت: لبيك! قال: اخرجي! قد أقرضت ربي حائطا فيه ستمئة نخلة. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "قال: يدك قبل، فناوله"، وفي المخطوطة: "يدك قيل" ثم وضع ألفا على رأس الياء بعد القاف، كأن أراد أن يجعلها"قال" كما أثبتها ورجحتها، لنص مجمع الزوائد 9: 324: "قال: أرنا يدك. قال: فناوله يده".
(2) الحديث: 5620 - وهذا إسناد ضعيف جدا.
محمد بن معاوية بن يزيد الأنماطي - شيخ الطبري: ثقة مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد 3: 274- 275.
خلف بن خليفة بن صاعد الأشجعي: ثقة، تغير في آخر عمره، مات نحو سنة 181، وهو ابن 101 سنة، وقد فصلنا القول في ترجمته في المسند: 5885.
حميد الأعرج الكوفي القاص: هو حميد بن علي، على ما جزم به البخاري في +الكثير 1/ 2 / 351، والضعفاء، ص: 9. ويقال: "حميد بن عطاء" وهو الذي جزم به ابن أبي حاتم 1 / 2 / 226 - 227، وابن حبان في كتاب المجروحين، رقم: 265. وهو ضعيف جدا. قال البخاري: "منكر الحديث". وقال أبو حاتم: "ضعيف الحديث، منكر الحديث، قد لزم عبد الله بن الحارث عن ابن مسعود، ولا يعرف لعبد الله بن الحارث عن ابن مسعود شيء! ". وقال ابن حبان: "يروى عن عبد الله بن الحرث عن ابن مسعود- نسخة كأنها موضوعة. لا يحتج بخبره إذا انفرد".
عبد الله بن الحارث الزبيدي النجراني المكتب: ثقة. سبق في ترجمة الراوي عنه قول أبي حاتم أنه لا يعرف له شيء عن ابن مسعود. فالبلاء في هذه الرواية من حميد الأعرج.
وهذا الحديث رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن الحسن بن عرفة، عن خلف بن خليفة، بهذا الإسناد. على ما نقله عنه ابن كثير 1: 593- 594.
وذكره السيوطي 1: 312، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن سعد، والبزار، وابن المنذر، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، والطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 320، بنحوه. وقال: "رواه البزار، ورجاله ثقات". ثم ذكره مرة أخرى 9: 324 بلفظ آخر نحوه. وقال: " رواه أبو يعلى، والطبراني، ورجالهما ثقات. ورجال أبي يعلى رجال الصحيح".
هكذا قال الهيثمي في الموضعين. وليس عندي إسناد من الأسانيد التي نسبه إليها، ولا الكتب التي ذكرها السيوطي، إلا ابن سعد. ولم أجده فيه، لأن النسخة المطبوعة من طبقات ابن سعد تنقص كثيرا من الكتاب، كما هو معروف.
ولقصة أبي الدحداح أصل آخر صحيح. من حديث أنس، رواه أحمد في المسند: 12509 (3: 146 حلبي) ، بإسناد صحيح: "عن أنس: أن رجلا قال: يا رسول الله، إن لفلان نخلة، وأنا أقيم حائطي بها، فأمره أن يعطيني حتى أقيم حائطي بها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أعطها إياه بنخلة في الجنة، فأبى، فأتاه أبو الدحداح، فقال: بعني نخلتك بحائطي! ففعل، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم،. فقال: يا رسول الله، إني قد ابتعت النخلة بحائطي، قال: فاجعلها له، فقد أعطيتكها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كم من عذق راح، لأبي الدحداح، في الجنة. قالها مرارا، قال: فأتى امرأته فقال: يا أم الدحداح، اخرجي من الحائط، فإني قد بعته بنخلة في الجنة. فقالت: ربح البيع، أو كلمة تشبهها".
وحديث أنس هذا في مجمع الزوائد 9: 323-324. وقال: "رواه أحمد، والطبراني، ورجالهما رجال الصحيح". ووقع في مطبوعة مجمع الزوائد سقط نحو سطر أثناء الحديث، يصحح من هذا الموضع.
وله أصل ثان صحيح. فروى مسلم في صحيحه 1: 264، عن جابر بن سمرة، قال: "صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على ابن الدحداح، ثم أتى بفرس عري، فعقله رجل فركبه، فجعل يتوقص به، ونحن نتبعه نسعى خلفه، قال: فقال رجل من القوم: إن لنبي صلى الله عليه وسلم قال: كم من عذق معلق أو مدلى في الجنة لابن الدحداح". "أو قال شعبة: لأبي الدحداح".
و"أبو الدحداح": هو ثابت بن الدحداح، أو ابن الدحداحة. ويكنى"أبا الدحداح" أو"أبا الدحداحة"، مترجم في الإصابة 1: 199. ثم ترجمه في الكنى 7: 57 - 58، وذكر الخلاف في أنه واحد أو اثنان. ثم زعم أن الحق أن الثاني غير الأول! واستدل بحديث نقله من رواية أبي نعيم ضعيف، وأن في إسناده رجلا"واهى الحديث"!! فسقط الاستدلال به دون ريب.
الحائط: بستان النخيل إذا كان عليه جدار يحيط به، فإن لم يكن عليه الحائط فهو"ضاحية".(5/285)
وأما قوله:"فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، فإنه عدة من الله تعالى ذكره مقرضه ومنفق ماله في سبيل الله من إضعاف الجزاء له على قرضه ونفقته، ما لا حد له ولا نهاية، كما: -
5621- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة"، قال: هذا التضعيف لا يعلم أحد ما هو.
وقد: -
5622- وقد حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن صاحب له يذكر عن بعض العلماء قال: إن الله أعطاكم(5/286)
الدنيا قرضا، وسألكموها قرضا، فإن أعطيتموها طيبة بها أنفسكم، ضاعف لكم ما بين الحسنة إلى العشر إلى السبعمئة، إلى أكثر من ذلك. وإن أخذها منكم وأنتم كارهون، فصبرتم وأحسنتم، كانت لكم الصلاة والرحمة، وأوجب لكم الهدى. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وقد اختلفت القرأة في قراءة قوله: (فيضاعفه) بالألف ورفعه، بمعنى: الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له= نسق"يضاعف" على قوله:"يقرض".
* * *
وقرأه آخرون بذلك المعنى: (فيضعفه) ، غير أنهم قرءوا بتشديد"العين" وإسقاط"الألف".
* * *
وقرأه آخرون: (فيضاعفه له) بإثبات"الألف" في"يضاعف" ونصبه، بمعنى الاستفهام. فكأنهم تأولوا الكلام: من المقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له؟ فجعلوا قوله:"فيضاعفه" جوابا للاستفهام، وجعلوا:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" اسما. لأن"الذي" وصلته، بمنزلة"عمرو" و"زيد". فكأنهم وجهوا تأويل الكلام إلى قول القائل:"من أخوك فتكرمه"، لأن الأفصح في جواب الاستفهام بالفاء= إذا لم يكن قبله ما يعطف به عليه من فعل مستقبل= نصبه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه القراءات عندنا بالصواب، قراءة من قرأ: (فيضاعفه له) بإثبات"الألف". ورفع"يضاعف". لأن في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" معنى الجزاء. والجزاء إذا دخل في جوابه"الفاء"، لم يكن جوابه
__________
(1) يريد قول الله تعالى في [سورة البقرة: 156، 157] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}(5/287)
ب"الفاء" لا رفعا. فلذلك كان الرفع في"يضاعفه" أولى بالصواب عندنا من النصب. وإنما اخترنا"الألف" في"يضاعف" من حذفها وتشديد"العين"، لأن ذلك أفصح اللغتين وأكثرهما على ألسنة العرب.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنه الذي بيده قبض أرزاق العباد وبسطها، دون غيره ممن ادعى أهل الشرك به أنهم آلهة، واتخذوه ربا دونه يعبدونه. وذلك نظير الخبر الذي روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي: -
5623- حدثنا به محمد بن المثنى ومحمد بن بشار قالا حدثنا حجاج= وحدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي قال، حدثنا حجاج وأبو ربيعة قالا= حدثنا حماد بن سلمة، عن ثابت وحميد وقتادة، عن أنس قال: غلا السعر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال فقالوا: يا رسول الله، غلا السعر فأسعر لنا! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله الباسط القابض الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله ليس أحد يطلبني بمظلمة في نفس ومال". (1) .
* * *
__________
(1) الحديث: 5623 -عبد الملك بن محمد الرقاشي أبو قلابة- شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 4331.
الحجاج؛ هو ابن المنهال الأنماطي.
أبو ربيعة: هو زيد بن عوف القطعي، ولقبه"فهد". تكلموا فيه كثيرا لأحاديث رواها عن حماد بن سلمة. وأما البخاري فقال في الكبير 2/1/ 369: "سكتوا عته". وهو مترجم أيضًا في ابن أبي حاتم 1/2/ 570 - 571، ولسان الميزان.
ومهما يكن من شأنه، فإنه لم ينفرد بهذا الحديث، فلا يؤثر فيه ضعفه إن كان ضعيفا.
والحديث صحيح بهذا الإسناد، من جهة الحجاج بن المنهال، ومن الروايات الأخر التي سنذكر.
فرواه أحمد في المسند: 12618 (3: 156 حلبي) ، عن سريج ويونس بن محمد، عن حماد ابن سلمة، عن قتادة وثابت البناني، عن أنس.
ورواه أيضًا: 14102 (3: 286 حلي) ، عن عفان، عن حماد بن سلمة، عن قتادة وثابت وحميد، عن أنس.
ورواه الترمذي 2: 271- 272، وابن ماجه: 2200- كلاهما من طريق الحجاج بن النهال بهذا الإسناد. قال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".
ورواه أبو دواد: 3451، من طريق عفان، عن حماد، به.
وذكره السيوطي 1: 313، وزاد نسبته للبيهقي في السنن.(5/288)
قال أبو جعفر: يعني بذلك صلى الله عليه وسلم: أن الغلاء والرخص والسعة والضيق بيد الله دون غيره. فكذلك قوله تعالى ذكره:،"والله يقبض ويبسط"، يعني بقوله:"يقبض"، يقتر بقبضه الرزق عمن يشاء من خلقه= ويعني بقوله: و"يبسط" يوسع ببسطة الرزق على من يشاء منهم.
وإنما أراد تعالى ذكره بقيله ذلك، حث عباده المؤمنين- الذين قد بسط عليهم من فضله، فوسع عليهم من رزقه- على تقوية ذوي الإقتار منهم بماله، ومعونته بالإنفاق عليه وحمولته على النهوض لقتال عدوه من المشركين في سبيله، (1) فقال تعالى ذكره: من يقدم لنفسه ذخرا عندي بإعطائه ضعفاء المؤمنين وأهل الحاجة منهم ما يستعين به على القتال في سبيلي، فأضاعف له من ثوابي أضعافا كثيرة مما أعطاه وقواه به؟ فإني -أيها الموسع- (2) الذي قبضت الرزق عمن ندبتك إلى معونته وإعطائه، لأبتليه بالصبر على ما ابتليته به= والذي بسطت عليك لأمتحنك بعملك فيما بسطت عليك، فأنظر كيف طاعتك إياي فيه، فأجازي كل واحد منكما على قدر طاعتكما لي فيما ابتليتكما فيه وامتحنتكما به، من غنى وفاقة، وسعة وضيق، عند رجوعكما إلي في آخرتكما، ومصيركما إلي في معادكما.
* * *
__________
(1) الحمولة (بفتح الحاء) : كل ما يحمل عليه الناس من إبل وحمير وغيرها. والحمولة (بضم الحاء) الأحمال والأثقال. هذا وأخشى أن يكون صواب العبارة في الأصل"بالأنفاق عليه وعلىحملته" وقوله: "علي النهوض" متعلق بقوله: "ومعونته".
(2) في المطبوعة: "فإني أنا الموسع الذى قبضت"، وهو كلام لا يستقيم أبدا، والصواب ما في المخطوطة. و"الموسع": الغني الذى كثر ماله. من قولهم: "أوسع الرجل"، صار ذا سعة وغنى وكثر ماله. وقال الله تعالى: "علي الموسع قدره وعلي المقتر قدره". وانظر ما سلف في تفسير"الوسع" في هذا الجزء: 45. وسياق العبارة"فانى.... الذي قبضت".(5/289)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال من بلغنا قوله من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5624- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا" الآية، قال: علم أن فيمن يقاتل في سبيله من لا يجد قوة، وفيمن لا يقاتل في سبيله من يجد غنى، فندب هؤلاء فقال:"من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط"؟ قال: بسط عليك وأنت ثقيل عن الخروج لا تريده، (1) وقبض عن هذا وهو يطيب نفسا بالخروج ويخف له، فقوه مما في يدك، يكن لك في ذلك حظ.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإلى الله معادكم، أيها الناس، فاتقوا الله في أنفسكم أن تضيعوا فرائضه وتتعدوا حدوده، وأن يعمل من بسط عليه منكم من رزقه بغير ما أذن له بالعمل فيه ربه، وأن يحمل المقتر منكم- إذ قبض عن رزقه- إقتاره على معصيته، والتقدم على ما نهاه، (2) فيستوجب بذلك عند مصيره إلى خالقه، ما لا قبل له به من أليم عقابه. (3)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يبسط عليك" مضارعا، وهو لا يطابق قوله بعد: "وقبض". فجعلتها"بسط"، وإن شئت جعلت الأخرى: "ويقبض"، كما في الدر المنثور 1: 313، وأنا أرجع الأولى.
(2) في المطبوعة: "وأن يحل بالمقتر منكم فقبض عنه رزقه، إقتاره...."، وهو كلام فاسد وفي المخطوطة: "وأن يحمل المقتر منكم فقبض عنه رزقه. . . " وهو لا يستقيم أيضًا، ورجحت أن تكون الأولى" المقتر" كما في المخطوطة، وأن تكون الأخرى"إذ قبض"، أو"بقبضه عنه ... " وسياق الجملة: "وأن يحمل المقتر منكم ... إقتاره علي معصيته) .
(3) في المطبوعة: "فيستوجب بذلك منه بمصيره. . . وهو كلام شديد الخلل. وفي المخطوطة: "عنه مصيره"، وظاهر أن الهاء المرسلة من"عنه"، دال"عند".(5/290)
وكان قتادة يتأول قوله:"وإليه ترجعون"، وإلى التراب ترجعون. (1)
5625- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإليه ترجعون"، من التراب خلقهم، وإلى التراب يعودون. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "وإلى الثواب"، و"من الثواب ... " وهو ظاهر الفساد، ولكنه دليل علي شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب، كما رأيت من تصحيفه وتحريفه في المواضع السابقة من التعليق.
(2) في المخطوطة: "وإلى الثواب"، و"من الثواب ... " وهو ظاهر الفساد، ولكنه دليل علي شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب، كما رأيت من تصحيفه وتحريفه في المواضع السابقة من التعليق.(5/291)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ألم تر"، ألم تر، يا محمد، بقلبك، (1) فتعلم بخبري إياك، يا محمد="إلى الملأ"، يعني: إلى وجوه بني إسرائيل وأشرافهم ورؤسائهم="من بعد موسى"، يقول: من بعد ما قبض موسى فمات="إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". فذكر لي أن النبي الذي قال لهم ذلك شمويل (2) بن بالى (3) بن علقمة (4) بن يرحام (5) بن إليهو (6) بن تهو بن
__________
(1) انظر معنى"ألم تر"، و" الرؤية" فيما سلف: ص: 266، والمراجع في التعليق.
(2) ساذكر في التعليقات الآتية ما جاء في هذا النسب من الأسماء، على رسمها في كتاب القوم الذي بين أيدينا، من أخبار الأيام الأول. في الإصحاح السادس. و"شمويل" هناك هو"صموئيل".
(3) "بالي"، لم يرد له ذكر في نسب"شمويل" من كتاب القوم، بل هو عندهم"صموئيل بن"القانة".
(4) (ألقانة)
(5) (يروحام) . وفي المطبوعة: "برحام" خطأ، وهو في المخطوطة غير منقوط وأما في تاريخ الطبري 1: 242 فهو بالحاء المعجمة.
(6) (إيليئيل) . الظاهر أنه هو"إليهو".(5/291)
صوف (1) بن علقمة بن ماحث (2) بن عموصا (3) بن عزريا بن صفنية (4) بن علقمة بن أبي ياسف (5) بن قارون (6) بن يصهر (7) بن قاهث (8) بن لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
5626- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، (9) عن وهب بن منبه.
5627- وحدثني أيضا المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: هو شمويل، هو شمويل- ولم ينسبه كما نسبه ابن إسحاق. (10)
* * *
وقال السدي: بل اسمه شمعون. وقال: إنما سمي"شمعون"، لأن أمه دعت الله أن يرزقها غلاما، فاستجاب الله لها دعاءها، فرزقها، فولدت غلاما فسمته
__________
(1) (توح) ، وفي المطبوعة: "يهو صوق"، وهو خطأ، وفي المخطوطة"بهو صوف" غير منقوط، وكلاهما أسقط"بن" بين الكلمتين. والصواب من تاريخ الطبري. و" توح" مذكور في كتاب القوم، في كتاب صموئيل الأول، الإصحاح الأول برسم: "توحو".
(2) (محث) .
(3) (عما ساى) والنسب في كتاب القوم بعد ذلك: "عما ساى بن ألقانة بن يوثيل بن عز ريا بن صفنيا بن تحث بن أسير بن أبياساف"، وبعضه لم يذكر في النسب الذي رواه الطبري، وفيما رواه بعد ذلك تقديم وتاخير كما ترى.
(4) (صفنيا) ، وفي المطبوعة والمخطوطة: " صفية".
(5) (أبياساف) وفي المطبوعة: "أبى ياسق"، وفي المخطوطة" أبي ياسف".
(6) (قورح) .
(7) (يصهار) .
(8) (قهات) .
(9) في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي إسحق"، وهو خطأ، وهو إسناد دائر في الطبري عن"محمد بن إسحق" صاحب السيرة.
(10) في المخطوطة والمطبوعة: "كما نسبه إسحاق"، وهو خطأ ظاهر، وانظر التعليق السالف.(5/292)
"شمعون"، تقول: الله تعالى سمع دعائي.
5628- حدثني [بذلك] موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. (1)
* * *
فكأن"شمعون""فعلون" عند السدي، من قولها: إنَّه سمع الله دعاءها. (2)
* * *
5629- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم"، قال: شمؤل. (3)
* * *
وقال آخرون: بل الذي سأله قومه من بني إسرائيل أن يبعث لهم ملكا يقاتلون في سبيل الله، يوشع (4) بن نون بن أفراثيم (5) بن يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
5630- حدثني بذلك الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) ، قال: كان نبيهم الذي بعد موسى يوشع بن نون، قال: وهو أحد الرجلين اللذين أنعم الله عليهما. (6)
* * *
وأما قوله:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، فاختلف أهل التأويل في
__________
(1) ما بين القوسين زيادة يقتضيها السياق، كما في إسناد الأثر السالف،
(2) في المطبوعة: "من قولها سمع" أسقط" أنه" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " شمعون"، وهو خطأ لا شك فيه، والصواب ما في المخطوطة والدر المنثور 1: 315.
(4) (يشوع) .
(5) (أفرايم) ، وفي المطبوعة (أفراثيم) ، والصواب ما أثبت من التاريخ 1: 225، وفي المخطوطة غير منقوطة.
(6) يعني المذكورين في قوله تعالى في [سورة المائدة: 23] {قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا} ، الآية.(5/293)
السبب الذي من أجله سأل الملأ من بني إسرائيل نبيهم ذلك.
فقال بعضهم: كان سبب مسألتهم إياه، ما: -
5631- حدثنا به محمد بن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق، عن وهب بن منبه قال: خلف بعد موسى في بني إسرائيل يوشع بن نون، يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله. ثم خلف فيهم كالب بن يوفنا (1) يقيم فيهم التوراة وأمر الله حتى قبضه الله تعالى. ثم خلف فيهم حزقيل (2) بن بوزي، وهو ابن العجوز. ثم إن الله قبض حزقيل، وعظمت في بني إسرائيل الأحداث، ونسوا ما كان من عهد الله إليهم، حتى نصبوا الأوثان وعبدوها من دون الله. فبعث الله إليهم إلياس (3) بن نسى (4) بن فنحاص (5) بن العيزار (6) بن هارون بن عمران نبيا. وإنما كانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التوراة. وكان إلياس مع ملك من ملوك بني إسرائيل يقال له أحاب، (7) وكان يسمع منه ويصدقه. فكان إلياس يقيم له أمره. وكان سائر بني إسرائيل قد اتخذوا صنما يعبدونه من دون الله، فجعل إلياس يدعوهم إلى الله، وجعلوا لا يسمعون منه شيئا، إلا ما كان من ذلك الملك. والملوك متفرقة بالشام، كل ملك
__________
(1) (يفنة) وفي المطبوعة: " يوقنا"، والصواب من المخطوطة والتاريخ 1: 238.
(2) (حزقيال) في كتاب القوم.
(3) (إيليا) ، وهو"إيليا التشبى" مذكور في"الملوك الأول" إصحاح: 17.
(4) لم أجد نسب"إيليا"، وقوله: "نسى"لم أجده. وهو في المخطوطة"سى" غير منقوطة ولا واضحة، وفي تاريخ الطبري 1: 239"إلياس بن ياسين".
(5) (فينحاس) .
(6) (العازار) .
(7) (أخاب) "في الملوك الأول" الإصحاح: 16، 17. وهو في المطبوعة والتاريخ والمخطوطة: "أحاب"، مهمل الحاء.(5/294)
له ناحية منها يأكلها. (1) فقال ذلك الملك= الذي كان إلياس معه يقوم له أمره، ويراه على هدى من بين أصحابه = يوما: يا إلياس، والله ما أرى ما تدعو إليه الناس إلا باطلا! والله ما أرى فلانا وفلانا- وعدد ملوكا من ملوك بني إسرائيل (2) - قد عبدوا الأوثان من دون الله، إلا على مثل ما نحن عليه، يأكلون ويشربون ويتنعمون مملكين، (3) ما ينقص من دنياهم [أمرهم الذي تزعم أنه باطل] ؟ (4) وما نرى لنا عليهم من فضل. ويزعمون - (5) والله أعلم - أن إلياس استرجع وقام شعر رأسه وجلده، ثم رفضه وخرج عنه. ففعل ذلك الملك فعل أصحابه، عبد الأوثان، وصنع ما يصنعون. (6) ثم خلف من بعده فيهم اليسع، (7) فكان فيهم ما شاء الله أن يكون، ثم قبضه الله إليه. وخلفت فيهم الخلوف، وعظمت فيهم الخطايا، وعندهم التابوت يتوارثونه كابرا عن كابر، فيه السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون. فكانوا لا يلقاهم عدو فيقدمون التابوت ويزحفون به معهم، (8) إلا هزم الله ذلك العدو. (9) ثم خلف فيهم ملك يقال له إيلاء، (10) وكان الله قد بارك لهم في جبلهم من إيليا، لا يدخله عليهم عدو، ولا يحتاجون معه إلى غيره. وكان أحدهم -فيما يذكرون- يجمع التراب على الصخرة، ثم ينبذ فيه الحب، فيخرج الله له ما يأكل سنته هو وعياله. ويكون لأحدهم الزيتونة، فيعتصر منها ما يأكل هو وعياله سنته. فلما عظمت أحداثهم، وتركوا عهد الله إليهم، نزل بهم عدو فخرجوا إليه، وأخرجوا معهم التابوت كما كانوا يخرجونه، ثم زحفوا به، فقوتلوا حتى استلب من بين أيديهم. فأتى ملكهم إيلاء فأخبر أن التابوت قد أخذ واستلب، فمالت عنقه، فمات كمدا عليه. فمرج أمرهم عليهم، (11) ووطئهم عدوهم، حتى أصيب من أبنائهم ونسائهم. (12) وفيهم نبي لهم قد كان الله بعثه إليهم، فكانوا لا يقبلون منه شيئا، يقال له"شمويل"، (13) وهو الذي ذكر الله لنبيه محمد:"ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله" إلى قوله:"وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، يقول الله:"فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم"، إلى قوله:"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين".
= قال ابن إسحاق: فكان من حديثهم فيما حدثني به بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه: أنه لما نزل بهم البلاء ووطئت بلادهم، كلموا نبيهم شمويل بن بالي فقالوا:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". وإنما كان قوام بني إسرائيل الاجتماع على الملوك، وطاعة الملوك أنبياءهم. وكان الملك هو يسير بالجموع، والنبي يقوم له أمره ويأتيه بالخبر من ربه. فإذا فعلوا ذلك صلح أمرهم، فإذا عتت ملوكهم وتركوا أمر أنبيائهم فسد أمرهم. فكانت الملوك إذا تابعتها الجماعة على الضلالة تركوا أمر
__________
(1) (يأكلها) أي يغلب عليها، ويصير له ما لها وخراجها. وفي حديث عمرو بن عنبسة: (ومأكول حمير من آكلها، الماكول: الرعية -والآكلون: الملوك. وهم يسمون سادة الأحياء الذين يأخذون المرباع وغيره" الآكال"، وفي الحديث: "أمرت بقرية تأكل القرى"، هي المدنية، أي يغلب أهلها بالإسلام على غيرها من القرى.
(2) في المطبوعة: "يعدد ملوكا. . " وأثبت ما في المخطوطة، وفي تاريخ الطبري: "يعد".
(3) في المطبوعة: "مالكين"، وفي المخطوطة: "ملكين"، وأثبت ما في تاريخ الطبري.
(4) الزيادة التي بين القوسين من تاريخ الطبري، ولا يستقيم الكلام إلا بها.
(5) في المطبوعة: "ويزعمون" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(6) إلى هذا الموضع رواه الطبري بإسناده هذا في تاريخه1: 239 / ثم الذي يليه في 1 / 240 فصلت بينهما روايات أخرى.
(7) (أليشع) في كتاب القوم.
(8) في المطبوعة والمخطوطة: "وكانوا. . . "، وأثبت ما في التاريخ، فهو أجود.
(9) بعد هذا في التاريخ ما نصه: "والسكنية - فيما ذكر ابن إسحق، عن وهب بن منبه، من بعض أهل إسرائيل -رأس هرة ميتة، فإذا صرخت في التابوت بصراخ هرة، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
(10) (عالي) في كتاب القوم وفي تاريخ الطبري"إيلاف". والمرجح أن الذي في المطبوعة والمخطوطة هو الصواب، لقربه من لفظ"عالي" وإن كان الطبري قد ذكر في تاريخه 1: 243"عيلى"،. وعالي، من عظماء كهنة بني إسرائيل وقضى لهم أربعين سنة. وخبر موت عالي عند استلاب التابوت، مذكور في كتاب القوم"صموئيل الأول" الإصحاح الرابع.
(11) في تاريخ الطبري: "فمرج أمرهم بينهم". ومرج الأمر: اختلط والتبس واضطرب في الفتنة.
(12) إلى هذا الموضع، انتهى ما رواه الطبري في التاريخ 1: 240-241.
(13) (صموئيل) في كتاب القوم.(5/295)
الرسل، ففريقا يكذبون فلا يقبلون منه شيئا، وفريقا يقتلون. فلم يزل ذلك البلاء بهم حتى قالوا له:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله". فقال لهم: إنه ليس عندكم وفاء ولا صدق ولا رغبة في الجهاد. فقالوا: إنما كنا نهاب الجهاد ونزهد فيه، أنا كنا ممنوعين في بلادنا لا يطؤها أحد، فلا يظهر علينا فيها عدو، فأما إذ بلغ ذلك، فإنه لا بد من الجهاد، فنطيع ربنا في جهاد عدونا، ونمنع أبناءها ونساءنا وذرارينا.
5632- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل" إلى:"والله عليم بالظالمين"، قال الربيع: ذكر لنا -والله أعلم- أن موسى لما حضرته الوفاة، استخلف فتاه يوشع بن نون على بني إسرائيل، وأن يوشع بن نون سار فيهم بكتاب الله التوراة وسنة نبيه موسى. ثم إن وشع بن نون توفي، واستخلف فيهم آخر، فسار فيهم بكتاب الله وسنة نبيه موسى صلى الله عليه وسلم. ثم استخلف آخر فسار فيهم بسيرة صاحبيه. ثم استخلف آخر فعرفوا وأنكروا. ثم استخلف آخر، فأنكروا عامة أمره. ثم استخلف آخر فأنكروا أمره كله. ثم إن بني إسرائيل أتوا نبيا من أنبيائهم حين أوذوا في أنفسهم وأموالهم، (1) فقالوا له: سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي:"هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا"، إلى قوله:"والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم".
5633- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال قال ابن عباس: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "في نفوسهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) استخرج (بالبناء للمجهول) : حمل على الخروج من بلاده. وهذا لفظ لم يذكره أصحاب المعاجم، وهو عربية معرقة.(5/297)
5634- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا"، قال: هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان.
* * *
وقال آخرون: كان سبب مسألتهم نبيهم ذلك، ما: -
5635- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، قال: كانت بنو إسرائيل يقاتلون العمالقة، وكان ملك العمالقة جالوت، (1) وأنهم ظهروا على بني إسرائيل فضربوا عليهم الجزية وأخذوا توراتهم. وكانت بنو إسرائيل يسألون الله أن يبعث لهم نبيا يقاتلون معه. وكان سبط النبوة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلا امرأة حبلى، فأخذوها فحبسوها في بيت، رهبة أن تلد جارية فتبدلها بغلام، لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها. فجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاما، فولدت غلاما فسمته شمعون. (2) فكبر الغلام، فأرسلته يتعلم التوراة في بيت المقدس، (3) وكفله شيخ من علمائهم وتبناه. فلما بلغ الغلام أن يبعثه الله نبيا، أتاه جبريل والغلام نائم إلى جنب الشيخ= وكان لا يتمن عليه أحدا غيره= (4) فدعاه بلحن الشيخ:"يا شماول! "، (5) فقام
__________
(1) (جليات) في كتاب القوم.
(2) في تاريخ الطبري بعد قوله شمعون: "تقول": الله سمع دعائي". وانظر الأثر السالف رقم: 5628 وما قبله وما بعده.
(3) في المطبوعة: "فأرسلته يتعلم"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(4) في المطبوعة: "لا يأتمن"، وفي تاريخ الطبري مطبوعة مصر: "لايئتمن" في الأوربية والمخطوطة: "لا يتمن". وأمنه وأمنه وائتمنه واتمنه (بتشديد التاء) سواء، وانظر تعليق صاحب اللسان على قول من قال إن الأخيرة نادرة.
(5) اللحن: اللغة واللهجة. وفي التاريخ: "شمويل"، وظاهر هذا الخبر يدل على أن"شمعون" هو"شمويل" وأنهما لغتان بمعنى واحد. وانظر الآثار السالفة 5626 -5629، والتعليقات عليها.(5/298)
الغلام فزعا إلى الشيخ، فقال: يا أبتاه، دعوتني؟ فكره الشيخ أن يقول:"لا" فيفزع الغلام، فقال: يا بني ارجع فنم! فرجع فنام. ثم دعاه الثانية، فأتاه الغلام أيضا فقال: دعوتني؟ فقال: ارجع فنم، فإن دعوتك الثالثة فلا تجبني! فلما كانت الثالثة، ظهر له جبريل فقال: اذهب إلى قومك فبلغهم رسالة ربك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيا. فلما أتاهم كذبوه وقالوا: استعجلت بالنبوة ولم تئن لك! (1) وقالوا: إن كنت صادقا فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله، آية من نبوتك! فقال لهم شمعون: عسى إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وغير جائز في قول الله تعالى ذكره:"نقاتل في سبيل الله" إذا قرئ"بالنون" غير الجزم، على معنى المجازاة وشرط الأمر. فإن ظن ظان أن الرفع فيه جائز وقد قرئ بالنون، بمعنى: الذي نقاتل به في سبيل الله، (3) فإن ذلك غير جائز. لأن العرب لا تضمر حرفين. (4) ولكن لو كان قرئ ذلك"بالياء" لجاز رفعه، لأنه يكون لو قرئ كذلك صلة ل"الملك"، فيصير تأويل الكلام حينئذ: ابعث لنا الذي يقاتل في سبيل الله، كما قال تعالى ذكره: (وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ) [سورة البقرة: 129] ، لأن قوله" يتلو" من صلة الرسول. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة"ولم تنل لك" وهو تصحيف. وفي تاريخ الطبري: "ولم تبالك"، من المبالاة، وهي ليست بشيء. وفي الدر المنثور: "ولم يأن لك"، وفي المخطوطة: "ولم تنل لك" وظاهر أنها"تئن". من"آن يئين أينا": أي حان. مثل"أني لك يأني"، بمعناه، أي لم تبلغ بعد أوان أن تكون نبيا.
(2) الأثر: 5635- في تاريخ الطبري 1: 242، والدر المنثور 1: 315، وفي المطبوعة ختم الأثر بقوله: "والله أعلم"، وهي زيادة من ناسخ لا معنى لها هنا، وليست في المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: " الذي نقاتل" بحذف"به"، وهو خطأ يدل عليه السياق، وما جاء في معاني القرآن للفراء 1: 157.
(4) يعني"الذي" و"به".
(5) انظر معاني القرآن للفراء 1: 157- 162، فهو قد استوعب القول في هذه القراءة، وفي هذا الباب من العربية. و"الصلة": التابع، كالنعت والحال، ويعني به نعت النكرة، هنا.(5/299)
القول في تأويل قوله: {قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال النبي الذي سألوه أن يبعث لهم ملكا يقاتلوا في سبيل الله:"هل عسيتم"، هل، تعدون (1) "إن كتب"، يعني: إن فرض عليكم القتال (2) ="ألا تقاتلوا"، يعني: أن لا تفوا بما تعدون الله من أنفسكم، من الجهاد في سبيله، فإنكم أهل نكث وغدر وقلة وفاء بما تعدون؟ ="قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله"، يعني: قال الملأ من بني إسرائيل لنبيهم ذلك: وأي شيء يمنعنا أن نقاتل في سبيل الله عدونا وعدو الله="وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، بالقهر والغلبة؟
* * *
فإن قال لنا قائل: وما وجه دخول"أن" في قوله:"وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله"، وحذفه من قوله: (وَمَا لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ) ؟ [سورة الحديد: 8]
قيل: هما لغتان فصيحتان للعرب: تحذف"أن" مرة مع قولها: (3) "ما لك"، فتقول:"ما لك لا تفعل كذا"، بمعنى: ما لك غير فاعله، كما قال الشاعر: (4)
* ما لك ترغين ولا ترغو الخلف * ...
__________
(1) انظر هذا التفسير في مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 77.
(2) انظر معنى" كتب" فيما سلف 3: 357، 364- 365، 409/ 4: 297.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "مع قولنا"، والسياق الآتي يقتضي ما أثبت.
(4) لم أعرف قائله، وإن كنت أذكر أنى قرأته مع أبيات أخر من الرجز. وهو في معاني القرآن للفراء 1: 163، واللسان (خلف) . والخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) الناقة الحامل، وجمعها خلف، وهو نادر، وهذا البيت شاهده، وإنما الجمع السائر أن يقال للنوق الحوامل"مخاض"، كقولهم: "امرأة، ونسوه"، وهذا الراجز يقول لناقته: ما زغاؤك، والحوامل لا ترغو؟ يعني أنها إنما ترغو حنينا إلى بلاده وبلادها. حيث فارق من كان يحب، كما قال الشماطيط الغطفاني لناقته: أرار الله مخك في السلامى ... إلى من بالحنين تشوقينا!!
فإني مثل ما تجدين وجدي، ... ولكني أسر وتعلنينا!
وبي مثل الذي بك، غير أني ... أجل عن العقال، وتعقلينا!
هذا، وقد كان في المطبوعة"ملك ترعين ولا ترعوا الخلف"، وهو في المخطوطة على الصواب، ولكنه غير منقوط كعادة ناسخها في كثير من المواضع.(5/300)
وذلك هو الكلام الذي لا حاجة بالمتكلم به إلى الاستشهاد على صحته، لفشو ذلك على ألسن العرب.
= وتثبت"أن" فيه أخرى، توجيها لقولها:"ما لك" إلى معناه، إذ كان معناه: ما منعك؟ كما قال تعالى ذكره: (مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة الأعراف: 12] ، ثم قال في سورة أخرى في نظيره: (مَا لَكَ أَلا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ) [سورة الحجر: 32] ، فوضع"ما منعك" موضع"ما لك"، و"ما لك" موضع"ما منعك"، لاتفاق معنييهما، وإن اختلفت ألفاظهما، كما تفعل العرب ذلك في نظائره مما تتفق معانيه وتختلف ألفاظه، كما قال الشاعر: (1)
يقول إذا اقلولى عليها وأقردت: ... ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم? (2)
__________
(1) هو الفرزدق.
(2) ديوانه: 863، والنقائض: 753، ومعاني القرآن للفراء 1: 164، واللسان (قرد) (قلا) (هلل) يهجمو جريرا، ويعرض بالبعث، وقبله، يعرض بأن قوم جرير، وهم كليب بن يربوع، كان يغشون الأتن: وليس كليبي، إذا جن ليله ... إذا لم يجد ريح الأتان، بنائم
يقول- إذا اقلولي ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وفي المطبوعة: "تقول". وقد شرحه ابن بري على هذه الرواية شرحا فاسدا جدا في"قرد"، وشرحه ابن الأعرابي أيضًا في (قلا) على هذه الرواية، فكان أيضًا شرحا شديد الفساد. ورغم أنه أراد امرأة يزنى بها. والصواب أنه أراد ما ذكرت من غشيان إناث الحمير، لا إناث البشر!! وقوله: "اقلولي" أي علا على ظهرها مستوفزا قلقا لا يستقر، واختيار الفرزدق لهذا الحرف عجب من العجب في تصوير ما أراد. وأقرد الرجل وغيره: سكن وتماوت. يريد أن الأتان قد رضيت فأسمحت فسكت له. فلما بلغ ذلك منه ومنها قال: "ألا هل أخو عيش لذيذ بدائم"، يكشف عن شدة حبه وشغفه بذلك، وأنه يأسف ويتحسر علي أنه أمر ينقضي ولا يدوم. وقد زعموا أن"هل" هنا بمعنى الجحد أي ليس أخو عيش لذيذ بدائم. (اللسان: هلل) .(5/301)
فأدخل في"دائم""الباء" مع"هل"، وهي استفهام. وإنما تدخل في خبر" ما" التي في معنى الجحد، لتقارب معنى الاستفهام والجحد. (1)
* * *
وكان بعض أهل العربية يقول: (2) أدخلت" أن" في:"ألا تقاتلوا"، لأنه بمعنى قول القائل: ما لك في ألا تقاتل. ولو كان ذلك جائزا، لجاز أن يقال:"ما لك أن قمت= وما لك أنك قائم"، وذلك غير جائز. لأن المنع إنما يكون للمستقبل من الأفعال، كما يقال:"منعتك أن تقوم"، ولا يقال:"منعتك أن قمت"، فلذلك قيل في" مالك":"مالك ألا تقوم" ولم يقل:"ما لك أن قمت".
* * *
وقال آخرون منهم: (3) " أن" ها هنا زائدة بعد" ما لنا"، كما تزاد بعد" لما" و" لو"، (4) وهي تزاد في هذا المعنى كثيرا. قال: ومعناه: وما لنا لا نقاتل في سبيل الله؟ فأعمل" أن" وهي زائدة، وقال الفرزدق:
لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ... إذن للام ذوو أحسابها عمرا (5)
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 163- 164، وقد استوفى الكلام فيما فتحه الطبري.
(2) هو الكسائي، كما صرح به الفراء في معاني القرآن 1: 165.
(3) هو أبو الحسن الأخفش، كما يتبين من تفسير أبي حيان والقرطبي والمغني.
(4) في المطبوعة: " زائدة بعد فلما ولما ولو"، وهو تخليط. وفي المخطوطة "بعد مليما. . . " مضطربة الكتبة، فالصواب عندي أن تكون: "مالنا"، ولما أخطأ الناسخ الكتابة والقراءة، حذف "كما تزاد"، وهذا هو صواب المعنى والحمد لله
(5) ديوانه: 283، وسيأتي في التفسير 9: 165، والخزانة 2: 87، والعيى (الخزانة) 2: 322 يهجو عمر بن هبيرة الفزاري وهو أحد الأمراء وعمال سليمان بن عبد الملك. وقومه. فزارة ابن ذبيان، من ولد غطفان بن سعد بن قيس عيلان بن مضر. وهو شعر جيد في بابه، وقبل البيت أبيات منها: يا قيس عيلان، إني كنت قلت لكم ... يا قيس عيلان: أن لا تسرعوا الضجرا
إني متى أهج قوما لا أدع لهم ... سمعا، إذ استمعوا صوتي، ولا بصرا
ثم قال بعد ذلك أبيات: لو لم تكن غطفان. . . . . . .
هذا مجمع من رأيت يذهب إلى إن"الذنوب"جمع"ذنب"، وهو عندي ليس بشيء، وإنما انحطوا في آثار الأخفش، حين استشهد بالبيت على إعمال"لا" الزائدة. وصواب البيت عندي (لا ذنوب لها) وليس في البيت شاهد عندئذ. والظاهر أن الأخفش أخطأ في الاستشهاد به. والذنوب (بفتح الذال) : الخط والنصب، وأصله الدلو الملأى. وهو بهذا المعنى في قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} ، أي حظا من العذاب. قال الفراء: " الذنوب الدلو العظيمة، ولكن العرب تذهب به إلى الحظ والنصيب". وقال الزمخشري: "ولهم ذنوب من كذا" أي نصيب، قال عمرو ابن شأس: وفي كل حي قد خبطت بنعمة ... فحق لشأس من نداك ذنوب
أقول: يقول الفرزدق: لو لم تكن غطفان خسيسة لاحظ لها من الشرف والحسب والمروءة -"إذن للام ذوو أحسابها عمرا". وبذلك يبرأ البيت من السخف ومن تكلف النحاة. هذا وانظر هجاء الفرزدق لعمر بن هبيرة في طبقات فحول الشعراء: 287- 288وقوله: فسد الزمان وبدلت أعلامه ... حتى أمية عن فزارة تنزع
يقول: تبدلت الدنيا، حتى صارت أمية تحتمي بفزارة وتصدر عن رأيها. يتعجب من ذلك لخسة فزارة عنده.(5/302)
والمعنى: لو لم تكن غطفان لها ذنوب=" ولا" زائدة فأعملها. (1)
= وأنكر ما قال هذا القائل من قوله الذي حكينا عنه، آخرون. وقالوا: غير جائز أن تجعل" أن" زائدة في الكلام وهو صحيح في المعنى وبالكلام إليه الحاجة قالوا: والمعنى: ما يمنعنا ألا نقاتل- فلا وجه لدعوى مدع أن" أن" زائدة، معنى مفهوم صحيح. قالوا: وأما قوله:
* لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها * ...
__________
(1) استشهد بهذا على إعمال الزائدة وهو"لا"، كما أعملت"أن" في الآية.(5/303)
= فإن" لا" غير زائدة في هذا الموضع، لأنه جحد، والجحد إذا جحد صار إثباتا. قالوا: فقوله:"لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها"، إثبات الذنوب لها، كما يقال:"ما أخوك ليس يقوم"، بمعنى: هو يقوم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"ما لنا ألا نقاتل": ما لنا ولأن لا نقاتل، ثم حذفت"الواو" فتركت، كما يقال في الكلام:"ما لك ولأن تذهب إلى فلان"، فألقي منها"الواو"، لأن"أن" حرف غير متمكن في الأسماء. وقالوا: نجيز أن يقال:"ما لك أن تقوم"، ولا نجيز:"ما لك القيام"، لأن القيام اسم صحيح و" أن" اسم غير صحيح. وقالوا: قد تقول العرب:"إياك أن تتكلم"، بمعنى: إياك وأن تتكلم.
* * *
وأنكر ذلك من قولهم آخرون وقالوا: لو جاز أن يقال ذلك على التأويل الذي تأوله قائل من حكينا قوله، لوجب أن يكون جائزا:"ضربتك بالجارية وأنت كفيل"، بمعنى: وأنت كفيل بالجارية= وأن تقول:"رأيتك إيانا وتريد"، بمعنى:"رأيتك وإيانا تريد". (1) لأن العرب تقول:"إياك بالباطل تنطق"، قالوا: فلو كانت"الواو" مضمرة في"أن"، لجاز جميع ما ذكرنا، ولكن ذلك غير جائز، لأن ما بعد"الواو" من الأفاعيل غير جائز له أن يقع على ما قبلها، (2) واستشهدوا على فساد قول من زعم أن"الواو" مضمرة مع" أن" بقول الشاعر:
فبح بالسرائر في أهلها ... إياك في غيرهم أن تبوحا (3)
__________
(1) في المطبوعة: "رأيتك أبانا ويزيد، بمعنى: رأيتك وأبانا يزيد"، وهو كلام ساقط هالك. والصواب من المخطوطة، وإن كان غير منقوط الحروف، ومن معاني القرآن للفراء 1: 165.
(2) "الأفاعيل" الأفعال. ووقوعها على ما قبلها، إما بالعمل فيه أو بالتعليق به.
(3) لم أعرف قائله، وهو في معاني القرآن للفراء 1: 165، والسرائر جمع سريرة، والسريرة: السر هنا.(5/304)
= وأنَّ " أن تبوحا"، لو كان فيها"واو" مضمرة، لم يجز تقديم"في غيرهم" عليها. (1)
* * *
وأما تأويل قوله تعالى:"وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"، فإنه يعني: وقد أخرج من غلب عليه من رجالنا ونسائنا من ديارهم وأولادهم، ومن سبي. وهذا الكلام ظاهره العموم وباطنه الخصوص، لأن الذين قالوا لنبيهم:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله"، كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنما كان أخرج من داره وولده من أسر وقهر منهم.
* * *
وأما قوله:"فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم"، يقول: فلما فرض عليهم قتال عدوهم والجهاد في سبيله="تولوا إلا قليلا منهم"، يقول: أدبروا مولين عن القتال، وضيعوا ما سألوه نبيهم من فرض الجهاد.
والقليل الذي استثناهم الله منهم، هم الذين عبروا النهر مع طالوت. وسنذكر سبب تولي من تولى منهم، وعبور من عبر منهم النهر بعد إن شاء الله، إذا أتينا عليه.
* * *
يقول الله تعالى ذكره:"والله عليم بالظالمين"، يعني: والله ذو علم بمن ظلم منهم نفسه، فأخلف الله ما وعده من نفسه، وخالف أمر ربه فيما سأله ابتداء أن يوجبه عليه.
* * *
وهذا من الله تعالى ذكره تقريع لليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، في تكذيبهم نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم، ومخالفتهم أمر ربهم. يقول الله تعالى ذكره لهم: إنكم، يا معشر اليهود، عصيتم الله وخالفتم أمره فيما سألتموه أن يفرضه عليكم ابتداء، من غير أن يبتدئكم ربكم بفرض ما عصيتموه
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " تقديم غيرهم" بإسقاط"في"، والصواب من معاني القرآن للفراء 1: 166، وقد استوفى الكلام في ذلك، وكأن ما هنا منقول عنه بنصه.(5/305)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
فيه، فأنتم بمعصيته - فيما ابتدأكم به من إلزام فرضه- أحرى.
* * *
وفي هذا الكلام متروك قد استغني بذكر ما ذكر عما ترك منه. وذلك أن معنى الكلام:"قالوا: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا"= فسأل نبيهم ربهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيل الله، فبعث لهم ملكا، وكتب عليهم القتال=" فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقال للملأ من بني إسرائيل نبيهم شمويل: إن الله قد أعطاكم ما سألتم، وبعث لكم طالوت ملكا. فلما قال لهم نبيهم شمويل ذلك، قالوا: أنى يكون لطالوت الملك علينا، وهو من سبط بنيامين بن يعقوب= وسبط بنيامين سبط لا ملك فيهم ولا نبوة= ونحن أحق بالملك منه، لأنا من سبط يهوذا بن يعقوب="ولم يؤت سعة من المال"، يعني: ولم يؤت طالوت كثيرا من المال، لأنه سقاء= وقيل: كان دباغا.
* * *
وكان سبب تمليك الله طالوت على بني إسرائيل، وقولهم ما قالوا لنبيهم شمويل:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"، ما: -
5636- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني محمد بن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: لما قال الملأ من بني إسرائيل لشمويل بن بالي ما قالوا له، سأل الله نبيهم شمويل أن يبعث(5/306)
لهم ملكا، فقال الله له: انظر القرن الذي فيه الدهن في بيتك، (1) فإذا دخل عليك رجل فنش الدهن الذي في القرن، (2) فهو ملك بني إسرائيل، فادهن رأسه منه وملكه عليهم، وأخبره بالذي جاءه- (3) فأقام ينتظر متى ذلك الرجل داخلا عليه. (4) وكان طالوت رجلا دباغا يعمل الأدم، (5) وكان من سبط بنيامين بن يعقوب. وكان سبط بنيامين سبطا لم يكن فيه نبوة ولا ملك. فخرج طالوت في طلب دابة له أضلته، (6) ومعه غلام له. فمرا ببيت النبي عليه السلام، فقال غلام طالوت لطالوت: لو دخلت بنا على هذا النبي فسألناه عن أمر دابتنا، فيرشدنا ويدعو لنا فيها بخير! فقال طالوت. ما بما قلت من بأس! فدخلا عليه، فبينما هما عنده يذكران له شأن دابتهما ويسألانه أن يدعو لهما فيها، إذ نش الدهن الذي في القرن، فقام إليه النبي عليه السلام فأخذه، ثم قال لطالوت: قرب رأسك! فقربه، فدهنه منه، ثم قال: أنت ملك بني إسرائيل الذي أمرني الله أن أملكك عليهم! = وكان اسم"طالوت" بالسريانية: شاول (7) بن قيس بن أبيال (8) بن ضرار (9) بن يحرب (10) بن أفيح بن آيس (11) بن بنيامين بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم= فجلس عنده، وقال الناس: ملك طالوت!! فأتت عظماء بني إسرائيل نبيهم وقالوا له: ما شأن طالوت يملك علينا، وليس في بيت النبوة المملكة؟ قد عرفت أن النبوة والملك في آل لاوي وآل يهوذا! فقال لهم:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".
5637- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل، عن عبد الكريم، عن عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: قالت بنو إسرائيل لأشمويل: (12) ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله! قال: قد كفاكم الله القتال! قالوا: إنا نتخوف من حولنا، فيكون لنا ملك نفزع إليه! فأوحى الله إلى أشمويل: أن ابعث لهم طالوت ملكا، وادهنه بدهن القدس. فضلت حمر لأبي طالوت، (13)
فأرسله وغلاما له يطلبانها، فجاءا إلى أشمويل يسألانه عنها، (14) فقال: إن الله قد بعثك ملكا على بني إسرائيل. قال: أنا؟ قال: نعم! قال: أو ما علمت أن سبطي أدنى أسباط بني إسرائيل؟ (15) قال: بلى. قال: أفما علمت أن قبيلتي أدنى قبائل سبطي؟! قال: بلى! قال: أما علمت أن بيتي أدنى بيوت قبيلتي؟ قال:
__________
(1) القرن: قرن الثور وغيره، وكأنه أراد هنا: القنينة التي يكون فيها الدهن والطيب، وكأنهم كانوا يتخذونها من قرون البقر وغيرها، وقد سموا المحجمة التي يحتجم بها"قرنا" ولم أجد هذا الحرف بهذا المعنى في كتب اللغة، ولكنه صحيح كما رأيت.
(2) نش الماء ينش نشا: ونشيشا: صوت عند الغليان.
(3) في المخطوطة"بالذي حاه" غير منقوطة، ولولا أن في المطبوعة، صواب أيضًا، لقلت إنها: "بالذي حباه الله"، يعني الملك.
(4) هكذا جاءت هذه الجملة في المطبوعة والمخطوطة والدر المنثور 1: 351. وأخشى أن تكون"متى" زائدة، أو تكون"مأتى ذلك الرجل 00".
(5) الأدم جمع أديم. وهو جمع عزيز، وقال سيبوله: هو اسم للجمع. قال التوزي: "الجلد أول ما يدبغ فهو أديم، فإذا رد في الدباغ مرة أخرى فهو اللديم".
(6) يقال: أضله الأمر: إذا ذهب عنه وفارقه فلم يقدر عليه. وهذا من عجيب العربية. وفي المخطوطة: "أطلته"، وهو خطأ، والصواب ما في المطبوعة والدر المنثور.
(7) في المخطوطة والمطبوعة: "شادل". والصواب من التاريخ 1: 247، والدر المنثور 1: 315، وهو كذلك في كتاب القوم.
(8) (أبيئيل) في كتاب القوم.
(9) (صرور) في كتاب القوم.
(10) (بكورة) في كتاب القوم، وفي التاريخ"بحرت"، وكأنها الصواب.
(11) لم أجد في كتاب القوم، وفي التاريخ (أيش) .
(12) في تاريخ الطبري 1: 244"لأشمويل"، وفيما سيأتي بعد"أشمويل" في سائر المواضع.
وكذلك في المخطوطة، أما المطبوعة، فكان فيما"لشمويل"، وفي سائر المواضع"شمويل" فأثبيت ما في المخطوطة والتاريخ.
(13) في المطبوعة: " وضلت"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(14) في المخطوطة والمطبوعة: "فجاؤوا. . . يسألونه عنها"، والصواب ما في التاريخ كما أثبته.
(15) في المخطوطة والمطبوعة: " وما علمت" وأثبت ما في التاريخ، وهو مقتضى السياق.(5/307)
بلى! قال: فبأية آية؟ قال: بآية أنك ترجع وقد وجد أبوك حمره، وإذا كنت بمكان كذا وكذا نزل عليك الوحي! فدهنه بدهن القدس. فقال لبني إسرائيل:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".
5638- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما كذبت بنو إسرائيل شمعون، (1) =وقالوا له: إن كنت صادقا، فابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله آية من نبوتك. قال لهم شمعون: عسى أن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا؟ "قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله" الآية= دعا الله، فأتي بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا، فقاسوا أنفسهم بها فلم يكونوا مثلها. وكان طالوت رجلا سقاء يسقي على حمار له، فضل حماره، فانطلق يطلبه في الطريق. فلما رأوه دعوه فقاسوه بها، فكان مثلها، فقال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا". قال القوم: ما كنت قط أكذب منك الساعة! ونحن من سبط المملكة، وليس هو من سبط المملكة، ولم يؤت سعة من المال فنتبعه لذلك! فقال النبي:"إن الله اصطفاه عليكم وزاد بسطة في العلم والجسم". (2)
5639- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة قال: كان طالوت سقاء يبيع الماء.
5640- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: بعث الله طالوت ملكا، وكان من سبط بنيامين، سبط لم يكن فيهم
__________
(1) انظر الأثر السالف: 5635، وما قبله في الاختلاف في اسم هذا النبي عليه السلام.
(2) الأثر: 5638- هو تتمة الأثر السالف: 5635، وهو في تاريخ الطبري بعلوله 1: 242- 243.(5/309)
مملكة ولا نبوة. وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط مملكة. وكان سبط النبوة سبط لاوي، إليه موسى = وسبط المملكة يهوذا، إليه داود وسليمان. فلما بعث من غير سبط النبوة والمملكة، أنكروا ذلك وعجبوا منه وقالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"؟ قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة! فقال الله تعالى ذكره:"إن الله اصطفاه عليكم".
5641- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ابعث لنا ملكا"، قال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا. قالوا:"أنى يكون له الملك علينا"؟ قال: وكان من سبط لم يكن فيهم ملك ولا نبوة، فقال:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".
5642- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة، وسبط خلافة، فلذلك قالوا:"أنى يكون له الملك علينا"؟ يقولون: ومن أين يكون له الملك علينا، وليس من سبط النبوة ولا سبط الخلافة"؟ قال:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم".
5643- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"أنى يكون له الملك علينا"، فذكر نحوه.
5644- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: لما قالت بنو إسرائيل لنبيهم: سل ربك أن يكتب علينا القتال! فقال لهم ذلك النبي:"هل عسيتم إن كتب عليكم القتال"؟ الآية، قال: فبعث الله طالوت ملكا. قال: وكان في بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط مملكة، ولم يكن طالوت من سبط النبوة ولا من سبط المملكة. فلما بعث لهم(5/310)
ملكا، أنكروا ذلك وعجبوا وقالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"؟ قالوا: وكيف يكون له الملك علينا وليس من سبط النبوة ولا من سبط المملكة؟ فقال:"إن الله اصطفاه عليكم" الآية.
5645- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: أما ذكر طالوت إذ قالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال"؟ فإنهم لم يقولوا ذلك إلا أنه كان في بني إسرائيل سبطان: كان في أحدهما النبوة، وكان في الآخر الملك، فلا يبعث إلا من كان من سبط النبوة، ولا يملك على الأرض أحد إلا من كان من سبط الملك. وأنه ابتعث طالوت حين ابتعثه وليس من أحد السبطين، واختاره عليهم، وزاده بسطة في العلم والجسم. ومن أجل ذلك قالوا:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، وليس من واحد من السبطين؟ قال: ف"إن الله اصطفاه عليكم" إلى:"والله واسع عليم".
5646- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس قوله:"ألم تر إلى الملإ من بني إسرائيل من بعد موسى" الآية، هذا حين رفعت التوراة واستخرج أهل الإيمان، وكانت الجبابرة قد أخرجتهم من ديارهم وأبنائهم ="فلما كتب عليهم القتال"، وذلك حين أتاهم التابوت. قال: وكان من بني إسرائيل سبطان: سبط نبوة وسبط خلافة، فلا تكون الخلافة إلا في سبط الخلافة، ولا تكون النبوة إلا في سبط النبوة، = فقال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، وليس من أحد السبطين: لا من سبط النبوة، ولا سبط الخلافة؟ "قال إن الله اصطفاه عليكم"، الآية. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 5646- هو تتمة الأثر السالف: 5633.(5/311)
وقد قيل: إن معنى"الملك" في هذا الموضع: الإمرة على الجيش.
* ذكر من قال ذلك:
5647- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، قال: كان أمير الجيش.
5648- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بمثله= إلا أنه قال: كان أميرا على الجيش.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"أنى"، ومعنى"الملك"، فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إن الله اصطفاه عليكم"، قال نبيهم شمويل لهم:"إن الله اصطفاه عليكم"، يعني: اختاره عليكم، كما: -
5649- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"اصطفاه عليكم"، اختاره. (2)
5650- حدثني المثنى قال حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إن الله اصطفاه عليكم"، قال: اختاره عليكم.
__________
(1) انظر تفسير"أنى" فيما سلف 4: 398- 416، وتفسير معنى"الملك" فيما سلف 1: 148- 150، ثم 2: 488.
(2) انظر تفسير"الاصطفاء" فيما سلف 3: 91.(5/312)
5651- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إن الله اصطفاه عليكم"، اختاره.
* * *
وأما قوله:"وزاده بسطة في العلم والجسم"، فإنه يعني بذلك أن الله بسط له في العلم والجسم، وآتاه من العلم فضلا على ما أتى غيره من الذين خوطبوا بهذا الخطاب. وذلك أنه ذكر أنه أتاه وحي من الله، وأما"في الجسم"، فإنه أوتي من الزيادة في طوله عليهم ما لم يؤته غيره منهم. كما: -
5652- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه قال: لما قالت بنو إسرائيل:" أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم". قال: واجتمع بنو إسرائيل فكان طالوت فوقهم من منكبيه فصاعدا.
* * *
وقال السدي: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعصا تكون مقدارا على طول الرجل الذي يبعث فيهم ملكا، فقال: إن صاحبكم يكون طوله طول هذه العصا. فقاسوا أنفسهم بها، فلم يكونوا مثلها. فقاسوا طالوت بها فكان مثلها.
5653- حدثني بذلك موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي. (1)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده" مع اصطفائه إياه"بسطة في العلم والجسم". يعني بذلك: بسط له مع ذلك في العلم والجسم.
* ذكر من قال ذلك:
5654- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم"، بعد هذا.
* * *
__________
(1) الأثر: 5653- هو بعض الأثر السالف: 5638.(5/313)
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الملك لله وبيده دون غيره يؤتيه="يؤتيه"، يقول: يؤتي ذلك من يشاء، فيضعه عنده ويخصه به، ويمنعه من أحب من خلقه. (1) يقول: فلا تستنكروا، يا معشر الملإ من بني إسرائيل، أن يبعث الله طالوت ملكا عليكم، وإن لم يكن من أهل بيت المملكة، فإن الملك ليس بميراث عن الآباء والأسلاف، ولكنه بيد الله يعطيه من يشاء من خلقه، فلا تتخيروا على الله.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5655- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه:"والله يؤتي ملكه من يشاء"، الملك بيد الله يضعه حيث شاء، ليس لكم أن تختاروا فيه.
5656- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد: ملكه سلطانه.
5657- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والله يؤتي ملكه من يشاء"، سلطانه.
* * *
وأما قوله:"والله واسع عليم"، فإنه يعني بذلك"والله واسع" بفضله فينعم به على من أحب، ويريد به من يشاء= (2) "عليم" بمن هو أهل لملكه الذي
__________
(1) في المطبوعة: "ويمنحه من أحب ... "، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "فينعم له، والصواب ما في المطبوعة: وفي المطبوعة: "ويريد به من يشاء"، وفي المخطوطة: " ويريد فيه ... " غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت.(5/314)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
يؤتيه، وفضله الذي يعطيه، فيعطيه ذلك لعلمه به، وبأنه لما أعطاه أهل: إما للإصلاح به، وإما لأن ينتفع هو به. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ}
قال أبو جعفر: وهذا الخبر من الله تعالى ذكره عن نبيه الذي أخبر عنه به، دليل على أن الملأ من بني إسرائيل الذين قيل لهم هذا القول، لم يقروا ببعثة الله طالوت عليهم ملكا إذ أخبرهم نبيهم بذلك، وعرفهم فضيلته التي فضله الله بها، ولكنهم سألوه الدلالة على صدق ما قال لهم من ذلك وأخبرهم به. فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا:"والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم"، فقالوا له: ما آية ذلكإن كنت من الصادقين؟ (2) ="قال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت". وهذه القصة = (3) وإن كانت خبرا من الله تعالى ذكره عن الملإ من بني إسرائيل ونبيهم، وما كان من ابتدائهم نبيهم بما ابتدءوا به من مسألته أن يسأل الله لهم أن يبعث لهم ملكا يقاتلون معه في سبيله، ونبأً عما كان منهم من تكذيبهم نبيهم بعد علمهم بنبوته، (4) ثم إخلافهم الموعد الذي وعدوا الله ووعدوا رسوله، من
__________
(1) في المخطوطة: "وإما لا نه" وبينهما بياض على قدر كلمة، ولم أستطع أن أجد كلمة في البياض، وتركت ما في المطبوعة على حاله، وإن كنت لا أرضاه كل الرضى.
(2) في المطبوعة: "فقالوا له: ائت بآية على ذلك ... "، وفي المخطوطة: " مما أتى به ذلك" وقد ضرب على الباء من"أتى". واستظهرت قراءتها كما أثبتها، لقوله تعالى بعد: " إن آية ملكه".
(3) في المطبوعة: " هذه القصة" بإسقاط الواو، وإسقاطها مخل بالكلام.
(4) في المطبوعة: " بناء عما كان منهم من تكذيبهم"، وهو غث من الكلام. وفي المخطوطة: "بنا عما كان. . . " غير منقوطة، والصواب ما أثبت مع زيادة"الواو" عطفا على قوله: "وإن كانت خبرا. . . ".(5/315)
الجهاد في سبيل الله، بالتخلف عنه حين استنهضوا لحرب من استنهضوا لحربه، وفتح الله على القليل من الفئة، مع تخذيل الكثير منهم عن ملكهم وقعودهم عن الجهاد معه= (1) فإنه تأديب لمن كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذراريهم وأبنائهم يهود قريظة والنضير، وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا صلى الله عليه وسلم فيما أمرهم به ونهاهم عنه= مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بحقيقة نبوته، بعد ما كانوا يستنصرون الله به على أعدائهم قبل رسالته، وقبل بعثة الله إياه إليهم وإلى غيرهم = (2) أن يكونوا كأسلافهم وأوائلهم الذين كذبوا نبيهم شمويل بن بالي، مع علمهم بصدقه، ومعرفتهم بحقية نبوته، وامتناعهم من الجهاد مع طالوت لما ابتعثه الله ملكا عليهم، بعد مسألتهم نبيهم ابتعاث ملك يقاتلون معه عدوهم ويجاهدون معه في سبيل ربهم، ابتداء منهم بذلك نبيهم، وبعد مراجعة نبيهم شمويل إياهم في ذلك= (3) وحض لأهل الإيمان بالله وبرسوله من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم على الجهاد في سبيله، وتحذير منه لهم أن يكونوا في التخلف عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم عند لقائه العدو، ومناهضته أهل الكفر بالله وبه، على مثل الذي كان عليه الملأ من بني إسرائيل في تخلفهم عن ملكهم طالوت إذ زحف لحرب عدو الله جالوت، وإيثارهم الدعة والخفض على مباشرة حر الجهاد والقتال في سبيل الله= (4) وشحذ منه لهم على الإقدام على مناجزة أهل الكفر به الحرب، وترك تهيب قتالهم أن قل عددهم وكثر عدد أعدائهم واشتدت شوكتهم بقوله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) [سورة البقرة: 249] ،= (5) وإعلام منه تعالى ذكره عباده المؤمنين به أن بيده النصر والظفر والخير والشر.
* * *
وأما تأويل قوله:"قال لهم نبيهم"، فإنه يعني: للملأ من بني إسرائيل الذين قالوا لنبيهم:"ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله".
* * *
وقوله:"إن آية ملكه"،: إن علامة ملك طالوت= (6) التي سألتمونيها دلالة على صدقي في قولي: إن الله بعثه عليكم ملكا، وإن كان من غير سبط المملكة="أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، وهو التابوت الذي كانت بنو إسرائيل إذا لقوا عدوا لهم قدموه أمامهم، وزحفوا معه، فلا يقوم لهم معه عدو، ولا يظهر عليهم أحد ناوأهم، حتى ضيعوا أمر الله، (7) وكثر اختلافهم على أنبيائهم، فسلبهم الله إياه مرة بعد مرة، يرده إليهم في كل ذلك، حتى سلبهم آخرها مرة فلم يرده عليهم، (8) ولن يرد إليهم آخر الأبد. (9)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في سبب مجيء التابوت الذي جعل الله مجيئه إلى بني إسرائيل آية لصدق نبيهم شمويل على قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، وهل كانت بنو إسرائيل سلبوه قبل ذلك فرده الله عليهم حين جعل مجيئه آية لملك طالوت، أو لم يكونوا سلبوه قبل ذلك، ولكن الله ابتدأهم به ابتداء؟
فقال بعضهم: بل كان ذلك عندهم من عهد موسى وهارون يتوارثونه، (10) حتى سلبهم إياه ملوك من أهل الكفر به، ثم رده الله عليهم آية لملك طالوت. وقال في
__________
(1) سياق الجملة: وهذه القصة، وإن كانت خبرا من الله00 0 ونبأ عما كان منهم ... فإنه تأديب ... ".
(2) سياق هذه الجملة: "وأنهم لن يعدوا في تكذيبهم محمدا ... أن يكونوا كأسلافهم ... ".
(3) قوله: "وحض ... " معطوف على قوله آنفًا: "فإنه تأديب ... ".
(4) قوله: "وشخذ ... " معطوف ثان على قوله آنفًا: " فإنه تأديب ... ".
(5) قوله: " وإعلام ... " معطوف ثالث على قوله: "فإنه تأديب ... ".
(6) انظر تفسير"آية" فيما سلف 1: 106 / 2: 397، 398، 553 / 3: 184 / 4: 271.
(7) في المطبوعة والمخطوطة: "حتى منعوا أمر الله". وهو تصحيف لا معنى له، والصواب ما أثبت.
(8) في المطبوعة: "حتى سلبهم آخر مرة"، والذي في المخطوطة هو الصواب الجيد، وإن كانت الأخرى قريبة من الصواب على ضعف.
(9) في المخطوطة: "ولم يرده إليهم آخر الأبد"، وهو خطأ بين.
(10) في المطبوعة: " كان ذلك عندهم"، بحذف"بل".(5/316)
سبب رده عليهم ما أنا ذاكره وهو ما: -
5658- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه قال: كان لعيلي الذي ربى شمويل، ابنان شابان أحدثا في القربان شيئا لم يكن فيه. كان مسوط القربان الذي كانوا يسوطونه به كلابين (1) فما أخرجا كان للكاهن الذي يسوطه، (2) فجعله ابناه كلاليب. (3) وكانا إذا جاء النساء يصلين في القدس يتشبثان بهن. فبينا شمويل نائم قبل البيت الذي كان ينام فيه عيلي، إذ سمع صوتا يقول: أشمويل!! (4) فوثب إلى عيلي فقال: لبيك! ما لك! دعوتني؟ فقال: لا! ارجع فنم! فرجع فنام، ثم سمع صوتا آخر يقول: أشمويل!! فوثب إلى عيلي أيضا، فقال: لبيك! ما لك! دعوتني؟ فقال: لم أفعل، ارجع فنم، فإن سمعت شيئا فقل:"لبيك" مكانك،"مرني فأفعل"! فرجع فنام، فسمع صوتا أيضا يقول: أشمويل!! فقال: لبيك أنا هذا! مرني أفعل! قال: انطلق إلى عيلي فقل له:"منعه حب الولد أن يزجر ابنيه أن يحدثا في قدسي وقرباني، وأن يعصياني، فلأنزعن منه الكهانة ومن ولده، ولأهلكنه وإياهما"! فلما أصبح سأله عيلي فأخبره، ففزع لذلك فزعا شديدا. فسار إليهم عدو ممن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: " كان مشرط القربان الذي يشرطونه به"، وهو خطأ لا معنى له، والصواب من تاريخ الطبري 1: 243. والمسوط (بكسر الميم) : المسواط خشبة أو ما يشبهها، يحرك بها ما في القدر ليختلط. ساط الشيء في القدر يسوطه سوطا: إذا حركة وخاصه، ليختلط ويمتزج. وقربان اليهود هذا هو"التقدمة"، كانت من دقيق مع زيت ولبان، يؤخذ قليل من الدقيق المقدم والزيت وكل اللبان، ويوقد على المذبح، أو يعمل منه قطائف علي صاج، وأما البقية فكانت للكمهنة (قاموس الكتاب المقدس 2: 208) . والكلاب (يضم الكاف وتشديد اللام) : سفود من حديد أو خشب، في رأسه عقافة معطوفة كالخطاف، وجمعه: "كلاليب".
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "للكاهن الذي يستوطنه"، وهو خطأ، صوابه من التاريخ.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فجعل ابناه ... "، والصواب من التاريخ.
(4) في المخطوطة والتاريخ في هذا الموضع وما بعده: "أشمويل"، والذي قبله: "شمويل"، وأثبت ما فيهما، كما سلف قريبا ص: 308، تعليق: 5.(5/318)
حولهم، فأمر ابنيه أن يخرجا بالناس فيقاتلا ذلك العدو. فخرجا وأخرجا معهما التابوت الذي كان فيه اللوحان وعصا موسى لينصروا به. (1) فلما تهيئوا للقتال هم وعدوهم، جعل عيلي يتوقع الخبر: ماذا صنعوا؟ فجاءه رجل يخبره وهو قاعد على كرسيه: إن ابنيك قد قتلا وإن الناس قد انهزموا! قال: فما فعل التابوت؟ قال: ذهب به العدو! قال: فشهق ووقع على قفاه من كرسيه فمات. وذهب الذين سبوا التابوت حتى وضعوه في بيت آلهتهم، ولهم صنم يعبدونه، فوضعوه تحت الصنم، والصنم من فوقه، فأصبح من الغد والصنم تحته وهو فوق الصنم. ثم أخذوه فوضعوه فوقه وسمروا قدميه في التابوت، فأصبح من الغد قد تقطعت يدا الصنم ورجلاه، وأصبح ملقى تحت التابوت. فقال بعضهم لبعض: قد علمتم أن إله بني إسرائيل لا يقوم له شيء، فأخرجوه من بيت آلهتكم! فأخرجوا التابوت فوضعوه في ناحية من قريتهم، فأخذ أهل تلك الناحية التي وضعوا فيها التابوت وجع في أعناقهم، فقالوا: ما هذا؟! فقالت لهم جارية كانت عندهم من سبي بني إسرائيل: لا تزالون ترون ما تكرهون ما كان هذا التابوت فيكم! فأخرجوه من قريتكم! قالوا: كذبت! قالت: إن آية ذلك أن تأتوا ببقرتين لهما أولاد لم يوضع عليهما نير قط، ثم تضعوا وراءهم العجل، (2) ثم تضعوا التابوت على العجل وتسيروهما وتحبسوا أولادهما، فإنهما تنطلقان به مذعنتين، (3) حتى إذا خرجتا من أرضكم ووقعتا في أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما. ففعلوا ذلك، فلما خرجتا من أرضهم ووقعتا في أدنى أرض بني إسرائيل كسرتا نيرهما، وأقبلتا إلى أولادهما. ووضعتاه في خربة فيها حصاد من بني إسرائيل، (4) ففزع إليه بنو إسرائيل وأقبلوا إليه، فجعل لا يدنو منه أحد إلا مات. فقال لهم نبيهم شمويل: اعترضوا، (5) فمن آنس من نفسه قوة فليدن منه. فعرضوا عليه الناس، فلم يقدر أحد يدنو منه إلا رجلان من بني إسرائيل، (6) أذن لهما بأن يحملاه إلى بيت أمهما، وهي أرملة. فكان في بيت أمهما حتى ملك طالوت، فصلح أمر بني إسرائيل مع أشمويل. (7)
5659- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: قال شمويل لبني إسرائيل لما قالوا له: أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال؟ قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم، وإن آية ملكه= وإن تمليكه من قبل الله= أن يأتيكم التابوت، فيرد عليكم الذي فيه من السكينة وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون، وهو الذي كنتم تهزمون به من لقيكم من العدو، وتظهرون به عليه. قالوا: فإن جاءنا التابوت فقد رضينا وسلمنا! وكان العدو الذين أصابوا التابوت أسفل من الجبل جبل إيليا فيما بينهم وبين مصر، وكانوا أصحاب أوثان، وكان فيهم جالوت. وكان جالوت رجلا قد أعطي بسطة في الجسم، وقوة في البطش، وشدة في الحرب، مذكورا بذلك في الناس. وكان التابوت حين استبي قد جعل في قرية من قرى فلسطين يقال لها:"أزدود"، (8) فكانوا قد جعلوا التابوت في
__________
(1) في التاريخ: "لينتصروا به"، أي ليجلبوا النصر لأنفسهم به.
(2) في المطبوعة: "وراءهم" والصواب من التاريخ والمخطوطة. والنير: الخشبة التي تكون على عنق الثور بأداتها.
(3) في المطبوعة: " ينطلقان مذعنين"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(4) في المطبوعة: "حضار"، وفي المخطوطة: "حصار"، غير منقوطة، والصواب ما في التاريخ.
(5) في التاريخ: "اعرضوا"، وهما سواء.
(6) في التاريخ: "فلم يقدر أحد على أن يدنو منه"، والذي في المخطوطة والمطبوعة حسن.
(7) الأثر: 5658- في التاريخ 1: 243- 244، وهو صدر الأثر السالف رقم: 5637، وساقهما الطبري في التاريخ سياقا واحدا.
(8) في المطبوعة: "يقال لها: أردن"، وهو خطأ لا شك فيه، وأما ما في المخطوطة فهو، "أردود" بالراء، وأنا أظنه بالزاي وأثبته كذلك. فإنه الذي في كتاب القوم في"كتاب صموئيل الأول" الإصحاح الخامس: "أشدود"، وقال صاحب قاموسهم: "أشدود" (حصن، معقل) ، إحدى مدن فلسطين الخمس المحالفة ... وموقعها على ثلاثة أميال من البحر المتوسط بين غزة ويافا. قال: وهي الآن قرية حقيرة تسمى: أسدود، وفي جوارها خرائب كثيرة". والذي يرجع ما ظننته أنها بالزاي أن ابن كثير قال في تفسيره 1: 602 أنه يقال لها: " أزدوه"، وقال مصحح التفسير بهامشه أنها في نسخة الأزهر: "أزدرد". وفي البغوي بهامش ابن كثير 1: 601"أزدود" كما أثبتها.(5/319)
كنيسة فيها أصنامهم. فلما كان من أمر النبي صلى الله عليه وسلم ما كان: من وعد بني إسرائيل أن التابوت سيأتيهم- جعلت أصنامهم تصبح في الكنيسة منكسة على رؤوسها، وبعث الله على أهل تلك القرية فأرا، تبيت الفأرة الرجل فيصبح ميتا، (1) قد أكلت ما في جوفه من دبره. قالوا: تعلمون والله، لقد أصابكم بلاء ما أصاب أمة من الأمم مثله، (2) وما نعلمه أصابنا إلا مذ كان هذا التابوت بين أظهرنا!! مع أنكم قد رأيتم أصنامكم تصبح كل غداة منكسة، شيء لم يكن يصنع بها حتى كان هذا التابوت معها! فأخرجوه من بين أظهركم. فدعوا بعجلة فحملوا عليها التابوت، ثم علقوها بثورين، ثم ضربوا على جنوبهما، وخرجت الملائكة بالثورين تسوقهما، فلم يمر التابوت بشيء من الأرض إلا كان قدسا. فلم يرعهم إلا التابوت على عجلة يجرها الثوران، حتى وقف على بني إسرائيل، فكبروا وحمدوا الله، وجدوا في حربهم، واستوسقوا على طالوت. (3)
5660- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس: لما قال لهم نبيهم: إن الله اصطفى طالوت عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم- أبوا أن يسلموا له الرياسة، حتى قال لهم:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم". فقال لهم: أرأيتم إن جاءكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله للملائكة!!
__________
(1) في المطبوعة: "تثبت الفأرة"، وليست صوابا، والذي في المخطوطة" تبيت" غير منقوطة وصواب قراءتها ما أثبت. بيت القوم العدو: أتوهم في جوف الليل فأوقعوا بهم وهم في غفلة عنه. والاسم: "البيات"، وفي البغوي 1: 601 (بهامش ابن كثير) : "فكانت الفأرة تبيت مع الرجل".
(2) في المطبوعة: "أمة من الأمم قبلكم"، وفي المخطوطة: "أمة من الأمم قبله"، والذي أثبت أقرب إلى رسم المخطوطة، مع التصحيف فيها.
(3) في المطبوعة: "واستوثقوا". وهو خطأ والصواب ما في المخطوطة. ومعناه: اجتمعوا على طاعته. وأصله من"الوسق"وهو ضم الشيء إلى الشيء، وفي حديث أحد: "استوسقوا كما يستوسق جرب الغم. أي: استجمعوا وانضموا. وفي حديث النجاشي: "واستوسق عليه أمر الحبشة"، أي اجتمعوا على طاعته. وهو المراد هنا. وانظر ما سيأتي في الأثر: 5707.(5/321)
= وكان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها. فنزل فجمع ما بقي فجعله في ذلك التابوت= قال ابن جريج، أخبرني يعلى بن مسلم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه لم يبق من الألواح إلا سدسها. قال: وكانت العمالقة قد سبت ذلك التابوت- والعمالقة فرقة من عاد كانوا بأريحا- فجاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إلى التابوت، حتى وضعته عند طالوت. فلما رأوا ذلك قالوا: نعم! فسلموا له وملكوه. قال: وكان الأنبياء إذا حضروا قتالا قدموا التابوت بين يديهم. ويقولون: إن آدم نزل بذلك التابوت وبالركن. وبلغني أن التابوت وعصا موسى في بحيرة طبرية، وأنهما يخرجان قبل يوم القيامة.
5661- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: إن أرميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل فقال:"أنى يحيى هذه الله بعد موتها، فأماته الله مئة عام". ثم رد الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته، يعمرونها ثلاثين سنة تمام المئة. فلما ذهبت المئة، رد الله إليه روحه، وقد عمرت، فهي على حالتها الأولى. (1)
(2) ................................................................................
................................................................................
................................................................................
فلما أراد أن يرد عليهم التابوت، أوحى الله إلى نبي من أنبيائهم: إما دانيال وإما غيره: إن كنتم تريدون أن يرفع عنكم المرض، فأخرجوا عنكم هذا التابوت! قالوا: بآية ماذا؟ قال: بآية أنكم تأتون ببقرتين صعبتين لم تعملا عملا قط، فإذا نطرتا
__________
(1) الأثر: 5661- سيأتي هذا الأثر نفسه برقم: 5912 وهو أثر"مبتور" بلا شك ولم أستطع أن أتمه، وانظر التعليق على الأثر التالي المذكور آنفًا.
(2) أما موضع النقط هذا، فإنه سقط بلا شك فيه، فإن خبر أرميا السالف، لا يمكن أن يكون هذا الكلام من صلته، فإن فيه ذكر رد التابوت في عهد طالوت وداود، وهما قبل أرميا بدهر طويل. وأخشى أن يكون الناسخ قد قدم ورقة على ورقة في النسخة العتيقة، أو تخطى وجها من الكتاب الذي نسخ منه. وليس من الممكن إتمام هذا النقص، فلذلك فصلت بين الكلامين بهذه النقط، حتى يتيح الله نسخة أقدم من النسخ التي بين أيدينا تسد هذا الخرم أو تصحح مكان الكلام.
وهذا الذي بعد النقط، خبر عن القرية التي وضع فيها التابوت حين سبي، كما ذكر في الأثر رقم: 5658، وهو أثر ضاع صدره عن وهب بن منبه، كما هو واضح في السياق الآتي. ولم أجد صدره في شيء من الكتب التي بين يدي. هذا ونسختنا في الموضع كثيرة الخطأ السهو، كما يتبين ذلك من خط كاتبها، ومن الأخطاء السالفة التي ذكرتها في التعليقات.(5/322)
إليه وضعتا أعناقهم للنير حتى يشد عليهما، (1) ثم يشد التابوت على عجل، ثم يعلق على البقرتين، ثم يخليان فيسيران حيث يريد الله أن يبلغهما. ففعلوا ذلك، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان سيرا سريعا، حتى إذا بلغتا طرف القدس كسرتا نيرهما، وقطعتا حبالهما، وذهبتا. فنزل إليهما داود ومن معه، فلما رأى داود التابوت حجل إليه فرحا به = فقلنا لوهب: ما حجل إليه، قال: شبيه بالرقص= فقالت له امرأته: لقد خففت حتى كاد الناس يمقتونك لما صنعت! قال: أتبطئيني عن طاعة ربي!! لا تكونين لي زوجة بعد هذا. ففارقها.
* * *
وقال آخرون: بل التابوت= الذي جعله الله آية لملك طالوت= كان في البرية، وكان موسى صلى الله عليه وسلم خلفه عند فتاه يوشع، فحملته الملائكة حتى وضعته في دار طالوت. (2)
__________
(1) في المخطوطة: "فإذا نظرتا إليها"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها هنا ما نصه:
"يتلوه إن شاء الله تعالى: ذكر من قال ذلك:
وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا.
على الأصل.
بلغت بالقراءة من أوله والسماع على القاضي أبي الحسن الخصيب، عن عبد الله، عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري، والقاضي ينظر في كتابه. وسمع معي أخي على حرسه الله، وأبو الفتح أحمد بن عمر الجهاري (؟ ؟) ونصر بن الحسين الطبري، ومحمد بن علي ... وعبد الرحيم بن أحمد البخاري. وكتب محمد بن أحمد بن عيسى السعدي، في شعبان سنة ثمان وأربعمئة بمصر"
"ثم يتلو في أول الجزء التالي:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر".(5/323)
* ذكر من قال ذلك:
5662- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد، قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، الآية: كان موسى تركه عند فتاه يوشع بن نون وهو بالبرية، وأقبلت به الملائكة تحمله حتى وضعته في دار طالوت فأصبح في داره.
5663- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت" الآية، قال: كان موسى - فيما ذكر لنا - ترك التابوت عند فتاه يوشع بن نون وهو في البرية. فذكر لنا أن الملائكة حملته من البرية حتى وضعته في دار طالوت، فأصبح التابوت في داره.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما قاله ابن عباس ووهب بن منبه: من أن التابوت كان عند عدو لبني إسرائيل كان سلبهموه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال مخبرا عن نبيه في ذلك الزمان قوله لقومه من بني إسرائيل:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت"، و"الألف واللام" لا تدخلان في مثل هذا من الأسماء إلا في معروف عند المتخاطبين به. وقد عرفه المخبر والمخبر. فقد علم بذلك أن معنى الكلام: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه، الذي كنتم تستنصرون به، فيه سكينة من ربكم. ولو كان ذلك تابوتا من التوابيت غير معلوم عندهم قدره(5/324)
ومبلغ نفعه قبل ذلك، لقيل: إن آية ملكه أن يأتيكم تابوت فيه سكينة من ربكم.
* * *
فإن ظن ذو غفلة أنهم كانوا قد عرفوا ذلك التابوت وقدر نفعه وما فيه وهو عند موسى ويوشع، فإن ذلك ما لا يخفى خطؤه. وذلك أنه لم يبلغنا أن موسى لاقى عدوا قط بالتابوت ولا فتاه يوشع، بل الذي يعرف من أمر موسى وأمر فرعون ما قص الله من شأنهما، وكذلك أمره وأمر الجبارين. وأما فتاه يوشع، فإن الذين قالوا هذه المقالة، زعموا أن يوشع خلفه في التيه حتى رد عليهم حين ملك طالوت. فإن كان الأمر على ما وصفوه، فأي الأحوال للتابوت الحال التي عرفوه فيها، فجاز أن يقال: إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت الذي قد عرفتموه وعرفتم أمره؟ وفي فساد هذا القول بالذي ذكرنا، (1) أبين الدلالة على صحة القول الآخر، إذ لا قول في ذلك لأهل التأويل غيرهما.
* * *
وكانت صفة التابوت فيما بلغنا، كما: -
5664- حدثنا محمد بن عسكر والحسن بن يحيى قالا أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال: سألنا وهب بن منبه عن تابوت موسى: ما كان؟ قال: كان نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ففساد هذا القول"، "والصواب ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 5664-"محمد بن عسكر"، هو محمد بن سهل بن عسكر، سلف في رقم: 5598. بكار بن عبد الله اليماني، روي عن وهب منبه. روى عنه بن ابن المبارك، وهشام بن يوسف وعبد الرزاق. قال أحمد: ثقة. مترجم في الكبير 1/2/120، وابن أبي حاتم 1/1 /408.(5/325)
القول في تأويل قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فيه"، في التابوت="سكينة من ربكم".
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"السكينة".
فقال بعضهم: هي ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.
* ذكر من قال ذلك:
5665- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث بن سعيد قال، حدثنا محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن أبي وائل، عن علي بن أبي طالب قال: السكينة، ريح هفافة لها وجه كوجه الإنسان.
5666- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان= وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا سفيان= عن سلمة بن كهيل، عن أبي الأحوص، عن علي قال: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، ثم هي ريح هفافة.
5667- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن العوام بن حوشب، عن سلمة بن كهيل، عن علي بن أبي طالب في قوله:"فيه سكينة من ربكم"، قال: ريح هفافة لها صورة= وقال يعقوب في حديثه: لها وجه= (1) وقال ابن المثنى: كوجه الإنسان.
5668- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن سلمة بن كهيل قال، قال علي: السكينة لها وجه كوجه الإنسان، وهي ريح هفافة. (2)
__________
(1) في المخطوطة: "كما وجه"، وما بينهما بياض، ولعل أقرب ذلك ما في المطبوعة.
(2) في المخطوطة: "هى ريح" بإسقاط الواو.(5/326)
5669- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة قال، قال علي: السكينة ريح خجوج، ولها رأسان. (1)
5670- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة، يحدث عن علي، نحوه.
5671- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة، وحماد بن سلمة، وأبو الأحوص، كلهم عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علي، نحوه. (2)
* * *
وقال آخرون: لها رأس كرأس الهرة وجناحان.
* ذكر من قال ذلك:
5672- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:" فيه سكينة من ربكم"، قال: أقبلت السكينة [والصرد] وجبريل مع إبراهيم من الشأم= (3) قال ابن أبي نجيح، سمعت مجاهدا يقول: السكينة لها رأس كرأس الهرة وجناحان.
5673- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
5674- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: السكينة لها جناحان وذنب.
__________
(1) الأثر: 5669- هو بعض الأثر السالف رقم: 2058 في ذكر بناء الكعبة.
(2) الأثران: 5670، 5671- انظر الأثران السالفان: 2059، 2060.
(3) ما بين القوسين، زيادة من الأثار التي رويت عن مجاهد في ذلك، في تاريخ مكة للأزرقي 1: 22-28، ونصه في لسان العرب (صرد) . والصرد (بضم الصاد وفتح الراء: طائر أبقع ضخم يكون في الشجر وشعب الجبال لا يقدر عليه أحد، وهو من سباع الطير.(5/327)
5675-حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: لها جناحان وَذَنَب مثل ذنب الهرة.
* * *
وقال آخرون: بل هي رأس هرة ميتة.
* * *
* ذكر من قال ذلك:
5677- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن وهب بن منبه، عن بعض أهل العلم من بني إسرائيل قال: السكينة رأس هرة ميتة، كانت إذا صرخت في التابوت بصراخ هر، أيقنوا بالنصر وجاءهم الفتح.
* * *
وقال آخرون: إنما هي طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.
* ذكر من قال ذلك:
5678- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثمان بن سعيد قال، حدثنا الحكم بن ظهير، عن السدي، عن أبي مالك، عن ابن عباس:"فيه سكينة من ربكم"، قال: طست من ذهب من الجنة، كان يغسل فيه قلوب الأنبياء.
5679- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فيه سكينة من ربكم"، السكينة: طست من ذهب يغسل فيها قلوب الأنبياء، أعطاها الله موسى، وفيها وضع الألواح. وكانت الألواح، فيما بلغنا، من در وياقوت وزبرجد.
* * *
وقال آخرون:"السكينة"، روح من الله تتكلم.
* ذكر من قال ذلك:
5680- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار(5/328)
بن عبد الله، قال، سألنا وهب بن منبه فقلنا له: السكينة؟ قال: روح من الله يتكلم، إذا اختلفوا في شيء تكلم فأخبرهم ببيان ما يريدون.
5681- حدثنا محمد بن عسكر قال، حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا بكار بن عبد الله: أنه سمع وهب بن منبه، فذكر نحوه. (1)
وقال آخرون:"السكينة"، ما يعرفون من الآيات فيسكنون إليه.
* ذكر من قال ذلك:
5682- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:"فيه سكينة من ربكم"، الآية، قال: أما السكينة فما يعرفون من الآيات، يسكنون إليها.
* * *
وقال آخرون:"السكينة"، الرحمة.
* ذكر من قال ذلك:
5683- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فيه سكينة من ربكم"، أي رحمة من ربكم.
* * *
وقال آخرون:"السكينة"، هي الوقار.
* ذكر من قال ذلك:
5684- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فيه سكينة من ربكم"، أي وقار.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالحق في معنى"السكينة"، ما قاله عطاء بن أبي رباح: من الشيء تسكن إليه النفوس من الآيات التي تعرفونها. وذلك أن
__________
(1) الأثران: 5680، 5681-"محمد بن عسكر"، و"بكار بن عبد الله". انظر التعليق على الأثر رقم: 5664.(5/329)
"السكينة" في كلام العرب"الفعيلة"، من قول القائل:"سكن فلان إلى كذا وكذا"= إذا اطمأن إليه وهدأت عنده نفسه="فهو يسكن سكونا وسكينة"، مثل قولك:"عزم فلان هذا الأمر عزما وعزيمة"، و"قضى الحاكم بين القوم قضاء وقضية"، ومنه قول الشاعر: (1)
لله قبر غالها! ماذا يجن? ... لقد أجن سكينة ووقارا
* * *
وإذا كان معنى"السكينة" ما وصفت، فجائز أن يكون ذلك على ما قاله علي بن أبي طالب على ما روينا عنه، وجائز أن يكون ذلك على ما قاله مجاهد على ما حكينا عنه، وجائز أن يكون ما قاله وهب بن منبه وما قاله السدي، لأن كل ذلك آيات كافيات تسكن إليهن النفوس، وتثلج بهن الصدور. وإذا كان معنى"السكينة" ما وصفنا، فقد اتضح أن الآية التي كانت في التابوت، التي كانت النفوس تسكن إليها لمعرفتها بصحة أمرها، إنما هي مسماة بالفعل وهي غيره، (2) لدلالة الكلام عليه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وبقية"، الشيء الباقي، من قول القائل:"قد بقي من هذا الأمر بقية"، وهي"فعلية" منه، نظير"السكينة" من"سكن".
* * *
__________
(1) أنشده ابن بري لأبي عريف الكليبي. وأنا في شك من صحة اسمه.
(2) يعني بقوله: " الفعل" مصدر الفعل"سكن"، وهو"السكينة"، كما يقال: "رجل عدل"، فلو سميت الرجل"عدلا"، كان مسمى بالفعل، وهو غيره.(5/330)
وقوله:"مما ترك آل موسى وآل هارون"، يعني به: من تركة آل موسى، وآل هارون.
* * *
واختلف أهل التأويل في"البقية" التي كانت بقيت من تركتهم.
فقال بعضهم: كانت تلك"البقية" عصا موسى ورضاض الألواح. (1)
* ذكر من قال ذلك:
5685- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عكرمة قال: أحسبه عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: رضاض الألواح.
5686- حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر قال، حدثنا داود، عن عكرمة= قال داود: وأحسبه عن ابن عباس= مثله.
5687- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: عصا موسى ورضاض الألواح.
5688- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: فكان في التابوت عصا موسى ورضاض الألواح، فيما ذكر لنا.
5689- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: البقية عصا موسى ورضاض الألواح.
5690- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، أما البقية، فإنها عصا موسى
__________
(1) انظر صفحة 332، تعليق: 1.(5/331)
ورضاضة الألواح. (1)
5691- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، عصا موسى وأثور من التوراة. (2)
5692- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي، عن خالد الحذاء، عن عكرمة في هذه الآية:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: التوراة ورضاض الألواح والعصا= قال إسحاق، قال وكيع: ورضاضه كسره.
5693- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن خالد، عن عكرمة في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: رضاض الألواح.
* * *
وقال آخرون: بل تلك"البقية" عصا موسى وعصا هارون، وشيء من الألواح. (3)
* ذكر من قال ذلك:
5694- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن إسماعيل، عن ابن أبي خالد، عن أبي صالح:"أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: كان فيه عصا موسى وعصا هارون، ولوحان من التوراة، والمن. (4)
__________
(1) رضاض الشيء (بضم الراء) : كساره (بضم الكاف) ، وهو ما تكسر منه، وقطعه. ورض الشيء رضا: كسره فصار قطعا. و"رضاضة" بالتاء في آخر رقم: 5690، وهي عربية صحيحة، وإن لم تذكر في المعاجم. ومثلها في مطول هذا الأثر في التاريخ 1: 243.
(2) في المطبوعة: "وأمور من التوراة". وفي المخطوطة: "وأسور من التوارة". ورجحت قراءتها"وأثور" جمع أثر: وهو بقية الشيء، وما بقى من رسم الشيء، وجمعه آثار وأثور. وهي هنا بمعنى الرضاض.
(3) في المخطوطة: "بل ذلك البقية ... "، والذي في المطبوعة أجود الصواب.
(4) الأثر: 5694- في الدر المنثور 1: 317 مطولا. وفي المخطوطة والمطبوعة: "عن إسماعيل عن ابن أبي خالد"، والصواب ما أثبت، وهو الذي يروي عنه جابر بن نوح، مترجم التهذيب.(5/332)
5695- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن عطية بن سعد في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: عصا موسى، وعصا هارون، وثياب موسى، وثياب هارون، ورضاض الألواح.
* * *
وقال آخرون: بل هي العصا والنعلان.
* ذكر من قال ذلك:
5696- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، سألت الثوري عن قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: منهم من يقول: البقية قفيز من من ورضاض الألواح- ومنهم من يقول: العصا والنعلان. (1)
* * *
وقال آخرون: بل كان ذلك العصا وحدها.
* ذكر من قال ذلك:
5697- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال، قلنا لوهب بن منبه: ما كان فيه؟ = يعني في التابوت= قال: كان فيه عصا موسى والسكينة. (2)
* * *
وقال آخرون: بل كان ذلك، رضاض الألواح وما تكسر منها.
* ذكر من قال ذلك:
5698- حدثنا القاسم قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس في قوله:" وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، قال: كان موسى حين ألقى الألواح تكسرت ورفع منها، فجعل الباقي في ذلك التابوت.
__________
(1) القفيز: مكيال من المكاييل، كان عند أهل العراق ثمانية مكاكيك.
(2) الأثر 5697- بكار بن عبد الله اليماني، مضى في الآثار: 5664، 5680، 5681، وكان في المطبوعة والمحفوظة"بكار عن عبد الله"، وهو خطأ محض.(5/333)
5699- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، [قال] العلم والتوراة. (1)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك الجهاد في سبيل الله.
* ذكر من قال ذلك:
5700- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد الله بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون"، يعني ب"البقية"، القتال في سبيل الله، وبذلك قاتلوا مع طالوت، وبذلك أمروا.
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر عن التابوت الذي جعله آية لصدق قول نبيه صلى الله عليه = الذي قال لأمته: (2) "إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا" = أن فيه سكينة منه، وبقية مما تركه آل موسى وآل هارون. (3) وجائز أن يكون تلك البقية: العصا، وكسر الألواح، والتوراة، أو بعضها، والنعلين، والثياب، والجهاد في سبيل الله = وجائز أن يكون بعض ذلك، وذلك أمر لا يدرك علمه من جهة الاستخراج ولا اللغة، ولا يدرك علم ذلك إلا بخبر يوجب عنه العلم. ولا خبر عند أهل الإسلام في ذلك للصفة التي وصفنا. وإذ كان كذلك، فغير جائز فيه تصويب قول وتضعيف آخر غيره، إذ كان جائزا فيه ما قلنا من القول.
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين: لظني أنها سقطت من الناسخ لعجلته، كما يتبين من خطه في هذا الموضع.
(2) في المطبوعة: "لصدق قول نبيه صلى الله عليه وسلم لأمته"، زاد: "وسلم"، وأسقط"الذي قال"، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "مما تركه آل موسى"، وأثبت ما في المخطوطة.(5/334)
القول في تأويل قوله: {تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في صفة حمل الملائكة ذلك التابوت.
فقال بعضهم: معنى ذلك: تحمله بين السماء والأرض، حتى تضعه بين أظهرهم.
* ذكر من قال ذلك:
5701- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: جاءت الملائكة بالتابوت تحمله بين السماء والأرض وهم ينظرون إليه، حتى وضعته عند طالوت.
5702- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: لما قال لهم= يعني النبي، لبني إسرائيل: ="والله يؤتي ملكه من يشاء". قالوا: فمن لنا بأن الله هو آتاه هذا! ما هو إلا لهواك فيه! قال: إن كنتم قد كذبتموني واتهمتمون، فإن آية ملكه:"أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم"، الآية. قال: فنزلت الملائكة بالتابوت نهارا ينظرون إليه عيانا، حتى وضعوه بين أظهرهم، فأقروا غير راضين، وخرجوا ساخطين، وقرأ حتى بلغ:"والله مع الصابرين".
5703- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما قال لهم نبيهم:"إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم"، قالوا: فإن كنت صادقا فأتنا بآية أن هذا ملك! قال:"إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة". وأصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، فآمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت.
5704- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا(5/335)
معمر، عن قتادة في قوله:"تحمله الملائكة"، قال: تحمله حتى تضعه في بيت طالوت.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: تسوق الملائكة الدواب التي تحمله.
* ذكر من قال ذلك:
5705- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن بعض أشياخه قال: تحمله الملائكة على عجلة على بقرة.
5706- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه يقول: وكل بالبقرتين اللتين سارتا بالتابوت أربعة من الملائكة يسوقونهما، فسارت البقرتان بهما سيرا سريعا، حتى إذا بلغتا طرف القدس ذهبتا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال:"حملت التابوت الملائكة حتى وضعته لها في دار طالوت قائما بين أظهر بني إسرائيل". (1) وذلك أن الله تعالى ذكره قال:"تحمله الملائكة"، ولم يقل: تأتي به الملائكة. وما جرته البقر على عجل. وإن كانت الملائكة هي سائقتها، فهي غير حاملته. لأن"الحمل" المعروف، هو مباشرة الحامل بنفسه حمل ما حمل، فأما ما حمله على غيره = وإن كان جائزا في اللغة أن يقال"حمله" بمعنى معونته الحامل، (2) وبأن حمله كان عن سببه= فليس سبيله سبيل ما باشر حمله بنفسه، في تعارف الناس إياه
__________
(1) في المطبوعة: "حتى وضعته في دار طالوت" بإسقاط"لها"، أي لبني إسرائيل. وفي المطبوعة: "في دار طالوت بين أظهر بني إسرائيل" بإسقاط"قائما"، وكانت هذه اللفظة في المخطوطة: "ما بين أظهر لبني إسرائيل"، وقرأتها: "قائما".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يقال في حمله بمعنى معونته"، والصواب إسقاط"في".(5/336)
بينهم. وتوجيه تأويل القرآن إلى الأشهر من اللغات، أولى من توجيهه إلى الأنكر، (1) ما وُجد إلى ذلك سبيل.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن نبيه أشمويل قال لبني إسرائيل: إن في مجيئكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون حاملته الملائكة="لآية لكم"، يعني: لعلامة لكم ودلالة، (2) أيها الناس، على صدقي فيما أخبرتكم: أن الله بعث لكم طالوت ملكا، أن كنتم قد كذبتموني فيما أخبرتكم به من تمليك الله إياه عليكم، واتهمتموني في خبري إياكم بذلك="إن كنتم مؤمنين"، يعني بذلك: (3) إن كنتم مصدقي عند مجيء الآية التي سألتمونيها على صدقي فيما أخبرتكم به من أمر طالوت وملكه.
* * *
وإنما قلنا ذلك معناه، لأن القوم قد كانوا كفروا بالله في تكذيبهم نبيهم وردهم عليه قوله:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، بقولهم:"أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه"، = وفي مسألتهم إياه الآية على صدقه. فإذ كان ذلك منهم كفرا، (4)
فغير جائز أن يقال لهم وهم كفار: لكم في مجيء التابوت آية إن كنتم من أهل الإيمان بالله ورسوله: = وليسوا من أهل الإيمان بالله ولا برسوله. ولكن الأمر في ذلك على ما وصفنا من معناه، لأنهم سألوا الآية
__________
(1) في المطبوعة: "أولى من توجيهه إلى أن لا يكون الأشهر00"، وهو خلط من كلم الموسومين!! وفي المخطوطة"إلى إلى أن لا يلر". وضرب على"إلى" الثانية. وصواب قراءته ما قرأت، وقد مضى مثله مرارا في كلام الطبري.
(2) انظر معنى"آية" فيما سلف قريبا: 317 تعليق: 1 وفيه المراجع.
(3) انظر تفسير"الإيمان" بمعنى"التصديق" فيما سلف من الأجزاء. في فهارس للغة.
(4) في المطبوعة: "فإن كان ذلك منهم"، والصواب ما في المخطوطة.(5/337)
على صدق خبره إياهم ليقروا بصدقه، فقال لهم: في مجيء التابوت- على ما وصفه لهم - آية لكم إن كنتم عند مجيئه كذلك مصدقي بما قلت لكم وأخبرتكم به.
* * *(5/338)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ}
قال أبو جعفر: وفي هذا الخبر من الله تعالى ذكره، متروك قد استغني بدلالة ما ذكر عليه عن ذكره. ومعنى الكلام:"إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين"، فأتاهم التابوت فيه سكينة من ربهم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة، فصدقوا عند ذلك نبيهم وأقروا بأن الله قد بعث طالوت ملكا عليهم، وأذعنوا له بذلك. يدل على ذلك قوله:"فلما فصل طالوت بالجنود". وما كان ليفصل بهم إلا بعد رضاهم به وتسليمهم الملك له، لأنه لم يكن ممن يقدر على إكراههم على ذلك، فيظن به أنه حملهم على ذلك كرها.
* * *
وأما قوله:"فصل" فإنه يعني به: شخص بالجند ورحل بهم.
* * *
وأصل"الفصل" القطع، يقال، منه:"فصل الرجل من موضع كذا وكذا"، يعني به قطع ذلك، فجاوزه شاخصا إلى غيره،"يفصل فصولا"، و"فصل العظم والقول من غيره، فهو يفصله فصلا"، إذا قطعه فأبانه، و"فصل الصبي فصالا"، إذا قطعه عن اللبن (1) . و"قول فصل"، يقطع فيفرق بين الحق والباطل لا يرد.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الفصال" فيما سلف من هذا الجزء: 67.(5/338)
وقيل: إن طالوت فصل بالجنود يومئذ من بيت المقدس وهم ثمانون ألف مقاتل، لم يتخلف من بني إسرائيل عن الفصول معه إلا ذو علة لعلته، أو كبير لهرمه، أو معذور لا طاقة له بالنهوض معه.
* ذكر من قال ذلك:
5707- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: خرج بهم طالوت حين استوسقوا له، ولم يتخلف عنه إلا كبير ذو علة، أو ضرير معذور، أو رجل في ضيعة لا بد له من تخلف فيها. (1)
5708- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما جاءهم التابوت آمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فلما فصل بهم طالوت على ما وصفنا، قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، يقول: إن الله مختبركم بنهر، ليعلم كيف طاعتكم له.
* * *
وقد دللنا على أن معنى"الابتلاء"، الاختبار، فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (3)
* وبما قلنا في ذلك كان قتادة يقول.
5709- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قول الله تعالى:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: إن الله يبتلي خلقه بما يشاء، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه.
* * *
__________
(1) الأثر: 5707- استوسقوا له: اجتمعوا له بالطاعة: ودانوا، (انظر ما سلف ص: 231) في آخر الأثر: 5659، والتعليق عليه. والضرير: المرض المهزول، قد أضر به المرض.
(2) الأثر: 5708- في التاريخ 1: 243 من خبر طويل مضى أكثره فيما سلف.
(3) انظر ما سلف 2: 49/3: 7، 220.(5/339)
وقيل: إن طالوت قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، لأنهم شكوا إلى طالوت قلة المياه بينهم وبين عدوهم، وسألوه أن يدعو الله لهم أن يجري بينهم وبين عدوهم نهرا، فقال لهم طالوت حينئذ ما أخبر عنه أنه قاله من قوله:"إن الله مبتليكم بنهر".
* ذكر من قال ذلك:
5710- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، حدثني بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه قال: لما فصل طالوت بالجنود قالوا: إن المياه لا تحملنا، فادع الله لنا يجري لنا نهرا! فقال لهم طالوت:"إن الله مبتليكم بنهر" الآية.
* * *
"والنهر" الذي أخبرهم طالوت أن الله مبتليهم به، قيل: هو نهر بين الأردن وفلسطين.
* ذكر من قال ذلك:
5712- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال الربيع: ذكر لنا، والله أعلم، أنه نهر بين الأردن وفلسطين.
5712- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" إن الله مبتليكم بنهر"، قال: ذكر لنا أنه نهر بين الأردن وفلسطين.
5713- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: هو نهر بين الأردن وفلسطين.
5714- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عباس: فلما فصل طالوت بالجنود غازيا إلى جالوت، قال طالوت لبني إسرائيل:"إن الله مبتليكم بنهر"، قال: نهر بين فلسطين والأردن، نهر عذب الماء طيبه.(5/340)
وقال آخرون: بل هو نهر فلسطين.
* ذكر من قال ذلك:
5715- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"إن الله مبتليكم بنهر"، فالنهر الذي ابتلي به بنو إسرائيل، نهر فلسطين.
5716- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الله مبتليكم بنهر"، هو نهر فلسطين.
* * *
وأما قوله:" فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم". فإنه خبر من الله تعالى ذكره عن طالوت بما قال لجنوده، إذ شكوا إليه العطش، فأخبر أن الله مبتليهم بنهر، (1) ثم أعلمهم أن الابتلاء الذي أخبرهم عن الله به من ذلك النهر، هو أن من شرب من مائه فليس هو منه= يعني بذلك: أنه ليس من أهل ولايته وطاعته، ولا من المؤمنين بالله وبلقائه. ويدل على أن ذلك كذلك قول الله تعالى ذكره: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) ، فأخرج من لم يجاوز النهر من الذين آمنوا، ثم أخلص ذكر المؤمنين بالله ولقائه عند دنوهم من جالوت وجنوده بقوله: (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) ، وأخبرهم أنه من لم يطعمه= يعني: من لم يطعم الماء من ذلك النهر."والهاء" في قوله:"فمن شرب منه"، وفي قوله:"ومن لم يطعمه"، عائدة على"النهر"،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "00 عن طالوت أنه قال لجنوده، 00 فأخبر أن الله"، وهي عبارة لا تستقيم علي جادة الكلام، فجعلت"أنه"، "بما"، وجعلت"فأخبر"، "فأخبرهم". وأعود فأقول إن الناسخ في هذا الموضع كثير السهو والخطأ من فرط عجلته.(5/341)
والمعنى لمائه. وإنما ترك ذكر"الماء" اكتفاء بفهم السامع بذكر النهر لذلك: (1) أن المراد به الماء الذي فيه.
* * *
ومعنى قوله:"لم يطعمه"، لم يذقه، يعني: ومن لم يذق ماء ذلك النهر فهو مني= يقول: هو من أهل ولايتي وطاعتي، والمؤمنين بالله وبلقائه. ثم استثنى من"من" في قوله:"ومن لم يطعمه"، المغترفين بأيديهم غرفة، (2) فقال: ومن لم يطعم ماء ذلك النهر، (3) إلا غرفة يغترفها بيده، فإنه مني.
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:"إلا من اغترف غرفة بيده".
فقرأه عامة قرأة أهل المدينة والبصرة: (غرفة) ، بنصب"الغين" من"الغرفة" بمعنى الغرفة الواحدة، من قولك،"اغترفت غرفة"، و"الغرفة"، و"الغرفة" هي الفعل
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "كذلك"، والصواب ما أثبت، وسياق العبارة: اكتفاء بفهم السامع لذلك بذكر النهر: أن المراد00
(2) أكثر المفسرين قد جعل الاستثناء من قوله: "فن شرب منه"، وقال أبوحيان في تفسيره 1: 265 وقال: "وقع في بعض التصانيف ما نصه: "إلا من اغترف"، استثناء من الأولى، وإن شئت من الثانية، لأنه حكم على أن من لم يطعمه فإنه منه، فيلزم في الاستثناء من هذا أن من اغترف منه بيده غرفة فليس منه. والأمر ليس كذلك، لأنه مفسوح لهم الاغتراف غرفة باليد دون الكروع فيه. وهو ظاهر الاستثناء من الأولى، لأنه حكم فيها: أن من شرب منه فليس منه، فيلزم في الاستثناء أن من اغترف غرفة بيده منه، فإنه منه، إذ هو مفسوح له في ذلك. وهكذا الإستثناء، يكون من النفى إثباتا، ومن الإثبات نفيا، على الصحيح من المذاهب في هذه المسالة".
وانظر أيضًا تعليق ابن المنير على الكشاف بهامش 1: 149- 150، وأما العكبري في إعراب القرآن إنه قال: "إلا من اغترب-استثناء من الجنس، وموضعه نصب. وأنت بالخيار، إن شئت جعلته استثناء من"من الأولى، وإن شئت من"من"الثانية". وهذا يرجع صواب معنى الطبري، وصواب ما صححناه، فإنهكان في المخطوطة والمطبوعة: "ثم استثنى من قوله00". والمخطوطة كما أسلف مرارا مضطربة في هذا الموضع، وفي مواضع من أشياء ذلك. وسترى ذلك في التعليق التالي.
والظاهر أن الطبري أراد أن القوم كانوا فئتين: فئه شربت من الماء، وفئة مؤمنة لم تطعم من الماء إلا غرفة. وبذلك يصح كل ما قاله. وهذا بين سيأتي بعد في ص 348- 350 أن من جاوز مع طالوت النهر: الذي لم يشرب من الماء إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير". وكأن المؤمنين جميعا -عنده- قد شربوا من الماء غرفة. هذا ما أرجحه، والله ولى التوفيق.
(3) في المخطوطة: "فقالوا: من لم يطعم ومن لم يطعم ماء ذلك النهر00" وهو خلط من الكلام.(5/342)
بعينه من"الاغتراف". (1) .
* * *
وقرأه آخرون بالضم، بمعنى الماء الذي يصير في كف المغترف. ف"الغرفة" الاسم"، و"الغرفة" المصدر.
* * *
وأعجب القراءتين في ذلك إلي، ضم"الغين" في"الغرفة"، بمعنى: إلا من اغترف كفا من ماء= لاختلاف"غرفة" إذا فتحت غينها، وما هي له مصدر. وذلك أن مصدر"اغترف"،"اغترافة"، وإنما"غرفة" مصدر:"غرفت". فلما كانت"غرفة" مخالفة مصدر"اغترف"، كانت"الغرفة" التي بمعنى الاسم على ما قد وصفنا، أشبه منها ب"الغرفة" التي هي بمعنى الفعل. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وذكر لنا أن عامتهم شربوا من ذلك الماء، فكان من شرب منه عطش، ومن اغترف غرفة روي.
* ذكر من قال ذلك:
5717- حدثني بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم"، فشرب القوم على قدر يقينهم. أما الكفار فجعلوا يشربون فلا يروون، وأما المؤمنون فجعل الرجل يغترف غرفة بيده فتجزيه وترويه.
5718- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، قال: كان الكفار يشربون فلا يروون، وكان المسلمون يغترفون غرفة فيجزيهم ذلك.
__________
(1) "الفعل" يعني المصدر، كما سلف آنفًا ص: 330 تعليق: 1، وكما سيصرح به الجمل التالية إلى آخر الكلام.
(2) هذا تفصيل جيد قلما تصيبه في كتب اللغة. وانظر اللسان مادة (غرف) وقوله الكسائي وغيره في ذلك.(5/343)
5719- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم"، يعني المؤمنين منهم. وكان القوم كثيرا، فشربوا منه إلا قليلا منهم= يعني المؤمنين منهم. كان أحدهم يغترف الغرفة فيجزيه ذلك ويرويه.
5720- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال لما أصبح التابوت وما فيه في دار طالوت، آمنوا بنبوة شمعون، وسلموا ملك طالوت، فخرجوا معه وهم ثمانون ألفا. وكان جالوت من أعظم الناس وأشدهم بأسا، فخرج يسير بين يدي الجند، ولا يجتمع إليه أصحابه حتى يهزم هو من لقي. فلما خرجوا قال لهم طالوت:"إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني"، فشربوا منه هيبة من جالوت، فعبر منهم أربعة آلاف، (1) ورجع ستة وسبعون ألفا، فمن شرب منه عطش، ومن لم يشرب منه إلا غرفة روي. (2) .
5721- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: ألقى الله على لسان طالوت حين فصل بالجنود، فقال: لا يصحبني أحد إلا أحد له نية في الجهاد. فلم يتخلف عنه مؤمن، ولم يتبعه منافق، ... رجعوا كفارا، لكذبهم في قيلهم إذ قالوا:"لن نمس هذا الماء غرفة ولا غير" = (3) وذلك
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فعبر منهم" بإسقاط"معه"، وأثبتها من التاريخ.
(2) الأثر: 5720-هو جزء من الخبر الذي في التاريخ 1: 242- 243، وقد جزأه الطبري في هذا التفسير في مواضع كثيرة أشرنا إليها رقم: 5635، 5638، 5679، 5690، 5708.
(3) في المخطوطة: "ولم تتبعه منافق، رجعوا كفارا، فلما رأى قلتهم قالوا: لن نمس هذه الماء" وكلتا العبارتين لا تستقيم في الحالتين. وأنا أرجح أنه قد سقط من الناسخ سطر أو بعض سطر، معناه: أن بعض الذين خرجوا معه، رجعوا كفارا لكذبهم في قيلهم ذلك. والذى يرجح ذلك عندي أنه يقول بعد"قال: وأخذ البقية الغرفة"، فهذا دليل على أنه قد أجرى قبل ذلك ذكر الذين شربوا من النهر. فن هذا، وقد كان في المطبوعة: "ولا غيرها"، فأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب.(5/344)
أنه قال لهم:"إن الله مبتليكم بنهر"، الآية، فقالوا: لن نمس من هذا، غرفة ولا غير غرفة = (1) قال: وأخذ البقية الغرفة فشربوا منها حتى كفتهم، وفضل منهم. (2) قال: والذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوها.
5722- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس في قوله:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، فشرب كل إنسان كقدر الذي في قلبه. فمن اغترف غرفة وأطاعه، روي لطاعته. (3) ومن شرب فأكثر، عصى فلم يرو لمعصيته.
5723- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق في حديث ذكره، عن بعض أهل العلم، عن وهب بن منبه في قوله:"فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده"، يقول الله تعالى ذكره:"فشربوا منه إلا قليلا منهم"، وكان -فيما يزعمون- من تتابع منهم في الشرب الذي نهي عنه لم يروه، ومن لم يطعمه إلا كما أمر: غرفة بيده، أجزاه وكفاه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلما جاوزه هو"، فلما جاوز النهر طالوت."والهاء" في"جاوزه" عائدة على"النهر"، و"هو" كناية
__________
(1) في المطبوعة: "لن نمس من هذا" بزيادة"من"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فشربوا منها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "روي بطاعته" والذي أثبت، أشبه بالمخطوطة وبالصواب.(5/345)
اسم طالوت= وقوله:"والذين آمنوا معه"، يعني: وجاوز النهر معه الذين آمنوا، قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده.
* * *
ثم اختلف في عدة من جاوز النهر معه يومئذ، ومن قال منهم:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".
فقال بعضهم: كانت عدتهم عدة أهل بدر: ثلثمئة رجل وبضعة عشر رجلا.
* ذكر من قال ذلك:
5724- حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام= وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري= قالا جميعا، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن عدة أصحاب بدر على عدة أصحاب طالوت الذين جاوزوا النهر معه، ولم يجز معه إلا مؤمن: ثلثمئة وبضعة عشر رجلا. (1)
5725- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أنَّ أصحاب بدر يوم بدر كعدة أصحاب طالوت، ثلثمئة رجل وثلاثة عشر رجلا الذين جاوزوا النهر. (2)
__________
(1) الحديث: 5724 - هذا الحديث عن البراء بن عازب في عدة أهل بدر. وقد رواه الطبري بستة أسانيد، كلها عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب.
ورواه أحمد في المسند 4: 290 (حلبي) ، عن وكيع عن أبيه -هو الجراح بن مليح- وسفيان. وهو الثوري، وإسرائيل، ثلاثتهم عن أبي إسحاق، عن البراء.
ورواه البخاري 8: 228، من طريق زهير، ومن طريق إسرائيل، ومن طريق الثوري - ثلاثتهم عن أبي إسحاق، به.
وذكره ابن كثير 1: 603، عن روايات الطبري، ملخصة الأسانيد. ثم ذكر أنه رواه البخاري.
وذكره السيوطي 1: 318، وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الدلائل. ولكنه نسي أن ينسبه لأحمد.
(2) الحديث: 5725-أبو بكر-الراوى عن أبي إسحاق: هو ابن عياش.
وقد ذكر أخي السيد محمود محمد شاكر أنه وجد في المخطوطة، في آخر هذا الحديث"كلمة غريبة جدا، بعد قوله" الذين جاوزوا النهر" وهي"فسكت"-واضحة جدا. ولم أجدها في مكان آخر ولم أستطع أن أعرف ما هي. وقد حذفت في المطبوعة".
وأقول: إني لم أجد-أيضًا- هذه الكلمة، ولم أستطع أن أعرف ما هي؟ ولذلك رأينا حذفها من مطبوعتنا هذه، مع بيان ذلك، أداء للأمانة العلمية.(5/346)
5726- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا على عدة أصحاب طالوت من جاز معه، وما جاز معه إلا مؤمن. (1)
5727- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء بنحوه. (2)
5728- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كنا نتحدث أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يوم بدر على عدة أصحاب طالوت يوم جاوزوا النهر، وما جاوز معه إلا مسلم. (3)
5729- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مسعر، عن أبي إسحاق، عن البراء مثله. (4)
5730- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة
__________
(1) احديث: 5726-أبو عامر: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو.
(2) الحديث: 5727-والد وكيع: هو الجراح بن مليح بن عدي الرؤاسي، وهو ثقة، تكلم فيه بغير حجة، كما بينا في شرح المسند، في الحديث: 650. ورواية وكيع عن أبيه هذا الحديث- هي إحدى روايات المسند، التي أشرنا إليها في الحديث الماضي: 5724.
(3) الحديث: 5728-مؤمل: هو ابن إسماعيل العدوى. وسفيان-في هذا والذي قبله: هو الثوري.
(4) الحديث: 5729 -أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. مسعر: هو ابن كدام، مضت ترجمته في: 1974.(5/347)
أصحاب طالوت يوم لقي. وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر رجلا.
5731- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: محص الله الذين آمنوا عند النهر، وكانوا ثلثمئة، وفوق العشرة ودون العشرين، فجاء داود صلى الله عليه وسلم فأكمل به العدة.
* * *
وقال آخرون: بل جاوز معه النهر أربعة آلاف، وإنما خلص أهل الإيمان منهم من أهل الكفر والنفاق، حين لقوا جالوت.
* ذكر من قال ذلك:
5732- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: عبر مع طالوت النهر من بني إسرائيل أربعة آلاف، فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه فنظروا إلى جالوت، رجعوا أيضا وقالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". فرجع عنه أيضا ثلاثة آلاف وستمئة وبضعة وثمانون، وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر، عدة أهل بدر. (1)
5733- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: لما جاوزه هو والذين آمنوا معه، قال الذين شربوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في ذلك بالصواب ما روي عن ابن عباس وقاله السدي; وهو أنه جاوز النهر مع طالوت المؤمن الذي لم يشرب من النهر إلا الغرفة، والكافر الذي شرب منه الكثير. ثم وقع التمييز بينهم بعد ذلك برؤية جالوت
__________
(1) الأثر: 5732 -هو جزء من الأثر الطويل الذى رواه في التاريخ 1: 242- 243، وجزأه في التفسير، كما أشرنا إليه في التعليق على الأثر: 5720. ورواية أبي جعفر هنا: "وخلص في ثلثمئة وبضعة عشر"، وفي التاريخ"وتسعة عشر".(5/348)
ولقائه، وانخزل عنه أهل الشرك والنفاق= (1) وهم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده" = ومضى أهل البصيرة بأمر الله على بصائرهم، وهم أهل الثبات على الإيمان، فقالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".
* * *
فإن ظن ذو غفلة أنه غير جائز أن يكون جاوز النهر مع طالوت إلا أهل الإيمان الذين ثبتوا معه على إيمانهم، ومن لم يشرب من النهر إلا الغرفة، لأن الله تعالى ذكره قال:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه"، فكان معلوما أنه لم يجاوز معه إلا أهل الإيمان، على ما روي به الخبر عن البراء بن عازب، ولأن أهل الكفر لو كانوا جاوزوا النهر كما جاوزه أهل الإيمان، لما خص الله بالذكر في ذلك أهل الإيمان= (2) فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن. وذلك أنه غير مستنكر أن يكون الفريقان- أعني فريق الإيمان وفريق الكفر جاوزوا النهر، وأخبر الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، عن المؤمنين بالمجاوزة، لأنهم كانوا من الذين جاوزوه مع ملكهم وترك ذكر أهل الكفر، وإن كانوا قد جاوزوا النهر مع المؤمنين.
والذي يدل على صحة ما قلنا في ذلك، قول الله تعالى ذكره:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا: لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، فأوجب الله تعالى ذكره أن"الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، هم الذين قالوا عند مجاوزة النهر:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، دون غيرهم الذين لا يظنون أنهم ملاقو
__________
(1) في المطبوعة: "وانخذل عنه"، بالذال، وهو خطأ غث لا يقال هنا، والصواب في المخطوطة. وانخزل عنه: انقطع وانفرد، وفي حديث آخر: "انخزل عبد الله بن أبي من ذلك المكان"، أي انفرد ورجع بقومه.
(2) السياق: "فإن ظن ذو غفلة00 فإن الأمر في ذلك بخلاف ما ظن".(5/349)
الله- وأن"الذين لا يظنون أنهم ملاقو الله"، هم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده". وغير جائز أن يضاف الإيمان إلى من جحد أنه ملاقي الله، أو شك فيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَالُوا لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في أمر هذين الفريقين= أعني القائلين:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"، والقائلين:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، من هما؟
فقال بعضهم: الفريق الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"، هم أهل كفر بالله ونفاق، وليسوا ممن شهد قتال جالوت وجنوده، لأنهم انصرفوا عن طالوت ومن ثبت معه لقتال عدو الله جالوت ومن معه، وهم الذين عصوا أمر الله لشربهم من النهر.
* ذكر من قال ذلك:
5734- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي بذلك.
* * *
وهو قول ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه آنفا. (2)
* * *
5735- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن
__________
(1) هذه حجة بينة ماضية، تتضمن من البصر والفهم والدقة ما ينبغي أن يوقف عنده.
(2) انظر الأثر رقم: 5722.(5/350)
ابن جريج:"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، الذين اغترفوا وأطاعوا، الذين مضوا مع طالوت المؤمنون، وجلس الذين شكوا.
* * *
وقال آخرون: كلا الفريقين كان أهل إيمان، ولم يكن منهم أحد شرب من الماء إلا غرفة، بل كانوا جميعا أهل طاعة، ولكن بعضهم كان أصح يقينا من بعض. وهم الذين أخبر الله عنهم أنهم قالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله". والآخرون كانوا أضعف يقينا. وهم الذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده".
* ذكر من قال ذلك:
5736- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين"، ويكون [والله] المؤمنون بعضهم أفضل جدا وعزما من بعض، وهم مؤمنون كلهم. (1)
5737- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله"، أن النبي قال لأصحابه يوم بدر: أنتم بعدة أصحاب طالوت: ثلثمئة. = قال قتادة: وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر ثلثمئة وبضعة عشر.
5438- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: الذين لم يأخذوا الغرفة أقوى من الذين أخذوا، وهم الذين قالوا:"كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين".
* * *
ويجب على القول الذي روي عن البراء بن عازب: أنه لم يجاوز النهر مع طالوت
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من المخطوطة.(5/351)
إلا عدة أصحاب بدر- أن يكون كلا الفريقين اللذين وصفهما الله بما وصفهما به، أمرهما على نحو ما قال فيهما قتادة وابن زيد.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين في تأويل الآية ما قاله ابن عباس والسدي وابن جريج، وقد ذكرنا الحجة في ذلك فيما مضى قبل آنفا. (1)
* * *
وأما تأويل قوله:"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، فإنه يعني: قال الذين يعلمون ويستيقنون أنهم ملاقو الله. (2)
5739- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي"قال الذين يظنون أنهم ملاقو الله"، الذين يستيقنون.
* * *
فتأويل الكلام: قال الذين يوقنون بالمعاد ويصدقون بالمرجع إلى الله، للذين قالوا:"لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده"="كم من فئة قليلة"، يعني ب"كم"، كثيرا، غلبت فئة قليلة="فئة كثيرة بإذن الله"، يعني: بقضاء الله وقدره= (3) "والله مع الصابرين"، يقول: مع الحابسين أنفسهم على رضاه وطاعته. (4)
* * *
وقد أتينا على البيان عن وجوه"الظن"، وأن أحد معانيه: العلم اليقين، بما يدل على صحة ذلك فيما مضى، فكرهنا إعادته. (5)
* * *
وأما"الفئة"، فإنهم الجماعة من الناس، لا واحد له من لفظه، وهو مثل"الرهط" و"النفر"، يجمع (6) "فئات"، و"فئون" في الرفع، و"فئين" في
__________
(1) انظرما سلف: 349، 350.
(2) انظر القول في قوله: "ملاقو الله" فيما سلف 2: 20-22 /4: 419.
(3) انظر تفسي"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450/ 4: 287، 371.
(4) انظر معنى"الصبر" فيما سلف 2: 11، 124/ 3: 214، 349، وفهارس اللغة.
(5) انظر ما سلف 2: 17 - 20/ ثم: 265.
(6) في المطبوعة: "جمعه"، وأثبت ما في المخطوطة.(5/352)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250)
النصب والخفض، بفتح نونها في كل حال. و"فئين" بالرفع بإعراب نونها بالرفع وترك الياء فيها، وفي النصب"فئينا"، وفي الخفض"فئين"، فيكون الإعراب في الخفض والنصب في نونها. وفي كل ذلك مقرة فيها"الياء" على حالها. فإن أضيفت قيل:"هؤلاء فئينك"، (1) بإقرار النون وحذف التنوين، كما قال الذين لغتهم:"هذه سنين"، في جمع"السنة"=:"هذه سنينك"، بإثبات النون وإعرابها وحذف التنوين منها للإضافة. وكذلك العمل في كل منقوص مثل"مئة" و"ثبة" و"قلة" و"عزة": فأما ما كان نقصه من أوله، فإن جمعه بالتاء، مثل"عدة وعدات"، و"صلة وصلات".
* * *
وأما قوله:"والله مع الصابرين" فإنه يعني: والله معين الصابرين على الجهاد في سبيله وغير ذلك من طاعته، وظهورهم ونصرهم على أعدائه الصادين عن سبيله، المخالفين منهاج دينه.
* * *
وكذلك يقال لكل معين رجلا على غيره:"هو معه"، بمعنى هو معه بالعون له والنصرة. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولما برزوا لجالوت وجنوده"، ولما برز طالوت وجنوده لجالوت وجنوده.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: " فئنك"، وهو خطأ.
(2) انظر تفسير"فيما سلف 3: 214.(5/353)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251)
ومعنى قوله:"برزوا" صاروا بالبراز من الأرض، وهو ما ظهر منها واستوى. ولذلك قيل للرجل القاضي حاجته:"تبرز"، لأن الناس قديما في الجاهلية، إنما كانوا يقضون حاجتهم في البراز من الأرض. وذلك كما قيل: (1) "تغوط"، لأنهم كانوا يقضون حاجتهم في"الغائط" من الأرض، وهو المطمئن منها، فقيل للرجال:"تغوط" أي صار إلى الغائط من الأرض.
* * *
وأما قوله:"ربنا أفرغ علينا صبرا"، فإنه يعني أن طالوت وأصحابه قالوا:"ربنا أفرغ علينا صبرا"، يعني أنزل علينا صبرا.
* * *
وقوله:"وثبت أقدامنا"، يعني: وقو قلوبنا على جهادهم، لتثبت أقدامنا فلا نهزم عنهم="وانصرنا على القوم الكافرين"، الذين كفروا بك فجحدوك إلها وعبدوا غيرك، واتخذوا الأوثان أربابا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فهزموهم"، (2) فهزم طالوت وجنوده أصحاب جالوت، وقتل داود جالوت.
وفي هذا الكلام متروك، ترك ذكره اكتفاء بدلالة ما ظهر منه عليه. وذلك أن معنى الكلام:"ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "لذلك كما قيل"، والسياق يقتضي ما أثبت، وليست"لذلك" من تمام الجملة السالفة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "يعني تعالى ذكره بقوله فهزم طالوت ... "، والسياق يقتضي زيادة"فهزموهم" من نص الآية.(5/354)
أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"، فاستجاب لهم ربهم، فأفرغ عليهم صبره وثبت أقدامهم، ونصرهم على القوم الكافرين="فهزموهم بإذن الله" ولكنه ترك ذكر ذلك اكتفاء بدلالة قوله:"فهزموهم بإذن الله"، على أن الله قد أجاب دعاءهم الذي دعوه به.
* * *
ومعنى قوله:"فهزموهم بإذن الله"، فلوهم بقضاء الله وقدره. (1) يقال منه:"هزم القوم الجيش هزيمة وهزيمى". (2)
* * *
"وقتل داود جالوت". وداود هذا هو داود بن إيشى، (3) نبي الله صلى الله عليه وسلم. وكان سبب قتله إياه، كما: -
5740- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا بكار بن عبد الله قال، سمعت وهب بن منبه يحدث قال: لما خرج= أو قال: لما برز= طالوت لجالوت، قال جالوت: أبرزوا إلي من يقاتلني، فإن قتلني فلكم ملكي، وإن قتلته فلي ملككم! فأتي بداود إلى طالوت، فقاضاه إن قتله أن ينكحه ابنته، (4) وأن يحكمه في ماله. فألبسه طالوت سلاحا، فكره داود أن يقاتله بسلاح، (5) وقال: إن الله لم ينصرني عليه، لم يغن السلاح! فخرج إليه بالمقلاع، وبمخلاة فيها أحجار، ثم برز له. قال له جالوت: أنت تقاتلني! ! قال داود:
__________
(1) انظر معنى الإذن فيما سلف قريبا: 352، تعليق: 3. ومراجعة هناك، وأما قوله"فلوهم"، فهو من قولهم: " فللت الجيش فلا"، هزمته وكسرته. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "قتلوهم" من القتل، وهو خطأ لا خير فيه، فإن الهزيمة الانكسار، لا القتل. وهزمه: كسره، لا قتله.
(2) " هزيمى" بكسر الهاء وتشديد الزاى المكسورة، وميم مفتوحة للألف المقصورة.
(3) (يسى) في كتاب القوم، (صموئيل الأول: الإصحاح السابع عشر) .
(4) قاضاه على كذا: صالحه عليه، وهو من القضاء الفصل والحكم، ومثله ما جاء في صلح الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد".
(5) قوله" بسلاح" ليست في المطبوعة ولا المخطوطة، وهي لا غنى عنها، زدتها من نص الأثر في الدر المنثور 1: 318- 319.(5/355)
نعم! قال: ويلك! ما خرجت إلا كما يخرج إلى الكلب بالمقلاع والحجارة! (1) لأبددن لحمك، (2) ولأطعمنّه اليوم الطير والسباع! فقال له داود: بل أنت عدو الله شر من الكلب! فأخذ داود حجرا ورماه بالمقلاع، فأصابت بين عينيه حتى نفذ في دماغه، (3) فصرع جالوت وانهزم من معه، واحتز داود رأسه. فلما رجعوا إلى طالوت، ادّعى الناس قتل جالوت، فمنهم من يأتي بالسيف، وبالشيء من سلاحه أو جسده، وخبأ داود رأسه. فقال طالوت: من جاء برأسه فهو الذي قتله! فجاء به داود، ثم قال لطالوت: أعطني ما وعدتني! فندم طالوت على ما كان شرط له، وقال: إن بنات الملوك لا بد لهن من صداق وأنت رجل جريء شجاع، فاحتمل صداقها ثلثمئة غلفة من أعدائنا. (4) وكان يرجو بذلك أن يقتل داود. فغزا داود وأسر منهم ثلثمئة وقطع غلفهم، وجاء بها. فلم يجد طالوت بدا من أن يزوجه، ثم أدركته الندامة. فأراد قتل داود حتى هرب منه إلى الجبل، فنهض إليه طالوت فحاصره. فلما كان ذات ليلة سلط النوم على طالوت وحرسه، فهبط إليهم داود فأخذ إبريق طالوت الذي كان يشرب منه ويتوضأ، وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه، (5) ثم رجع داود إلى مكانه فناده: أن [قد نمت ونام] حرسك، (6) فإني لو شئت أقتلك البارحة فعلت، فإنه هذا إبريقك، وشيء من شعر لحيتك وهدب ثيابك! وبعث [به] إليه، (7) فعلم طالوت أنه لو شاء قتله، فعطفه ذلك عليه فأمنه، وعاهده بالله لا يرى منه بأسا. ثم انصرف. ثم كان في آخر أمر طالوت أنه كان يدس لقتله. وكان طالوت لا يقاتل عدوا إلا هزم، حتى مات= قال بكار: وسئل وهب وأنا أسمع: أنبيا كان طالوت يوحى إليه؟ فقال: لم يأته وحي، ولكن كان معه نبي يقال له أشمويل يوحى إليه، وهو الذي ملك طالوت.
5741- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق قال، كان داود النبي وإخوة له أربعة، معهم أبوهم شيخ كبير، فتخلف أبوهم، وتخلف معه داود من بين إخوته في غنم أبيه يرعاها له، وكان من أصغرهم. وخرج إخوته الأربعة مع طالوت، فدعاه أبوه وقد تقارب الناس ودنا بعضهم من بعض.
= قال ابن إسحاق: وكان داود، فيما ذكر لي بعض أهل العلم عن وهب بن منبه: رجلا قصيرا أزرق، (8) قليل شعر الرأس، وكان طاهر القلب نقيه= (9) فقال له أبوه: يا بني، إنا قد صنعنا لإخوتك زادا يتقوون به على عدوهم، فاخرج به إليهم، فإذا دفعته إليهم فأقبل إلي سريعا! فقال: أفعل. فخرج وأخذ معه ما حمل لإخوته، ومعه مخلاته التي يحمل فيها الحجارة، ومقلاعه الذي كان يرمي به عن غنمه. حتى إذا فصل من عند أبيه، فمر بحجر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت، فإني حجر يعقوب! فأخذه فجعله في مخلاته، ومشى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر آخر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي
__________
(1) في المخطوطة: "أما رحب إلا كما تخرج"، وفي المطبوعة: "إما تخرج إلي إلا كما يخرج" والذي في الدر المنثور، إقرب إلى ما في المخطوطة، مع نسخ الناسخ في هذا الموضع خاصة.
(2) في المخطوطة: "لأردن لحمك"، وكأن ما في المطبوعة هو الصواب، وكذلك هو في الدر المنثور.
(3) في المطبوعة والدر المنثور: "فأصابت بين عينيه ونفذت"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) الغلفة والغرلة والقلفة (بضم أولها وسكون ثانيها"، هو الغشاء الذي يقع عليه الختان من عورة الرجل.
(5) هدب الثوب وهدبته: طرفه مما يلي طرته.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "فناداه أن ... حرسك" بياض بينهما، وهكذا رأيت أن تكون ولو اختار أن تكون: "أن بدل حرسك"، لكان حسنا أيضًا.
(7) ما بين القوسين زيادة يتقضيها السياق.
(8) قوله: "أزرق"، يريد أزرق العينين، وكانت العرب تتشاءم من الزرق. (انظر الحيوان 5: 330- 333) .
(9) هذه الفقرة من الأثر، رواها أبو جعفر في تاريخه 1: 247.(5/356)
جالوت، فإني حجر إسحاق! فأخذه فجعله في مخلاته، ثم مضى. فبينا هو يمشي إذ مر بحجر فقال: يا داود! خذني فاجعلني في مخلاتك تقتل بي جالوت، فإني حجر إبراهيم! فأخذه فجعله في مخلاته. ثم مضى بما معه حتى انتهى إلى القوم، فأعطى إخوته ما بعث إليهم معه. وسمع في العسكر خوض الناس بذكر جالوت وعظم شأنه فيهم، (1) وبهيبة الناس إياه، وبما يعظمون من أمره، (2) فقال لهم: والله إنكم لتعظمون من أمر هذا العدو شيئا ما أدري ما هو! ! والله إني لو أراه لقتلته! فأدخلوني على الملك. فأدخل على الملك طالوت، فقال: أيها الملك، إني أراكم تعظمون شأن هذا العدو! والله إني لو أراه لقتلته! فقال: يا بني! ما عندك من القوة على ذلك؟ (3) وما جربت من نفسك؟ (4) قال: قد كان الأسد يعدو على الشاة من غنمي فأدركه، فآخذ برأسه، فأفك لحييه عنها، فآخذها من فيه، (5) فادع لي بدرع حتى ألقيها علي. فأتي بدرع فقذفها في عنقه، ومثل فيها ملء عين طالوت ونفسه ومن حضره من بني إسرائيل، (6) فقال طالوت: والله، لعسى الله أن يهلكه به! فلما أصبحوا رجعوا إلى جالوت، فلما التقى الناس قال داود: أروني جالوت! فأروه إياه على فرس عليه لأمته، (7) فلما رآه جعلت الأحجار الثلاثة تواثب من مخلاته، فيقول هذا: خذني! ويقول هذا: خذني! ويقول هذا: خذني! فأخذ أحدها فجعله في مقذافه، ثم فتله به، ثم أرسله، فصك به بين عيني جالوت فدمغه، (8) وتنكس عن دابته، فقتله. ثم انهزم جنده، وقال الناس: قتل داود جالوت! وخلع طالوت وأقبل الناس على داود مكانه، حتى لم يسمع لطالوت بذكر= إلا أن أهل الكتاب يزعمون أنه لما رأى انصراف بني إسرائيل عنه إلى داود، هم بأن يغتال داود وأراد قتله، فصرف الله ذلك عنه وعن داود، وعرف خطيئته، والتمس التوبة منها إلى الله.
* * *
وقد روي عن وهب بن منبه في أمر طالوت وداود قول خلاف الروايتين اللتين ذكرنا قبل، وهو ما: -
5742- حدثني به المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم قال، حدثني عبد الصمد بن معقل: أنه سمع وهب بن منبه قال: لما سلمت بنو إسرائيل الملك لطالوت، أوحى إلى نبي بني إسرائيل: (9) أن قل لطالوت فليغز أهل مدين، فلا يترك فيها حيا إلا قتله، فإني سأظهره عليهم. فخرج بالناس حتى أتى مدين، فقتل من كان فيها إلا ملكهم فإنه أسره، وساق مواشيهم. فأوحى الله إلى أشمويل: ألا تعجب من طالوت إذ أمرته بأمري فاختل فيه، (10) فجاء بملكهم أسيرا، وساق مواشيهم! فالقه. فقل له: لأنزعن الملك من بيته ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة، فإني إنما أكرم من أطاعني، وأهين من هان
__________
(1) في المخطوطة: "سمع دوحرص الناس بذكر جالوت"، ولم يتبين لي كيف كانت، ولا ما هي، فتركت ما في المطبوعة على حاله، فإنه قريب المعنى صحيحه.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "ومما يعظمون"، وما أثبت أشبه بالسياق. والمخطوطة كثيرة التحريف والتصحيف هنا كما ترى.
(3) في المطبوعة: "فأتني ما عندك من القوة"، وهو كلام سخيف. والصواب من المخطوطة، لم يحسن الطابع أو الناسخ قراءتها. والنظر ما سيأتي في الأثر: 5742، وقوله: "يا بني"، وسؤاله: "هل آنست من نفسك شيئا"، ص:
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "ومما جربت"، والسياق يوجب ما أثبت.
(5) اللحيان العظمان اللذان فيهما الأسنان. وهما حائطا الفم، الواحد"لحى" (بفتح فسكون) .
(6) في المطبوعة: " ومثل فيها فملأ عين طالوت"، وفي المخطوطة: "وسل فيها مل عين طالوت".
غير منقوطة ولا بينة. وأثبت"مثل" من المطبوعة، وكأنها قربية من الصواب. وفي المطبوعة: "ومن حضر"، وأثبت في المخطوطة.
(7) اللأمة (بفتح فسكون) : الدرع الحصينة وبيضة الرأس، من لباس الحرب.
(8) دمغه دمغا: شجه، حتى بلغت الشجة الدماغ. وهذه الشجة تسمى"الدامغة".
(9) في المخطوطة: "أوحى إلى بني بني إسرائيل"، وفي المطبوعة: "أوحى إلى نبي بني إسرائيل"، وأثبت ما في تاريخ الطبري.
(10) في المطبوعة: "فاختان فيه"، من الخيانة. وكان في المخطوطة: " فاختار فيه"، من الاختيار، أي اختار ما شاء منه ولم ينفذه على وجهه تماما. وأثبت ما في التاريخ. و"اختل" من الخلل: وهو الفساد والوهن في الأمر، وترك إبرامه وإحكامه. يقال: "أخل بالأمر"، لم يف به. و"أخل بمكانه": غاب عنه وتركه. فمعنى"أختل فيه". أي ضعف فيه وأدخل عليه الخلل. ولم أجد نصها في كتب اللغة، ولكنها عربية البناء.
هذا، وكان في المخطوطة والمطبوعة: " إذ أمرته فاختان"، بحذف"بأمري"، وأثبتها من التاريخ.(5/358)
عليه أمري! فلقيه فقال له: (1) ما صنعت!! لم جئت بملكهم أسيرا، ولم سقتَ مواشيهم؟ قال: إنما سقت المواشي لأقربها. (2) قال له أشمويل: إن الله قد نزع من بيتك الملك، ثم لا يعود فيه إلى يوم القيامة! فأوحى الله إلى أشمويل: أن انطلق إلى إيشى، فيعرض عليك بنيه، فادهن الذي آمرك بدهن القدس، يكن ملكا على بني إسرائيل. فانطلق حتى أتى إيشى فقال: اعرض علي بنيك! فدعا إيشى أكبر ولده، فأقبل رجل جسيم حسن المنظر، فلما نظر إليه أشمويل أعجبه فقال: الحمد لله، إن الله لبصير بالعباد! فأوحى الله إليه: إن عينيك يبصران ما ظهر، وإني أطلع على ما في القلوب، ليس بهذا! فقال: ليس بهذا، (3) اعرض علي غيره، فعرض عليه ستة في كل ذلك يقول: ليس بهذا. فقال: هل لك من ولد غيرهم؟ فقال: بلى! لي غلام أمغر، (4) وهو راع في الغنم. فقال: أرسل إليه. فلما أن جاء داود، جاء غلام أمغر، فدهنه بدهن القدس وقال لأبيه: اكتم هذا، فإن طالوت لو يطلع عليه قتله. فسار جالوت في قومه إلى بني إسرائيل، فعسكر، وسار طالوت ببني إسرائيل وعسكر، وتهيئوا للقتال. فأرسل جالوت إلى طالوت: لم يقتل قومي وقومك؟ (5) ابرز لي، أو أبرز لي من شئت، فإن قتلتك كان الملك لي، وإن قتلتني كان الملك لك. فأرسل طالوت في عسكره صائحا: من يبرز لجالوت، فإن قتله فإن الملك يُنْكحه ابنته، ويشركه في ملكه. (6) فأرسل إيشى داود إلى إخوته= قال الطبري، هو أيشى، ولكن قال المحدث: إشى = (7) وكانوا في العسكر فقال: اذهب فزود إخوتك، (8) وأخبرني خبر الناس ماذا صنعوا؟ فجاء إلى إخوته وسمع صوتا: إن الملك يقول: من يبرز لجالوت! فإن قتله أنكحه الملك ابنته. فقال داود لإخوته: ما منكم رجل يبرز لجالوت فيقتله وينكح ابنة الملك؟ فقالوا: إنك غلام أحمق! ومن يطيق جالوت، وهو من بقية الجبارين!! فلما لم يرهم رغبوا في ذلك قال: فأنا أذهب فأقتله! فانتهروه وغضبوا عليه، فلما غفلوا عنه ذهب حتى جاء الصائح فقال: أنا أبرز لجالوت! فذهب به إلى الملك، فقال له: لم يجبني أحد إلا غلام من بني إسرائيل، هو هذا! قال: يا بني، أنت تبرز لجالوت فتقاتله! قال: نعم. قال: وهل آنست من نفسك شيئا؟ قال: نعم، كنت راعيا في الغنم فأغار علي الأسد، فأخذت بلحييه ففككتهما. فدعا له بقوس وأداة كاملة، فلبسها وركب الفرس، ثم سار منهم قريبا، ثم صرف فرسه، فرجع إلى الملك، فقال الملك ومن حوله: جبن الغلام! فجاء فوقف على الملك، فقال: ما شأنك؟ قال داود: إن لم يقتله الله لي، لم يقتله هذا الفرس وهذا السلاح! فدعني فأقاتل كما أريد. فقال: نعم يا بني. فأخذ داود مخلاته فتقلدها، وألقى فيها أحجارا، وأخذ مقلاعه الذي كان يرعى به، (9) ثم مضى نحو جالوت. فلما دنا من عسكره قال: أين جالوت يبرز لي؟ فبرز له على فرس عليه السلاح كله، فلما رآه جالوت قال: إليك أبرز؟! قال نعم. قال: فأتيتني بالمقلاع والحجر كم يؤتى إلى الكلب! قال: هو ذاك. قال: لا جرم أني سوف أقسم لحمك بين طير السماء وسباع الأرض! قال داود: أو يقسم الله لحمك! فوضع داود حجرا في مقلاعه ثم دوره فأرسله نحو جالوت، فأصاب أنف البيضة التي على جالوت حتى خالط دماغه، فوقع من فرسه. فمضى داود إليه فقطع رأسه بسيفه، فأقبل به في مخلاته، وبسلبه يجره، حتى ألقاه بين يدي طالوت، ففرحوا فرحا شديدا. وانصرف طالوت، فلما كان داخل المدينة سمع الناس يذكرون داود، فوجد في نفسه. (10) فجاءه داود فقال: أعطني امرأتي! فقال: أتريد ابنة الملك بغير صداق؟ فقال داود: ما اشترطت علي صداقا، وما لي من شيء!! قال: لا أكلفك إلا ما تطيق، أنت رجل جريء، وفي جبالنا هذه جراجمة يحتربون الناس، (11) وهم غلف، فإذا قتلت منهم مئتي رجل فأتني بغلفهم. (12) فجعل كلما قتل منهم رجلا نظم غلفته في خيط، حتى نظم مئتي غلفة. ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى بها إليه (13) فقال: ادفع إلي امرأتي، قد جئت بما اشترطت. فزوجه ابنته، (14) وأكثر الناس ذكر داود، وزاده عند الناس عجبا. (15) فقال طالوت لابنه: لتقتلن داود! قال: سبحان الله، ليس بأهل ذلك منك! قال: إنك غلام أحمق! ما أراه إلا سوف يخرجك وأهل بيتك من الملك! فلما سمع ذلك من أبيه انطلق إلى أخته فقال لها: إني قد خفت أباك أن يقتل زوجك داود، فمريه أن يأخذ حذره ويتغيب منه. فقالت له امرأته ذلك، فتغيب. فلما أصبح أرسل طالوت من يدعو له داود، وقد صنعت امرأته على فراشه كهيئة النائم ولحفته. فلما جاء رسول طالوت قال: أين داود؟ ليجب الملك! فقالت له: بات شاكيا ونام الآن، ترونه على الفراش. فرجعوا إلى طالوت فأخبروه ذلك، فمكث ساعة ثم أرسل إليه، فقالت: هو نائم لم يستيقظ بعد. فرجعوا إلى الملك فقال: ائتوني به وإن كان نائما! فجاؤوا إلى الفراش فلم يجدوا عليه أحدا، فجاؤوا الملك فأخبروه، فأرسل إلى ابنته فقال: ما حملك على أن تكذبين؟ قالت: هو أمرني بذلك، وخفت إن لم أفعل أمره أن يقتلني! وكان داود فارا في الجبل حتى قتل طالوت وملك داود بعده.
5743- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان طالوت أميرا على الجيش، فبعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فقال داود لطالوت: ماذا لي فأقتل جالوت؟ قال: لك ثلث ملكي، وأنكحك ابنتي. (16) فأخذ مخلاته، فجعل فيها ثلاث مروات، (17) ثم سمى حجارته تلك:"إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب"، ثم أدخل يده فقال: باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! فخرج على"إبراهيم"، فجعله في مرجمته، فخرقت ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه، وقتلت ثلاثين ألفا من ورائه.
5744- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: عبر يومئذ النهر مع طالوت أبو داود فيمن عبر، مع ثلاثة عشر ابنا له، وكان داود أصغر بنيه. فأتاه ذات يوم فقال: يا أبتاه، ما أرمي بقذافتي شيئا إلا صرعته! فقال: أبشر يا بني! فإن الله قد جعل رزقك في قذافتك. ثم أتاه مرة أخرى فقال: يا أبتاه، لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا، فركبت عليه فأخذت بأذنيه، فلم يهجني! (18) قال: أبشر يا بني! فإن هذا خير يعطيكه
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة بإسقاط"له"، وأثبتها من التاريخ.
(2) أي: لأجعلها قربانا لله، يذبحها قربانا.
(3) قوله: " فقال: ليس بهذا"، ساقطة من المخطوطة والمطبوعة، وأثبتها من التاريخ.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "بني لي غلام ... "، وأثبت ما في التاريخ. وقوله"أمغر" هنا، ليست في المخطوطة ولا المطبوعة، وأثبتها من التاريخ. والأمغر: الذي في وجهه حمرة وبياض. وفي كتاب القوم (صموئيل الأول، الإصحاح السادس عشر) أنه كان أشقر.
(5) في المطبوعة: "لم تقتل قومي وأقتل قومك"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(6) عند هذا الموضع، انتهى ما رواه الطبري في تاريخه 1: 247- 248 من هذا الأثر.
(7) هذه الجملة المعترضة ثابتة في المخطوطة، وحذفت من المطبوعة.
(8) في المخطوطة والمطبوعة: "فرد إخوتك"، وليس صحيحا، بل الصحيح أنه أرسله بزاد إلى إخوته كما سلف في الماضية، وكأن الصواب"فزود"، أو"بزاد إخوتك".
(9) هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وأجدر أن يقال: "يرمي به".
(10) وجد في نفسه: أي غضب، فلم يظهر غضبه، وحسده على ما أصاب من ذكر الناس له.
(11) الجراجمة: نبط الشام. واحتربه: استلبه وانتهبه، يقول: هم لصوص يستلبون الناس وينتهبونهم.
(12) الغلف (بضم فسكون) جمع أغلف"، وهو الذي لم يختتن. وأما"فأتني بغلفهم" فهو جمع غلفة (بضم فسكون) : وهي الغرلة التي يقع عليها الختان.
(13) في المخطوطة: "مئتي غلفة إلى طالوت"، وما بينهما بياض، وقد تركت ما في المطبوعة على حاله، لأنه سياق لا بأس به، إلا أنه كان فيها: "ثم جاء بهم إلى طالوت فألقى إليه"، فجعلتها كما ترى.
(14) في المخطوطة: "قد ... وأكثر الناس" ما بعد"قد" بياض، وتركت ما في المطبوعة على حاله، لوفائه بالسياق.
(15) كأنها في المخطوطة تقرأ: " ورأوه عند الناس عجبا"، ولكني لم أستطع تحققها، فتركت ما في المطبوعة كما هو، فهو قريب المعنى.
(16) في المطبوعة: "ثلث مالي"، والذى في المخطوطة: "ثلث مللى"، فرجحت أنها"ملكي" لما سيأتي في الأثر رقم: 5744، 5747.
(17) مروات جمع مروة، والمرو: حجارة بيض براقة، تكون فيها النار، والمرو أصلب الحجارة.
(18) هاج الشيء يهيجه: أزعجه ونفره. يعني: لم يزعجني عن مكاني منه.(5/360)
الله. ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه إني لأمشي بين الجبال فأسبّح، فما يبقى جبل إلا سبح معي! فقال: أبشر يا بني! فإن هذا خير أعطاكه الله. وكان داود راعيا، وكان أبوه خلفه يأتي إليه وإلى إخوته بالطعام. (1) فأتى النبي (2) [عليه السلام] بقرن فيه دهن، (3) وسَنَوَّرٍ من حديد، (4) فبعث به إلى طالوت فقال: إن صاحبكم الذي يقتل جالوت يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي حتى يدهن منه، ولا يسيل على وجهه، يكون على رأسه كهيئة الإكليل، ويدخل في هذا السَّنَوَّر فيملأه. (5) فدعا طالوت بني إسرائيل فجربهم به، فلم يوافقه منهم أحد. (6) فلما فرغوا، قال طالوت لأبي داود: هل بقي لك من ولد لم يشهدنا؟ قال: نعم! بقي ابني داود، وهو يأتينا بطعام. (7) فلما أتاه داود، مر في الطريق بثلاثة أحجار فكلمنه وقلن له: خذنا يا داود تقتل بنا جالوت! قال: فأخذهن فجعلهن في مخلاته. وكان طالوت قال: من قتل جالوت زوجته ابنتي وأجريت خاتمه في ملكي. فلما جاء داود، وضعوا القرن على رأسه فغلى حتى ادهن منه، ولبس السَّنَوَّر فملأه= وكان رجلا مسقاما مصفارا= (8) ولم يلبسه أحد إلا تقلقل فيه. فلما لبسه داود تضايق الثوب عليه حتى تنقض. (9) . ثم مشى إلى جالوت= وكان جالوت من أجسم الناس وأشدهم= فلما نظر إلى داود قذف في قلبه الرعب منه، فقال له: يا فتى! ارجع، فإني أرحمك أن أقتلك! قال داود: لا بل أنا أقتلك! فأخرج الحجارة فجعلها في القذافة، كلما رفع حجرا سماه، (10) فقال: هذا باسم أبي إبراهيم، والثاني باسم أبي إسحاق، والثالث باسم أبي إسرائيل. ثم أدار القذافة فعادت الأحجار حجرا واحدا، ثم أرسله فصك به بين عيني جالوت، فنقبتُ رأسَه فقتلته، (11) ثم لم تزل تقتل كل إنسان تصيبه، تنفذ منه حتى لم يكن يحيا لها أحد. فهزموهم عند ذلك، وقتل داود جالوت، ورجع طالوت، فأنكح داود ابنته، وأجرى خاتمه في ملكه. فمال الناس إلى داود فأحبوه. فلما رأى ذلك طالوت وجد في نفسه وحسده، فأراد قتله. فعلم به داود أنه يريد به ذلك، فسجى له زق خمر في مضجعه، (12) فدخل طالوت إلى منام داود وقد هرب داود، فضرب الزق ضربة فخرقه، فسالت الخمر منه، فوقعت قطرة من خمر في فيه، فقال: يرحم الله داود! ما كان أكثر شربه للخمر!! ثم إن داود أتاه من القابلة في بيته وهو نائم، فوضع سهمين عند رأسه، وعند رجليه، وعن يمينه وعن شماله سهمين سهمين، (13) ثم نزل. فلما استيقظ طالوت بصر بالسهام فعرفها، فقال: يرحم الله داود! هو خير مني، ظفرت به فقتلته، وظفر بي فكف عني! ثم إنه ركب يوما فوجده يمشي في البرية وطالوت على فرس، فقال طالوت: اليوم أقتل داود! = وكان داود إذا فزع لا يدرك= فركض على أثره طالوت، ففزع داود فاشتد فدخل غارا، (14) وأوحى الله إلى العنكبوت فضربت عليه بيتا. فلما انتهى طالوت إلى الغار، نظر إلى بناء العنكبوت فقال: لو كان دخل ها هنا لخرق بيت العنكبوت!! فخيل إليه، (15) فتركه. (16)
5745- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ذكر لنا أن داود حين أتاهم كان قد جعل معه مخلاة فيها ثلاثة أحجار. وإن جالوت برز لهم فنادى: ألا رجل لرجل! فقال طالوت: من يبرز له؟ وإلا برزت له؟ فقام داود فقال: أنا! فقام له طالوت فشد عليه درعه، فجعل يراه يشخص فيها ويرتفع، (17) فعجب من ذلك طالوت، فشد عليه أداته كلها= وإن داود رماهم بحجر من تلك الحجارة، فأصاب في القوم، ثم رمى الثانية بحجر، فأصاب فيهم، ثم رمى الثالثة فقتل جالوت. فآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء، وصار هو الرئيس عليهم، وأعطوه الطاعة.
5746- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلإ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) ، فقرأ حتى بلغ: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلا قَلِيلا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) ، قال: أوحى الله إلى نبيهم: إن في ولد فلان رجلا يقتل الله به جالوت، ومن علامته هذا القرن تضعه على رأسه فيفيض ماء. فأتاه فقال: إن الله أوحى إلي أن في ولدك رجلا
__________
(1) في تاريخ الطبري: "يأتي أبيه وإلي إخوته"، والصواب ما في التفسير.
(2) قوله: "فأتى النبي ... " إلى آخر الكلام، يوهم القارئ أنه منقطع، وليس كذلك، فإن الطبري كعادته يقسم الأثر ويجزئه في مواضع من تفسيره. وهذا الأثر الذي هنا، تتمة الآثار السالفة: 5720، 5732، كما أشرنا إليه في التعليق هناك، وكما سنشير إليه بعد. والنبي هو شمعون، كما مضى في تلك الآثار.
(3) انظر تفسير"القرن" فيما سلف: 307، تعليق: 1.
(4) في المطبوعة: "وبثوب من حديد" ومثله في الدر المنثور، وهو خطأ، وفي المخطوطة في المواضع الآتية كلها، وفي تاريخ الطبري، وتفسير البغوي: "وتنور من حديد"، والتنور: نوع من الكموانين، وهو لا يصلح هنا. أما"السنور" (بفتح السين والنون والواو المشدة المفتوحة) : فهو لبوس من قد (وهو الجلد المبوغ) يلبس في الحرب كالدرع. ورجح ذلك ما روي آنفًا ص: 358، أن داود أتي بدرع فقذفها في عنقه. وما سيأتي في رقم: 5746، 5747.
(5) في المطبوعة: "وبثوب من حديد" ومثله في الدر المنثور، وهو خطأ، وفي المخطوطة في المواضع الآتية كلها، وفي تاريخ الطبري، وتفسير البغوي: "وتنور من حديد"، والتنور: نوع من الكموانين، وهو لا يصلح هنا. أما"السنور" (بفتح السين والنون والواو المشدة المفتوحة) : فهو لبوس من قد (وهو الجلد المبوغ) يلبس في الحرب كالدرع. ورجح ذلك ما روي آنفًا ص: 358، أن داود أتي بدرع فقذفها في عنقه. وما سيأتي في رقم: 5746، 5747.
(6) في المخطوطة والمطبوعة: "فجربهم فلم يوافقه" بإسقاط"به" وأثبت ما في التاريخ.
(7) في المطبوعة: "بطعامنا"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(8) رجل مسقام، وامرأة مسقام أيضًا: كثير السقم لا يكاد يبرأ. مصفار من قولهم: اصفار لونه: غلبته، وذلك من المرض والضعف.
(9) يقال: تنقضت الغرفة وغيرها: تشققت، وسمع لها نقيض، وهو صوت التكسر والتشقق.
وكان في المطبوعة: "ينقض" بالياء التحتية، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(10) زدت"منها" من التاريخ.
(11) في المطبوعة: "فنقب رأسه فقتله"، والصواب من التاريخ، ومن المخطوطة على بعض الخطأ فيها.
(12) سجى الشيء والميت: غطاه ومد عليه ثوبا. والزق (بكسر الزاى) : جلد الشاة يسلخ من رجل واحدة، ومن رأسه وعنقه، ثم يعالج حتى يكون سقاء، وكانوا أكثر ما يتخذونه للخمر.
(13) في المخطوطة والمطبوعة: "سهمين" مرة واحدة، وأثبت ما في التاريخ، وهو الصواب.
وقوله بعد: "ثم نزل"، زيادة من التاريخ ليست في المخطوطة ولا المطبوعة.
(14) اشتد: عدا عدوا سريعا. والشد: العدو السريع.
(15) قوله: "خيل إليه"، يعني دخلته الشبهة في أمره، لما أشكل عليه، ولم أجد هذا التعبير بنصه في كتب اللغة، ولكنه صحيح العربية، من قولهم: "أخال الشيء": أي اشتبه.
(16) الأثر: 5744-هو تمام الآثار السالفة التي أشرت إليها في التعليق على الأثرين: 5720، 5732، كما أشرت إليه آنفًا في التعليقات القريبة. وهو في الدر المنثور1: 319، وتفسير البغوي (بهامش ابن كثير) 1: 604-608، بغير هذا اللفظ، وإن كان قريبا منه.
(17) شخص يشخص شخوصا: ارتفع وعلا.(5/364)
يقتل الله به جالوت! (1) فقال: نعم يا نبي الله! قال: فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري، (2) وفيهم رجل بارع عليهم، (3) فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا، فيقول لذلك الجسيم: ارجع! فيردده عليه. فأوحى الله إليه: إنا لا نأخذ الرجال على صورهم، ولكنا نأخذهم على صلاح قلوبهم. قال: يا رب، قد زعم أنه ليس له ولد غيره! فقال: كذب! فقال: إن ربي قد كذبك! وقال: إن لك ولدا غيرهم! فقال: صدق يا نبي الله، (4) . لي ولد قصير استحييت أن يراه الناس، فجعلته في الغنم! قال: فأين هو؟ قال في شعب كذا وكذا، من جبل كذا وكذا. فخرج إليه، فوجد الوادي قد سال بينه وبين البقعة التي كان يريح إليها، (5) قال: ووجده يحمل شاتين يجيز بهما ولا يخوض بهما السيل. (6) فلما رآه قال: هذا هو لا شك فيه! هذا يرحم البهائم، فهو بالناس أرحم! قال: فوضع القرن على رأسه ففاض. (7) فقال له: ابن أخي! هل رأيت ها هنا من شيء يعجبك؟ (8) قال: نعم، إذا سبحت، سبحت معي الجبال، وإذا أتى النمر أو الذئب أو السبع أخذ شاة، قمت إليه فافتح لحييه عنها فلا يهيجني! قال: وألفى معه صفنه. (9) قال: فمر بثلاثة أحجار ينتزى بعضها على بعض، (10) كل واحد منها يقول: أنا الذي يأخذ! ويقول هذا: لا! بل إياي يأخذ! ويقول الآخر مثل ذلك. قال: فأخذهن جميعا فطرحهن في صُفْنِه. فلما جاء مع النبي صلى الله عليه وسلم وخرجوا، قال لهم نبيهم:"إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا"، فكان من قصة نبيهم وقصتهم ما ذكر الله في كتابه، وقرأ حتى بلغ:"والله مع الصابرين". قال: واجتمع أمرهم وكانوا جميعا، وقرأ:"وانصرنا على القوم الكافرين". (11) وبرز جالوت على بِرْذَوْن له أبلق، في يده قوس نُشَّاب، (12) فقال: من يبرز؟ أبرزوا إلي رأسكم! قال: ففظع به طالوت، (13) قال: فالتفت إلى أصحابه فقال: من رجل يكفيني اليوم جالوت؟ فقال داود: أنا. فقال: تعال! قال: فنزع درعا له، فألبسه إياها. قال: ونفخ الله من روحه فيه حتى ملأه. قال: فرمى بنشابة فوضعها في الدرع. قال: فكسرها داود ولم تضره شيئا، ثلاث مرات، ثم قال له: خذ الآن! فقال داود: اللهم اجعله حجرا واحدا. قال: وسمى واحدا إبراهيم، وآخر إسحاق، وآخر يعقوب. قال: فجمعهن جميعا فكن حجرا واحدا. قال: فأخذهن وأخذ مقلاعا، فأدارها ليرمي بها فقال: أترميني كما يرمي السبع والذئب؟ أرمني بالقوس! قال: لا أرميك اليوم إلا بها! فقال له مثل ذلك أيضا، فقال: نعم! وأنت أهون علي من الذئب! فأدارها وفيها أمر الله وسلطان الله. قال: فخلى سبيلها مأمورة. قال: فجاءت مظلة فضربت بين عينيه حتى خرجت من قفاه، (14) ثم قتلت من أصحابه وراءه كذا وكذا، وهزمهم الله.
5747- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: لما قطعوا ذلك= يعني النهر الذي قال الله فيه مخبرا عن قيل طالوت لجنوده:"إن الله مبتليكم بنهر"= وجاء جالوت، وشق على طالوت قتاله، فقال طالوت للناس: لو أن جالوت قتل، أعطيت الذي يقتله نصف ملكي، وناصفته كل شيء أملكه! فبعث الله داود= وداود يومئذ في الجبل راعي غنم، وقد غزا مع طالوت تسعة إخوة لداود، وهم أبدّ منه، (15) وأغنى منه، (16) وأعرف في الناس منه، وأوجه عند طالوت منه، فغزوا وتركوه في غنمهم= فقال داود حين ألقى الله في نفسه ما ألقى، وأكرمه: لأستودعن ربي غنمي اليوم، ولآتين الناس، (17) فلأنظرن ما الذي بلغني من قول الملك لمن قتل جالوت! فأتى داود إخوته، فلاموه
__________
(1) في المطبوعة: "أن في ولد فلان ... " مرة أخرى، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(2) السواري جمع السارية: وهي الأسطوانة، من حجارة أو آجر، وفي الحديث أنه نهى أن يصل بين السواري، وهي أسطوانة المسجد، وذلك في صلاة الجماعة، من أجل انقطاع الصف.
(3) برع يبرع فهو بارع: تم في كل فضيلة وجمال، وفاق أصحابه في العلم وغيره. ويقال: امرأة بارعة: فائقة الجمال والعقل. وكل مشرف يفوق ويعلو، فهو بارع وفارغ. وفي التاريخ"بارع" بحذف"عليهم" وهما سواء، وسيأتي وصفه بعد قليل بأنه"الجسيم"، وهما بمعنى متقارب.
(4) في المطبوعة: "صدق" بإسقاط"قد"، وهي في المخطوطة والتاريخ.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "بينه وبين التي يريح ... ": والصواب من التاريخ. وأراح غنمه وأبله يريحها إراحة. ردها إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلا. والمراح (بضم الميم) : مأوى الإبل والغنم.
وهو من الرواح، وهو السير بالعشي.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "يحمل شاتين، يجوز بهما، ولا يخوض" بإسقاط"شاتين""الثانية" وأسقطت المطبوعة: "السيل" الأولى، فأثبت ما في التاريخ وهو الصواب. يقال: "جاز المكان وأجازه" بمعنى واحد. وفي حديث الصراط: "فأكون أنا وأمتي أول من يجيز عليه" بضم الياء.
(7) عند هذا الموضع انتهى ما رواه الطبري في تاريخه من هذا الأثر الطويل 1: 247.
(8) أعجبه الأمر يعجبه: استخرج عجبه به، إذ يراه أمرا عجيبا.
(9) في المطبوعة، أسقط بين الكلامين: "قال"، وهي لا بد منها، لأن الحديث غير متصل، كما سترى الذي يليه: "قال فمر ... "، يعني دواد. والصفن (بضم فسكون) : خريطة الراعي، يكون فيها طعامه وزاده وما يحتاج إليه.
(10) في المطبوعة: "يأثر بعضها على بعض"، وهو كلام بلا معنى. وفي المخطوطة: " ينترى" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها. وانتزى فلان على فلان وتنزى عليه: إذا تسرع إليه بالشر وتواثبا.
من"النزو"، وهو الوثب.
(11) عند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه:
"يتلوه: وبرز جالوت على برذون أبلق في يده قوس نشاب
وصلى الله على محمد النبي وآله وسلم كثيرا"
ثم بعد ذلك:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر".
(12) في المطبوعة: "قوس ونشاب"، وأثبت ما في المخطوطة.
(13) أفظعه الأمر، وفظع به فظاعة وفظعا (بفتحتين) واستفظعه وأفظعه: رآه فظيعا، فهاله وغلبه، فلم يثق بأن يطيقه.
(14) أظل الشيء يظل: أقبل ودنا. وفي حديث مالك: "فلما أظل قادما حضرني بثى".
(15) في المطبوعة: أند منه"، ولا يظهر لها معنى. وفي المخطوطة"أند" غير منقوطة، وقرأتها كذلك من"البدد"، وهو عرض ما بين المنكبين، وعظم الخلق، وتباعد ما بين الأعضاء. وهذه صفة إخوته كما سلف في آثار ماضية. هذا على أنهم يقولون في الصفة: "رجل أبد، وامرأة بداء".
(16) في المطبوعة: "وأعتى منه"، وفي المخطوطة: " وأعنى منه"، وكأن الصواب ما أثبت.
(17) في المخطوطة: "ولا / ببر"، في سطرين، وكأن الصواب ما في المطبوعة.(5/367)
حين أتاهم، فقالوا: لم جئت؟ قال: لأقتل جالوت، فإن الله قادر أن أقتله. (1) فسخروا منه= قال ابن جريج، قال مجاهد: كان بعث أبو داود مع داود بشيء إلى إخوته، فأخذ مخلاة فجعل فيها ثلاث مروات، ثم سماهن"إبراهيم" و"إسحاق" و"يعقوب"= قال ابن جريج، قالوا: وهو ضعيف رث الحال، فمر بثلاثة أحجار فقلن له: خذنا يا داود فقاتل بنا جالوت! فأخذهن داود وألقاهن في مخلاته. فلما ألقاهن سمع حجرا منهن يقول لصاحبه: أنا حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثاني: أنا حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا وكذا. قال الثالث: أنا حجر داود الذي أقتل جالوت! فقال الحجران: يا حجر داود، نحن أعوان لك! فصرن حجرا واحدا. وقال الحجر: يا داود، اقذف بي، فإني سأستعين بالريح= وكانت بيضته، فيما يقولون والله أعلم، فيها ستمئة رطل= (2) فأقع في رأس جالوت فأقتله! قال ابن جريج، وقال مجاهد: سمى واحدا إبراهيم، والآخر إسحاق، والآخر يعقوب، وقال: باسم إلهي وإله آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب! وجعلهن في مرجمته- قال ابن جريج: فانطلق حتى نفذ إلى طالوت (3) فقال: إنك قد جعلت لمن قتل جالوت نصف ملكك ونصف كل شيء تملكه! أفلي ذلك إن قتلته؟ قال: نعم! والناس يستهزئون بداود، وإخوة داود أشد من هنالك عليه. وكان طالوت لا ينتدب إليه أحد زعم أنه يقتل جالوت إلا ألبسه درعا عنده، فإذا لم تكن قدرا عليه نزعها عنها. (4) وكانت درعا سابغة من دروع طالوت، فألبسها داود، فلما رأى قدرها عليه أمره أن يتقدم. فتقدم داود، فقام مقاما لا يقوم فيه أحد، وعليه الدرع. فقال له جالوت: ويحك! من أنت؟ إني أرحمك! ليتقدم إلي غيرك من هذه الملوك! أنت إنسان ضعيف مسكين! فارجع. فقال داود: أنا الذي أقتلك بإذن الله، ولن أرجع حتى أقتلك! فلما أبي داود إلا قتاله، تقدم جالوت إليه ليأخذه بيده مقتدرا عليه، فأخرج الحجر من المخلاة، فدعا ربه ورماه بالحجر، فألقت الريح بيضته عن رأسه، فوقع الحجر في رأس جالوت حتى دخل في جوفه فقتله= قال ابن جريج، وقال مجاهد: لما رمى جالوت بالحجر خرق ثلاثا وثلاثين بيضة عن رأسه، وقتلت من ورائه ثلاثين ألفا، قال الله تعالى:"وقتل داود جالوت". فقال داود لطالوت: ف لي بما جعلت. (5) فأبى طالوت أن يعطيه ذلك. فانطلق داود فسكن مدينة من مدائن بني إسرائيل حتى مات طالوت. فلما مات عمد بنو إسرائيل إلى داود فجاؤوا به فملّكوه، وأعطوه خزائن طالوت، وقالوا: لم يقتل جالوت إلا نبي! قال الله:"وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وأعطى الله داود الملك والحكمة وعلمه مما يشاء="والهاء" في قوله:"وآتاه الله"، عائدة على داود ="والملك" السلطان (6) "والحكمة"، النبوة. (7) وقوله:"وعلمه مما يشاء"، يعني: علمه صنعة الدروع والتقدير في السرد، كما قال الله تعالى ذكره: (وعلمناه صنعة لبوس
__________
(1) "قادر" من قولهم: "قدر الله الشيء وقدره"، قضاه.
(2) ما بين الخطين، كلام معترض بين كلام الحجر. والضمير في"بيضته"، لجالوت.
(3) قوله: "فانطلق" الضمير لداود.
(4) القدر (بفتحتين، وفتح وسكون) : المقدار، أي على مقداره وعلى قدره.
(5) في المطبوعة: " وف بما جعلت"، وفي المخطوطة"ولي بما جعلت"، وصواب قراءتها ما أثبت وقواه: "ف" هو الأمر من قولهم: " وفى له بالشيء يفي". أمر على حرف واحد.
(6) انظر تفسير"الملك" فيما سلف 1: 148- 150/ 2: 488/ وهذا: 311، 312، 314.
(7) انظر تفسير"الحكمة" فيما سلف 3: 87، 88، 211/ وهذا: 16، 17.(5/370)
لكم لتحصنكم من بأسكم) [سورة الأنبياء: 80] .
* * *
وقد قيل إن معنى قوله:"وآتاه الله الملك والحكمة"، أن الله آتَى داودَ ملك طالوت ونبوَّة أشمويل.
* ذكر من قال ذلك:
5748- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: مُلِّك داودُ بعدما قتل طالوتَ، وجعله الله نبيًّا، وذلك قوله:"وآتاه الله الملك والحكمة"، قال: الحكمة هي النبوة، آتاه نبوّة شمعون وملك طالوت.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولولا أنّ الله يدفع ببعض الناس= وهم أهل الطاعة له والإيمان به= بعضًا، وهم أهلُ المعصية لله والشرك به- كما دفعَ عن المتخلِّفين عن طالوتَ يوم جالوت من أهل الكفر بالله والمعصية له، وقد أعطاهم ما سألوا ربَّهم ابتداءً: من بَعْثةِ ملك عليهم ليجاهدوا معه في سبيله= بمن جاهد معه من أهل الإيمان بالله واليقين والصبر، جالوتَ وجنوده= (1) "لفسدت الأرض"، يعني: لهلك أهلها بعقوبة الله إياهم، ففسدت بذلك الأرض= (2) ولكن الله ذو منٍّ على خلقه وتطوُّلٍ عليهم، بدفعه بالبَرِّ من خلقه عن الفاجر، وبالمطيع عن العاصي منهم، وبالمؤمن عن الكافر.
* * *
__________
(1) سياق هذا الجملة"كما دفع عن المتخلفين عن جالوت ... بمن جاهد معه ... جالوت وجنوده"، على دأب أبي جعفر في الفصل الطويل المتتابع.
(2) انظر معنى"الفساد فيما سلف 1: 287، 416/ 4: 239، 243، 244.(5/372)
وهذه الآية إعلامٌ من الله تعالى ذكره أهلَ النفاق الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، المتخلِّفين عن مَشاهده والجهادِ معه للشكّ الذي في نفوسهم ومرض قلوبهم، والمشركين وأهلِ الكفر منهم، وأنه إنما يدفع عنهم معاجَلَتهم العقوبة على كفرهم ونفاقهم بإيمان المؤمنين به وبرسوله، الذين هم أهل البصائر والجدّ في أمر الله، وذوو اليقين بإنجاز الله إياهم وعدَه على جهاد أعدائه وأعداء رسوله، من النصر في العاجل، والفوز بجنانه في الآجل. (1)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5749- حدثني محمد بن عمر قال، حدثنا أبو عاصم عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولولا دفعُ الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، يقول: ولولا دفع الله بالبَرِّ عن الفاجر، وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض، (2) "لفسدت الأرض"، بهلاك أهلها.
5750- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، يقول: ولولا دفاع الله بالبَرِّ عن الفاجر، وببقية أخلاف الناس بعضهم عن بعض (3) لهلك أهلها.
5751- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن حنظلة، عن أبي مسلم قال: سمعت عليًّا يقول: لولا بقية من المسلمين فيكم لهلكتم.
__________
(1) في المطبوعة: "في الآخرة"، وفي المخطوطة: "في الأخر"، ولو شاء أن يجعلها على ذلك لقال: "من النصر في العاجلة، والفوز بجنانه في الآخرة". ولكني أجده تصحيف ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "بالبار"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة والدر المنثور 1: 320" أخلاق الناس"، والأخلاف جمع خلف، بمعنى الذين خلفوا الصالحين من أهل البر والصلاح والتقوى.(5/373)
5752- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض"، يقول: لهلك من في الأرض.
5753- حدثني أبو حميد الحمصي أحمد بن المغيرة قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا حفص بن سليمان، عن محمد بن سوقة، عن وبرة بن عبد الرحمن، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله ليدفع بالمؤمن الصالح عن مئةِ أهلِ بيت من جيرانه البلاءَ"، ثم قرأ ابن عمر:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". (1)
5754- حدثني أحمد أبو حميد الحمصي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا عثمان بن عبد الرحمن، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال:
__________
(1) الحديث: 5753-أحمد بن المغيرة، أبو حميد الحمصي-شيخ الطبري: هو أحمد بن محمد بن المغيرة بن سيار، نسب هنا إلى جده. وهو ثقة، روى عنه النسائي ووثقه. وترجمه ابن أبي حاتم 1/ 1/ 72، باسم: "أحمد بن محمد بن سيار"، وقال"كتب عنه، وهو صدوق ثقة".
يحيى بن سعيد: هو العطار الأنصاري، أبو زكريا، الشامي الحمصي. ضعفه ابن معين وغيره. وقال أبو داود: "جائز الحديث". وقال محمد بن مصفي الحمصي الحافظ: "حدثنا يحيى بن سعيد العطار، ثقة". فهذا بلديه وتلميذه يوثقه، والظن أن يكون أعرف به من غيره. وترجمه البخاري في الكبير 4/2/277، فلم يذكر فيه جرحًا. وجازف ابن حبان -في كتاب المجروحين -مجازفة شديدة دون برهان، فقال: "كان ممن يروي الموضوعات عن الأثبات، والمعضلات عن الثقات، لا يجوز الاحتجاج به بحال، ولا الرواية عنه إلا على سبيل الاعتبار لأهل الصناعة".
حفص بن سليمان: هو الأسدي البزاز الكوفي القارئ، صاحب"قراءة حفص" المعروفة، التي يقرأ لها الناس بمصر وغيرها. وهو ضعيف جدًا، متروك الحديث، على إمامته في القراءة. وقد بينت ضعفه مفصلا في شرح المسند: 1267.
محمد بن سوقة -بضم السين المهملة - الغنوي الكوفي العابد: ثقة متفق عليه.
وبرة بن عبد الرحمن: تابعي ثقة معروف، أخرج له الشيخان وغيرهما.
والحديث ذكره ابن كثير 1: 606 607، عن هذا الموضع. وقال: "وهذا إسناد ضعيف. فإن يحيى بن سعيد هذا: هو العطار الحمصي، هو ضعيف جدًا".
وذكره الذهبي في الميزان، في ترجمة"يحيى بن سعيد العطار" 3: 290 -عن يحيى هذا، بهذا الإسناد.(5/374)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله ليُصلح بصلاح الرجل المسلم ولدَه وولد ولدِه، وأهلَ دُوَيْرَته ودُويْراتٍ حوله، ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وقد دللنا على قوله:"العالمين"، وذكرنا الرواية فيه. (2)
* * *
وأما القرأة، فإنها اختلفت في قراءة قوله:"ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض".
فقرأته جماعة من القرأة: (وَلَوْلا دَفْعُ اللهِ) على وجه المصدر، من قول القائل:
__________
(1) الحديث: 5754 -عثمان بن عبد الرحمن: هكذا في نقل ابن كثير إياه عن هذا الموضع. فإنه يكنه يكن"عثمان بن عبد الرحمن بن عمر بن سعد بن أبي وقاص المدني"، فهو من الطبقة، ولكنه لم يذكر في شيوخ"يحيى بن سعيد العطار"، ولا في الرواة عن"محمد بن المنكدر". ولم نجد فيما رأينا من ترجم من اسمه"عثمان بن عبد الرحمن" -من يستقيم به الإسناد غيره.
وهذا الوقاصي: ضعيف جدًا، رماه ابن معين بالكذب. وقال أبو حاتم: "متروك الحديث، ذاهب الحديث، كذاب". وقال البخاري في الضعفاء، ص: 25: "تركوه".
والراجح -عندي-أن اسم هذا الراوي محرف في نسخ الطبري. وأكاد أجزم أن صوابه"عنبسة بن عبد الرحمن" فهو الذي يروي عن محمد بن المنكدر، ويروي عنه يحيى بن سعيد العطار.
وقد يؤيد ذلك: أن كاتب المخطوطة رسم هذا الاسم بدون ألف بعد الميم -على الكتبة القديمة-"عثمن". ولكن يظهر أنه كتبه على تردد، عن نسخة غير واضحة الرسم. لأنه بسط آخر الكلمة فكتب النون مبسوطة كأنها سين، ثم اشتبه عليه الاسم، فاصطنع الحرف المبسوط جعله نونًا. وتغيير الحرفين قبله سهل: ينقط النون بثلاث نقط فتصير ثاء مثلثة، ثم يدير نبرة الباء فتكون ميما. ويخرج الاسم من"عنبسة" إلى"عثمن".
وأيًا ما كان الراوي هنا"عثمان" أو"عنبسة" -فالحديث واهي الإسناد منهار، لا تقول له قائمة.
فإن"عنبسة بن عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن العاص": ضعيف جدًا.
قال أبو حاتم: "هو متروك الحديث، كان يضع الحديث".
واسم جده"عنبسة" كاسمه. ووقع في التهذيب محرفًا"عيينة". وهو خطأ مطبعي.
والحديث ذكره ابن كثير 1: 607، وقال: "وهذا أيضًا غريب ضعيف، لما تقدم أيضًا"! يريد لضعف"يحيى بن سعيد العطار". وقد بينا في الحديث السابق أنه غير ضعيف.
وذكره السيوطي 1: 320، ونسبه الطبري"بسند ضعيف". ثم لم ينسبه لغير الطبري.
(2) انظر ما سلف 1: 143 -146/ 2: 23 -26.(5/375)
"دفعَ الله عن خلقه فهو يدفع دفعًا". واحتجت لاختيارها ذلك، بأن الله تعالى ذكره هو المتفرِّد بالدفع عن خلقه، ولا أحد يُدافعه فيغالبه.
* * *
وقرأت ذلك جماعة أُخَر من القرأة: (1) (وَلَوْلا دِفَاعُ اللهِ النَّاسَ) على وجه المصدر، من قول القائل:"دافع الله عن خلقه فهو يُدافع مدافعة ودفاعًا" واحتجت لاختيارها ذلك بأن كثيرًا من خلقه يعادون أهل دين الله وولايته والمؤمنين به، فهو بمحاربتهم إياهم ومعادتهم لهم، لله مُدافعون بظنونهم، (2) ومغالبون بجهلهم، والله مُدافعهم عن أوليائه وأهل طاعته والإيمان به.
* * *
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أنهما قراءتان قد قرأت بهما القرأة، وجاءت بهما جماعة الأمة، وليس في القراءة بأحد الحرفين إحالةُ معنى الآخر. وذلك أن من دافع غيره عن شيء فمدافعه عنه بشيء دافع. (3) ومتى امتنع المدفوع عن الاندفاع، فهو لمدافعه مدافع. (4) ولا شك أن جالوت وجنوده كانوا بقتالهم طالوت وجنوده محاولين مغالبة حزب الله وجنده، وكان في محاولتهم ذلك محاولةُ مغالبة الله ودفاعه عما قد تضمن لهم من النُّصرة. وذلك هو معنى"مدافعة الله" عن الذين دافع الله عنهم بمن قاتل جالوت وجنوده من أوليائه. فبيِّنٌ إذًا أن سَواءً قراءةُ من قرأ: (5) (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ) ، وقراءة من قرأ: (ولولا دفاع الله الناس بعضهم ببعض) ، في التأويل والمعنى.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "جماعة أخرى من القراء"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "مدافعون بباطلهم"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فمدافعه عنه دافع"، وفي المخطوطة: "فمدافعة عنه ليس دافع" غير واضحة، والصواب ما أثبت. وذلك لأن الله دافع الكفار عما تضمن للمؤمنين من النصرة ببعض الناس. فصح إذًا أن عبارة الطبري تقتضي أن تكون الكلمة"بشيء".
(4) في المطبوعة: "لمدافعه مدافع" والصواب من المخطوطة.
(5) في المطبوعة: "فتبين إذًا"، والصواب من المخطوطة.(5/376)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك آيات الله" (1) هذه الآيات التي اقتص الله فيها أمر الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، وأمر الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى الذين سألوا نبيهم أن يبعث لهم طالوت ملكا وما بعدها من الآيات إلى قوله:"والله ذو فضل على العالمين".
ويعني بقوله:"آيات الله"، حججه وأعلامه وأدلته. (2) .
* * *
يقول الله تعالى ذكره: فهذه الحجج التي أخبرتك بها يا محمد، وأعلمتك= من قدرتي على إماتة من هرب من الموت في ساعة واحدة وهم ألوف، وإحيائي إياهم بعد ذلك، وتمليكي طالوت أمر بني إسرائيل، بعد إذ كان سقاء أو دباغا من غير أهل بيت المملكة، وسلبي ذلك إياه بمعصيته أمري، وصرفي ملكه إلى داود لطاعته إياي، ونصرتي أصحاب طالوت، مع قلة عددهم، وضعف شوكتهم على جالوت وجنوده، مع كثرة عددهم، وشدة بطشهم= (3) حججي على من جحد نعمتي، وخالف أمري، وكفر برسولي من أهل الكتابين التوراة والإنجيل، العالمين بما اقتصصت عليك من الأنباء الخفية، التي يعلمون أنها من عندي، (4) .
لم تتخرصها ولم تتقولها أنت يا محمد، لأنك أمي، ولست ممن قرأ الكتب، فيلتبس عليهم أمرك، ويدعوا أنك قرأت ذلك فعلمته من بعض أسفارهم= ولكنها حججي عليهم أتلوها
__________
(1) انظر مجيء"ذلك"و"تلك" بمعنى: "هذا، وهذه"، فيما سلف 1: 225 -227/ 3: 335.
(2) انظر تفسير"الآية" فيما سلف 1: 106، ثم هذا الجزء: 337 والمراجع في التعليق هناك.
(3) في المطبوعة: "حجج على من جحد"، وأثبت ما في المخطوطة. والسياق: "فهذه الحجج ... حججي".
(4) في المخطوطة: "من الأنباء الحصه" غير منقوطة ولا بينة، وما في المطبوعة صحيح المعنى.(5/377)
عليك يا محمد، بالحق اليقين كما كان، لا زيادة فيه، ولا تحريف، ولا تغيير شيء منه عما كان="وإنك" يا محمد"لمن المرسلين"، يقول: إنك لمرسل متبع في طاعتي، وإيثار مرضاتي على هواك، فسألك في ذلك من أمرك سبيل من قبلك من رسلي الذين أقاموا على أمري، وآثروا رضاي على هواهم، ولم تغيرهم الأهواء، ومطامع الدنيا، كما غير طالوت هواه، وإيثاره ملكه، على ما عندي لأهل ولايتي، ولكنك مؤثر أمري كما آثره المرسلون الذين قبلك.
* * *(5/378)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك"، الرسل الذين قص الله قصصهم في هذه السورة، كموسى بن عمران وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وشمويل وداود، وسائر من ذكر نبأهم في هذه السورة. يقول تعالى ذكره: هؤلاء رسلي فضلت بعضهم على بعض، فكلمت بعضهم = والذي كلمته منهم موسى صلى الله عليه وسلم = ورفعت بعضهم درجات على بعض بالكرامة ورفعة المنزلة، كما:-
5755 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، في قول الله تعالى ذكره:"تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض"، قال: يقول: منهم من كلم الله، ورفع بعضهم على بعض درجات. يقول: كلم الله موسى، وأرسل محمدا إلى الناس كافة.
5756 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
* * *(5/378)
ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك:=
5757 - قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: بعثت إلى الأحمر والأسود، ونصرت بالرعب، فإن العدو ليرعب مني على مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد كان قبلي، وقيل لي: سل تعطه، فاختبأتها شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من لا يشرك بالله شيئا" (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ}
قال أبو جعفر:يعني تعالى ذكره بقوله: (2) "وآتينا عيسى ابن مريم البينات"، وآتينا عيسى ابن مريم الحجج والأدلة على نبوته: (3) من إبراء الأكمه والأبرص، وإحياء الموتى، وما أشبه ذلك، مع الإنجيل الذي أنزلته إليه، فبينت فيه ما فرضت عليه.
* * *
ويعني تعالى ذكره بقوله:"وأيدناه"، وقويناه وأعناه= (4) "بروح القدس"، يعني بروح الله، وهو جبريل. وقد ذكرنا اختلاف أهل العلم في معنى روح
__________
(1) الأثر: 5757 -ساقه بغير إسناد، وقد اختلف ألفاظه، وهو من حديث ابن عباس في المسند رقم: 2742، والمسند 5: 145، 147، 148، 161، 162 (حلبي) والمستدرك 2: 424 ورواه مسلم بغير اللفظ 5: 3، والبخاري، (الفتح 1: 369، 444) مواضع أخرى. وهو حديث صحيح.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يعنى تعالى ذكره بذلك"، وهو لا يستقيم.
(3) انظر تفسير"البينات"فيما سلف 2: 328/ 4: 271، والمراجع هناك، وانظر فهرس اللغة.
(4) انظر تفسير"أيد"فيما سلف 2: 319، 320.(5/379)
القدس والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولو أراد الله=" ما اقتتل الذين من بعدهم"، (2) يعني من بعد الرسل الذين وصفهم بأنه فضل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وبعد عيسى ابن مريم، وقد جاءهم من الآيات بما فيه مزدجر لمن هداه الله ووفقه.
* * *
ويعني بقوله:"من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني: من بعد ما جاءهم من آيات الله ما أبان لهم الحق، وأوضح لهم السبيل.
* * *
وقد قيل: إن"الهاء" و"الميم" في قوله:"من بعدهم"، من ذكر موسى وعيسى. * ذكر من قال ذلك:
5758 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات"، يقول: من بعد موسى وعيسى.
__________
(1) انظر ما سلف 2: 320- 323.
(2) في المطبوعة، أتم الآية: "من بعد ما جاءتهم البينات"، وأثبت ما في المخطوطة.(5/380)
5759 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات" يقول: من بعد موسى وعيسى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولكن اختلف هؤلاء الذين من بعد الرسل، لما لم يشأ الله منهم تعالى ذكره أن لا يقتتلوا، فاقتتلوا من بعد ما جاءتهم البينات من عند ربهم بتحريم الاقتتال والاختلاف، وبعد ثبوت الحجة عليهم بوحدانية الله ورسالة رسله ووحي كتابه، فكفر بالله وبآياته بعضهم، وآمن بذلك بعضهم. فأخبر تعالى ذكره: أنهم أتوا ما أتوا من الكفر والمعاصي، (1) بعد علمهم بقيام الحجة عليهم بأنهم على خطأ، تعمدا منهم للكفر بالله وآياته.
ثم قال تعالى ذكره لعباده:"ولو شاء الله ما اقتتلوا"، يقول: ولو أراد الله أن يحجزهم - بعصمته وتوفيقه إياهم- عن معصيته فلا يقتتلوا، ما اقتتلوا ولا اختلفوا="ولكن الله يفعل ما يريد"، بأن يوفق هذا لطاعته والإيمان به فيؤمن به ويطيعه، ويخذل هذا فيكفر به ويعصيه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "أتوا ما أنزل من الكفر"، وهو سهو فاحش من شدة عجلة الكاتب، كما تتبين ذلك جليا من تغيُّر خطه في هذا الموضع أيضًا.(5/381)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا في سبيل الله مما رزقناكم من أموالكم، وتصدقوا منها، وآتوا منها الحقوق التي فرضناها عليكم. وكذلك كان ابن جريج يقول فيما بلغنا عنه:
5760 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم"، قال: من الزكاة والتطوع.
* * *
="من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، يقول: ادخروا لأنفسكم عند الله في دنياكم من أموالكم، بالنفقة منها في سبيل الله، والصدقة على أهل المسكنة والحاجة، وإيتاء ما فرض الله عليكم فيها، وابتاعوا بها ما عنده مما أعده لأوليائه من الكرامة، بتقديم ذلك لأنفسكم، ما دام لكم السبيل إلى ابتياعه، بما ندبتكم إليه، وأمرتكم به من النفقة من أموالكم="من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه"، يعني من قبل مجيء يوم لا بيع فيه، يقول: لا تقدرون فيه على ابتياع ما كنتم على ابتياعه- بالنفقة من أموالكم التي رزقتكموها- بما أمرتكم به، أو ندبتكم إليه في الدنيا قادرين، (1) لأنه يوم جزاء وثواب وعقاب، لا يوم عمل واكتساب وطاعة ومعصية، فيكون لكم إلى ابتياع منازل أهل الكرامة بالنفقة حينئذ- أو
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بالنفقة من أموالكم التي أمرتكم به"، وهو كلام مختل، سقط فيما أرجح ما أثبته: "رزقتكموها، بما". وسياق العبارة: ما كنتم على ابتياعه ... بما أمرتكم به ... قادرين". والذي بينهما فواصل.(5/382)
بالعمل بطاعة الله، سبيل (1) .
ثم أعلمهم تعالى ذكره أن ذلك اليوم = مع ارتفاع العمل الذي ينال به رضى الله أو الوصول إلى كرامته بالنفقة من الأموال، (2) إذ كان لا مال هنالك يمكن إدراك ذلك به = يوم لا مخالة فيه نافعة كما كانت في الدنيا، فإن خليل الرجل في الدنيا قد كان ينفعه فيها بالنصرة له على من حاوله بمكروه وأراده بسوء، والمظاهرة له على ذلك. فآيسهم تعالى ذكره أيضا من ذلك، لأنه لا أحد يوم القيامة ينصر أحدا من الله، بل (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) كما قال الله تعالى ذكره، (3) وأخبرهم أيضا أنهم يومئذ= مع فقدهم السبيل إلى ابتياع ما كان لهم إلى ابتياعه سبيل في الدنيا بالنفقة من أموالهم، والعمل بأبدانهم، وعدمهم النصراء من الخلان، والظهراء من الإخوان (4) = لا شافع لهم يشفع عند الله كما كان ذلك لهم في الدنيا، فقد كان بعضهم يشفع في الدنيا لبعض بالقرابة والجوار والخلة، وغير ذلك من الأسباب، فبطل ذلك كله يومئذ، كما أخبر تعالى ذكره عن قيل أعدائه من أهل الجحيم في الآخرة إذا صاروا فيها: (فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) [الشعراء: 100-101]
* * *
وهذه الآية مخرجها في الشفاعة عام والمراد بها خاص، وإنما معناه:"من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، لأهل الكفر بالله، لأن أهل
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فيكون لهم إلى ابتياع ... " والصواب في هذا السياق: "لكم وقوله: "سبيل" اسم كان في"فيكون لكم إلى ابتياع ... ".
(2) ارتفاع العمل: انقضاؤه وذهابه. يقال: "ارتفع الخصام بينهما"، و"ارتفع الخلاف" أي انقضى وذهب، فلم يبق ما يختلفان عليه أو يختصمان. وهو مجاز من"ارتفع الشيء ارتفاعا": إذا علا. وهذا معنى لم تقيده المعاجم، وهو عربى صحيح كثير الورود في كتب العلماء، ن وقد سلف في كلام أبي جعفر، وشرحته ولا أعرف موضعه الساعة.
(3) هى آية"سورة الزخرف": 67.
(4) النصراء جمع نصير. والخلان جمع خليل: والظهراء جمع ظهير: وهو المعين الذي يقوى ظهرك ويشد أزرك.(5/383)
ولاية الله والإيمان به، يشفع بعضهم لبعض. وقد بينا صحة ذلك بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع (1) .
* * *
وكان قتادة يقول في ذلك بما:-
5761 - حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة"، قد علم الله أن ناسا يتحابون في الدنيا، ويشفع بعضهم لبعض، فأما يوم القيامة فلا خلة إلا خلة المتقين.
* * *
وأما قوله:"والكافرون هم الظالمون"، فإنه يعني تعالى ذكره بذلك: والجاحدون لله المكذبون به وبرسله="هم الظالمون"، يقول: هم الواضعون جحودهم في غير موضعه، والفاعلون غير ما لهم فعله، والقائلون ما ليس لهم قوله.
* * *
وقد دللنا على معنى"الظلم" بشواهده فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته (2) .
* * *
قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره في هذا الموضع:"والكافرون هم الظالمون"، دلالة واضحة على صحة ما قلناه، وأن قوله:"ولا خلة ولا شفاعة"، إنما هو مراد به أهل الكفر، فلذلك أتبع قوله ذلك:"والكافرون هم الظالمون". فدل بذلك على أن معنى ذلك: حرمنا الكفار النصرة من الأخلاء، والشفاعة من الأولياء والأقرباء، ولم نكن لهم في فعلنا ذلك بهم ظالمين، إذ كان ذلك جزاء منا لما سلف منهم من الكفر بالله في الدنيا، بل الكافرون هم الظالمون أنفسهم بما أتوا من الأفعال التي أوجبوا لها العقوبة من ربهم.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2: 23، 33.
(2) انظر معنى"الكفر" فيما سلف من فهارس اللغة / ومعنى"الظلم" فيما سلف 1: 523، 524، وفي فهارس اللغة.(5/384)
فإن قال قائل: وكيف صرف الوعيد إلى الكفار والآية مبتدأة بذكر أهل الإيمان؟
قيل له: إن الآية قد تقدمها ذكر صنفين من الناس: أحدهما أهل كفر، والآخر أهل إيمان، وذلك قوله:"ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر". ثم عقب الله تعالى ذكره الصنفين بما ذكرهم به، بحض أهل الإيمان به على ما يقربهم إليه من النفقة في طاعته (1) وفي جهاد أعدائه من أهل الكفر به، قبل مجيء اليوم الذي وصف صفته. وأخبر فيه عن حال أعدائه من أهل الكفر به، إذ كان قتال أهل الكفر به في معصيته ونفقتهم في الصد عن سبيله، فقال تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا أنفقوا أنتم مما رزقناكم في طاعتي، إذ كان أهل الكفر بي ينفقون في معصيتي= من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه فيدرك أهل الكفر فيه ابتياع ما فرطوا في ابتياعه في دنياهم= ولا خلة لهم يومئذ تنصرهم مني، ولا شافع لهم يشفع عندي فتنجيهم شفاعته لهم من عقابي. وهذا يومئذ فعلي بهم جزاء لهم على كفرهم، (2) وهم الظالمون أنفسهم دوني، لأني غير ظلام لعبيدي. وقد:-
5762 - حدثني محمد بن عبد الرحيم، قال: حدثني عمرو بن أبي سلمة، قال: سمعت عمر بن سليمان، يحدث عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد لله الذي قال:"والكافرون هم الظالمون"، ولم يقل:"الظالمون هم الكافرون".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يحض" بالياء في أوله، فعلا. وهي في المخطوطة غير منقوطة، وصواب قراءتها بباء الجر، اسما. وقوله: "بحض"، متعلق بقوله: "ثم عقب الله".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "وهذا يومئذ فعل بهم"، وصواب السياق يقتضى ما أثبت.(5/385)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
القول في تأويل قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على تأويل قوله:"الله" (1) .
* * *
وأما تأويل قوله:"لا إله إلا هو" فإن معناه: النهي عن أن يعبد شيء غير الله الحي القيوم الذي صفته ما وصف به نفسه تعالى ذكره في هذه الآية. يقول:"الله" الذي له عبادة الخلق="الحي القيوم"، لا إله سواه، لا معبود سواه، يعني: ولا تعبدوا شيئا سوى الحي القيوم الذي لا يأخذه سِنة ولا نوم، (2) والذي صفته ما وصف في هذه الآية.
* * *
وهذه الآية إبانة من الله تعالى ذكره للمؤمنين به وبرسوله عما جاءت به أقوال المختلفين في البينات= (3) من بعد الرسل الذين أخبرنا تعالى ذكره أنه فضل بعضهم على بعض= واختلفوا فيه، فاقتتلوا فيه كفرا به من بعض، وإيمانا به من بعض. فالحمد لله الذي هدانا للتصديق به، ووفقنا للإقرار.
* * *
وأما قوله:"الحي" فإنه يعني: الذي له الحياة الدائمة، والبقاء الذي لا أول له بحد، ولا آخر له بأمد، (4) إذ كان كل ما سواه فإنه وإن كان حيا
__________
(1) انظر تفسير"الله" فيما سلف 1: 122- 126.
(2) في المطبوعة: "ولا تعبدوا شيئا سواه الحي القيوم"، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "المختلفين في البينات"، بزيادة"في"، وهو خطأ مخل بالكلام، والصواب ما في المخطوطة، و"البينات"فاعل"جاءت به"، و"المختلفين"مفعوله. والجملة التي بين الخطين، معترضة، وقةله: بعد"واختلفوا فيه فاقتتلوا فيه ... "، عطف على قوله: "عما جاءت به ... ".
(4) في المطبوعة: "لا أول له يحد" بالياء، فعلا، ثم جعل التي تليها"ولا آخر له يؤمد"، فأتى بفعل عجيب لا وجود له في العربية، وفي المخطوطة: "بحد" غير منقوطة وصواب قراءتها بباء الجر في أوله. وفيها"بأمد" كما أثبت، والأمد: الغاية التي ينتهى إليها. بقول: ليس له أول له حد يبدأ منه وليس له آخر له أمد ينتهى إليه.(5/386)
فلحياته أول محدود، وآخر ممدود، ينقطع بانقطاع أمدها، (1) وينقضي بانقضاء غايتها.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5763 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الحي" حي لا يموت.
5764 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقد اختلف أهل البحث في تأويل ذلك (2) .
فقال بعضهم: إنما سمي الله نفسه"حيا"، لصرفه الأمور مصارفها وتقديره الأشياء مقاديرها، فهو حي بالتدبير لا بحياة.
وقال آخرون: بل هو حي بحياة هي له صفة.
وقال آخرون: بل ذلك اسم من الأسماء تسمى به، فقلناه تسليما لأمره (3) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وآخر مأمود"، أتى أيضًا بالعجب في تغيير المخطوطة، وباستخراج كلمة لا يجيزها اشتقاق العربية، ولم تستعمل في كلام قط. وفي المخطوطة"ممدود"كما أثبتها. وهي من قولهم: "مد له في كذا" أي طويل له فيه. بل أولى من ذلك أن يقال إنها من"المد"، وهي الطائفة من الزمان.
وقد استعملو من المدة: "ماددت القوم". أي جعلت لهم مدة ينهون إليها. وفي الحديث: "يا ويح قريش، لقد نهكتهم الحرب! ما ضرهم لو ماددناهم مدة"، أي جعلنا لهم مدة، وهي زمان الهدنة. وقال ابن حجر في مقدمته الفتح: 182"قوله: (في المدة التي فيها أبا سفيان) : أي جعل بينه وبينه مدة صلح، ومنه: (إن شاؤوا ماددتهم) . فهو"فاعل" من"المد". ولا شك أن الثلاثى منه جائز أن يقال: " مد له مدة" أي جعل له مدة ينتهى من عند آخرها. وكأتى قرأتها في بعض كتب السير، فأرجو أن أظفر بها فأقيدها إن شاء الله، فمعنى قوله: "وآخر ممدود ينقطع بانقطاع أمدها" أي: آخر قد ضربت له مدة ينقطع بانقطاع غايتها.
(2) هذه أول مرة يستعمل فيها الطبري: "أهل البحث"، ويعنى بذلك أهل النظر من المتكلمين.
(3) في المطبوعة: "فقلناه"، وما في المخطوطة صواب أيضًا جيد.(5/387)
وأما قوله:"القيوم"، فإنه"الفيعول" من"القيام" وأصله"القيووم"،: سبق عين الفعل، وهي"واو"،"ياء" ساكنة، فأدغمتا فصارتا"ياء" مشددة.
وكذلك تفعل العرب في كل"واو" كانت للفعل عينا، سبقتها"ياء" ساكنة. ومعنى قوله:"القيوم"، القائم برزق ما خلق وحفظه، كما قال أمية: (1) .
لم تخلق السماء والنجوم ... والشمس معها قمر يعوم (2) قدره المهيمن القيوم ... والجسر والجنة والجحيم (3) إلا لأمر شأنه عظيم
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5765 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"القيوم"، قال: القائم على كل شيء.
5766 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"القيوم"، قيم كل شيء، يكلؤه ويرزقه ويحفظه.
5767 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"القيوم" وهو القائم.
__________
(1) هو: أمية بن أبي الصلت الثقفى.
(2) ديوانه: 57، والقرطبي 3: 271، وتفسير أبي حيان 25: 277. وفي المطبوعة والقرطبي"قمر يقوم"، وهو لا معنى له، والصواب في المخطوطة وتفسير أبي حيان. عامت النجوم تعوم عوما: جرب، مثل قولهم: "سبحت النجوم في الفلك تسبح سبحا"
(3) في المراجع كلها"والحشر"، وهو خطأ وتصحيف لا ريب فيه عندي، وهو في المخطوطة"والحسر" غير منقوطة، وصواب قراءتها"الجسر" كما أثبت. وفي حديث البخاري: "ثم يؤتى بالجسر" قال ابن حجر: أي الصراط، وهو كالقنطرة بين الجنة والنار، يمر عليها المؤمنون. ولم يذكر في بابه في كتب اللغة، فليقيد هناك، فإن هذا هو سبب تصحيف هذه الكلمة. وفي بعض المراجع: "والجنة والنعيم"، والذي في الطبري هو الصواب. هذا وشعر أمية كثير خلطه.(5/388)
5768 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"الحي القيوم"، قال: القائم الدائم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا تأخذه سنة"، لا يأخذه نعاس فينعس، ولا نوم فيستثقل نوما.
* * *
"والوسن" خثورة النوم، (1) ومنه قول عدي بن الرقاع:
وسنان أقصده النعاس فرنقت ... في عينه سنة وليس بنائم (2)
__________
(1) الخثورة: نقيض الرقة، يقال: "خثر اللبن والعسل ونحوهما"، إذا ثقل وتجمع، والمجاز منه قولهم: "فلان خاثر النفس" أي ثقيلها، غير طيب ولا نشيط، قد فتر فتورا. واستعمله الطبري استعمالا بارعا، فجعل للنوم"خثورة"، وهي شدة الفتور، كأنه زالت رقته واستغلط فثقل، وهذا تعبير لم أجده قبله.
(2) من أبيات له في الشعر والشعراء: 602، والأغانى 9: 311، ومجاز القرآن 1: 78، واللسان (وسن) (رنق) ، وفي جميعها مراجع كثيرة، وقبل البيت في ذكرها صاحبته"أم القاسم":
وكأنها وسط النساء أعارها ... عينيه أحور من جاذر جاسم
وسنان أقصده النعاس.......... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يصطاد يقظان الرجال حديثها ... وتطير بهجتها بروح الحالم
والجآذر بقر الوحش، وهي حسان العيون. وجاسم: موضع تكثر فيه الجآذر. و" أقصده النعاس" قتله النعاس وأماته. يقال: "عضته حبة فإقصدته"، أي قتلته على المكان -أي من فوره. و"رفقت" أي خالطت عينه. وأصله من ترنيق الماء، وهو تكديره بالطين حتى يغلب على الماء. وحسن أن يقال هو من ترنيق الطائر بجناحيه، وهو رفرفته إذا خفق بجناحيه في الهواء فثبت ولم يطر، وهذا المجازأعجب إلى في الشعر.(5/389)
ومن الدليل على ما قلنا: من أنها خثورة النوم في عين الإنسان، قول الأعشى ميمون بن قيس:
تعاطى الضجيع إذا أقبلت ... بعيد النعاس وقبل الوسن (1)
وقال آخر: (2)
باكرتها الأغراب في سنة النو ... م فتجري خلال شوك السيال (3)
__________
(1) ديوانه: 15، وهو يلي البيت الذي سلف 1: 345، 346، وفي ذكر نساء استمع بهن:
إذا هن نازلن أقرانهن ... وكان المصاع بما في الجون
تعاطى الضجيع........... ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
صريفية طيبا طعمها ... لها زبد بين كوب ودن
وقوله"تعاطى" من قولهم للمرأة: "هى تعاطى خلها" أي صاحبها -أن تناوله قبلها وريقها.
وقوله: "أقبلت"، هو عندي بمعنى: سامحت وطاوعت وانقادت، من"القبول" وهو الرضا. ولم يذكر ذلك أصحاب اللغة، ولكنه جيد في العربية، شبيه بقولهم: "أسمحت"، من السماح، إذا أسهلت وانقادت ووافقت ما يطلبه صاحبها. وذلك هو الجيد عندي. ليس من الإقبال على الشيء. بل من القبول. ويروي مكمان ذلك: "إذا سامها"، ورواية الديوان: "بعيد الرقاد وعند الوسن"
والصريفية: الخمر الطيبة، جعلها صريفية، لأنها أخذت من الدن ساعتئذ، كاللبن الصريف وهو اللبن الذي ينصرف من الضرع حارا إذا حلب. وفي الديون: "صليفية"، باللام، والصواب بالراء يقول: إذا انقادت لصاحبها بعيد رقادها، أو قبل وسنها، عاطته من ريقها خمرا صرفا تفور بالزبد بين الكوب والدن، ولم يمض وقت عليها فتفسد. يقول: ريفها هو الخمر، في يقظتها قبل الوسن -وذلك بدء فتور الفس وتغير الطباع -وبعد لومها، وقد تغيرت أفواه البشر واستكرهت روائحها ينفي عنها العيب في الحالين. وذلك قل أن يكون في النساء أو غيرهن.
(2) هو الاعشى أيضًا
(3) ديوانه: 5، واللسان (غرب) ، من قصيدة جليلة، أفضى فيها إلى ذكر صاحبته له يقول قبله:
وكأن الخمر العتيق من الإسفنط ... ممزوجة بماء زلال باكرتها الأغراب....................... ... ...............................
الإسفنط: أجود أنواع الخمر وأغلاها. وباكرتها، أي في أول النهار مبادرة إليها.
والأغراب جمع غرب (بفتح فسكمون) ، وهو القدح. والسيال: شجر سبط الأغصان، عليه شوك أبيض أصوله أمثال ثنايا اعذارى، وتشبه به أسنانهن يقول: إذا نامت لم يتغير طيب ثغرها، بل كأن الخمر تجرى بين ثناياها طيبة الشذا. وقوله: "باكرتها الأغراب"، وهو كفوله في الشعر السالف أنها"صريفية" أي أخذت من دنها لسعتها. يقول: ملئت الأقداح منها بكرة، يعنى تبادرت إليها الأقداح من دنها، وذلك أطيب لها.
هذا، وقد جاء في شرح الديوان: الأغراب: حد الأسنان وبياضها، وأظال في شرحه، ولكنى لا أرتضيه، والذي شرحته موجود في اللسان، وهو أعرق في الشعر، وفي فهمه.(5/390)
يعني عند هبوبها من النوم ووسن النوم في عينها، يقال منه:"وسن فلان فهو يوسن وسنا وسنة وهو وسنان"، إذا كان كذلك.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5769 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله تعالى:"لا تأخذه سنة" قال: السنة: النعاس، والنوم: هو النوم (1) .
5770 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تأخذه سنة" السنة: النعاس.
5771 - حدثنا الحسن بن يحيي، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة والحسن في قوله:"لا تأخذه سنة" قالا نعسة.
5772 - حدثني المثنى، قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا تأخذه سنة ولا نوم" قال: السنة: الوسنة، وهو دون النوم، والنوم: الاستثقال،
5773 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن
__________
(1) يعنى أن النوم معروف، والسنة غير النوم، وانظر الأثر الآتي: 5772 وما بعده.(5/391)
جويبر، عن الضحاك:"لا تأخذه سنة ولا نوم" السنة: النعاس، والنوم: الاستثقال.
5774 - حدثني يحيي بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، مثله سواء.
5775 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا تأخذه سنة ولا نوم" أما"سنة"، فهو ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان (1) .
5776 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"لا تأخذه سنه ولا نوم" قال:"السنة"، الوسنان بين النائم واليقظان.
5777 - حدثني عباس بن أبي طالب، قال: حدثنا منجاب بن الحرث، قال: حدثنا علي بن مسهر، عن إسماعيل عن يحيى بن رافع:"لا تأخذه سنه" قال: النعاس (2) .
5778 - حدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"لا تأخذه سنة ولا نوم" قال:"الوسنان": الذي يقوم من النوم لا يعقل، حتى
__________
(1) في المخطوطة"ريح" غير منقوطة. والريح هنا: الغلبة والقوة، كما جاء في شعر أعشى فهو أو سليك بن السلكة.
أتنظران قليلا ريث غفلتهمأوتعدوان فإن الريح للعادى
أي الغلبة. وربما قرئت أيضًا: "الرنح" (بفتح الراء وسكون النون) وهو الدوار. ومنه: "ترنح من السكر" إذا تمايل، و"رنح به" (بالبناء للمجهول مشددة النون) إذا دير به كالمغشى عليه، أو اعتراه وهن في عظامه من ضرب أو فزع أو سكر.
(2) الأثر: 5777 -"عباس بن أبي طالب"، هو: "عباس جعفر بن الزبرقان" مضت ترجمته في رقم: 880، و"المنجاب بن الحارث"، مضت ترجمته في رقم: 322 -328، و"على بن مسهر القرشي" الكوفي الحافظ، روي عن يحيى بن سعيد الأنصاري، وهشام بن عروة، واسماعيل بن أبي خلد. ثقة، مات سنة 189. مترجم في التهذيب. و" اسناعيل" هو" اسماعيل بن أبي خالد الأحمس" روي عن أبيه، وأبيجحيفة، ن وعبد الله بن أبي أوفى، وعمرو بن حريث، وأبي كاهل، وهؤلاء صحابة. وعن زيد بن وهب والشعبي وغيرهما من كبار التابعين. كان ثقة ثبتا. مات سنه 146. مترجم في التهذيب. و"يحيى بن رافع" أبو عيسى الثقفى. روي عن عثمان وأبي هريرة، وروى عنه إسماعيل بن أبي خالد. مترجم في الكبير 4/ 2/ 273، وابن أبي حاتم 4/2/ 143.(5/392)
ربما أخذ السيف على أهله.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:"لا تأخذه سنة ولا نوم" لا تحله الآفات، ولا تناله العاهات. وذلك أن"السنة" و"النوم"، معنيان يغمران فهم ذي الفهم، ويزيلان من أصاباه عن الحال التي كان عليها قبل أن يصيباه.
* * *
فتأويل الكلام، إذ كان الأمر على ما وصفنا:"الله لا إله إلا هو الحي" الذي لا يموت="القيوم" على كل ما هو دونه بالرزق والكلاءة والتدبير والتصريف من حال إلى حال="لا تأخذه سنة ولا نوم"، لا يغيره ما يغير غيره، ولا يزيله عما لم يزل عليه تنقل الأحوال وتصريف الليالي والأيام، بل هو الدائم على حال، والقيوم على جميع الأنام، لو نام كان مغلوبا مقهورا، لأن النوم غالب النائم قاهره، ولو وسن لكانت السموات والأرض وما فيهما دكا، لأن قيام جميع ذلك بتدبيره وقدرته، والنوم شاغل المدبر عن التدبير، والنعاس مانع المقدر عن التقدير بوسنه. (1) كما:
5779 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر= قال: أخبرني الحكم بن أبان، (2) عن عكرمة مولى ابن عباس في قوله:"لا يأخذه سنة ولا نوم" أن موسى سأل الملائكة: هل ينام الله؟ فأوحى الله إلى الملائكة، وأمرهم أن يؤرقوه ثلاثا فلا يتركوه ينام. ففعلوا، ثم أعطوه قارورتين فأمسكوه، ثم تركوه وحذروه أن يكسرهما. قال: فجعل ينعس وهما في يديه،
__________
(1) في المطبوعة: "يمانع" بالياء في أوله، وهو خطأ لا خير فيه. وإنما أخطأ قراءة المخطوطة للفتحة على الميم، اتصلت بأولها.
(2) في المطبوعة والمخطوطة"وأخبرنى الحكم"، وكأن الصواب حذف الواو"أخبرنا معمر قال، أخبرنى الحكم بن أبان" كما أثبته فإن معمرا يروي عن الحكم بن أبان. انظر ترجمته في التهذيب، وكما جاء في ابن كثير 2: 11 على الصواب. وقال بمقبه: "وهو من أخبار بني إسرائيل، وهو مما يعلم أن موسى عليه السلام لا يخفى عليه مثل هذا من أمر الله عز وجل، وهو منزه عنه". وأصاب ابن كثير الحق، فإن أهل الكتاب ينسبون إلى أنبياء الله، ما لو تركوه لكان خيرا لهم.(5/393)
في كل يد واحدة. قال: فجعل ينعس وينتبه، وينعس وينتبه، حتى نعس نعسة، فضرب بإحداهما الأخرى فكسرهما= قال معمر: إنما هو مثل ضربه الله، يقول: فكذلك السموات والأرض في يديه.
5780 - حدثنا إسحاق بن أبي إسرائيل، قال: حدثنا هشام بن يوسف، عن أمية بن شبل، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة، عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي عن موسى صلى الله عليه وسلم على المنبر، قال: وقع في نفس موسى: هل ينام الله تعالى ذكره؟ فأرسل الله إليه ملكا فأرّقه ثلاثا، ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة، أمره أن يحتفظ بهما. قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان، ثم يستيقظ فيحبس إحداهما عن الأخرى، ثم نام نومة فاصطفقت يداه وانكسرت القارورتان. قال: ضرب الله مثلا له أن الله لو كان ينام لم تستمسك السماء والأرض (1) .
* * *
__________
(1) الأثر: 5780 -"إسحق بن أبى إسرائيل-واسمه إبراهيم- بن كما مجرا، أبو يعقوب المروزي" نزيل بغداد. روى عنه البخاري في الأدب المفرد، وأبو داود والنسائى وغيرهم. قال ابن معين: "من ثقات المسلمين، ما كتب حديثا قط عن أحد من الناس، إلا ما خطه هو في ألواحه أو كتابه".
وكرهه أحمد لوقفه في أن القرآن كلام الله غير مخلوق، فتركه الناس حتى كان الناس يمرون بمسجده، وهو فيه وحيد لا يقربه أحد. وقال أبو زرعة: "عندي أنه لا يكذب، وحدث بحديث منكر". مات سنه 240. مترجم في التهذيب.
و"هشام بن يوسف الصنعائي"قاضي صنعاء، ثقة. روى عنه الأئمة كلهم. روي عن معمر، وابن جريج، والقاسم بن فياض، والثوري، وغيرهم. قال عبد الرزاق: "إن حدثكم القاضي -يعنى هشام بن يوسف- فلا عليكم أن لا تكتبوا عن غيره". مترجم في التهذيب.
و"أمية بن شبل الصنعائي"، سمع الحكم بن أبان طاوس. روى عنه هشام بن يوسف وعبد الرزاق، وثقه ابن معين، مترجم في الكبير 1/2/ 12، ولم يذكر فيه جرحا، وابن أبي حاتم 1/ 1/ 302، ولسان الميزان 1: 467. وقال الحافظ في لسان الميزان: "له حديث منكر، رواه عن الحكم بن أبان عن عكرمة، عن أبي هريرة، مرفوعا، قال"وقع في نفس موسى عليه السلام، هل ينام الله"، الحديث، رواه عنه هشام بن يوسف، وخالفه معمر، عن الحكم، عن عكمرمة، فوقفة، وهو أقرب. ولا يسوغ أن يكون هذا وقعا في نفس موسى عليه السلام، وإنما روي أن بني إسرائيل سألوا موسى عن ذلك".
وساق ابن كثير في تفسير 1: 11، هذه الآثار، ثم قال: "وأغرب من هذا كله، الحديث الذي رواه ابن جرير: حدثنا إسحق بن أبي إسرائيل ... "، وساق الخبر، ثم قال: " وهذا حديث غريب، والأظهر أنه إسرائيل لا مرفوع، والله أعلم". والذي قاله ابن حجر قاطع في أمر هذا الخبر.(5/394)
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"له ما في السموات وما في الأرض" أنه مالك جميع ذلك بغير شريك ولا نديد، وخالق جميعه دون كل آلهة ومعبود (1) .
وإنما يعنى بذلك أنه لا تنبغي العبادة لشيء سواه، لأن المملوك إنما هو طوع يد مالكه، وليس له خدمة غيره إلا بأمره. يقول: فجميع ما في السموات والأرض ملكي وخلقي، فلا ينبغي أن يعبد أحد من خلقي غيري وأنا مالكه، لأنه لا ينبغي للعبد أن يعبد غير مالكه، ولا يطيع سوى مولاه.
* * *
وأما قوله:"من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه" يعني بذلك: من ذا الذي يشفع لمماليكه إن أراد عقوبتهم، إلا أن يخليه، ويأذن له بالشفاعة لهم. (2) وإنما قال ذلك تعالى ذكره لأن المشركين قالوا: ما نعبد أوثاننا هذه إلا ليقربونا إلى الله زلفى! (3) فقال الله تعالى ذكره لهم: لي ما في السموات وما في الأرض مع السموات والأرض ملكا، فلا ينبغي العبادة لغيري، فلا تعبدوا الأوثان التي تزعمون أنها تقربكم مني زلفى، فإنها لا تنفعكم عندي ولا تغني عنكم شيئا، ولا يشفع عندي أحد لأحد إلا بتخليتي إياه والشفاعة لمن يشفع له، من رسلي وأوليائي وأهل طاعتي.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير: "له ما في السموات ... "، 2: 537.
(2) انظر معنى"شفع" فيما سلف 2: 31 - 33، وما سلف قريبا: 382 - 384. ومعنى"الإذن" فيما سلف 2: 449، 450/ ثم4: 286، 370/ ثم هذا 352، 355.
(3) هذا تأويل آية"سورة الزمر": 3.(5/395)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلا بِمَا شَاءَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك أنه المحيط بكل ما كان وبكل ما هو كائن علما، لا يخفى عليه شيء منه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5781 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم:"يعلم ما بين أيديهم"، الدنيا="وما خلفهم"، الآخرة.
5782 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يعلم ما بين أيديهم"، ما مضى من الدنيا="وما خلفهم" من الآخرة.
5783 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج قوله:"يعلم ما بين أيديهم" ما مضى أمامهم من الدنيا="وما خلفهم" ما يكون بعدهم من الدنيا والآخرة.
5784 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"يعلم ما بين أيديهم"، قال: [وأما] "ما بين أيديهم"، فالدنيا="وما خلفهم"، فالآخرة (1) .
* * *
وأما قوله:"ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء"، فإنه يعني تعالى ذكره: أنه العالم الذي لا يخفي عليه شيء محيط بذلك كله، (2)
__________
(1) زيادة ما بين القوسين، لاغنى عنها.
(2) انظر تفسير"الإحاطة" فيما سلف 2: 284.(5/396)
محص له دون سائر من دونه= وأنه لا يعلم أحد سواه شيئا إلا بما شاء هو أن يعلمه، فأراد فعلمه، وإنما يعني بذلك: أن العبادة لا تنبغي لمن كان بالأشياء جاهلا فكيف يعبد من لا يعقل شيئا البتة من وثن وصنم؟! يقول: أخلصوا العبادة لمن هو محيط بالأشياء كلها، (1) يعلمها، لا يخفي عليه صغيرها وكبيرها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5786 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا يحيطون بشيء من علمه" يقول: لا يعلمون بشيء من علمه ="إلا بما شاء"، هو أن يعلمهم (2) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الكرسي" الذي أخبر الله تعالى ذكره في هذه الآية أنه وسع السموات والأرض.
فقال بعضهم: هو علم الله تعالى ذكره.
* ذكر من قال ذلك:
5787 - حدثنا أبو كريب وسلم بن جنادة، قالا حدثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وسع كرسيه" قال: كرسيه علمه.
5788 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مطرف،
__________
(1) في المطبوعة: "أخلصوا"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب.
(2) سقط من الترقيم: 5785، سهوا.(5/397)
عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله= وزاد فيه: ألا ترى إلى قوله:"ولا يؤوده حفظهما"؟
* * *
وقال آخرون:"الكرسي": موضع القدمين.
* ذكر من قال ذلك:
5789 - حدثني علي بن مسلم الطوسي، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثني محمد بن جحادة، عن سلمة بن كهيل، عن عمارة بن عمير، عن أبي موسى، قال: الكرسي: موضع القدمين، وله أطيط كأطيط الرحل (1) .
5790 - حدثني موسى بن هاوون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وسع كرسيه السموات والأرض"، فإن السموات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش، وهو موضع قدميه.
5791 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض"، قال: كرسيه الذي يوضع تحت العرش، الذي يجعل الملوك عليه أقدامهم،
5792 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، عن سفيان، عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، قال: الكرسي: موضع القدمين (2) .
__________
(1) الأثر: 5789 -"علي بن مسلم بن سعيد الطوسي" نزيل بغداد. روى عنه البخاري، وأبو داود، والنسائي، ثقة، مات سنة 253، مترجم في التهذيب. و"عمارة بن عمير التيمي"، رأى عبد الله لابن عمرو، وروي عن الأسود بن يزيد النخعي، والحارث بن سويد التيمي، وإبراهيم بن أبي موسى الأشعري. لم يدرك أبا موسى. والحديث منقطع. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 327، ونسبه لابن المنذر، وأبي الشيخ، والبيهقى في الأسماء والصفات.
الأطيط: صوت الرحل والنسع الجديد، وصوت الباب، وهو صوت متمدد خشن ليس كالصرير بل أخشن.
(2) الأثر: 5792 -خرجه ابن كثير في تفسيره 2: 13 من طريق سفيان عن عمار الدهني، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس، ونسبه لوكيع في تفسيره. ورواه الكاكم في المستدرك 2: 282 مثله، موقوفا علي ابن عباس، وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه". ووافقه الذهبى قال ابن كثير: " وقد رواه ابن مردويه، من طريق الحاكم بن ظهير الفزارى الكوفي، وهو متروك، عن السدى عن أبيه عن أبي هريرة مرفوعا، ولا يصح أيضًا". وانظر مجمع الزوائد 6: 323: والفتح 8: 149.(5/398)
5793 - حدثني عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وسع كرسيه السموات والأرض"، قال: لما نزلت:"وسع كرسيه السموات والأرض" قال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله هذا الكرسي وسع السموات والأرض، فكيف العرش؟ فأنزل الله تعالى: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) إلى قوله: (سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الزمر: 67] (1) .
5794 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض" قال ابن زيد: فحدثني أبي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس= قال: وقال أبو ذر: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهري فلاة من الأرض (2) .
* * *
وقال آخرون: الكرسي: هو العرش نفسه.
* ذكر من قال ذلك:
5795 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: كان الحسن يقول: الكرسي هو العرش.
* * *
قال أبو جعفر: ولكل قول من هذه الأقوال وجه ومذهب، غير أن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ما:-
__________
(1) الأثر: 5793 - لم يرد في تفسير الآية من"سورة الزمر".
(2) الأثر: 5794 -أثر أبي ذر، خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 328، ونسبه لأبي الشيخ في العظمة، وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات، وخرجه ابن كثير في تفسيره 2: 13 وساق لفظ ابن مردويه وإسناده، من طريق محمد بن عبد التميمي، عن القاسم بن محمد الثقفي، عن أبي إدريس الخولاني، عن أبي ذر.(5/399)
5796 - حدثني به عبد الله بن أبي زياد القطواني، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبى إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: أتت امرأة النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: ادع الله أن يدخلني الجنة! فعظم الرب تعالى ذكره، ثم قال: إن كرسيه وسع السموات والأرض، وأنه ليقعد عليه فما يفضل منه مقدار أربع أصابع- ثم قال بأصابعه فجمعها - وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد، إذا ركب، من ثقله" (1) .
5797 - حدثني عبد الله بن أبى زياد، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكر، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه.
5798 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، قال: جاءت امرأة، فذكر نحوه (2) .
* * *
__________
(1) الأثر: 5796 -"عبد الله بن أبي زياد القطواني"، هو"عبد الله بن الحكم بن أبي زيادة" سلفت ترجمته برقم: 2247. و"عبيد الله بن موسي بن أبي المختار، وأسمه باذام، العبسى مولاهم"، روى عنه البخاري، وروى عنه هو والباقون بواسطة أحمد بن أبي سريج الرازى، وأحمد بن إسحق البخاري، وأبي بكر بن أبي شبية، وعبد الله بن الحكم القطواني وغيرهم. ثقة صدوق حسن الحديث، كان عالما بالقرآن رأسا فيه، وأثبت أصحاب إسرائيل. مترجم في التهذيب.
و"عبد الله بن خليفة الهمداني الكوفي" روي عن عمر وجابر، روى عنه أبو إسحق السبيعى ذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب. وهكذا روى الطبري هذا الأثر موقوفا، وخرجه ابن كثير وفي تفسيره 2: 13 من طريق إسرائيل، عن أبي إسحق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر رضي الله عنه.
قال ابن كثير: "وقد رواه الحافظ البزار في مسنده المشهور، وعبد بن بن حميد، وابن جرير في تفسيريهما، والطبراني، وابن أبي عاصم في كتابي السنة، لها، والحافظ الضياء في كتابه المختار من حديث أبي إسحق السبيعي، عن عبد الله بن خليفة، وليس بذاك المشهور. وفي سماعه من عمر نظطر: ثم منهم من يرويه عنه، عن عمر موقوفا -قلت: كما رواه الطبري هنا -ومنهم من يرويه عن عمر مرسلا، ومنهم من يزيد في متنه زيادة غربية -قلت: وهي زيادة الطبري في هذا الحديث -ومنهم من يحذفها. وأغرب من هذا حديث جبير بن مطعم في صفة العرش، كما رواه أبو داود في كتاب السنة من سنته (رقم: 4726) ، والله أعلم".
قال بيده: أشار بها، وانظر ما سلف من تفسير الطبري لذلك في 2: 546 -548.
(2) الأثران: 5797، 5798 -يحيى بن أبي بكير، واسمه نسر، الأسدي"، أبو زكريا الكرماني الأصل. سكن بغداد، روي عن بن عثمان، وإبراهيم بن طهمان، وإسرائيل، وزائدة.
روى عنه الستة، ويعقوب بن إبراهيم الدورقي، ومحمد بن أحمد بن أحمد بن أبي خلف، وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 208 أو 209. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة"يحيى بن أبي بكر" وهو خطأ.
وهذا الأثر، والذي يليه، إسنادان آخران للأثر السالف رقم: 5796، فانظر التعليق عليهما.(5/400)
وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن فقول ابن عباس الذي رواه جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عنه أنه قال:"هو علمه" (1) . وذلك لدلالة قوله تعالى ذكره:"ولا يؤوده حفظهما" على أن ذلك كذلك، فأخبر أنه لا يؤوده حفظ ما علم، وأحاط به مما في السموات والأرض، وكما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا في دعائهم: (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا) [غافر: 7] ،
__________
(1) العجب لأبي جعفر، كيف تناقض قوله في هذا الموضع! فإنه بدأ فقال: إن الذي هو أولى بتأويل الآية ما جاء به الأثر عن رسول الله صلي الله عليه وسلم، من الحديث في صفة الكرسي، ثم عاد في هذا الموضع يقول: وأما الذي يدل على صحته ظاهر القرآن، فقول ابن عباس أنه علم الله سبحانه. فإما هذا وإما هذا، وغير ممكن أن يكون أولى التأويلات في معنى"الكرسي" هو الذي جاء في الحديث الأول، ويكون معناه أيضًا "العلم"، كما زعم أنه دل على صحته ظاهر القرآن. وكيف يجمع في تأويل واحد، معنيان مختلفان في الصفة والجوهر! ! وإذا كان خبر جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد، فإن الخبر الآخر الذي رواه مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، صحيح الإسناد علىشرط الشيخين، كما قال الحاكم، وكما في مجمع الزوائد 6: 323" رواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح"، كما بينته في التعليق على الأثر: 5792. ومهما قيل فيها، فلن يكون أحدهما أرجح من الآخر إلا بمرجح يجب التسليم له. وأما أبو منصور الأزهري فقد قال في ذكر الكرسي: "والصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهنى، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال: "الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره. قال: وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها. قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم، فقد أبطل"، وهذا هو قول أهل الحق إن شاء الله.
وقد أراد الطبري أن يستدل بعد بأن الكرسي هو"العلم"، بقوله تعالى: "ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما"، فلم لم يجعل"الكرسي" هو"الرحمة"، وهما في آية واحدة؟ ولم يجعلها كذلك لقوله تعالى في سورة الأعراف: 156: "قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء"؟ واستخراج معنى الكرسي من هذه الآية كما فعل الطبري، ضعيف جدا، يجل عنه من كان مثله حذرا ولطفا ودقة.
وأما ما ساقه بعد من الشواهد في معنى"الكرسي"، فإن أكثره لا يقوم على شيء، وبعضه منكر التأويل، كما سأبينه بعد إن شاء الله. وكان يحسبه شاهدا ودليلا أنه لم يأت في القرآن في غير هذا الموضع، بالمعنى الذي قالوه، وأنه جاء في الآية الأخرى بما ثبت في صحيح اللغة من معنى"الكرسي"، وذلك قوله تعالى في"سورة ص": "ولقد فتنا سليمان وألقينا على كرسيه جسدا ثم أناب". وكتبه محمود محمد شاكر.(5/401)
فأخبر تعالى ذكره أن علمه وسع كل شيء، فكذلك قوله:"وسع كرسيه السموات والأرض".
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الكرسي" العلم. (1) ومنه قيل للصحيفة يكون فيها علم مكتوب"كراسة"، ومنه قول الراجز في صفة قانص:
* حتى إذا ما احتازها تكرسا * (2) .
يعني علم. ومنه يقال للعلماء"الكراسي"، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال:"أوتاد الأرض". يعني بذلك أنهم العلماء الذي تصلح بهم الأرض، (3) ومنه قول الشاعر: (4)
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة ... كراسي بالأحداث حين تنوب (5)
يعني بذلك علماء بحوادث الأمور ونوازلها. والعرب تسمي أصل كل شيء"الكرس"، يقال منه:"فلان كريم الكرس"، أي كريم الأصل، قال العجاج:
__________
(1) أخشى أن يكون الصواب: "وأصل الكرس: العلم" (بفتح الكاف وسكون الراء) مما رواه ابن العرابى من قولهم: "كرس الرجل" (بفتح ثم كسر) : إذا ازدحم علمه على قلبه. وجعل أبي جعفر هذا أصلا، عجب أي عجب! فمادة اللغة تشهد على خلافه، وتفسير ابن الأعرابى هذا أيضًا شاهد على خلافه. وأنما أصل المادة (كرس) من تراكم الشيء وتلبد بعضه على وتجمعه. وقوله بعد: " ومنه قيل للصحيفة كراسة"، والأجود أن يقال: إنه من تجمع أوراقه بعضها على بعض، أو ضم بعضها إلى بعض.
(2) لم أجد الرجز، وقوله: "احتازها"، أي حازها وضمها إلى نفسه. ولا أدرى إلى أي شيء يعود الضمير: إلى القانص أم إلى كلبه؟ والاستدلال بهذا الرجز على أنه يعنى بقوله: "تكرس"، علم، لا دليل عليه، حتى نجد سائر الشعر، ولم يذكره أحد من أصحاب اللغة.
(3) هذا التفسير مأخوذ من قول قطرب كما سيأتى، أنهم العلماء، ولكن أصل مادة اللغة يدل على أن أصل ذلك هو ذلك هو الشيء الثابت الذي يعتمد عليه، كالكرسي الذي يجلس عليه، وتسمية العلماء بذلك مجاز محض.
(4) لم أعرف قائله.
(5) لم أجد البيت، إلا فيمن نقل عن الطبري، وفي أساس البلاغة (كرس) أنشده بعد قوله: "ويقال للعلماء الكراسي -عن قطرب" وأنشد البت. ولم أجد من ذكر ذلك من ثقات أهل اللغة.(5/402)
قد علم القدوس مولى القدس ... أن أبا العباس أولى نفس ... * بمعدن الملك الكريم الكِرْس * (1)
يعني بذلك: الكريم الأصل، ويروى:
* في معدن العز الكريم الكِرْس *
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولا يؤوده حفظهما"، ولا يشق عليه ولا يثقله.
* * *
يقال منه:"قد آدني هذا الأمر فهو يؤودني أودا وإيادا"، (2) ويقال:"ما آدك فهو لي آئد"، يعني بذلك: ما أثقلك فهو لي مثقل.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5799 - حدثنا المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال:
__________
(1) ديوانه: 78، واللسان (قدس) (كرس) . و"القدس" هو الله -سبحانه الطاهر المنزه عن العيوب والنقائص. والقدس. ومولاها: ربها. وقد سلف تفسير معنى"القدس" و"القدس" في هذا التفسير 1: 475، 476/ 2: 322، 323. و"أبو العباس" هو أبو العباس السفاح، الخليفة العباسي. وروى صاحب اللسان" القديم الكرس"، و"المعدن" (بفتح الميم وكسر الدال) : مكان كل شيء وأصله الثابت، ومنه: "معدن الذهب والفضة"، وهو الموضع الذي ينبت الل فيه الذهب والفضة، ثم تستخرج منه، وهو المسمى في زماننا"المنجم". يقول: أبو العباس أولى نفس بالخلافة، الثابتة الأصل الكريمته.
(2) قوله: "إيادا" مصدر لم أجده في كتب اللغة، زادناه الطبري.(5/403)
حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا يؤوده حفظهما" يقول: لا يثقل عليه.
5800 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه حفظهما.
5801 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا يؤوده حفظهما" لا يثقل عليه لا يجهده حفظهما.
5802 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن الحسن وقتادة في قوله:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه شيء.
5803 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"ولا يؤود حفظهما" قال: لا يثقل عليه حفظهما.
5804 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة= وحدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد= قالا جميعا: أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه.
5805 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، عن عبيد، عن الضحاك، مثله.
5806 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعته = يعني خلادا = يقول: سمعت أبا عبد الرحمن المديني يقول في هذه الآية:"ولا يؤوده حفظهما"، قال: لا يكبر عليه (1) .
5807 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يكثر عليه" والصواب ما أثبت: "كبر عليه"، ثقل عليه.(5/404)
ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يكرثه (1) .
5808 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يثقل عليه.
5809 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا يؤوده حفظهما" يقول: لا يثقل عليه حفظهما.
5810 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"ولا يؤوده حفظهما" قال: لا يعز عليه حفظهما.
* * *
قال أبو جعفر:"والهاء"، و"الميم" و"الألف" في قوله:"حفظهما"، من ذكر"السموات والأرض". فتأويل الكلام: وسع كرسيه السموات والأرض، ولا يثقل عليه حفظ السموات والأرض.
* * *
وأما تأويل قوله:"وهو العلي" فإنه يعني: والله العلي.
* * *
و"العلي""الفعيل" من قولك:"علا يعلو علوا"، إذا ارتفع،"فهو عال وعلي"،"والعلي" ذو العلو والارتفاع على خلقه بقدرته.
* * *
وكذلك قوله:"العظيم"، ذو العظمة، الذي كل شيء دونه، فلا شيء أعظم منه. كما:-
5811 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"العظيم"، الذي قد كمل في عظمته.
* * *
__________
(1) كرثه الأمر يكرثه: اشتد عليه وبلغ منه المشقة.(5/405)
قال أبو جعفر: واختلف أهل البحث في معنى قوله: (1) .
"وهو العلي".
فقال بعضهم: يعني بذلك; وهو العلي عن النظير والأشباه، (2) وأنكروا أن يكون معنى ذلك:"وهو العلي المكان". وقالوا: غير جائز أن يخلو منه مكان، ولا معنى لوصفه بعلو المكان، لأن ذلك وصفه بأنه في مكان دون مكان.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وهو العلي على خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه، لأنه تعالى ذكره فوق جميع خلقه وخلقه دونه، كما وصف به نفسه أنه على العرش، فهو عال بذلك عليهم.
* * *
وكذلك اختلفوا في معنى قوله:"العظيم".
فقال بعضهم: معنى"العظيم" في هذا الموضع: المعظم، صرف"المفعل" إلى"فعيل"، كما قيل للخمر المعتقة،"خمر عتيق"، كما قال الشاعر: (3) .
وكأن الخمر العتيق من الإس ... فنط ممزوجة بماء زلال (4)
وإنما هي"معتقة". قالوا: فقوله"العظيم" معناه: المعظم الذي يعظمه خلقه ويهابونه ويتقونه. قالوا: وإنما يحتمل قول القائل:"هو عظيم"، أحد معنين: أحدهما: ما وصفنا من أنه معظم، والآخر: أنه عظيم في المساحة والوزن. قالوا: وفي بطول القول بأن يكون معنى ذلك: أنه عظيم في المساحة والوزن، صحة القول بما قلنا.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في ذكره" أهل البحث" فيما سلف قريبا: 387، التعليق: 2.
(2) في المخطوطة: "النظر"، بغير ياء. و"النظر" (بكسر فسكون) ، مثل"النظير"، مثل: "ند ونديد". وجائز أن يكون"النظر" (بضمتين) جمع"نظير"، وهم يكسر"فعيلا" الصفة، على"فعل"، بضمتين تشبيها له"بفعيل" الاسم، كما قالوا في"جديد، جدد"، و"نذير، نذر". أما النظائر جمع نظير، فهو شاذ عن بابه.
(3) هو الأعشى.
(4) ديوانه: 5، وقد مضى هذا البيت في تعليقنا آنفًا: 390، تعليق: 3. والزلال: الماء الصافى العذب البارد السائغ في الحلق.(5/406)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
وقال آخرون: بل تأويل قوله:"العظيم" هو أن له عظمة هي له صفة.
وقالوا: لا نصف عظمته بكيفية، ولكنا نضيف ذلك إليه من جهة الإثبات، (1) .
وننفي عنه أن يكون ذلك على معنى مشابهة العظم المعروف من العباد. لأن ذلك تشبيه له بخلقه، وليس كذلك. وأنكر هؤلاء ما قاله أهل المقالة التي قدمنا ذكرها، وقالوا: لو كان معنى ذلك أنه"معظم"، لوجب أن يكون قد كان غير عظيم قبل أن يخلق الخلق، وأن يبطل معنى ذلك عند فناء الخلق، لأنه لا معظم له في هذه الأحوال.
* * *
وقال آخرون: بل قوله: إنه"العظيم" وصف منه نفسه بالعظم. وقالوا: كل ما دونه من خلقه فبمعنى الصغر لصغرهم عن عظمته.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم من الأنصار- أو في رجل منهم - كان لهم أولاد قد هودوهم أو نصروهم، فلما جاء الله بالإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله عن ذلك، حتى يكونوا هم يختارون الدخول في الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
5812 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة،
__________
(1) الإثبات: إثبات الصفات لله سبحانه كما وصف نفسه، بلا تأويل، خلافا للمعتزلة وغيرهم وانظر ما سلف 1: 189، تعليق: 1.(5/407)
عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كانت المرأة تكون مقلاتا، فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده. فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالوا: لا ندع أبناءنا! فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
5813 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: كانت المرأة تكون مقلى ولا يعيش لها ولد = قال شعبة. وإنما هو مقلات = فتجعل عليها إن بقي لها ولد لتهودنه. قال: فلما أجليت بنو النضير كان فيهم منهم، فقالت الأنصار: كيف نصنع بأبنائنا؟ فنزلت هذه الآية:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي". قال: من شاء أن يقيم أقام، ومن شاء أن يذهب ذهب (1) .
5814 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل، قال: حدثنا داود= وحدثني يعقوب قال: حدثنا ابن علية، عن داود= عن عامر، قال: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاتا لا يعيش لها ولد، فتنذر إن عاش ولدها أن تجعله مع أهل الكتاب على دينهم، فجاء الإسلام وطوائف من أبناء الأنصار على دينهم، فقالوا: إنما جعلناهم على دينهم، ونحن نرى أن دينهم أفضل من ديننا! وإذ جاء الله بالإسلام فلنكرهنهم! فنزلت:"لا إكراه في الدين"، فكان
__________
(1) الأثران: 5812، 5813 -في ابن كثير 2: 15، والدر المنثور 1: 329 قال ابن كثير: "رواه أبو داود والنسائي جميعا عن بندار به، ومن وجوه أخرى عن شعبة به نحوه. ورواه ابن أبي حاتم وابن حبان في صحيحه من حديث شعبة به". والسنن الكبرى للبيهقى 9: 186، وسنن أبي داود -3: 78 -79 رقم: 2682. وكان في المطبوعة والمخطوطة في رقم 5813، "حدثنا محمد بن جعفر، عن سعيد"، وهو خطأ صوابه"شعبة". وقوله: "قال: من شاء أن يقيم أقام" وهو من كلام سعيد بن جبير، كما في السنن للبيهقى. والحديث مرفوع هناك إلى ابن عباس وهو الصواب ولكني تركت ما في الطبري على حاله.
وامرأة مقلت (بضم الميم) ومقلات (بكسر الميم) ، هى المرأة التي لايعيش لها ولد. ويأتى أيضًا "مقلات"، أنها المرأة التي ليس لها إلا ولد واحد. ولكن الأول هو المراد في هذا الأثر.(5/408)
فصل ما بين من اختار اليهودية والإسلام، فمن لحق بهم اختار اليهودية، ومن أقام اختار الإسلام= ولفظ الحديث لحميد.
5815 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت داود، عن عامر، بنحو معناه= إلا أنه قال: فكان فصل ما بينهم، إجلاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بني النضير، فلحق بهم من كان يهوديا ولم يسلم منهم، وبقي من أسلم.
5816 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا داود، عن عامر بنحوه= إلا أنه قال: إجلاء النضير إلى خيبر، فمن اختار الإسلام أقام، ومن كره لحق بخيبر (1) .
5817 - حدثني ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن أبي إسحاق، عن محمد بن أبي محمد الحرشي مولى زيد بن ثابت عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصين، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلا مسلما، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا أستكرههما فإنهما قد أبيا إلا النصرانية؟ فأنزل الله فيه ذلك (2) .
5818 - حدثني المثنى قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا أبو عوانة، عن أبي بشر، قال: سألت سعيد بن جبير عن قوله:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" قال: نزلت هذه في الأنصار، قال: قلت خاصة! قال: خاصة! قال: كانت المرأة في الجاهلية تنذر إن ولدت ولدا أن تجعله في اليهود،
__________
(1) الآثار 5814 -5816- هى ألفاظ مختلفة لحديث واحد، وانظر 1: 329، وقال": أخرجه عبد بن حميد وابن المنذر"، ثم انظر الأثرين رقم: 5823، 5824 فيما يأتي بعد.
(2) الأثر: 5817 -انظر ما قاله الحافظ ابن حجر في تحقيق اسم الصحابي في"حصين الأنصاري" غير منسوب، ثم في باب الكنى"أبو الحصين الأنصاري السالمي"، وفيهما تحقيق جيد.
وانظر تفسير ابن 2: 15، والدر المنثور 1: 329. وانظر الأثر التالي رقم: 5819.(5/409)
تلتمس بذلك طول بقائه. قال: فجاء الإسلام وفيهم منهم، فلما أجليت النضير قالوا: يا رسول الله، أبناؤنا وإخواننا فيهم، قال: فسكت عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"قد خير أصحابكم، فإن اختاروكم فهم منكم، وإن اختاروهم فهم منهم" قال: فأجلوهم معهم (1) .
5819 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي" إلى:"لا انفصام لها" قال: نزلت في رجل من الأنصار يقال له أبو الحصين: كان له ابنان، فقدم تجار من الشام إلى المدينة يحملون الزيت. فلما باعوا وأرادوا أن يرجعوا أتاهم ابنا أبي الحصين، فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا فرجعا إلى الشام معهم. فأتى أبوهما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال (2) إن ابني تنصرا وخرجا، فأطلبهما؟ فقال:"لا إكراه في الدين" (3) .
ولم يؤمر يومئذ بقتال أهل الكتاب، وقال: أبعدهما الله! هما أول من كفر! فوجد أبو الحصين في نفسه على النبي صلى الله عليه وسلم حين لم يبعث في طلبهما، فنزلت: (فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [سورة النساء: 65] ثم إنه نسخ:"لا إكراه في الدين" فأمر بقتال أهل الكتاب في" سورة براءة" (4) .
__________
(1) الأثر: 5818 -في السنن الكبرى للبيهقى 9: 186 من طريق سعيد بن منصور عن أبي عوانة، وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 329 وزاد نسبته إلى"سعيد بن منصور، وعبدبن حميد، وابن المنذر" وفيها زيادة: "كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت نزورا مقلاتا تنذر لئن ولدت ولدا لتجعلنه في اليهود" وسائر الخبر سواء. وكتب في البيهقي والدر المنثور"مقلاة" بالتاء المربوطة وهو خطأ، و"امرأة نزرة" (بفتح وكسر" وامرأة نزور" قليلة الولد. وفي الدر"نزورة" وهو خطأ.
(2) في المطبوعة: "إلى رسول الله صلى عليه وسلم"، والصواب من المخطوطة والدر المنثور.
(3) في المطبوعة: إتمام الآية"قد تبين الرشد من الغى"، وليس في المخطوطة ولا الدر المنثور.
(4) الأثر: 5819 -في الدر المنثور 1: 329، وزاد نسبته إلى أبي داود في ناسخه، وابن المنذر، وأشار إليه ابن كثير في تفسيره 2: 15. هذا ولم يذكر أبو جعفر هذا الأثر في تفسير آية"سورة النساء"، ولم يجعلها قولا غير الأقوال التي ذكرها. وهو دليل على اختصاره هذا التفسير، كما رووا عنه.(5/410)
5820 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"لا إكراه في الدين" قال: كانت في اليهود بني النضير، (1) أرضعوا رجالا من الأوس، فلما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإجلائهم، قال أبناؤهم من الأوس: لنذهبن معهم، ولندينن بدينهم! فمنعهم أهلوهم، وأكرهوهم على الإسلام، ففيهم نزلت هذه الآية.
5821 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان= وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد = جميعا، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد:"لا إكراه في الدين"، قال: كان ناس من الأنصار مسترضعين في بني قريظة، فأرادوا أن يكرهوهم على الإسلام، فنزلت:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
5822 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني الحجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: كانت النضير يهودا فأرضعوا،= ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم= قال ابن جريج، وأخبرني عبد الكريم، عن مجاهد: أنهم كانوا قد دان بدينهم أبناء الأوس، (2) دانوا بدين النضير.
5823 - حدثني المثنى، قال: لنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي: أن المرأة من الأنصار كانت تنذر إن عاش ولدها لتجعلنه في أهل الكتاب، فلما جاء الإسلام قالت الأنصار:
__________
(1) في المطبوعة: "كانت في اليهود يهود أرضعوا ... "، وفي المخطوطة كانت اليهود يهودا أرضعوا" وهما خطأ. وفي الدر المنثور 1: 329: " كانت النضير أرضعت". واستظهرت أن تكون العبارة أثبتها، سقط من الناسخ"بني النضير" -أو يكون صوابها كما سيأتى في الأثر رقم: 5822: "كانت النضير يهودا ... ".
(2) في المخطوطة: "قد دانوا بدينهم أبناء الأوس"، وأخشى أن يكون ما في المطبوعة أصح.(5/411)
يا رسول الله ألا نكره أولادنا الذين هم في يهود على الإسلام، فإنا إنما جعلناهم فيها ونحن نرى أن اليهودية أفضل الأديان؟ فلما إذ جاء الله بالإسلام، (1) .
أفلا نكرههم على الإسلام؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
5824 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود، عن الشعبي مثله = وزاد: قال: كان فصل ما بين من اختار اليهود منهم وبين من اختار الإسلام، إجلاء بني النضير، فمن خرج مع بني النضير كان منهم، ومن تركهم اختار الإسلام (2) .
5825 - حدثني يونس، قال: أخبرنا بن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"لا إكراه في الدين" إلى قوله:"العروة الوثقى" قال: قال منسوخ.
5826 - حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، ووائل، عن الحسن: أن أناسا من الأنصار كانوا مسترضعين في بني النضير، فلما أجلوا أراد أهلوهم أن يلحقوهم بدينهم، فنزلت:"لا إكراه في الدين".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: لا يكره أهل الكتاب على الدين إذا بذلوا الجزية، ولكنهم يقرون على دينهم. وقالوا: الآية في خاص من الكفار، ولم ينس منها شيء.
* ذكر من قال ذلك:
5827 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن
__________
(1) في المطبوعة: "فلما أن جاء الإسلام"، وفي المخطوطة: "فلما إذ جاء"، وصواب ذلك ما أثبت.
(2) الأثران: 5823، 5824 -انظر الآثار السالفة: 5814 -5816.(5/412)
قتادة:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: أكره عليه هذا الحي من العرب، لأنهم كانوا أمة أميه ليس لهم كتاب يعرفونه، فلم يقبل منهم غير الإسلام. ولا يكره عليه أهل الكتاب إذا أقروا بالجزية أو بالخراج، ولم يفتنوا عن دينهم، فيخلى عنهم (1) .
5828 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا سليمان قال: حدثنا أبو هلال، قال: حدثنا قتادة في قوله:"لا إكراه في الدين"، قال: هو هذا الحي من العرب، أكرهوا على الدين، لم يقبل منهم إلا القتل أو الإسلام، وأهل الكتاب قبلت معهم الجزية، ولم يقتلوا.
5829 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لا إكراه في الدين"، قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقاتل جزيرة العرب من أهل الأوثان، فلم يقبل منهم إلا"لا إله إلا الله"، أو السيف. ثم أمر فيمن سواهم بأن يقبل منهم الجزية، فقال:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي".
5830 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا إكراه في الدين"، قال: كانت العرب ليس لها دين، فأكرهوا على الدين بالسيف. قال: ولا يكره اليهود ولا النصارى والمجوس، إذا أعطوا الجزية.
5831 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا يقول لغلام له نصراني: يا جرير أسلم. ثم قال: هكذا كان يقال لهم.
5832 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال:
__________
(1) في المخطوطة: " فخلى عنهم"، وهما سواء.(5/413)
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، قال: وذلك لما دخل الناس في الإسلام، وأعطى أهل الكتاب الجزية.
* * *
وقال آخرون: هذه الآية منسوخة، وإنما نزلت قبل أن يفرض القتال.
* ذكر من قال ذلك:
5833 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري قال: سألت زيد بن أسلم عن قول الله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين"، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يكره أحدا في الدين، فأبى المشركون إلا أن يقاتلوهم، فاستأذن الله في قتالهم فأذن له.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: نزلت هذه الآية في خاص من الناس- وقال: عنى بقوله تعالى ذكره:"لا إكراه في الدين"، أهل الكتابين والمجوس وكل من جاء إقراره على دينه المخالف دين الحق، وأخذ الجزية منه، وأنكروا أن يكون شيء منها منسوخا (1) .
وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب، لما قد دللنا عليه في كتابنا (كتاب اللطيف من البيان عن أصول الأحكام) : من أن الناسخ غير كائن ناسخا إلا ما نفى حكم المنسوخ، فلم يجز اجتماعهما. فأما ما كان ظاهره العموم من الأمر والنهي، وباطنه الخصوص، فهو من الناس والمنسوخ بمعزل (2) .
وإذ كان ذلك كذلك = وكان غير مستحيل أن يقال: لا إكراه لأحد ممن أخذت منه الجزية في الدين، ولم يكن في الآية دليل على أن تأويلها بخلاف ذلك، وكان المسلمون جميعا قد نقلوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم أنه
__________
(1) في المخطوطة: "منسوخ"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) انظر ما قاله فيما سلف في شرط النسخ 3: 358، 563.(5/414)
أكره على الإسلام قوما فأبى أن يقبل منهم إلا الإسلام، وحكم بقتلهم إن امتنعوا منه، وذلك كعبدة الأوثان من مشركي العرب، وكالمرتد عن دينه دين الحق إلى الكفر ومن أشبههم، وأنه ترك إكراه الآخرين على الإسلام بقبوله الجزية منه وإقراره على دينه الباطل، وذلك كأهل الكتابين ومن أشبههم = (1) كان بينا بذلك أن معنى قوله:"لا إكراه في الدين"، إنما هو لا إكراه في الدين لأحد ممن حل قبول الجزية منه بأدائه الجزية، ورضاه بحكم الإسلام.
ولا معنى لقول من زعم أن الآية منسوخة الحكم، بالإذن بالمحاربة.
* * *
فإن قال قائل: فما أنت قائل فيما روي عن ابن عباس وعمن روي عنه: من أنها نزلت في قوم من الأنصار أرادوا أن يكرهوا أولادهم على الإسلام؟
قلنا: ذلك غير مدفوعة صحته، ولكن الآية قد تنزل في خاص من الأمر، ثم يكون حكمها عاما في كل ما جانس المعنى الذي أنزلت فيه. فالذين أنزلت فيهم هذه الآية - على ما ذكر ابن عباس وغيره - إنما كانوا قوما دانوا بدين أهل التوراة قبل ثبوت عقد الإسلام لهم، فنهى الله تعالى ذكره عن إكراههم على الإسلام، وأنزل بالنهي عن ذلك آية يعم حكمها كل من كان في مثل معناهم، ممن كان على دين من الأديان التي يجوز أخذ الجزية من أهلها، وإقرارهم عليها، على النحو الذي قلنا في ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"لا إكراه في الدين". لا يكره أحد في دين الإسلام عليه، (2) وإنما أدخلت"الألف واللام" في"الدين"، تعريفا للدين الذي عنى الله بقوله: (3) "لا إكراه فيه"، وأنه هو الإسلام.
__________
(1) سياق الجملة: "وإذ كان ذلك كذلك ... كان بينا". وما بين الخطين، عطوف متتابعة فاصلة بينهما.
(2) "عليه"، أي على الإسلام.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "تصريفا للدّين"، وهو تحريف، والصواب الواضح ما أثبت.(5/415)
وقد يحتمل أن يكون أدخلتا عقيبا من"الهاء" المنوية في"الدين"، (1) فيكون معنى الكلام حينئذ: وهو العلي العظيم، لا إكراه في دينه، قد تبين الرشد من الغي. وكأن هذا القول أشبه بتأويل الآية عندي.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"قد تبين الرشد"، فإنه مصدر من قول القائل:"رشدت فأنا أرشد رشدا ورشدا ورشادا"، وذلك إذا أصاب الحق والصواب (2) .
* * *
وأما"الغي"، فإنه مصدر من قول القائل:"قد غوى فلان فهو يغوى غيا وغواية"، وبعض العرب يقول:"غوى فلان يغوى"، والذي عليه قراءة القرأة: (مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى) [سورة النجم: 2] بالفتح، وهي أفصح اللغتين، وذلك إذا عدا الحق وتجاوزه، فضل.
* * *
فتأويل الكلام إذا: قد وضح الحق من الباطل، واستبان لطالب الحق والرشاد وجه مطلبه، فتميز من الضلالة والغواية، فلا تكرهوا من أهل الكتابين= ومن أبحت لكم أخذ الجزية منه=، (3) .
[أحدا] على دينكم، دين الحق، فإن من حاد عن الرشاد بعد استبانته له، فإلى ربه أمره، وهو ولي عقوبته في معاده.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الطاغوت".
فقال بعضهم: هو الشيطان.
__________
(1) قوله: "عقيبا" أي بدلا وخلفا منه. أصله من العقيب: وهو كل شيء أعقب شيئا.
وعقيبك: هو الذي يعاقبك في العمل، يعمل مرة، وتعمل أنت مرة.
(2) انظر ما سلف في معنى"رشد" 3: 484، 485.
(3) أي، فلا تكرهوا من أهل الكتاب ... أحدا على دينكم ... والزيادة مما يقتضيه السياق.(5/416)
* ذكر من قال ذلك:
5834 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد العبسي قال: قال عمر بن الخطاب: الطاغوت: الشيطان (1) .
5835 - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثني ابن أبي عدي، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن حسان بن فائد، عن عمر، مثله.
5836 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبد الملك، عمن حدثه، عن مجاهد، قال: الطاغوت: الشيطان.
5837 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا زكريا، عن الشعبي، قال: الطاغوت: الشيطان.
5838 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"فمن يكفر بالطاغوت" قال: الشيطان.
5839 - حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: الطاغوت: الشيطان.
5840 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:"فمن كفر بالطاغوت" بالشيطان.
* * *
وقال آخرون: الطاغوت: هو الساحر.
* ذكر من قال ذلك:
5841 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى قال: حدثنا داود،
__________
(1) الأثر: 5834 -"حسان بن فائد العبسي". روى عنه أبو إسحق السبيعي. قال أبو حاتم"شيخ"، وقال البخاري يعد في الكوفيين. وذكره ابن حبان في ثقات التابعين. مترجم في التهذيب، والكبير 2/ 1/ 28، وابن أبي حاتم 1/2 /223. وكان في المطبوعة: "العنسي"، والصواب من المخطوطة. وهذا الأثر ساقه ابن كثير بتمامه في تفسيره 2: 16 -17(5/417)
عن أبي العالية، أنه قال: الطاغوت: الساحر.
* * *
وقد خولف عبد الأعلى في هذه الرواية، وأنا أذكر الخلاف بعد (1) .
* * *
5842 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن محمد، قال: الطاغوت: الساحر (2) .
* * *
وقال آخرون: بل"الطاغوت" هو الكاهن.
* ذكر من قال ذلك:
5843 - حدثني ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، قال: الطاغوت: الكاهن (3) .
5844 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود، عن رفيع، قال: الطاغوت: الكاهن (4) .
5845 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج:"فمن يكفر بالطاغوت"، قال: كهان تنزل عليها شياطين، يلقون على ألسنتهم وقلوبهم = أخبرني أبو الزبير، عن جابر بن عبد الله، أنه سمعه يقول: - وسئل عن الطواغيت التي كانوا يتحاكمون إليها فقال-: كان في جهينة واحد، وفي أسلم واحد، وفي كل حي واحد، وهي كهان ينزل عليها الشيطان.
* * *
__________
(1) في لأثر الآتي رقم: 5844.
(2) الأثر: 5842 -حماد بن مسعدة، سلف ترجمته في رقم: 3056. وكان في المطبوعة"حميد بن مسعدة"، وهو هنا خطأ، صوابه من المخطوطة. أما"حميد بن مسعدة، فهو شيخ الطبري، سلف ترجمته في الأثر رقم: 196.
(3) الأثر: 5843 -كان في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا محمد بن جعفر، قال حدثنا سعيد"، والصواب"شعبة"، وانظر مثل ذلك في هذا الإسناد نفسه مما سلف رقم: 5813، والتعليق عليه.
(4) الأثر 5844 -رفيع، هو أبو العالية الرياحي، وقد مضت ترجمته مرارا فيما سلف.(5/418)
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في"الطاغوت"، أنه كل ذي طغيان على الله، فعبد من دونه، إما بقهر منه لمن عبده، وإما بطاعة ممن عبده له، وإنسانا كان ذلك المعبود، أو شيطانا، أو وثنا، أو صنما، أو كائنا ما كان من شيء.
* * *
وأرى أن أصل"الطاغوت"،"الطغووت" من قول القائل:"طغا فلان يطغوا"، إذا عدا قدره، فتجاوز حده، ك"الجبروت"" من التجبر"، و"الخلبوت" من"الخلب"، (1) . ونحو ذلك من الأسماء التي تأتي على تقدير"فعلوت" بزيادة الواو والتاء. ثم نقلت لامه - أعني لام"الطغووت" فجعلت له عينا، وحولت عينه فجعلت مكان لامه، كما قيل:"جذب وجبذ"، و"جاذب وجابذ"، و"صاعقة وصاقعه"، وما أشبه ذلك من الأسماء التي على هذا المثال.
* * *
فتأويل الكلام إذا: فمن يجحد ربوبية كل معبود من دون الله، فيكفر به="ويؤمن بالله"، يقول: ويصدق بالله أنه إلهه وربه ومعبوده (2) ="فقد استمسك بالعروة الوثقى"، يقول: فقد تمسك بأوثق ما يتمسك به من طلب الخلاص لنفسه من عذاب الله وعقابه، كما:-
5846 - حدثني أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي، قال: حدثنا بقية بن الوليد، قال: حدثنا ابن أبي مريم، عن حميد بن عقبة، عن أبي الدرداء: أنه عاد مريضا من جيرته، فوجده في السوق وهو يغرغر، لا يفقهون ما يريد.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة"الحلبوت من الحلب" بالحاء المملة، والصواب ما أثبت. يقال: "رجل خلبوت وامرأة خلبوت"، وهو المخادع الكذوب، وجاء في الشعر، وما أصدق ما قال هذا العربى، وما أبصره بطباع الناس، وما أصدقه على زماننا هذا:
ملكتم فلما أن ملكتم خلبتم ... وشرالملوك الغادر الخلبوت.
(2) اطلب معنى"الإيمان" فيما سلف في فهارس اللغة.(5/419)
فسألهم: يريد أن ينطق؟ قالوا: نعم يريد أن يقول:"آمنت بالله وكفرت بالطاغوت". قال أبو الدرداء: وما علمكم بذلك؟ قالوا: لم يزل يرددها حتى انكسر لسانه، فنحن نعلم أنه إنما يريد أن ينطق بها. فقال أبو الدرداء: أفلح صاحبكم! إن الله يقول:"فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا الفصام لها والله سميع عليم" (1) .
* * *
__________
(1) الأثر: 5846-"أحمد بن سعيد بن يعقوب الكندي"، أبو العباس، روي عن بقية بن الوليد، وعثمان بن سعيد الحمصي، روى عنه النسائي. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 1/1 / 53. و"حميد بن عقبة"، هو: حميد بن عقبة بن رومان بن زرارة القرشي و"يقال، الفلسطيني. سمع ابن عمر، وأبا الدرداء. وروى عنه أبو بكر بن مريم والوليد بن سليمان بن أبي السائب. قال أحمد: "حدثنا أبو الغيرة: سألت أبا بكر فقلت: حميد بن عقبة أراه كبيرا، وأنت تحدث عنه عن أبي الدرداء؟ قال: حدثني أن كل شيء حدثني عن أبي الدرداء، سمعه من أبي الدرداء"، مترجم في الكبير 1/ 2/ 347، وابن أبي حاتم 1/ 2 /226، وتعجيل المنفعة: 106.
يقال: "فلان في السوق، وفي السياق" أي في النزع عند الموت، كأن روحه تساق لتخرج من بدنه. و"هو يسوق نفسه ويسوق بنفسه": أي يعالج سكرة الموت ونزعه. ويقال: "غرغر فلان يغرغر" جاد بنفسه عند الموت، و"الغرغرة" تردد الروح في الحلق، وأكثر ذلك أن يكون معها صوت، كغرغرة الماء في الحلق. وقوله: "حتى انكسر لسانه": أي عجز عن النطق. وكل من عجز عن شيء، فقد انكسر عنه. وهو هنا عبارة جيدة تصور ما يكون في لسان الميت. * * *
وعند هذا الموضع انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا، وفيها ما نصه:
" يتلوه القول في تأويل قوله: فقد استمسك بالعروة الوثقى.
وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا"
ثم يبدا الجزء بعده:
"بسم الله الرحمن الرحيم،
رب يسر".(5/420)
القول في تأويل قوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}
قال أبو جعفر:"والعروة"، في هذا المكان، مثل للإيمان الذي اعتصم به المؤمن، فشبهه في تعلقه به وتمسكه به، بالمتمسك بعروة الشيء الذي له عروة يتمسك بها، إذ كان كل ذي عروة فإنما يتعلق من أراده بعروته.
وجعل تعالى ذكره الإيمان الذي تمسك به الكافر بالطاغوت المؤمن بالله، ومن أوثق عرى الأشياء بقوله:"الوثقى"
* * *
و"الوثقى"،"فعلى" من"الوثاقة". يقال في الذكر:"هو الأوثق"، وفي الأنثى:"هي الوثقى"، كما يقال:"فلان الأفضل، وفلانة الفضلى".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5847 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"بالعروة الوثقى"، قال: الإيمان.
5848 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
5849 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال:"العروة الوثقى"، هو الإسلام.
5850 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن أبي السوداء، عن جعفر - يعني ابن أبي المغيرة - عن سعيد بن جبير قوله:"فقد استمسك بالعروة الوثقى"، قال: لا إله إلا الله (1) .
__________
(1) الأثر: 5850، 5851-"أبو السوداء"، هو: "عمرو بن عمران النهدي"، روي عن المسيب بن عبدخير، وأبي مجلز، وعبد الرحمن بن باسط والضحاك بن مزاحم، وروى عنه حفص ابن عبد الرحمن بن سوقة والسفيانان. ثقه، مترجم في التهذيب.(5/421)
5851 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي السوداء النهدي، عن سعيد بن جبير مثله.
5852 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، الضحاك:"فقد استمسك بالعروة الوثقى"، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا انْفِصَامَ لَهَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا انفصام لها"، لا انكسار لها."والهاء والألف"، في قوله:"لها" عائد على"العروة".
* * *
ومعنى الكلام: فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله، فقد اعتصم من طاعة الله بما لا يخشى مع اعتصامه خذلانه إياه، وإسلامه عند حاجته إليه في أهوال الآخرة، كالمتمسك بالوثيق من عرى الأشياء التي لا يخشى انكسار عراها (1) .
* * *
وأصل"الفصم" الكسر، ومنه قول أعشى بني ثعلبة:
ومبسمها عن شتيت النبات ... غير أكس ولا منفصم (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "كالتمسك بالوثيق". والصواب الذي يقتضيه السياق ما أثبت.
(2) ديوانه: 2 من قصيدة من جيد شعر الأعشى، وقبله أبيات من تمام معناه: أتهجر غانية أم تلم ... أم الحبل واه بها منجذم
أم الرشد أحجى فإن امرءا ... سينفعه علمه إن علم
كما راشد تجدن امرءا ... تبين، ثم انتهى إذ قدم
عصى المشفقين إلى غيه ... وكل نصيح له يتهم
وما كان ذلك إلا الصبا ... وإلا عقاب امرئ قد أثم
ونظرة عين على غرة ... محل الخليط بصحراء زم
ومبسمها.............. ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فبانت وفي الصدر صدع لها ... كصدع الزجاجة ما يلتئم
وقوله: "ومبسهما" منصوب عطفا ما قبله، وهو مصدر ميمى، أي ابتسامها. والشتيت: المتفرق المفلج، يعنى: عن ثغرها شتيت النبات، غير متراكب نبتة الأسنان. والأكس، من الكسس (بفتحتين) : وهو أن يكون الحنك الأعلى أقصر من الأسفل، فتكون الثنيتان العلييان وراء السفليين من داخل الفم. وهو عيب في الخلفية. ورواية الديوان: "منقصم" وهي أجود معنى. يقال: ينصدع الشيء دون أن يبين. وأما"القصم" فهو أن ينكسر كسرا فيه بينونة. ولكن الطبري استشهد به على"الفصم" بالفاء. وكلاهما عيب.
وكان البيت مصحفا في المطبوعة: " ... عن سنب النبات غير كسر"، والصواب في المخطوطة، ولكنه غير منقوط فأساؤوا قراءته.(5/422)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5853 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا انفصام لها"، قال: لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
5854 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
5855 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا انفصام لها"، قال: لا انقطاع لها.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"والله سميع"، إيمان المؤمن بالله وحده، الكافر بالطاغوت، عند إقراره بوحدانية الله، وتبرئه من الأنداد والأوثان التي تعبد(5/423)
من دون الله="عليم" بما عزم عليه من توحيد الله وإخلاص ربوبيته قلبه، (1) وما انطوى عليه من البراءة من الآلهة والأصنام والطواغيت ضميره، وبغير ذلك مما أخفته نفس كل أحد من خلقه، لا ينكتم عنه سر، ولا يخفى عليه أمر، حتى يجازي كلا يوم القيامة بما نطق به لسانه، وأضمرته نفسه، إن خيرا فخيرا، وإن شرا فشرا.
* * *
__________
(1) السياق: "بما عزم عليه ... قلبه"، مرفوعا فاعل"عزم".(5/424)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
القول في تأويل قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"الله ولي الذين آمنوا"، نصيرهم وظهيرهم، يتولاهم بعونه وتوفيقه= (1) "يخرجهم من الظلمات" يعني بذلك: (2) .
يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان. وإنما عنى ب"الظلمات" في هذا الموضع، الكفر. وإنما جعل"الظلمات" للكفر مثلا لأن الظلمات حاجبة للأبصار عن إدراك الأشياء وإثباتها، وكذلك الكفر حاجب أبصار القلوب عن إدراك حقائق الإيمان والعلم بصحته وصحة أسبابه. فأخبر تعالى ذكره عباده أنه ولي المؤمنين، ومبصرهم حقيقة الإيمان وسبله وشرائعه وحججه، وهاديهم، فموفقهم لأدلته المزيلة عنهم الشكوك، بكشفه عنهم دواعي الكفر، وظلم سواتر [عن] أبصار القلوب. (3) .
__________
(1) انظر تفسيره"الولى" فيما سلف 2: 488، 489 / ثم: 563، 564.
(2) انظر القول في"الظلمات" فيما سلف 1: 338.
(3) الزيادة بين القوسين، لا غنى عنها، وليست في المطبوعة ولا المخطوطة.(5/424)
ثم أخبر تعالى ذكره عن أهل الكفر به، فقال:"والذين كفروا"، يعني الجاحدين وحدانيته="أولياؤهم"، يعني نصراؤهم وظهراؤهم الذين يتولونهم="الطاغوت"، يعني الأنداد والأوثان الذين يعبدونهم من دون الله="يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يعني ب"النور" الإيمان، على نحو ما بينا="إلى الظلمات"، ويعني ب"الظلمات" ظلمات الكفر وشكوكه، الحائلة دون أبصار القلوب ورؤية ضياء الإيمان وحقائق أدلته وسبله.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
5856 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، يقول: من الضلالة إلى الهدى="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت"، الشيطان: ="يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يقول: من الهدى إلى الضلالة.
5857 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، الظلمات: الكفر، والنور: الإيمان="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يخرجونهم من الإيمان إلى الكفر. (1) .
5858 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله تعالى ذكره:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، يقول: من الكفر إلى الإيمان="والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، يقول: من الإيمان إلى الكفر.
__________
(1) في المخطوطة: "من الظلمات إلى الكفر"، وهو خطأ بين جدا.(5/425)
5859- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن عبدة بن أبي لبابة، عن مجاهد أو مقسم في قول الله:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، قال: كان قوم آمنوا بعيسى، وقوم كفروا به، فلما بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى= أي: يخرج الذين كفروا بعيسى إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم= (1) "والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت"، آمنوا بعيسى وكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم= قال:"يخرجونهم من النور إلى الظلمات". (2) .
5860 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: سمعت منصورا، عن رجل، عن عبدة بن أبي لبابة قال في هذه الآية:"الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور"، إلى"أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"، قال: هم الذين كانوا آمنوا بعيسى ابن مريم، فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم كفروا به، وأنزلت فيهم هذه الآية. (3) .
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن مجاهد وعبدة بن أبي لبابة
__________
(1) في المطبوعة: "أي: يخرج الذين آمنوا إلى الإيمان بمحمد ... "، وهو لايستقيم، وفي المخطوطة: "فلما بعث الله محمدا آمن به الذين كفروا بعيسى، وكفر به الذين آمنوا بعيسى إلى الإيمان بمحمد ... " سقط من الناسخ لعجلته: "أي يخرج الذين كفروا بعيسى"، وهو ما أثبته استظهارا من سياق الكلام، ومن الأثر بالتالي، على خطئه فيه، ومن الدر المنثور 1: 230، وانظر التعليق على الأثر التالي.
(2) الأثر: 5859، -"عبدة بن أبي لبابة الأسدي" روي عن ابن عمر وزر بن حبيش وأبي وائل ومجاهد وغيرها من ثقات أهل الكوفة. مترجم في التهذيب، وكان في المطبوعة والمخطوطة في هذا الموضع"عبد الله بن أبي لبابة""، وهو خطأ، وسيأتي فيهما على الصواب في الأثر التالي.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "فلما جاءهم محمد صلى الله عليه آمنوا به". والصواب ما أثبت، أخطأ في نسخه وعجل. وانظر الدر المنثور 1: 230، ففيه الصواب، وهو الذي يدل عليه سياق الطبري فيما سيأتي أيضًا.(5/426)
يدل على أن الآية معناها الخصوص، وأنها -إذ كان الأمر كما وصفنا- نزلت فيمن كفر من النصارى بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيمن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم من عبدة الأوثان الذين لم يكونوا مقرين بنبوة عيسى، وسائر الملل التي كان أهلها يكذِّب بعيسى.
* * *
فإن قال قائل: أو كانت النصارى على حق قبل أن يبعث محمد صلى الله عليه وسلم فكذَّبوا به؟
قيل: من كان منهم على ملة عيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فكان على حق، وإياهم عنى الله تعالى ذكره بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) [النساء: 136] .
* * *
فإن قال قائل: فهل يحتمل أن يكون قوله:"والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونكم من النور إلى الظلمات"، أن يكون معنيا به غير الذين ذكر مجاهد وعبدة: (1) أنهم عنوا به من المؤمنين بعيسى، أو غير أهل الردة والإسلام؟ (2) .
قيل: نعم يحتمل أن يكون معنى ذلك: والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يحولون بينهم وبين الإيمان، ويضلونهم فيكفرون، فيكون تضليلهم إياهم حتى يكفروا إخراجا منهم لهم من الإيمان، يعني صدهم إياهم عنه، وحرمانهم إياهم خيره، وإن لم يكونوا كانوا فيه قبل، كقول الرجل:" أخرجني والدي من ميراثه"، إذا ملك ذلك في حياته غيره، فحرمه منه حظَّه= (3) ولم يملك ذلك القائل هذا
__________
(1) في المطبوعة: "مجاهد وغيره". وهي في المخطوطة: "عنده" غير منقوطة وإنما عنى عبدة ابن أبي لبابة، كما في الآثار السالفة، وما بعدها.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "الردة والإسلام" وهو هنا عطف لا يستقيم، فإنه إنما عنى المرتدة عن الإسلام.
(3) في المطبوعة: "فحرمه منه خطيئة"، وهو كلام خلو من المعنى. وفي المخطوطة: "فحرمه منه حطه" غير منقوطة، وكلها فاسدة. أن المعنى: إذا ملك الميراث غير أبيه، فحرمه حظه من ميراث أبيه. والحظ: النصيب.(5/427)
الميراث قط فيخرج منه، ولكنه لما حرمه، وحيل بينه وبين ما كان يكون له لو لم يحرمه، قيل:"أخرجه منه"، وكقول القائل:"أخبرني فلان من كتيبته"، يعني لم يجعلني من أهلها، ولم يكن فيها قط قبل ذلك. فكذلك قوله:"يخرجونهم من النور إلى الظلمات"، محتمل أن يكون إخراجهم إياهم من الإيمان إلى الكفر على هذا المعنى، (1) وإن كان الذي قاله مجاهد وغيره أشبه بتأويل الآية. (2) .
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف قال:"والذين كفروا أولياءهم الطاغوت يخرجونهم من النور"، فجمع خبر"الطاغوت" بقوله:"يخرجونهم"، و"الطاغوت" واحد؟
قيل: إن"الطاغوت" اسم لجماع وواحد، وقد يجمع"طواغيت". وإذا جعل واحده وجمعه بلفظ واحد، كان نظير قولهم:"رجل عدل، وقوم عدل" و"رجل فطر وقوم فطر"، (3) وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي موحدا في اللفظ واحدها وجمعها، (4) وكما قال العباس بن مرداس:
فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ... فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يحتمل" بالياء في أوله، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة معا: "مجاهد وغيره"، وهو خطأ، وانظر التعليق السالف: ص: 427 تعليق: 1.
(3) أي رجل مفطر، وقوم مفطرون.
(4) في المطبوعة: "التي تأتي موحدة في اللفظ ... "، وفي المخطوطة: "التي يأتي موحد في اللفظ"والصواب ما أثبت.
(5) سيرة ابن هشام 4: 95 واللسان (أخو) ومجاز القرآن 1: 79، من قصيدة له طويلة في يوم حنين، وفي هزيمة هوازن: ويذكر قارب بن الأسود وفراره من بني أبيه، وذا الخمار وحبسه قومه للموت، وبعد البيت: كأن القوم - إذ جاؤوا إلينا ... من البغضاء بعد السلم - عور
وهو يخاطب هوازن بن منصور بن عكرمة، إخوة سليم بن منصور، وهم قوم العباس بن مرداس السلمي. وهذا البيت يجعلونه شاهدا على جمع"أخ" بالواو والنون كقول عقيل بن علقة المري: وكان بنو فزارة شر عم ... وكنت لهم كشر بني الأخينا
فقوله: "أخوكم"، أي: إخوتكم. فهذا وجه آخر غير الذي استشهد له بهذا البيت والشاهد على قوله الطبري ما جاء في الأثر: "أنتم الوالد ونحن الولد". والإحن جمع إحنة: وهي الحقد الغالب.(5/428)
القول في تأويل قوله: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هؤلاء الذين كفروا="أصحاب النار"، أهل النار الذين يخلدون فيها- يعني في نار جهنم- دون غيرهم من أهل الإيمان، إلى غير غاية ولا نهاية أبدا. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه" ألم تر، يا محمد، بقلبك (2) .
="الذي حاج إبراهيم"، يعني الذي خاصم (3)
__________
(1) انظر تفسير"أصحاب النار""وخالدون" فيما سلف 2: 286، 287/ 4: 317.
(2) انظر تفسير"الرؤية"فيما سلف 3: 75 -79 /3: 160 / وهذا الجزء: 266، 291.
(3) انظر معنى"حاج" فيما سلف 3: 121 -200.(5/429)
"إبراهيم"، يعني: إبراهيم نبي الله صلى الله عليه وسلم =" في ربه أن آتاه الله الملك"، يعني بذلك: حاجه فخاصمه في ربه، لأن الله آتاه الملك.
* * *
وهذا تعجيب من الله تعالى ذكره نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، من الذي حاج إبراهيم في ربه. ولذلك أدخلت"إلى" في قوله:"ألم تر إلى الذي حاج"، وكذلك تفعل العرب إذا أرادت التعجيب من رجل في بعض ما أنكرت من فعله، قالوا:"ما ترى إلى هذا"؟! والمعنى: هل رأيت مثل هذا، أو كهذا؟! (1) .
* * *
وقيل: إن" الذي حاج إبراهيم في ربه" جبار كان ببابل يقال له: نمرود بن كنعان بن كوش بن سام بن نوح = وقيل: إنه نمرود بن فالخ بن عابر بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح.
* ذكر من قال ذلك:
5861 - حدثني محمد بن عمرو، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك"، قال: هو نمرود بن كنعان.
5862 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
5863 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد، مثله.
5864 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن مجاهد، مثله. (2) .
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 170.
(2) الأثر: 5864 -"النضر بن عربي الباهلي" مضت ترجمته في: 1307، وكان في المطبوعة والمخطوطة: "بن عدي"، وهو خطأ.(5/430)
5865 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، قال: كنا نحدث أنه ملك يقال له نمروذ، (1) وهو أول ملك تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل.
5866 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: هو اسمه نمروذ، وهو أول ملك تجبر في الأرض، حاج إبراهيم في ربه.
5867 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه إذ آتاه الله الملك"، قال: ذكر لنا أن الذي حاج إبراهيم في ربه كان ملكا يقال له نمروذ، وهو أول جبار تجبر في الأرض، وهو صاحب الصرح ببابل.
5868 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هو نمروذ بن كنعان.
5869 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: هو نمروذ.
5870 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، مثله.
5871 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني زيد بن أسلم، بمثله.
5872 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: هو نمرود= قال ابن جريج: هو نمرود، ويقال إنه أول ملك في الأرض.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "كنا نتحدث"، وما أثبت هو الصواب.(5/431)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
القول في تأويل قوله: {إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر، يا محمد، إلى الذي حاج إبراهيم في ربه حين قال له إبراهيم:"ربي الذي يحيي ويميت"، يعني بذلك: ربي الذي بيده الحياة والموت، يحيي من يشاء ويميت من أراد بعد الإحياء. قال: أنا أفعل ذلك، فأحيي وأميت، أستحيي من أردت قتله فلا أقتله، فيكون ذلك مني إحياء له= وذلك عند العرب يسمى"إحياء"، كما قال تعالى ذكره: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) [سورة المائدة: 32] = وأقتل آخر، فيكون ذلك مني إماتة له. قال إبراهيم صلى الله عليه وسلم: فإن الله الذي هو ربي يأتي بالشمس من مشرقها، فأت بها- إن كنت صادقا أنك إله- من مغربها! قال الله تعالى ذكره:"فبهت الذي كفر"، يعني انقطع وبطلت حجته.
* * *
يقال منه:"بهت يبهت بهتا". وقد حكي عن بعض العرب أنها تقول بهذا المعنى:"بهت". ويقال:"بهت الرجل"= إذا افتريت عليه كذبا="بهتا وبهتانا وبهاتة". (1) .
* * *
وقد روي عن بعض القرأة أنه قرأ:" فبهت الذي كفر"، بمعنى: فبهت إبراهيم الذي كفر.
* * *
__________
(1) "بهاتة"، مصدر لم أجده في كتب اللغة، وهو صحيح في القياس.(5/432)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5873 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت، قال أنا أحيي وأميت"، وذكر لنا أنه دعا برجلين ففتل أحدهما واستحي الآخر، فقال: أنا أحيي هذا! أنا أستحيي من شئت، وأقتل من شئت! قال إبراهيم عند ذلك:"فإن الله يأتي بالشمس من المغرب فأت بها من المغرب"،"فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين".
5874 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال:"أنا أحيي وأميت"، أقتل من شئت، وأستحيي من شئت، أدعه حيا فلا أقتله. وقال: ملك الأرض مشرقها ومغربها أربعة نفر: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان بن داود وذو القرنين، والكافران: بختنصر ونمرود بن كنعان، لم يملكها غيرهم.
5875 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أول جبار كان في الأرض نمروذ، (1) . فكان الناس يخرجون فيمتارون من عنده الطعام، فخرج إبراهيم يمتار مع من يمتار، فإذا مر به ناس قال: من ربكم؟ قالوا: أنت! حتى مر إبراهيم، قال: من ربك؟ قال: الذي يحيي ويميت؟ قال: أنا أحيي وأميت! قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر. قال: فرده بغير طعام. قال: فرجع إبراهيم على أهله، (2) .
فمر على كثيب أعفر، (3) فقال: ألا آخذ من هذا، فآتي به
__________
(1) في التاريخ: "نمرود" بالدال المهملة، وفي المخطوطة كذلك، إلا أنها لا تعجم المعجم.
وكلاهما جائز، بالدال المهملة والذال المعجمة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "على أهله"، والجيد ما في تاريخ الطبري، وهو ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "على كثيب من رمل أعفر" بهذه الزيادة، وليست في المخطوطة ولا في التاريخ والأعفر: الرمل الأحمر، أو تخالطه الحمرة.(5/433)
أهلي، (1) فتطيب أنفسهم حين أدل عليهم! فأخذ منه فأتى أهله. قال: فوضع متاعه ثم نام، فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته، فإذا هي بأجود طعام رآه أحد (2) ، فصنعت له منه، فقربته إليه، وكان عَهِد أهلَه ليس عندهم طعام، (3) فقال: من أين هذا؟ قالت: من الطعام الذي جئت به! فعلم أن الله رزقه، فحمد الله. ثم بعث الله إلى الجبار ملكا أن آمن بي وأتركك على ملكك! قال: وهل رب غيري؟! فجاءه الثانية، فقال له ذلك، فأبى عليه. ثم أتاه الثالثة فأبى عليه، فقال له الملك: اجمع جموعك إلى ثلاثة أيام! فجمع الجبار جموعه، فأمر الله الملك، ففتح عليه بابا من البعوض، فطلعت الشمس، فلم يروها من كثرتها، فبعثها الله عليهم فأكلت لحومهم، وشربت دماءهم، فلم يبق إلا العظام، والملك كما هو لم يصبه من ذلك شيء. فبعث الله عليه بعوضة، فدخلت في منخره، فمكث أربعمئة سنة يضرب رأسه بالمطارق، وأرحم الناس به من جمع يديه وضرب بهما رأسه. وكان جبارا أربعمئة عام، فعذبه الله أربعمائة سنة كملكه، وأماته الله. (4) وهو الذي بنى صرحا إلى السماء فأتى الله بنيانه من القواعد، وهو الذي قال الله: (فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ) (5) [النحل: 26] .
5876 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قول الله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، قال: هو نمروذ كان بالموصل والناس يأتونه، فإذا دخلوا عليه، قال: من ربكم؟ فيقولون: أنت!
__________
(1) في التاريخ: "هلاّ" (بفتح الهاء وتشديد اللام) وهما سواء، "ألاّ" أيضًا مشددة اللام.
(2) في المطبوعة: "فإذا هى بأجود طعام رأته"، والذي أثبت نص المخطوطة والتاريخ، فليت شعرى لم غيره المغيرون في الطبع! ! .
(3) الأثر: 5875 -في المطبوعة: "وكان عهده بأهله أنه ليس عندهم طعام"، وأثبت ما في المخطوطة. والتاريخ، وعجب لهؤلاء المبدلين، استدلوا الركيك الموضوع، بالجزء المرفوع! ! والأثر في التاريخ الطبري 1: 148.
(4) في المطبوعة: "ثم أماته الله"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.
(5) في المخطوطة: "فأتي الله بنيانه من القواعد"، ثم أراد أن يصححها، فكررها كما هى، ولم يضرب على الأولى.(5/434)
فيقول: أميروهم. (1) فلما دخل إبراهيم، ومعه بعير خرج يمتار به لولده، قال: فعرضهم كلهم، فيقول: من ربكم؟ فيقولون: أنت! فيقول: أميروهم! (2) حتى عرض إبراهيم مرتين، فقال: من ربك!؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت! قال: أنا أحيي وأميت، إن شئت قتلتك فأمتك، وإن شئت استحييتك. قال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب!! " فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين". قال: أخرجوا هذا عني فلا تميروه شيئا! فخرج القوم كلهم قد امتاروا، وجوالقا إبراهيم يصطفقان، (3) حتى إذا نظر إلى سواد جبال أهله، قال: ليحزني صبيتي إسماعيل وإسحاق! (4) لو أني ملأت هذين الجوالقين من هذه البطحاء، فذهبت بهما، قرت عينا صبيي، حتى إذا كان الليل أهرقته! قال: فملأهما، ثم خيطهما، ثم جاء بهما. فترامى عليهما الصبيان فرحا، وألقى رأسه في حجر سارة ساعة، ثم قالت: ما يجلسني! قد جاء إبراهيم تعبا لغبا، (5) لو قمت فصنعت له طعاما إلى أن يقوم! قال: فأخذت وسادة فأدخلتها مكانها، وانسلت قليلا قليلا لئلا توقظه. قال: فجاءت إلى إحدى الغرارتين ففتقتها، فإذا حواري من النقي لم يروا مثله عند أحد قط، (6) فأخذت منه فعجنته وخبزته، (7) فلما أتت توقظ إبراهيم جاءته حتى وضعته بين يديه، فقال: أي شيء هذا يا سارة؟ قالت: من جوالقك، لقد جئت وما عندنا قليل ولا كثير قال: فذهب ينظر إلى الجوالق الآخر فإذا هو مثله، فعرف من أين ذاك.
5877 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: لما قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت قال هو -يعني نمروذ: فأنا أحيي وأميت فدعا برجلين، فاستحي أحدهما، وقتل الآخر، قال: أنا أحيي وأميت،= قال: أي أستحيي من شئت= فقال إبراهيم: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب"فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين".
5878 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما خرج إبراهيم من النار، أدخلوه على الملك، ولم يكن قبل ذلك دخل عليه فكلمه، وقال له: من ربك؟ قال: ربي الذي يحيي ويميت قال نمروذ: أنا أحيي وأميت! أنا أدخل أربعة نفر بيتا، فلا يطعمون ولا يسقون، حتى إذا هلكوا من الجوع أطعمت اثنين وسقيتهما فعاشا، وتركت اثنين فماتا. فعرف إبراهيم أن له قدرة بسلطانه وملكه على أن يفعل ذلك، قال له إبراهيم: فإن ربي الذي يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب! فبهت الذي كفر، وقال: إن هذا إنسان مجنون! فأخرجوه، ألا ترون أنه من جنونه اجترأ على آلهتكم فكسرها، وأن النار لم تأكله! وخشي أن يفتضح في قومه = أعني نمروذ = وهو قول الله تعالى ذكره: (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ) [سورة الأنعام: 83] ، فكان يزعم أنه رب= وأمر بإبراهيم فأخرج.
5879 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدا يقول: قال: أنا أحيي وأميت، أحيي فلا أقتل، وأميت من قتلت= قال ابن جريج، كان أتى
__________
(1) في المطبوعة: "ميروهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما صواب. ماره يميره، وأماره: إذا أتاهم بالميرة (وهى الطعام المجلوب) ، ومار القوم وأمارهم أيضًا: إذا أعطاهم الميرة.
(2) في المطبوعة: "ميروهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما صواب. ماره يميره، وأماره: إذا أتاهم بالميرة (وهى الطعام المجلوب) ، ومار القوم وأمارهم أيضًا: إذا أعطاهم الميرة.
(3) الجُوالق (يضم الجيم، وكسر اللام أو فتحها) ، وجمعه جوالق وجوالقات، وهو وعاء من الأوعية، نسميه ونحرفه اليوم"شوال". واصطفق الشيء: اضطرب، يعنى من فراغهما.
(4) في المطبوعة: "ليحزنني"، والصواب ما في المخطوطة.
(5) لغب: قد أعيى أشد الإعياء. من اللغوب. وأكثر ما يقولون: لاغب، أما"لغب"، فهو قليل في كلامهم، وهو هنا اتباع.
(6) الحواري (بضم الخاء وتشديد الواو، والراء مفتوحة) : وهو لباب الدقيق الأبيض وأخلصه وأجوده. والنقى: وهو البر إذا جرى فيه الدقيق.
(7) في المطبوعة: "فطحنته وعجنته"، وفي المخطوطة"فعجنته وعجنته". واستظهرت أن تكون كما أثبتها.(5/435)
برجلين، فقتل أحدهما، وترك الآخر، فقال: أنا أحيي وأميت، قال: أقتل فأميت من قتلت، وأحيي= قال: استحيي= فلا أقتل.
5880 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: ذكر لنا والله أعلم: أن نمروذ قال لإبراهيم فيما يقول: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، (1) وتذكر من قدرته التي تعظمه بها على غيره، ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت. قال نمرود: فأنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ قال: آخذ رجلين قد استوجبا القتل في حكمي، فأقتل أحدهما فأكون قد أمته، وأعفو عن الآخر فأتركه وأكون قد أحييته! فقال له إبراهيم عند ذلك: فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فأت بها من المغرب، أعرف أنه كما تقول! فبهت عند ذلك نمروذ، ولم يرجع إليه شيئا، وعرف أنه لا يطيق ذلك. يقول تعالى ذكره:"فبهت الذي كفر"، يعني وقعت عليه الحجة= يعني نمروذ.
* * *
قال أبو جعفر: وقوله:"والله لا يهدي القوم الظالمين"، يقول: والله لا يهدي أهل الكفر إلى حجة يدحضون بها حجة أهل الحق عند المحاجة والمخاصمة، لأن أهل الباطل حججهم داحضة.
* * *
وقد بينا أن معنى"الظلم" وضع الشيء في غير موضعه، (2) والكافر وضع جحوده ما جحد في غير موضعه، فهو بذلك من فعله ظالم لنفسه.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال ابن إسحاق.
__________
(1) في المطبوعة: "الذي تعبده وتدعو إلى عبادته"، وفي المخطوطة"الذي تعبدونه وتدعو ... " صواب قراءتها ما أثبت.
(2) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف 1: 523، 524 / 2: 369، 519، ثم أخيرا ما سلف قريبا: 384.(5/437)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
5881 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق:"والله لا يهدي القوم الظالمين"، أي: لا يهديهم في الحجة عند الخصومة، لما هم عليه من الضلالة.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو كالذي مر على قرية"، نظير الذي عنى بقوله:"ألم تر الذي حاج إبراهيم في ربه"، من تعجيب محمد صلى الله عليه وسلم منه.
* * *
وقوله:"أو كالذي مر على قرية" عطف على قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإنما عطف قوله:"أو كالذي" على قوله:"إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، وإن اختلف لفظاهما، لتشابه معنييهما. لأن قوله:"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"، بمعنى: هل رأيت، يا محمد، كالذي حاج إبراهيم في ربه؟ = ثم عطف عليه بقوله:"أو كالذي مر على قرية" لأن من شأن العرب العطف بالكلام على معنى نظير له قد تقدمه، وإن خالف لفظه لفظه.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن"الكاف" في قوله،"أو كالذي مر على قرية"، زائدة، وأن المعنى: ألم ترى إلى الذي حاج إبراهيم، أو الذي مر على قرية.
* * *
وقد بينا قبل فيما مضى أنه غير جائز أن يكون في كتاب الله شيء لا معنى له، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1) .
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 439 -441 / 2: 331، 400.(5/438)
واختلف أهل التأويل في" الذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها".
فقال بعضهم: هو عزير.
* ذكر من قال ذلك:
5882 - حدثنا محمد بن بشار، قال، حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن ناحية بن كعب."أو كالذي مر على قرية خاوية على عروشها" قال: عزير. (1) .
5883 - حدثنا ابن حميد. قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا أبو خزيمة، قال: سمعت سليمان بن بريدة في قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: هو عزير.
5884 - حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد. قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها" قال، ذكر لنا أنه عزير.
5885 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتاده [مثله] . (2) .
5886 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أن الذي أتى على القرية هو عزير.
5887 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج عن ابن حريج، عن عكرمة:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها" قال: عزير.
__________
(1) الأثر: 5882 -"ناجية بن كعب الأسدي" روي عن علي، وعمار بن ياسر، وعبد الله ابن مسعود. روى عنه أبو إسحق السبيعي، وأبو حسان الأعرج، ويونس بن أبي إسحق. مترجم في التهذيب، والكبير 4/ 2/ 107، وابن أبي حاتم 4/ 1/486.
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها.(5/439)
5888 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط عن السدي:"أو كالذي مر على قرية" قال: عزير.
5889 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها" إنه هو عزير.
5890 - حدثني يونس، قال: قال لنا سلم الخواص: كان ابن عباس يقول: هو عزير. (1) .
* * *
وقال آخرون: هو أورميا بن حلقيا، (2) وزعم محمد بن إسحاق أن أورميا هو الخضر.
5891 - حدثنا بذلك ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، قال: اسم الخضر= فيما كان وهب بن منبه يزعم عن بني إسرائيل- أورميا بن حلقيا، وكان من سبط هارون بن عمران. (3) .
* ذكر من قال ذلك:
5892 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: حدثنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله:"أنى يحيي هذه الله
__________
(1) الأثر: 5890 -"يونس"، هو يونس بن عبد الأعلى سلفت ترجمته مرارا. و"سلم الخواص" هو: سلم بن ميمون الخواص الرازى الزاهد، من كبار الصوفية. دفن كتبه، وكان يحدث من حفظه فيغلط. قال ابن حبان: كان من كبار عباد أهل الشام، غلب عليه الصلاح، حتى غفل عن حفظ الحديث وإتقانه، فلا يحتج به. مترجم في لسان الميزان، وفي الجرح 2/1/ 267. وكان في المطبوعة: "سالم الخواص"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة.
(2) هو في كتاب القوم (إرميا) . وكان في المطبوعة مثله، ولكنى أثبت ما في المخطوطة لأنه مضى عليه في جميع ما يأتي، وكذلك كان يرسم في غيره من الكتب. انظر"سفر أرميا" في كتابهم.
(3) هذا القول رده الطبري ونقضه في تاريخه 1: 194، وما قبلها.(5/440)
بعد موتها"، أن أورميا لما خرب بيت المقدس وحرقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها". (1) .
5893 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: هو أورميا.
5894 - حدثني محمد بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: سمعت عبد الصمد بن معقل، عن وهب بن منبه، مثله.
5895 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى بن ميمون، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير في قول الله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاويه على عروشها"، قال: كان نبيا وكان اسمه أورميا.
5896 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن قيس بن سعد، عن عبد الله بن عبيد، مثله.
5897 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن [مضر] ، قال: يقولون والله أعلم: إنه أورميا. (2) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره عجب نبيه صلى الله عليه وسلم ممن قال - إذ رأى قرية خاوية على عروشها-"أنى يحيي هذه الله بعد موتها"، مع علمه أنه ابتدأ خلقها من غير شيء، فلم يقنعه علمه بقدرته على ابتدائها حتى قال: أنى يحييها الله بعد موتها! ولا بيان عندنا من الوجه الذي يصح من قِبَلِهِ البيان على اسم قائل ذلك. وجائز أن يكون ذلك
__________
(1) الأثر: 5892 -هو بعض الأثر السالف رقم: 5661.
(2) الأثر: 5897 -في المطبوعة والمخطوطة بياض مكان ما بين القوسين وقد زدته استظهارا من الأسانيد السالفة. وقد مضت ترجمة"بكر بن مضر المصري" في رقم: 2031، وانظر هذا الإسناد فيما سيأتي رقم: 5929 - 5949.(5/441)
عزيرا، وجائز أن يكون أورميا، ولا حاجة بنا إلى معرفة اسمه، إذ لم يكن المقصود بالآية تعريف الخلق اسم قائل ذلك، وإنما المقصود بها تعريف المنكرين قدرة الله على إحيائه خلقه بعد مماتهم، وإعادتهم بعد فنائهم، وأنه الذي بيده الحياة والموت= من قريش، ومن كان يكذب بذلك من سائر العرب= (1) وتثبيت الحجة بذلك على من كان بين ظهراني مهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يهود بني إسرائيل، بإطلاعه نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم على ما يزيل شكهم في نبوته، ويقطع عذرهم في رسالته، إذ كانت هذه الأنباء التي أوحاها إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم في كتابه، من الأنباء التي لم يكن يعلمها محمد صلى الله عليه وسلم وقومه، ولم يكن علم ذلك إلا عند أهل الكتاب، ولم يكن محمد صلى الله عليه وسلم وقومه منهم، بل كان أميا وقومه أميون، (2) فكان معلوما بذلك عند أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا بين ظهراني مهاجَرِه، أن محمدا صلى الله عليه وسلم لم يعلم ذلك إلا بوحي من الله إليه. ولو كان المقصود بذلك الخبر عن اسم قائل ذلك، لكانت الدلالة منصوبة عليه نصبا يقطع العذر ويزيل الشك، ولكن القصد كان إلى ذم قِيله، فأبان تعالى ذكره ذلك لخلقه.
* * *
واختلف أهل التأويل في"القرية" التي مر عليها القائل:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها".
فقال بعضهم: هي بيت المقدس.
* ذكر من قال ذلك:
5898 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر ومحمد بن عبد الملك، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن
__________
(1) السياق: " تعريف المنكرين ... من قريش ... ". وسياق ما بين الخطين: وإنما المقصود بها تعريف المنكرين ... وتثبيت الحجة ... ".
(2) يعنى بالأمي: الذي لا كتاب له، وانظر تفسير"الأمي" فيما سلف 2: 257 -259.(5/442)
منبه، قال: لما رأى أورميا هدم بيت المقدس كالجبل العظيم، قال:"أنى يحيي هذه الله بعد موتها".
5899 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه، قال: هي بيت المقدس.
5900 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني ابن إسحاق عمن لا يتهم أنه سمع وهب بن منبه يقول ذلك.
5901 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذكر لنا أنه بيت المقدس، أتى عليه عزير بعد ما خربه بخت نصر البابلي.
5902 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها"، أنه مر على الأرض المقدسة.
5903 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة في قوله:"أو كالذي مر على قرية" قال: القرية: بيت المقدس، مر بها عزير بعد إذ خربها بخت نصر. (1) .
5904 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أو كالذي مر على قرية" قال: القرية بيت المقدس، مر عليها عزير وقد خربها بخت نصر.
* * *
وقال آخرون: بل هي القرية التي كان الله أهلك فيها الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت، فقال لهم الله موتوا.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "بختنصر"، كلمة واحدة، وكذلك في التاريخ وغيره، ولكن المخطوطة في هذا الموضع وكل ما يليه كتبت كلمتين مفصولتين، فأثبتها كما هى، فهى صواب أيضًا.(5/443)
5905 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ) ، قال: قرية كان نزل بها الطاعون= ثم اقتص قصتهم التي ذكرناها في موضعها عنه، إلى أن بلغ= (فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا) ، في المكان الذي ذهبوا يبتغون فيه الحياة، (1) فماتوا ثم أحياهم الله، (إ ن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون) [سورة البقرة: 243] . قال: ومر بها رجل وهي عظام تلوح، فوقف ينظر، فقال:"أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام ثم بعثه" إلى قوله"لم يتسنه". (2) .
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك كالقول في اسم القائل:"أنَّى يحيي هذ الله بعد موتها" سواءً لا يختلفان.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وهي خاويه" وهي خالية من أهلها وسكانها.
* * *
يقال من ذلك:"خوَت الدار تخوِي خوَاء وخُوِيًّا"، وقد يقال للقرية:"خَوِيَت"، والأول أعرب وأفصح. وأما في المرأة إذا كانت نُفَساء فإنه يقال:"خَوِيَت تَخْوَى خَوًى" منقوصًا، وقد يقال فيها:"خَوَت تخوِي، كما يقال في
__________
(1) في الأثر السالف: 5608 -"ذهبوا إليه" بزيادة"إليه".
(2) الأثر: 5905 - هو بعض الأثر: 5608.(5/444)
الدار. وكذلك:"خَوِيَ الجوف يخوَى خوًى شديدًا"، (1) ولو قيل في الجوف ما قيل في الدار وفي الدار ما قيل في الجوف كان صوابًا، غير أن الفصيح ما ذكرت.
* * *
وأما"العُرُوش"، فإنها الأبنية والبيوت، واحدها"عَرْش"، وجمع قليله"أعرُش". (2) .
وكل بناء فإنه"عرش". ويقال:"عَرَش فلان دارًا يعرِش ويعرُش عرشًا"، (3) ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ) [سورة الأعراف: 137] يعني يبنون، ومنه قيل:"عريش مكه"، يعني به: خيامها وأبنيتها (4) .
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك.
5906 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس:"خاوية"، خراب= قال ابن جريج: بلغنا أن عُزيرًا خرج فوقف على بيت المقدس وقد خرَّبه بخت نصَّر، (5) فوقف
__________
(1) في المطبوعة: "خواء شديدًا"، والصواب من المخطوطة، هذا على أنه يقال في ذلك أيضًا، "خواء" ممدودًا، ولكن القصر أعلى.
(2) هكذا جاء في المخطوطة والمطبوعة: "أعرش"، والذي نص عليه أصحاب اللغة"أعراش"، وكلاهما جمع قلة، ولم يذكروا"أعرش" فيما رأيت، ولكنها قياس الباب، فإن"فعل" (بفتح فسكون) يغلب على جمعه في جمعه في القلة"أفعل" (بضم العين) مثل فلس وأفلس، إلا أن يكون أجوف، واويًا أو بائيًا، فإن الغالب في قلته"أفعال" مثل ثوب وأثواب، وبيت وأبيات. فعن هذا يتبين أن نص الطبري صحيح جار على قياس اللغة، وأن جمعه على"أعراش" مما شذ عن بابه.
(3) في المطبوعة: "عرش فلان ويعرش ويعرش وعرش عريشًا"، وهو لا يستقيم، وإنما أراد تصحيح ما كان في المخطوطة فأفسده، وإذ لم يحسن قراءته، وفي المخطوطة: "عرش فلان إذا يعرش ويعرش عرشًا" ولكنه كتب أولا"تعرشا" غير منقوطة ثم عاد فوضع العين"ع" في رأس الكلمة"يعر"فلما رأي المصحح في النص"إذا" حذفها، وتصرف في سائره، ولم يحسن التصرف! .
(4) في اللسان: "العروش بيوت مكة" وفي حديث ابن عمر: " أنه كان يقطع التلبية إذا نظر إلى عروش مكة". قال ابن الأثير: "بيوت مكة، لأنها كانت عيدانًا تنصب ويظلل عليها" وقالوا: وهي بيوت أهل الحاجة منهم.
(5) انظر التعليق السالف ص: 443 رقم: 1.(5/445)
فقال: أبعد ما كان لك من القدس والمقاتِلةِ والمال ما كان!! فحزن. (1) .
5907 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"وهي خاوية على عروشها" قال: هي خراب.
5908 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: مرّ عليها عزير وقد خرَّبها بخت نصر.
5909 - حدثت موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"وهي خاويه على عروشها" يقول: ساقطة على سُقُفِها.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ}
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك فيما ذُكر لنا: (2) .
أنّ قائله لما مرَّ ببيت المقدس = أو بالموضع الذي ذكر الله أنه مرّ به = خرابا بعد ما عهدهُ عامرًا قال: أنَّى يحيي هذه الله بعد خرابها؟ (3) .
فقال بعضهم: (4) . كان قيله ما قال من ذلك شكًّا في قدرة الله على إحيائه.
__________
(1) في المطبوعة: "من المقدس"، وهو خطأ صرف، والقدس: الطهر والتنزيه والبركة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ومعنى ذلك فيما ذكرت أن ... "، وهو لا يستقيم، وصواب السياق ما أثبت.
(3) في المطبوعة: ذكر نص الآية"بعد موتها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، ليكون تفسرا لقواه: "بعد موتها"، كما يدل عليه السياق. وانظر تفسير"الموت" بمعنى: خراب الأرض، ودثور عمارتها، فيما سلف 3: 274.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "فقال بعضهم"، كأنه متصل بما قبله، ولو كان ذلك كذلك لفسد سائر الكلام واضطراب، ولاحتاج الطبري أن يذكر أقوال آخرين فيما يأتي، ولكنه لم يفعل.
فالصواب الذي يقتضيه السياق، فيما سبق بعد تصحيحه، وفيما يستقبل، يوجب ما أثبت.(5/446)
فأراه الله قُدرته على ذلك يضربه المثلَ له في نفسه، ثم أراه الموضع الذي أنكر قُدرته على عمارته وإحيائه، أحيا ما رآه قبل خرابه، وأعمرَ ما كان قبل خرابه. (1) .
* * *
وذلك أن قائل ذلك كان -فيما ذكر لنا- عهده عامرًا بأهله وسكانه، ثم رآه خاويًا على عروشه، قد باد أهله، وشتَّتهم القتل والسباء، فلم يبق منهم بذلك المكان أحدٌ، وخربت منازلهم ودورهم، فلم يبق إلا الأثر. فلما رآه كذلك بعد للحال التي عهده عليها، قال: على أيّ وَجه يُحيي هذه الله بعد خرابها فيعمُرها، (2) . استنكارًا فيما -قاله بعض أهل التأويل- فأراه كيفية إحيائه ذلك بما ضربه له في نفسه، وفيما كان في إدواته وفي طعامه، (3) . ثم عرّفه قدرته على ذلك وعلى غيره بإظهاره على إحيائه ما كان عجبًا عنده في قدرة الله إحياؤه رَأْيَ عينه حتى أبصره ببصره (4) ، فلما رأى ذلك قال: (أعلمُ أنّ الله على كل شيء قدير) .
* * *
وكان سبب قِيله ذلك، كالذي: -
5910 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه اليماني أنه كان يقول: قال الله لأرميا حين بعثه نبيًّا إلى
__________
(1) قوله: "أحيى ما رآه ... "و"أعمر ما كان ... "، هو"أفعل" التفضيل من"الحياة" و"العمارة"، وليسا فعلين، أي أحسن حياة، وأكثر عمرانا.
(2) انظر تفسير"أني" فيما سلف 4: 413 -416 /وهذا الجزء 5: 312.
(3) في المطبوعة: "وفيما كان من شرابه وطعامه"، لم يحسن قراءة المخطوطة لتصحيفها. وفي المخطوطة: "وفيما كان من إدا وبه وطعامه"، وصواب هذه الجملة المصحفة ما أثبت. والإداوة (بكسر الهمزة) : هي إناء صغير من جلد يتخذ للماء، وجمعها"أداوى" بفتح الواو، وزدت"في" بين" وطعامه" لضرورتها في السياق.
(4) في المطبوعة: "بإظهاره إحياء ما كان عجبًا. لرأي عينه"، وفي المخطوطة: "بإظهاره إحيائه ما كان.." وسائره مثله. والصواب ما أثبت، وسياق العبارة: بإظهاره على إحيائه ذلك رأي عينه"، بحذف اللام من "لرأي"، ونصب "رأي" يقول: أظهره على إحياء ما أحيي رأي العين.(5/447)
بني إسرائيل: (1) ."يا أرميا، من قبل أنْ أخلقك اخترتك، ومن قبل أن أصوِّرك في رَحِم أمك قدَّستك، (2) . ومن قبل أن أخرجك من بطنها طهَّرتك، ومن قبل أن تبلغ السعي نبَّيتُك، (3) . ومن قبل أن تبلغ الأشُدَّ اخترتك، (4) . ولأمر عظيم اجتبيتك، فبعث الله تعالى ذكره إرميا إلى ملك بني إسرائيل يسدده ويرشده، ويأتيه بالبر من الله فيما بينه وبينه; قال: ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي، واستحلّوا المحارم، ونسوا ما كان الله صنع بهم، وما نجاهم من عدوهم سَنْحاريب، فأوحى الله إلى أورميا: (5) . أن ائت قومك من بني إسرائيل، فاقصص عليهم ما آمرك به، وذكِّرهم نعمتي عليهم وعرِّفهم أحداثهم = ثم ذكر ما أرسل الله به أرميا إلى قومه من بني سرائيل = (6) . قال: ثم أوحى الله إلى أرميا: إنّي مهلك بني إسرائيل بيافث -ويافثُ أهل بابل، وهم من ولد يافث بن نوح- فلما سمع أرميا وحيَ ربّه، صاح وبكى وشقّ ثيابه، ونبذ الرماد على رأسه، فقال: ملعون يومٌ ولدت فيه، ويومٌ لُقِّيت فيه التوراة، (7) . ومن شر أيامي يومٌ ولدت فيه، فما أُبْقِيتُ آخرَ الأنبياء إلا لما هو شر علي! (8) . لو أراد بي خيرًا ما جعلني آخر الأنبياء من بني إسرائيل! فمن أجلي تصيبهم الشِّقوة والهلاك! فلما سمع الله تضرُّع الخضر وبكاءه وكيف يقول، (9) . ناداه: أورميا! أشقّ عليك ما أوحيت إليك؟ قال: نعم يا رب، أهلكني قبل أن أرى في بني إسرائيل ما لا أُسَرّ به، (10) . فقال الله: وعزتي العزيزة، (11) . لا أهلك بيت المقدس وبني إسرائيل حتى يكون الأمر من قِبَلك في ذلك! ففرح عند ذلك أورميا لما قال له ربه، وطابت نفسه، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحق، لا آمر ربي بهلاك بني إسرائيل أبدًا! (12) . ثم أتى ملكَ بني إسرائيل، وأخبره بما أوحى الله إليه، ففرح واستبشر وقال: إن يعذِّبنا ربُّنا فبذنوب كثيرة قدَّمناها لأنفسنا، وإن عفا عنا فبقدرته.
= ثم إنهم لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين لم يزدادوا إلا معصية، وتمادوا في الشر، (13) . وذلك حين اقترب هلاكهم، فقلّ الوحيُ، حتى لم يكونوا يتذكرون الآخرة، (14) . وأمسك عنهم حين ألهتهم الدنيا وشأنُها، فقال ملكهم: يا بني إسرائيل انتهوا عما أنتم عليه قبل أن يمسَّكم بأسٌ من الله، وقبل أن يُبعث عليكم ملوكٌ لا رحمة لهم بكم، (15) . فإن ربكم قريب التوبة، مبسوط اليدين بالخير، رحيم بمن
__________
(1) انظر ما سلف في ص 440، وكتابتها هناك "أورميا"، وهي هنا كما أثبتها. وستأتي بعد أسطر على ما سلف.
(2) في تاريخ الطبري: "في بطن أمك"، سواء.
(3) في المطبوعة: "نبأتك"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. ولأجود ترك الهمزة فيه، وحمله على لفظ"النبي" ونباه: جعله نبيا أو كتبه عنده نبيا. و"تنبى الكذاب"، إذا ادعى النبوة.
(4) في التاريخ: "اختبرتك"، وما في التفسير، هو الجيد الصواب. وسيأتي اختلاف في بعض اللفظ لا أقيده حتى أجده صالحا للتعيين.
(5) أثبت ما في المخطوطة في هذا الموضع وانظر التعليق السالف رقم: 1.
(6) ما بين الخطين من كلام أبي جعفر، فقد قطع سياق الخبر، وانتقل إلي ما أراد، والذي يأتي يبدأ في تاريخه في ج 1: 287.
(7) في المطبوعة والمخطوطة: "لقيت التوراة"، وزدت"فيه" من التاريخ، وهي أجود. وفي التاريخ: "لقنت" من التلقين، والذي في المطبوعة والمخطوطة صواب جدا. لقي الشيء يلقاه (بتشديد القاف والبناء للمجهول) : علمه، ونبه إليه، ولقنه. فهما سواء في المعنى. وبذلك جاء في كتاب الله:
(وما يلقاها إلا الذين صبروا، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم) .
(8) في المخطوطة: "إلا لما هو أشر على"، ولا بأس بها.
(9) "الخضر" هو"أرميا" نفسه، فيما زعم وهب بن منبه راوي هذا الأثر، كما سلف ذلك عنه في رقم: 5891.
(10) في المخطوطة والمطبوعة: "أهلكنى في بني إسرائيل" سقط منها"قبل أن أروي"، وأثبت صوابها من التاريخ.
(11) في التاريخ: "وعزتي وجلالي" والذي في المخطوطة والمطبوعة قسم عزيز قلما أصبته فيما قرأت.
(12) " لا آمر ربي" يعنى: لا أسأله ذلك ولا أدعوه. وهو مجاز من الأمر" جيد عربي فصيح، وقلما تصيبه في كتب اللغة، وقلما تصيب الشاهد عليه. وذلك أنه إذا دعا قال: "رب أهلكهم"، فذلك دعاء، وكل دعاء يقتضى هذا الفعل الأمر، وليس بأمر لله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا. وهذا المجاز في النفى، أجود منه في الإثبات. وانظر ما سيأتي في الخبر ص: 450، وتعليق: ك 4.
(13) في التاريخ: "وتماديا في الشر" وهو أجود.
(14) في المطبوعة: "حتى لم يكونوا"، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، وهو العربي الصحيح.
(15) في التاريخ: "وقيل أن يبعث الله عليكم قوما لا رحمة لهم بكم".(5/448)
تاب إليه! (1) . فأبوا عليه أن ينزعوا عن شيء مما هم عليه، (2) . وإن الله ألقى في قلب بخت نصر بن نبوذراذان [بن سنحاريب بن دارياس بن نمروذ بن فالغ بن عابر = ونمروذ صاحب إبراهيم صلى الله عليه وسلم، الذي حاجّه في ربّه] = (3) . أن يسير إلى بيت المقدس، ثم يفعل فيه ما كان جده سنحاريب أراد أن يفعله، فخرج في ستمائة ألف راية يريد أهل بيت المقدس; فلما فصَل سائرًا، أتى ملكَ بني إسرائيل الخبرُ أن بخت نصّر أقبلَ هو وجنوده يريدكم. فأرسل الملك إلى أرميا، فجاءه فقال: يا أرميا، أين ما زعمت لنا أنّ ربنا أوحى إليك أن لا يُهلك أهل بيت المقدس حتى يكون منك الأمرُ في ذلك؟ (4) .
(5) . فقال أرميا للملك: إنّ ربي لا يخلف الميعاد، وأنا به واثق.
= فلما اقترب الأجل، ودنا انقطاع ملكهم، وعزم الله على هلاكهم، بعث الله مَلَكًا من عنده، فقال له: اذهب إلى أرميا فاستفته = وأمره بالذي يستفتيه فيه.
فأقبل الملك إلى أرميا، وقد تمثَّل له رجلا من بني إسرائيل، (6) . فقال له أرميا: من أنت؟ قال: رجل من بني إسرائيل أستفتيك في بعض أمري، فأذن له، فقال المَلَك: يا نبيَّ الله أتيتك أستفتيك في أهل رَحِمي، وصلتُ أرحامهم بما أمرني الله به، لم آت إليهم إلا حَسَنًا، ولم آلُهم كرامة، فلا تزيدهم كرامتي إياهم إلا إسخاطًا لي، فأفتني فيهم يا نبي الله؟ فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله،
__________
(1) في المطبوعة: "رحيم من تاب عليه"، والصواب من المخطوطة والتاريخ.
(2) "نزع عن الشيء ينزع نزوعا": كف وانتهى.
(3) في المطبوعة"بختنصر بن نعون بن زادان، والصواب من المخطوطة والتاريخ. وهذا الزيادة بين القوسين، لم تكن في المخطوطة، ولكنى زدتها من التاريخ، لحاجة الكلام إليها بعد في ذكر سنحاريب، وأنه جد بخت نصر. وقوله: "بن نبوذراذان" هو في كتاب القوم (بن نبو بولا سار) ، وأما"نبوذراذان"، فهو مذكور عندهم أنه رئيس حامية"بنو خذ ناصر"، وهو"بخت نصر". وهذا النسب قد ساقه الطبري قبل هذا الموضع في تاريخه 1: 283 مع بعض الاختلاف.
(4) الأمر: الدعاء والسؤال. وانظر التعليق السالف ص: 449، تعليق: 4.
(5) في المطبوعة"وقد تمثل" بالواو، وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ، وهو جيد جدا.
(6) في المطبوعة: "رجل ... " بحذف"أنا" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ.(5/450)
وصِلْ ما أمرك الله به أن تصل، وأبشر بخير. فانصرف عنه الملَك; فمكث أيامًا ثم أقبل إليه في صورة ذلك الرجل الذي جاءه، فقعد بين يديه، فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الرجل الذي أتيتك في شأن أهلي! (1) . فقال له نبي الله، أو ما طهُرت لك أخلاقهم بعد، (2) . ولم تر منهم الذي تحب؟ فقال: يا نبي الله، والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامةً يأتيها أحدٌ من الناس إلى أهل رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضلَ من ذلك! فقال النبي: ارجعْ إلى أهلك فأحسنْ إليهم، أسأل الله الذي يصلح عباده الصالحين أن يصلح ذات بينكم، (3) . وأن يجمعكم على مرضاته، ويجنِّبكم سخطه! فقام الملك من عنده، فلبث أيامًا، وقد نزل بخت نصّر وجنوده حول بيت المقدس أكثر من الجراد، (4) . ففزع بنو إسرائيل فزعًا شديدًا، وشق ذلك على ملك بني إسرائيل، فدعا أرميا، فقال: يا نبي الله، أين ما وعدك الله؟ فقال: إني بربي واثق.
= ثم إن الملك أقبل إلى أرميا وهو قاعد على جدار بيت المقدس يضحك ويستبشر بنصر ربه الذي وعده، فقعد بين يديه، فقال له أرميا: من أنت؟ قال: أنا الذي كنت استفتيتك في شأن أهلي مرتين، (5) . فقال له النبي: أو لم يأن لهم أن يفيقوا من الذي هم فيه؟ فقال الملك: يا نبي الله، كل شيء كان يصيبني منهم قبلَ اليوم كنت أصبر عليه، وأعلم أنّ ما بهم في ذلك سخطي، (6) . فلما
__________
(1) في التاريخ وحده: "أتيتك أستفتيك في شأن أهلي".
(2) يقال: "رجل طاهر الأخلاق"، أي يتنزه عن دنس الأخلاق، ويكف عن الإثم.
(3) في التاريخ: "واسأل الله"، بالواو في أوله، وكأنه أمر للرجل. وأن يكون دعاء من النبي له، أقرب وأحسن.
(4) في المطبوعة: "بجنوده"، وفي المخطوطة"جنوده" بغير واو، وأثبت ما في التاريخ، وفيه أيضًا: "بأكثر من الجراد".
(5) في التاريخ: "أتيتك في شأن أهلي ... ".
(6) في المطبوعة: "أنما قصدهم في ذلك سخطي"، وفي التاريخ: "أن مآ لهم في ذلك سخطي" وفي المخطوطة: "أنما نهم في ذلك سخطي"، والأول تبديل للنص، والآخران تصحيف، صوابه ما أثبت.
يقال: "ما بك إلا مساءتى"، أي ما تريد إلا مساءتى. فكذلك قوله: "أن ما بهم في ذلك سخطي"، أن الذي يريدون في فعلهم ذلك، سخطي واستثارة غضبى.(5/451)
أتيتهم اليوم رأيتهم في عمل لا يرضي الله، ولا يحبه الله، فقال النبي: على أي عمل رأيتهم؟ قال: يا نبي الله رأيتهم على عمل عظيم من سَخَط الله، فلو كانوا على مثل ما كانوا عليه قبل اليوم لم يشتدَّ عليهم غضبي، (1) . وصبرتُ لهم ورَجوتهم، ولكن غضبتُ اليوم لله ولك، (2) . فأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله -الذي هو بعثك بالحق إلا ما دعوت عليهم ربّك أن يهلكهم. (3) . فقال أرميا: يا مالك السماوات والأرض، (4) . إن كانوا على حق وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه، فأهلكهم! فلما خرجت الكلمة مِن فِيّ أرميا أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس، فالتهبَ مكان القُربان وخُسف بسبعة أبواب من أبوابها; فلما رأى ذلك أرميا صَاح وشق ثيابه، ونَبَذ الرَّماد على رأسه، فقال يا ملك السماء، ويا أرحم الراحمين، أين ميعادك الذي وعدتني؟ فنودي: أرميا، إنه لم يصبهم الذي أصابهم إلا بفُتياك التي أفتيتَ بها رسولنا، فاستيقن النبي أنها فتياه التي أفتى بها ثلاثَ مرات، وأنه رسول ربه، فطار إرميا حتى خالط الوحوش. = ودخل بخت نصر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام، وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم، وخرَّب بيت المقدس، ثم أمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابًا ثم يقذفه في بيت المقدس، فقذفوا فيه التراب حتى ملأوه، ثم انصرف راجعًا إلى أرض بابل، واحتمل معه سبايا بني إسرائيل، وأمرهم أن يجمعوا من كان في بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل، فاختار منهم سبعين ألف صبي; (5) . فلما خرجت غنائم جنده، وأراد أن يقسمهم فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك، لك غنائمنا كلها، واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل! ففعل، فأصاب كل واحد منهم أربعةُ غلمة، وكان من أولئك الغلمان:"دانيال"، و"عزاريا"، و"ميشايل"، و"حنانيا". (6) . وجعلهم بخت نصر ثلاث فرق: فثلثًا أقر بالشام، وثلثًا سَبَى، وثلثًا قتل. وذهب بآنية بيت المقدس حتى أقدمها بابل. (7) . وبالصبيان السبعين الألف حتى أقدمهم بابل، (8) . فكانت هذه الوقعةَ الأولى التي ذكر الله تعالى ذكره ببني إسرائيل، بإحداثهم وظلمهم. (9) .
= فلما ولّى بخت نصر عنه راجعًا إلى بابل بمن معه من سبايا بني إسرائيل، أقبل أرميا على حمار له معه عصيرٌ من عنب في زُكْرَة وسَلَّة تين، (10) . حتى أتى إيليا، فلما وقف عليها، ورأى ما بها من الخراب دخله شك، فقال: أنّى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام وحماره وعصيرُه وسلة تينه عنده حيث أماته
__________
(1) في المطبوعة وحدها: "ولو كانوا ... " بالواو لا بالفاء.
(2) في المطبوعة وحدها: "ولكن غضبت ... ".
(3) في المطبوعة وحدها: "الذي بعثك" بحذف"هو".
(4) في المطبوعة وحدها: "يا مالك السموات ... ".
(5) في المطبوعة: "تسعين ألف صبى"، وفي المخطوطة: "سبعين صبى" بإسقاط"ألف"، أما في التاريخ: "فاختار منهم مئة ألف صبى"، ولكنه عاد بعد ذلك فروي سيأتي: "وذهب بالصبيان السبعين الألف"، فأخشى أن يكون ما في التاريخ خطأ، صوابه"فاختار منهم سبعين ألف صبى من مئة ألف صبى".
(6) "عزريا"، "ميشائيل"، "حننيا" هكذا رسم أسمائهم في"سفر دانيال" الإصحاح الأول. وكان في المطبوعة: "مسايل" وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ. وفي التاريخ بعد هذا الموضع تعداد هؤلاء الغلمان من أسباط بني إسرائيل.
(7) في المطبوعة وحدها: "بأسبية بيت المقدس"، وهو خطأ لا معنى له هنا.
(8) في المطبوعة والمخطوطة: "التسعين الألف". وهو يخالف ما مضى من الخبر في المخطوطة كما أسلفنا في التعليق: 1، وأثبت ما في التاريخ.
(9) في المطبوعة وحدها: "الواقعة الأولى التي ذكر الله ... "، ثم يلي ذلك في المخطوطة والمطبوعة" ... تعالى ذكره نبي الله بإحداثهم ... "، والصواب من التاريخ.
(10) الزكرة (بضم فسكون) : زق صغير من أدم يجعل فيه الشراب. وفي التاريخ"ركوة"، والصواب ما في التفسير، فإن"الركوة" (بكسر فسكون) : إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، هو كالكوب لا كالزق.(5/452)
الله، وأمات حماره معه. (1) . فأعمى الله عنه العيون، فلم يره أحد، ثم بعثه الله تعالى، فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قال: بل لبثتَ مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه"، يقول: لم يتغير ="وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف ننشزها ثم نكسوها لحمًا" فنظر إلى حماره يَاتَصِل بعضٌ إلى بعض - (2) . وقد كان مات معه - (3) . بالعروق والعصب، ثم كيف كسي ذلك منه اللحمَ حتى استوى، (4) . ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق، ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وَضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين قال: (أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) . ثم عمَّر الله أرميا بعد ذلك، فهو الذي يُرَى بفلوات الأرض والبلدان.
5911 - حدثني محمد بن عسكر وابن زنجويه، قالا حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: أوحى الله إلى أرميا وهو بأرض مصر: أن الحق بأرض إيليا، فإن هذه ليست لك بأرضِ مقامٍ، فركب حماره، حتى إذا كان ببعض الطريق، ومعه سلة من عنب وتين، وكان معه سقاءٌ جديدٌ فملأه ماء. فلما بدا له شخص بيت المقدس وما
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ومات حماره معه"، وأثبت ما في التاريخ.
(2) في المطبوعة وحدها: " يتصل بعضه إلى بعض"وأثبت ما في المخطوطة والتاريخ وما سيأتي رقم: 5933، وفي التاريخ"يتصل" كالمطبوعة. وأما قوله: "ياتصل" وأصلها"يفتعل" من"وصل" فأصل الفعل"ارتصل، يوتصل، فهو موتصل"، فلغة أهل الحجاز وقريش خاصة: أن لا تدغم هذه الواو وأشباهها، وغيرها يدغم فيقول"ايتصل، ياتصل، فهو موتصل" ومن"وفق" يقول: "ايتفق ياتفق، فهو موتفق" وما أشبهه ذلك، وقد جرى الشافعي في الرسالة على استعمال ذلك. انظر الفقرات رقم 95، 569، 574، 662، 1275، 1333، وتعليق أخى السيد أحمد على الفقرة رقم 95. وفي الحديث: "كان اسم نبله عليه السلام: الموتصلة"، سميت بذلك تفاؤلا بوصولها إلى العدو.
وانظر التعليق على الأثر رقم: 5933 فيما سيأتي.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وقد مات معه" بحذف"كان" وأثبت ما في التاريخ، وما سيأتي رقم: 5933.
(4) في المطبوعة: "ثم كيف كسى ... "، وسيأتي في رقم: 5933، كما أثبته، وهو الصواب.(5/454)
حوله من القُرى والمساجد، ونظر إلى خراب لا يوصف، (1) . ورأى هَدْمَ بيت المقدس كالجبل العظيم، قال: (2) . أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها؟ وسار حتى تبوَّأ منها منزلا فربط حماره بحبل جديد. وعلَّق سقاءه، وألقى الله عليه السُّبات; فلما نام نزع الله روحه مائة عام; فلما مرّت من المائة سبعون عامًا، أرسل الله مَلَكًا إلى مَلِك من ملوك فارس عظيم يقال له:يوسك"، (3) . فقال: إن الله يأمرك أن تنفر بقومك فتعمِّر بيت المقدس وإيليا وأرضها، حتى تعود أعمَر ما كانت، فقال الملك: أنظرني ثلاثه أيام حتى أتأهب لهذا العمل ولما يصلحه من أداء العمل، فأنظره ثلاثة أيام، فانتدب ثلاثمائة قَهْرَمان، ودفع إلى كل قَهْرَمَان ألف عامل، وما يصلحه من أداة العمل، (4) . فسار إليها قهارمته، ومعهم ثلاثمائة ألف عامل; (5) . فلما وقعوا في العمل، ردّ الله روح الحياة في عين أرميا، وآخِرُ جسده ميت، (6) . فنظر إلى إيليا وما حولها من القُرى والمساجد والأنهار والحُروث تعمل وتعمِّر وتتجدد، (7) . حتى صارت كما كانت. وبعد ثلاثين سنة تمام المائه، رد إليه الروح، فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه، ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير جديدة، (8) . وقد أتى على ذلك ريحُ مائة عام، وبرد مائة عام، وحرُّ مائة عام، لم تتغير ولم تنتقض شيئًا، (9) . وقد نحل جسم أرميا من البلى، فأنبت الله له لحمًا جديدًا، ونشز عظامه وهو ينظر، فقال له الله: (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيه للناس وانظر إلى العظام كيف نُنْشِزها ثم نكسوها لحمًا فلما تبين لهُ قال أعلم أن الله على كل شيء قدير) . (10) .
5912- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول في قوله: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) : أن أرميا لما خُرِّب بيت المقدس وحُرِّقت الكتب، وقف في ناحية الجبل، فقال: (أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها، فأماته الله مائة عام) ثم ردّ الله من رد من بني إسرائيل على رأس سبعين سنة من حين أماته يعمرونها ثلاثين سنة تمام المائة; فلما ذهبت المائة ردّ الله روحه وقد عمِّرت على حالها الأولى، فجعل ينظر إلى العظام كيف تلتام بعضها إلى بعض، (11) . ثم نظر إلى العظام كيف تكسى عصبًا ولحمًا. فلما تبين له ذلك قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) فقال الله تعالى ذكره: (انظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه) قال: فكان طعامه تينًا
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة"ونظر إلى خراب" والصواب حذف هذه الواو، وانظر التعليق التالي.
(2) في المطبوعة: "ورأى هدم ... "، وفي المخطوطة: "وسياق المعنى يقتضى إثبات ما في المخطوطة، وحذف الواو من"ونظر" كما سلف في التعليق قبله.
(3) لم أعرف صحة هذا الاسم ولم أجده في كتاب آخر.
(4) القهرمان: من أمناء الملك وخاصته، كالخازن والوكيل الحافظ لما تحت يده، والقائم بأمور الرجل.
(5) في المطبوعة: "قهرمته"، والقهارمة جمع قهرمان.
(6) في المطبوعة: "وآخر جسده ميتا"، والصواب ما في المخطوطة في هذا الموضع، وفيما سيأتي في المخطوطة والمطبوعة رقم: 5938 وقوله: "آخر" هنا بمعنى: الباقى بعد رده الروح رأسه. وهو مجاز عربي لا يعاب. وانظر التعليق على رقم: 5938 فيما سيأتي بعد.
(7) هكذا في المطبوعة والمخطوطة: "والحروث"، وأخشى أن يكون الصواب: "والحراث" جمع حارث، وهو الذي يحرث الأرض.
(8) الرمة (بضم الراء، أو كسرها، وتشديد الميم) : قطعة من حبل يقيد به الأسير، أو يوضع في عنق البعير، وأصحاب اللغة يقولون: هي القطعة البالية. ولكنه هنا استعملها بغير هذه الصفة، بل وصفها بأنها رمة جديدة، وهو جيد لا بأس به.
(9) في المخطوطة والمطبوعة: "لم تنتقص" بالصاد المهملة، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
انتض الحبل وغيره، فسد ما أبرمت منه وضعت قواه وبليت. وقوله: "شيئا"، أي قليلا ولا كثيرا، وهو تعبير جيد في العربية.
(10) الأثر: 5911 -"محمد بن عسكر"، هو: محمد بن سهل بن عسكر البخاري، مضت ترجمته في رقم: 5598. و"ابن زنجويه" رجلان: محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي، روى عنه الأربعة وعبد الله بن أحمد وآخرون. مات سنه 258. وهو ثقة كثير الخطأ،
والآخر: حميد بن مخلد بن قتيبة الأزدى، روى عنه أبو داود، والنسائي، وأبو زرعة، وأبو حاتم وغيرهم. كان حسن الفقه، وكتب ورحل، وكان رأسا في العلم، قال أبو عبيد القاسم بن سلام: "ما قدم علينا من فتيان خراسان مثل ابن زنجويه وابن شبويه". اختلف في وفاته بين سنة 247، إلى سنة 251.
وأطن هذا هو شيخ الطبري، ولعل فيما يأتي ما يرجح تعيينه إن شاء الله.
(11) التأم الشيء يلتئم، والتام يلتام (بتسهيل الهمزة) : إذا انضم بعضه إلى بعض واجتمع.(5/455)
في مِكتل، وقلّة فيها ماء. (1) .
5913 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها) وذلك أن عُزَيْرًا مرّ جائيًا من الشام على حمار له معه عصيرٌ وعنب وتين; فلما مرّ بالقرية فرآها، وقف عليها وقلَّب يده وقال: كيف يحيي هذه الله بعد موتها؟ =ليس تكذيبًا منه وشكًّا= فأماته الله وأمات حِمارَه فهلكا، ومرّ عليهما مائة سنة. ثم إن الله أحيا عزيرًا فقال له: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم! قيل له: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك من التين والعنب، وشرابك من العصير = (لم يتسنَّه) ، الآية.
* * *
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (ثم بعثه) ، ثم أثاره حيًّا من بعد مماته.
* * *
وقد دللنا على معنى"البعث"، فيما مضى قبل. (2) .
* * *
وأما معنى قوله (كم لبثت) فإن"كم" استفهام في كلام العرب عن مبلغ العدد، (3) . وهو في هذا الموضع نصب ب"لبثت"، وتأويله: قال الله له:
__________
(1) الأثر: 5912 -قد مضى مبتورا في رقم 5661، وانظر التعليق عليه هناك. و"المكتل" (بكسر الميم) : الزبيل الذي يجعل فيه التمر أو العنب أو غيرهما.
(2) انظر ما سلف 2: 84، 85.
(3) انظر ما سلف في معنى"كم" في هذا الجزء 5: 352.(5/457)
كم قدرُ الزمان الذي لبثتَ ميتًا قبل أن أبعثك من مماتك حيًّا؟ قال المبعوث بعد مماته: لبثتُ ميتًا إلى أن بعثتني حيًّا يومًا واحدًا أو بعض يوم.
* * *
وذكر أن المبعوث هو أرميا، أو عزيرٌ، أو من كان ممن أخبر الله عنه هذا الخبر.
* * *
وإنما قال: (لبثت يومًا أو بعض يوم) لأن الله تعالى ذكره كان قبض رُوحه أول النهار، ثم ردّ روحه آخرَ النهار بعد المائة عام فقيل له: (كم لبثت) ؟ قال: لبثت يومًا; وهو يرى أنّ الشمس قد غربت. فكان ذلك عنده يومًا لأنه ذُكر أنه قبض روحه أول النهار وسئل عن مقدار لبثه ميتًا آخر النهار، وهو يرى أن الشمس قد غربت، فقال: (لبثت يومًا) ، ثم رأى بقية من الشمس قد بقيت لم تغرب، فقال: (أو بعض يوم) ، بمعنى: بل بعض يوم، كما قال تعالى ذكره: (وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ) [الصافات: 147] ، بمعنى: بل يزيدون. (1) . فكان قوله: (أو بعض يوم) رجوعًا منه عن قوله: (لبثت يومًا) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5914 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (ثم بعثه قال كم لبثتَ قال لبثت يومًا أو بعض يوم) ، قال: ذكر لنا أنه مات ضُحًى، ثم بعثه قبل غيبوبة الشمس، فقال: (لبثت يومًا) . ثم التفت فرأى بقية من الشمس، فقال: (أو بعض يوم) . فقال: (بل لبثت مائة عام) .
5915 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،
__________
(1) انظر ما سلف في"أو" بمعنى"بل" 2: 235 -237.(5/458)
عن قتادة: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) قال: مر على قرية فتعجّب، فقال: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) فأماته الله أوّل النهار، فلبث مائة عام، ثم بعثه في آخر النهار، فقال: (كم لبثت) ؟ قال: (لبثت يومًا أو بعض يوم) ، قال: (بل لبثت مائة عام) .
5916 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال: قال الربيع: أماته الله مائة عام، ثم بعثه، قال: (كم لبثت) ؟ قال: (لبثت يومًا أو بعض يوم) . قال: (بل لبثت مائة عام) .
5917 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: لما وقفَ على بيت المقدس وقد خرّبه بخت نصر، قال: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) ! كيف يعيدها كما كانت؟ فأماته الله. قال: وذكر لنا أنه مات ضُحى، وبعث قبل غروب الشمس بعد مائة عام، فقال: (كم لبثت) ؟ قال: (يومًا) . فلما رأى الشمس، قال: (أو بعض يوم) .
* * *
القول في تأويل قوله: {فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (فانطر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه) لم تغيِّره السِّنون التي أتت عليه.
* * *
وكان طعامه -فيما ذكر بعضهم- سلة تين وعنب، وشرابه قلة ماء.
وقال بعضهم: بل كان طعامه سلة عنب وسلة تين، وشرابه زِقًّا من عصير. (1) .
وقال آخرون: بل كان طعامه سلة تين، وشرابه دَنَّ خمر -أو زُكْرَةَ خمر. (2) .
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: " زق" بالرفع، والنصب أجود.
(2) الزكرة (بضم فسكون) : سقاء صغير من أدم يجعل فيه شراب أو خل.(5/459)
وقد ذكرنا فيما مضى قول بعضهم في ذلك، (1) . ونذكر ما فيه فيما يستقبل إن شاء الله.
* * *
وأما قوله: (لم يتسنَّه) ففيه وجهان من القراءة:
أحدهما:"لَمْ يَتَسَنَّ" بحذف"الهاء" في الوصل، وإثباتها في الوقف. ومن قرأه كذلك فإنه يجعل الهاء في"يتسنَّه" زائدة صلة، (2) . كقوله: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90] وجعل"تفعّلت" منه: (3) ."تسنَّيتُ تسنِّيًا"، واعتل في ذلك بأن"السنة" تجمع سنوات، فيكون"تفعلت" على صحة. (4) .
ومن قال في"السنة""سنينة" فجائز على ذلك = وإن كان قليلا = أن يكون"تسنَّيت" (5) ."تفعَّلت"، بدّلت النون ياء لما كثرت النونات كما قالوا:"تظنَّيت" وأصله"الظن"; وقد قال قوم: هو مأخوذ من قوله: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر: 26، 28، 33] وهو المتغير. وذلك أيضًا إذا كان كذلك، فهو أيضًا مما بُدِّلت نونه ياء. (6) .
وهو قراءة عامة قراء الكوفة.
* * *
__________
(1) يعنى الآثار التي سلفت في خبر"الذي مر على القرية".
(2) "صلة" أي زيإدة وحشوا بمعنى الإلغاء، انظر ما سلف 1: 190، 405، تعليق: 4/ 406 تعليق: 2ثم: 548.
(3) في المطبوعة: "فعلت" وهو خطأ، وأما المخطوطة، فقد كتب الناسخ هذه الكلمة مضطربة فلم يحسن ناشر المطبوعة أن يقرأها على وجهها، وسيأتي بعد قليل جدا ذكر"تفعلت"، هذه، مما يدل على صواب قراءتنا.
(4) في المطبوعة: "على نهجه" والصواب في المخطوطة: "على صحه"، ولكنها لما كانت غير منقوطة تصرف الطابع فيها ما شاء! ! وفي معاني القرآن للفراء واللسان"على صحة" فلذلك أثبتها منهما.
(5) في المطبوعة: "تسننت" بالنونات، والصواب ما أثبت من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء.
(6) هذا برمته من كلام الفراء في معاني القرآن 1: 172، 173 واللسان (سنة) مع قليل من الخلاف في بعض اللفظ00(5/460)
والآخر منهما: إثبات"الهاء" في الوصل والوقف. ومن قرأه كذلك، فإنه يجعل"الهاء" في"يتسنَّه" لامَ الفعل، ويجعلها مجزومة ب"لم"، ويجعل"فعلت" منه:"تسنَّهت"، و"يفعل":"أتسنَّه تسنُّها"، (1) وقال في تصغير"السنة":"سُنيهة" و"سنيَّة"،"أسنيتُ عند القوم" و"أسنهتُ عندهم"، إذا أقمت سنة. (2) .
وهذه قراءة عامة قرأة أهل المدينة والحجاز.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندي في ذلك إثباتُ"الهاء" في الوصل والوقف، لأنها مثبتةٌ في مصحف المسلمين، ولإثباتها وجهٌ صحيح في كلتا الحالتين في ذلك.
* * *
ومعنى قوله: (لم يتسنَّه) ، لم يأت عليه السنون فيتغيَّر، على لغة من قال:"أسنهت عندكم أسْنِه": إذا أقام سنة، وكما قال الشاعر: (3) .
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلا رُجَّبِيَّةٍ ... وَلكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوائِحِ (4)
__________
(1) أراد هنا بقوله"فعل"و"يفعل" الماضي والمضارع، وهو غير قوله"تفعلت" السالفة التي صححناها كما جاء في ص: 460، التعليق رقم: 3.
(2) في المطبوعة حذف وزيادة وتغيير، كان فيها: "وقال في تصغير السنة سنيهه، ومنه: أسهنت عند القوم وتسهنت عندهم"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو أيضًا صواب، وإن كانت الشبهة قد دخلت عليه من ذكر"سنية" و"أسنيت"، ولكن جائز أن يكون قائل هذا القول ممن يرى جواز كليهما، فلذلك أثبته كما كان في المخطوطة، ولا يبدل إلا بحجة، وسيأتي كلام الطبري بعد قليل: "أن ذلك وجه صحيح في كلتا الحالتين".
(3) سويد بن الصامت الأنصاري، ويقال: أحيحة بن الجلاح.
(4) معاني القرآن للفراء 1: 173. والأمالى 1: 21، وسمط اللآلى: 361، وتهذيب الألفاظ: 520، واللسان (عرا) (قرح) (سنه) (خور) (رجب) ، والإصابة في ترجمته، من أبيات يقولها في دين كان قد أدانه فطولب به، فاستغلت في قضائه بقومه فقصر واعنه. وترتيبها فيها أستظهر: وَأَصْبَحْتُ قد أنكَرْتُ قوْمِي كَأَنَّنِي ... جَنَيْتُ لَهُمْ بالدَّيْنِ إحْدَى الفَضَائِحِ
أَدِينُ، وَمَا دَيْنِي عَلَيْهِم بِمَغْرَمٍ ... وِلكِنْ عَلَى الشُّمِّ الجِلاَدِ القَرَاوِحِ
عَلَى كُلِّ خَوَّارٍ، كَأَنَّ جُذُوعَها ... طُلِينَ بِقَارٍ أوْ بِحَمْأَةِ مَائِحِ
وَلَيْسَتْ بِسَنْهَاءٍ وَلاَ رُجَّبِيَّةٍ ... وَلَكنْ عَرَايَا فِي السِّنِينِ الجَوَائِحِ
أَدِينُ عَلَى أَثْمَارِهَا وَأُصُولِهَا ... لِمَوْلًى قَرِيبٍ أو لآخَرَ نَازِحِ
دان يدين: استقرض مالا. والشم: الطوال. والجلاد: الشديدة الصبر على العطش والحر والبرد، يعنى النخل. والقراوح جمع قراوح: وهي النخلة التي انجرد كربها وطالت، وذلك أجود لها. والخوار: الغزيرة الحمل. وجعلها مطلية بالفار أو بالحمأة، لأن جذوعها إذا كانت كذلك فهو أشد لها وأكرم. والمائح: الذي يمتاح من البئر، أي يستقي. والسنهاء: التي حملت عاما، ولم تحمل آخر، وهذا من عيب النخل. وقوله: "رجبية" (بضم الراء وتشديد الجيم المفتوحة، أو فتحها بغير تشديد) وكلتاهما نسبة شاذة إلى الرجبة (بضم فسكون) : وذلك أن تعمد النخلة الكريمة إذا خيف عليها أن تقع لطولها وكثر حملها، فيبني تحتها دكان ترجب به -أي تعمد به. وذلك حين تبلغ إلى الضعف، ولكنه يكرمها بذلك. والعرايا جمع عربة: وهي التي يوهب ثمرها في عامها. يفعل بها ذلك لكرمه. والجوائح: السنين المجدبة الشداد التي تجتاح المال.
يقول لقومه: قد جئت أستدينكم، على أن أؤدي من نخلي ومالي، ففيم الجزع؟ أتخافون أن يكون ديني مغرما تغرمونه! ! وهذه نخلي أصف لكم من جودتها وكرمها ما أنتم به أعلم.(5/461)
فجعل"الهاء" في"السنة" أصلا وهي اللغة الفصحى.
* * *
وغير جائز حذف حرف من كتاب الله = في حال وقف أو وصل = لإثباته وجه معروف في كلامها.
فإن أعتلّ معتلٌ بأن المصحف قد ألحقت فيه حروف هنّ زوائد على نية الوقف، والوجه في الأصل عند القراءة حذفهنّ، وذلك كقوله: (فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ) [الأنعام: 90] وقوله: (يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ) [الحاقة: 25] فإن ذلك هو مما لم يكن فيه شك أنه من الزوائد، وأنه ألحق على نية الوقف. فأما ما كان محتملا أن يكون أصلا للحرف غيرَ زائد، فغير جائز = وهو في مصحف المسلمين مثبتٌ = صرفُه إلى أنه من الزوائد والصلات. (1) .
__________
(1) انظر معنى"الصلة" فيما سلف قريبا ص: 460 تعليق: 2.(5/462)
على أن ذلك، وإن كان زائدا فيما لا شك أنه من الزوائد، (1) . فإن العرب قد تصل الكلام بزائد، فتنطق به على نحو منطقها به في حال القطع، فيكون وَصْلها إياه وقطعُها سواء. وذلك من فعلها دلالة على صحة قراءة من قرأ جميع ذلك بإثبات"الهاء" في الوصل والوقف. غير أنّ ذلك، وإن كان كذلك، فلقوله: (لم يتسنّه) حكمٌ مفارقٌ حكمَ ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه. (2) .
* * *
ومما يدل على صحة ما قلنا، من أن"الهاء" في"يتسنه" من لغة من قال:"قد أسنهت"، و"المسانهة"، ما:-
5918 - حدثت به عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا ابن مهدي، عن أبي الجراح، عن سليمان بن عمير، قال: حدثني هانئ مولى عثمان، قال: كنت الرسول بين عثمان وزيد بن ثابت، فقال زيد: سله عن قوله:"لم يتسنّ"، أو"لم يتسنَّه"، فقال عثمان: اجعلوا فيها"هاء".
5919 - حدثت عن القاسم = وحدثنا محمد بن محمد العطار، عن القاسم، وحدثنا أحمد والعطار = جميعًا، عن القاسم، قال: حدثنا ابن مهدي، عن ابن المبارك، قال: حدثني أبو وائل شيخ من أهل اليمن عن هانئ البربري، قال: كنت عند عثمان وهم يعرضون المصاحف، فأرسلني بكتف شاة إلى أبيّ بن كعب فيها:"لَمْ يَتَسَنَّ" و"فَأَمْهِلِ الْكَافِرِين" [الطارق: 17] و"لا تَبْدِيلَ لِلْخَلْقِ" [الروم: 30] .
__________
(1) في المطبوعة: "وإن كان زائدا"، والصواب ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ما كان هاؤه زائدا لا شك في زيادته فيه" بالتذكير، وهو صواب جدا، ولكن لا أدرى لم غير نص المخطوطة.(5/463)
قال: فدعا بالدواة، فمحا إحدى اللامين وكتب (لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ) ومحا"فأمْهِلْ" وكتب (فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ) وكتب: (لَمْ يَتَسَنَّهْ) ألحق فيها الهاء. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: ولو كان ذلك من"يتسنى" أو"يتسنن" لما ألحق فيه أبيّ"هاء" لا موضع لها فيه، (2) ولا أمرَ عثمان بإلحاقها فيها.
وقد روي عن زيد بن ثابت في ذلك نحو الذي روي فيه عن أبيّ بن كعب.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (لم يتسنَّه) .
فقال بعضهم بمثل الذي قلنا فيه من أن معناه: لم يتغير.
* ذكر من قال ذلك:
5920 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن المفضل، عن محمد بن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه: (لم يتسنَّه) لم يتغير.
5921 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (لم يتسنَّه) لم يتغير.
5922 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، مثله.
5923 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط،
__________
(1) الأثر: 5918 -"هانئ" هو هانئ البربري، مولي عثمان بن عفان مترجم في الكبير 4/ 2/ 229، وابن أبي حاتم 4/ 2/ 100، وسليمان بن"، روي عن هانئ مولي عثمان روى عنه عبد الله بن المبارك. مترجم في الكبير 2/ 2/ 30، وابن أبي حاتم 2/ 1/ 133. أما"أبو الجراح" فلم أعرفه، وانظر الأثر التالي، فإني أخشى أن يكون إسنادهما قد اختلط، فإن ابن المبارك هو الذي يروي عن"سليمان بن عمير". وانظر الدر المنثور 1: 323.
(2) في المخطوطة: "لما ألحق فيه أبي هو لا موضع فيه" هذا فاسد، والذي في المطبوعة مستقيم.(5/464)
عن السدي: (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) يقول:"فانظر إلى طعامك" من التين والعنب ="وشرابك" من العصير ="لم يتسنه"، يقول: لم يتغير فيحمُض التين والعنب، ولم يختمر العصير، هما حُلوان كما هما. وذلك أنه مرّ جائيًا من الشام على حمار له، معه عصير وعنب وتين، فأماته الله، وأمات حماره، ومر عليهما مائة سنة. (1) .
5924 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه) يقول: لم يتغير، وقد أتى عليه مائة عام.
5925 - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، بنحوه.
5926 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (لم يتسنه) لم يتغير.
5927 - حدثنا سفيان، قال: حدثنا أبي، عن النضر، عن عكرمة: (لم يتسنه) لم يتغير.
5928 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (لم يتسنه) لم يتغير في مائة سنة.
5929 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن أرميا كان بإيليا حين خرّبها بخت نصر، فخرج منها إلى مصر فكان بها. فأوحى الله إليه أن اخرج منها إلى بيت المقدس. فأتاها فإذا هي خربة، فنظر إليها فقال:"أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها"؟ فأماته الله مائة عام ثم بعثه، فإذا حمارُه حي قائم على رباطه، وإذا طعامه سَلُّ عنب
__________
(1) الأثر: 5923 -هو تمام الأثر السالف رقم: 5913.(5/465)
وسَلُّ تين، لم يتغير عن حاله = (1) .
قال يونس: قال لنا سلم الخواص: (2) . كان طعامه وشرابه سل عنب، وسل تين، وزِقَّ عصير.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لم ينتن.
* ذكر من قال ذلك:
5930 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله: (لم يتسنه) لم ينتن.
5931 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
5932 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، قال مجاهد قوله: (إلى طعامك) قال: سَلُّ تين = (وشرابك) ، دنُّ خمر = (لم يتسنه) ، يقول: لم ينتن.
* * *
قال أبو جعفر: وأحسب أن مجاهدًا والربيع ومن قال في ذلك بقولهما، (3) . رأوا أن قوله: (لم يتسنه) من قول الله تعالى ذكره: (مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) [الحجر: 26، 28، 33] بمعنى المتغير الريح بالنتن، من قول القائل:"تسنَّن". وقد بينت الدلالة فيما مضى على أنّ ذلك ليس كذلك. (4) .
فإن ظن ظانّ أنه من"الأسَن" من قول القائل:"أسِنَ هذا الماء يأسَنُ أسَنًا،
__________
(1) الرباط: ما ربط به، وأراد هنا الموضع الذي ربط فيه، وهو المربط. و"السل والسلة"، سواء: وهو الجؤنة التي يحمل فيها الخبز وغيره. ويقال"سل" جمع"سلة"، وهو من الجموع العزيزة، لأنه مصنوع غير مخلوق، لا يكون الفارق بينه وبين واحده التاء، مثل عنب وعنبه، وبر وبرة.
(2) في المطبوعة: "سالم الخواص"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وهو سلم بن ميمون الخواص، مضت ترجمته في رقم: 5890.
(3) لم يذكر الطبري خبرا عن"الربيع" قبل، فأخشى أن يكون سقط من الناسخ خبره، وقد مضى قول الربيع في تفسير بعض هذه الآية فيما سلف بإسناده رقم: 5916.
(4) انظر ما سلف، ص: 460.(5/466)
كما قال الله تعالى ذكره: (فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) [محمد: 15] ، فإنّ ذلك لو كان كذلك، لكان الكلام: فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتأسَّن، ولم يكن"يتسنه".
* * *
[فإن قيل] : (1) . فإنه منه، غير أنه ترك همزه.
قيل: فإنه وإن ترك همزه، فغير جائز تشديدُ نونه، لأن"النون" غير مشددة، وهي في"يتسنَّه" مشددة، ولو نطق من"يتأسن" بترك الهمزة لقيل:"يَتَسَّنْ" بتخفيف نونه بغير"هاء" تلحق فيه. ففي ذلك بيان واضح أنه غير جائز أن يكون من "الأسَن".
* * *
القول في تأويل قوله: {وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (وانظر إلى حمارك) .
فقال بعضهم: معنى ذلك: وانظر إلى إحيائي حمارَك، وإلى عظامه كيف أنشِزها ثم أكسوها لحمًا.
ثم اختلف متأولو ذلك في هذا التأويلَ.
فقال بعضهم: قال الله تعالى ذكره ذلك له، بعد أن أحياه خلقًا سويًّا، ثم أراد أن يحيي حماره = تعريفًا منه تعالى ذكره له كيفية إحيائه القرية التي رآها خاوية على عروشها، فقال: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ = مستنكرًا إحياء الله إياها.
* ذكر من قال ذلك:
5933 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم،
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام.(5/467)
عن وهب بن منبه، قال: بعثه الله فقال: (كم لبثت قال لبثتُ يومًا أو بعض يوم) إلى قوله: (ثم نكسوها لحمًا) قال: فنظر إلى حماره ياتصل بعضٌ إلى بعض = (1) . وقد كان مات معه = بالعروق والعصب، ثم كسا ذلك منه اللحم حتى استوى ثم جرى فيه الروح، فقام ينهق. ونظر إلى عصيره وتينه، فإذا هو على هيئته حين وضعه لم يتغير. فلما عاين من قدرة الله ما عاين، قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) . (2) .
5934 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: ثم إن الله أحيا عُزيرًا، فقال: كم لبثت؟ قال: لبثت يومًا أو بعض يوم. قال: بل لبثت مائة عام! فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه، وانظر إلى حمارك قد هلك وبليت عظامه، وانظر إلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا.
فبعث الله ريحًا، فجاءت بعظام الحمار من كل سهل وجبل ذهبت به الطير والسباع، فاجتمعت، فركّب بعضها في بعض وهو ينظر، فصار حمارًا من عظام ليس له لحمٌ ولا دمٌ. ثم إن الله كسا العظام لحمًا ودمًا، فقام حمارًا من لحم ودم وليس فيه روح. ثم أقبل مَلَكٌ يمشي حتى أخذ بمنخر الحمار، فنفخ فيه فنهق الحمار، فقال: (أعلم أنه الله على كل شيء قديرٌ) .
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام على ما تأوله قائلُ هذا القول: وانظر إلى إحيائنا حمارك، وإلى عظامه كيف نُنشِزُها ثم نكسوها لحمًا، ولنجعلك آية للناس = فيكون في قوله: (وانظر إلى حمارك) ، متروك من الكلام، استغني بدلالة ظاهره عليه من ذكره، وتكون الألف واللام في قوله: (وانظر إلى العظام) بدلا من"الهاء" المرادة في المعنى، لأن معناه: وانظر إلى عظامه - يعني: إلى عظام الحمار.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يتصل بعض إلى بعض"، وقد مضى في رقم 5910، أن المخطوطة هناك"ياتصل"، وعلقت عليها في ص: 454، تعليق: 2 وقد جاءت هنا في المخطوطة"ياتصل" أيضًا، فهذا حجة قاطعة على صواب نص المخطوطة في هذين الموضعين المتابعدين. فراجع ما كتب هناك.
(2) الأثر: 5933 -هو آخر الأثر السالف رقم: 5910.(5/468)
وقال آخرون منهم: بل قال الله تعالى ذكره ذلك له بعد أن نفخ فيه الروح في عينه. (1) . قالوا: وهي أول عضو من أعضائه نفخ الله فيه الروح، وذلك بعد أن سواه خلقًا سويًّا، وقبل أن يحيى حماره.
* ذكر من قال ذلك:
5935 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان هذا رجلا من بني إسرائيل نُفخ الروح في عينيه، فينظر إلى خلقه كله حين يحييه الله، (2) . وإلى حماره حين يحييه الله.
5936 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5937 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: بدأ بعينيه فنفخ فيهما الروح، ثم بعظامه فأنشزها، ثم وَصَل بعضها إلى بعض، ثم كساها العصب، ثم العروق، ثم اللحم. ثم نظر إلى حماره، فإذا حماره قد بَلي وابيضَّت عظامه في المكان الذي ربطه فيه، فنودي:"يا عظام اجتمعي، فإن الله منزلٌ عليك روحًا"، فسعى كل عظم إلى صاحبه، فوصل العظام، ثم العصب، ثم العروق. ثم اللحم، ثم الجلد، ثم الشعر، وكان حماره جَذَعًا، فأحياه الله كبيرًا قد تشنَّن، (3) . فلم يبق منه إلا الجلد من طول الزمن. وكان طعامه سَلَّ عنب، وشرابه دَنَّ خمر. قال ابن جريج عن مجاهد: نفخ الروح في عينيه، ثم نظر بهما إلى خلقه كله حين نشره الله، وإلى حماره حين يحييه الله.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "في عينه" بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فنظر"، وفي المخطوطة: "فنظر" غير منقوطة والصواب كما قرأتها لك.
(3) الجذع (بفتحتين) : الصغير السن من الحيران وغيره. وتشنن الجلد والسقاء: إذا يبس وتشنج من القدم أو من الهرم.(5/469)
وقال آخرون: بل جعل الله الروح في رأسه وبصره، وجسدُه ميتٌ، (1) . فرأى حماره قائمًا كهيئته يوم ربطه، وطعامه وشرابه كهيئته يوم حَلَّ البقعة. ثم قال الله له: انظر إلى عظام نفسك كيف ننشزها.
* ذكر من قال ذلك:
5938 - حدثني محمد بن سهل بن عسكر، قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: حدثني عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: ردَّ الله روح الحياة في عين أرْميا وآخرُ جسده ميت، (2) . فنظر إلى طعامه وشرابه لم يتسنَّه، ونظر إلى حماره واقفًا كهيئته يوم ربطه، لم يطعم ولم يشرب، ونظر إلى الرُّمة في عنق الحمار لم تتغير، جديدةً. (3) .
5940 - حدثت عن الحسين، قال: (4) . سمعت أبا معاذ، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) ، فنظر إلى حماره قائمًا قد مكث مائة عام، وإلى طعامه لم يتغير قد أتى عليه مائة عام، (وانظر إلى العظام كيف نُنشرها ثم نكسوها لحمًا) فكان أول شيء أحيا الله منه رأسَه، فجعل ينظر إلى سائر خلقه يُخلق.
5941 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله: (فأماته الله مائة عام ثم بعثه) فنظر إلى حماره قائمًا، وإلى طعامه وشرابه لم يتغير، فكان أول شيء خلق منه رأسه، فجعل ينظر
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وجسده ميتا"، وهو خطأ، ويدل على صواب ما أثبت، الآثار التالية.
(2) يعنى بقوله: "وآخر جسده ميت"، أي سائره وباقيه، وقد جاءت هذه الكلمة هنا على الصواب في المطبوعة والمخطوطة، وقد مضت في المطبوعة في الأثر رقم: 5911، محرفة، فهذا دليل آخر على صواب قراءتنا للنص.
(3) الأثر: 5938 -انظر الأثر السالف رقم: 5911، والتعليق عليه.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "الحسن"، وهو خطأ، بل هو"الحسين بن الفرج"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 5924.(5/470)
إلى كل شيء منه يوصل بعضه إلى بعض. فلما تبيَّن له، قال: (أعلم أنَّ الله على كل شيء قدير) .
5942 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: ذُكر لنا أنه أول ما خلق الله منه رأسَه، ثم ركبت فيه عيناه، ثم قيل له: انظر! فجعل ينظر، فجعلت عظامه تَواصَلُ بعضها إلى بعض، وبِعَيْن نبيّ الله عليه السلام كان ذلك، فقال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) .
5943 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك) وكان حماره عنده كما هو = (ولنجعلك آيه للناس) ، وانظر إلى العظام كيف ننشزها) . قال الربيع: ذكر لنا والله أعلم أنه أول ما خلق منه عيناه، ثم قيل انظر! فجعل ينظر إلى العظام يَتواصل بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقال: (1) . (أعلم أن الله على كل شيء قدير) .
4644 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا ابن زيد قال قوله: (وانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك) واقفًا عليك منذ مائة سنة = (ولنجعلك آية للناس وانظر إلى العظام) يقول: وانظر إلى عظامك كيف نحييها حين سألتنا:"كيف نحيي هذه"؟ (2) . قال: فجعل الله الروح في بصره وفي لسانه، ثم قال: ادع الآن بلسانك الذي جعل الله فيه الروح، وانظر ببصرك. قال: فكان ينظر إلى الجمجمة. قال: فنادى: ليلحق كل عظم بأليفه. قال: فجاء كل عظم إلى صاحبه، حتى اتصلت وهو يراها، حتى أن الكِسْرة من العظم لتأتي إلى الموضع الذي انكسرت منه، فتلصَقُ به حتى وصل إلى جمجمته،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فقيل: أعلم ... "، وهو سبق قلم من الناسخ.
(2) في المطبوعة: "كيف نحيى هذه الأرض بعد موتها"، وليس ذلك في المخطوطة، بل الذي أثبت، وهما سواء.(5/471)
وهو يرى ذلك. فلما اتصلت شدها بالعصب والعروق، وأجرى عليها اللحم والجلد، ثم نفخ فيها الروح، ثم قال: (انظر إلى العظام كيف ننشرها ثم نكسوها لحمًا) فلما تبين له ذلك، (قال أعلم أن الله على شيء قدير) . قال: ثم أمر فنادى تلك العظام التي قال: (أنَّى يُحيي هذه الله بعد موتها) كما نادى عظام نفسه، ثم أحياها الله كما أحياهُ.
5945 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني بكر بن مضر، قال: يزعمون في بعض الكتب أن الله أمات أرميا مائة عام، ثم بعثه، (1) فإذا حمارُه حيٌّ قائمٌ على رباطه. قال: وردَّ الله إليه بصره، وجعل الروح فيه قبل أن يبعث بثلاثين سنة، ثم نظر إلى بيت المقدس وكيف عمر وما حوله. قال: فيقولون والله أعلم: إنه الذي قال الله تعالى ذكره: (أوْ كالذي مرّ على قرية وهي خاوية ... ) ، الآية. (2) .
* * *
ومعنى الآية على تأويل هؤلاء: وانظر إلى حمارك، ولنجعلك آية للناس، وانظر إلى عظامك كيف ننشزها بعد بلاها، ثم نكسوها لحمًا، فنحييها بحياتك، فتعلم كيف يحيي الله القرى وأهلها بعد مماتها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "أرميا"، وأثبت ما في المخطوطة، وقد سلف مثل ذلك مرارا، حتى في الأثر الواحد، انظر ما سلف -ص: 448 تعليق: 1.
(2) عند هذا الموضع، انتهى جزء من التقسيم القديم الذي نقلت منه نسختنا، وفيها ما نصه:
" يتلوهُ: ومعنى الآية على تأويل هؤلاء:
وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس. * * *
وصلى الله على سيدنا محمد النبيّ وآله وصحبه وسلم كثيرًا"
ثم يبدأ بعده بما نصه:
" بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر يا كريم".(5/472)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في هذه الآية بالصواب قولُ من قال: إن الله تعالى ذكره بعث قائل: (أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها) من مماته، ثم أراه نظير ما استنكر من إحياء الله القرية التي مرّ بها بعد مماتها عيانًا من نفسه وطعامه وحماره. فحمل تعالى ذكره ما أراه من إحيائه نفسه وحماره مثلا لما استنكر من إحيائه أهل القرية التي مرّ بها خاويةً على عروشها، وجعل ما أراه من العِبرة في طعامه وشرابه، عبرة له وحجة عليه في كيفية إحيائه منازل القرية وجِنانها. وذلك هو معنى قول مجاهد الذي ذكرناه قبل.
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأنّ قوله: (وانظر إلى العظام) إنما هو بمعنى: وانظر إلى العظام التي تراها ببصرك كيف ننشزُها، ثم نكسوها لحمًا.
وقد كان حماره أدركه من البلى = في قول أهل التأويل جميعًا = نظيرُ الذي لحق عظامَ من خوطب بهذا الخطاب، فلم يمكن صرف معنى قوله: (وانظر إلى العظام) إلى أنه أمرٌ له بالنظر إلى عظام الحمار دون عظام المأمور بالنظر إليها، ولا إلى أنه أمر له بالنطر إلى عظام نفسه دون عظام الحمار. وإذْ كان ذلك كذلك، وكان البلى قد لحق عظامه وعظام حماره، كان الأولى بالتأويل أن يكون الأمرُ بالنظر إلى كل ما أدركه طرفه مما قد كان البلى لحقه، لأن الله تعالى ذكره جعل جميع ذلك عليه حجة وله عبرةً وعظةً.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (ولنجعلك آيه للناس) أمتناك مائة عام ثم بعثناك.
وإنما أدخلت"الواو" مع اللام التي في قوله: (ولنجعلك آيه للناس) وهو(5/473)
بمعنى"كي"، لأن في دخولها في كي وأخواتها دِلالة على أنها شرطٌ لفعلٍ بعدها، بمعنى: ولنجعلك كذا وكذا فعلنا ذلك. (1) . ولو لم تكن قبل"اللام" أعني"لام" كي"واو"، كانت"اللام" شرطًا للفعل الذي قبلها، وكان يكون معناه: وانظر إلى حمارك، لنجعلك آية للناس.
* * *
وإنما عنى بقوله: (ولنجعلك آية) ، ولنجعلك حجة على من جهل قدرتي، وشكَّ في عظمتي، (2) . وأنا القادر على فعل ما أشاء من إماتة وإحياء، وإنشاء، وإنعام وإذلال، وإقتار وإغناء، بيدي ذلك كلُّه، لا يملكه أحد دوني، ولا يقدر عليه غيري.
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول: كان آية للناس، بأنه جاء بعد مائة عام إلى ولده وولد ولده، شابًّا وهم شيوخ.
* ذكر من قال ذلك:
5946 - حدثني المثنى، قال: أخبرنا إسحاق، قال: حدثنا قبيصة بن عقبة، عن سفيان، قال: سمعت الأعمش يقول: (ولنجعلك آيه للناس) قال: جاء شابًّا وولده شيوخ.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنه جاء وقد هلك من يعرفه، فكان آية لمن قدِم عليه من قومه.
* ذكر من قال ذلك:
5947 - حدثني موسى، قال، حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: رجع إلى أهله، فوجد داره قد بيعت وبُنيت، وهلك من كان يعرفه،
__________
(1) انظر معاني القرآن 1: 173.
(2) انظر معنى"آية" فيما سلف في هذا الجزء 5: 377، والتعليق: 2، ومراجعه هناك.(5/474)
فقال: اخرجوا من داري! قالوا: ومن أنت؟ قال: أنا عزير! قالوا: أليس قد هلك عزيرٌ منذ كذا وكذا!! قال: فإن عزيرًا أنا هو، كان من حالي وكان! فلما عرفوا ذلك، خرجوا له من الدار ودفعوها إليه.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية من القول، أن يقال: أن الله تعالى ذكره، أخبر أنه حمل الذي وصف صفته في هذه الآية حُجة للناس، فكان ذلك حُجة على من عرفه من ولده وقوْمه ممن علم موته، وإحياءَ الله إياه بعد مماته، وعلى من بُعث إليه منهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا}
قال أبو جعفر: دللنا فيما مضى قبلُ على أنّ العظام التي أمِر بالنظر إليها، هي عظام نفسه وحماره، وذكرنا اختلاف المختلفين في تأويل ذلك، وما يعني كل قائل بما قاله في ذلك بما أغنى عن إعادته.
* * *
وأما قوله: (كيف ننشزُها) فإن القرأة اختلفت في قراءته.
فقرأ بعضهم: (وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا) بضم النون وبالزاي، وذلك قراءة عامة قرأة الكوفيين، بمعنى: وانظر كيف نركّب بعضها على بعض، وننقل ذلك إلى مواضع من الجسم.
* * *
وأصل"النشوز": الارتفاع، (1) . ومنه قيل:"قد نشز الغلام"، إذا ارتفع
__________
(1) جاء في المطبوعة والمخطوطة "وأصل النشز": الارتفاع"، وأنا أرى صوابه: "النشوز"، لأنه هو المصدر، ولا مصدر لهذا الفعل غيره في رواية أهل اللغة، ومحال أن يدع الطبري المعروف إلى المجهول. والمخطوطة في هذا الوضع سيئة جدا، كثيرة التصحيف والإهمال، وبحضه لم أشر إليه لشدة وضوحه، وفساد خط كاتبه وإهماله، كما ترى في التعليق التالي.(5/475)
طوله وشبَّ، ومنه"نشوز المرأة" على زوجها. (1) . ومن ذلك قيل للمكان المرتفع من الأرض:"نَشَز ونَشْز ونشاز"، (2) . فإذا أردت أنك رفعته، قلت:"أنشزته إنشازًا"، و"نشز هو"، إذا ارتفع.
* * *
فمعنى قوله: (وانظر إلى العظام كيف ننشزها) في قراءة من قرأ ذلك بالزاي: كيف نرفعُها من أماكنها من الأرض فنردُّها إلى أماكنها من الجسد. (3) .
* * *
وممن تأول ذلك هذا التأويل جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5948 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (كيف ننشزها) كيف نُخرجها.
5949 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (كيف ننشزها) قال: نحرِّكها.
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِرُهَا" بضم النون. قالوا: من قول القائل،"أنشرَ الله الموتى فهو يُنشِرهم إنشارًا"، وذلك قراءة عامة قرأة أهل المدينة، بمعنى: وانظر إلى العظام كيف نحييها، ثم نكسوها لحمًا.
* ذكر من قال ذلك:
5950 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كيف نُنشِرها" قال: انظر إليها حين يحييها الله. (4) .
__________
(1) في المخطوطة: "وفيه نشور المرأة على وجهها"، وهذا دليل على شدة إهماله.
(2) في المخطوطة: "نشر ونشره ونشاره"، وهو خطأ كله، والصواب ما أثبت.
(3) في المخطوطة: "فبرزها إلى أماكنها"، وهو فاسد. وفي المطبوعة: " الجسم"، ورددته إلى المخطوطة.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "نظر إليها"، والصواب ما أثبت.(5/476)
5951 - حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
5952 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة مثله.
5953 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وانظر إلى العظام كيف نُنشرُها" قال: كيف نحييها.
* * *
واحتج بعض قرَأة ذلك بالراء وضم نون أوله، بقوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) [عبس: 22] ، فرأى أنّ من الصواب إلحاق قوله:"وانظر إلى العظام كيف ننشرها" به. (1) .
* * *
وقرأ ذلك بعضهم:"وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نَنْشُرُهَا"، بفتح النون من أوله وبالراء. كأنّه وجّه ذلك إلى مثل معنى: نَشْرِ الشيء وطيِّه. (2) . وذلك قراءة غير محمودة، لأن العرب لا تقول: نشر الموتى، وإنما تقول:"أنشر الله الموتى"، فنشروا هم" بمعنى: أحياهم فحيُوا هم. ويدل على ذلك قوله: (ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ) وقوله: (أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ) [الأنبياء: 21] ؛ (3) .. وعلى أنه إذا أريد به حَيِي، الميت وعاش بعد مماته، قيل:"نَشَر"، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: (4) .
حَتَّى يَقُولَ النَّاسَ مِمَّا رَأَوْا: ... يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ (5)
__________
(1) هو ابن عباس، فيما روى الفراء في معاني القرآن 1: 173.
(2) هو الحسن، فيما روى الفراء في معاني القرآن 1: 173.
(3) سقت الآية بتمامها، وفي المطبوعة والمخطوطة: "آلهة من الأرض هم ينشرون".
(4) في المطبوعة والمخطوطة بإسقاط: "ومنه"، وهو غير مستقيم.
(5) ديوانه: 105، وسيأتي في التفسير 19: 14 / 25: 32 / 30: 36 (بولاق) وهو في أكثر الكتب، وقد مضى بيتان منها في 1: 474، تعليق: 2 /3: 131. وقبله يذكر صاحبته، فأجاد وأبدع: عَهْدِي بِهَا فِي الحَيِّ قَدْ سُرْبِلَتْ ... هَيْفَاءَ مِثْلَ المُهْرَةِ الضَّامِرِ
قَدْ نَهَدَ الثَّدْيُ عَلَى نَحْرِهَا ... فِي مُشْرِقٍ ذِي صَبَحٍ نَاثِرِ
لَوْ أَسْنَدَتْ مَيْتًا إلَى نَحْرِهَا ... عَاشَ، وَلَمْ يُنْقَلْ إِلى قَابِرِ
حتَّى يَقُولَ الناسُ. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
الصبح (بفتحتين) بريق اللون والحلى والسلاح، تراه مشربًا كالجمر يتلألأ. ونائر: نير. يقال: "نار الشيء فهو نير ونائر" و"أنار فهو منير".(5/477)
وروي سماعًا من العرب:"كان به جَرَبٌ فنَشَر"، إذا عاد وَحَيِيَ. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: والقول في ذلك عندي أنّ معنى"الإنشاز" ومعنى"الإنشار" متقاربان، لأن معنى"الإنشاز": التركيبُ والإثبات ورد العظام إلى العظام، ومعنى"الإنشار" إعادة الحياة إلى العظام. (2) . وإعادتها لا شك أنه ردُّها إلى أماكنها ومواضعها من الجسد بعد مفارقتها إياها. فهما وإن اختلفا في اللفظ، فمتقاربا المعنى. وقد جاءت بالقراءة بهما الأمة مجيئًا يقطعُ العذر ويوجب الحجة، فبأيِّهما قرأ القارئ فمصيب، لانقياد معنييهما، (3) . ولا حجة توجب لإحداهما القضاءَ بالصواب على الأخرى. (4) .
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 30.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: " ... ورد العظام من العظام، وإعادتها لا شك ... " وهذا كلام لا يستقيم قط، والنسخة في هذا الموضع محرفة أشد التحريف، والناسخ كثير الإهمال والإسقاط كما سلف في التعليقات الماضية، فلذلك اجتهدت في تصحيح هذا، وما يليه حتى يستقيم معناه ولفظه.
(3) في المخطوطة: " لا نعماد ومعنها"، والصواب ما في المطبوعة. وقوله: "لانقياد معنييهما"، أي لاستقامة معنييهما واستوائهما وتساوقهما على نهج واحد لا يختلف، كأن يقود أحدهما الآخر. وانظر ما مضى 4: 105 تعليق: 1، في قوله: "قاد قوله" وتفسير قولهم: "هذا لا يستقيم على قود كلامك".
(4) في المطبوعة: "لإحداهما من القضاء" بزيادة"من"، وفي المخطوطة"لأحدهما من القضاء" بزيادة وخطأ، والصواب ما أثبت.(5/478)
فإن ظنّ ظانٌ أن"الإنشارَ" إذا كان إحياءً، (1) . فهو بالصواب أولى، لأن المأمور بالنظر إلى العظام وهي تنُشر إنما أمر به ليرى عيانًا ما أنكره بقوله: (أنَّى يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ = [فقد أخطأ] . (2) . فإن إحياء العظام لا شك في هذا الموضع، إنما عنى به ردُّها إلى أماكنها من جسد المنظور إليه، وهو يُحيى، (3) . لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات. (4) . والذي يدل على ذلك قوله: (ثم نكسوها لحمًا) . ولا شك أن الروح إنما نفخت في العظام التي أنشزت بعد أن كسيت اللحم. (5)
وإذ كان ذلك كذلك، (6) . وكان معنى"الإنشاز" تركيب العظام وردها إلى أماكنها من الجسد، وكان ذلك معنى"الإنشار" =. (7) . وكان معلومًا استواء معنييهما، وأنهما متفقا المعنى لا مختلفاه، ففي ذلك إبانة عن صحة ما قلنا فيه.
* * *
وأما القراءة الثالثة، فغير جائزةٍ القراءةُ بها عندي، وهي قراءة من قرأ:"كَيْفَ نَنْشُرُهَا" بفتح النون وبالراء، لشذوذها عن قراءة المسلمين، وخروجها عن الصحيح الفصيح من كلام العرب.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "إذا كان حيا" خطأ صرف، وفي المطبوعة: "إذا كان إحياء"، وهو الصواب، إلا أن حق الكلام في هذا الموضع"إذ" لا"إذا".
(2) زدت ما بين القوسين، لأنه مما يقتضيه السياق. ولا معنى لالتماس تصحيح هذه الجملة، بتعليق قوله: فإن إحياء العظام ... " جوابا لقوله: "فإن ظن ظان ... ".
(3) يحيى"بالبناء للمجهول، من"الإحياء".
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "لا إعادة الروح ... "، وهو خطأ بين، بدل عليه سياق ما بعده. فإنه يعنى أن"إحياء العظام" مركب من أمرين: رد العظام إلى أماكنها، وإعادة الروح إليها. وسترى ذلك في حجته بعد.
(5) في المطبوعة والمخطوطة: "العظام التي أنشرت" بالراء، وهو خطأ، والصواب بالزاى، أى ركبت وردت إلى مواضعها.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "وإذا كان ذلك كذلك"، والصواب"إذ".
(7) قوله: "وكان ذلك معنى الإنشار"، وكان معنى الإنشار أيضًا، هو رد العظام إلى أما كنها من الجسد لإعادة الروح التي كانت فارقتها عند الممات، كما سلف منذ قليل.(5/479)
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (1) . (ثم نكسوها) أي العظام (لحمًا) ، و"الهاء" التي في قوله: (ثم نكسوها لحمًا) من ذكر العظام.
* * *
ومعنى"نكسوها": نُلبسها ونُواريها به كما يواري جسدَ الإنسان كسوتُه التي يلبَسُها. وكذلك تفعل العرب، تجعل كل شيء غطَّى شيئًا وواراه، لباسًا له وكُسوة، (2) . ومنه قول النابغة الجعدي: (3) .
فَالْحَمْدُ للهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجَلِي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإسْلامِ سِرْبَالا (4)
فجعل الإسلام -إذ غطَّى الذي كان عليه فواراه وأذهبه- كُسوةً له وسِربالا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "بذلك" مكان"بقوله"، وهو لا يستقيم.
(2) انظر ما سلف في معنى"لباس" و"كسوة" 3: 489 -492 / ثم هذا الجزء: 44.
(3) وينسب هذا البيت إلى"لبيد بن ربيعة العامري" وإلى"قردة بن نفاثة السلولي"، وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: 228: "وقد قال أكثر أهل الأخبار أن لبيدًا لم يقل شعرًا منذ أسلم.
وقال بعضهم: لم يقل في الإسلام إلا قوله: ... " وذكر البيت، ثم قال: وقد قيل إن هذا البيت لقردة بن نفاثة السلولى، وهو أصح عندي". ثم عاد في ص 536، فذكر قردة بن نفائة السلولى فقال: "كان شاعرًا، قدم على رسوله الله صلى الله عليه وسلم في من بني سلول، فأمّره عليهم بعد أن أسلم وأسلموا، فأنشأ يقول: بَانَ الشَّبَابُ فَلَمْ أَحْفِلْ بِهِ بَالاَ ... وَأَقْبَلَ الشَّيْبُ والإِسْلاَمُ إِقْبَالاَ
وَقَدْ أُرَوِّي نَدِيمِي مِنْ مُشَعْشَعَةٍ ... وَقَدْ أُقَلِّبُ أَوْرَاكًا وَأَ كْفَالاَ
الْحَمْدُ لله. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقد قيل إن البيت للبيد. قال أبو عبيدة: لم يقل لبيد في الإسلام غيره". وذكر ذلك أبو الفرج في أغانيه 14: 94، وغيره. وانظر معجم الشعراء: 338، 339، والشعر والشعراء: 232 والمعمرين 66، وديوان لبيد، الزيادات: 56. وغيرها كثير.
(4) انظر التعليق السالف، وهذا البيت ثابت في قصيدة النابغة (في ديوانه: 86) ، في هجائه ابن الحيا، والحيا أمه، واسمه سوار بن أوفي القشيري -وكان هجا الجعدي وسب أخواله من الأزد، وهم بأصبهان متجاورون، فقال في ذلك قصيدته التي أولها: إِمَّا تَرَي ظُلَلَ الأَيَّامِ قَدْ حَسَرَتْ ... عنِّي، وشَمَّرْتُ ذَيْلاً كَانَ ذَيَّالاَ
.(5/480)
القول في تأويل قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (فلما تبيَّنَ له) ، فلما اتضح له عيانًا ما كان مستنكرًا من قدرة الله وعظمته عنده قبل عيانه ذلك = (1) . (قال: أعلم) الآن بعد المعاينة والإيضاح والبيان = (2) . (أن الله على كل شيء قدير) .
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله: (قال أعلم أن الله) .
فقرأه بعضهم:"قَالَ اعْلَمْ" على معنى الأمر بوصل"الألف" من"اعلم"، وجزم"الميم" منها. وهي قراءة عامة قرأة أهل الكوفة. ويذكرون أنها في قراءة عبد الله:"قِيلَ اعْلَمْ" على وجه الأمر من الله الذي أحيي بعد مماته، (3) . فأمر بالنظر إلى ما يحييه الله بعد مماته. وكذلك روي عن ابن عباس.
5954- حدثني أحمد بن يوسف التغلبي، قال: حدثنا القاسم بن سلام، قال: حدثني حجاج، عن هارون، قال: هي في قراءة عبد الله:"قِيلَ اعْلَمْ أَنَّ اللهَ" على وجه الأمر. (4) .
__________
(1) انظر معنى"بين" فيما سلف في فهارس اللغة من الأجزاء السالفة.
(2) في المطبوعة: "بعد المعاينة والاتضاح به والبيان" وهو فاسد مريض، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "للذي أحيى" وما في المخطوطة عين الصواب.
(4) الأثر: 5954 -"أحمد بن يوسف التغلبي"، الأحوال، صاحب أبي عبيد القاسم بن سلام، مشهور بذلك. روى عن سليمان بن حرب، ومسلم بن إبراهيم، ورويم بن زيد، وأبي عبيد القاسم ابن سلام وغيرهم. روى عنه أبو عبد الله نفطويه النحوي، ومحمد بن مخلد، وأبو عمرو بن السماك، ومكرم بن أحمد، وغيرهم. قال عبد الله بن أحمد: "ثفة"، مات سنة 272، وصحبته لأبي عبيد القاسم ابن سلام ترجم عندي أنه المعنى في الأثر السالف رقم: 5919، وانظر التعليق عليه. وفي المطبوعة والمخطوطة: "الثعلبي". وهو خطأ.(5/481)
5955 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه = أحسبه، شكَّ أبو جعفر الطبري =، سمعت ابن عباس يقرأ:"فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ اعْلَمْ" قال: إنما قيل ذلك له.
5956 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا، والله أعلم، أنه قيل له"انظر"! فجعل ينظر إلى العظام كيف يتواصَلُ بعضها إلى بعض، وذلك بعينيه، فقيل:"اعلم أن الله على كل شيء قدير".
* * *
قال أبو جعفر: فعلى هذا القول تأويل ذلك: فلما تبيَّن من أمر الله وقدرته، قال الله له: اعلم الآن أن الله على كل شيء قدير. ولو صَرف متأوِّلٌ قوله:"قال اعلم" -وقد قرأه على وجه الأمر- إلى أنه من قِبَل المخبَرِ عنه بما اقتصّ في هذه الآية من قصته كان وجهًا صحيحًا، وكان ذلك كما يقول القائل:"اعلم أن قد كان كذا وكذا"، على وجه الأمر منه لغيره وهو يعني به نفسه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (قَالَ أَعْلَمُ) ، على وجه الخبر عن نفسه للمتكلم به، بهمز ألف"أعلم" وقطعها، ورفع الميم، بمعنى: فلما تبين له من قدرة الله وعظيم سلطانه بمعاينته ما عاينه، قال المتبيِّن ذلك: (1) .
أعلم الآن أنا أنّ الله على كل شيء قدير.
وبذلك قرأ عامة قرأة أهل المدينة، (2) . وبعض قرأة أهل العراق. وبذلك من
__________
(1) في المخطوطة: "قال أليس ذلك أعلم الآن ... "، وهو كلام يرتكس في الفساد ارتكاسًا.
وفي المخطوطة: "المسن" غير منقوطة، وهي الصواب عين الصواب.
(2) سقط من الناسخ"قرأة" في هذا الموضع والذي يليه، وكتبها في الهامش مرة واحدة، لم يكررها، ولذلك أثبتها الطابع في موضع واحد، هو الأخير منهما.(5/482)
التأويل تأوَّله جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5957 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عمن لا يتهم، عن وهب بن منبه، قال: لما عاين من قدرة الله ما عاينَ، قال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) .
5958 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عبد الصمد بن معقل أنه سمع وهب بن منبه يقول: (فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير) .
5959 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: بعين نبيّ الله صلى الله عليه وسلم = (1) .، يعني إنشازَ العظام = فقال: (أعلم أن الله على كل شيء قدير) .
5960 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: قال عزير عند ذلك -يعني عند معاينة إحياء الله حماره- (أعلم أنّ الله على كل شيء قدير) .
5961 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: جعل ينظر إلى كل شيء منه يوصلُ بعضه إلى بعض، (فلما تبين له قال أعلم أنّ الله على كل شيء قدير) .
5962 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد، نحوه.
* * *
وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ:"اعْلَمْ" بوصل
__________
(1) في المطبوعة: "يعنى نبي الله عليه السلام"، وفي المخطوطة مضطربة وغير منقوطة، فمن أجل ذلك لم يحسن قراءتها. أي: أن إنشاز العظام كان بعين النبي، يراه عيانا، وقد مضى مثل ذلك آنفًا في رقم: 5942.(5/483)
"الألف" وجزم"الميم" على وجه الأمر من الله تعالى ذكره للذي قد أحياه بعد مماته، بالأمر بأن يعلم أن الله = الذي أراه بعينيه ما أراه من عظيم قدرته وسلطانه، من إحيائه إياه وحمارَه بعد موت مائة عام وبَلائه، حتى عادَا كهيئتهما يوم قبض أرواحهما، وحفظِه عليه طعامه وشرابه مائة عام حتى ردَّه عليه كهيئته يوم وضعه غير متغير = (1) . على كل شيء قادرٌ كذلك. (2)
وإنما اخترنا قراءة ذلك كذلك وحكمنا له بالصواب دون غيره; لأن ما قبله من الكلام أمرٌ من الله تعالى ذكره: قولا للذي أحياه الله بعد مماته، وخطابًا له به، وذلك قوله: (فانظر إلى طعامك وشرَابك لم يتسنَّه وانظر إلى حمارك ... وانظر إلى العظام كيف ننشزها) ، فلما تبين له ذلك جوابًا عن مسألته ربَّه: (أنى يحيي هذه الله بعد موتها) ! قال الله له:"اعلم أن الله" = الذي فعل هذه الأشياء على ما رأيت = على غير ذلك من الأشياء قديرٌ كقدرته على ما رأيت وأمثاله، (3) . كما قال تعالى ذكره لخليله إبراهيم صلى الله عليه وسلم = بعد أن أجابه عن مسألته إياه في قوله: (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى) = (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (4) . فأمر إبراهيم بأن يعلم، بعد أن أراه كيفية إحيائه الموتى، أنه عزيز حكيم. فكذلك أمر الذي سأل فقال: (أنّى يحيي هذه الله بعد موتها) ؟ بعد أن أراه كيفية إحيائه إياها = أن يعلم أنّ الله على كل شيء قدير. (5) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وحفظ عليه طعامه ... "، وهو اختلال في الكلام، والصواب ما أثبت. وقوله: "وحفظه" مجرور معوطف على قوله: "من إحيائه إياه وحماره ... ".
(2) قوله: "على كل شيء قادر كذلك" متعلق بقوله: بأن يعلم أن الله ... على كل شيء قادر"، وما بينهما صفة لله تعالى، فصلت بين اسم"إن" وخبرها.
(3) سياق هذه الجملة كالسالفة في التعليق السالف: "أعلم أن الله ... على غير ذلك من الأشياء قدير".
(4) هي الآية التالية من"سورة البقرة".
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "وكذلك أمر الذي سأل ... " بالواو، والصواب بالفاء.
هذا وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 173 - 174.(5/484)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
القول في تأويل قوله: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ألم تر إذ قال إبراهيم: ربِّ أرني. وإنما صلح أن يعطف بقوله: (وإذ قال إبراهيم) على قوله: (أو كالذي مرّ على قرية) ، وقوله: (ألم تر إلى الذي حاجّ إبراهيم في ربه) لأن قوله: (ألم تر) ليس معناه: ألم تر بعينيك، وإنما معناه: ألم تر بقلبك، فمعناه: ألم تعلم فتذكر، (1) . فهو وإن كان لفظه لفظ"الرؤية" فيعطف عليه أحيانًا بما يوافق لفظه من الكلام، وأحيانًا بما يوافق معناه.
* * *
واختلف أهل التأويل في سبب مسألة إبراهيم ربَّه أن يريه كيف يحيي الموتى. فقال بعضهم: كانت مسألته ذلك ربَّه، أنه رأى دابة قد تقسَّمتها السباعُ والطيرُ، فسأل ربه أن يريه كيفية إحيائه إياها، مع تفرق لحومها في بطون طير الهواء وسباع الأرض ليرى ذلك عيانًا، فيزداد يقينًا برؤيته ذلك عيانًا إلى علمه به خبرًا، فأراه الله ذلك مثلا بما أخبر أنه أمره به.
* ذكر من قال ذلك:
5963 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كيف تحيي الموتى) ذكر لنا أنّ خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أتى على دابة توزعتها الدوابّ والسباع، فقال: (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) .
5964 - حدثنا عن الحسن، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد،
__________
(1) انظر معنى"الرؤية" فيما سلف من هذا الجزء 5: 429، والتعليق عليه رقم: 2.(5/485)
قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (رب أرني كيف تحيي الموتى) قال: مر إبراهيم على دابة ميت قد بَلي وتقسَّمته الرياح والسباعُ، فقام ينظر، فقال: (1) . سبحان الله! كيف يحيي الله هذا؟ وقد علم أن الله قادرٌ على ذلك: فذلك قوله: (رب أرني كيف تحيي الموتى) .
5965- حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: بلغني أن إبراهيم بينا هو يسير على الطريق، إذا هو بجيفة حمار عليها السباع والطير قد تمزَّعت لحمها، (2) . وبقي عظامها. فلما ذهبت السِّباع، وطارت الطير على الجبال والآكام، فوقف وتعجب، (3) . ثم قال: ربّ قد علمتُ لتجمعنَّها من بطون هذه السباع والطير! ربّ أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن، قال: بلى! ولكن ليس الخبر كالمعاينة.
5966 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: مر إبراهيم بحوت نصفه في البرّ، ونصفه في البحر، فما كان منه في البحر فدواب البحر تأكله، وما كان منه في البرِّ فالسباع ودواب البر تأكله، فقال له الخبيث: (4) . يا إبراهيم، متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فقال: يا رب، أرني كيف تحيي الموتى! قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي!
* * *
وقال آخرون: بل كان سبب مسألته ربَّه ذلك، المناظرةُ والمحاجَّة التي جرت بينه وبين نمرود في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المخطوطة: "فقدم ينظر"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) تمزع القوم الشيء: تقاسموا وفرقوه بينهم،. من التمزيع: وهو التقطيع والتفريق.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "فوقف" بالفاء، والأجود حذفها.
(4) الخبيث، يعنى إبليس لعنه الله.(5/486)
5967 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال: لما جرى بين إبراهيم وبين قومه ما جرى مما قصَّه الله في"سورة الأنبياء"، قال نمروذ، فيما يذكرون، لإبراهيم: أرأيت إلهك هذا الذي تعبد وتدعو إلى عبادته، وتذكُر من قدرته التي تعظِّمه بها على غيره، ما هو؟ قال له إبراهيم: ربي الذي يحيي ويميت! قال نمروذ: أنا أحيي وأميت! فقال له إبراهيم: كيف تحيي وتميت؟ = ثم ذكر ما قصّ الله من محاجته إياه = قال: فقال إبراهيم عند ذلك: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال: أولم تؤمن؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي = من غير شكّ في الله تعالى ذكره ولا في قدرته، ولكنه أحبَّ أن يعلم ذلك وتاق إليه قلبه فقال:"ليطمئن قلبي"، أي: ما تاق إليه إذا هو علمه.
* * *
قال أبو جعفر: وهذان القولان -أعني الأول وهذا الآخر- متقاربا المعنى في أن مسألة إبراهيم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، كانت ليرى عيانًا ما كان عنده من علم ذلك خبرًا.
* * *
وقال آخرون: بل كانت مسألته ذلك ربَّه عند البشارة التي أتته من الله بأنه اتخذه خليلا فسأل ربه أن يريه عاجلا من العلامة له على ذلك، ليطمئن قلبه بأنه قد اصطفاه لنفسه خليلا ويكون ذلك لما عنده من اليقين مؤيِّدًا.
* ذكر من قال ذلك:
5968 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما اتخذ الله إبراهيم خليلا سأل ملك الموت ربَّه أن يأذن له أن يبشر إبراهيم بذلك، فأذن له، فأتى إبراهيم وليس في البيت، فدخل داره = وكان إبراهيم أغيرَ الناس، إن خرج أغلق الباب = فلما جاء ووجد في داره رجلا(5/487)
ثار إليه ليأخذه، (1) . قال: من أذن لك أن تدخل داري؟ قال ملك الموت: أذن لي رب هذه الدار، قال إبراهيم: صدقت! وعرف أنه ملك الموت. قال: من أنت؟ قال: أنا ملك الموت جئتك أبشِّرك بأن الله قد اتخذك خليلا! فحمد الله وقال: يا ملك الموت، أرني الصورة التي تقبض فيها أنفاسَ الكفار. قال: يا إبراهيم لا تطيق ذلك. قال: بلى. قال: فأعرِضْ! فأعرضَ إبراهيم ثم نظر إليه، فإذا هو برجل أسود تنال رأسه السماء يخرج من فيه لهب النار، ليس من شعرة في جسده إلا في صورة رجل أسود يخرج من فيه ومسامعه لهبُ النار. فغشي على إبراهيم، ثم أفاقَ وقد تحول ملك الموت في الصورة الأولى، فقال: يا ملك الموت، لو لم يلقَ الكافر عند الموت من البلاء والحزن إلا صورتَك لكفاه، فأرني كيف تقبض أنفاس المؤمنين؟ قال: فأعرض! فأعرض إبراهيم، ثم التفت، فإذا هو برجل شابّ أحسنِ الناس وجهًا وأطيبه ريحًا، (2) . في ثياب بيض، فقال: يا ملك الموت، لو لم يكن للمؤمن عند ربّه من قرَّة العين والكرامة إلا صورتك هذه، لكان يكفيه.
فانطلق ملك الموت، وقام إبراهيم يدعو ربه يقول: رب أرني كيف تحيي الموتى حتى أعلم أني خليلك! قال: أولم تؤمن بأني خليلك؟ = يقول: تصدق = قال: بلى! ولكن ليطمئن قلبي بِخُلولتك. (3) .
__________
(1) في المطبوعة: "فلما جاء وجد في داره رجلا، فثار إليه ليأخذه قال"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) من العربي المعرق، عود الضمير على الجمع مذكرًا مفردًا، كما جاء في الخبر، وكما جاء في خبر عمار بن ياسر (ابن سعد 3 /1 /183) : " كان عمار بن ياسر من أطول الناس سكوتًا وأقله كلامًا" وكما في الحديث: "خبر النساء صوالح قريش، أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده"، وكقول ذي الرمة. وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيدًا ... وَسَالِفَةً، وَأَحْسَنُهُ قَذَالاَ.
(3) الخلة (بضم وفتح اللام المشددة) والخلالة (بفتح الخاء وكسرها) والخلولة والخلالة (بضم الخاء) : الصداقة.(5/488)
5969 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن سعيد بن جبير: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: بالخُلَّة. (1) .
* * *
وقال آخرون: قال ذلك لربه لأنه شك في قدرة الله على إحياء الموتى.
* ذكر من قال ذلك:
5970 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب في قوله: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: قال ابن عباس: ما في القرآن آية أرْجَى عندي منها. (2) .
5971 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت زيد بن علي يحدث عن رجل، عن سعيد بن المسيب، قال: اتَّعد عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمرو أن يجتمعا. قال: ونحن يومئذ شَبَبَة، فقال أحدهما لصاحبه: أي آية في كتاب الله أرجى لهذه الأمة؟ فقال عبد الله بن عمرو: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ) (3) . [الزمر: 53] حتى ختم الآية. فقال ابن عباس: أمَّا إن كنت تقول: إنها، وإن أرجى منها لهذه
__________
(1) الأثر: 5969 -"عمرو بن ثابت بن هرمز البكري" ويقال له: عمرو بن أبي المقدام روى عن أبيه، وأبي إسحاق السبيعي، والأعمش وغيرهم، روى عنه أبو داود الطيالسي، وسهل بن حماد، ويحيى بن آدم وغيرهم. قال ابن المبارك: "لا تحدثوا عن عمرو بن ثابت، فإنه كان يسب السلف"، وضعفه أبو زرعة وابن معين والبخاري. وقال أبو داود في السنن: " رافضي خبيث وكان رجل سوء". مات سنة 172، مترجم في التهذيب. وأبو: ثابت بن هرمز أبو المقدام.
روى عن سعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وغيرها. وروى عنه ابنه والثوري وشعبة وغيرهم. كان شيخًا عاليًا صاحب سنة. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 5970 -أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 335 ونسبه لعبد الرزاق وابن جرير. وقوله: "أرجي" أفعل تفضيل من"الرجاء"، وهو الأمل نقيض اليأس.
(3) زدت في أول الآية: "قل" على سنن القراءة.(5/489)
الأمة قول إبراهيم صلى الله عليه وسلم: (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) . (1) .
5972 - حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء بن أبي رباح، عن قوله: (وإذ قال إبراهيم رب أرني كلف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي) قال: دخل قلبَ إبراهيم بعضُ ما يدخل قلوبَ الناس، فقال: (رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلى) ، قال: (فخذ أربعةً من الطير) ، ليريه.
5973 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبان المصري، قالا حدثنا سعيد بن تليد، قال: حدثنا عبد الرحمن بن القاسم، قال: حدثني بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"نحنُ أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى، قال أولم تؤمن؟ قال بلى ولكن ليطمئن قلبي". (2) .
__________
(1) الأثر: 5971 -خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 335، ونسبه لعبد بن حميد، وابن المنذر وابن جرير، والحاكم قال: "وصححه". وهو في المستدرك بغير هذا اللفظ 1: 60 من طريق"بشر بن حجر السامي، حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة، عن محمد بن المنكدر قال: التقى ابن عباس وابن عمرو، فقال له ابن عباس ... " ثم قال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وتعقبه الذهبي فقال: "فيه انقطاع". وكأن علة انقطاعه أن عبد العزيز بن أبي سلمة لم يدرك محمد بن المنكدر، فإنه مات سنة 130.
هذا: ومعنى قوله: "أما إن كنت تقول إنها"، فإن في الجملة حذوفًا جارية على لغة العرب في الاجتزاء، ومعناه: "أما إن كنت تقول ذلك، إنها لمن أرجى الآيات، وأرجى منها قول إبراهيم.
وحذف خبر"إن" كثير في العربية، من ذلك ما جاء في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "أن المهاجرين قالوا: يا رسول الله، إن الأنصار قد فضلونا، إنهما آوونا، وفعلوا بنا وفعلوا، فقال: ألستم تعرفون ذلك لهم؟ قالوا: بلى! قال: فإن ذلك". فقوله"فإن ذلك"، معناه: فإن ذلك مكافأة منكم لهم، أي معرفتكم بصنيعهم وإحسانهم، مكافأة لهم. قال أبو عبيد: "وهذا اختصار من كلام العرب، يكتفي منه بالضمير، لأنه قد علم ما أراد به قائله"، انظر أمالي ابن الشجري 1: 322، وغيره.
(2) الأثر: 5973 -"زكريا بن يحيى بن أبان المصري"، لم أجد له ترجمة فيما بين يدي من الكتب. و"سعيد بن تليد"، هو: "سعيد بن عيسى بن تليد الرعيني" نسب إلى جده. روى عنه البخاري وروى له النسائي بواسطة عبد الرحمن بن عبد الله بن الحكم المصري. كان ثقة ثبتا في الحديث.
وعبد الرحمن بن القاسم بن خالد العتقي المصري". روى عن مالك الحديث والمسائل، وعن بكر بن مضر، ونافع بن أبي نعيم القاري. قال ابن يونس: "ذكر أحمد بن شعيب النسوي ونحن عنده، عبد الرحمن بن القاسم، فأحسن الثناء عليه وأطنب" وذكره ابن حبان في الثقات وقال: "كان خيرًا فاضلًا ممن تفقه على مالك، وفرع على أصوله، وذب عنها، ونصر من انتحلها". مترجم في التهذيب. و"عمرو ابن الحارث بن يعقوب الأنصاري المصري". روى عن أبيه وسالم بن أبي النضر، والزهري ويحيى بن سعيد الأنصاري، وعبد الرحمن بن القاسم، ويونس بن يزيد الأيلى وهو من أقرانه. روى عنه مجاهد ابن جبر وصالح بن كيسان، وهما أكبر منه، وقتادة وبكير بن الأشج، وهما من شيوخه، ورشدين ابن سعد، وبكر بن مضر وغيرهم. وهو ثقة. قال أبو حاتم: "كان أحفظ أهل زمانه، ولم يكن له نظير في الحفظ" وقال سعيد بن عفير: "كان أخطب الناس وأرواهم". مترجم في التهذيب. وانظر بقية تخريجه في الأثر التالي.(5/490)
5974 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس عن ابن شهاب وسعيد بن المسيب، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فذكر نحوه. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية، ما صحَّ به الخبر عن رسول الله صلى أنه قال، وهو قوله:"نحن أحق بالشك من إبراهيم، قال: رب أرني كيف تحيي الموتى؟ قال أولم تؤمن؟ " = وأن تكون مسألته ربَّه ما سأله أن يُريه من إحياء الموتى لعارض من الشيطان عرضَ في قلبه، كالذي ذكرنا عن ابن زيد آنفًا: (2) . من أن إبراهيم لما رأى الحوت الذي بعضه في البر وبعضه في البحر، قد تعاوره دواب البر ودواب البحر وطير الهواء، ألقى الشيطان في نفسه فقال: متى يجمع الله هذا من بطون هؤلاء؟ فسأل إبراهيم حينئذ ربه أن يريه كيف يحيي الموتى، ليعاين ذلك عيانًا، فلا يقدر بعد ذلك الشيطان أن يلقي في قلبه مثل الذي ألقي
__________
(1) الأثر: 5974 -هذا الحديث رواه البخاري في صحيحه، قال: "حدثنا أحمد بن صالح، حدثني ابن وهب" كمثل إسناد الطبري. وبمثل لفظه في الإسناد السابق. انظر الفتح 8: 150، 151، واستوفى الكلام فيه الحافظ في الفتح أيضًا في شرح" كتاب أحاديث الأنبياء"، من البخاري (الفتح 6: 293، 294) ، وأشار إلى إسناد ابن جرير السالف. وانظر كلام الحافظ في إسناده.
(2) يعنى الأثر رقم: 5966، والذي قاله الطبري من تمام الأثر فيما أرجح.(5/491)
فيه عند رؤيته ما رأى من ذلك. فقال له ربه: (أولم تؤمن) ؟ يقول: أولم تصدق يا إبراهيم بأني على ذلك قادر؟ قال: بلى يا رب! لكن سألتك أن تريني ذلك ليطمئن قلبي، فلا يقدر الشيطان أن يلقي في قلبي مثل الذي فعل عند رُؤيتي هذا الحوت.
5975 - حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد. (1) .
* * *
ومعنى قوله: (ليطمئن قلبي) ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه.
* * *
وهذا التأويل الذي. قلناه في ذلك هو تأويل الذين وجَّهوا معنى قوله: (ليطمئن قلبي) إلى أنه: ليزداد إيمانًا = أو إلى أنه: ليوقن. (2) .
* ذكر من قال ذلك: ليوقن = أو ليزداد يقينًا أو إيمانًا. (3) .
5976 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو نعيم، عن سفيان، عن قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير: (ليطمئن قلبي) قال: ليوقن. (4) .
5977 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان. وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ليطمئن قلبي) قال: ليزداد يقيني.
5978 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (ولكن ليطمئن قلبي) يقول: ليزداد يقينًا.
5979 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: وأراد نبي الله إبراهيم ليزداد يقينًا إلى يقينه.
5980 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: قال معمر وقال قتادة: ليزداد يقينًا.
__________
(1) الأثر: 5975 - هو من تمام الأثر الذي أشرت إليه رقم: 5966.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي 3: 300.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي 3: 300.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "ليوفق"، في هذه المواضع الثلاثة، وهو خطأ لا معنى له، وصوابها ما أثبت، من تفسير القرطبي 3: 300.(5/492)
5981 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: أراد إبراهيم أن يزداد يقينًا.
5982 - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن كثير البصري، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا أبو الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ليطمئن قلبي) قال: ليزداد يقيني.
5983 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الفضل بن دكين، قال: حدثنا سفيان، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير: (ولكن ليطمئن قلبي) قال: ليزداد يقينًا.
5984 - حدثنا صالح بن مسمار، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: حدثنا خلف بن خليفة، قال: حدثنا ليث بن أبي سليم، عن مجاهد وإبراهيم في قوله: (ليطمئن قلبي) قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني.
5985 - حدثنا صالح، قال: حدثنا زيد، قال: أخبرنا زياد، عن عبد الله العامري، قال: حدثنا ليث، عن أبي الهيثم، عن سعيد بن جبير في قول الله: (ليطمئن قلبي) قال: لأزداد إيمانًا مع إيماني.
* * *
وقد ذكرنا فيما مضى قولَ من قال: معنى قوله: (ليطمئن قلبي) بأني خليلك. (1) .
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (ليطمئن قلبي) لأعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثران رقم: 5968، 5969.(5/493)
5986 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (ليطمئن قلبي) قال: أعلم أنك تجيبني إذا دعوتك، وتعطيني إذا سألتك.
* * *
وأما تأويل قوله: (قال أولم تؤمن) ، فإنه: أولم تصدق؟ (1) . كما:-
5987 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي.
5988 - وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن سعيد بن جبير قوله: (أولم تؤمن) قال: أولم توقن بأني خليلك؟
5989 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (أولم تؤمن) قال: أولم توقن.
* * *
القول في تأويل قوله: {قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قال الله له: (فخذ أربعة من الطير) ، فذكر أن الأربعة من الطير: الديكُ، والطاوُوس، والغرابُ، والحمام.
* ذكر من قال ذلك:
5990 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب الأول يذكرون أنه أخذ طاووسا، وديكًا، وغرابًا، وحمامًا.
5991 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن
__________
(1) انظر فهارس اللغة فيما سلف"الإيمان" بمعنى التصديق.(5/494)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الأربعة من الطير: الديك، والطاووس، والغراب، والحمام.
5992 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج: (قال فخذ أربعة من الطير) قال ابن جريج: زعموا أنه ديك، وغراب، وطاووس، وحمامة.
5993 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (قال فخذ أربعة من الطير) قال: فأخذ طاووسًا، وحمامًا، وغرابًا، وديكًا; مخالِفةٌ أجناسُها وألوانُها.
* * *
القول في تأويل قوله: {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والبصرة: (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) بضم الصاد من قول القائل:"صُرْت إلى هذا الأمر" (1) . إذا ملت إليه ="أصُورُ صَوَرًا"، ويقال:"إني إليكم لأصْوَر" أي: مشتاق مائل، ومنه قول الشاعر: (2) .
اللهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا ... يَوْمَ الفِرَاقِ إلَى أَحْبَابِنَا صُورُ (3)
وهو جمع"أصْور، وصَوْراء، وصُور، مثل أسود وسوداء" ومنه قول الطرماح:
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "صرت هذا الأمر" بإسقاط"إلى"، والصواب ما أثبت.
(2) غير معروف قائله، وأنشده الفراء.
(3) اللسان (صور) والخزانة 1: 58، وشرح شواهد المغني: 266 وغيرها كثير، وكان في المطبوعة هنا: "إلى أحبابنا"، وأثبت ما في المخطوطة. وبعد البيت بيت من الشواهد المستفيضة: وَأَنَّنِي حَوْثُمَا يَثْنِي الهَوَى بَصَرِي ... مِنْ حَوْثُمَا سَلَكُوا أَدْنُو فَأَنْظُورُ
.(5/495)
عَفَائِفُ إِلا ذَاكَ أَوْ أَنْ يَصُورَهَا ... هَوًى، والْهَوَى للعَاشِقِينَ صَرُوعُ (1)
يعني بقوله:"أو أن يصورها هوى"، يميلها.
* * *
فمعنى قوله: (فصُرْهن إليك) اضممهن إليك ووجِّههن نحوك، كما يقال:"صُرْ وجهك إليّ"، أي أقبل به إليّ. ومن وَجَّه قوله: (فصرهن إليك) إلى هذا التأويل، كان في الكلام عنده متروك قد ترك ذكرُه استغناءً بدلالة الظاهر عليه. ويكون معناه حينئذ عنده: قال: (فخذ أربعةً من الطير فصرهن إليك) ، ثم قطعهن، (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) .
* * *
وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك إذا قرئ كذلك بضم"الصاد": قطِّعهن، كما قال توبة بن الحميِّر:
فَلَمَّا جَذَبْتُ الحَبْلَ أَطَّتْ نُسُوعُهُ ... بِأَطْرَافِ عِيدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا ...
__________
(1) ديوانه: 152، وهو من أبيات جياد، قبله: إِذَا ذُكِرَتْ سَلْمَى لَهُ، فَكَأَنَّمَا ... تَغَلْغَلَ طِفْلٌ فِي الفُؤَادِ وَجِيعُ
وَإِذْ دَهْرُنَا فِيهِ اغْتِرَارٌ، وَطَيْرُنَا ... سَوَاكِنٌ فِي أَوْكَارِهِنَّ وُقُوعُ
قَضَتْ مِنْ عِيَافٍ وَالطَّرِيدَةِ حَاجَةً ... فَهُنَّ إلى لَهْوِ الحَدِيثِ خُضُوعُ
عَفَائِفُ إلاّ ذَاكَ. . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
فَآلَيْتُ أَلْحَى عَاشِقًا مَا سَرَى القَطَا ... وَأَجْدَرَ من وادِي نَطَاةَ وَلِيعُ
قوله: "طفل"، أي من هم الهوى والحب، ينمو منذ كانوا أطفالا. وعياف، والطريدة، لعبتان من لعب صبيان الأعراب، فيقول: إن سلمى وأترابها، قد أدركن وكبرن، فترفعن عن لعب الصغار والأحداث، وحبب إليهن الحديث والغزل. فهن يخضعن له ويملن، ولكنهن عفيفات مسلمات، ليس لهن من نزوات الصبا إلا الأحاديث والغزل، وإلا أن يعطف قلوبهن الهوى والعشق، والهوى صروع قتال، يصرع من يلم به. فلما رأى ذلك منهز ومن نفسه، أقسم أن لا يلوم محبًّا على فرط عشقه. وقوله: "أجدر" أي أخرج الشجر ثمره كالحمص. والوليع: طلع النخل. ووادي نطاة: بخبير، وهو كثير النخل.(5/496)
فَأَدْنَتْ لِيَ الأسْبَابَ حَتَّى بَلَغْتُهَا ... بِنَهْضِي وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا (1)
يعني: يقطعها. وإذا كان ذلك تأويل قوله: (فصرهن) ، كان في الكلام تقديم وتأخير، ويكون معناه: فخذ أربعة من الطير إليك فصِرهن = ويكون"إليك" من صلة"خذ".
* * *
وقرأ ذلك جماعة من أهل الكوفة:"فَصِرْهُنَّ إِلَيْكَ" بالكسر، بمعنى قطعهن.
وقد زعم جماعة من نحويي الكوفة أنهم لا يعرفون:"فصُرهن" ولا"فصرهن" بمعنى قطعهن، في كلام العرب -وأنهم لا يعرفون كسر"الصاد" وضمها في ذلك إلا بمعنى واحد، = وأنهما جميعًا لغتان بمعنى"الإمالة" = وأن كسر"الصاد" منها لغة في هذيل وسليم; وأنشدوا لبعض بني سليم: (2) .
وَفَرْعٍ يَصِيرُ الجِيدَ وَحْفٍ كَأَنَّهُ ... عَلَى الِّليتِ قِنْوَانُ الكُرُوم الدَّوَالِح (3)
__________
(1) هذان البيتان من قصيدة طويلة عندي في شعر توبة بن الحير. والبيت الأول هنا ينبغي أن يؤخر، لأن المعنى لا يستقيم على رواية أبي جعفر: وترتيبها في رواية شعره، مع اختلاف الرواية: فَنَادَيْتُ لَيْلَى، والحُمُولُ كَأَنَّهَا ... مَوَاقِيرُ نَخْلٍ زَعْزَعَتْهَا دُبُورَها
فَقَالَتْ: أَرَى أَنْ لا تُفِيدَكَ صُحْبَتِى ... لِهَيْبَةِ أعْدَاءٍ تَلَظَّى صُدُورُهَا
فَمَدَّتْ لِيَ الأَسْبَابَ حتَّى بَلَغْتُهَا ... بِرِفْقِي، وَقَدْ كَادَ ارْتِقَائِي يَصُورُهَا
فَلَمَّا دَخَلْتُ الخِدْرَ أَطَلَّتْ نُسُوعُهُ ... وَأَطْرَافُ عِيْدَانٍ شَدِيدٍ أُسُورُهَا
ورواية الطبري"فلما جذبت الحبل" و"بأطراف عبدان"، ليست جيدة، والأسباب جمع سبب: وهي الحبال، حتى يصعد إليها في خدرها. وقوله"نهضي" في روايته، أي نهوضي وحركتي من حيث كنت مختفيًا. وأط الرحل يئط: سمع صوت عيدانه وصريرها. والنسوع جمع نسع: وهو سير مضفور تشديد به الرحال. كانت الحبال جديدة فأطت وسمع صوتها. والأسور جمع أسر: وهو عقد الخلق وقوته. أي أن العيدان جديدة شديدة القوى. متينة. فذلك أشد لأطيطها.
(2) لا أعرف قائله.
(3) معاني القرآن للفراء 1: 174. اللسان (صير) الفرع الشعر التام الحثل، وحف أسود حسن كثير عزيز، الليت صحفة العنق. وهما الليتان، قنوان: جمع قنو (بكسر فسكون) وهو عذق النحل وما فيه من الرطب. والدوالح جمع دالح: وهو المثقل بالحمل هنا. وأصله فيما يمشي، يقال بعير دالح: إذا مشى بحمله الثقيل مشيًا غير منبسط. وكذلك السحاب دالح، أي مثقل بطيء المر. وهي استعارة جيدة محكمة.(5/497)
يعني بقوله:"يصير"، يميل = وأنّ أهل هذه اللغة يقولون:"صاروه وهو يصيره صَيرًا"،"وصِرْ وَجهك إليّ"، أي أمله، كما تقول:"صُره". (1) .
* * *
وزعم بعض نحويي الكوفة أنه لا يعرف لقوله: (فصُرهن) ولا لقراءة من قرأ:"فصرهن" بضم"الصاد" وكسرها، وجهًا في التقطيع، (2) . إلا أن يكون"فصِرْ هن إليك"! في قراءة من قرأه بكسر"الصاد" من المقلوب، وذلك أن تكون"لام" فعله جعلت مكان عينه، وعينه مكان لامه، فيكون من"صَرَى يصري صَرْيًا"، فإن العرب تقول:"بات يَصْرِي في حوضه": إذا استقى، ثم قطع واستقى، (3) . ومن ذلك قول الشاعر: (4) .
صَرَتْ نَطْرَةً لَوْ صَادَفَتْ جَوْزَ دَارِعٍ ... غَدَا وَالْعَوَاصِي مِنْ دَمِ الجَوْفِ تَنْعَرُ (5)
"صَرَت"، قطعتْ نظرة، ومنه قول الآخر: (6) .
يَقُولُونَ: إنّ الشَّأَمَ يَقْتُلُ أَهْلَهُ ... فَمَنْ لِي إِذَا لَمْ آتِهِ بِخُلُودِ ... تَعَرَّبَ آبَائِي، فَهَلا صَرَاهُمُ ... مِنَ المَوْتِ أَنْ لَمْ يَذْهَبُوا وَجُدُودِي! ? (7)
__________
(1) انظر ما سلف في معاني القرآن للفراء 1: 174.
(2) أي: بمعنى التقطيع.
(3) هذا بيان جيد، لا تجده في كتب اللغة.
(4) لم أعرف قائله.
(5) اللسان (نعر) (عصا) ، ومعاني القرآن 1: 174 -جوز كل شيء: وسطه، والدراع: لابس الدرع. والعواصى جمع عاص، يقال: "عرق عاص" وهو الذي لا يرقأ ولا ينقطع دمه، كأنه يعصى في الانقطاع الذي يبغي منه ولا يطيع، وأشد ما يكون ذلك في عروق الجوف. ونعر العرق بالدم: إذا فار فورانًا لا يرقأ، كأن له صوتًا من شدة خروج الدم منه. فهو نعار ونعور.
(6) لم أعرف قائلهما.
(7) معاني القرآن للفراء 1: 174، معجم ما استعجم: 773، اللسان (عرب) (شأم) .
وتعرب القوم: أقاموا بالبادية، ولم يحضروا القرى. يقول سكن آبائي وجدودي البوادي وأقاموا فيها ولم يحضروا القرى، فلم يك ذلك نجاة لهم من المنايا. وقوله: "وجدودي، عطف على"آبائي"، ورواية البيت في اللسان أجود: تَعَرَّبَ آبائِي، فَهَلاَّ صَرَاهُمُ ... مِنَ المَوْتِ رَمْلاَ عَالِجٍ وزَرُودِ
وهما موضعان مصحان من أرض العرب.(5/498)
يعني: قطعهم، ثم نقلت ياؤها التي هي لام الفعل فجعلت عينا للفعل، وحوّلت عينها فجعلت لامها، فقيل:"صار يصير"، كما قيل:"عَثِي يَعْثَى عَثًا"، ثم حولت لامها، فجعلت عينها، فقيل:"عاث يعيث. (1) .
* * *
فأما نحويو البصرة فإنهم قالوا: (فصرهن إليك) سواء معناه إذا قرئ بالضم من الصاد وبالكسر في أنه معنيٌّ به في هذا الموضع التقطيع. قالوا: وهما لغتان: إحداهما:"صار يصور"، والأخرى:"صَار يصير"، واستشهدوا على ذلك ببيت توبة بن الحمير الذي ذكرنا قبل، وببيت المعلَّى بن جَمَّال العبدي (2) .
وَجَاءَت خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا ... يَصُورُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ (3)
__________
(1) انظر ما سلف من ذلك في 2: 123، 124.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "بن حماد"، وهو تصحيف، فإن المراجع كلها اتفقت على أنه"ابن جمال" بالجيم أو"بني حمال" بالحاء. وهو ينسب لأوس بن حجر التميمي، ولآخر غيره يقال له: أوس بن حجر كما ترى في المراجع المذكورة بعد.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 81 وأمالي القالي 2: 52، والتنبيه: 93، وسمط اللآلي: 685، 686، ثم في لسان العرب (ظأب) (ظاب) (صور) (دهس) (خلع) (صوع) (عنق) (زنم) ، وفي كتب أخرى، ويأتي البيت منسوبًا لأوس بن حجر هكذا: يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمٌ ... لَهُ ظَأْب كمَا صَخِبَ الغرِيمُ
وهو بيت ملفق، وصواب رواية الشعر مادة (زنم) من اللسان: وجَاءَتْ خُلْعَةٌ دُهْسٌ صَفَايَا ... يَصُوعُ عُنُوقَهَا أَحْوَى زَنِيمُ
يُفَرِّقُ بَيْنَهَا صَدْعٌ رَبَاعٌ ... لَهُ ظَأْبٌ كَما صَخِبَ الغَرِيمُ
الخلعة بكسر الخاء وضمها: خيار المال، يعنى المعزي التي سيقت إليه، كانت كلها خيارًا. والدهس جمع دهساء: وهي من المعزى، السوادء المشربة حمرة لا تغلو. وقوله: "يصوع" هذه الرواية أخرى بمعنى يفرق. وذلك إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. والتيس إذا أرسل في الشاء صاعها، أي فرقها إذا أراد سفادها. وعنوق جمع عناق: وهي أنثي المعز. وهو جمع عزيز. والأحوى: الذي تضرب حمرته إلى السواد، يعنى تيس المعز، ويعنى أنه كريم. والزنيم: الذي له زنمتان في حلقة. والصدع (بفتح الصاد وسكون الدال أو فتحها) : وهو الفتى الشاب المدمج الخلق، الصلب القوي. ورباع: أي دخل في السنة الرابعة، وذلك في عز شبابه وقوته. وظأب التيس: صوته وجلبته وصياحه وصخبه، وهو أشد ما يكون منه عند السفاد. والغريم: الذي له الدين على المدين، ويقال للمدين غريم. يقول: إذا أراد سفادها هاج وفرقها، وكان له صخب كصخب صاحب الدين على المدين الذي يماطله ويماحكمه ويلويه دينه.(5/499)
بمعنى: يفرِّق عنوقها ويقطعها = وببيت خنساء:
*لَظَلَّتْ الشُّمُّ مِنْهَا وَهْيَ تَنْصَارُ* (1)
يعني بالشم: الجبال، أنها تتصدع وتتفرق -وببيت أبي ذؤيب:
فَانْصَرْنَ مِنْ فَزَعٍ وَسَدَّ فُرُوجَهُ ... غُبْرٌ ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ (2)
قالوا: فلقول القائل:"صُرْت الشيء"، معنيان: أملته، وقطعته. وحكوا سماعًا:"صُرْنا به الحكم": فصلنا به الحكم.
* * *
__________
(1) مجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 81 وفيه مراجعه. والبيت ليس في ديوانها.
(2) ديوانه: 12 المفضليات: 873، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 81، والأضداد للأصمعي وابن السكيت 33، 187. وهذه الرواية التي رواها أبو عبيدة والأصمعي وابن السكيت والطبري" فانصرن"، رواية غربية، وهي في سياقه الشعر أغرب. وأنا أنكر معناها وأجده مخلا بالشعر. وذلك أن سياقه في صفة ثور الوحش، ثور من قد تقضى شبايه، لم تزل كلاب القناص تروعه حتى شعفت فؤاده. فإذا أصبح الصباح داخله الفزع خشية أن يباكره صياد بكلا به. فهو لا يزال يرمي بعينه في غيوب الأرض ثم يغضي ليتسمع، فيصدق سمعه ما يرى. وهو عندئذ واقف في الشمس يتشمس من ندى الليل، فيقول أبو ذؤيب: فَغَدَا يُشَرِّقُ مَتْنَهُ، فَبَدَا لَهُ ... أُولَى سَوَابِقِها قَرِيبًا تُوزَعُ
يقول: بدت له طلائع الكلاب قد دنت منه، والقناص يكفها حتى يرسلها جميعا عليه. فَاهْتَاجَ من فَرَعٍ، وسَدَّ فُرُوجَهُ ... غُبْرٌ ضَوَارٍ: وَافِيَانِ وَأَجْدَعُ
يقول هاجه الفزع فعدا عدوًا شديدًا والكلاب من خلفه وحواليه قد أخذت عليه مذهبه. ويروى"فانصاع من فزع" أي ذهب في شق. والغبر الضواري: هي كلاب الصياد، "منها وافيان": كلبان سالما الأذنين. والأجدع: مقطوع الأذن. إما علامة له، وإما من طول ممارسته لصيد الثيران وضربها له بقرونها حتى انقطعت آذانه.(5/500)
قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن البصريين =: من أن معنى الضم في"الصاد" من قوله: (فصرهن إليك) والكسر، سواء بمعنى واحد - وأنهما لغتان، معناهما في هذا الموضع: فقطعهن - وأنّ معنى"إليك" تقديمها قبل"فصرهن"، من أجل أنها صلة قوله:"فخذ" = (1) . أولى بالصواب من قول الذين حكينا قولهم من نحويّي الكوفيين، الذي أنكروا أن يكون للتقطيع في ذلك وجه مفهوم إلا على معنى القلب الذي ذكرت - (2) . لإجماع أهل التأويل على أن معنى قوله: (فصرهن) غير خارج من أحد معنيين: إما"قطِّعهن"، وإما"اضْمُمْهن إليك"، بالكسر قرئ ذلك أو بالضم. ففي إجماع جميعهم على ذلك = على غير مراعاة منهم كسر الصاد وضمها، ولا تفريق منهم بين معنيي القراءتين، أعني الكسر والضم = أوضح الدليل على صحّة قول القائلين من نحويي أهل البصرة في ذلك ما حكينا عنهم من القول، وخطأ قول نحويي الكوفيين; لأنهم لو كانوا إنما تأولوا قوله: (فصرهن) بمعنى فقطعهن، على أنّ أصل الكلام"فاصرهن"، ثم قلبت فقيل:"فصِرْهن" بكسر"الصاد"، لتحول"ياء"،"فاصرهن" مكان رائه، وانتقال رائه مكان يائه، لكان لا شكّ -مع معرفتهم بلغتهم وعلمهم بمنطقهم- قد فصلوا بين معنى ذلك إذا قرئ بكسر صاده، وبينه إذا قرئ بضمها، إذ كان غير جائز لمن قلب"فاصِرهن" إلى"فصِرهن" أن يقرأه"فصُرْهن" بضم"الصاد"، وهم، مع اختلاف قراءتهم ذلك، قد تأولوه تأويلا واحدًا على أحد الوجهين اللذين ذكرنا. ففي ذلك أوضحُ الدليل على خطأ قول من قال: إن ذلك إذا قرئ بكسر"الصاد" بتأويل: التقطيع، مقلوب من:"صَرِي يَصْرَى" إلى"صار يصير" = وجهل من زعم أن قول القائل:"صار يصور"، و"صار يصير" غير معروف في كلام العرب بمعنى: قطع.
* * *
__________
(1) قوله"أولى بالصواب"، خبر قوله: "وهذا القول الذي ذكرناه ... أولى بالصواب ... ".
(2) سياق العبارة: " ... أولى بالصواب ... لإجماع جميع أهل التأويل ... ".(5/501)
ذكر من حضرنا قوله في تأويل قول الله تعالى ذكره: (فصرهن) أنه بمعنى: فقطّعهن.
5994 - حدثنا سليمان بن عبد الجبار، قال: حدثنا محمد بن الصلت، قال: حدثنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: (فصرهن) قال: هي نبطيَّة، فشقِّقْهن. (1) .
5995 - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي جَمْرة، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك) ، قال: إنما هو مثلٌ. قال: قطعهن، ثم اجعلهن في أرباع الدنيا، رُبعًا ههنا، ورُبعًا ههنا، ثم ادعهن يأتينك سعيًا. (2) .
5996 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (فصرهن) قال: قطعهن.
5997 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حصين، عن أبي مالك في قوله: (فصرهن إليك) يقول: قطعهن.
5998 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن حصين، عن أبي مالك، مثله.
5999 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن يمان، عن أشعث، عن
__________
(1) الأثر: 5994 -"سليمان بن عبد الجبار بن زريق الخياط". قال ابن أبي حاتم: سئل عنه أبي فقال: صدوق، وسمعت حجاج ابن الشاعر يبالغ في الثناء عليه ويذكره بالخير. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداء 9: 52. و"محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي" مضى برقم: 3002. و"أبو كدينة" هو: يحيى بن المهلب البجلى. مضى في رقم 4193 بغير ترجمة. قال ابن معين وأبو داود والنسائي: ثقة. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 5995 -"أبو جمرة" هو: نصر بن عمران بن عصام الضبعي. روى عن أبيه وابن عباس وابن عمر وغيرهم. وعنه شعبة وإبراهيم بن طهمان وابنه علقمة وغيرها. مترجم في التهذيب.
وقد مضى غير مترجم في رقم: 3250، وسقط في الطبع من اسمه راء"جمرة". وفي المطبوعة والمخطوطة"أبو حمزة"، وهو خطأ.(5/502)
جعفر، عن سعيد: (فصرهن) قال: قال جناح ذِه عند رأس ذِه، ورأس ذِه عند جناح ذِه.
6000 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، قال: زعم أبو عمرو، عن عكرمة في قوله: (فصرهن إليك) قال: قال عكرمة بالنبطيَّة: قطّعهن.
6001 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن يحيى، عن مجاهد: (فصرهن إليك) قال: قطعهن.
6002 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فصرهن إليك) انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا، (1) ثم اخلط لحومهن بريشهن.
6003 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (فصرهن إليك) قال: انتفهن بريشهن ولحومهن تمزيقًا. (2)
6004 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: (فصرهن إليك) أمر نبيُّ الله عليه السلام أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن.
6005 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (فصرهن إليك) قال: فمزقهن. قال: أمر أن يخلط الدماء بالدماء، والريش بالريش،"ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا".
6006 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا
__________
(1) هكذا جاء في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة، إلا أنها في المطبوعة: "انتفهن" منقوطة، وفي المخطوطة: "اسفهن" غير منقوطة. وأنا أرى أن أقرأها: "أشبعهن، ريشهن ولحومهن تمزيقا"، أو حرفًا يقارب هذا المعنى.
(2) هكذا جاء في الموضعين، في المخطوطة والمطبوعة، إلا أنها في المطبوعة: "انتفهن" منقوطة، وفي المخطوطة: "اسفهن" غير منقوطة. وأنا أرى أن أقرأها: "أشبعهن، ريشهن ولحومهن تمزيقا"، أو حرفًا يقارب هذا المعنى.(5/503)
عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك: (فصرهن إليك) يقول: فشقِّقهن، وهو بالنبطية"صرّى"، وهو التشقيق.
6007 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: (فصرهن إليك) يقول قطعهن.
6008 - حدثنا عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (فصرهن إليك) يقول: قطعهن إليك ومزقهن تمزيقًا.
6009 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق: (فصرهن إليك) أي قطعهن، وهو"الصَّوْر" في كلام العرب.
* * *
قال أبو جعفر: ففيما ذكرنا من أقوال من روينا في تأويل قوله: (فصرهن إليك) أنه بمعنى: فقطعهن إليك، دلالةٌ واضحة على صحة ما قلنا في ذلك، وفساد قول من خالفنا فيه.
وإذ كان ذلك كذلك، فسواءٌ قرأ القارئ ذلك بضم"الصاد":"فصُرْهن" إليك أو كسرها"فصِرْهن" إذ كانت لغتين معروفتين بمعنى واحد. (1) . غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن أحبّهما إليّ أن أقرأ به"فصُرْهن إليك" بضم"الصاد"، لأنها أعلى اللغتين وأشهرهما، وأكثرهما في إحياء العرب.
* * *
[وأما قول من تأوّل قوله: (فصرهن إليك) بمعنى: اضممهن إليك ووجّهن نحوك واجمعهن، فهو قولٌ قال به من أهل التأويل نفر قليل] . (2) .
__________
(1) في المطبوعة: "أن كانت اللغتان معروفتين"، لم يحسن قراءة المخطوطة، لسرعة الكاتب فيما كتب وإهماله.
(2) هذا الذي بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق التفسير، وهو رده على القول الأول الذي مضى في ص 469 س 3 إلى 7، ولم يعد ثانية إلى ذكره. وكان مكانه في المطبوعة: "وعند نفر قليل من أهل التأويل أنها بمعنى: أوثق". وهو تصرف من ناسخ قديم أو طابع. أما المخطوطة، فكان نصها هكذا متصلا بما قبله وما بعده. "وأكثرهما في أحياء العرب من أهل التأويل نفر قليل" ذكر من قال ذلك". والذي استظهرته أقرب إلى سياق التفسير إن شاء الله. وهذا دليل آخر على شدة إهمال الناسخ في كثير من المواضع لعجلته وقلة حذره.(5/504)
* ذكر من قال ذلك:
6010 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فصرهن إليك) "صرهن": أوثِقْهُنّ.
6011 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله: (فصرهن إليك) قال: اضممهن إليك.
6012 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (فصرهن إليك) قال: اجمعهن.
* * *
القول في تأويل قوله: {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) .
فقال بعضهم: يعني بذلك: على كل ربع من أرباع الدنيا جزءًا منهن.
* ذكر من قال ذلك:
6013 - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي جمرة، عن ابن عباس: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) قال: اجعلهن في أرباع الدنيا: ربعًا ههنا، وربعًا ههنا، وربعًا ههنا، وربعًا ههنا، (ثم ادعهن يأتينك سعيا) . (1) .
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "عن أبي حمزة"، وهو خطأ. انظر ما سلف من التعليق على الأثر: 5995.(5/505)
6014 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) قال: لما أوثقهن ذبحهن، ثم جعل على كل جبل منهن جزءًا.
6015 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: قال: أمر نبي الله أن يأخذ أربعة من الطير فيذبحهن، ثم يخلط بين لحومهن وريشهن ودمائهن، ثم يجزئهن على أربعة أجبُل، فذكر لنا أنه شكل على أجنحتهن، (1) وأمسك برؤوسهن بيده، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبَضعة إلى البَضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا على أرجلهن، ويلقي كل طير برأسه. (2) . وهذا مثل آتاه الله إبراهيم، يقول: كما بعث هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناسَ يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.
6016 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذبحهن، ثم قطعهن، ثم خلط بين لحومهن وريشهن، ثم قسّمهن على أربعة أجزاء، فجعل على كل جبل منهن جزءًا، فجعل العظم يذهب إلى العظم، والريشة إلى الريشة، والبَضعة إلى البَضعة، وذلك بعين خليل الله إبراهيم. ثم دعاهن فأتينه سعيًا، يقول: شدًّا على أرجلهن. وهذا مثل أراه الله إبراهيم، يقول: كما بعثتُ هذه الأطيار من هذه الأجبل الأربعة، كذلك يبعث الله الناس يوم القيامة من أرباع الأرض ونواحيها.
6017 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: أن أهل الكتاب يذكرون أنه أخذَ الأطيار الأربعة، ثم قطَّع
__________
(1) لم أفهم لقوله: "شكل على أجنحتهن" معنى، ولعل فيها تصحيفًا لم أتبينه، ولعل معناه أنه نثر ريش أجنحتهن. ولم أجد الخبر في مكان آخر.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: " ويلقي كل طير برأسه"، والصواب زيادة"إلى".(5/506)
كل طير بأربعة أجزاء، ثم عمد إلى أربعة أجبال، فجعل على كل جبل ربعًا من كل طائر، فكان على كل جبل ربع من الطاووس، وربع من الديك، وربع من الغراب وربع من الحمام. ثم دعاهن فقال:"تعالين بإذن الله كما كنتُن"، فوثب كل ربع منها إلى صاحبه حتى اجتمعن، فكان كل طائر كما كان قبل أن يقطعه. ثم أقبلن إليه سعيًا، كما قال الله. وقيل: يا إبراهيم هكذا يجمع الله العباد، ويحيي الموتى للبعث من مشارق الأرض ومغاربها، وشامِها ويَمنها! فأراه الله إحياء الموتى بقدرته، حتى عرف ذلك، يعني: ما قال نمروذ من الكذب والباطل. (1) .
6018 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) قال: فأخذ طاووسًا، وحمامة، وغرابًا، وديكًا، ثم قال: فرّقهن، اجعل رأس كل واحد وجؤشوش الآخر وجناحي الآخر ورجلي الآخر معه. (2) . فقطعهن وفرقهن أرباعًا على الجبال، ثم دعاهن فجئنه جميعًا، فقال الله: كما ناديتهن فجئنَك، فكما أحييت هؤلاء وجمعتهن بعدَ هذا، فكذلك أجمع هؤلاء أيضًا - يعني الموتى.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ثم اجعل على كل جبل من الأجبال التي كانت الأطيار والسباع التي كانت تأكل من لحم الدابة التي رآها إبراهيم ميتة، فسأل إبراهيم عند رؤيته إياها، أن يريه كيف يحييها وسائر الأموات غيرها. وقالوا: كانت سبعة أجبال.
* كر من قال ذلك:
6019 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: لما قال إبراهيم ما قال = عند رؤيته الدابة التي تفرقت الطيرُ
__________
(1) في المطبوعة: "بغير ما قال نمرود ... " وفي المخطوطة: " بعير ما قال" غير منقوطة، وصواب قراءته ما أثبت. وهذا تفسير للإشارة في قوله: "حتى عرف ذلك".
(2) الجؤشوش: الصدر. يقال: "مضى جؤشوش من الليل" أي: صدر منه، مجاز من ذلك.(5/507)
والسباع عنها حين دنا منها، وسأل ربّه ما سأل = قال: (فخذ أربعة من الطير) = قال ابن جريج: فذبحها = ثم اخلط بين دمائهن وريشهن ولحومهن، (1) . ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا حيث رأيت الطيرَ ذهبت والسباعَ. قال: فجعلهن سبعة أجزاء، وأمسك رؤوسهن عنده، ثم دعاهن بإذن الله، فنظر إلى كل قطرة من دم تطير إلى القطرة الأخرى، وكل ريشة تطير إلى الريشة الأخرى، وكل بَضْعة وكل عظم يطير بعضه إلى بعض من رؤوس الجبال، حتى لقيت كل جثة بعضها بعضًا في السماء، ثم أقبلن يسعَيْن، حتى وصلت رأسها.
6020 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: (فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك) ، ثم اجعل على سبعة أجبال، فاجعل على كل جبل منهن جزءًا، ثم ادعهن يأتينك سعيًا! فأخذ إبراهيم أربعة من الطير، فقطّعهن أعضاء، لم يجعل عضوًا من طير مع صاحبه. ثم جعل رأس هذا مع رجل هذا، وصدر هذا مع جناح هذا، وقسَّمهن على سبعة أجبال، ثم دعاهن فطار كل عضو إلى صاحبه، ثم أقبلن إليه جميعًا.
* * *
وقال آخرون: بل أمره الله أن يجعل ذلك على كل جبل.
* ذكر من قال ذلك:
6021 - حدثني محمد بن عمرو، قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) ، قال: ثم بدِّدهن على كل جبل يأتينك سعيًا، وكذلك يُحيي الله الموتى.
6022 - حدثني المثنى، قال، حدثنا أبو حذيفة، قال، حدثنا شبل عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ثم اجعلهن أجزاء على كل جبل، ثم ادعهن يأتينك سعيًا، كذلك يحيى الله الموتى. هو مثل ضربه الله لإبراهيم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "ثم خلط ... "، فعل ماض، والصواب ما أثبت.(5/508)
6023 - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج، قال مجاهد: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) ثم بددهن أجزاءً على كل جبل = ثم (ادعهن) ، تعالين بإذن الله. فكذلك يُحيي الله الموتى. مثل ضربه الله لإبراهيم صلى الله عليه وسلم.
6024 - حدثني المثنى، قال: حدثني إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أمره أن يُخالف بين قوائمهن ورؤوسهن وأجنحتهن، ثم يجعل على كل جبل منهن جزءًا.
6025 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) ، فخالف إبراهيم بين قوائمهن وأجنحتهن.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات بالآية ما قاله مجاهد، وهو أن الله تعالى ذكره أمرَ إبراهيم بتفريق أعضاء الأطيار الأربعة بعد تقطيعه إياهن، على جميع الأجبال التي كان يصل إبراهيم في وقت تكليف الله إياه تفريقَ ذلك وتبديدَها عليها أجزاء. لأن الله تعالى ذكره قال له: (ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا) و"الكل" حرف يدل على الإحاطة بما أضيف إليه، لفظه واحد ومعناه الجمع. (1) .
فإذا كان ذلك كذلك، فلن يجوز أن تكون الجبال التي أمر الله إبراهيمَ بتفريق أجزاء الأطيار الأربعة، عليها خارجةً من أحد معنيين: إما أن تكون بعضًا، أو جميعا. (2) .
فإن كانت"بعضًا" فغير جائز أن يكون ذلك البعض إلا ما كان لإبراهيم
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"كل" 3: 195.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "أو جمعا"، والصواب ما أثبت، وسيأتي على الصواب بعد قليل في المخطوطة.(5/509)
السبيلُ إلى تفريق أعضاء الأطيار الأربعة عليه.
= أو يكون"جميعا"، فيكون أيضًا كذلك. (1) .
وقد أخبر الله تعالى ذكره أنه أمره بأن يجعل ذلك على"كل جبل"، وذلك إما كل جبل وقد عرفهن إبراهيم بأعيانهن، (2) وإمَّا ما في الأرض من الجبال.
فأما قول من قال:"إن ذلك أربعة أجبل"، وقول من قال:"هن سبعة"، فلا دلالة عندنا على صحة شيء من ذلك فنستجيز القول به، وإنما أمر الله إبراهيم صلى الله عليه وسلم أن يجعل الأطيار الأربعة أجزاء متفرقة على كل جبل، ليري إبراهيم قدرته على جمع أجزائهن وهنَّ متفرقات متبدِّدات في أماكن مختلفة شتى، حتى يؤلف بعضهن إلى بعض، فيعدن = كهيئتهن قبل تقطيعهن وتمزيقهن وقبل تفريق أجزائهن على الجبال = أطيارًا أحياءً يطرن، فيطمئنّ قلب إبراهيم، ويعلم أنّ كذلك جَمْعُ الله أوصال الموتى لبعث القيامة، (3) . وتأليفه أجزاءهم بعد البلى وردّ كل عضو من أعضائهم إلى موضعه كالذي كان قبل الردَى. (4) .
* * *
قال أبو جعفر: و"الجزْء" من كل شيء هو البعض منه، كان منقسمًا جميعه عليه على صحة أو غير منقسم. فهو بذلك من معناه مخالف معنى"السهم". لأن"السهم" من الشيء، هو البعض المنقسم عليه جميعه على صحة. ولذلك كثر استعمال الناس في كلامهم عند ذكرهم أنصباءَهم من المواريث:"السهام" دون"الأجزاء". (5) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "من كل جبل وقد عرفهن ... " في المخطوطة: " ... قد عرفهن" بغير واو. وقد زدت"من أجبل" حتى تستقيم العبارة، مستظهرًا مما مضى.
(3) في المطبوعة: "أن كذلك يجمع الله ... " وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "قبل الرد"، والصواب من المخطوطة. والردى: الهلاك.
(5) هذه تفرقة جيدة قلما تصيبها في كتب اللغة، فقيدها.(5/510)
وأما قوله: (ثم ادعهن) فإن معناه ما ذكرت آنفًا عن مجاهد، أنه قال: هو امه أمر أن يقول لأجزاء الأطيار بعد تفريقهن على كل جبل:"تعالين بإذن الله".
* * *
فإن قال قائل: أمِر إبراهيم أن يدعوهنّ وهن ممزَّقات أجزاء على رؤوس الجبال أمواتًا، أم بعد ما أحيِين؟ فإن كان أمر أن يدعوهنّ وهن ممزقات لا أرواح فيهن، فما وجه أمر من لا حياة فيه بالإقبال؟ وإن كان أمر بدعائهن بعد ما أحيين، فما كانت حاجة إبراهيم إلى دعائهن، وقد أبصرهن يُنْشرن على رؤوس الجبال؟ قيل: إن أمر الله تعالى ذكره إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم بدعائهن وهن أجزاء متفرقات، إنما هو أمر تكوين = كقول الله للذين مسخهم قرَدة بعد ما كانوا إنسًا: (كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ) [البقرة: 65] = لا أمرَ عبادةٍ، فيكون محالا إلا بعد وجُود المأمور المتعبَّد.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (واعلم) يا إبراهيم، أن الذي أحيا هذه الأطيار بعد تمزيقك إياهن، وتفريقك أجزاءهن على الجبال، فجمعهن وردّ إليهن الروح، حتى أعادهن كهيئتهنّ قبل تفريقكَهُنّ = (عزيز) ، في بطشه إذا بطش بمن بطش من الجبابرة والمتكبرة، الذين خالفوا أمرَه، وعصوا رُسله، وعبدوا غيره، وفي نقمته حتى ينتقم منهم = (حكيم) في أمره.
* * *
6026 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثنا ابن إسحاق: (واعلم أن الله عزيز حكيم) ، قال: عزيز في بطشه، حكيم في أمره.(5/511)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
6027 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (واعلم أن الله عزيز) في نقمته = (حكيم) في أمره.
* * *
القول في تأويل قوله: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ}
قال أبو جعفر: وهذه الآية مردودة إلى قوله: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [البقرة: 245] والآياتُ التي بعدها إلى قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) ، من قصص بني إسرائيل وخبرهم مع طالوت وجالوت، وما بعد ذلك من نبإ الذي حاجّ إبراهيم مع إبراهيم، وأمْرِ الذي مرّ على القرية الخاوية على عروشها، وقصة إبراهيم ومسألته ربَّه ما سأل، مما قد ذكرناه قبل = (1) . اعتراض من الله تعالى ذكره بما اعترضَ به من قصصهم بين ذلك، احتجاجًا منه ببعضه على المشركين الذين كانوا يكذبون بالبعث وقيام الساعة = وحضًّا منه ببعضه للمؤمنين على الجهاد في سبيله الذي أمرهم به في قوله: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 244] ، يعرّفهم فيه أنه ناصرهم وإن قل عددهم وكثر عدَد عدوّهم، ويعدهم النصرة عليهم، ويعلّمهم سنته فيمن كان على منهاجهم من ابتغاء رضوان الله أنه مؤيدهم، وفيمن كان على سبيل أعدائهم من الكفار بأنه خاذلهم ومفرِّق جمعهم ومُوهِنُ كيدهم = وقطعًا منه ببعض عذرَ اليهود الذين كانوا بين ظهرَانَيْ مُهاجرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بما أطلع نبيَّه عليه من خفي أمورهم،
__________
(1) سياق الجملة: "والآيات التي بعدها ... اعتراض من الله تعالى ... " مبتدأ وخبره.(5/512)
ومكتوم أسرار أوائلهم وأسلافهم التي لم يعلمها سواهم، ليعلموا أن ما آتاهم به محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله، وأنه ليس بتخرُّص ولا اختلاق، = وإعذارًا منه به إلى أهل النفاق منهم، ليحذروا بشكِّهم في أمر محمد صلى الله عليه وسلم أن يُحلَّ بهم من بأسه وسطوته، مثل الذي أحلَّهما بأسلافهم الذين كانوا في القرية التي أهلكها، فتركها خاوية على عروشها.
ثم عاد تعالى ذكره إلى الخبر عن (الذي يقرض الله قرضًا حسنًا) وما عنده له من الثواب على قَرْضه، فقال: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله) يعني بذلك: مثل الذين ينفقون أموالهم على أنفسهم في جهاد أعداء الله بأنفسهم وأموالهم = (كمثل حبة) من حبات الحنطة أو الشعير، أو غير ذلك من نبات الأرض التي تُسَنْبل رَيْعَها سنبلة بذرها زارع (1) . ="فأنبتت"، يعني: فأخرجت = (سبع سنابلَ في كل سنبلة مائة حبة) ، يقول: فكذلك المنفق ماله على نفسه في سبيل الله، له أجره سبعمائة ضعف على الواحد من نفقته. كما: -
6028 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) فهذا لمن أنفق في سبيل الله، فله أجره سبعمائة. (2) .
6029 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء) ، قال: هذا الذي ينفق على نفسه في سبيل الله ويخرُج.
__________
(1) في المطبوعة: "تسنبل سنبلة بذرها زارع"، وضع"سنبلة" مكان"ريعها"، ظنها محرفة.
وريع البذر: فضل ما يخرج من البزر على أصله. وهو من"الريع" بمعنى النماء والزيادة. والمعنى: تسنبل أضعافها زيادة وكثرة.
(2) في المطبوعة: "فله سبع مائة" بحذف"أجره"، وفي
المخطوطة: "فله سبعمائة" بياض بين الكلمتين، وأتممت العبارة من الدر المنثور 1: 336، وفيه: "فله أجره سبعمائة مرة".(5/513)
6030 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) الآية، فكان من بايع النبي صلى الله عليه وسلم على الهجرة، ورابط مع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ولم يلق وجهًا إلا بإذنه، (1) . كانت الحسنة له بسبعمائة ضعف، ومن بايع على الإسلام كانت الحسنة له عشر أمثالها.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وهل رأيتَ سنبلة فيها مائة حبة أو بلغتْك فضرب بها مثل المنفقَ في سبيل الله ماله؟ (2) .
قيل: إن يكن ذلك موجودًا فهو ذاك، (3) . وإلا فجائز أن يكون معناه: كمثل سنبلة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، إنْ جَعل الله ذلك فيها.
ويحتمل أن يكون معناه: في كل سنبلة مائة حبة; يعني أنها إذا هي بذرت أنبتت مائة حبة = فيكون ما حدث عن البذر الذي كان منها من المائة الحبة، مضافًا إليها،
__________
(1) في المخطوطة: "لم يلف وجها"، والذي في المطبوعة لا بأس به، وإن كنت في شك منه.
وفي الدر المنثور 1: 336"لم يذهب وجها".
(2) في هامش المخطوطة تعليق على هذا السؤال، وهو أول تعليق أجده على هذه النسخة بخط غير حط كاتبها، وهو مغربي كما سيتبين مما كتب، وبعض الحروف متآكل عند طرف الهامش، فاجتهدت في قراءتها:
"أقول: بل ذلك ثابت محقّق مشاهدٌ في البلاد، وأكثر منه. فإن سنبل تلك البلاد يكثر حبّه وفروعه إلى ما يقارب الفتر. ولقد عدت من فروع حبة واحدة ثلاثة وستين فرعًا، وشاهدت من ذلك مرارًا. فقد أراني بعض أصحابي جملة من ذلك ... ، كان أقل ما عددناه للحبة ثلاثة عشر سنبلة إلى ما يبلغ أو يزيد على ما ذكرت أولًا من العدد. كتبه محمد بن محمود الجزائري الحنفي"
ثم انظر ما قاله القرطبي وغيره في سائر كتب التفسير.
(3) في المخطوطة: "قيل قيل أن يكون ذلك موجود فهو ذاك"، وهو خطأ ولا شك، وما في المطبوعة جيد في السياق.(5/514)
لأنه كان عنها. وقد تأوّل ذلك على هذا الوجه بعض أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6031 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة) ، قال: كل سنبلة أنبتت مائة حبة، فهذا لمن أنفق في سبيل الله =: (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله: (والله يضاعف لمن يشاء) . فقال بعضهم: الله يضاعف لمن يشاء من عباده أجرَ حسناته = بعد الذي أعطى غير منفق في سبيله، دون ما وعد المنفق في سبيله من تضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله، فلا ينقصة عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة. (1) .
* ذكر من قال ذلك:
6032 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هذا يضاعف لمن أنفق في سبيل الله -يعني السبعمائة-
__________
(1) كانت هذه الجملة كلها في المطبوعة: "والله يضاعف لمن يشاء من عباده أجر حسناته، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله فلا نفقة ما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة". وقد غيروا ما كان في المخطوطة لأنه فاسد بلا شك وهذا نصه: "والله يضاعف لمن يشاء أجر حسناته، بعد الذي أعطى المنفق في سبيله من التضعيف الواحدة سبعمائة. فأما المنفق في سبيله عما وعده من تضعيف السبعمائة بالواحدة". ولكنى استظهرت من سياق التفسير بعد، أن الصواب غير ما في المطبوعة، وأن في الكلام تصحيفًا وسقطًا، أتممته بما يوافق المعنى الذي قاله هؤلاء، كما يتبين من كلام أبي جعفر فيما بعد.(5/515)
(والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) ، يعني لغير المنفق في سبيله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: والله يضاعف لمن يشاء من المنفقين في سبيله على السبعمائة إلى ألفي ألف ضعف. وهذا قول ذكر عن ابن عباس من وجه لم أجد إسناده، فتركت ذكره.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل قوله: (والله يضاعف لمن يشاء) والله يضاعف على السبعمائة إلى ما يشاء من التضعيف، لمن يشاء من المنفقين في سبيله. لأنه لم يجر ذكر الثواب والتضعيف لغير المنفق في سبيل الله، فيجوز لنا توجيه ما وعد تعالى ذكره في هذه الآية من التضعيف، إلى أنه عِدَة منه على [العمل في غير سبيله، أو] على غير النفقة في سبيل الله. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (والله واسع) ، أن يزيد من يشاء من خلقه المنفقين في سبيله على أضعاف السبعمائة التي وعده أن يزيده = (2) . (عليم) من يستحق منهم الزيادة، كما: -
6033 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله: (والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم) قال: (واسع) أن يزيد من سعته = (عليم) ، عالم بمن يزيده.
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين، لأنه مما يقتضيه سياق الكلام والتركيب.
(2) انظر تفسير"واسع" و"عليم" فيما سلف 2: 537، وانظر فهارس اللغة أيضًا.(5/516)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)
وقال آخرون: معنى ذلك: (والله واسع) ، لتلك الأضعاف = (عليم) بما ينفق الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: المعطيَ ماله المجاهدين في سبيل الله معونةً لهم على جهاد أعداء الله. يقول تعالى ذكره: الذين يعينون المجاهدين في سبيل الله بالإنفاق عليهم وفي حَمُولاتهم، وغير ذلك من مؤنهم، (1) . ثم لم يتْبع نفقته التي أنفقها عليهم منًّا عليهم بإنفاق ذلك عليهم، ولا أذى لهم. فامتنانه به عليهم، بأن يظهر لهم أنه قد اصطنع إليهم -بفعله وعطائه الذي أعطاهموه تقوية لهم على جهاد عدوهم- معروفا، ويبدي ذلك إما بلسان أو فعل. وأما"الأذى" فهو شكايته إياهم بسبب ما أعطاهم وقوّاهم من النفقة في سبيل الله، أنهم لم يقوموا بالواجب عليهم في الجهاد، وما أشبه ذلك من القول الذي يؤذي به من أنفَق عليه.
وإنما شَرَط ذلك في المنفق في سبيل الله، وأوجبَ الأجر لمن كان غير مانٍّ ولا مؤذٍ مَن أنفق عليه في سبيل الله، لأن النفقة التي هي في سبيل الله: ما ابتغي به وجه الله وطلب به ما عنده. (2) . فإذا كان معنى النفقة في سبيل الله هو ما وصفنا، فلا وجه لمنّ المنفق على من أنفق عليه، لأنه لا يدَ له قِبَله ولا صَنيعة يستحق بها
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "الذين يعينون المجاهدين" بالجمع/ وسياق الجمل بعده بالإفراد، وهو غير جائز.
(2) في المطبوعة: "مما ابتغى به"، والصواب ما في المخطوطة.(5/517)
عليه -إن لم يكافئه- عليها المنَّ والأذى، إذ كانت نفقته ما أنفق عليه احتسابًا وابتغاءَ ثواب الله وطلبَ مرضاته، وعلى الله مثوبته، دون من أنفق ذلك عليه.
* * *
وبنحو المعنى الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6034 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى لهم أجرهم عند ربهم) ، (1) . علم الله أن أناسًا يمنون بعطيَّتهم، فكره ذلك وقدَّم فيه فقال: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) . (2) .
6035 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: قال للآخرين = يعني: قال الله للآخرين، وهم الذين لا يخرجون في جهاد عدوهم =: (الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى) ، قال: فشرَط عليهم. قال: والخارجُ لم يشرُط عليه قليلا ولا كثيرًا - يعني بالخارج، الخارجَ في الجهاد الذي ذكر الله في قوله: (مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة) الآية = قال ابن زيد: وكان أبي يقول: إن آذاك من يعطي من هذا شيئًا أو يقوِّي فقويت في سبيل الله، (3) . فظننتَ أنه يثقل عليه سلامُك، فكفَّ سلامَك عنه. قال ابن زيد: فنهى عن خير الإسلام. (4) . قال: وقالت امرأة لأبي: يا أبا أسامة، تدلُّني على رجل يخرج في سبيل الله حقًّا، فإنهم لا يخرجون إلا
__________
(1) أتم الآية في المطبوعة، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "قول معروف ومعرفة"، وهو دال على كثرة سهو الناسخ في هذا الموضع من المخطوطة كما أسلفت مرارًا.
(3) في المطبوعة: "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى فقويت في سبيل الله" وهو غير مفهوم، وهو تصرف فيما كان في المخطوطة، ونصه: "إن أذن لك أن تعطي من هذا شيئًا أو تقوى في سبيل الله". واستظهرت صواب قراءتها كما أثبته، وقد أشرت مرارًا لكثرة سهو الناسخ في هذا من كتابته. والذي أثبته أشبه بما دل عليه سائر قوله.
(4) في المطبوعة: "فهو خير من السلام"، ولا معنى له وفي المخطوطة"فنهي خير من الإسلام" وهو أيضًا بلا معنى، وأظن الصواب ما أثبت. وذلك أن زيد بن أسلم قال: "فكف عنه سلامك" فنهاه عن أن يلقي عليه السلام. فعلق ابنه ابن زيد على قول أبيه أنه: "نهى عن خير الإسلام"، إشارة إلى ما رواه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، عن عبد الله بن عمرو بن العاص: "أن رجلًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الإسلام خير؟ قال: تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف" فالسلام خير الإسلام، وهو ما نهى عنه ابن زيد من أوذي.(5/518)
ليأكلوا الفواكه!! عندي جعبة وأسهُمٌ فيها. (1) . فقال لها: لا بارك الله لك في جعبتك، ولا في أسهمك، فقد آذيتيهم قبل أن تعطيهم! قال: وكان رجل يقول لهم: اخرجوا وكلوا الفواكه!
6036 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله: (لا يتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذى) قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خيرٌ من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى.
* * *
وأما قوله: (لهم أجرهم عند ربهم) ، فإنه يعني للذين ينفقون أموالهم في سبيل الله على ما بيَّنَ. و"الهاء والميم" في"لهم" عائدة على"الذين".
* * *
ومعنى قوله: (لهم أجرهم عند ربهم) ، لهم ثوابهم وجزاؤهم على نفقتهم التي أنفقوها في سبيل الله، ثم لم يتبعوها منًّا ولا أذى. (2) .
* * *
وقوله: (ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون) ، (3) . يقول: وهم = مع ما لهم من الجزاء والثواب على نفقتهم التي أنفقوها على ما شرطنا = (لا خوف عليهم) عند مقدمهم على الله وفراقهم الدنيا، ولا في أهوال القيامة، وأن ينالهم من مكارهها أو يصيبهم فيها من عقاب الله = (ولا هم يحزنون) على ما خلفوا وراءهم في الدنيا. (4) .
* * *
__________
(1) أخشى أن يكون الناسخ سها كما سها فيما سلف، وأن يكون صوابها"وفيها أسهم"، والذي هنا مقبول.
(2) انظر معنى"أجر" فيما سلف 2: 148، 513.
(3) انظر تفسير: "ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون" فيما سلف 2: 148، 513.
(4) عند هذا الموضع انتهى المجلد الرابع من مخطوطتنا، وفي آخره ما نصه:
"آخر المجلد الرابع من كتاب البيان يتلوه في الخامس إن شاء الله تعالى، القول في تأويل قوله: "قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى والله غني حليم"
وكان الفراغ منه في شهر ذي الحجة سنة أربع عشرة وسبعمائة والحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا"
ثم يبدأ الجزء الخامس، وفي طرته.
" الجزء الخامس من جامع البيان في تأويل القرآن تأليف الشيخ الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري"
ثم يلي ذلك نص وقف لله تعالى، استغنينا عن إثباته هنا. ثم يفتح الجزء:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعنْ".(5/519)
قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)
القول في تأويل قوله: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (قول معروف) ، قولٌ جميل، ودعاءُ الرجل لأخيه المسلم (1) .. = (ومغفرة) ، يعني: وسترٌ منه عليه لما علم من خَلَّته وسوء حالته (2) . = (خير) عند الله = (من صدقة) يتصدقها عليه = (يتبعها أذى) ، يعني يشتكيه عليها، ويؤذيه بسببها، كما: -
6037 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
__________
(1) انظر تفسير"المعروف" فيما سلف 3: 371، 372 / ثم 4: 547، 548 / 5: 7، 44، 76، 93، 173.
(2) انظر تفسير"المغفرة" 2: 109، 110، وفهارس اللغة.(5/520)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
جويبر، عن الضحاك: (قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى) يقول: أن يمسك ماله خير من أن ينفق ماله ثم يتبعه منًّا وأذى.
* * *
وأما قوله: (غنيّ حليم) فإنه يعني:"والله غني" عما يتصدقون به = (حليم) ، حين لا يعجل بالعقوبة على من يَمنُّ بصدقته منكم، ويؤذي فيها من يتصدق بها عليه. (1) .
وروي عن ابن عباس في ذلك، ما: -
6038 - حدثنا به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (الغني) ، الذي كمل في غناه، و (الحليم) ، الذي قد كمل في حلمه.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (يا أيها الذين آمنوا) ، صدّقوا الله ورسوله = (لا تبطلوا صدقاتكم) ، يقول: لا تبطلوا أجورَ صدَقاتكم بالمنّ والأذى، كما أبطل كفر الذي ينفق ماله = (رئاء الناس) ، وهو مراءاته إياهم بعمله، وذلك أن ينفق ماله فيما يرى الناسُ في الظاهر أنه يريد الله تعالى ذكره فيحمدونه عليه، وهو غيرُ مريدٍ به الله ولا طالب منه الثواب، (2) . وإنما ينفقه كذلك ظاهرًا
__________
(1) انظر تفسير"حليم" فيما سلف 5: 117.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "وهو مريد به غير الله"، وهو سهو من الناسخ، والسياق يقتضي أن تقدم"غير"، وهو نص المعنى.(5/521)
ليحمده الناس عليه فيقولوا: هو سخيّ كريم، وهو رجل صالحٌ" فيحسنوا عليه به الثناء، وهم لا يعلمون ما هو مستبطن من النية في إنفاقه ما أنفق، فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر.
* * *
وأما قوله: (ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) ، فإن معناه: ولا يصدق بوحدانية الله ورُبوبيته، ولا بأنه مبعوث بعد مماته فمجازًى على عمله، فيجعل عمله لوجه الله وطلب ثوابه وما عنده في معاده. وهذه صفة المنافق; وإنما قلنا إنه منافق، لأن المظهرَ كفرَه والمعلنَ شركه، معلوم أنه لا يكون بشيء من أعماله مرائيًا. لأن المرائي هو الذي يرائي الناس بالعمل الذي هو في الظاهر لله، وفي الباطن مريبة سريرةُ عامله، مرادٌه به حمد الناس عليه. (1) . والكافر لا يُخِيلُ على أحدٍ أمرُه أن أفعاله كلها إنما هي للشيطان (2) - إذا كان معلنًا كفرَه - لا لله. ومن كان كذلك، فغير كائن مرائيًا بأعماله.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6039 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال أبو هانئ الخولاني، عن عمرو بن حريث، قال: إن الرجل يغزو، لا يسرق ولا يزني ولا يَغُلّ، لا يرجع بالكفاف! فقيل له: لم ذاك؟ قال: إن الرجل ليخرج، (3) . فإذا أصابه من
__________
(1) في المطبوعة: "وفي الباطن عامله مراده به حمد الناس عليه"، وهو تصرف من الطابع، وفي المخطوطة: "وفي الباطن مربيه عامله مراد به حمد الناس عليه"، وهي غير مفهومة المعنى، وبين أنه قد سقط منها"سريرة" من قوله"مربية سريرة عامله"، وهو إشارة إلى ما مر في تفسيره قبل من قوله: "فلا يدرون ما هو عليه من التكذيب بالله تعالى ذكره واليوم الآخر". فاستظهرت أن الصواب زيادة"سريرة"، لتتفق مع معاني ما قال أبو جعفر رحمه الله.
(2) أخال عليه الأمر يخيل: أشكل عليه واستبهم. وسياق الجملة بعد ذلك: "إنما هي للشيطان لا لله".
(3) في المطبوعة: "قال: فإن الرجل"، وفي المخطوطة: "فإن إن الرجل" تصحيف والصواب ما أثبت.(5/522)
بلاءِ الله الذي قد حكم عليه، سبَّ ولعَن إمامَه ولعَن ساعة غزا، وقال: لا أعود لغزوة معه أبدًا! فهذا عليه، وليس له = مثلُ النفقة في سبيل الله يتبعها منٌّ وأذى. فقد ضرب الله مثلها في القرآن: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صَدقاتكم بالمنّ والأذى) ، حتى ختم الآية. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمثل هذا الذي ينفق ماله رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر = و"الهاء" في قوله: (فمثله) عائدة على"الذي" = (كمثل صفوان) ، و"الصفوان" واحدٌ وجمعٌ، فمن جعله جمعًا فالواحدة"صفوانة"، (2) . بمنزلة"تمرة وتمر" و"نخلة ونخل". ومن جعله واحدًا، جمعه"صِفْوان، وصُفِيّ، وصِفِيّ"، (3) . كما قال الشاعر: (4) .
* مَوَاقعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ * (5)
__________
(1) الأثر: 6039 -"أبو هانئ الخولاني": هو: حميد بن هانئ المصري من ثفات التابعين، روى عن عمرو بن حريث وغيره. وروى عنه الليث وابن لهيعة وابن وهب وغيرهم من أهل مصر مات سنة 142. و"عمرو بن حريث"، هو الذي يروي عنه أهل الشام، وهو غير"عمرو بن حريث بن عمرو بن عثمان المخزومي الكوفي. وانظر ترجمته في التهذيب 8: 18.
(2) في المطبوعة: "واحد وجمع، فمن جعله جمعا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر ما سلف في تفسير"الصفا" 3: 224، 225، وقوله: جمعه صفوان" يعنى: بكسر الصاد وسكون الفاء، وهو قول الكسائي، وقد تعقبوه وخطئوه في شاذ مذهبه. انظر القرطبي 3: 313، وتفسير أبي حيان 2: 302، ومن أجل ذلك أسقطه أصحاب اللغة من كتبهم.
(4) هو الأخيل الطائي.
(5) سلف شرح هذا البيت وتخريجه 3: 224، وسقط ذكر هذا الموضع في التخريج السالف فأثبته هناك.(5/523)
و"الصفوان" هو"الصفا"، وهي الحجارة الملس.
* * *
وقوله: (عليه تراب) ، يعني: على الصفوان ترابٌ = (فأصابه) يعني: أصاب الصفوان = (وابل) ، وهو المطر الشديد العظيم، كما قال أمرؤ القيس:
سَاعَةً ثُمَّ انْتَحَاهَا وَابِلٌ ... سَاقِطُ الأكْنَافِ وَاهٍ مُنْهَمِرُ (1)
يقال منه:"وَبلت السماء فهي تَبِل وَبْلا"، وقد:"وُبلت الأرض فهي تُوبَل".
* * *
وقوله: (فتركه صلدًا) يقول: فترك الوابلُ الصفوانَ صَلدًا.
و"الصلد" من الحجارة: الصلب الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره، وهو من الأرَضين ما لا ينبت فيه شيء، وكذلك من الرؤوس، (2) . كما قال رؤبة:
لَمَّا رَأَتْنِي خَلَقَ المُمَوَّهِ ... بَرَّاقَ أَصْلادِ الجَبِينِ الأجْلَهِ (3)
__________
(1) ديوانه: 90، وطبقات فحول الشعراء: 79، وغيرهما كثير. وهو من أبيات روائع، في صفة المطر والسيل أولها: دِيَمةٌ هَطْلاَءُ فِيهَا وَطَفٌ ... طَبَقَ الأَرْضِ تَحَرَّي، وَتَدِرّْ
ثم قال بعد قليل: "ساعة" أي فعلت ذلك ساعة، "ثم انتحاها" أي قصدها، والضمير فيه إلى"الشجراء" في بيت سباق. و"ساقط الأكناف"، قد دنا من الأرض دنوًّا شديدًا، كأن نواحيه تتهدم على الشجراء. "منهمر": متتابع متدفق. واقرأ تمام ذلك في شرح الطبقات.
(2) هذا البيان عن معاني"صلد"، لا تصيبه في كثير من كتب اللغة.
(3) ديوانه: 165 من قصيدة مضى الاستشهاد بأبيات منها في 1: 123، 309، 310 /2: 222، والضمير في"رأتني" إلى صحابته التي ذكرها في أول الشعر و"خلق": بال. و"المموه" يقال:: وجه مموه" أي مزين بماء الشباب، ترقرق شبابه وحسنه. وقوله"خلق المموه"، بحذف"الوجه" الموصوف بذلك. يقول: قد بلي شبابي وأخلق. "أصلاد الجبين"، يعني أن جبينه قد زال شعره، فهو يبرق كأنه صفاة ملساء لا نبات عليها. و"الأجله". الأنزع الذي انحسر شعره عن جانبي جبهته ومقدم جبينه، وذلك كله بعد أن كان كما وصف نفسه: * بَعْدَ غُدَانِيِّ الشَّبَابِ الأَبْلَهِ *
فاستنكرته صاحبته، بعد ما كان بينه وبينها في شبابه ما كان، وليت شعري ماذا كان يبغي رؤبة منها، وقد صار إلى المصير الذي وصف نفسه! ! .(5/524)
ومن ذلك يقال للقدر الثخينة البطيئة الغلي:"قِدْرٌ صَلود"،"وقد صَلدت تصْلُدُ صُلودًا، ومنه قول تأبط شرًّا:
وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رَعْدٍ وَقِرَّةٍ ... وَلا بِصَفًا صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ أعْزَلِ (1)
* * *
ثم رجع تعالى ذكره إلى ذكر المنافقين الذين ضرب المثلَ لأعمالهم، فقال: فكذلك أعمالهم بمنزلة الصَّفوان الذي كان عليه تراب، (2) . فأصابه الوابلُ من المطر، فذهب بما عليه من التراب، فتركه نقيًّا لا تراب عليه ولا شيء = يراهُم المسلمون في الظاهر أنّ لهم أعمالا - كما يُرى التراب على هذا الصفوان - بما يراؤونهم به، فإذا كان يوم القيامة وصاروا إلى الله، اضمحلّ ذلك كله، لأنه لم يكن لله،
__________
(1) اللسان (جلب) (عزل) ، وغيرهما. ولم أجد القصيدة، ولكني وجدت منها أبياتًا متفرقة ورواية اللسان والمطبوعة وغيرهما: وَلَسْتُ بِجِلْبٍ جِلْبِ رِيحٍ وَقِرَّةٍ ... وَلاَ بِصَفًا صَلْدٍ عَنِ الخَيْرِ مَعْزِلِ
ولكنه في المطبوعة واللسان أيضًا"جلب ليل"، والظاهر أن المطبوعة نقلت البيت من اللسان (جلب) دون إشارة إلى ما كان في المخطوطة، ولكنى أثبت رواية المخطوطة، فإنها لا تغير وهي سليمة المعاني.
الجلب (بكسر الجيم أو ضمها وسكون اللام) : هو السحاب المعترض تراه كأنه جبل، ويقال أيضًا: هو السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه. ورواية الطبري في المخطوطة تقتضي المعنى الأول: والقرة (بكسر القاف) والقر (بضمها) : البرد الشديد، يقول: لست امرءًا خاليا من الخير، بل مطيفًا بالأذى، كهذا السحاب المخيل المتراكم، مخيف برعده، ويلذغ ببرده، ولا غيث معه. أما رواية اللسان وغيره، فشرحها على معنى السحاب الرقيق جيد. وقوله: "أعزل" من"عزل الشيء يعزله" إذا نحاه جانبًا وأبعده، كما سموا الزمل المنقطع المنفرد المنعزل"أعزل"، فهو من صميم مادة اللغة، وإن لم يأتوا عليه في كتب اللغة بشاهد. وهذا شاهده بلا شك. أما قوله في الرواية الأخرى"معزل" فهو بمعنى ذلك أيضًا: معتزل عن الخير، أو معزول عنه. وهو مصدر ميمي من ذلك، جاء صفة، كما قالوا: "رجل عدل"، وكما قالوا"فلان شاهد مقنع" أي رضا يقنع به، مصدر ميمي من"قنع"، وهذا بيان لا تجده في كتب اللغة فقيده واحفظه.
(2) في المخطوطة: "عليه ثواب"، وهو تصحيف غث، ولكنه دليل على شدة إهمال الناسخ وعجلته.(5/525)
كما ذهب الوابل من المطر بما كانَ على الصفوان من التراب، فتركه أملسَ لا شيء عليه
= فذلك قوله: (لا يقدرون) ، يعني به: الذين ينفقون أموالهم رئاء الناس، ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، يقول: لا يقدرون يوم القيامة على ثواب شيء مما كسبوا في الدنيا، لأنهم لم يعملوا لمعادهم، ولا لطلب ما عند الله في الآخرة، ولكنهم عملوه رئاء الناس وطلبَ حمدهم. وإنما حظهم من أعمالهم، ما أرادوه وطلبوه بها.
* * *
ثم أخبر تعالى ذكره أنه (لا يهدي القوم الكافرين) ، يقول: لا يسدّدهم لإصابة الحق في نفقاتهم وغيرها، فيوفقهم لها، وهم للباطل عليها مؤثرون، ولكنه يتركهم في ضلالتهم يعمهون (1) .
فقال تعالى ذكره للمؤمنين: لا تكونوا كالمنافقين الذين هذا المثل صفةُ أعمالهم، فتبطلوا أجور صدقاتكم بمنِّكم على من تصدقتم بها عليه وأذاكم لهم، كما أبطل أجر نفقة المنافق الذي أنفق ماله رئاء الناس، وهو غير مؤمن بالله واليوم الآخر، عند الله. (2) .
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6040 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) فقرأ حتى بلغ: (على شيء مما كسبوا) ، فهذا مثل ضربه الله لأعمال الكفار يوم القيامة يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفاةَ الحجرَ ليس
__________
(1) في المخطوطة: "ولكنه تركهم"، والصواب ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "واليوم عند الله" سقط منه "الآخر"، وهو دليل على ما أسلفت من عجلته.(5/526)
عليه شيء، أنقى ما كان عليه. (1) .
6041 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن) إلى قوله: (والله لا يهدي القوم الكافرين) ، هذا مثل ضربه الله لأعمال الكافرين يوم القيامة، يقول: لا يقدرون على شيء مما كسبوا يومئذ، كما ترك هذا المطر الصفا نقيًّا لا شيء عليه.
6042 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) إلى قوله: (على شيء مما كسبوا) أما الصفوان الذي عليه تراب، فأصابه المطر فذهب ترابه فتركه صلدًا. فكذلك هذا الذي ينفق ماله رياء الناس، (2) . ذهب الرياءُ بنفقته، كما ذهب هذا المطر بتراب هذا الصفا فتركه نقيًّا، فكذلك تركه الرياء لا يقدر على شيء مما قدم. فقال للمؤمنين: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى) فتبطل كما بطلت صَدقة الرياء.
6043 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: أن لا ينفق الرجل ماله، خير من أن ينفقه ثم يتبعه منًّا وأذى. فضرب الله مثله كمثل كافر أنفق ماله لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فضرب الله مثلهما جميعًا: (كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا) فكذلك من أنفق ماله ثم أتبعه منًّا وأذى.
6044 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثنى أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) إلى (كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا) ليس عليه شيء، وكذلك المنافق يوم القيامة لا يقدر على شيء مما كسب.
6045 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال:
__________
(1) في المطبوعة: "أنقى ما كان"، حذف"عليه"، كأنه استنكرها، وهي معرقة في الصواب.
أي: أنقى ما كان عليه من النقاء.
(2) في المطبوعة: "فكذا هذا الذي ينفق"، لا أدرى لم غير ما في المخطوطة.(5/527)
قال ابن جريج في قوله: (لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) قال: يمنّ بصدقته ويؤذيه فيها حتى يبطلها.
6046 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله: (ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى) ، فقرأ: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) حتى بلغ: (لا يقدرون على شيء مما كسبوا) ثم قال: أترى الوابل يدع من التراب على الصفوان شيئًا؟ فكذلك منُّك وأذاك لم يدع مما أنفقت شيئًا. وقرأ قوله: (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى) ، وقرأ: (وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ) ، فقرأ حتى بلغ: (وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) . [البقرة: 270-272] . (1) .
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {صَفْوَانٍ}
قد بينا معنى"الصفوان" بما فيه الكفاية، (2) . غير أنا أردنا ذكر من قال مثل قولنا في ذلك من أهل التأويل.
6047 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله: (كمثل صفوان) كمثل الصفاة.
6048 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (كمثل صفوان) والصفوان: الصفا.
6049 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
__________
(1) ما في المخطوطة والمطبوعة: "وما أنفقتم من خير فلأنفسكم"، وهو خطأ ظاهر، والصواب أنه يعني آيات سورة البقرة التي بينتها كما أثبتها.
(2) انظر ما سلف قريبًا ص: 523، 524 والمراجع في التعليق عليه.(5/528)
6050 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما (صفوان) ، فهو الحجر الذي يسمى"الصَّفاة".
6051 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
6052 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله: (صفوان) يعني الحجر.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {فَأَصَابَهُ وَابِلٌ}
قد مضى البيان عنه. (1) . وهذا ذكر من قال قولنا فيه:
6053 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما وابل: فمطر شديد.
6054 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (فأصابه وابل) والوابل: المطر الشديد.
6055 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله.
6056 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {فَتَرَكَهُ صَلْدًا}
* ذكر من قال نحو ما قلنا في ذلك:
6057 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) انظر ما سلف قريبا ص: 524.(5/529)
السدي: (فتركه صلدًا) يقول نقيًّا.
6058 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (فتركه صلدًا) قال: تركها نقية ليس عليها شيء.
6059- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس قوله: (فتركه صلدًا) قال: ليس عليه شيء.
6060 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق، قال حدثنا، أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (صلدًا) فتركه جردًا.
6061 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال: خبرنا معمر، عن قتادة: (، فتركه صلدًا) ليس عليه شيء.
6062 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: (فتركه صلدًا) ليس عليه شيء.
* * *(5/530)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: (ومثل الذين ينفقون أموالهم) فيصَّدَّقون بها، ويحملون عليها في سبيل الله، ويقوُّون بها أهل الحاجة من الغزاة والمجاهدين في سبيل الله، وفي غير ذلك من طاعات الله، طلب مرضاته = (1) .
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "طلب مرضاته، وتثبيتًا يعنى بذلك وتثبيتًا من أنفسهم يعنى لهم وهو كلام مختل، والظاهر أن الناسخ لجلج في كتابته فأعاد وكرر، فحذفت"وتثبيتًا يعني بذلك" وأضفت"بذلك وتثبيتا" بعد"يعنى الثانية التي بقيت.(5/530)
= (وتثبيتًا من أنفسهم) يعني بذلك: وتثبيتًا لهم على إنفاق ذلك في طاعة الله وتحقيقًا، من قول القائل:"ثَبَّتُّ فلانًا في هذا الأمر" - إذ صححت عزمَه، وحققته، وقويت فيه رأيه -"أثبته تثبيتًا"، كما قال ابن رواحة:
فَثَبَّتَ اللهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ تَثْبِيتَ مُوسَى، وَنَصْرًا كَالَّذِي نُصِرُوا (1)
* * *
وإنما عنى الله جل وعز بذلك: أن أنفسهم كانت موقنة مصدقة بوعد الله إياها فيما أنفقت في طاعته بغير منّ ولا أذى، فثبتَتْهم في إنفاق أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وصححت عزمهم وآراءهم، (2) . يقينًا منها بذلك، (3) . وتصديقًا بوعد الله إياها ما وعدها. ولذلك قال من قال من أهل التأويل في قوله: (وتثبيتًا) ، وتصديقًا = ومن قال منهم: ويقينًا = لأن تثبيت أنفس المنفقين أموالَهم ابتغاء مرضاة الله إياهم، (4) . إنما كان عن يقين منها وتصديق بوعد الله.
* ذكر من قال ذلك من أهل التأويل:
6063 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: تصديقًا ويقينًا.
__________
(1) سيرة ابن هشام 4: 16، وابن سعد 3/ 2 /81، والمختلف والمؤتلف للآمدي: 126 والاستيعاب 1: 305، وطبقات فحول الشعراء: 188، من أبيات يثني فيها على رسول رب العالمين. وروى الآمدي وابن هشام السطر الثاني"في المرسلين ونصرًا كالذي نصروا". ولما سمع رسول الله عليه وسلم هذا البيت، أقبل عليه بوجهه مبتسمًا وقال: "وإياك فثبت الله".
(2) في المخطوطة: "فيثبتهم في إنفاق أموالهم ... "، وهو سهو من الناسخ، أو خطأ في قراءة النسخة التي نقل عنها. وفي المطبوعة: "فثبتهم ... وصحح عزمهم"، فغير ما في المخطوطة، وجعل"صححت"، "صحح"، لم يفهم ما أراد الطبري. وانظر التعليق التالي.
(3) في المطبوعة: "وأراهم"، ومثلها في المخطوطة، والصواب"وآراءهم" كما أثبتها. يعنى أن نفوسهم صححت عزمهم وآراءهم في إنفاق أموالهم. وهذا ما يدل عليه تفسير الطبري. لقولهم"ثبت فلانا في الأمر"، كما سلف منذ قليل.
(4) "إياهم" مفعول المصدر"تثبيت"، أي أن أنفسهم ثبتتهم في الإنفاق.(5/531)
6064 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن أبي موسى، عن الشعبي: (وتثبيتًا من أنفسهم) قال: وتصديقًا من أنفسهم ثبات ونُصرة.
6065 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: يقينًا من أنفسهم. قال: التثبيت اليقين.
6066 - حدثني يونس قال، حدثنا علي بن معبد، عن أبي معاوية، عن إسماعيل، عن أبي صالح في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) يقول: يقينًا من عند أنفسهم.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) أنهم كانوا يتثبتون في الموضع الذي يضعون فيه صدقاتهم.
* ذكر من قال ذلك:
6067 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم) قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.
6068 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، فقلت له: ما ذلك التثبيت؟ قال: يتثبتون أين يضعون أموالهم.
6069 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: كانوا يتثبتون أين يضعونها.
6070 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن علي بن علي بن رفاعة، عن الحسن في قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم -يعني زكاتهم.(5/532)
6071 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن علي بن علي، قال: سمعت الحسن قرأ: (ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من أنفسهم) ، قال: كان الرجل إذا همّ بصدقة تثبّت، فإن كان لله مضى، وإن خالطه شك أمسك.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي ذكرناه عن مجاهد والحسن، تأويل بعيد المعنى مما يدل عليه ظاهر التلاوة، وذلك أنهم تأولوا قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، بمعنى:"وتثبُّتًا"، فزعموا أنّ ذلك إنما قيل كذلك، لأن القوم كانوا يتثبتون أين يضعون أموالهم. ولو كان التأويل كذلك، لكان:"وتثبتًا من أنفسهم"; لأن المصدر من الكلام إن كان على"تفعَّلت""التفعُّل"، (1) . فيقال:"تكرمت تكرمًا"، و"تكلمت تكلمًا"، وكما قال جل ثناؤه: (أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) [النحل: 47] ، من قول القائل:"تخوّف فلان هذا الأمر تخوفًا". فكذلك قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، لو كان من"تثبَّت القومُ في وضع صدقاتهم مواضعها"، لكان الكلام:"وتثبُّتًا من أنفسهم"، لا"وتثبيتًا". ولكن معنى ذلك ما قلنا: من أنه: وتثبيتٌ من أنفس القوم إياهم، بصحة العزم واليقين بوعد الله تعالى ذكره.
* * *
فإن قال قائل: وما تنكر أن يكون ذلك نظيرَ قول الله عز وجل: (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلا) [المزمل: 8] ، ولم يقل:"تبتُّلا".
قيل: إن هذا مخالف لذلك. وذلك أن هذا إنما جاز أن يقال فيه:"تبتيلا" لظهور"وتبتَّل إليه"، فكان في ظهوره دلالةٌ على متروك من الكلام الذي منه
__________
(1) في المطبوعة: "إن كان على تفعلت"، وأثبت ما في المخطوطة، وعبارة الطبري عربية محكمة، بمعنى: لأن المصدر من الكلام الذي كان ... ".(5/533)
قيل:"تبتيلا". وذلك أن المتروك هو:"تبتل فيبتلك الله إليه تبتيلا". وقد تفعل العرب مثلَ ذلك أحيانا: تخرج المصادر على غير ألفاظ الأفعال التي تقدمتها، إذا كانت الأفعال المتقدمة تدل على ما أخرجت منه، كما قال جل وعز: (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الأرْضِ نَبَاتًا) [نوح: 17] ، وقال: (وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا) [آل عمران: 37] ، و"النبات": مصدر"نبت". وإنما جاز ذلك لمجيء"أنبت" قبله، فدل على المتروك الذي منه قيل"نباتًا"، والمعنى:"والله أنبتكم فنبتم من الأرض نباتًا". وليس [في] قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) كلامًا يجوز أن يكون متوهَّمًا به أنه معدول عن بنائه، (1) . ومعنى الكلام:"ويتثبتون في وضع الصدقات مواضعها"، فيصرف إلى المعاني التي صرف إليها قوله: (وتبتَّل إليه تبتيلا) ، وما أشبه ذلك من المصادر المعدولة عن الأفعال التي هي ظاهرة قبلها.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله: (وتثبيتًا من أنفسهم) ، احتسابًا من أنفسهم.
* ذكر من قال ذلك:
6073 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (وتثبيتًا من أنفسهم) يقول: احتسابًا من أنفسهم. (2) .
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول أيضًا بعيد المعنى من معنى"التثبيت"، لأن التثبيت لا يعرف في شيء من الكلام بمعنى"الاحتساب"، إلا أن يكون أراد مفسِّرُه كذلك: أن أنفس المنفقين كانت محتسبة في تثبيتها أصحابها. فإن كان ذلك كان عنده معنى الكلام، فليس الاحتساب بمعنًى حينئذ للتثبيت، فيترجَم عنه به.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وليس قوله ... كلامًا يجوز" بالنصب، وفي المخطوطة: "وليس قوله ... كلام يجوز" بالرفع، وظاهر أن الصواب ما أثبت من زيادة: "في"، بمعنى أنه ليس في الجملة فعل سابق يتوهم به أن المصدر معدول به عن بنائه.
(2) سقط من الترقيم سهوا رقم: 6072.(5/534)
القول في تأويل قوله تعالى: {كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل وعز: ومثل الذين ينفقون أموالهم، فيتصدقون بها، ويُسبِّلُونها في طاعة الله بغير منٍّ على من تصدقوا بها عليه، ولا أذى منهم لهم بها، ابتغاء رضوان الله وتصديقًا من أنفسهم بوعده = (كمثل جنة) .
* * *
و"الجنة": البستان. وقد دللنا فيما مضى على أن"الجنة" البستان، بما فيه الكفاية من إعادته. (1) .
* * *
= (برَبْوة) والرَّبوة من الأرض: ما نشز منها فارتفع عن السيل. وإنما وصفها بذلك جل ثناؤه، لأن ما ارتفع عن المسايل والأودية أغلظ، وجنان ما غلُظ من الأرض أحسنُ وأزكى ثمرًا وغرسًا وزرعًا، مما رقَّ منها، ولذلك قال أعشى بني ثعلبة في وصف روضة:
مَا رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْهَا مُسْبِلٌ هَطِلُ (2)
__________
(1) انظر ما سلف 1: 384.
(2) ديوانه: 43، وسيأتي هو والأبيات التي تليه في التفسير 21: 19 (بولاق) ، من قصيدته البارعة المشهورة. يصف شذا صاحبته حين تقوم: إِذَا تَقُومُ يَضُوعُ المِسْكُ أَصْوِرَةً ... وَالزَّنْبَقُ الوَرْدُ مِن أَرْدَانِهَا شَمِلُ
مَا رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الحَزْنِ مُعْشِبَةٌ ... خَضْرَاءُ جَادَ عَلَيْها مُسْبِلٌ هَطِلُ
يُضَاحِكُ الشَّمسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤَزَّرٌ بعَميم النَّبْتِ مُكْتَهِلُ
يَوْمًا بِأَطْيَبَ منها نَشْرَ رَائِحَةٍ ... وَلا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إِذْ دَنَا الأُْصُلُ
ضاع المسك يضوع، وتضوع: تحرك وسطع رائحته. وأصورة جمع صوار: وهو وعاء المسك، أو القطعة منه. والورد: الأحمر، وهو أجود الزنبق. وشمل: شامل، عدل به من"فاعل" إلى"فعل". والحزن: موضع في أرضى بني أسد وبني يربوع، وهو أرض غليظة كثيرة الرياض ممرعة، وهو مربع من أجل مرابع العرب. مسبل: مرسل ماء على الأرض. هطل: متفرق غزيز دائم= والكوكب: النور والزهر، يلمع كأنه كوكب. شرق: ريان، فهو أشد لبريقه وصفائه.
مؤزر: قد صار عليه النبات كالإزار يلبسه اللابس، تغطى الخضرة أعواده. ونبت عميم: ثم وطال والتف.
واكتهل النور: بلغ منتهى نمائه، وذلك أحسن له. يقول: ما هذه الروضة التي وصف زهرها ونباتها ما وصف ... بأطيب من صاحبته إذا قامت في أول يومها، حين تتغير الأفواه والأبدان من وخم النوم.
والأصل جمع أصيل: وهو وقت العشي، حين تفتر الأبدان من طول تعب يومها، فيفسد رائحتها الجهد والعرق.(5/535)
فوصفها بأنها من رياض الحزن، لأن الحزون: غرسها ونباتها أحسن وأقوى من غروس الأودية والتلاع وزروعها.
* * *
وفي"الربوة" لغات ثلاث، وقد قرأ بكل لغة منهنّ جماعة من القرأة، وهي"رُبوة" بضم الراء، وبها قرأت عامة قرأة أهل المدينة والحجاز والعراق.
و"رَبوة" بفتح الراء، وبها قرأ بعض أهل الشام، وبعض أهل الكوفة، ويقال إنها لغة لتميم. و"رِبوه" بكسر الراء، وبها قرأ -فيما ذكر- ابن عباس.
* * *
قال أبو جعفر: وغير جائز عندي أن يقرأ ذلك إلا بإحدى اللغتين: إما بفتح"الراء"، وإما بضمها، لأن قراءة الناس في أمصارهم بإحداهما. وأنا لقراءتها بضمها أشدّ إيثارًا مني بفتحها، لأنها أشهر اللغتين في العرب. فأما الكسر، فإنّ في رفض القراءة به، دِلالةٌ واضحة على أن القراءة به غير جائزة.
* * *
وإنما سميت"الربوة" لأنها"ربت" فغلظت وعلت، من قول القائل:"ربا هذا الشيء يربو"، إذا انتفخ فعظُم.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6074 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله: (كمثل جنة بربوة) ، قال: الربوة المكان الظاهرُ المستوي.(5/536)
6075 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، قال مجاهد: هي الأرض المستوية المرتفعة.
6076 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (كمثل جنة بربوة) يقولا بنشز من الأرض.
6077 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (كمثل جنة بربوة) والربوة: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار، (1) والذي فيه الجِنان.
6078 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (بربوة) ، برابية من الأرض.
6079 - حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (كمثل جنة بربوة) ، والربوة النشز من الأرض.
6080 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس: (كمثل جنه بربوة) ، قال: المكان المرتفع الذي لا تجري فيه الأنهار.
* * *
وكان آخرون يقولون: هي المستوية.
* ذكر من قال ذلك:
6081 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله: (كمثل جنه بربوة) ، قال: هي الأرض المستوية التي تعلو فوق المياه.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله: (أصابها وابل) فإنه يعني جل ثناؤه: أصاب
__________
(1) في المخطوطة: "الذي تجري فيه الأنهار"، وأثبت ما في المطبوعة، لأنه موافق ما في الدر المنثور 1: 339، ولأنه هو صواب المعنى، ولأنه سيأتي على الصواب بعد قليل في الأثر: 6080.(5/537)
الجنة التي بالربوة من الأرض، وابلٌ من المطر، وهو الشديد العظيم القطر منه. (1) .
* * *
وقوله: (فآتت أكلها ضعفين) ، فإنه يعني الجنة: أنها أضعف ثمرها ضعفين حين أصابها الوابل من المطر.
* * *
و"الأكل": هو الشيء المأكول، وهو مثل"الرُّعْب والهُزْء"، (2) . وما أشبه ذلك من الأسماء التي تأتي على"فُعْل". وأما"الأكل" بفتح"الألف" وتسكين"الكاف"، فهو فِعْل الآكل، يقال منه:"أكلت أكلا وأكلتُ أكلة واحدة"، كما قال الشاعر: (3) .
وَمَا أَكْلَةٌ إنْ نِلْتُها بِغَنِيمَةٍ، وَلا جَوْعَةٌ إِنْ جُعْتُهَا بِغَرَام (4)
ففتح"الألف"، لأنها بمعنى الفعل. ويدلك على أن ذلك كذلك قوله:"ولا جَوْعة"، وإن ضُمت الألف من"الأكلة" كان معناه: الطعام الذي أكلته، فيكون معنى ذلك حينئذ: ما طعام أكلته بغنيمة.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"وابل" فيما سلف قريبا ص: 524.
(2) في المطبوعة: "والهدء"، وأثبت ما في المخطوطة. ولم يشر الطبري إلى ضم الكاف في"الأكل" وهي قراءتنا في مصحفنا.
(3) أبو مضرس النهدي.
(4) حماسة الشجري: 24، من أبيات جياد، وقبله، بروايته، وهي التي أثبتها: وإنِّي لَمِنْ قَوْمٍ إذا حَارَبُوا العِدَى ... سَمَوا فَوْقَ جُرْدٍ للطِّعَانِ كِرَامِ
وإنِّي إذَا مَا القُوتُ قَلَّ لَمُؤْثِرٌ ... رَفِيقِي عَلى نفْسِي بِجُلِّ طَعَامِي
فمَا أكْلَةٌ إنْ نِلْتُهَا بِغَنِيمَةٍ ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان في المطبوعة: "وما أكلة أكلتها"، وفي المخطوطة: "وما أكله إن أكلتها"، وظاهر أن الناسخ أخطأ فوضع"أكلتها" مكان"نلتها"، وإن كلام الطبري في شرح البيت يوهم روايته: "وما أكلته أكلتها ... ". وقوله: "بغرام"، أي بعذاب شديد. والغرام: اللازم من العذاب والشر الدائم.(5/538)
وأما قوله: (فإن لم يصيبها وابل فطلّ) فإن"الطل"، هو النَّدَى والليِّن من المطر، كما: -
6082 - حدثنا عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج: (فطل) ندى = عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس.
6083 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"الطل"، فالندى.
6084 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فإن لم يصيبها وابل فطلّ) ، أي طشٌ.
6085 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك: (فطلّ) قال: الطل: الرذاذ من المطر، يعني: الليّن منه.
6086 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (فطل) أي طشٌ.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما يعني تعالى ذكره بهذا المثل: كما ضعَّفتُ ثمرة هذه الجنة التي وصفتُ صفتها حين جاد الوابل، فإن أخطأ هذا الوابل، فالطل كذلك. يضعِّف الله صَدقة المتصدِّق والمنفق ماله ابتغاء مرضاته وتثبيتًا من نفسه، من غير مَنِّ ولا أذى، قلَّت نفقته أو كثرت، لا تخيب ولا تُخلِف نفقته، كما تضعَّف الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها، قل ما أصابها من المطر أو كثُر لا يُخلِف خيرُها بحال من الأحوال.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6087 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله: (فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصيبها وابل فطل) ، يقول: كما أضعفتُ(5/539)
ثمرة تلك الجنة، فكذلك تُضاعف ثمرة هذا المنفق ضِعفين.
6088 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: (فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل) ، هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن، يقول: ليس لخيره خُلْف، كما ليس لخير هذه الجنة خُلْف على أيّ حال، إمَّا وابلٌ، وإمّا طلّ.
6089 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال: هذا مثل من أنفق ماله ابتغاء مرضاة الله.
6090 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله: (الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله) . الآية، قال: هذا مثل ضربه الله لعمل المؤمن.
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل: (فإن لم يصيبها وابل فطل) وهذا خبرٌ عن أمر قد مضى؟
قيل: يراد فيه"كان"، ومعنى الكلام: فآتت أكلها ضعفين، فإن لم يكن الوابلُ أصابها، أصابها طل. وذلك في الكلام نحو قول القائل:"حَبَست فرسين، فإن لم أحبس اثنين فواحدًا بقيمته"، بمعنى:"إلا أكن" - لا بدَّ من إضمار"كان"، لأنه خبر. (1) . ومنه قول الشاعر: (2) .
إِذَا مَا انْتَسَبْنَا لَمْ تَلِدْنِي لَئِيمَةٌ ... وَلَمْ تَجِدِي مِنْ أَنْ تُقِرِّي بها بُدَّا (3)
* * *
__________
(1) هذا كله في معاني القرآن للفراء 1: 178.
(2) زائدة بن صعصعة الفقعسي.
(3) سلف تخريجه وبيانه في 2: 165، 353.(5/540)
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك: (والله بما تعملون) أيها الناس، في نفقاتكم التي تنفقونها = (بصير) ، لا يخفي عليه منها ولا من أعمالكم فيها وفي غيرها شيء، يعلم مَنِ المنفق منكم بالمنّ والأذى، والمنفق ابتغاء مرضاة الله وتثبيتًا من نفسه، فيُحصي عليكم حتى يجازيَ جميعكم جزاءه على عمله، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًّا فشرًّا.
وإنما يعني بهذا القول جل ذكره، التحذيرَ من عقابه في النفقات التي ينفقها عباده وغير ذلك من الأعمال أن يأتي أحدٌ من خلقه ما قد تقدّم فيه بالنهي عنه، أو يفرّطَ فيما قد أمر به، لأن ذلك بمرأى من الله ومَسمَع، يعلمه ويحصيه عليهم، وهو لخلقه بالمرصاد. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ}
قال أبو جعفر: ومعنى ذلك: (2) . (يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صَفوان عليه تراب فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا) = (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها
__________
(1) في المطبوعة: "بخلقه". لم يحسن قراءة المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يعنى تعالى ذكره". لا أدرى لم غيره الطابع.(5/541)
من كل الثمرات وأصَابه الكبر) ، الآية. (1)
* * *
ومعنى قوله: (أيود أحدكم) ، أيحب أحدكم، (2) . أن تكون له جنة - يعني بستانًا (3) . = (من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار) ، يعني: من تحت الجنة = (وله فيها من كل الثمرات) ، و"الهاء" في قوله: (له) عائدة على"أحد"، و"الهاء" و"الألف" في: (فيها) على الجنة، (وأصابه) ، يعني: وأصاب أحدكم = (الكبر وله ذريه ضعفاء) .
* * *
وإنما جعل جل ثناؤه البستانَ من النخيل والأعناب = الذي قال جل ثناؤه لعباده المؤمنين: أيود أحدكم أن تكون له = (4) . مثلا لنفقة المنافق التي ينفقها رياء الناس، لا ابتغاء مرضاة الله، فالناس -بما يظهر لهم من صدقته، وإعطائه لما يعطى وعمله الظاهر - يثنون عليه ويحمدونه بعمله ذلك أيام حياته = (5) . في حسنه كحسن البستان وهي الجنة التي ضربها الله عز وجل لعمله مثلا (6) . من نخيل وأعناب، له فيها من كل الثمرات، لأن عمله ذلك الذي يعمله في الظاهر في الدنيا، له فيه من كل خير من عاجل الدنيا، يدفع به عن نفسه ودمه وماله وذريته، ويكتسب به المحمَدة وحسن الثناء عند الناس، ويأخذ به سهمه من المغنم مع أشياء كثيرة يكثر إحصاؤها، فله في ذلك من كل خير في الدنيا، كما وصف جل ثناؤه الجنة التي وصف مثلا لعمله، بأن فيها من كل الثمرات. (7) .
* * *
__________
(1) يعنى أبو جعفر: أن هذه الآية، مردودة على الآية السابقة التي ساقها.
(2) انظر تفسير"ود" فيما سلف 2: 470.
(3) انظر تفسير"جنة" فيما سلف قريبا: 535 تعليق: 1، ومراجعه.
(4) وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعًا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ".
(5) وضعت هذا الرقم على هذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ".
(6) وضعت هذا الرقم علىهذه المواضع جميعا لكي أبين سياق هذه الجملة المتراكبة، وهذا سياقها، وما بين ذلك فصول متتابعة: "وإنما جعل ثناؤه البستان ... مثلا لنفقة المنافق ... في حسنه كحسن البستان وهي الجنة ... من نخيل وأعناب ... ".
(7) في المطبوعة والمخطوطة: "بعمله" والصواب ما أثبت، وسياق الجملة: "كما وصف جل ثناؤه الجنة، ... بأن فيها من كل الثمرات".(5/542)
ثم قال جل ثناؤه: (وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء) ، يعني أنّ صاحب الجنة أصابه الكبر = (وله ذرية ضعفاء) صغارٌ أطفال = (1) . (فأصابها) يعني: فأصاب الجنة - (إعصار فيه نار فاحترقت) ، يعني بذلك أنّ جنته تلك أحرقتها الريح التي فيها النار، في حال حاجته إليها، وضرورته إلى ثمرتها بكبره، وضعفه عن عمارتها، وفي حال صغر ولده وعجزه عن إحيائها والقيام عليها. فبقي لا شيء له، أحوج ما كان إلى جنته وثمارها، بالآفة التي أصابتها من الإعصار الذي فيه النار.
يقول: فكذلك المنفق ماله رياء الناس، أطفأ الله نوره، وأذهب بهاء عمله، وأحبط أجره حتى لقيه، وعاد إليه أحوج ما كان إلى عمله، حين لا مُسْتَعْتَبَ له، (2) . ولا إقالة من ذنوبه ولا توبة، واضمحل عمله كما احترقت الجنة التي وصف جل ثناؤه صفتها عند كبر صاحبها وطفولة ذريته أحوجَ ما كان إليها فبطلت منافعها عنه.
* * *
وهذا المثل الذي ضربه الله للمنفقين أموالهم رياء الناس في هذه الآية، نظير المثل الآخر الذي ضربه لهم بقوله: (فمثله كمثل صفوان عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلدًا لا يقدرون على شيء مما كسبوا) .
* * *
قال أبو جعفر: وقد تنازع أهل التأويل في تأويل هذه الآية، إلا أن معاني قولهم في ذلك وإن اختلفت تصاريفهم فيها عائدةٌ إلى المعنى الذي قلنا في ذلك، وأحسنهم إبانة لمعناها وأقربهم إلى الصواب قولا فيها السدي.
__________
(1) قد مضت"ذرية" فيما سلف 3: 19، 73، ولم يفسرها. وذلك من اختصاره لتفسيره كما بينا في مقدمة الجزء الأول، وكما جاء في ترجمته.
(2) لا مستعتب: أي لا استقالة ولا استدراك ولا استرضاء لله تعالى: من قولهم: "استعتبت فلانًا" أي استقلت مما فعلت، وطلبت رضاه، ورجعت عن الإساءة إليه.(5/543)
6091 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر ولا ذرية ضعفاه فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت) هذا مثل آخر لنفقة الرياء. إنه ينفق ماله يرائي الناس به، فيذهب ماله منه وهو يرائي، فلا يأجره الله فيه. فإذا كان يوم القيامة واحتاجَ إلى نفقته، وجدها قد أحرقها الرياء، فذهبت كما أنفق هذا الرجل على جنته، حتى إذا بلغت وكثر عياله واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها سَموم فأحرقت جنته، فلم يجد منها شيئًا. (1) . فكذلك المنفق رياء.
6092 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل: (أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب) كمثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت. قال، يقول: أيود أحدكم أن يكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنات تجري من تحتها الأنهار، (له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصارٌ فيه نار فاحترقت) ، فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير، لا يغني عنها شيئًا، وولده صغار لا يغنون عنها شيئًا، وكذلك المفرِّط بعد الموت كل شيء عليه حَسْرة.
6093 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
6094 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: سأل عُمر الناس عن هذه الآية فما وجد أحدًا يشفيه، حتى قال ابن عباس وهو خلفه: يا أمير المؤمنين، إنِّي أجد في نفسي منها شيئًا، قال: فتلفت إليه، فقال: تحوَّل ههنا، لم تحقّر نفسك؟ قال: هذا مثل ضربه الله عز وجل
__________
(1) في المخطوطة: "ريح فيها سمره" الهاء الأخيرة متصلة بالراء، ولم أجد لها وجها، والذي في المطبوعة، هو ما في الدر المنثور 1: 340، وفي سائر الآثار الأخرى.(5/544)
فقال: أيودُّ أحدكم أن يعمل عمره بعمل أهل الخير وأهل السعادة، حتى إذا كان أحوجَ ما يكون إلى أن يختمه بخير حين فني عمره، واقترب أجله، ختم ذلك بعمل من عمل أهل الشقاء، فأفسده كله فحرقه أحوج ما كان إليه.
6095 - حدثنا ابن وكيع قال: حدثنا أبي، عن محمد بن سليم، عن ابن أبي مليكة: أن عمر تلا هذه الآية:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب"، قال: هذا مثل ضرب للإنسان: يعمل عملا صالحًا، حتى إذا كان عنده آخر عمره أحوجَ ما يكون إليه، عمل عمل السوء. (1) .
6096 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر عن عبيد بن عمير أنه سمعه يقول: سأل عمر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: فيم تَرَون أنزلت:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب"؟ فقالوا: الله أعلم. فغضب عمر فقال: قولوا:"نعلم" أو"لا نعلم". فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء، يا أمير المؤمنين. فقال عمر: قل يا ابن أخي، ولا تحقِّر نفسك! قال ابن عباس: ضربت مثلا لعمل. قال عمر: أي عمل؟ قال: لعمل. فقال عمر: رجل عنيٌّ يعمل الحسنات، ثم بعث الله له الشيطان، فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله كلها= قال: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة يحدث نحو هذا عن ابن عباس، سمعه منه. (2) .
__________
(1) الأثر: 6095 -"محمد بن سليم المكي أبو عثمان". روي عن ابن أبي مليكة، قال الحافظ ابن حجر: "ولم أر له رواية عن غيره". روى عنه وكيع بن الجراح، وعبد الله بن داود الخريبي، وأبو عاصم النبيل. مترجم في التهذيب. وهذا الأثر أشار إليه في الفتح 8: 151 في كلامه عن الأثر: 6096.
(2) الأثر: 6096 -رواه البخاري من طريق هشام بن يوسف، عن ابن جريج، وأشار الحافظ في الفتح 8: 151، إلى رواية الطبري له من طريق ابن المبارك، عن ابن جريج. وكان في
المطبوعة: "رحل عنى" مهملة، والصواب ما أثبت من المراجع. وانظر التعليق التالي.(5/545)
6097 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سمعت أبا بكر بن أبي مليكة يخبر أنه سمع عبيد بن عمير= قال: ابن جريج: وسمعت عبد الله بن أبي مليكة، قال: سمعت ابن عباس= قالا جميعًا: إن عمر بن الخطاب سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه= إلا أنه قال عمر: للرجل يعمل بالحسنات، ثم يُبعث له الشيطان فيعمل بالمعاصي. (1) .
6098 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عنها= ثم قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد= قالا ضربت مثلا للأعمال = قال ابن جريج: وقال ابن عباس: ضربت مثلا للعمل، يبدأ فيعمل عملا صالحًا، فيكون مثلا للجنة التي من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات - ثم يسيء في آخر عمره، فيتمادى على الإساءة حتى يموت على ذلك، فيكون الإعصار الذي فيه النار التي أحرقت الجنة، مثلا لإساءته التي مات وهو عليها. قال ابن عباس: الجنة عيشُه وعيش ولده فاحترقت، فلم يستطع أن يدفع عن جنته من أجل كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن جنتهم من أجل صغرهم حتى احترقت.
يقول: هذا مثله، تلقاه وهو أفقر ما كان إليّ، فلا يجد له عندي شيئًا، (2) ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا، ولا يستطيع من كبره وصغر أولاده أن يعملوا جنة، (3) كذلك لا توبة إذا انقطع العمل حين مات= قال
__________
(1) الأثر: 6097 -رواه الحاكم في المستدرك 2: 283، وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 151 وهو مكرر الذي قبله. وسلقه الحاكم بلفظة وقال"وهذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.
(2) في المطبوعة: "تلقاه"، وفي المخطوطة "للعال" مصحفة مضطربة الخط، وهذا صواب قراءتها.
(3) في المخطوطة: "من كبره وصغره أن يعملوا جنته"، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.(5/546)
ابن جريج، عن مجاهد: سمعت ابن عباس قال: هو مثل المفرِّط في طاعة الله حتى يموت = قال ابن جريج، وقال مجاهد: أيود أحدكم أن تكون له دنيا لا يعمل فيها بطاعة الله، كمثل هذا الذي له جنة؟ فمثله بعد موته كمثل هذا حين أحرقت جنته وهو كبير لا يغني عنها شيئًا، (1) وأولاده صغار ولا يغنون عنه شيئًا. وكذلك المفرِّط بعد الموت، كل شيء عليه حسرة.
6099 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار" الآية، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة (2) " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون"،: فهذا مثلٌ، فاعقلوا عن الله جل وعز أمثاله، فإنه قال: (وَتِلْكَ الأمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلا الْعَالِمُونَ) [سورة العنكبوت: 43] ، هذا رجل كبرت سنه، ورَقَّ عظمه، وكثر عياله، (3) ثم احترقت جنته على بقية ذلك، كأحوج ما يكون إليه، يقول: أيحب أحدكم أن يضلَّ عنه عمله يوم القيامة كأحوج ما يكون إليه؟
6100 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنةٌ" إلى قوله:"فاحترقت" يقول: فذهبت جنته كأحوج ما كان إليها حين كبرت سِنُّه وضعُف عن الكسب="وله ذرية ضعفاء" لا ينفعونه. قال: وكان الحسن يقول:"فاحترقت" فذهبت أحوجَ ما كان إليها، فذلك قوله: أيود أحدكم أن يذهب عمله أحوجَ
__________
(1) في المطبوعة: "حين أحرقت جنته"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "سموم شديدة"، و"السموم" مذكر، ويؤنث، لمعنى الريح الحارة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "دق عظمه"، والصواب بالراء، وفي حديث عثمان: "كبرت سني، ورق عظمي"، وقولهم: "رق عظم فلان"، أي كبر وضعف. والرقق (بفتحتين) . ضعف العظام، قال الشاعر في ناقته: خَطَّارَةٌ بَعْدَ غِبّ الجَهْدِ نَاجِيةٌ ... لم تَلْقَ فِي عَظْمِهَا وَهْنًا وَلا رَقَقَا
.(5/547)
ما كان إليه؟
6101 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: ضرب الله مثلا حسنًا، وكل أمثاله حسنٌ تبارك وتعالى. وقال قال: (1) "أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل" إلى قوله:"فيها من كل الثمرات" يقول: صنعه في شبيبته، فأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء عند آخر عمره، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه، فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله، ولم يكن عند نسله خير يعودون عليه. وكذلك الكافر يوم القيامة، إذا رُدّ إلى الله تعالى ليس له خيرٌ فيستعتب، (2) كما ليس له قوة فيغرس مثل بستانه، (3) ولا يجد خيرًا قدم لنفسه يعود عليه، كما لم يغن عن هذا ولده، وحُرِم أجره عند أفقرِ ما كان إليه، كما حرم هذا جنته عند أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته. وهو مثل ضربه الله للمؤمن والكافر فيما أوتيا في الدنيا: كيف نجَّى المؤمنَ في الآخرة، وذخر له من الكرامة والنعيم، وخزَن عنه المال في الدنيا، وبسط للكافر في الدنيا من المال ما هو منقطعٌ، وخزَن له من الشر ما ليس بمفارقه أبدًا، ويخلد فيها مهانًا، من أجل أنه [فخر على صاحبه] ووثق بما عنده، (4) ولم يستيقن أنه ملاق ربه. (5) .
__________
(1) في المخطوطة: "وقال قال أيوب: أيود أحدكم"، وقوله: "أيوب" لا معنى له هنا، ليس في هذا الإسناد من اسمه"أيوب"، ولو كان أيضًا، لكان سياقًا مضطربًا. وظاهر أن"أيوب" هي"أيود"، والناسخ في هذا الموضع قد اضطرب. كما سترى في التعليق التالي. وصحته ما جاء في الدر المنثور 1: 340، كما سترى بعد.
(2) كان بين الكلمات في المخطوطة بياض هكذا: "ذرية ضعفاء عمره فجاءه إعصار فيه نار فاحترقت عنده قوة إن نسله خير يعودون الكافر يوم القيامة إذا رد إلى خير فيستعتب"، وهو مع البياض خلط من الكلام! وأثبت ما في المطبوعة، وهو نص الأثر كما أخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 340، ونسبه لابن جرير، وأبي حاتم. وابن كثير في التفسير 2: 38، 39.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "كما ليس له قوة"، والصواب من الدر المنثور، وابن كثير.
(4) الذي بين القوسين هو ما ثبت في المطبوعة، أما المخطوطة فكانت: "من أكل أنه ووثق بما عنده" بياض. ولم أجد بقية الأثر في المراجع السالفة، فتركت ما استظهره طابع المطبوعة على حاله. ولو استظهرته لقلت: "من أجل أنه كفر بلقاء ربه"، والله أعلم.
(5) الأثر: 6101 -في الدر المنثور 1: 340، وابن كثير 2: 38، 39، كما أسلفت.(5/548)
6102 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أيود أحدكم أن تكون له جنة"، الآية، قال: [هذا مثل ضربه الله] : أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب [له فيها من كل الثمرات] ، والرجل [قد كبر سنه وضعف] ، وله أولاد صغار [وابتلاهم الله] في جنتهم، (1) فبعث الله عليها إعصارًا فيه نار فاحترقت، (2) فلم يستطع الرجل أن يدفع عن جنته من الكبر، (3) ولا ولده لصغرهم، فذهبت جنته أحوجَ ما كان إليها. يقول: أيحب أحدكم أن يعيش في الضلالة والمعاصي حتى يأتيه الموت، فيجيء يوم القيامة قد ضلّ عنه عمله أحوجَ ما كان إليه؟ فيقول: ابن آدم، أتيتني أحوجَ ما كنت قطُّ إلى خير، فأين ما قدمت لنفسك؟
6103 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وقرأ قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا لا تُبطلوا صدقاتكم بالمنّ والأذى"، ثم ضرب ذلك مثلا فقال:"أيود أحدكم أن تكون له جنّة من نخيل وأعناب"، حتى بلغ"فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت". قال: جرت أنهارها وثمارها، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت. أيودُّ أحدكم هذا؟ كما يتجمَّل أحدكم إذ يخرُج من صدقته ونفقته، (4) حتى إذا كان له عندي جنّة وجرت أنهارها وثمارها،
__________
(1) الذي وضعته بين الأقواس، هو ما استظهر الطابع في المطبوعة فيما أرجح، وكان مكانه في المخطوطة بياض.
(2) كان في المخطوطة: "فبعث الله عنها إعصار فيه نار"، وهو تحريف وخطأ، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.
(3) في المخطوطة: "من الكفر". وهو خطأ بين.
(4) في المطبوعة"فما يحمل"، وفي المخطوطة"كما يحمل"، ثم فيهما جميعًا: "أن يخرج"، وهو كلام لا مفهوم له. واستظهرت قراءاتها كذلك، لأن الذي يخرج نفقته رئاء الناس، إنما يتجمل بذلك عندهم. وهذا هو الصواب سياق الأثر. والمخطوطة كما تبين من التعليقات السالفة، فاسدة كل الفساد من اضطراب كتابة الناسخ، ومن عجلته، أو عجزه عن قراءة النسخة التي نقل عنها.(5/549)
وكانت لولده وولد ولده أصابها ريح إعصار فحرقها.
6104 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار"، رجل غرس بستانًا فيه من كل الثمرات، فأصابه الكبر، وله ذرية ضعفاء، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، فلا يستطيع أن يدفع عن بستانه من كبره، ولم يستطع ذريته أن يدفعوا عن بستانه، فذهبت معيشته ومعيشة ذريته. فهذا مثل ضربه الله للكافر، يقول: يلقاني يوم القيامة وهو أحوج ما يكون إلى خير يصيبه، فلا يجد له عندي خيرًا، ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه من عذاب الله شيئًا.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما دللنا أن الذي هو أولى بتأويل ذلك ما ذكرناه، لأن الله جل ثناؤه تقدَّم إلى عباده المؤمنين بالنهي عن المنّ والأذى في صدقاتهم، ثم ضرب مثلا لمن منَّ وآذى من تصدق عليه بصدقة، فمثَّله بالمرائي من المنافقين المنفقين أموالهم رئاء الناس. وكانت قصة هذه الآية وما قبلها من المثل، نظيرةَ ما ضرب لهم من المثل قبلها، فكان إلحاقُها بنظيرتها أولى من حمل تأويلها على أنه مثلُ ما لم يَجر له ذكر قبلها ولا معها. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"وأصابه الكبر"، وهو فعل ماض، فعطف به على قوله:"أيود أحدكم"؟
قيل: إن ذلك كذلك، لأن قوله:"أيود"، يصح أن يوضع فيه"لو" مكان"أن" فلما صلحت ب"لو" و"أن" ومعناهما جميعًا الاستقبال، استجازت العرب أن
__________
(1) انظر ما قاله القرطبي في تفسيره 3: 318، في رد اختيار ابن جرير في تفسيره. ومذهب ابن جرير أوثق وأضبط في البيان، وفي الاستدلال.(5/550)
يردّوا"فعل" بتأويل"لو" على"يفعل" مع"أن" (1) فلذلك قال:"فأصابها"، وهو في مذهبه بمنزلة"لو"، إذْ ضارعت"أن" في معنى الجزاء، فوضعت في مواضعها، وأجيبت"أن" بجواب"لو" و"لو" بجواب"أن"، فكأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة من نخيل وأعناب، تجري من تحتها الأنهار، له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر؟ (2) .
فإن قال: وكيف قيل ههنا:"وله ذرية ضعفاء"، وقال في [النساء:9] ، (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا) ؟
قيل: لأن"فعيلا" يجمع على"فعلاء" و"فِعال"، فيقال:"رجل ظريف من قوم ظرفاء وظراف.
* * *
وأما"الإعصار"، فإنه الريح العاصف، تهب من الأرض إلى السماء كأنها عمود، تجمع"أعاصير"، ومنه قول يزيد بن مفرغ الحميري:
أُنَاسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوارُهُمْ ... أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المُبَذَّرِ (3)
* * *
__________
(1) أي: أن يردوا الفعل الماضي بتأويل"لو" على الفعل المضارع مع"أن".
(2) هذا نص مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 175، وقد استوفى الباب هناك. وانظر ما سلف في جواب"لو" بالماضي من الفعل 2: 458 /3: 184، 185، والتعليق هناك.
(3) تاريخ الطبري 6: 178، والأغاني 17: 178: وسيأتي في التفسير 15: 53 مصحفًا أيضًا: "من فسق العراق المبذر". والبيت في المطبوعة والمخطوطة هنا: "من سوء العراق المنذر"، وهو كلام بلا معنى، ولكنى رأيت شارحًا شرحه على ذلك، فأشهد الله كاد يقتلني من فرط الضحك! وهو من أبيات ثلاثة قالها ابن مفرغ في خبره مع بن زياد، حين هجاه، وهجا معاوية بن أبي سفيان (وانظر ما سلف 4: 293 وتعليق: 2) وفارق عبادًا مقبلًا إلى البصرة، فطاف بأشرافها من قريش يسجير بهم، فما كان منهم إلا الوعد، ثم أتي المنذر بن الجارود (من عبد القيس) فأجاره وأدخله داره، ووشى الوشاة به إلى عبيد الله بن زيادة أنه دار المنذر. وكان المنذر في مجلس عبيد الله، فلم يشعر إلى بابن مفرغ قد أقيم على رأسه، فقام المنذر فقال: أيها الأمير، قد أجرته! فقال: يا منذر، واله يمدحنك وأباك ويهجوني أنا وأبي، ثم تجيره على! فأمر به فسقى دواء وحمل على حمار يطاف به وهو يسلح في ثيابه من جراء الدواء، فقال عندئذ لعبيد الله بن زياد: يَغْسِلُ المَاءُ مَا صَنَعْتَ وَقَولِي ... راَسِخٌ مِنْكَ فِي العِظَامِ البَوالِى
ثم هجا المنذر بن الجارود فقال: تَرَكْتُ قُرَيْشًا أَنْ أُجَاوِرَ فِيهمُ ... وَجَاورْتُ عبدَ القَيْس أَهْلَ المُشَقَّرِ
أُناسٌ أَجَارُونَا فَكَانَ جِوَارُهُمْ ... أَعَاصِيرَ مِنْ فَسْوِ العِرَاقِ المبَذَّرِ
فَأَصْبَحَ جَارِي مِنْ جَذِيمةَ نَائمًا ... ولا يمنَعُ الجِيرَانَ غَيْرُ المُشَمِّرِ
وقوله: "من فسو العراق"، وذلك أن عبد القيس ونبي حنيفة وغيرهم من أهل البحرين وما جاورها، كانوا يعيرون بالفسو، لأن بلادهم بلاد نخل فيأكلونه، ويحدث في أجوافهم الرياح والقراقير. والمبذر: من التبذير، وهو الإسراف في المال وتشتيه وتفريقه. وهذه صفة قد انتزعها ابن مفرغ أحسن انتزاع في هذا الموضع، فجعلت سخرتته بالمنذر بن الجارود، ألذع ما تكون، مع روعة قوله: "أعاصير"!!
قد جاء الأخطل بعد ذلك فهجا ابنه أيضًا مالك بن المنذر بن الجارود، فقال له: وَعَبْدُ القَيْسِ مُصْفَرٌ لِحَاهَا ... كَأَنَّ فُسَاءَهَا قِطَعُ الضَّبَابِ!!
فبلغ منه ما بلغ!! ، وانظر طبقات فحول الشعراء: 298، 299، والتعليق هناك.(5/551)
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"إعصار فيه نار فاحترقت".
فقال بعضهم: معنى ذلك: ريح فيها سموم شديدةٌ.
* ذكر من قال ذلك:
6105 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا يوسف بن خالد السمتي، قال: حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"إعصار فيه نار"، ريح فيها سموم شديدةٌ.
6106 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس في:"إعصارٌ فيه نار"، قال: السموم الحارة التي خلق منها الجانّ، التي تحرق.(5/552)
6107 - حدثنا أحمد (1) قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت"، قال: هي السموم الحارة التي لا تبقى أحدًا. (2) .
6108 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت" التي تقتل.
6109 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عمن ذكره، عن ابن عباس، قال: إن السموم التي خلق منها الجان جزء من سبعين جزءًا من النار.
6110 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إعصار فيه نار فاحترقت"، هي ريح فيها سموم شديدٌ.
6111 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس:"إعصار فيه نار"، قال: سموم شديد.
6112 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"إعصار فيه نار"، يقول: أصابها ريح فيها سموم شديدة.
6113 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، نحوه.
6114 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا حميد"، والصواب: "أحمد"، وهو: "أحمد بن إسحق الأهوازي"، كما سلف مئات من المرات في روايته عن أبي أحمد الزبيري، فاطلبه في الفهارس، وانظر الآتي رقم: 6109.
(2) في المطبوعة حذف قوله: "لا تبقي أحدًا"، وعلق عليه بقوله: "في بعض النسخ زيادة: "التي لا تضر أحدًا"، وهي في المخطوطة كذلك، ولكن الناسخ أفسد الكلمة، وصوابها كما أثبت: "لا تبقى أحدًا". وسيأتي في حديث التميمي عن عباس، وهو الحديث التالي: "التي تقتل". فهذا هذا.(5/553)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
السدي:"إعصار فيه نار فاحترقت" أما الإعصار فالريح، وأما النار فالسموم.
6115 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إعصار فيه نار"، يقول: ريح فيها سموم شديد.
* * *
وقال آخرون: هي ريح فيها برد شديد.
* ذكر من قال ذلك:
6116 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول في قوله:"إعصار فيه نار فاحترقت"، فيها صِرٌّ وبرد. (1)
6117 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إعصار فيه نار فاحترقت"، يعني بالإعصار، ريح فيها بَرْدٌ.
* * *
القول في تأويل قوله: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ 266}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: كما بيَّن لكم ربُّكم تبارك وتعالى أمَر النفقة في سبيله، وكيف وجْهُها، وما لكم وما ليس لكم فعله فيها = كذلك يبين لكم الآيات سوى ذلك، فيعرّفكم أحكامها وحلالها وحرامها، ويوضح لكم حُججها، إنعامًا منه بذلك عليكم ="لعلكم تتفكرون"، يقول: لتتفكروا بعقولكم، فتتدبّروا وتعتبروا بحجج الله فيها، وتعملوا بما فيها من أحكامها، فتطيعوا الله به.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
__________
(1) الصر (بكسر الصاد) . البرد الذي يضرب النبات ويحرقه.(5/554)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)
* ذكر من قال ذلك:
6118 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، قال: قال مجاهد:"لعلكم تتفكرون" قال: تطيعون.
6119 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون" يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، صدقوا بالله ورسوله وآي كتابه.
* * *
ويعني بقوله:"أنفقوا"، زكُّوا وتصدقوا، كما:-
6120 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم" يقول: تصدَّقوا.
* * *
القول في تأويل قوله: {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}
يعني بذلك جل ثناؤه: زكوا من طيّب ما كسبتم بتصرُّفكم= إما بتجارة، وإما بصناعة= من الذهب والفضة.
ويعني ب"الطيبات"، الجياد، يقول: زكوا أموالكم التي اكتسبتموها حلالا وأعطوا في زكاتكم الذهبَ والفضة، الجيادَ منها دون الرديء، كما:-(5/555)
6121 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من التجارة.
6122 - حدثني موسى بن عبد الرحمن، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: وأخبرني شعبة، عن الحكم، عن مجاهد، مثله.
6123 - حدثني حاتم بن بكر الضبّي، قال: حدثنا وهب، عن شعبة، عن الحكم، عن جاهد، مثله.
6124 - حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد في قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: التجارة الحلال.
6125 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن عبد الله بن معقل:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: ليس في مال المؤمن من خبيث، ولكن لا تيمموا الخبيث منه تنفقون.
6126 - حدثني عصام بن روّاد بن الجراح، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت علي بن أبي طالب صلوات الله عليه عن قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" قال: من الذهب والفضة.
6127 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"من طيبات ما كسبتم"، قال: التجارة.
6128 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
6129 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: ثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم" يقول: من(5/556)
أطيب أموالكم وأنفَسِه. (1) .
6130 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: من هذا الذهب والفضة. (2) .
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز: {وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأرْضِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأنفقوا أيضا مما أخرجنا لكم من الأرض، فتصدقوا وزكوا من النخل والكرم والحنطة والشعير، وما أوجبت فيه الصدقة من نبات الأرض. كما:-
6131 - حدثني عصام بن رواد، قال: ثني أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة، قال: سألت عليا صلوات الله عليه عن قول الله عز وجل:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: يعني من الحب والثمر وكل شيء عليه زكاة.
6132 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: النخل.
6133 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: من ثمر النخل.
__________
(1) الأثر: 6129 -في الدر المنثور 1: 346، وسيأتي الأثر بتمامه في رقم: 6152 وقوله: "من أطيب أموالكم وأنفسه"، وهو صحيح في العربية، يعود ضمير المفرد، على الجمع في"أفعل"، وقد مضى ما قلنا في ذلك التعليق على الأثر: 5968، وإن اختلفت العبارتان وافترقتا. وانظر همع الهوامع 1: 59.
(2) في المطبوعة: حذف"هذا" لغير شيء!! .(5/557)
6134 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مجاهد قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"، قال: من التجارة="ومما أخرجنا لكم من الأرض"، من الثمار.
6135 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ومما أخرجنا لكم من الأرض"، قال: هذا في التمر والحب.
* * *
القول في تأويل قوله جل وعز: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه"ولا تيمموا الخبيث"، ولا تعمدوا، ولا تقصدوا.
* * *
وقد ذكر أن ذلك في قراءة عبد الله: (ولا تؤموا) من"أممت"، (1) وهذه من"يممت"، (2) والمعنى واحد وإن اختلفت الألفاظ.
* * *
يقال:"تأممت فلانا"، و"تيممته"، و"أممته"، بمعنى: قصدته وتعمدته، كما قال ميمون بن قيس الأعشى:
تيممت قيسا وكم دونه من الأرض من مهمه ذي شزن (3)
وكما:-
__________
(1) في المطبوعة: "ولا تأمموا"، وكذلك في القرطبي، ولكن أبا حيان في تفسيره 1: 328 قد نص على أن الطبري حكى قراءة عبد الله: "ولا تأملوا" من"أمت"، فوافق ما في المخطوطة، فأثبتها كذلك، وهي الصواب إن شاء الله.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "تيممت"، وهو سقيم، والصواب ما أثبت. وأموا المكان ويموه، بمعنى واحد، وهي على البدل، أبدلت الهمزة ياء، ولذلك كانت في مادة (أمم) من دواوين اللغة، غير الجوهري.
(3) ديوانه: 16، وسيأتي في التفسير 5: 69 (بولاق) . وهو من قصيدته التي أثنى فيها على قيس بن معد يكرب الكندي، وهي أول كلمة قالها له. وقد مضت منها أبيات في 1: 345، 346، /3: 191/5: 390 وامهمه: الفلاة المقفرة البعيدة، لا ماء بها ولا أنيس، والشزن والشزونة: الغلظ من الأرض.(5/558)
6136 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تيمموا الخبيث"، ولا تعمدوا.
6137 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولا تيمموا" لا تعمدوا.
6138 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه ب"الخبيث": الرديء، غير الجيد، يقول: لا تعمدوا الرديء من أموالكم في صدقاتكم فتصدقوا منه، ولكن تصدقوا من الطيب الجيد.
* * *
وذلك أن هذه الآية نزلت في سبب رجل من الأنصار علق قنوا من حشف - (1) في الموضع الذي كان المسلمون يعلقون صدقة ثمارهم- صدقة من تمره.
* ذكر من قال ذلك:
6139 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قول الله عز وجل:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من
__________
(1) القنو: الكباسة، وهي العذق التام بشماريخه ورطبه، هو في التمر، بمنزله العنقود من العنب، وجمعه: أقناء. والحشف: هو من التمر ما لم ينو، فإذا يبس صلب وفسد، لا طعم له ولا لحاء ولا حلاوة.(5/559)
الأرض" إلى قوله:"والله غني حميد"، قال: نزلت في الأنصار، كانت الأنصار إذا كان أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها أقناء البسر، فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأكل فقراء المهاجرين منه. فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر، يظن أن ذلك جائز.
فأنزل الله عز وجل فيمن فعل ذلك:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال لا تيمموا الحشف منه تنفقون. (1) .
6140 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب بنحوه= إلا أنه قال: فكان يعمد بعضهم، فيدخل قنو الحشف= ويظن أنه جائز عنه= في كثرة ما يوضع من الأقناء، فنزل فيمن فعل ذلك:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، القنو الذي قد حشف، ولو أهدي إليكم ما قبلتموه. (2) .
6141 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب، قال: كانوا يجيئون في الصدقة بأردإ
__________
(1) الأثر: 6139 -الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، مضى في رقم 1625: 1883، وهو لين يتكلمون فيه. وأبوة: عمرو بن محمد، ثقة جائز الحديث. أخرجه الحاكم في المستدرك،: 2: 285 من طريق عمرو بن طلحة القناد، عن أسباط بن نصر، وقال: "هذا حديث غريب صحيح على شرطه مسلم، ولم يخرجاه"، وافقه الذهبى. وذكره ابن كثير في تفسير 2: 40، 41 ونسبه للحاكم، وأنه قال: "صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه" فاختلف نص كلام الحاكم.
وسيأتي تمامه برقم: 6159، 6167.
قوله: "جذاذ النخل"بالذال هنا وفي المستدرك. وجذ النخل جذاذا، صرمه. والأشهر فيه بالدال المهملة: "جد النخل يجده جدادا"، صرمه وقطف ثمره. والحيطان جمع حائط: وهو بستان النخل يكون عليه حائط، فإذا لم يكن عليه حائط. فهو ضاحية.
وقوله: "أقناء البسر" الأقناء جمع قنو، وقد سلف في التعليق الماضي. والبسر: التمر قبل أن يرطب، سمى كذلك لغضاضته، واحدته بسرة، ثم هو بعد البسر، رطب، ثم تمر.
(2) الأثر: 6140 -هذا إسناد آخر للخبر السالف وسيأتي تمامه برقم: 6160 وحشف التمر: صار حشفا. وقد مضى تفسيره في التعليق ص: 559 رقم: 1. وقوله: "جائز عنه"، أي سائغ مجزي عنه من قولهم: "جاز جوازا"، وأجاز له الشيء وجوزه: إذا سوغ له ما صنعه وأمضاه. وهو تعبير نادر لم تقيده كتب اللغة، ولكنه عربي معرق.(5/560)
تمرهم وأردإ طعامهم، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" الآية. (1) .
6142 - حدثني عصام بن رواد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: سألت عليا عن قول الله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: فقال علي: نزلت هذه الآية في الزكاة المفروضة، كان الرجل يعمد إلى التمر فيصرمه، (2) فيعزل الجيد ناحية. فإذا جاء صاحب الصدقة أعطاه من الرديء، فقال عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون".
6143 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الجليل بن حميد اليحصبي، أن ابن شهاب حدثه، قال: ثني أبو أمامة بن سهل بن حنيف في الآية التي قال الله عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال: هو الجعرور، ولون حبيق، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يؤخذ في الصدقة. (3) .
__________
(1) الأثر: 6141 -رواه البيهقي في السنن 4: 136 من طريق أبي حذيفة، عن سفيان، عن السدي بغير هذا اللفظ، وأتم منه.
(2) صرم النخل والشجر يصرمه صرما وصراما: قطع ثمرها واجتناها، مثل الجذاذ والجداد فيما سلف في التعليقات ص: 560.
(3) الأثر: 6143 -عبد الجليل بن حميد اليحصبي، أبو مالك المصري. روي عن الزهري، ويحيى بن سعيد وأيوب السختياني، وروى عنه ابن عجلان، وهو من أقرانه، وموسى بن سلمة، وابن وهب، وغيرهم من المصريين. قال النسائي، "ليس به بأس"، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 148، مترجم في التهذيب. وهذا الأثر روته النسائي، عن يونس بن عبد الأعلى والحارث بن مسكين، عن ابن وهب، عن عبد الجليلي بن حميد، في السنن 5: 43، وآخره" ... أن تؤخذ الصدقة الرذالة". وروي من طرق أخرى في سنن أبي داود 2: 149 رقم: 1607، والحاكم في المستدرك 2: 284 من طريق سفيان ابن حسين عن الزهري، ومن طريق سليمان بن كثير عن الزهري وقال: "صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن 4: 136، وانظر تفسير ابن كثير 2: 42، 43.
الجعرور (بضم الجيم) . ضرب من التمر صغار لا خير فيه. واللون: نوع من النخل، قيل: هو الدقل، وقيل: النخل كله ما خلا البرني والعجوة، تسميه أهل المدينة"الألوان". وابن حبيق: رجل نسب إليه هذا النخل الرديء، فقيل: لون الحبيق. وتمره رديء أغبر صغير، مع طول فيه.(5/561)
6144 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: كانوا يتصدقون - يعني من النخل- بحشفه وشراره، فنهوا عن ذلك، وأمروا أن يتصدقوا بطيبه.
6145 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم" إلى قوله:"واعلموا أن الله غني حميد"، ذكر لنا أن الرجل كان يكون له الحائطان على عهد نبي الله صلى الله عليه وسلم، فيعمد إلى أردئهما تمرا فيتصدق به، ويخلط فيه من الحشف، فعاب الله ذلك عليهم ونهاهم عنه.
6146 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: تعمد إلى رذالة مالك فتصدق به، (1) ولست بآخذه إلا أن تغمض فيه.
6147 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال: كان الرجل يتصدق برذالة ماله، فنزلت:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون".
6148 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرنا عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، قال: في الأقناء التي تعلق، (2) فرأى فيها حشفا، فقال:
__________
(1) رذالة كل شيء: أردؤه حين ينتقى جيده، ويبقي رديئه. وهو من رذالة الناس ورذالهم. (بضم الراء فيها جميعا) .
(2) قوله: "التي تعلق" مكانها بياض في المخطوطة. وقوله بعد: "فرأى فيها حشفا"، أي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم.(5/562)
ما هذا؟ = قال ابن جريج: سمعت عطاء يقول: علق إنسان حشفا في الأقناء التي تعلق بالمدينة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما هذا؟ بئسما علق هذا!! فنزلت:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تيمموا الخبيث من الحرام منه تنفقون، (1) .
وتدعوا أن تنفقوا الحلال الطيب.
* ذكر من قال ذلك:
6149 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد - وسألته عن قول الله عز وجل:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون"، - قال: الخبيث: الحرام، لا تتيممه تنفق منه، فإن الله عز وجل لا يقبله.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الآية هو التأويل الذي حكيناه عمن حكينا [عنه] من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، [لصحة إسناده] ، واتفاق أهل التأويل في ذلك= (2)
دون الذي قاله ابن زيد. (3) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولستم بآخذي الخبيث في حقوقكم، و"الهاء" في قوله:"بآخذيه" من ذكر الخبيث="إلا أن تغمضوا فيه"، يعني: إلا أن تتجافوا في أخذكم إياه عن بعض الواجب لكم من حقكم، فترخصوا فيه لأنفسكم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فيه تنفقون"، وهو خطأ بين.
(2) الزيادة بين الأقواس لا بد منها حتى يستقيم الكلام. (عنه) ساقطة من المخطوطة والمطبوعة.
أما الزيادة الثانية، فمكانها بياض في المخطوطة، فأغفله الطابع وساق الكلام سياقا واحدا
(3) في المخطوطة: "قاله ابن" وبعد ذلك بياض. والذي في المطبوعة هو الصواب.(5/563)
يقال منه:"أغمض فلان لفلان عن بعض حقه، فهو يغمض، ومن ذلك قول الطرماح بن حكيم:
لم يفتنا بالوتر قوم وللضيـ م رجال يرضون بالإغماض (1)
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: ولستم بآخذي الرديء من غرمائكم في واجب حقوقكم قبلهم، إلا عن إغماض منكم لهم في الواجب لكم عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
6150 - حدثنا عصام بن رواد، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا أبو بكر الهذلي، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة قال: سألت عليا عنه فقال:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: ولا يأخذ أحدكم هذا الرديء حتى يهضم له.
6151 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن أبي مالك، عن البراء بن عازب:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لو كان لرجل على رجل، فأعطاه ذلك لم يأخذه، إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه. (2) .
__________
(1) ديوانه: 86، من قصيدة مجد فيها قومه، وقبله:: إننا معشر شمائلنا الصبر، ... إذا الخوف مال بالأحفاض
نصر للذليل في ندوة الحي، ... مرائيب للثأي المنهاض
من يرم جمعهم يجدهم مر ... اجيح حماة للعزل الأحراض
الأحفاض: الإبل الصغار الضعاف، ويعنى الضعاف من الناس، لا يصبرون في حرب. مرائيب: من الرأب، وهو الإصلاح، مصلحون. والثأى: الفساد. والمنهاض: الذي فسد بعد صلاح فلا يرجى إصلاح إلا بمشقة. مراجيح: حلماء لا يستخفهم شيء. والأحراض: الضعاف الذين لا يقاتلون. والإغماض: التغاضي والمساهلة. يقول نحن أهل بأس وسطوة، فما أصاب منا أحد فنجا من انتقامنا، ولسنا كأقوام يرضون بالضيم، فيتغاضون عن إدراك تأثرهم ممن نال منهم.
(2) الأثر: 6151 -هو من تمام الأثر: 6141.(5/564)
6152 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لو كان لكم على أحد حق، فجاءكم بحق دون حقكم، لم تأخذوا بحساب الجيد حتى تنقصوه، فذلك قوله:"إلا أن تغمضوا فيه"، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفسها؟ (1) .
وهو قوله: (لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) . [سورة آل عمران: 92] .
6153 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" قال: لا تأخذونه من غرمائكم ولا في بيوعكم إلا بزيادة على الطيب في الكيل.
6154 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، وذلك أن رجالا كانوا يعطون زكاة أموالهم من التمر، فكانوا يعطون الحشف في الزكاة، فقال: لو كان بعضهم يطلب بعضا ثم قضاه، لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد أغمض عنه حقه.
6155 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" يقول: لو كان لك على رجل دين فقضاك أردأ مما كان لك عليه، هل كنت تأخذ ذلك منه إلا وأنت له كاره؟
6156 - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم"
__________
(1) في المطبوعة: "وأنفسها" وأثبت ما في المخطوطة. وهذا الأثر بنصه وتمامه في الدر المنثور 1: 346، وانظر التعليق على الأثر: 6129، وقوله: "وأنفسه" بضمير الإفراد.(5/565)
إلى قوله:"إلا أن تغمضوا فيه" قال: كانوا -حين أمر الله أن يؤدوا الزكاة- يجيء الرجل من المنافقين بأردإ طعام له من تمر وغيره، فكره الله ذلك وقال:"أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض"، يقول:"لستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لم يكن رجل منكم له حق على رجل فيعطيه دون حقه فيأخذه، إلا وهو يعلم أنه قد نقصه= فلا ترضوا لي ما لا ترضون لأنفسكم= فيأخذ شيئا، وهو مغمض عليه، أنقص من حقه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث - إذا اشتريتموه من أهله -بسعر الجيد، إلا بإغماض منهم لكم في ثمنه.
* ذكر من قال ذلك:
6157 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن عمران بن حدير، عن الحسن:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: لو وجدتموه في السوق يباع، ما أخذتموه حتى يهضم لكم من ثمنه.
6158 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: لستم بآخذي هذا الرديء بسعر هذا الطيب إلا أن يغمض لكم فيه.
* * *
وقال آخرون: معناه: ولستم بآخذي هذا الرديء الخبيث لو أهدي لكم، إلا أن تغمضوا فيه، فتأخذوه وأنتم له كارهون، على استحياء منكم ممن أهداه لكم.
* ذكر من قال ذلك:
6159 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: لو أهدي لكم ما قبلتموه إلا على استحياء من صاحبه، أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. (1) .
__________
(1) الأثر: 6159 -هو تمام الأثر السالف: 6139.(5/566)
6160 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، قال: زعم السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء نحوه= إلا أنه قال: إلا على استحياء من صاحبه، وغيظا أنه بعث إليك بما لم يكن له فيه حاجة. (1) .
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي هذا الرديء من حقكم إلا أن تغمضوا من حقكم.
* ذكر من قال ذلك:
6161 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن ابن معقل:"ولستم بآخذيه"، يقول: ولستم بآخذيه من حق هو لكم="إلا أن تغمضوا فيه"، يقول: أغمض لك من حقي.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولستم بآخذي الحرام إلا أن تغمضوا على ما فيه من الإثم عليكم في أخذه.
* ذكر من قال ذلك:
6162 - حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قوله:"ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه" -قال: يقول: لست آخذا ذلك الحرام حتى تغمض على ما فيه من الإثم = قال: وفي كلام العرب: أما والله لقد أخذه، ولقد أغمض على ما فيه" = وهو يعلم أنه حرام باطل.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل ذلك عندنا أن يقال: إن الله عز وجل حث عباده على الصدقة وأداء الزكاة من أموالهم، وفرضها عليهم فيها، (2) .
فصار ما فرض من ذلك في أموالهم، حقا لأهل سهمان الصدقة. ثم أمرهم تعالى ذكره أن
__________
(1) الأثر: 6160 -هو تمام الأثر السالف: 6140.
(2) "وفرضها عليهم" أي الزكاة. "فيها": في أموالهم.(5/567)
يخرجوا من الطيب- وهو الجيد من أموالهم- الطيب. (1) وذلك أن أهل السهمان شركاء أرباب الأموال في أموالهم، بما وجب لهم فيها من الصدقة بعد وجوبها.
فلا شك أن كل شريكين في مال فلكل واحد منهما بقدر ملكه، وليس لأحدهما منع شريكه من حقه من الملك الذي هو فيه شريكه، بإعطائه -بمقدار حقه منه- من غيره مما هو أردأ منه أو أخس. (2) فكذلك المزكي ماله، حرم الله عليه أن يعطي أهل السهمان= مما وجب لهم في ماله من الطيب الجيد من الحق، فصاروا فيه شركاء= (3) من الخبيث الرديء غيره، ويمنعهم ما هو لهم من حقوقهم في الطيب من ماله الجيد، كما لو كان مال رب المال رديئا كله غير جيد، فوجبت فيه الزكاة وصار أهل سهمان الصدقة فيه شركاء بما أوجب الله لهم فيه لم يكن عليه أن يعطيهم الطيب الجيد من غير ماله الذي منه حقهم.
فقال تبارك وتعالى لأرباب الأموال: زكوا من جيد أموالكم الجيد، ولا تيمموا الخبيث الرديء، تعطونه أهل سهمان الصدقة، وتمنعونهم الواجب لهم من الجيد الطيب في أموالكم، (4) ولستم بآخذي الرديء لأنفسكم مكان الجيد الواجب لكم قبل من وجب لكم عليه ذلك من شركائكم وغرمائكم وغيرهم، إلا عن إغماض منكم وهضم لهم وكراهة منكم لأخذه. يقول: ولا تأتوا من الفعل إلى من وجب له في أموالكم حق، ما لا ترضون من غيركم أن يأتيه إليكم في حقوقكم الواجبة لكم في أموالهم.
فأما إذا تطوع الرجل بصدقة غير مفروضة، فإني وإن كرهت له أن يعطي فيها إلا أجود ماله وأطيبه، لأن الله عز وجل أحق من تقرب إليه بأكرم الأموال
__________
(1) قوله: "الطيب" الثانية، مفعول"يخرجوا".
(2) في المطبوعة"أو أحسن"، وهو فاسد كل الفساد. والصواب من المخطوطة.
(3) سياق الجملة: أن يعطى أهل السهمان ... من الخبيث الرديء غيره.
(4) في المطبوعة: "وتمنعونهم الواجب ... "، والذي في المخطوطة صواب، معطوف على: "ولا تيمموا الخبيث".(5/568)
وأطيبها، والصدقة قربان المؤمن= فلست أحرم عليه أن يعطي فيها غير الجيد، لأن ما دون الجيد ربما كان أعم نفعا لكثرته، أو لعظم خطره= وأحسن موقعا من المسكين، وممن أعطيه قربة إلى الله عز وجل= من الجيد، لقلته أو لصغر خطره وقلة جدوى نفعه على من أعطيه. (1) .
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل العلم.
* ذكر من قال ذلك:
6163 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه"، قال: ذلك في الزكاة، الدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.
6164 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا سلمة بن علقمة، عن محمد بن سيرين، قال: سألت عبيدة عن ذلك، فقال: إنما ذلك في الزكاة، والدرهم الزائف أحب إلي من التمرة.
6165 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة عن هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه"، فقال عبيدة: إنما هذا في الواجب، ولا بأس أن يتطوع الرجل بالتمرة، والدرهم الزائف خير من التمرة.
__________
(1) سياق هذه الجملة: ربما كان أعم نفعا لكثرته ... وأحسن موقعا من المسكين ... من الجيد لقلته ...(5/569)
6166 - حدثني أبو السائب، قال: حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن ابن سيرين في قوله:"ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون" قال: إنما هذا في الزكاة المفروضة، فأما التطوع فلا بأس أن يتصدق الرجل بالدرهم الزائف، والدرهم الزائف خير من التمرة.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واعلموا أيها الناس أن الله عز وجل غني عن صدقاتكم وعن غيرها، (1) وإنما أمركم بها، وفرضها في أموالكم، رحمة منه لكم ليغني بها عائلكم، (2) .
ويقوي بها ضعيفكم، ويجزل لكم عليها في الآخرة مثوبتكم، لا من حاجة به فيها إليكم.
* * *
ويعني بقوله:"حميد"، أنه محمود عند خلقه بما أولاهم من نعمه، وبسط لهم من فضله. كما:-
6167 - حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزي، قال: حدثنا أبي، عن أسباط، عن السدي، عن عدي بن ثابت، عن البراء بن عازب في قوله:"والله غني حميد" عن صدقاتكم. (3) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير"غنى"فيما سلف من هذا الجزء 5: 521.
(2) العائل: الفقير. عال الرجل يعيل علية: افتقر.
(3) الأثر: 6167 -هو تمام الأثر السالف: 6139.(5/570)
الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)
القول في تأويل قوله: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك تعالى ذكره:"الشيطان يعدكم"، أيها الناس- بالصدقة وأدائكم الزكاة الواجبة عليكم في أموالكم (1) - أن تفتقروا="ويأمركم بالفحشاء"، يعني: ويأمركم بمعاصي الله عز وجل، وترك طاعته= (2) "والله يعدكم مغفرة منه" (3) يعني أن الله عز وجل يعدكم أيها المؤمنون، أن يستر عليكم فحشاءكم، بصفحه لكم عن عقوبتكم عليها، فيغفر لكم ذنوبكم بالصدقة التي تتصدقون="وفضلا" يعني: ويعدكم أن يخلف عليكم من صدقتكم، فيتفضل عليكم من عطاياه ويسبغ عليكم في أرزاقكم. (4) .
كما:-
6168 - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: اثنان من الله، واثنان من الشيطان:"الشيطان يعدكم الفقر"، يقول: لا تنفق مالك، وأمسكه عليك، فإنك تحتاج إليه= ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه"، على هذه المعاصي="وفضلا" في الرزق.
6169 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا"، يقول: مغفرة لفحشائكم، وفضلا لفقركم.
6170 - حدثنا هناد، قال: حدثنا أبو الأحوص، عن عطاء بن السائب،
__________
(1) قوله: "بالصدقة ... "، أي بسبب الصدقة، وهي جملة فاصلة، والسياق"يعدكم ... أن تفتقروا"، كما هو بين.
(2) انظر ما سلف في تفسير"الفحشاء" 3: 302.
(3) انظر تفسير"المغفرة"، فيما سلف من فهارس اللغة.
(4) انظر تفسير"الفضل" فيما سلف 2: 344 /ثم 5: 164.(5/571)
عن مرة، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن للشيطان لمة من ابن آدم، وللملك لمة: فأما لمة الشيطان، فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وأما لمة الملك، فإيعاد بالخير، وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك، فليعلم أنه من الله وليحمد الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان، ثم قرأ:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء". (1)
6171 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير بن سليمان، قال: حدثنا عمرو، عن عطاء بن السائب، عن مرة، عن عبد الله، قال: إن للإنسان من الملك لمة، ومن الشيطان لمة. فاللمة من الملك إيعاد بالخير، وتصديق بالحق، واللمة من الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. وتلا عبد الله:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا"= قال عمرو: وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال: إذا أحس أحدكم من لمة الملك شيئا فليحمد الله، وليسأله من فضله، وإذا أحس من لمة الشيطان شيئا، فليستغفر الله وليتعوذ من الشيطان. (2) .
6172 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص= أو عن مرة= قال: قال عبد الله: ألا إن للملك لمة وللشيطان لمة. فلمة الملك: إيعاد بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وذلكم بأن الله يقول: (3) .
"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم"، فإذا وجدتم من هذه شيئا فاحمدوا الله عليه، وإذا وجدتم من هذه شيئا فتعوذوا بالله من الشيطان. (4) .
__________
(1) الحديث: 6170 -أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الكوفي الحافظ. سبق توثيقه: 20158.
عطاء بن السائب: مضى في: 158، 4433 أنه تغير في آخر عمره، وأن من سمع منه قديما فحديثه صحيح. والظاهر من مجموع كلامهم أن اختلاطه كان حين قدم البصرة. قال أبو حاتم: "في حديث البصريين عنه تخاليط كثيرة، لأنه قدم عليهم في آخر عمره". وعطاء كوفي، والراوي عنه هنا أبو الأحوص كوفي أيضًا. فالظاهر أنه سمع منه قبل الاختلاط.
مرة: هو مرة الطيب، وهو ابن شراحيل الهمداني الكوفي. مضت ترجمته: 2521.
عبد الله: هو ابن مسعود.
والحديث رواه الترمذي 4: 77 -78، عن هناد -وهو ابن السري، شيخ الطبري هنا -بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث حسن غريب [وفي بعض نسخه: حسن صحيح غريب] . وهو حديث أبي الأحوص. لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث أبي الأحوص".
وذكره ابن كثير 2: 44، من رواية ابن أبي حاتم، عن أبي زرعة، عن هناد. ووقع في إسناده هناك تخليط من الناسخين. ثم أشار إلى بعض رواياته مرفوعا وموقوفا.
وذكر ابن كثير أنه رواه أيضًا النسائي في كتاب التفسير من سننه، عن هناد بن السري. وأنه رواه ابن حبان في صحيحه، عن أبي يعلي الموصلي، عن هناد. وكتاب التفسير في النسائي إنما هو في السنن الكبرى.
وذكره السيوطي 1: 348، وزاد نسبته لابن المنذر، والبيهقي في الشعب.
وسيأتي بنحوه، موقونا على ابن مسعود: 6171، 6172، 6174، 6176، من رواية عطاء، عن مرة، عن مسعود. ويأتي موقونا أيضًا: 6173، من رواية الزهري، عن عبيد الله، عن ابن مسعود. و: 6175، من رواية المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، عن ابن مسعود.
وكأن الترمذي -وتبعه ابن كثير -يريدان الإشارة إلى تعليل هذا الإسناد المرفوع، برواية الحديث موقوفا. ولكن هذه علة غير قادحة بعد صحة الإسناد. فإن الرفع زيادة من ثقة، فهي مقبولة.
وأيضًا: فإن هذا الحديث مما يعلم بالرأي، ولا يدخله القياس، فلا يعلم إلا بالوحي من المعصوم صلى الله عليه وسلم. فالروايات الموقوفة لفظا، هي مرفوعة حكما.
(2) الحديث: 6171 -الحكم بن بشير بن سلمان: مضت ترجمته في: 1497. ووقع اسم جده في المطبوعة هنا"سليمان"، وهو خطأ.
عمرو: هو ابن قيس الملائي. مضت ترجمته في: 886.
والحديث في معنى ما قبله. وهو هنا موقوف لفظا، ولكنه مرفوع حكما، كما ذكرنا. ولكن قول عمرو بن قيس في آخره: "وسمعنا في هذا الحديث أنه كان يقال ... " -يكون بلاغا منقطعا في هذا الإسناد، وأن كان صحيحا في ذاته بالأسانيد الأخر.
(3) في المطبوعة: "وذلكم بأن الله ... " بزيادة واو، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) الحديث: 6172 -أبو الأحوص -شيخ عطاء بن السائب: هو عوف بن مالك ابن نضلة، وهو تابعي ثقة معروف، وثقه ابن معين وغيره.
وتردد عطاء بن السائب في أنه عن"أبي الأحوص" هذا، أو عن"مرة الطيب" -لا يؤثر في صحة الحديث، فأنه انتقال من ثقة إلى ثقة. ولعله مما أخطأ فيه عطاء، لأن ابن علية بصري، فيكون ممن سمع منه بعد تغيره. وقد نص على ذلك الدار قطي، كما في ترجمة عطاء في التهذيب.
ولكن ذكر ابن كثير 2: 44 أنه رواه"مسعر، عن عطاء بن السائب، عن أبي الأحوص عوف بن مالك بن نضلة، عن ابن مسعود. فجعله من قوله. فهذا يثبت حفظ رواية عطاء إياه عن أبي الأحوص أيضًا. لأن مسعر بن كدام كوفي قديم، من طبقة شعبة والثوري، فهو ممن سمع من عطاء قبل تغيره.
ولم يشر ابن كثير إلى شيء من الروايات الموقوفة لهذا الحديث، إلا إلى رواية مسعر وحده. والروايات الموقوفة بين يديه في الطبري ستة كما ترى.(5/572)
6173 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن عبد الله بن مسعود في قوله:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء"، قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة. فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجدها فليحمد الله؛ ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، فمن وجدها فليستعذ بالله. (1) .
6174 - حدثني المثنى بن إبراهيم، قال: حدثنا حجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد بن سلمة، قال: أخبرنا عطاء بن السائب، عن مرة الهمداني أن ابن مسعود قال: إن للملك لمة، وللشيطان لمة. فلمة الملك: إيعاده بالخير وتصديق بالحق، ولمة الشيطان: إيعاد بالشر وتكذيب بالحق. (2) فمن أحس من لمة الملك شيئا فليحمد الله عليه، ومن أحس من لمة الشيطان شيئا فليتعوذ بالله منه. ثم تلا هذه الآية:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم". (3) .
6175 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن فطر، عن المسيب بن رافع، عن عامر بن عبدة، عن عبد الله، بنحوه. (4) .
__________
(1) الحديث: 6173 -وهذا إسناد صحيح آخر للحديث، من وجه آخر، يؤيد رواية عطاء بن السائب. وهو وإن كان موقوفا لفظا فهو مرفوع حكما، كما قلنا من قبل.
(2) في المطبوعة: "إيعاد بالخير ... إيعاد بالشر" بغير إضافتها إلى الضمير. وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب. وصواب أيضًا يقرآا جميعا"ايعادةٌ"، على معنى المرة من"الإيعاد".
(3) الحديث: 6174 -وهذا إسناد صحيح. لأن حماد بن سلمة سمع من عطاء قبل تغيره، كما نص عليه يعقوب بن سفيان وابن الجارود، في نقل التهذيب عنهما 7: 207.
(4) الحديث: 6175 -فطر -بكسر الفاء وسكون الطاء المهملة وآخره راء: هو ابن خليفة الكوفي، وهو ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما.
المسيب بن رافع الكاهلي الكوفي: تابعي ثقة، مضى في: 128.
عامر بن عبدة -بفتح العين المهملة والباء الموحدة -البجلي، أبو إياس الكوفي: تابعي ثقة، والكني للدولابي 1: 115، والمشتبه للذهبي، ص: 339.
وهذا إسناد ثالث للحديث صحيح، من وجه آخر، يؤيد روايات عطاء عن مرة، وأبي الأحوص عن ابن مسعود، ورواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن ابن مسعود.(5/574)
6176 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن عطاء، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله بن مسعود، قال: إن للشيطان لمة، وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فتكذيب بالحق وإيعاد بالشر، وأما لمة الملك: فإيعاد بالخير وتصديق بالحق. فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله عليه. ومن وجد الأخرى فليستعذ من الشيطان. ثم قرأ:"الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا". (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"والله واسع" الفضل الذي يعدكم أن يعطيكموه من فضله وسعة خزائنه= (2) "عليم" بنفقاتكم وصدقاتكم التي تنفقون وتصدقون بها، يحصيها لكم حتى يجازيكم بها عند مقدمكم عليه في آخرتكم.
* * *
__________
(1) الحديث: 6176 -وهذا إسناد حسن، لأن سماع جرير -وهو ابن عبد الحميد الضبي -من عطاء كان بعد تغيره ولكنه يرتفع إلى درجة الصحة بالمتابعات السابقة الصحيحة.
(2) انظر تفسير"واسع عليم"فيما سلف 2: 537 /ثم 5: 516.(5/575)
يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
القول في تأويل قوله: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده، ومن يؤت الإصابة في ذلك منهم، فقد أوتي خيرا كثيرا.
* * *
واختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم،"الحكمة" التي ذكرها الله في هذا الموضع، هي: القرآن والفقه به.
* ذكر من قال ذلك:
6177 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) ، يعني: المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، ومقدمه ومؤخره، وحلاله وحرامه، وأمثاله.
6178 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء"، قال: الحكمة: القرآن، والفقه في القرآن.
6179 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"، والحكمة: الفقه في القرآن.
6180 - حدثنا محمد بن عبد الله الهلالي، قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا مهدي بن ميمون، قال: حدثنا شعيب بن الحبحاب، عن أبي العالية:(5/576)
"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا"، قال: الكتاب والفهم به. (1) .
6181 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء" الآية، قال: ليست بالنبوة، ولكنه القرآن والعلم والفقه.
6182 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس: الفقه في القرآن.
* * *
وقال آخرون: معنى"الحكمة"، الإصابة في القول والفعل.
* ذكر من قال ذلك:
6183 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت مجاهدا قال:"ومن يؤت الحكمة"، قال: الإصابة.
6184 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"يؤتي الحكمة من يشاء"، قال: يؤتي إصابته من يشاء.
6185 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يؤتي الحكمة من يشاء"، قال: الكتاب، يؤتي إصابته من يشاء.
* * *
__________
(1) الأثر: 6180 -"محمد بن عبد الله الهلالي" هو: محمد بن عبد الله بن عبيد بن عقيل الهلالي، أبو مسعود البصري، روي عن جده عبيد بن عقيل، وعثمان بن عمر بن فارس، وعمرو ابن عاصم الكلابى وغيرهم، وروى عنه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهم. قال النسائي: "لا بأس به". وقال مسلمة: "ثقة". "مسلم بن إبراهيم" الأزدي الفراهيدي، أبو عمرو البصري الحافظ. قال ابن معين: "ثقة مأمون". وكان يقول: "ما أتيت حلالا ولا حراما قط"، وقال أبو حاتم: "كان لا يحتاج إليه". وكان من المتقنين. مات سنة 222. "مهدي بن ميمون" الأزدي المعولي. كان ثقة وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 171. "شعيب بن الحبحاب" و"المعولي" بكسر الميم وسكون العين المهملة وفتح الواو.
وكان في المطبوعة: "والفهم فيه". وهي صواب في المعنى، جيد في العربية وأثبت ما في المخطوطة، وهو أيضًا صواب جيد.(5/577)
وقال آخرون: هو العلم بالدين.
* ذكر من قال ذلك:
6186 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"يؤتي الحكمة من يشاء" العقل في الدين، وقرأ:"ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا".
6187 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الحكمة: العقل.
6188 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قلت لمالك: وما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه فيه، والاتباع له.
* * *
وقال آخرون:"الحكمة" الفهم.
* ذكر من قال ذلك:
6190 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا سفيان، عن أبي حمزة، عن إبراهيم، قال: الحكمة: هي الفهم. (1) .
* * *
وقال آخرون: هي الخشية.
* ذكر من قال ذلك:
6191 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة" الآية، قال:"الحكمة" الخشية، لأن رأس كل شيء خشية الله. وقرأ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) . [سورة فاطر: 28] .
* * *
__________
(1) الأثر: 6190 -"أبو حمزة" هو أبو حمزة الأعور القصاب الكوفي، وهو صاحب إبراهيم النخعي. قال البخاري: "ليس بذاك". وقال: "ضعيف ذاهب الحديث". قال أبو موسى: "ما سمعت يحيى ولا عبد الرحمن يحدثان عن: سفيان، عن أبي حمزة، قط". وقال ابن عدي: "وأحاديثه خاصة عن إبراهيم، مما لا يتابع عليه". مترجم في التهذيب.(5/578)
وقال آخرون: هي النبوة.
* ذكر من قال ذلك:
6192 - حدثني موسى قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة"، الآية، قال: الحكمة: هي النبوة.
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى"الحكمة"- وأنها مأخوذة من"الحكم" وفصل القضاء، وأنها الإصابة - بما دل على صحته، فأغنى ذلك عن تكريره في هذا الموضع. (1) .
* * *
وإذا كان ذلك كذلك معناه، (2) كان جميع الأقوال التي قالها القائلون الذين ذكرنا قولهم في ذلك داخلا فيما قلنا من ذلك، لأن الإصابة في الأمور إنما تكون عن فهم بها وعلم ومعرفة. وإذا كان ذلك كذلك، كان المصيب عن فهم منه بمواضع الصواب في أموره مفهما خاشيا لله فقيها عالما، (3) .
وكانت النبوة من أقسامه. لأن الأنبياء مسددون مفهمون، وموفقون لإصابة الصواب في بعض الأمور،"والنبوة" بعض معاني"الحكمة".
* * *
فتأويل الكلام: يؤتي الله إصابة الصواب في القول والفعل من يشاء، ومن يؤته الله ذلك فقد آتاه خيرا كثيرا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الحكمة"فيما سلف 3: 87، 88، 211 /ثم 5: 15، 16، 371.
(2) في المطبوعة: "فإذا كان ذلك ... " بالفاء، ولا معنى لتغيير ما هو في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فهما خاشيا ... ". وفي المخطوطة: "ففهما"، والصواب قراءتها كما أثبت، بدليل معناه الذي أراده، من إدخال الأنبياء في معنى ذلك، وبدليل قوله بعد: "مفهمون ... ".(5/579)
القول في تأويل قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُولُو الألْبَابِ (269) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وما يتعظ بما وعظ به ربه في هذه الآيات = التي وعظ فيها المنفقين أموالهم بما وعظهم به غيرهم= (1) فيها وفي غيرها من آي كتابه= (2) فيذكر وعده ووعيده فيها، فينزجر عما زجره عنه ربه، ويطيعه فيما أمره به="إلا أولوا الألباب"، يعني: إلا أولوا العقول، الذين عقلوا عن الله عز وجل أمره ونهيه. (3) .
فأخبر جل ثناؤه أن المواعظ غير نافعة إلا أولي الحجا والحلوم، وأن الذكرى غير ناهية إلا أهل النهي والعقول.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بما وعظ به غيرهم"، وهو غير مستقيم تمام الاستقامة في السياق. وفي المخطوطة: "بما وعظهم به غيرهم"، والصواب أن تزاد"الواو" قبل"غيرهم"، ليستقيم السياق.
(2) سياق الجملة: "وما يتعظ بما وعظه به ربه في هذه الآيات ... فيذكر وعده ووعيده ... " وما بينهما فصل.
(3) انظر تفسير"الألباب"فيما سلف 3: 383 / 4: 162.(5/580)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270)
القول في تأويل قوله: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأي نفقة أنفقتم- يعني أي صدقة تصدقتم- (1) أو أي نذر نذرتم= يعني"بالنذر"، ما أوجبه المرء على نفسه تبررا في طاعة الله، وتقربا به إليه: من صدقة أو عمل خير="فإن الله يعلمه"،
__________
(1) انظر تفسير"النفقة" فيما سلف 5: 555.(5/580)
أي أن جميع ذلك بعلم الله، (1) لا يعزب عنه منه شيء، ولا يخفى عليه منه قليل ولا كثير، ولكنه يحصيه أيها الناس عليكم حتى يجازيكم جميعكم على جميع ذلك.
فمن كانت نفقته منكم وصدقته ونذره ابتغاء مرضاة الله وتثبيتا من نفسه، جازاه بالذي وعده من التضعيف، ومن كانت نفقته وصدقته رئاء الناس ونذوره للشيطان، جازاه بالذي أوعده، من العقاب وأليم العذاب، كالذي:-
6193 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وما أنفقتم من نفقة أو نذرتم من نذر فإن الله يعلمه"، ويحصيه.
6194 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
ثم أوعد جل ثناؤه من كانت نفقته رياء ونذوره طاعة للشيطان فقال:"وما للظالمين من أنصار"، يعني: وما لمن أنفق ماله رئاء الناس وفي معصية الله، وكانت نذوره للشيطان وفي طاعته="من أنصار"، وهم جمع"نصير"، كما"الأشراف" جمع"شريف". (2) ويعني بقوله:"من أنصار"، من ينصرهم من الله يوم القيامة، فيدفع عنهم عقابه يومئذ بقوة وشدة بطش، ولا بفدية.
* * *
وقد دللنا على أن"الظالم" هو الواضع للشيء في غير موضعه. (3) .
* * *
وإنما سمى الله المنفق رياء الناس، والناذر في غير طاعته، ظالما، لوضعه إنفاق ماله في غير موضعه، ونذره في غير ماله وضعه فيه، فكان ذلك ظلمه.
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "فإن الله يعلم"، والصواب هنا ما في المطبوعة. ثم في المطبوعة: "جميع ذلك بعلم الله"، وأثبت الصواب من المخطوطة.
(2) انظر معنى"النصر" و"النصير" فيما سلف 2: 489، 564.
(3) انظر تفسير"الظلم" فيما سلف 1: 523، 524 /2: 369، 519/ 4: 584، وغيرها من المواضع، اطلبها في فهرس اللغة.(5/581)
إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فكيف قال:"فإن الله يعلمه"، ولم يقل:"يعلمهما"، وقد ذكر النذر والنفقة.
قيل: إنما قال:"فإن الله يعلمه"، لأنه أراد: فإن الله يعلم ما أنفقتم أو نذرتم، فلذلك وحد الكناية. (1) .
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"إن تبدوا الصدقات"، إن تعلنوا الصدقات فتعطوها من تصدقتم بها عليه="فنعما هي"، يقول: فنعم الشيء هي="وإن تخفوها"، يقول: وإن تستروها فلم تعلنوها= (2) "وتؤتوها الفقراء"، يعني: وتعطوها الفقراء في السر= (3) "فهو خير لكم"، يقول: فإخفاؤكم إياها خير لكم من إعلانها. وذلك في صدقة التطوع، كما:-
6195 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، كل مقبول إذا كانت النية صادقة، وصدقة السر أفضل. وذكر لنا أن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
6196 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، قال: كل مقبول إذا كانت النية صادقة،
__________
(1) الكناية، والمكني: هو الضمير، في اصطلاح الكوفيين والبغداديين وغيرهم.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "فلن تعلنوها"، وهو فاسد السياق، والصواب ما أثبت،
(3) انظر معنى"الإيتاء"، في مادة "أتى" من فهارس اللغة فيما سلف.(5/582)
والصدقة في السر أفضل. وكان يقول: إن الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار.
6197 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، فجعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفا، وجعل صدقة الفريضة: علانيتها أفضل من سرها، يقال بخمسة وعشرين ضعفا، وكذلك جميع الفرائض والنوافل في الأشياء كلها. (1) .
6198 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي، قال: حدثنا عبد الله بن عثمان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: سمعت سفيان يقول في قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم"، قال: يقول: هو سوى الزكاة. (2) .
* * *
وقال آخرون: إنما عنى الله عز وجل بقوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي"، إن تبدوا الصدقات على أهل الكتابين من اليهود والنصارى فنعما هي، وإن تخفوها وتؤتوها فقراءهم فهو خير لكم. قالوا: وأما ما أعطى فقراء المسلمين من زكاة وصدقة تطوع، فإخفاؤه أفضل من علانيته.
* ذكر من قال ذلك:
6199 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: ثني عبد الرحمن بن شريح، أنه سمع يزيد بن أبي حبيب يقول: إنما نزلت هذه الآية: (3) " إن تبدوا الصدقات فنعما هي"، في الصدقة على اليهود والنصارى. (4) .
__________
(1) في المطبوعة: "في الأشياء كلها"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر 6198 -مضى رجال هذا الإسناد برقم: 5000، 5009، ويأتي برقم: 6200.
(3) في المطبوعة: "هذه آية" وهو خطأ، والصواب من المخطوطة.
(4) الأثر: 6199 -"عبد الرحمن بن شريح بن عبد الله بن محمود بن المعافري"، أبو شريح الاسكندراني. قال أحمد: ثقة: توفي بالإسكندرية سنة 167، وكانت له عبادة وفضل.
مترجم في التهذيب.(5/583)
6200 - حدثني عبد الله بن محمد الحنفي، قال: أخبرنا عبد الله بن عثمان، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا ابن لهيعة، قال: كان يزيد بن أبي حبيب يأمر بقسم الزكاة في السر= قال عبد الله: أحب أن تعطى في العلانية= يعني الزكاة.
* * *
قال أبو جعفر: ولم يخصص الله من قوله:"إن تبدوا الصدقات فنعما هي" [شيئا دون شيء] ، فذلك على العموم إلا ما كان من زكاة واجبة، (1) فإن الواجب من الفرائض قد أجمع الجميع على أن الفضل في إعلانه وإظهاره سوى الزكاة التي ذكرنا اختلاف المختلفين فيها مع إجماع جميعهم على أنها واجبة، فحكمها في أن الفضل في أدائها علانية، حكم سائر الفرائض غيرها.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف القرأة في قراءة ذلك.
فروي عن ابن عباس أنه كان يقرؤه: (وتكفر عنكم) بالتاء.
ومن قرأه كذلك. فإنه يعني به: وتكفر الصدقات عنكم من سيئاتكم.
* * *
وقرأ آخرون: (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ) بالياء، بمعنى: ويكفر الله عنكم بصدقاتكم، على ما ذكر في الآية من سيئاتكم.
* * *
__________
(1) هكذا جاءت الجملة في المخطوطة والمطبوعة، فزدت ما بين القوسين لتستقيم العبارة بعض الاستقامة، ولا أشك أنه كان في الكلام سقط من ناسخ، فأتمته بأقل الألفاظ دلالة على المعنى.
وقد مضى كثير من سهو الناسخ في القسم من التفسير، وسيأتي في هذا القسم من التفسير، وسيأتي بعد قليل دليل على ذلك في رقم: 6209.(5/584)
وقرأ ذلك بعد عامة قراء أهل المدينة والكوفة والبصرة، (ونكفر عنكم) بالنون وجزم الحرف، يعني: وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء نكفر عنكم من سيئاتكم= بمعنى: مجازاة الله عز وجل مخفي الصدقة بتكفير بعض سيئاته بصدقته التي أخفاها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءات في ذلك عندنا بالصواب قراءة من قرأ: (ونكفر عنكم) بالنون وجزم الحرف، على معنى الخبر من الله عن نفسه أنه يجازي المخفي صدقته من التطوع ابتغاء وجهه من صدقته، بتكفير سيئاته. وإذا قرئ كذلك، فهو مجزوم على موضع"الفاء" في قوله:"فهو خير لكم". لأن"الفاء" هنالك حلت محل جواب الجزاء.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف اخترت الجزم على النسق على موضع" الفاء"، وتركت اختيار نسقه على ما بعد الفاء، وقد علمت أن الأفصح من الكلام في النسق على جواب الجزاء الرفع، وإنما الجزم تجويزه؟ (1) .
قيل: اخترنا ذلك ليؤذن بجزمه أن التكفير- أعني تكفير الله من سيئات المصدق= لا محالة داخل فيما وعد الله المصدق أن يجازيه به على صدقته. لأن ذلك إذا جزم، مؤذن بما قلنا لا محالة، ولو رفع كان قد يحتمل أن يكون داخلا فيما وعده الله أن يجازيه به، وأن يكون خبرا مستأنفا أنه يكفر من سيئات عباده المؤمنين، على غير المجازاة لهم بذلك على صدقاتهم، لأن ما بعد"الفاء" في جواب الجزاء استئناف، فالمعطوف على الخبر المستأنف في حكم المعطوف عليه، في أنه غير داخل في الجزاء، ولذلك من العلة، اخترنا جزم"نكفر" عطفا به على موضع
__________
(1) في المطبوعة: "تجويز" بغير إضافة، وأثبت ما في المخطوطة.(5/585)
الفاء من قوله:"فهو خير لكم" وقراءته بالنون. (1) .
* * *
فإن قال قائل: وما وجه دخول"من" في قوله:"ونكفر عنكم من سيئاتكم" قيل: وجه دخولها في ذلك بمعنى: ونكفر عنكم من سيئاتكم ما نشاء تكفيره منها دون جميعها، ليكون العباد على وجل من الله فلا يتكلوا على وعده ما وعد على الصدقات التي يخفيها المتصدق فيجترئوا على حدوده ومعاصيه.
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: معنى"من" الإسقاط من هذا الموضع، (2) ويتأول معنى ذلك: ونكفر عنكم سيئاتكم.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"والله بما تعملون" في صدقاتكم، من إخفائها، وإعلان وإسرار بها وجهار، (3) وفي غير ذلك من أعمالكم="خبير" يعني بذلك ذو خبرة وعلم، (4) لا يخفى عليه شيء من ذلك، فهو بجميعه محيط، ولكله محص على أهله، حتى يوفيهم ثواب جميعه، وجزاء قليله وكثيره.
* * *
__________
(1) هذا من دقيق نظر أبي جعفر في معاني التأويل، ووجوده اختيار القراءات. ولو قد وصلنا كتابه في القراءات، الذي ذكره في الجزء الأول: 148، وذكر فيه اختياره من القراءة، والعلل الموجبة صحة ما اختاره - لجاءنا كتاب لطيف المداخل والمخارج، فيما نستظهر.
(2) "الإسقاط" يعنى به: الزيادة، والحذف، وهو الذي يسمى أيضًا"صلة"، كما مضى مرارا، واطلبه في فهرس المصطلحات.
(3) في المطبوعة: "وإجهار"، والصواب من المخطوطة.
(4) انظر تفسير"خبير"فيما سلف 1: 496 /ثم 5: 94.(5/586)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272)
القول في تأويل قوله عز وجل: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلأنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ليس عليك يا محمد هدى المشركين إلى الإسلام، فتمنعهم صدقة التطوع، ولا تعطيهم منها ليدخلوا في الإسلام حاجة منهم إليها، ولكن الله هو يهدي من يشاء من خلقه إلى الإسلام فيوفقهم له، فلا تمنعهم الصدقة، كما:-
6201 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن شعبة، قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يتصدق على المشركين، فنزلت:"وما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله"، فتصدق عليهم.
6202 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو داود، عن سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لقراباتهم من المشركين، فنزلت:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء". (1) .
6203 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن سفيان، عن رجل،
__________
(1) الأثر: 6202 -"جعفر بن إياس"، هو ابن أبي وحشية اليشكري، أبو بشر الواسطي. ثقة، وهو من أثبت الناس في سعيد بن جبير. واختلف في سنة وفاته بين سنة 123 وسنة: 131. مترجم في التهذيب. وروي الأثر ابن كثير في تفسيره 2: 49 عن أبي عبد الرحمن النسائي بإسناده، وقال: وكذا رواه أبو حذيفة، وابن المبارك، وأبو أحمد الزبيري، وأبو داود الحضرمي، عن سفيان -وهو الثوري - به". ولم ينسبه لأبي جعفر، وهذا دليل على ما قدمته في تصدير الأجزاء السالفة أن ابن كثير وغيره، قد أقلوا النقل عن أبي جعفر بعد الجزء الأول من تفسيره.
"رضخ له من ماله يرضخ رضخا، ورضخ له من ماله رضيخة": أعطاه عطية مقاربة، بين القليل والكثير.(5/587)
عن سعيد بن جبير، قال: كانوا يتقون أن يرضخوا لقراباتهم من المشركين، حتى نزلت:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء".
6204 - حدثنا محمد بن بشار وأحمد بن إسحاق، قالا حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يرضخون لأنسبائهم من المشركين، فنزلت:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء" فرخص لهم.
6205 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن الأعمش، عن جعفر بن إياس، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: كان أناس من الأنصار لهم أنسباء وقرابة من قريظة والنضير، وكانوا يتقون أن يتصدقوا عليهم، ويريدونهم أن يسلموا، فنزلت:"ليس عليك هداهم ... " الآية.
6206 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، وذكر لنا أن رجالا من أصحاب نبي الله قالوا: أنتصدق على من ليس من أهل ديننا؟ فأنزل الله في ذلك القرآن:"ليس عليك هداهم".
6207 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء"، قال: كان الرجل من المسلمين إذا كان بينه وبين الرجل من المشركين قرابة وهو محتاج، فلا يتصدق عليه، يقول: ليس من أهل ديني!! فأنزل الله عز وجل:"ليس عليك هداهم" الآية.
6208 - حدثني موسى، قال: (1) حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن
__________
(1) الأثر: 6208 -في المطبوعة والمخطوطة: "حدثنا محمد، قال حدثنا عمرو ... "، والصواب"موسى" وهو موسى بن هارون، عن عمرو بن حماد" وهو إسناد دائر من أول التفسير. وسيأتي هذا الأثر نفسه، وتتمته برقم: 6211، وبإسناده على صوابه. وقد مضى بيان أخي السيد أحمد عن هذا الإسناد في الأثر رقم: 168.(5/588)
السدي قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء، وما تنفقوا من خير فلأنفسكم"، أما"ليس عليك هداهم"، فيعني المشركين، وأما"النفقة" فبين أهلها.
6209 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن سعيد بن جبير قال: كانوا يتصدقون [على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا تتصدقوا إلا على أهل دينكم. فنزلت: هذه الآية، مبيحة للصدقة على من ليس من دين الإسلام] . (1) .
* * *
..........................................................................
..........................................................................
* * *
كما:-
6210 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"يوف إليكم وأنتم لا تظلمون"، قال: هو مردود عليك، فمالك ولهذا تؤذيه وتمن عليه؟ إنما نفقتك لنفسك وابتغاء وجه الله، والله يجزيك. (2) .
* * *
__________
(1) الأثر: 6209 -كان الكلام مبتورا في الموضع من المخطوطة والمطبوعة، ولكن الناسخ ساقه سياقا واحدا هكذا: "كانوا يتصدقون، كما حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب ... " وقد أشرت في ص: 584، التعليق: وغيره من تعليقاتي السالفة، إلى ما وقع فيه الناسخ من الغفلة والسهو.
وقد زدت ما بين القوسين مما رواه القرطبي في تفسيره 3: 337، قال روي سعيد بن جبير مرسلا عن النبي صلى الله عليه وسلم في سبب نزول هذه الآية: "أن المسلمين كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة. . . " إلى آخر ما نقلت. فرجحت أن هذا الأثر الساقط من هذا الموضع، فأثبته بنصه من القرطبي، ولكن بقى صدر الكلام الآتي مبتورا، فوضعت نقطا مكان هذا البتر.
(2) الأثر: 6210 -ما قبل هذا الأثر بتر لا أستطيع أن أقدر مبلغه. وأخرج الأثر السيوطي في الدر المنثور 1: 357 -358.(5/589)
لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273)
القول في تأويل قوله: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) }
قال أبو جعفر: أما قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، فبيان من الله عز وجل عن سبيل النفقة ووجهها. ومعنى الكلام: وما تنفقوا من خير فلأنفسكم تنفقون للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله.
"واللام" التي في"الفقراء" مردودة على موضع"اللام" في"فلأنفسكم" كأنه قال:"وما تنفقوا من خير" - يعني به: وما تتصدقوا به من مال فللفقراء الذين أحصروا في سبيل الله. فلما اعترض في الكلام بقوله:"فلأنفسكم"، فأدخل"الفاء" التي هي جواب الجزاء فيه، تركت إعادتها في قوله:"للفقراء"، إذ كان الكلام مفهوما معناه، كما:-
6211 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء وما تنفقوا من خير فلأنفسكم"، أما:"ليس عليك هداهم"، فيعني المشركين. وأما"النفقة" فبين أهلها، فقال:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله". (1) .
* * *
وقيل: إن هؤلاء الفقراء الذين ذكرهم الله في هذه الآية، هم فقراء المهاجرين عامة دون غيرهم من الفقراء.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 6211- انظر الأثر السالف رقم: 6208 والتعليق عليه.(5/590)
6212 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، مهاجري قريش بالمدينة مع النبي صلى الله عليه وسلم، أمر بالصدقة عليهم.
6213 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" الآية، قال: هم فقراء المهاجرين بالمدينة.
6214 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدى:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: فقراء المهاجرين.
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: الذين جَعلهم جهادُهم عدوَّهم يُحْصِرون أنفسَهم فيحبسونها عن التصرُّف فلا يستطيعون تصرّفًا. (1) .
* * *
وقد دللنا فيما مضى قبلُ على أن معنى"الإحصار"، تصيير الرجل المحصَر بمرضه أو فاقته أو جهاده عدوَّه، وغير ذلك من علله، إلى حالة يحبس نفسَه فيها عن التصرُّف في أسبابه، بما فيه الكفاية فيما مضى قبل. (2) .
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، (3) .
فقال بعضهم: في ذلك بنحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) التصرف: الكسب. يقال "فلان يصرف لعياله، ويتصرف لهم، ويصطرف"، أي يكتسب لهم. وهو من الصرف والتصرف: وهو التقلب والحيلة.
(2) انظر ما سلف 4: 21 -26.
(3) في المخطوطة: "وقال: اختلف أهل التأويل ... ". وهما سواء.(5/591)
6215 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: حَصَروا أنفسهم في سبيل الله للغزو.
6216 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، قال: كانت الأرض كلُّها كفرًا، لا يستطيع أحدٌ أن يخرج يبتغي من فضل الله، إذا خرج خرج في كُفر= وقيل: كانت الأرضُ كلها حربًا على أهل هذا البلد، وكانوا لا يتوجَّهون جهة إلا لهم فيها عدوّ، فقال الله عز وجل:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله" الآية، كانوا ههنا في سبيل الله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: الذين أحصرهم المشركون فمنعوهم التصرُّف.
* ذكر من قال ذلك:
6217 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله"، حصرهم المشركون في المدينة.
* * *
قال أبو جعفر: ولو كان تأويل الآية على ما تأوله السدّيّ، لكان الكلام: للفقراء الذين حُصروا في سبيل الله، ولكنه"أحصِروا"، فدلّ ذلك على أن خوفهم من العدوّ الذي صيَّر هؤلاء الفقراء إلى الحال التي حَبَسوا -وهم في سبيل الله- أنفسَهم، لا أنّ العدوَّ هم كانوا الحابِسِيهم.
وإنما يقال لمن حبسه العدوّ:"حصره العدوّ"، وإذا كان الرّجل المحبَّس من خوف العدوّ، قيل:"أحصره خوفُ العدّو". (1) .
* * *
__________
(1) انظر تفضيل ذلك فيما سلف 4: 21 -26.(5/592)
القول في تأويل قوله: {لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأرْضِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يستطيعون تقلُّبًا في الأرض، وسفرًا في البلاد، ابتغاءَ المعاش وطَلبَ المكاسب، (1) فيستغنوا عن الصدقات، رهبةَ العدوّ وخوفًا على أنفسهم منهم. كما:-
6218 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض" حبسوا أنفسهم في سبيل الله للعدوّ، فلا يستطيعون تجارةً.
6219 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض"، يعني التجارة.
6220 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد قوله:"لا يستطيعون ضربًا في الأرض"، كان أحدهم لا يستطيع أن يخرج يبتغي من فَضْل الله.
* * *
القول في تأويل قوله: {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك:"يحسبهم الجاهل" بأمرهم وحالهم="أغنياء" من تعففهم عن المسألة، وتركهم التعرض لما في أيدي الناس، صبرًا منهم على البأساء والضراء. كما:-
6221 - حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) في المخطوطة: "المكاسر"، وهو دليل مبين عن غفلة الناسخ وعجلته، كما أسلفت مرارًا كثيرة.(5/593)
قوله:"يحسبهم الجاهل أغنياء"، يقول: يحسبهم الجاهل بأمرهم أغنياء من التعفف. (1) .
* * *
ويعني بقوله:"منَ التعفف"، من تَرْك مسألة الناس.
* * *
وهو"التفعُّل" من"العفة" عن الشيء، والعفة عن الشيء، تركه، كما قال رؤبة:
* فَعَفَّ عَنْ أسْرَارِهَا بَعْدَ العَسَقْ* (2)
يعني بَرئ وتجنَّبَ.
* * *
القول في تأويل قوله: {تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه:"تعرفهم" يا محمد="بسيماهم"، يعني بعلامتهم وآثارهم، من قول الله عز وجل: (سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) [سورة الفتح: 29] ، هذه لغة قريش. ومن العرب من يقول:"بسيمائهم" فيمدها.
وأما ثقيف وبعض أسَدٍ، فإنهم يقولون:"بسيميائهم"; ومن ذلك قول الشاعر: (3) .
__________
(1) الأثر: 6221 -كان الإسناد في المطبوعة والمخطوطة: "كما حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد ... " أسقط الناسخ من الإسناد"حدثنا بشر قال"، كما زدته، وهو إسناد دائر دورانًا في التفسير أقربه رقم: 6206.
(2) مضى تخريج هذا البيت وتفسيره في 5: 110، ولم يذكر هناك مجيء ذكره في هذا الموضع من التفسير، فقيده هناك.
(3) هو ابن عنقاء الفزاري، وعنقاء أمه، وقد اختلف في اسمه، فقال القالي في أماليه 1: 237: "أسيد"، وقال الآمدي في المؤلف والمختلف: 159، وقال المرزباني في معجم الشعراء: "فيس بن بجرة" (بالجيم) ، أو"عبد قيس بن بجرة"، وفي النقائض: 106"عبد قيس ابن بحرة" بالحاء الساكنة وفتح الباء، وهكذا كان في أصل اللآليء شرح أماني القالي: 543، وغيره العلامة الراجكوتي"بجرة" بضم الباء وبالجيم الساكنة عن الإصابة في ترجمة"قيس بن بجرة" وفي هذه الترجمة أخطاء كثيرة. وذكر شيخنا سيد بن علي المرصفي في شرح الكامل 1: 108 أنه أسيد بن ثعلبة ابن عمرو. وهذا كاف في تعيين الاختلاف. وابن عنقاء، عاش في الجاهلية دهرًا، وأدرك الإسلام كبيرًا، وأسلم.(5/594)
غُلامٌ رَمَاهُ اللهُ بالحُسْنِ يَافِعًا ... لَهُ سِيمِيَاءٌ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ (1)
* * *
__________
(1) يأتي في التفسير 4: 55 /8: 141 (بولاق) والأغاني 17: 117، الكامل 1: 14، المؤلف والمختلف، ومعجم الشعراء: 159، 323، أمالى القالي 1: 237، الحماسة 4: 68، وسمط اللآليء: 543، وغيرها كثير. من أبيات جياد في قصة، ذكرها القالي في أماليه. وذلك أن ابن عنقاء كان من أكثر أهل زمانه وأشدهم عارضة ولسانًا، فطال عمره، ونكبه دهره، فاختلت حاله، فمر عميلة بن كلدة الفزاري، وهو غلام جميل من سادات فزارة، فسلم عليه وقال: ياعم، ما أصارك إلى ما أدري؟ فقال: بخل مثلك بماله، وصوني وجهى عن مسألة الناس! فقال والله لئن بقيت إلى غد لأغيرن ما أردي من حالك. فرجع ابن عنقاء فأخبر أهله، فقالت: لقد غرك كلام جنح ليل!! فبات متململا بين اليأس والرجاء. فلما كان السحر، سمع رغاء الإبل، وثغاء الشاء وصهيل الخيل، ولجب الأموال، فقال: ما هذا؟ فقال: هذا عميلة ساق إليك ماله! ثم قسم عميلة ماله شطرين وساهمه عليه، فقال ابن عنقاء فيه يمجده: رَآنِي عَلَى مَا بِي عُمَيْلَةُ فَاشْتَكَى ... إِلَى مَالِهِ حَالي أسرَّ كَمَا جَهَرْ
دَعَانِي فآسَانِي وَلَوْ ضَنَّ لَمْ أَلُمْ ... عَلَى حِينَ لاَ بَدْوٌ يُرجَّى ولا حَضَرْ
فَقُلْتُ لَهُ خيرًا وأَثْنَيْتُ فِعْلَهُ ... وَأَوْفَاكَ مَا أَبْلَيْتَ مَنْ ذَمَّ أَوْ شَكَرْ
غُلاَمٌ رَمَاهُ الله بِالخَيْرِ يافِعًا ... لَهُ سِيمِيَاءُ لا تَشُقُّ عَلَى البَصَرْ
كَأَنَّ الثُريَّا عُلِّقَتْ في جَبِينِهِ ... وَفِي خَدِّهِ الشِّعْرَي وَفِي وَجْهِهِ القَمَرْ
إذا قِيلَتِ العَوْرَاءُ أَغْضَى كَأَنّهُ ... ذَلِيلٌ بِلاَ ذُلّ وَلَوْ شَاءَ لاَنْتَصَرْ
كَرِيمٌ نَمَتْهُ لِلمكَارِمِ حُرَّةٌ ... فَجَاءَ وَلاَ بُخْلٌ لَدَيْهِ ولا حَصَرْ
وَلَمَّا رَأَى المَجْدَ استُعيرت ثِيَابُه ... تَرَدَّى رِدَاءً وَاسِعَ الذّيْلِ وَأتْزَرْ
وهذا شعر حر، ينبع من نفس حرة. هذا وقد روي الطبري في 8: 141"رماه الله بالحسن إذ رمي". وقال أبو رياش فيما انتقده على أبي العباس المبرد: "لا يروي بيت ابن عنقاء: "رماه الله بالحسن ... " إلا أعمى البصيرة، لأن الحسن مولود، وإنما هو: رماه الله بالخير يافعًا".
وقوله: "لا تشق على البصر"، أي لا تؤذيه بقبح أو ردة أو غيرهما، بل تجلي بها العين، وتسر النفس وترتاح إليها.(5/595)
وقد اختلف أهل التأويل في"السيما" التي أخبر الله جل ثناؤه أنها لهؤلاء الفقراء الذين وصفَ صفتهم، وأنهم يعرفون بها. (1)
فقال بعضهم: هو التخشُّع والتواضع.
ذكر من قال ذلك:
6222 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"تعرفهم بسيماهم" قال: التخشُّع.
6223 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
6224 - حدثني المثنى، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن ليث، قال: كان مجاهد يقول: هو التخشُّع.
* * *
وقال آخرون يعني بذلك: تعرفهم بسيما الفقر وجَهد الحاجة في وجُوههم.
* ذكر من قال ذلك:
6225 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"تعرفهم بسيماهم"، بسيما الفقر عليهم.
6226 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"تعرفهم بسيماهم"، يقول: تعرف في وجوههم الجَهد من الحاجة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: تعرفهم برثاثة ثيابهم. وقالوا: الجوعُ خفيّ.
* ذكر من قال ذلك:
6227 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وصفت صفتهم"، وهو مخالف للسياق، والصواب ما أثبت، وصف الله صفتهم.(5/596)
"تعرفهم بسيماهم" قال: السيما: رثاثة ثيابهم، والجوع خفي على الناس، ولم تستطع الثياب التي يخرجون فيها [أن] تخفى على الناس. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: وأول الأقوال في ذلك بالصواب: أن يقال: إن الله عز وجل أخبر نبيَّه صلى الله عليه وسلم أنه يعرفهم بعلاماتهم وآثار الحاجة فيهم. وإنما كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يدرك تلك العلامات والآثار منهم عند المشاهدة بالعِيان، فيعرفُهم وأصحابه بها، كما يُدرك المريضُ فيعلم أنه مريض بالمعاينة.
وقد يجوز أن تكون تلك السيما كانت تخشُّعًا منهم، وأن تكون كانت أثر الحاجة والضرّ، وأن تكون كانت رثاثة الثياب، وأن تكون كانت جميعَ ذلك، وإنما تُدرك علامات الحاجة وآثار الضر في الإنسان، ويعلم أنها من الحاجة والضر، بالمعاينة دون الوصف. وذلك أن المريض قد يصير به في بعض أحوال مرضه من المرض، نظيرُ آثار المجهود من الفاقة والحاجة، وقد يلبس الغني ذو المال الكثير الثيابَ الرثة، فيتزيّى بزيّ أهل الحاجة، فلا يكون في شيء من ذلك دلالة بالصّفة على أنّ الموصوف به مختلٌّ ذو فاقة. وإنما يدري ذلك عند المعاينة بسيماه، كما وصف الله (2) نظير ما يُعرف أنه مريض عند المعاينة، دون وَصْفه بصفته.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}
قال أبو جعفر: يقال:" قد ألحف السائل في مسألته"، إذا ألحّ="فهو يُلحف فيها إلحافًا".
* * *
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، لتستقيم العبارة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "كما وصفهم الله"، والسياق يقتضي ما أثبت. والمخطوطة التي نقلت عنها، فيما نظن، كل النسخ المخطوطة التي طبع عنها، مضطربة الخط، كما سلف الدليل على ذلك مرارًا، وفي هذا الموضع من كتابة الناسخ بخاصة.(5/597)
فإن قال قائل: أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غيرَ إلحاف؟
قيل: غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئًا على وجه الصدقة إلحافًا أو غير إلحاف، (1) وذلك أن الله عز وجل وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف، وأنهم إنما كانوا يُعرفون بسيماهم. فلو كانت المسألة من شأنهم، لم تكن صفتُهم التعفف، ولم يكن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة، وكانت المسألة الظاهرة تُنبئ عن حالهم وأمرهم.
وفي الخبر الذي:-
6228 - حدثنا به بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد الخدري، قال: أعوزنا مرة فقيل لي: لو أتيتَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فسألته! فانطلقت إليه مُعْنِقًا، فكان أوّل ما واجهني به:"من استعفّ أعفَّه الله، ومَن استغنى أغناهُ الله، ومن سألنا لم ندّخر عنه شيئًا نجده". قال: فرجعت إلى نفسي، فقلت: ألا أستعفّ فيُعِفَّني الله! فرجعت، فما سألتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا بعد ذلك من أمر حاجة، حتى مالت علينا الدنيا فغرَّقَتنا، إلا من عَصَم الله. (2) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إلحافا وغير إلحاف"، بالواو، وهو لا يستقيم، والصواب ما أثبت. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 181، وقد قال: "ومثله قولك في الكلام: قلما رأيت مثل هذا الرجل! ، ولعلك لم تر قليلًا ولا كثيرًا من أشباهه" وسيأتي بعد، في ص: 599، وفي اللسان (لحف) ، وذكر الآية: "أي ليس منهم سؤال فيكون إلحاف، كما قال امرؤ القيس [يصف طريقًا غير مسلوكة: عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَي بِمَنَارِهِ ... [إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرا]
المعنى: "ليس به منار فيهتدى به".
(2) الحديث: 6228 -إسناده صحيح.
هلال بن حصن، أخو بني مرة بن عباد، من بني قيس بن ثعلبة: تابعى ثقة. ذكره ابن حبّان في الثقات، ص: 364، وترجمه البخاري في الكبير 4 / 2/ 204، وابن أبي حاتم 4 /2/ 73 -فلم يذكرا فيه جرحا. وهو مترجم في التعجيل، ص: 434.
والحديث رواه أحمد في المسند: 14221، 14222 (ج 3 ص 44 حلبي) ، عن محمد بن جعفر وحجاج، ثم عن حسين بن محمد -ثلاثتهم عن شعبة، عن أبي حمزة، عن هلال بن حصن، عن أبي سعيد. فذكر نحوه بأطول منه.
وهذا أيضًا إسناد صحيح.
أبو حمزة: هو البصري"جار شعبة"، عرف بهذا. واسمه: عبد الرحمن بن عبد الله المازني"، ثقة، مترجم في التهذيب 6: 219.
وقد ثبت في ترجمة"هلال بن حصن" -في الكبير، وابن أبي حاتم، والثقات، والتعجيل، أنه روى عنه أيضًا"أبو حمزة". وشك في صحة ذلك العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني مصحح التاريخ الكبير، واستظهر أن يكون صوابه "أبو جمرة"، يعنى نصر بن عمران الضبعي. ولكن يرفع هذا الشك أنه في المسند أيضًا "أبو حمزة". لاتفاقه مع ما ثبت في التراجم.
" أعوز الرجل فهو معوز": ساءت حاله وحل عليه الفقر.
"أعنق الرجل إلى الشيء يعنق": أسرع إليه إسراعًا.(5/598)
(1) .
=الدلالةُ الواضحةُ على أنّ التعفف معنى ينفي معنى المسألة من الشخص الواحد، وأنَّ من كان موصوفًا بالتعفف فغير موصوف بالمسألة إلحافًا أو غير إلحاف. (2) .
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت، فما وجه قوله:"لا يسألون الناس إلحافا"، وهم لا يسألون الناس إلحافًا أو غير إلحاف (3) .
قيل له: وجه ذلك أن الله تعالى ذكره لما وصفهم بالتعفف، وعرّف عبادَه أنهم ليسوا أهل مسألة بحالٍ بقوله:"يحسبهم الجاهلُ أغنياء من التعفف"، وأنهم إنما يُعرفون بالسيما- زاد عبادَه إبانة لأمرهم، وحُسنَ ثناءٍ عليهم، بنفي الشَّره والضراعة التي تكون في الملحِّين من السُّؤَّال، عنهم. (4) .
وقد كان بعضُ القائلين يقول: (5) ذلك نظيرُ قول القائل:" قلَّما رأيتُ مثلَ
__________
(1) سياق الكلام: "وفي الخبر ... الدلالة الواضحة ... "
(2) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين: "إلحافا وغير إلحاف""بالواو، وانظر التعليق السالف رقم: 1 ص598.
(3) في المخطوطة والمطبوعة في الموضعين: "إلحافا وغير إلحاف""بالواو، وانظر التعليق السالف رقم: 1 ص598.
(4) "السؤال" جمع سائل، على زنة""جاهل وجهال". والسياق: "بنفي الشره ... عنهم".
(5) في المطبوعة: و "قال: كان بعض القائلين يقول في ذلك نظير قول القائل" هو كلام شديد الخلل. وفي المخطوطة: "وقال كاد بعض القائلين يقول ... "وسائره كالذي كان في المطبوعة" وهو أشدّ اختلالا وفسادًا. وصواب العبارة ما استظهرته فأثبته. وهذا الذي حكاه أبو جعفر هو قول الفراء في معاني القرآن 1: 181، كما سلف في ص: 598 التعليق: 1.(5/599)
فلان"! ولعله لم يَرَ مثله أحدًا ولا نظيرًا.
* * *
وبنحو الذي قلنا في معنى الإلحاف قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
6229 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يسألون الناس إلحافًا"، قال: لا يلحفون في المسألة.
6230 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"لا يسألون الناس إلحافًا"، قال: هو الذي يلح في المسألة.
6231 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يسألون الناس إلحافًا"، ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"إن الله يحب الحليمَ الغنيّ المتعفف، ويبغض الغنيّ الفاحشَ البذِىء السائلَ الملحفَ= قال: وذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: إن الله عز وجل كره لكم ثلاثًا: قيلا وقالا (1) وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال. فإذا شئت رأيته في قيل وقال يومه أجمع وصدرَ ليلته، حتى يُلقى جيفةً على فراشه، لا يجعلُ الله له من نهاره ولا ليلته نصيبًا. وإذا شئت رأيته ذَا مال [ينفقه] في شهوته ولذاته وملاعبه، (2) .
وَيعدِ له عن حقّ الله، فذلك إضاعة المال، وإذا شئت رأيته باسطًا ذراعيه، يسأل الناس في كفيه، فإذا أعطي أفرط في مدحهم، وإنْ مُنع أفرط في ذَمهم.
..........................................................................
..........................................................................
(3) .
__________
(1) في المطبوعة: "قيل وقال" وهو صواب، وهما فعلان من قولهم"قيل كذا" و"قال كذا"، وهو نهى عن القول بما لا يصح ولا يعلم. وأثبت ما في المخطوطة، وهما مصدران بمعنى الإشارة إلى هذين الفعلين الماضين، يجعلان حكاية متضمنة للضمير والإعراب، على إجرائهما مجرى الأسماء خلوين من الضمير، فيدخل عليهما حرف التعريف لذلك فيقال: "القيل والقال".
(2) في المخطوطة: "ذا مال في شهوته" وبين الكلامين بياض، أما في المطبوعة والدر المنثور 1: 363، فساقه سياقًا مطردًا: "ذا مال في شهوته"، ولكنه لا يستقم مع قوله بعد: "ويعدله عن حق الله"، فلذلك وضعت ما بين القوسين استظهارًا حتى يعتدل جانبا هذه العبارة.
(3) هذه النقط دلالة على أنه قد سقط من الناسخ كلام لا ندري ما هو، ففي المخطوطة في إثر الأثر السالف 6231، الأثر الآتي: 6232 "حدثنا يعقوب بن إبراهيم. . . ". وقد تنبه طابع المطبوعة، فرأي أن الأثر الآتي، هو من تفسير الآية التي أثبتها وأثبتناها اتباعًا له، والذي لا شك فيه أنه قد سقط من الكلام في هذا الموضع تفسير بقية الآتية: "وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم" وشيء قبله، وشيء بعده، لم أستطع أن أجد ما يدلني عليه في كتاب آخر، ولكن سياق الأقوال التي ساقها الطبري دال على هذا الخرم. وهذا دليل آخر على شدة سهو الناسخ في هذا الموضع من الكتاب.(5/600)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) }
[قال أبو جعفر] :
..........................................................................
..........................................................................
* * *
6232 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا معتمر، عن أيمن بن نابل، قال: حدثني شيخ من غافق: أن أبا الدرداء كان ينظر إلى الخيل مربوطةً بين البرَاذين والهُجْن. فيقول: أهل هذه - يعني الخيل- من الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرًّا وعلانية، فلهم أجرهم عند ربهم، ولا خوفٌ عليهم ولا هُمْ يحزَنون. (1) .
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك قومًا أنفقوا في سبيل الله في غير إسراف ولا تقتير.
* ذكر من قال ذلك:
6233 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) الأثر: 6232 -"أيمن بن نابل الحبشي" أبو عمران المكي، نزيل عسقلان، مولي آل أبي بكر. روي عن قدامة بن عبد الله العامرى، وعن أبيه نابل، والقاسم بن محمد، وطاوس. وروى عنه موسى بن عقبة، وهو من أقرانه، ومعتمر بن سليمان، ووكيع وابن مهدي، وعبد الرزاق، وغيرهم. وهو ثقة، وكان لا يفصح، فيه لكنه. وعاش إلى خلافة المهدي. مترجم في التهذيب.
والبراذين جمع برذون (بكسر الباء وسكون الراء وفتح الذال وسكون الواو) : وهو ما كان من الخيل من نتاج غير العراب، وهو دون الفرس وأضعف منه. والهجن جمع هجين: وهو من الخيل الذي ولدته برذونة من حصان غير عربي، وهي دون العرب أيضًا، ليس من عتاق الخيل، وكلاهما معيب عندهم.(5/601)
قوله:"الذين ينفقون أموالهم" إلى قوله:"ولا هم يحزنون"، هؤلاء أهلُ الجنة.
ذكر لنا أن نبيّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: المكثِرون هم الأسفلون. قالوا: يا نبيّ الله إلا مَنْ؟ قال: المكثرون هم الأسفلون، قالوا: يا نبيّ الله إلا مَنْ؟ قال: المكثرون هم الأسفلون. قالوا: يا نبيّ الله، إلا مَنْ؟ حتى خشوا أن تكون قد مَضَت فليس لها رَدّ، حتى قال:"إلا من قال بالمال هكذا وهكذا، عن يمينه وعن شماله، وهكذا بين يديه، وهكذا خلفه، وقليلٌ ما هُمْ [قال] : (1) هؤلاء قوم أنفقوا في سبيل الله التي افترض وارتضى، في غير سَرَف ولا إملاق ولا تَبذير ولا فَساد. (2) .
* * *
وقد قيل إنّ هذه الآيات من قوله:"إن تُبدوا الصدقات فنعمَّا هي" إلى قوله:"ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، كان مما يُعملَ به قبل نزول ما في"سورة براءة" من تفصيل الزَّكوات، فلما نزلت"براءة"، قُصِروا عليها.
* ذكر من قال ذلك:
6234 - حدثني محمد بن سعد، قال: ثني أبي، قال: ثني عمي، قال: ثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"إن تبدوا الصدقات فنعمَّا هي" إلى قوله:"ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، فكان هذا يُعمل به قبل أن تنزل"براءة"، فلما نزلت"براءة" بفرائض الصَّدقات وتفصيلها انتهت الصّدَقاتُ إليها.
* * *
__________
(1) ما بين القوسين، زيادة لا بد منها، فإن هذا الكلام الآتي ولا شك من كلام قتادة، وكذلك خرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 363 قال: "وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر عن قتادة. . . "، وساق هذا الشطر الآتي من هذا الأثر. وأما صدره، فهو خبر مرسل كسائر الأخبار السالفة.
(2) قوله: "إملاق" هو من قولهم: "ملق الرجل ما معه ملقًا، وأملقه إملاقًا"، إذا أنفقه وأخرجه من يده ولم يحبسه وبذره تبذيرًا. والفقر تابع للإنفاق والتبذير، فاستعملوا لفظ السبب في موضع المسبب، فقالوا: "أملق الرجل إملاقًا"، إذا افتقر فهو"مملق" أي فقير لا شيء معه.(5/602)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لا يَقُومُونَ إِلا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: الذين يُرْبون.
* * *
و"الإرباء" الزيادة على الشيء، يقال منه:"أربْى فلان على فلان"، إذا زاد عليه،"يربي إرباءً"، والزيادة هي"الربا"،"وربا الشيء"، إذا زاد على ما كان عليه فعظم،"فهو يَرْبو رَبْوًا". وإنما قيل للرابية [رابية] ، (1) لزيادتها في العظم والإشراف على ما استوى من الأرض مما حولها، من قولهم:"ربا يربو". ومن ذلك قيل:"فلان في رَباوَة قومه"، (2) يراد أنه في رفعة وشرف منهم، فأصل"الربا"، الإنافة والزيادة، ثم يقال:"أربى فلان" أي أناف [ماله، حين] صيَّره زائدًا. (3) وإنما قيل للمربي:"مُرْبٍ"، لتضعيفه المال، الذي كان له على غريمه حالا أو لزيادته عليه فيه لسبب الأجل الذي يؤخره إليه فيزيده إلى أجله الذي كان له قبلَ حَلّ دينه عليه. ولذلك قال جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً) . [آل عمران: 131] .
* * *
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام.
(2) في المطبوعة: "في ربا قومه" وفي المخطوطة: "في رباء قومه"، ولا أظنهما صوابًا، والصواب ما ذكر الزمخشري في الأساس: "وفلان في رباوة قومه: في أشرافهم. وهو: في الروابي من قريش"، فأثبت ما في الأساس.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "أي أناف صيره زائدًا"، وهو كلام غير مستقيم ولا تام. والمخطوطة كما أسلفت مرارًا، قد عجل عليها ناسخها حتى أسقط منها كثيرًا كما رأيت آنفًا. فزدت ما بين القوسين استظهارًا من معنى كلام أبي جعفر، حتى يستقيم الكلام على وجه يرتضى.(6/7)
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
ذكر من قال ذلك:
6235 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، في الربا الذي نهى الله عنه: كانوا في الجاهلية يكون للرجل على الرجل الدّينُ فيقول: لك كذا وكذا وتؤخِّر عني! فيؤخَّر عنه.
* - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
6237 - حدثني بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة: أن ربا أهل الجاهلية: يبيعُ الرجل البيع إلى أجل مسمًّى، فإذا حل الأجل ولم يكن عند صاحبه قضاء، زاده وأخَّر عنه.
* * *
قال أبو جعفر: فقال جل ثناؤه: الذين يُرْبون الربا الذي وصفنا صفته في الدنيا="لا يقومون" في الآخرة من قبورهم ="إلا كما يقوم الذي يتخبَّطه الشيطانُ من المس"، يعني بذلك: يتخبَّله الشيطان في الدنيا، (1) وهو الذي يخنقه فيصرعه (2) ="من المس"، يعني: من الجنون.
وبمثل ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6238 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) تخبله: أفسد عقله وأعضاءه.
(2) في المطبوعة: "وهو الذي يتخبطه فيصرعه"، وهو لا شيء، إنما استبهمت عليه حروف المخطوطة، فبدل اللفظ إلى لفظ الآية نفسها، وهو لا يعد تفسيرًا عندئذ!! وفي المخطوطة: "+يحفه" غير منقوطة إلا نقطة على"الفاء"، وآثرت قراءتها"يخنقه"، لما سيأتي في الأثر رقم: 6242 عن ابن عباس: "يبعث آكل الربا يوم القيامة مجنونًا يخنق"، وما جاء في الأثر: 6247. وهذا هو الصواب إن شاء الله، لذلك، ولأن من صفة الجنون وأعراضه أنه خناق يأخذ من يصيبه، أعاذنا الله وإياك.(6/8)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، يوم القيامة، في أكل الرِّبا في الدنيا.
6239 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
6240 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"الذين يأكلون الرّبا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: ذلك حين يُبعث من قبره. (1)
6241 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بم كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا:"خذْ سلاحك للحرب"، وقرأ:"لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، قال: ذلك حين يبعث من قبره.
6242 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد بن جبير:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ". الآية، قال: يبعث آكل الربا يوم القيامة مَجْنونًا يُخنق. (2)
6243 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:
__________
(1) الأثر: 6240-"ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري"، روى عن أبيه، وبكر ابن عبد الله المزني، والحسن البصري. وروى عنه القطان، وعبد الصمد بن عبد الوارث، ومسلم ابن إبراهيم، وحجاج بن منهال. قال النسائي: "ليس به بأس"، وقال في الضعفاء: "ليس بالقوي"، وقال أحمد وابن معين: "ثقة". وأبوه: "كلثوم بن جبر"، قال أحمد: "ثقة"، وقال النسائي: "ليس بالقوي". مات سنة: 130.
(2) انظر ما سلف في ص: 8، تعليق: 2.(6/9)
"الذين يأكلون الربا لا يقومون"، الآية، وتلك علامةُ أهل الرّبا يوم القيامة، بُعثوا وبهم خَبَلٌ من الشيطان.
6244 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا يقومون إلا كما يقومُ الذي يتخبطه الشيطان من المس" قال: هو التخبُّل الذي يتخبَّله الشيطان من الجنون.
6245 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، قال: يبعثون يوم القيامة وبهم خَبَل من الشيطان. وهي في بعض القراءة: (لا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) .
6246 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس"، قال: من مات وهو يأكل الربا، بعث يوم القيامة متخبِّطًا، كالذي يتخبطه الشيطان من المسّ.
6247 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ"، يعني: من الجنون.
6248 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ". قال: هذا مثلهم يومَ القيامة، لا يقومون يوم القيامة مع الناس، إلا كما يقوم الذي يُخنق من الناس، كأنه خُنق، كأنه مجنون (1) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إلا كما يقوم الذي يخنق مع الناس يوم القيامة"، وهو كلام فاسد. وكذلك هو في المخطوطة أيضًا مع ضرب الناسخ على كلام كتبه، فدل على خلطه وسهوه. فحذفت من هذه الجملة"يوم القيامة" وجعلت"مع الناس"، "من الناس"، فصارت أقرب إلى المعنى والسياق، وكأنه الصواب إن شاء الله.(6/10)
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"يتخبطه الشيطانُ من المسّ"، يتخبله من مَسِّه إياه. يقال منه:"قد مُسّ الرجل وأُلقِ، فهو مَمسوس ومَألوق"، كل ذلك إذا ألمّ به اللَّمَمُ فجُنّ. ومنه قول الله عز وجلّ: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا) [الأعراف: 201] ، ومنه قول الأعشى:
وَتُصْبحُ عَنْ غِبِّ السُّرَى، وكأَنَّمَا ... أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الجِنِّ أَوْلَقُ (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: أفرأيت من عمل ما نهى الله عنه من الرِّبا في تجارته ولم يأكله، أيستحقّ هذا الوعيدَ من الله؟
قيل: نعم، وليس المقصود من الربا في هذه الآية الأكلُ، إلا أنّ الذين نزلت فيهم هذه الآيات يوم نزلت، كانت طُعمتهم ومأكلُهم من الربا، فذكرهم بصفتهم، معظّمًا بذلك عليهم أمرَ الرّبا، ومقبِّحًا إليهم الحال التي هم عليها في مطاعمهم، وفي قوله جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا
__________
(1) ديوانه: 147، وروايته"من غب السرى"، ورواية اللسان (ألق) ، "ولق"، وهو من قصيدته البارعة في المحرق. ويصف ناقته فيقول قبل البيت، وفيها معنى جيد في صحبة الناقة: وَخَرْقٍ مَخُوفٍ قَدْ قَطَعْتُ بِجَسْرَةٍ ... إذَا خَبَّ آلٌ فَوْقَهُ يَتَرَقْرقُ
هِيَ الصَّاحِبُ الأدْنَى، وَبَيْنى وَبَيْنَها ... مَجُوفٌ عِلاَفِيُّ وقِطْعٌ ونُمْرُقُ
وَتُصْبِحُ عَنْ غبّ السُّرَى. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
"الخرق": المفازة الواسعة تتخرق فيها الرياح. "وناقة جسرة": طويلة شديدة جريئة على السير. و"خب": جرى. و"الآل": سراب أول النهار. "يترقرق": يذهب ويجيء. وقوله: "هي الصاحب الأدنى"، أي هي صاحبه الذي يألفه ولا يكاد يفارقه، وينصره في الملمات. و"المجوف": الضخم الجوف. و"العلافى": هو أعظم الرجال أخرة ووسطًا، منسوبة إلى رجل من الأزد يقال له"علاف". و"القطع": طنفسة تكون تحت الرحل على كتفي البعير. و"النمرق والنمرقة": وسادة تكون فوق الرحل، يفترشها الراكب، مؤخرها أعظم من مقدمها، ولها أربعة سيور تشد بآخرة الرحل وواسطته. و"غب السرى": أي بعد سير الليل الطويل. و"الأولق": الجنون. ووصفها بالجنون عند ذلك، من نشاطها واجتماع قوتها، لم يضعفها طول السرى.(6/11)
اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [سورة البقرة: 278-279] الآية، ما ينبئ عن صحة ما قلنا في ذلك، وأنّ التحريم من الله في ذلك كان لكل معاني الرّبا، وأنّ سواءً العملُ به وأكلُه وأخذُه وإعطاؤُه، (1) كالذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله:
6249-"لعن الله آكلَ الرّبا، وُمؤْكِلَه، وكاتبَه، وشاهدَيْه إذا علموا به". (2)
* * *
القول في تأويل قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا}
قال أبو جعفر: يعني بـ"ذلك" جل ثناؤه: ذلك الذي وصفهم به من قيامهم يوم القيامة من قبورهم، كقيام الذي يتخبطه الشيطان من المسّ من الجنون، فقال تعالى ذكره: هذا الذي ذكرنا أنه يصيبهم يوم القيامة من قُبْح حالهم، ووَحشة قيامهم من قبورهم، وسوء ما حلّ بهم، من أجل أنهم كانوا في الدنيا يكذبون ويفترون ويقولون:"إنما البيع" الذي أحله الله لعباده ="مثلُ الرّبا". وذلك أن الذين كانوا يأكلون من الرّبا من أهل الجاهلية، كان إذا حلّ مالُ أحدهم
__________
(1) ولكن أهل الفتنة في زماننا، يحاولون أن يهونوا على الناس أمر الربا، وقد عظمه الله وقبحه، وآذن العامل به بحرب من الله ورسوله، في الدنيا والآخرة، ومن أضل ممن يهون على الناس حرب ربه يوم يقوم الناس لرب العالمين. فاللهم اهدنا ولا تفتنا كما فتنت رجالا قبلنا، وثبتنا على دينك الحق، وأعذنا من شر أنفسنا في هذه الأيام التي بقيت لنا، وهي الفانية وإن طالت، وصدق رسول الله بأبي هو وأمي إذ قال: "يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا. قيل له: الناس كلهم؟! قال: من لم يأكله ناله من غباره". (سنن البيهقي 5: 275) ، فاللهم انفض عنا وعن قومنا غبار هذا العذاب الموبق.
(2) الأثر: 6249- رواه الطبري بغير إسناد مختصرًا، وقد استوفى تخريجه ابن كثير في تفسيره 1: 550-551 وساق طرقه مطولا. والسيوطي في الدر المنثور 1: 367، من حديث عبد الله بن مسعود ونسبه لأحمد، وأبي يعلى، وابن خزيمة، وابن حبان. وانظر سنن البيهقي 5: 275.(6/12)
على غريمه، يقول الغَريم لغريم الحق:"زدني في الأجل وأزيدك في مالك". فكان يقال لهما إذا فعلا ذلك:"هذا ربًا لا يحل". فإذا قيل لهما ذلك قالا"سواء علينا زدنا في أول البيع، أو عند مَحِلّ المال"! فكذَّبهم الله في قيلهم فقال:"وأحلّ الله البيع".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: وأحلّ الله الأرباح في التجارة والشراء والبيع (1) ="وحرّم الربا"، يعني الزيادةَ التي يزاد رب المال بسبب زيادته غريمه في الأجل، وتأخيره دَيْنه عليه. يقول عز وجل: فليست الزيادتان اللتان إحداهما من وَجه البيع، (2) والأخرى من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل، سواء. وذلك أنِّي حرّمت إحدى الزيادتين = وهي التي من وجه تأخير المال والزيادة في الأجل = وأحللتُ الأخرى منهما، وهي التي من وجه الزيادة على رأس المال الذي ابتاع به البائع سلعته التي يبيعها، فيستفضلُ فَضْلها. فقال الله عز وجل: ليست الزيادة من وجه البيع نظيرَ الزيادة من وجه الربا، لأنّي أحللت البيع، وحرَّمت الرّبا، والأمر أمري والخلق خلقي، أقضي فيهم ما أشاء، وأستعبدهم بما أريد، ليس لأحد منهم أن يعترض في حكمي، ولا أن يخالف أمري، وإنما عليهم طاعتي والتسليمُ لحكمي.
* * *
__________
(1) انظر معنى: "البيع" فيما سلف 2: 342، 343.
(2) في المطبوعة: "وليست الزيادتان"، والصواب ما في المخطوطة.(6/13)
ثم قال جل ثناؤه:"فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى"، يعني بـ"الموعظة": التذكير، والتخويفَ الذي ذكَّرهم وخوّفهم به في آي القرآن، (1) وأوعدهم على أكلهم الربا من العقاب، يقول جل ثناؤه: فمن جاءه ذلك،"فانتهى" عن أكل الربا وارتدع عن العمل به وانزجر عنه (2) ="فله ما سلف"، يعني: ما أكل، وأخذ فمَضَى، قبل مجيء الموعظة والتحريم من ربه في ذلك ="وأمرُه إلى الله"، يعني: وأمر آكله بعد مجيئه الموعظة من ربه والتحريم، وبعد انتهاء آكله عن أكله، إلى الله في عصمته وتوفيقه، إن شاء عصمه عن أكله وثبَّته في انتهائه عنه، وإن شاء خَذَله عن ذلك ="ومن عاد"، يقول: ومن عاد لأكل الربا بعد التحريم، وقال ما كان يقوله قبل مجيء الموعظة من الله بالتحريم، من قوله:"إنما البيع مثل الربا" ="فأولئك أصْحاب النار هم فيها خالدون"، يعني: ففاعلو ذلك وقائلوه هم أهل النار، يعني نار جهنم، فيها خالدون. (3)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6250 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السديّ:"فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله"، أما"الموعظة" فالقرآن، وأما"ما سلف"، فله ما أكل من الربا.
* * *
__________
(1) انظر تفسير: "موعظة" فيما سلف 2: 180، 181.
(2) انظر تفسير: "انتهى" فيما سلف 3: 569.
(3) انظر تفسير: "أصحاب النار" و"خالدون" فيما سلف 2: 286، 287/4: 316، 317/5: 429.(6/14)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) }
قال أبو جعفر: يعني عز وجل بقوله:"يمحق الله الربا"، ينقُصُ الله الرّبا فيذْهبه، كما:-
6251 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس:"يمحق الله الربا"، قال: يَنقص.
* * *
وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
6252-"الرّبا وَإن كثُر فإلى قُلّ". (1) .
* * *
وأما قوله:"ويُرْبي الصّدَقات"، فإنه جل ثناؤه يعني أنه يُضاعف أجرَها، يَرُبُّها وينمِّيها له. (2)
* * *
وقد بينا معنى"الرّبا" قبلُ"والإرباء"، وما أصله، بما فيه الكفاية من إعادته. (3)
* * *
__________
(1) 6252- أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 37 من طريق إسرائيل، عن الركين بن الربيع، عن أبيه الربيع بن عميلة، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الربا إن كثر، فإن عاقبته تصير إلى قل"، وكذلك ذكره ابن كثير من المسند من طريق شريك عن الركين بن الربيع، بلفظه. ثم ساق ما رواه ابن ماجه. غير أن ابن كثير (2: 61) نقل لفظ الطبري، وساق الخبر كنصه في الحديث، لا كما جاء في المطبوعة والمخطوطة. وانظر الدر المنثور 1: 365.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "يضاعف أجرها لربها"، كأنه يريد لصاحبها، وكأن صواب قراءتها ما أثبت، رب المعروف والصنيعة والنعمة وغيرها - يريها ربًا +ورببها (كلها بالتشديد) : نماها وزادها وأتمها، وجملة"يربها وينميها له" تفسير لقوله: "يضاعف أجرها". وانظر الأثر الآتي رقم: 6253.
(3) انظر ما سلف قريبا ص: 7.(6/15)
فإن قال لنا قائل: وكيف إرباء الله الصدقات؟
قيل: إضعافه الأجرَ لربِّها، كما قال جل ثناؤه: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) [سورة البقرة: 261] ، وكما قال: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً) [سورة البقرة: 245] ، وكما:-
6253 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا عباد بن منصور، عن القاسم: أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنّ الله عز وجل يقبلُ الصّدقة ويأخذها بيمينه فيربِّيها لأحدكم كما يربِّي أحدُكم مُهْرَه، حتى إن اللقمة لتصير مثل أُحُد، وتصديقُ ذلك في كتاب الله عز وجل: (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ) [سورة التوبة: 104] ، و"يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصّدَقات". (1) .
__________
(1) الحديث: 6253- عباد بن منصور الناجي البصري القاضي: ثقة، من تكلم فيه تكلم بغير حجة. وقد حققنا توثيقه في شرح المسند: 2131، 3316، وبينا خطأ من جرحه بغير حق.
القاسم: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق، التابعي الثقة الفقيه الإمام.
والحديث سيأتي في تفسير سورة التوبة (ج 11 ص 15 بولاق) ، عن أبي كريب، بهذا الإسناد ولكن سقط منه هناك"حدثنا وكيع". وهو خطأ ظاهر.
ورواه أحمد في المسند: 10090 (2: 371 حلبي) ، عن وكيع، وعن إسماعيل - وهو ابن علية - كلاهما عن عباد بن منصور. بهذا الإسناد. وساقه على لفظ وكيع، كرواية الطبري هنا.
ولكن وقع في المسند خطأ غريب في تلاوة الآية الأولى، ففيه: "وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات". والآية المتلوة في الحديث هي التي في رواية الطبري هنا: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده ويأخذ الصدقات) ، وهي الآية: 104 من سورة التوبة. وأما الأخرى فالآية: 25 من سورة الشورى، وتلاوتها: (وهو الذي يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات) وليست تكون موضع الاستشهاد في هذا الحديث.
وهذا الخطأ قديم في نسخ المسند، من الناسخين القدماء، بدلالة أنه ثبت هذا الخطأ أيضًا في نقل الحافظ ابن كثير هذا الحديث عن المسند، في جامع المسانيد والسنن 7: 320 (مخطوط مصور) .
بل ظهر لي بعد ذلك أن الخطأ أقدم من هذا. لعله من وكيع، أو من عباد بن منصور. لأن الترمذي روى الحديث 2: 23، عن أبي كريب -شيخ الطبري هنا - عن وكيع، به. وثبتت فيه تلاوة الآية على الخطأ، كرواية أحمد عن وكيع. ونقل شارحه المباركفوري عن الحافظ العراقي أنه قال: "في هذا تخليط من بعض الرواة. والصواب: (ألم يعلموا أن الله هو يقبل التوبة) - الآية. وقد رويناه في كتاب الزكاة ليوسف القاضي، على الصواب".
بل إن الحافظ المنذري غفل عن هذا الخطأ أيضًا. فذكر الحديث في الترغيب والترهيب 2: 19، عن رواية الترمذي، وذكر الآية كرواية المسند والترمذي - مخالفة للتلاوة.
فإذا كان ذلك كذلك، فأنا أرجح أن أبا جعفر الطبري رحمه الله سمعه من أبي كريب عن وكيع، كرواية الترمذي عن أبي كريب، وكرواية أحمد عن وكيع، فلم يستجز أن يذكر الآية على الخطأ في التلاوة، فذكرها على الصواب. وقد أصاب في ذلك وأجاد وأحسن.
وقال الترمذي - بعد روايته: "هذا حديث حسن صحيح. وقد روي عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم - نحو هذا".
ورواية عائشة ستأتي: 6255.
وذكره ابن كثير في التفسير 2: 62، من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن عمرو بن عبد الله الأودي، عن وكيع، بهذا الإسناد، لكنه لم يذكر الآية الأولى التي وقع فيها الخطأ.
وذكره السيوطي 1: 365، وزاد نسبته للشافعي، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن خزيمة، وابن المنذر، والدارقطني في الصفات.
ورواه أحمد أيضًا: 9234، عن خلف بن الوليد، عن المبارك، وهو ابن فضالة، عن عبد الواحد ابن صبرة، وعباد بن منصور، عن القاسم، عن أبي هريرة - فذكره بنحوه، مختصرًا، ولم يذكر فيه الآيتين.
وأشار ابن كثير 2: 62، إلى رواية المسند هذه، ولكن وقع فيه تخليط من الناسخين.
والحديث سيأتي نحو معناه، مطولا ومختصرًا، عن أبي هريرة: 6254، 6256، 6257. وعن عائشة: 6255.
وسنشير إلى بقية تخريجه في آخرها: 6257.(6/16)
6254 - حدثني سليمان بن عمر بن خالد الأقطع قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن عباد بن منصور، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة = ولا أراه إلا قد رفعه = قال: إن الله عز وجل يقبَلُ الصدقة، ولا يقبلُ إلا الطيب." (1) .
__________
(1) الحديث: 6254- سليمان بن عمر بن خالد الأقطع، القرشي العامري الرقي: ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/131، وذكر أن أباه كتب عنه. ولم يذكر فيه جرحًا.
ابن المبارك: هو عبد الله. وسفيان: هو الثوري.
والحديث مختصر ما قبله. والشك في رفعه - هنا - لا يضر، فقد صح الحديث مرفوعًا بالإسناد السابق والأسانيد الأخر.
وسيأتي الحديث أيضًا، بهذا الإسناد (ج 11 ص 15 بولاق) ، ولم يذكر لفظه، بل ذكر أوله، ثم قال: "ثم ذكر نحوه". إحالة على الحديث السابق. فكأنه رواه هناك مطولا، ولكن دون ذكر سياقه كاملا.
وأشار ابن كثير، في تفسير سورة التوبة 4: 235- إلى هذه الرواية والتي قبلها، جعلهما حديثًا واحدًا، عن الثوري ووكيع، عن عباد بن منصور، به. ولكنه لم يذكر تخريجه.(6/17)
6255- حدثني محمد بن عُمر بن علي المقدّمي، قال: حدثنا ريحان بن سعيد، قال: حدثنا عباد، عن القاسم، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الله تبارك وتعالى يقبل الصدقة ولا يقبل منها إلا الطيب، ويربّيها لصاحبها كما يربِّي أحدُكم مُهره أو فَصيله، حتى إنّ اللقمة لتصيرُ مثل أحُد، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (يمحق الله الرّبا ويُرْبي الصدقات) . (1) .
__________
(1) الحديث: 6255- محمد بن عمر بن علي بن عطاء بن مقدم، المقدمي البصري، ثقة، مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/179، وابن أبي حاتم 4/1/21. ووقع في المطبوعة هنا غلط في اسم أبيه: "عمرو" بدل"عمر". وسيأتي بتخليط أشد في المطبوعة: 6809، هكذا: "محمد ابن عمرو وابن علي عن عطاء المقدمي"!!
و"المقدمي": بتشديد الدال المهملة المفتوحة، نسبة إلى جده الأعلى"مقدم".
ريحان بن سعيد الناجي البصري: من شيوخ أحمد وإسحاق. وقال يحيى بن معين: "ما أرى به بأسا". وتكلم فيه بعضهم، ولكن البخاري ترجمه في الكبير 2/1/301، فلم يذكر فيه جرحًا. وكان إمام مسجد عباد بن منصور، كما في الكبير، وابن أبي حاتم 1/2/517. وتكلم فيه ابن حبان والعجلي باستنكار بعض ما روى عن عباد. ولعله كان أعرف به إذ كان إمام مسجده.
وأيا ما كان، فإنه لم ينفرد عن عباد بهذه الرواية، كما سيظهر من التخريج.
فرواه أحمد في المسند 6: 251 (حلبي) ، عن عبد الصمد، عن حماد، عن ثابت، عن القاسم ابن محمد، عن عائشة: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن الله ليربي لأحدكم التمرة واللقمة، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله، حتى يكون مثل أحد".
وهذا إسناد صحيح. ولكن الحديث مختصر.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه 5: 234-235 (من مخطوطة الإحسان) . من طريق عبد الصمد، عن حماد بن سلمة، عن ثابت البناني، عن القاسم.
ورواه البزار مطولا، من طريق يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة - ومن طريق الضحاك بن عثمان، عن أبي هريرة، بنحو رواية الطبري هنا، إلا أنه لم يذكر الآية في آخره. نقله ابن كثير 2: 62-63.
ولكن رواه الضحاك بن عثمان عن أبي هريرة منقطعة، لأنه إنما يروى عن التابعين.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 111 مختصرًا كرواية المسند، وقال: "رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح". ثم ذكره مطولا 3: 112، وقال: "رواه البزار، ورجاله ثقات". ولكنه ذكره من حديث عائشة وحدها.
وذكر السيوطي 1: 365 لفظ الطبري هنا. ثم تساهل في نسبته، فنسبه للبزار، وابن جرير، وابن حبان، والطبراني.(6/18)
6256 - حدثني محمد بن عبد الملك، قال: حدثنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن أيوب، عن القاسم بن محمد، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ العبد إذا تصدق من طيّب تقبلها الله منه، ويأخذها بيمينه ويربِّيها كما يربِّي أحدكم مهرَه أو فصيله. وإنّ الرجل ليتصدّق باللقمة فتربو في يد الله = أو قال:"في كفِّ الله عز وجلّ = حتى تكون مثلَ أحُد، فتصدّقوا". (1) .
6257- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت
__________
(1) الحديث: 6256-"محمد بن عبد الملك": الراجح عندي أنه"محمد بن عبد الملك بن زنجويه البغدادي"، فإنه يروي عن عبد الرزاق، وهو من طبقة شيوخ الطبري، وإن لم أجد نصا يدل على روايته عنه. ولكنه بغدادي مثله. فمن المحتمل جدا أن يروى عنه، بل هو هو الأغلب الأكثر في مثل هذه الحال. وهو ثقة، وثقه النسائي وغيره. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/5. وتاريخ بغداد 2: 345-346.
ومن شيوخ الطبري الذين روى عنهم في التاريخ: "محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب"، وهو ثقة أيضًا، ولكن لم يذكر عنه أنه روى عن عبد الرزاق، والغالب أن ينص على مثل هذا. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/5، وتاريخ بغداد 2: 344-345.
وقد انفرد ابن كثير بشيء لا أدري ما هو؟ فحين ذكر هذا الحديث 2: 62، ذكر أنه"رواه ابن جرير، عن محمد بن عبد الملك بن إسحاق"!! ولم أجد في الرواة من يسمى بهذا. فلا أدري أهو سهو منه، أم تخليط من الناسخين؟
والحديث رواه أحمد في المسند: 7622، عن عبد الرزاق، بهذا الإسناد.
ورواه إمام الأئمة ابن خزيمة، في كتاب التوحيد، ص: 44، عن محمد بن رافع، وعبد الرحمن ابن بشر بن الحكم - كلاهما عن عبد الرزاق، به.
وذكر المنذري في الترغيب والترهيب 2: 19، أنه رواه ابن خزيمة في صحيحه أيضًا.
ونقله ابن كثير عن هذا الموضع من الطبري - كما أشرنا، ثم قال: "وهكذا رواه أحمد عن عبد الرزاق. وهذا طريق غريب صحيح الإسناد، ولكن لفظه عجيب. والمحفوظ ما تقدم"! يعني رواية عباد بن منصور.
ولسنا نرى في هذا اللفظ عجبا، ولا في الإسناد غرابةّ! وهو صحيح على شرط الشيخين.
ثم إن عبد الرزاق لم ينفرد به عن معمر، فقد تابعه عليه محمد بن ثور. فرواه الطبري - فيما سيأتي (ج 11 ص 15-16 بولاق) ، عن محمد بن عبد الأعلى، عن محمد بن ثور، عن معمر، به. نحوه. وهذا إسناد صحيح أيضًا. فإن محمد بن ثور الصنعاني العابد: ثقة، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، بل فضله أبو زرعة على عبد الرزاق.(6/19)
يونس، عن صاحب له، عن القاسم بن محمد قال، قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل يقبل الصدقة بيمينه، ولا يقبل منها إلا ما كان طيِّبًا، والله يربِّي لأحدكم لقمته كما يربِّي أحدكم مُهره وفصيله، حتى يوافَي بها يوم القيامة وهي أعظم من أحُد". (1) .
* * *
__________
(1) الحديث: 6257- وهذا إسناد فيه راو مبهم، هو الذي روى عنه يونس، ومن المحتمل جدا أن يكون هو أيوب. ولكن لا يزال الإسناد ضعيفا حتى نجد الدلالة على هذا المبهم.
وأما الحديث في ذاته فصحيح بالأسانيد السابقة وغيرها.
وأصل المعنى ثابت من حديث أبي هريرة، من أوجه كثيرة:
فرواه البخاري 3: 220-223، و 13: 352 ومسلم، 1: 277-278، والترمذي 2: 22-23، والنسائي 1: 349، وابن ماجه: 1842، وابن حبان في صحيحه 5: 234-237 (من مخطوطة الإحسان) ، وابن خزيمة في كتاب التوحيد. ص: 41-44.
ورواه أحمد في المسند -غير ما أشرنا إليه سابقا-: 8363 (2: 331 حلبي) ، 8948، 8949 (ص: 381-382) ، 9234 (ص404) ، 9413 (ص: 418) ، 9423 (ص: 419) ، 9561 (ص: 431) ، 10958 (ص: 538) ، 10992 (ص: 541) .
ورواه البخاري في الكبير، بالإشارة الموجزة كعادته 2/1/476.
وقد جاء في ألفاظ هذا الحديث: "في يد الله"، و"في كف الله"، و"كف الرحمن"، ونحو هذه الألفاظ. فقال الترمذي 2: 23-24.
"وقال غير واحد من أهل العلم، في هذا الحديث، وما يشبه هذا من الروايات من الصفات، وتزول الرب تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا - قال: قد ثبتت الروايات في هذا، ونؤمن بها. ولا يتوهم، ولا يقال: كيف؟ هكذا رُوي عن مالك ابن أنس، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك، انهم قالوا في هذه الأحاديث: أَمِرُّوها بلا كيفَ. وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة والجماعة، وأما الجهمية، فأنكرت هذه الروايات، وقالوا: هذا تشبيه! وقد ذكر الله تبارك وتعالى في غير موضع من كتابه -: اليد، والسمع والبصر. فتأولت الجهمية هذه الآيات، وفَّسروها على غير ما فَّسر أهلُ العلمّ! وقالوا: إن الله لم يَخْلق آدم بيده! وقالوا: إنما معنى اليد القوة!! وقال إسحاق بن إبراهيم: إنما يكون التشبيه إذا قال يد كَيدٍ، أو مِثْل يَدٍ، أو سمع كسَمْعٍ، أو مثلَ سمعٍ. فإذا قال سمع كسمعٍ أو مثل سمع- فهذا تشبيه. وأما إذا قال كما قال الله: يد، وسمع، وبصر. ولا يقول: كيف، ولا يقول: مثل سمع ولا كسمعٍ - فهذا لا يكون تشبيهاً. وهو كما قال الله تبارك وتعال: (ليس كَمِثْلهِ شيءٌ وهو السَّميعُ البَصير) ".(6/20)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
قال أبو جعفر: وأما قوله:"والله لا يحب كل كفار أثيم"، فإنه يعني به: والله لا يحب كل مُصرٍّ على كفر بربه، مقيم عليه، مستحِلّ أكل الربا وإطعامه،"أثيم"، متماد في الإثم، فيما نهاه عنه من أكل الربا والحرام وغير ذلك من معاصيه، لا ينزجر عن ذلك ولا يرعوي عنه، ولا يتعظ بموعظة ربه التي وعظه بها في تنزيله وآي كتابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) }
قال أبو جعفر: وهذا خبر من الله عز وجل بأن الذين آمنوا = يعني الذين صدقوا بالله وبرسوله، وبما جاء به من عند ربهم، من تحريم الربا وأكله، وغير ذلك من سائر شرائع دينه ="وعملوا الصالحات" التي أمرهم الله عز وجل بها، والتي نَدَبهم إليها ="وأقاموا الصلاة" المفروضة بحدودها، وأدّوها بسُنَنها ="وآتوا الزكاة" المفروضة عليهم في أموالهم، بعد الذي سلف منهم من أكل الرّبا، قبل مجيء الموعظة فيه من عند ربهم ="لهم أجرهم"، يعني ثواب ذلك من أعمالهم وإيمانهم وصَدَقتهم ="عند ربهم" يوم حاجتهم إليه في معادهم = ولا خوف عليهم" يومئذ من عقابه على ما كان سلف منهم في جاهليتهم وكفرهم قبل مجيئهم موعظة من ربهم، من أكل ما كانوا أكلوا من الربا، بما كان من إنابتهم، وتوبتهم إلى الله عز وجل من ذلك عند مجيئهم الموعظة من ربهم،(6/21)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)
وتصديقهم بوعد الله ووعيده ="ولا هم يحزنون" على تركهم ما كانوا تركوا في الدنيا من أكل الربا والعمل به، إذا عاينوا جزيل ثواب الله تبارك وتعالى، وهم على تركهم ما ترَكوا من ذلك في الدنيا ابتغاءَ رضوانه في الآخرة، فوصلوا إلى ما وُعدوا على تركه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"يا أيها الذين آمنوا"، صدّقوا بالله وبرسوله="اتقوا الله"، يقول: خافوا الله على أنفسكم، فاتقوه بطاعته فيما أمركم به، والانتهاء عما نهاكم عنه="وذروا"، يعني: ودعوا="ما بقي من الربا"، يقول: اتركوا طلب ما بقي لكم من فَضْل على رءوس أموالكم التي كانت لكم قبل أن تُربوا عليها ="إن كنتم مؤمنين"، يقول: إن كنتم محققين إيمانكم قولا وتصديقكم بألسنتكم، بأفعالكم. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: وذكر أن هذه الآية نزلت في قوم أسلموا ولهم على قوم أموالٌ من رباً كانوا أرْبوه عليهم، فكانوا قد قبضوا بعضَه منهم، وبقي بعضٌ، فعفا الله جل ثناؤه لهم عما كانوا قد قبضوه قبل نزول هذه الآية، (2) وحرّم عليهم اقتضاءَ ما بقي منه.
* ذكر من قال ذلك:
6258 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا" إلى:"ولا تظلمون"، قال: نزلت هذه الآية في العباس بن عبد المطلب ورجلٍ من بني المغيرة، كانا
__________
(1) قوله: "بأفعالكم" متعلق بقوله: "محققين. . . "، أي محققين ذلك بأفعالكم.
(2) في المخطوطة: "عما كان قد اقتضوه. . . "، وهو فاسد، والصواب ما في المطبوعة.(6/22)
شريكين في الجاهلية، يُسلِفان في الرِّبا إلى أناس من ثقيف من بني عمرو = (1) وهم بنو عمرو بن عمير، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله"ذروا ما بقي" من فضل كان في الجاهلية ="من الربا".
6259 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين"، قال: كانت ثقيف قد صالحت النبيّ صلى الله عليه وسلم على أنّ ما لهم من ربًا على الناس وما كان للناس عليهم من ربًا فهو موضوع. فلما كان الفتحُ، استعمل عتَّاب بن أسِيد على مكةَ، وكانت بنو عمرو بن عُمير بن عوف يأخذون الرِّبا من بني المغيرة، وكانت بنو المغيرة يُرْبون لهم في الجاهلية، فجاء الإسلام ولهم عليهم مال كثير. فأتاهم بنو عمرو يطلبون رباهم، فأبي بنو المغيرة أن يعطوهم في الإسلام، ورفعوا ذلك إلى عتّاب بن أسيد، فكتب عتّاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت:"يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرْب من الله ورسوله"، إلى"ولا تظلمون". فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عتّاب وقال:"إن رَضوا وإلا فآذنهم بحرب" = وقال ابن جريج، عن عكرمة، قوله:"اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا"، قال: كانوا يأخذون الرّبا على بني المغيرة، يزعمون أنهم مسعود وعبد ياليل وحبيب وربيعة، بنو عمرو بن عمير، فهم الذين كان لهم الرّبا على بني المغيرة، فأسلم عبد ياليل وحَبيب وربيعة وهلالٌ ومسعود. (2)
6260 - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا جويبر،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "سلفا في الربا إلى أناس. . . " بالفعل الماضي، والصواب ما أثبت من الدر المنثور 1: 366، والبغوي (بهامش ابن كثير) 2: 63. والسلف (بفتحتين) : القرض. والفعل: أسلف وسلف (بتشديد اللام) .
(2) الأثر: 6259- انظر ما قاله الحافظ في الإصابة في ترجمة"هلال الثقفي". وقال: "وفي ذكر مصالحة ثقيف قبل قوله: "فلما كان الفتح" نظر، ذكرت توجيهه في أسباب النزول".(6/23)
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279)
عن الضحاك في قوله:"اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا إن كنتم مؤمنين"، قال: كان ربًا يتبايعون به في الجاهلية، فلما أسلموا أمِروا أن يأخذوا رؤوس أموالهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله: (فإن لم تفعلوا) فإن لم تذَروا ما بقي من الربا.
* * *
واختلف القرأة في قراءة قوله:"فأذنوا بحرب من الله ورسوله".
فقرأته عامة قرأة أهل المدينة:"فَأْذَنُوْا" بقصر الألف من"فآذنوا"، وفتح ذالها، بمعنى: كونوا على علم وإذن.
* * *
وقرأه آخرون وهي قراءة عامة قرأة الكوفيين:"فَآذِنُوا" بمدّ الألف من قوله:"فأذنوا" وكسر ذالها، بمعنى: فآذنوا غيرَكم، أعلمُوهم وأخبروهم بأنكم علىَ حرْبهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ:"فأذَنوا" بقصر ألفها وفتح ذالها، بمعنى: اعلموا ذلك واستيقنوه، وكونوا على إذن من الله عز وجل لكم بذلك.
وإنما اخترنا ذلك، لأن الله عز وجل أمر نبيه صلى الله عليه وسلم أن ينبذ إلى من أقام(6/24)
على شركه الذي لا يُقَرُّ على المقام عليه، وأن يقتُل المرتدّ عن الإسلام منهم بكل حال إلا أن يراجع الإسلام، آذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يُؤذنوه. (1) فإذْ كان المأمور بذلك لا يخلو من أحد أمرين، إما أن يكون كان مشركا مقيمًا على شركه الذي لا يُقَرُّ عليه، أو يكون كان مسلمًا فارتدَّ وأذن بحرب. فأي الأمرين كان، فإنما نُبذ إليه بحرب، لا أنه أمر بالإيذان بها إن عَزَم على ذلك. (2) لأن الأمر إن كان إليه، فأقام على أكل الربا مستحلا له ولم يؤذن المسلمون بالحرب، لم يَلزمهم حرْبُه، وليس ذلك حُكمه في واحدة من الحالين، فقد علم أنه المأذون بالحرب لا الآذن بها.
وعلى هذا التأويل تأوله أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6261 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الرّبا"، إلى قوله: (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) : فمن كان مقيمًا على الرّبا لا ينزعُ عنه، فحقٌّ على إمام المسلمين أن يستتيبه، فإن نزع، وإلا ضَرب عنقه.
6262 - حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم قال، حدثني أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: يُقال يوم القيامة لآكل الرّبا:"خذ سلاحك للحرْب". (3)
6263- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج، قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، قال: حدثنا أبي، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.
6264 - حدثنا بشر، قال، حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: (وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين. فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله) أوْعدهم الله بالقتل كما تسمعون، فجعلهم بَهْرَجًا أينما ثقفوا. (4)
__________
(1) في المطبوعة: "أذنه المشركون بأنهم على حربه أو لم يأذنوه". وهو خطأ في الرسم، وفساد في المعنى بهذا الرسم. وصواب رسمه في المخطوطة، وهو صواب المعنى.
(2) في المخطوطة: "بالإنذار بها إن عزم على ذلك"، وهي صواب في المعنى، ولكن ما في المطبوعة عندي أرجح.
(3) الأثر: 6262- انظر الأثر السالف رقم: 6241، والتعليق عليه.
(4) البهرج: الشيء المباح. والمكان بهرج: غير حمى. وبهرج دمه: أهدره وأبطله. وفي الحديث: أنه بهرج دم ابن الحارث.(6/25)
6265 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، مثله.
6266 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله"، أوعد الآكلَ الرّبا بالقتل. (1)
6267 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: قوله: (فأذنوا بحرب من الله ورسوله) فاستيقنوا بحرب من الله ورسوله.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأخبار كلها تنبئ عن أن قوله: (فأذنوا بحرب من الله) إيذان من الله عز وجل لهم بالحرب والقتل، لا أمر لهم بإيذان غيرهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أُمْوَالِكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"إن تبتم" فتركتم أكلَ الربا وأنبتم إلى الله عز وجل ="فلكم رؤوس أموالكم" من الديون التي لكم على الناس، دون الزيادة التي أحدثتموها على ذلك ربًا منكم، كما:
6268 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، والمال الذي لهم على ظهور الرجال، (2) جعل لهم
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "أوعد لآكل الربا. . . " وهو لا شيء، والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "المال الذي لهم" بإسقاط الواو، وأثبت ما في المخطوطة وسيأتي على الصواب رقم: 6297. وفي المخطوطة"ظهور الرحال" بالحاء.(6/26)
رءوس أموالهم حين نزلت هذه الآية، فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئًا.
6269 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك قال: وضع الله الرّبا، وجعل لهم رءوس أموالهم.
6270 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة في قوله:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، قال: ما كان لهم من دَين، فجعل لهم أن يأخذوا رءوس أموالهم، ولا يزدادُوا عليه شيئًا.
6271- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم" الذي أسلفتم، وسقط الربا.
6272 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يوم الفتح:"ألا إن ربا الجاهلية موضوعٌ كله، وأوَّل ربا أبتدئ به ربا العباس بن عبد المطلب".
6273- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته:"إنّ كل ربا موضوع، وأول ربًا يوضع ربا العباس". (1) .
* * *
__________
(1) الأثران: 6272، 6273- حديث خطبته صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، رواه مسلم 8: 182، 183 في حديث جابر بن عبد الله في حجة الوداع. وسنن البيهقي 5: 274، 275. وخرجه السيوطي في الدر المنثور 1: 367، وقال"أخرج أبو داود والترمذي وصححه، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه عن عمرو بن الأحوص أنه شهد حجة الوداع. . . "، وانظر ابن كثير 2: 65.(6/27)
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله:"لا تَظلمون" بأخذكم رؤوس أموالكم التي كانت لكم قبل الإرباء على غُرمائكم منهم، دون أرباحها التي زدتموها ربًا على من أخذتم ذلك منه من غرمائكم، فتأخذوا منهم ما ليس لكم أخذُه، أو لم يكن لكم قبلُ="ولا تُظلمون"، يقول: ولا الغريم الذي يعطيكم ذلك دون الرّبا الذي كنتم ألزمتموه من أجل الزيادة في الأجل، يبخسُكم حقًّا لكم عليه فيمنعكموه، لأن ما زاد على رؤوس أموالكم لم يكن حقًّا لكم عليه، فيكون بمنعه إياكم ذلك ظالما لكم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس يقول، وغيرُه من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6274 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون"، فتُربون،"ولا تظلمون" فتنقصون.
6275 - وحدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون"، قال: لا تنقصون من أموالكم، ولا تأخذون باطلا لا يحلُّ لكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك:"وإن كان" ممن تقبضون منه من غرمائكم رؤوسَ أموالكم ="ذو عُسْرَة" يعني: معسرًا برؤوس أموالكم التي كانت لكم عليهم قبلَ الإرباء، فأنظروهم إلى ميسرتهم.(6/28)
وقوله:"ذو عسرة"، مرفوع ب"كان"، فالخبر متروك، وهو ما ذكرنا. وإنما صلح ترك خبرها، من أجل أنّ النكرات تضمِرُ لها العربُ أخبارَها، ولو وُجِّهت"كان" في هذا الموضع، إلى أنها بمعنى الفعل المكتفِي بنفسه التام، لكان وجهًا صحيحًا، ولم يكن بها حاجة حينئذ إلى خبر. فيكون تأويلُ الكلام عند ذلك: وإن وُجد ذُو عسرة من غرمائكم برؤوس أموالكم، فنَظِرة إلى ميسرة.
وقد ذكر أنّ ذلك في قراءة أبي بن كعب: (وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ) ، بمعنى: وإن كان الغريم ذا عسرة ="فنظرة إلى ميسرة". وذلك وإن كان في العربية جائزا فغيرُ جائز القراءة به عندنا، لخلافه خطوط مصاحف المسلمين. (1)
* * *
وأما قوله: (فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ) ، فإنه يعني: فعليكم أن تنظروه إلى ميسرة، كما قال: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) [سورة البقرة: 196] ، وقد ذكرنا وجه رفع ما كان من نظائرها فيما مضى قبلُ، فأغنى عن تكريره. (2) .
* * *
و"الميسرَة"، المفعلة من"اليُسر"، مثل"المرْحمة" و"والمشأمة".
* * *
ومعنى الكلام: وإن كان من غرمائكم ذو عسرة، فعليكم أن تنظروه حتى يُوسر بالدَّين الذي لكم، (3) فيصيرَ من أهل اليُسر به.
وبنحو الذي قلنا في ذلك، قال أهل التأويل.
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 186.
(2) انظر ما سلف 4: 34.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى يوسر بما ليس لكم"، واجتهد مصحح المطبوعة وقال: "لعل (ليس) زائدة من الناسخ". ولا أراه كذلك، بل قوله"بما ليس"، هي في الأصل الذي نقل عنه الناسخ"بالدين" مرتبطة الحروف، كما يكون كثيرا في المخطوطة القديمة، فلم يحسن الناسخ قراءتها، فقرأها"بما ليس"، وحذف"الذي"، لظنه أنها زائدة سهوا من الناسخ قبله، وتبين صحة ما أثبتناه، من كلام الطبري بعد في آخر تفسير الآية. ولو قرئت: "برأس ما لكم"، لكان صوابا في المعنى، كما يتبين من الآثار الآتية.(6/29)
ذكر من قال ذلك:
6277 - حدثني واصل بن عبد الأعلى قال، حدثنا محمد بن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: نزلت في الربا.
6278 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا هشام، عن ابن سيرين: أن رجلا خاصَم رجلا إلى شُرَيح، قال: فقضى عليه وأمرَ بحبسه، قال: فقال رجل عند شريح: إنه مُعسرٌ، والله يقول في كتابه:"وإن كان ذو عسرة فنَظِرة إلى ميسرة"! قال: فقال شريح: إنما ذلك في الربا! وإن الله قال في كتابه: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [سورة النساء: 58] ولا يأمرنا الله بشيء ثم يعذبنا عليه.
6279 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: ذلك في الربا.
6280 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبيّ أن الربيع بن خثيم كان له على رجل حق، فكان يأتيه ويقوم على بابه ويقول: أيْ فلان، إن كنت مُوسرًا فأدِّ، وإن كنت مُعسرًا فإلى مَيسرة. (1)
6281- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، قال: جاء رجل إلى شريح فكلَّمه فجعل يقول: إنه معسر، إنه مُعسر! ! قال: فظننت أنه يكلِّمه في محبوس، فقال شريح: إن الربا كان في هذا الحي من الأنصار،
__________
(1) الأثر: 6280 - كان في المطبوعة: "مغيرة، عن الحسن. . . "، وفي المخطوطة"مغيرة، عن الحسى" مشددة الياء بالقلم، والناسخ كثير السهو والغفلة والتصحيف كما أسلفنا. وإنما هو"الشعبي"، وهذا الإسناد إلى الشعبي قد مضى مئات من المرات، انظر مثلا: 4385. وكان في المطبوعة: "الربيع بن خيثم" وهو تصحيف والصواب ما أثبت، وقد مضت ترجمته في رقم: 1430.(6/30)
فأنزل الله عز وجل:"وإنْ كان ذُو عُسْرَة فَنظِرة إلى ميسرة" وقال الله عز وجل: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا) ، فما كان الله عز وجل يأمرنا بأمر ثم يعذبنا عليه، أدّوا الأمانات إلى أهلها.
6282- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنطرة إلى ميسرة"، قال: فنظرة إلى ميسرة برأس ماله.
6283 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، إنما أمر في الربا أن ينظر المعسر، وليست النَّظِرة في الأمانة، ولكن يؤدِّي الأمانة إلى أهلها. (1)
6284 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن كان ذو عسرة فنظرة" برأس المال ="إلى ميسرة"، يقول: إلى غنى.
6285- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، هذا في شأن الربا.
6286 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان قال (2) سمعت الضحاك في قوله: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة) ، هذا في شأن الربا، وكان أهل الجاهلية بها يتبايعون، فلما أسلم من أسلم منهم، أمِروا أن يأخذوا رءوس أموالهم.
__________
(1) في المخطوطة: "ولكن مؤدي الأمانة. . . "، وهو تصحيف من الناسخ.
(2) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، والصواب من المخطوطة، وقد مضى الكلام على هذا الإسناد فيما سلف.(6/31)
6287 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، يعني المطلوب.
6288 - حدثني ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن أبي جعفر في قوله:"وإن كان ذُو عسرة فنظِرةَ إلى ميسرة"، قال: الموت.
6289 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن محمد بن علي مثله.
6290- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم:"وإن كان ذُو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، قال: هذا في الربا.
6291- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم في الرجل يتزوج إلى الميسرة، قال: إلى الموت، أو إلى فُرْقة.
6292- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم:"فنظرة إلى ميسرة"، قال: ذلك في الربا.
6293 - حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد:"فنظرة إلى ميسرة"، قال: يؤخّره، ولا يزدْ عليه. وكان إذا حلّ دين أحدهم فلم يجد ما يعطيه، زاد عليه وأخَّره.
6294 - وحدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا مندل، عن ليث، عن مجاهد:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" قال: يؤخره ولا يزدْ عليه.
* * *(6/32)
وقال آخرون: هذه الآية عامة في كل من كان له قِبَل رجل معسر حقٌّ (1) من أيّ وجهة كان ذلك الحق، من دين حلال أو ربا.
ذكر من قال ذلك:
6295 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: من كان ذا عُسرة فنظرة إلى ميسرة، وأن تصدّقوا خير لكم. قال: وكذلك كل دين على مسلم، فلا يحلّ لمسلم له دَين على أخيه يعلم منه عُسرة أن يسجنه، ولا يطلبه حتى ييسره الله عليه. وإنما جعل النظرة في الحلال، فمن أجل ذلك كانت الدّيون على ذلك.
6296- حدثني علي بن حرب قال، حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" قال: نزلت في الدَّين. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة"، أنه معنيٌّ به غرماء الذين كانوا أسلموا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهم عليهم ديون قد أربَوْا فيها في الجاهلية، فأدركهم الإسلام قبل أن يقبضوها منهم، فأمر الله بوضع ما بقي من الربا بعد ما أسلموا، وبقبض رؤوس أموالهم، ممن كان منهم من غرمائهم موسرا، أو إنظار من كان منهم معسرا برؤوس أموالهم إلى ميسرتهم. فذلك حكم كل من أسلم وله ربا قد أربى على غريم له، فإن الإسلام يبطل عن غريمه ما كان له عليه من قِبْل الربا، ويلزمه أداء رأس ماله - الذي كان أخذ منه، أو لزمه
__________
(1) في المخطوطة: "هذه الآية عام. . . " تصحيف من الناسخ وسهو.
(2) الأثر: 6296-"علي بن حرب بن محمد بن علي الطائي". قال النسائي: "صالح"، وقال أبو حاتم: "صدوق" توفي سنة 265، مترجم في التهذيب.(6/33)
من قبل الإرباء - إليه، إن كان موسرا. (1) وإن كان معسرا، كان منظرا برأس مال صاحبه إلى ميسرته، وكان الفضل على رأس المال مبطلا عنه.
غير أن الآية وإن كانت نزلت فيمن ذكرنا، وإياهم عنى بها، فإن الحكم الذي حكم الله به: من إنظاره المعسر برأس مال المربي بعد بطول الربا عنه، حكم واجب لكل من كان عليه دين لرجل قد حل عليه، وهو بقضائه معسر: في أنه منظر إلى ميسرته، لأن دين كل ذي دين، في مال غريمه، وعلى غريمه قضاؤه منه - لا في رقبته. فإذا عدم ماله، فلا سبيل له على رقبته بحبس ولا بيع، وذلك أن مال رب الدين لن يخلو من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون في رقبة غريمه، أو في ذمته يقضيه من ماله، أو في مال له بعينه.
= فإن يكن في مال له بعينه، فمتى بطل ذلك المال وعدم، فقد بطل دين رب المال، وذلك ما لا يقوله أحد.
= ويكون في رقبته، (2) فإن يكن كذلك، فمتى عدمت نفسه، فقد بطل دين رب الدين، وإن خلف الغريم وفاء بحقه وأضعاف ذلك، وذلك أيضا لا يقوله أحد.
فقد تبين إذا، إذ كان ذلك كذلك، أن دين رب المال في ذمة غريمه يقضيه من ماله، فإذا عدم ماله فلا سبيل له على رقبته، لأنه قد عدم ما كان عليه أن يؤدي منه حق صاحبه لو كان موجودا، وإذا لم يكن على رقبته سبيل، لم يكن إلى حبسه وهو معدوم بحقه، سبيل. (3) لأنه غير مانعه حقا، له إلى قضائه سبيل، فيعاقب بمطله إياه بالحبس. (4)
* * *
__________
(1) سياق العبارة"ويلزمه أداء رأس ماله. . . إليه. . . "، وما بينهما فصل.
(2) في المطبوعة: "ويكون في رقبته"، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "لم يكن إلى حبسه بحقه وهو معدوم سبيل" قدم"بحقه"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو صواب جيد.
(4) في المطبوعة: "فيعاقب بظلمه إياه. . . "، وفي المخطوطة"فيعاقب بطله إياه. . " وصواب قراءتها ما أثبت. مطله حقه يمطله مطلا، وماطله مطالا: سوفه ودافعه بالعدة والدين. هذا، وأبو جعفر رضي الله عنه، رجل قويم الحجة، أسد اللسان، سديد المنطق، عارف بالمعاني ومنازلها من الرأي، ومساقطها من الصواب. وهذه حجة بينة فاصلة من حججه التي أشرت إليها كثيرا في بعض تعليقي على هذا التفسير الجليل.(6/34)
وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) }
قال أبو جعفر: يعني جل وعز بذلك: وأن تتصدقوا برؤوس أموالكم على هذا المعسر، ="خير لكم" أيها القوم من أن تنظروه إلى ميسرته، لتقبضوا رؤوس أموالكم منه إذا أيسر ="إن كنتم تعلمون" موضع الفضل في الصدقة، وما أوجب الله من الثواب لمن وضع عن غريمه المعسر دينه.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك:"وأن تصدقوا" برؤوس أموالكم على الغني والفقير منهم ="خير لكم".
ذكر من قال ذلك:
6297 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإن تبتم فلكم رؤوس أموالكم"، والمال الذي لهم على ظهور الرجال جعل لهم رؤوس أموالهم حين نزلت هذه الآية. فأما الربح والفضل فليس لهم، ولا ينبغي لهم أن يأخذوا منه شيئا ="وأن تصدقوا خير لكم"، يقول: أن تصدقوا بأصل المال، خير لكم. (1)
6298 - حدثني يعقوب قال حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة:
__________
(1) الأثر: 6297- سلف برقم: 6268. وانظر التعليق هناك.(6/35)
"وأن تصدقوا"، أي برأس المال، فهو خير لكم.
6299 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم: (وأن تصدقوا خير لكم) قال: من رؤوس أموالكم.
6300 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم بمثله.
6301- حدثني المثنى قال، حدثنا قبيصة بن عقبة قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وأن تصدقوا خير لكم"، قال: أن تصدقوا برؤوس أموالكم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وأن تصدقوا به على المعسر، خير لكم - نحو ما قلنا في ذلك.
ذكر من قال ذلك:
6302 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأن تصدقوا خير لكم"، قال: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم على الفقير، فهو خير لكم، فتصدق به العباس.
6303 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ) ، يقول: وإن تصدقت عليه برأس مالك فهو خير لك.
6304 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ، قال أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك في قوله: (وأن تصدقوا خير لكم) ، يعني: على المعسر، فأما الموسر فلا ولكن يؤخذ منه رأس المال، والمعسر الأخذ منه حلال والصدقة عليه أفضل.
6305 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال: أخبرنا هشيم، عن(6/36)
جويبر، عن الضحاك: وأن تصدقوا برؤوس أموالكم، خير لكم من نظرة إلى ميسرة. فاختار الله عز وجل الصدقة على النظارة. (1)
6306 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم"، قال: من النظرة ="إن كنتم تعلمون".
6307- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك: (فنظرة إلى ميسرة وأن تصدقوا خير لكم) ، والنظرة واجبة، وخير الله عز وجل الصدقة على النظرة، (2) والصدقة لكل معسر، فأما الموسر فلا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال: معناه:"وأن تصدقوا على المعسر برءوس أموالكم خير لكم" لأنه يلي ذكر حكمه في المعنيين. وإلحاقه بالذي يليه، أحب إلي من إلحاقه بالذي بعد منه.
* * *
قال أبو جعفر: وقد قيل إن هذه الآيات في أحكام الربا، هن آخر آيات نزلت من القرآن.
ذكر من قال ذلك:
6308 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد = وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن سعيد، = عن قتادة، عن سعيد بن المسيب: أن عمر بن الخطاب قال: كان آخر ما نزل من القرآن آية الربا،
__________
(1) النظارة (بكسر النون) : الإنظار وهو الإمهال. وهو مصدر لم أجده في كتب اللغة، ولكنه عريق في عربيته. كالنذارة، من الإنذار، وهو عزيز، ولكنه عربي البناء والقياس.
(2) يقال: "اخترت فلانا على فلان" بمعنى: فضلت فلانا على فلان، ولذلك عدى بعلى. ومثله"خير فلانا على فلان"، أي فضله عليه. وقد جاء في الأثر: "خير بين دور الأنصار"، أي فضل بعضها على بعض. وقلما تجد هذا التعبير.(6/37)
وإن نبي الله صلى الله عليه وسلم قبض قبل أن يفسرها، فدعوا الربا والريبة. (1)
6039- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا داود، عن عامر: أن عمر رضي الله عنه قام فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:"أما بعد، فإنه والله ما أدري لعلنا نأمركم بأمر لا يصلح لكم، وما أدري لعلنا ننهاكم عن أمر يصلح لكم، وإنه كان من آخر القرآن تنزيلا آيات الربا، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبينه لنا، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم". (2)
__________
(1) الحديث: 6308- سعيد: هو ابن أبي عروبة.
والحديث رواه أحمد في المسند: 246، عن يحيى، وهو القطان.
و: 350، عن ابن علية - كلاهما عن ابن أبي عروبة. بهذا الإسناد.
ورواه ابن ماجه: 2276، من طريق خالد بن الحارث، عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة، به.
وذكره ابن كثير 2: 58، عن الموضع الأول من المسند.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 365، وزاد نسبته لابن الضريس، وابن المنذر. وأشار إليه في الإتقان 1: 33، موجزا، منسوبا لأحمد وابن ماجه فقط.
وهذا الحديث - على جلالة رواته وثقتهم - ضعيف الإسناد، لانقطاعه. فإن سعيد بن المسيب لم يسمع من عمر، كما بينا في شرح المسند: 109، وانظر كتاب المراسيل لابن أبي حاتم، ص: 26-27.
(2) الحديث: 6309- داود: هو ابن أبي هند. عامر: هو الشعبي.
وهذا الإسناد ضعيف أيضًا، فإن الشعبي لم يدرك عمر، كما قلنا فيما مضى: 1608، نقلا عن ابن كثير.
وذكره الحافظ في الفتح 8: 153، منسوبا للطبري، وقال: "وهو منقطع، فإن الشعبي لم يدرك عمر".
وذكر ابن كثير 2: 58، نحو معناه، قال: "رواه ابن ماجه وابن مردويه، من طريق هياج ابن بسطام، عن داود بن أبي هند، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدري، قال: خطبنا عمر. . . " إلخ.
وهياج بن بسطام الهروي: اختلفوا فيه جدا، فضعفه أحمد، وابن معين، وابن أبي حاتم، وغيرهم. وقال المكي بن إبراهيم - شيخ البخاري: "ما علمنا الهياج إلا ثقة صادقا عالما". ووثقه محمد ابن يحيى الذهلي. وقد أنكروا عليه أحاديث، ثم ظهر أن الحمل فيها على ابنه خالد الذي رواها عنه. والراجح عندنا هذا، فإن البخاري ترجمه في الكبير 4/2/242، فلم يذكر فيه جرحا. وكأنه ذهب فيه إلى ما اختاره شيخاه: المكي بن إبراهيم، ومحمد بن يحيى الذهلي.
وابن كثير لم يبين من رواه عن الهياج. ثم لم أعرف موضعه في ابن ماجه، وليس عندي كتاب ابن مردويه.
ولكني وجدت له إسنادا إلى الهياج. فرواه الخطيب في ترجمته في تاريخ بغداد 14: 80-81، من طريق محمد بن بكار بن الريان، -وهو ثقة- عن الهياج، بهذا الإسناد.
فعن هذا ظهر أن إسناده صحيح، والحمد لله.(6/38)
وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
6310 - حدثني أبو زيد عمر بن شبة قال، حدثنا قبيصة قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عاصم الأحول، عن الشعبي، عن ابن عباس قال: آخر ما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا، وإنا لنأمر بالشيء لا ندري لعل به بأسا، وننهى عن الشيء لعله ليس به بأس. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) }
قال أبو جعفر: وقيل: هذه الآية أيضا آخر آية نزلت من القرآن.
ذكر من قال ذلك:
6311 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد
__________
(1) الحديث: 6310- أبو زيد عمر بن شبة - بفتح الشين المعجمة وتشديد الباء الموحدة - النميري النحوي: ثقة صاحب عربية وأدب. قال الخطيب: "كان ثقة عالما بالسير وأيام الناس". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/116، وتاريخ بغداد 11: 208-210.
قبيصة: هو ابن عقبة. مضت ترجمته في: 489، 2792. وهذا الحديث من روايته عن سفيان الثوري. وقد بينا هناك أن روايته عنه صحيحة، خلافا لمن تكلم فيها.
عاصم الأحول: هو عاصم بن سليمان. وقد مضى مرارا. ووقع في المطبوعة هنا"عاصم عن الأحول". وهو خطأ مطبعي. وثبت على الصواب في المخطوطة.
وهذا الحديث رواه البخاري في الصحيح 8: 153 (فتح) ، عن قبيصة، بهذا الإسناد. ولكنه اقتصر على أوله، إلى قوله"آية الربا" لأن الباقي موقوف من كلام ابن عباس.
وذكر السيوطي 1: 365 رواية البخاري، وزاد نسبتها لأبي عبيد، والبيهقي في الدلائل.
وقال الحافظ في الفتح: "المراد بالآخرية في الربا: تأخر نزول الآيات المتعلقة به من سورة البقرة. وأما حكم تحريم الربا فنزوله سابق لذلك بمدة طويلة، على ما يدل عليه قوله تعالى في آل عمران، في أثناء قصة أحد: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) الآية".(6/39)
عن يزيد النحوي، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله". (1)
6312 - حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ... " الآية، فهي آخر آية من الكتاب أنزلت.
6313 - حدثني محمد بن عمارة قال، حدثنا سهل بن عامر، قال: حدثنا مالك بن مغول، عن عطية قال: آخر آية نزلت:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى
__________
(1) الحديث: 6311 -أبو تميلة- بضم التاء المثناة: هو يحيى بن واضح. مضت ترجمته في: 392.
الحسين بن واقد: مضت ترجمته في: 4810. ووقع هناك في طبعتنا هذه"الحسن". وهو خطأ مطبعي، مع أننا بيناه على الصواب في الترجمة، فيصحح ذلك.
يزيد النحوي: هو يزيد بن أبي سعيد النحوي المروزي، مولى قريش. وهو ثقة، وثقه أبو زرعة، وابن معين، وغيرهما. قتله أبو مسلم سنة 131 لأمره إياه بالمعروف. والنحوي": نسبة إلى"بني نحو"، بطن من الأزد.
وهذا إسناد صحيح.
والحديث ذكره الحافظ في الفتح 8: 153، ونسبه للطبري فقط.
وذكره ابن كثير 2: 69، عن رواية النسائي، فهو يريد بها السنن الكبرى. وكذلك صنع السيوطي في الإتقان 1: 33.
وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 324، وقال: "رواه الطبراني بإسنادين، رجال أحدهما ثقات".
وفي الدر المنثور 1: 369-370 زيادة نسبته لأبي عبيد، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن الأنباري في المصاحف، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل.
وظاهر هذه الرواية عن ابن عباس، يعارض ظاهر الرواية السابقة عنه: 6310، أن آخر آية زلت هي آية الربا.
فقال الحافظ في الفتح: "وطريق الجمع بين هذين القولين، [يريد الروايتين] : أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا، إذ هي معطوفة عليهن".
ويشير إلى ذلك صنيع البخاري، بدقته وثقوب نظره، فإنه روى الحديث الماضي تحت عنوان: "باب (واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله) ". فجعل بهذه الإشارة الموضوع واحدا، والروايتين متحدتين غير متعارضتين. رحمه الله.(6/40)
الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون". (1)
6314 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن السدي، قال: آخر آية نزلت:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله".
6315 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، (2) عن الضحاك، عن ابن عباس = وحجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس = آخر آية نزلت من القرآن:"واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون" = قال ابن جريج: يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم مكث بعدها تسع ليال، وبدئ يوم السبت، (3) ومات يوم الاثنين.
6316 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال، حدثني سعيد بن المسيب: أنه بلغه أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين. (4)
* * *
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واحذروا أيها الناس = يوما ترجعون
__________
(1) الخبر: 6313- سهل بن عامر: مضت ترجمته في: 1971، وأنه ضعيف جدا. ووقع اسمه في المخطوطة والمطبوعة هنا"إسماعيل بن سهل بن عامر"! وهو تخليط من الناسخين، فلا يوجد راو بهذا الاسم. ثم هذا الإسناد نفسه هو الماضي: 1971. ومضى أيضًا رواية محمد بن عمارة، عن سهل، عن مالك بن مغول: 5431.
(2) في المطبوعة: "عبيد بن سلمان"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ومن كتب التراجم.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "وبدا يوم السبت"، وهو خطأ فاحش، وأشد منه فظاظة شرح من شرحه فقال: "يريد أنه احتجب عن الناس لمرضه، ثم خرج لهم يوم السبت"! وأولى بالمرء أن يدع ما لا يحسن! إنما هو قولهم: "بدئ الرجل" (بالبناء للمجهول) أي مرض. يقال: متى بدئ فلان؟ أي: متى مرض: وفي حديث عائشة: أنها قالت في اليوم الذي بدئ فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وا رأساه".
وانظر لهذا الخبر ما خرجه السيوطي في الإتقان 1: 33، وابن كثير 2: 69، 70.
(4) الحديث: 6316 - هذا إسناد صحيح إلى ابن المسيب، ولكنه حديث ضعيف لإرساله، إذ لم يذكر ابن المسيب من حدثه به.
والحديث نقله ابن كثير 2: 70-71، عن هذا الموضع بإسناده. وذكره السيوطي 1: 370"عن ابن جرير، بسند صحيح عن سعيد بن المسيب".(6/41)
فيه إلى الله" فتلقونه فيه، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم، فتهتك أستاركم، (1) أو بموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به، وإنه يوم مجازاة بالأعمال، (2) لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، (3) فوفيت جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون. (4) وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟! (5) كلا بل عدل عليك أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ ربه، وأخذ منه حذره، (6) وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من الأوزار ظهره ثقيل، ومن صالحات الأعمال خفيف، فإنه عز وجل حذر فأعذر، ووعظ فأبلغ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بفضيحات تفضحكم"، ولا أدري لم غير ما كان في المخطوطة!!
(2) في المطبوعة: "مجازاة الأعمال"، ولا أدري لم حذف"الباء"!!
(3) في المطبوعة: "لا يغادر. . . " بالياء، وفي المخطوطة غير منقوطة، والصواب ما أثبت.
(4) في المطبوعة: "فتوفى جزاءها"، وفي المخطوطة: "فتوفيت" غير منقوطة كلها، وصوت قراءتها ما أثبت
(5) في المطبوعة: "كيف" بحذف الواو، والصواب ما في المخطوطة.
(6) في المطبوعة: "فأخذ" بالفاء، والصواب ما في المخطوطة.(6/42)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله:"إذا تداينتم"، يعني: إذا تبايعتم بدين، أو اشتريتم به، أو تعاطيتم أو أخذتم به ="إلى أجل مسمى"، يقول: إلى وقت معلوم وقتموه بينكم. وقد يدخل في ذلك القرض والسلم، وكل ما جاز [فيه] السلم مسمى أجل بيعه، يصير دينا على بائع ما أسلم إليه فيه. (1) ويحتمل بيع الحاضر الجائز بيعه من الأملاك بالأثمان المؤجلة. كل ذلك من الديون المؤجلة إلى أجل مسمى، إذا كانت آجالها معلومة بحد موقوف عليه.
* * *
وكان ابن عباس يقول نزلت هذه الآية في السلم خاصة.
ذكر الرواية عنه بذلك:
6317 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن عيسى الرملي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح قال، قال ابن عباس في:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى"، قال: السلم في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (2)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وقد يدخل في ذلك القرض والسلم في كل ما جاز السلم شرى أجل بيعه"، وهي عبارة غير مفهومة قد أخل بها التصحيف والتحريف، وقد اجتهدت في تصحيحها على هذا الوجه حتى تستقيم بعض الاستقامة. والسلم (بفتحتين) : السلف. يقال: أسلم وسلم (بتشديد اللام) : إذا أسلف، وهو أن تعطى ذهبا وفضة في سلعة معلومة إلى أجل معلوم، فكأنك قد أسلمت الثمن إلى صاحب السلعة. وحده عند بعض الفقهاء: هو بيع معلوم في الذمة، محصور بالصفة، بعين حاضرة. أو ما في حكمها، إلى أجل معلوم".
(2) الأثر: 6317- يحيى بن عيسى بن عبد الرحمن الرملي الهشلي الخزاز، سمع سفيان، ومات سنة 201، وقد تكلموا فيه قال أبو داود: "بلغني عن أحمد أنه أحسن الثناء عليه" وقال ابن معين: "ليس بشيء"، وقال العجلي"ثقة"، وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه لا يتابع عليه".
مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/296، وابن أبي حاتم 4/2/178.(6/43)
6318- حدثني محمد بن عبد الله المخرمي قال، حدثنا يحيى بن الصامت قال، حدثنا ابن المبارك، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن أبي نجيح، عن ابن عباس:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين"، قال: نزلت في السلم، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (1)
6319- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء، عن سفيان، عن أبي حيان، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، في السلم، في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (2)
6320- حدثنا ابن بشار قال حدثنا محمد بن محبب قال، حدثنا سفيان، عن
__________
(1) الحديث: 6318- يحيى بن الصامت: هكذا وقع في المخطوطة والمطبوعة، ولم نعرف من؟ ولعله محرف من شيء آخر؟ .
والذي في هذه الطبقة، ونرجح أنه الراوي هنا: هو"يحيى بن أيوب المقابري أبو زكريا العابد. فهو الذي يروي عن عبد الله بن المبارك، ويروي عنه محمد بن عبد الله بن المبارك المخرمي، كما في ترجمته في التهذيب 11: 188، ولكن فيه"محمد بن عبد العزيز بن المبارك المخرمي"، وهو خطأ في"عبد العزيز" بدل"عبد الله". ويحيى بن أيوب هذا: ثقة من شيوخ مسلم في صحيحه. و"المقابري": نسبة إلى المقابر، لكثرة زيارته إياها، كما في اللباب 4: 167. وله ترجمة في ابن أبي حاتم 4/2/128، وتاريخ بغداد 14: 188-189.
ومن المحتمل -وهو رجل عابد زاهد- أن يكون"الصامت" لقبا له، فيكون"يحيى الصامت". ولكن لم أجد نصا على ذلك، ولا ما يشير إليه.
سفيان: هو الثوري.
أبو حيان: هو التيمي، يحيى بن سعيد بن حيان. مضت ترجمته في: 5382.
ابن أبي نجيح: هو عبد الله بن يسار الثقفي المكي. وكنية أبيه"أبو نجيح". وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. ولكن روايته عن ابن عباس منقطعة، فإنه يروى عن التابعين.
وسيأتي الحديث صحيحا، بإسناد آخر صحيح: 6321.
وسيأتي بين هذين بإسنادين ضعيفين.
(2) الحديث: 6319- زيد بن أبي الزرقاء: مضت ترجمته في: 1384. ووقع في المطبوعة"يزيد" بدل"زيد". وهو خطأ فلا يوجد من يسمى بهذا في الرواة. ثم هذا الشيخ هو الذي روى عن سفيان الثوري، ويروي عنه علي بن سهل الرملي، كما مضى في ذاك الإسناد.
والحديث ضعيف كالذي قبله. فالرجل المبهم الذي يروي عنه أبو حيان -هو ابن أبي نجيح. ولم يدرك ابن عباس.(6/44)
أبي حيان التيمي، عن رجل، عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى"، في السلف في الحنطة، في كيل معلوم إلى أجل معلوم. (1)
6321 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن أبي حسان، عن ابن عباس قال: أشهد أن السلف المضمون، إلى أجل مسمى، أن الله عز وجل قد أحله وأذن فيه. ويتلو هذه الآية:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى" (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 6320- محمد بن محبب بن إسحاق القرشي، أبو همام الدلال صاحب الرقيق: ثقة، وثقه أبو داود، وأبو حاتم، وغيرهما. وأخطأ المنذري في تهذيب السنن: 2537، إذ قال: "لا يحتج بحديثه". وإنما قلد ابن الجوزي حين ذكره في الضعفاء. وغلطه في ذلك الذهبي في الميزان.
و"محبب": بباءين موحدتين، وزان"محمد". كذا ضبطه عبد الغني في المؤتلف، ص: 123، والذهبي في المشتبه، ص: 467، والحافظ في التهذيب والتقريب. ووهم ابن أبي حاتم، حين جعله"محبب"، في الجرح 4/1/96.
"صاحب الرقيق": بالراء، كما في الكبير للبخاري 1/1/247، والجرح والتعديل لابن أبي حاتم. ووقع في التهذيب والخلاصة: "الدقيق" بالدال. وقال العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني في هوامش الجرح: "والرقيق - بالراء: أشبه بقولهم الدلال"، وهو جيد.
والحديث مكرر ما قبله، وهو ضعيف الإسناد كمثله.
(2) الحديث: 6321- معاذ بن هشام الدستوائي: ثقة مأمون. أخرج له الستة.
أبوه هشام بن أبي عبد الله الدستوائي: إمام ثقة حجة، وكان ممن سمى"أمير المؤمنين في الحديث" - سماه به أبو داود الطيالسي. وقال شعبة: "كان هشام أحفظ مني عن قتادة".
أبو حسان - بالسين: هو أبو حسان الأعرج، مضت ترجمته في: 5422. ووقع في المخطوطة والمطبوعة"أبو حيان" -بالياء- وهو خطأ وتخليط، كما سيبين من التخريج.
والحديث رواه عبد الرزاق في المصنف 4: 252 (مخطوط مصور) ، عن معمر، عن قتادة، به.
ورواه الشافعي في الأم 3: 80-81، عن سفيان - وهو ابن عيينة، "عن أيوب، عن قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس"، به.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 286، من طريق إبراهيم بن بشار، عن سفيان، وهو ابن عيينة، به.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 6: 18، من طريق سعيد بن عامر، عن شعبة، عن قتادة، به.
وتسرع الحافظ الذهبي في مختصر المستدرك، فعقب عليه، كأنه يريد تضعيف إسناده! فقال: "إبراهيم ذو زوائد عن"ابن عيينة"!!
وهي كلمة مرسلة دون تحقيق. فإبراهيم بن بشار الرمادي: مضت ترجمته وتوثيقه في: 892، ونزيد هنا: أنه كان مكثرا عن ابن عيينة مغربا. ولكن قال ابن حبان: "كان متقنا ضابطا، صحب ابن عيينة سنين كثيرة، وسمع أحاديثه مرارا". فمثل هذا لا يستبعد عليه أن يأتي عن شيخه بما لم يأت به غيره. هذه واحدة.
وأخرى: أنه لم ينفرد به عن ابن عيينة - كما ترى. وكفى برواية الشافعي إياه عن ابن عيينة ثقة وحجة.
ثم لم ينفرد به ابن عيينة عن أيوب عن قتادة. كما تبين مما ذكرنا من الأسانيد، ومن رواية الطبري هنا. فقد رواه هشام الدستوائي، ومعمر، وشعبة - ثلاثتهم عن قتادة، كما ترى.
ولذلك ذكره ابن كثير 2: 71-72، قال: "وقال قتادة، عن أبي حسان الأعرج، عن ابن عباس. . . ". فلم يذكر من رواه عن قتادة، لثبوته عنه من غير وجه.
وذكره السيوطي 1: 370، وزاد نسبته لعبد بن حميد، والبخاري، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني.(6/45)
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما وجه قوله:"بدين"، وقد دل بقوله:"إذا تداينتم"، عليه؟ وهل تكون مداينة بغير دين، فاحتيج إلى أن يقال"بدين"؟ قيل: إن العرب لما كان مقولا عندها: "تداينا" بمعنى: تجازينا، وبمعنى: تعاطينا الأخذ والإعطاء بدين أبان الله بقوله:"بدين"، المعنى الذي قصد تعريف من سمع قوله:"تداينتم"، (1)
حكمه، وأعلمهم أنه حكم الدين دون حكم المجازاة.
* * *
وقد زعم بعضهم أن ذلك تأكيد كقوله: (فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) [سورة الحجر: 30\ سورة ص: 73] ، ولا معنى لما قال من ذلك في هذا الموضع. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "الذي قصد تعريفه من قوله تداينتم حكمه".، وهو غير مستقيم، وفي المخطوطة: "تعريفمن قوله تداينتم حكمه"، بين الكلام بياض، وبالهامش حرف (ط) إشارة إلى الخطأ، فآثرت أن أقيم الجملة بزيادة"سمع" حتى يستقيم الكلام بعض الاستقامة. وقوله"حكمه" مفعول للمصدر في قوله: "تعريف من سمع". ثم انظر الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس: 85، فإنه نقل كلام الطبري مختصرا، آخره: "المعنى الذي قصد له".
(2) لم أعرف قائله، ولكنه مشهور في كتب التفسير، انظر تفسير أبي حيان 1: 343، والقرطبي 3: 377.(6/46)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاكْتُبُوهُ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"فاكتبوه"، فاكتبوا الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى، من بيع كان ذلك أو قرض.
* * *
واختلف أهل العلم في اكتتاب الكتاب بذلك على من هو عليه، هل هو واجب أو هو ندب.
فقال بعضهم: هو حق واجب وفرض لازم.
ذكر من قال ذلك:
6322 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، قال: من باع إلى أجل مسمى، أمر أن يكتب، صغيرا كان أو كبيرا إلى أجل مسمى.
6323 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، قال: فمن ادان دينا فليكتب، ومن باع فليشهد.
6324 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، فكان هذا واجبا.
6325 - وحدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله = وزاد فيه، قال: ثم قامت الرخصة والسعة. (1) قال: (فَإِنْ أَمِنَ
__________
(1) قوله: "ثم قامت الرخصة والسعة"، أي ثبتت واستقامت، وهو مجاز، مثله قولهم: "قام الماء" إذا ثبت متحيرا لا يجد منفذا، وإذا جمد أيضًا. "وقامت عينه": ثبتت لم تتحرك. و"قام عندهم الحق": أي ثبت ولم يبرح. كل ذلك مجاز.(6/47)
بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ) .
6326 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أن أبا سليمان المرعشي، كان رجلا صحب كعبا، فقال ذات يوم لأصحابه: هل تعلمون مظلوما دعا ربه فلم يستجب له؟ قالوا: وكيف يكون ذلك؟ قال: رجل باع شيئا فلم يكتب ولم يشهد، فلما حل ماله جحده صاحبه، فدعا ربه، فلم يستجب له، لأنه قد عصى ربه. (1)
* * *
وقال آخرون: كان اكتتاب الكتاب بالدين فرضا، فنسخه قوله: (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) .
ذكر من قال ذلك:
6327 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن شبرمة، عن الشعبي قال: لا بأس إذا أمنته أن لا تكتب ولا تشهد، لقوله:"فإن أمن بعضكم بعضا" = قال ابن عيينة، قال ابن شبرمة، عن الشعبي: إلى هذا انتهى.
6328 - حدثنا المثنى، قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" حتى بلغ هذا المكان:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: رخص من ذلك، (2) فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
__________
(1) الأثر: 6326-"أبو سلمان المرعشي" في المخطوطة"المدعس"، وفي ابن كثير 2: 72. وقد ذكر البخاري في الكنى: 37، "أبو سليمان، عن كعب قوله، روى عن قتادة".
(2) في المطبوعة: "رخص في ذلك"، والذي في المخطوطة صواب، ولكنه سيأتي في المخطوطة كالمطبوعة هنا في رقم: 6334.(6/48)
6329 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون، عن عمرو، عن عاصم، عن الشعبي، قال: إن ائتمنه فلا يشهد عليه ولا يكتب.
6330 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن الشعبي قال: فكانوا يرون أن هذه الآية:"فإن أمن بعضكم بعضا"، نسخت ما قبلها من الكتابة والشهود، رخصة ورحمة من الله.
6331 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال غير عطاء: (1) نسخت الكتاب والشهادة:"فإن أمن بعضكم بعضا".
6332 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: نسخ ذلك قوله:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: فلولا هذا الحرف، (2) لم يبح لأحد أن يدان بدين إلا بكتاب وشهداء، أو برهن. فلما جاءت هذه نسخت هذا كله، صار إلى الأمانة.
6333 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سليمان التيمي قال: سألت الحسن قلت: كل من باع بيعا ينبغي له أن يشهد؟ قال: ألم تر أن الله عز وجل يقول:"فليؤد الذي اؤتمن أمانته"؟
6334- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا
__________
(1) قوله: "قال غيرعطاء"، لم يمض لقول عطاء ذكر فيما سلف في قول من قال إن الاكتتاب حق واجب وفرض لازم. ولعله سقط أثر فيه التصريح بما قال عطاء، أو لعله اقتصر على ما قاله ابن جريج في الأثر رقم: 6323، كأنه من رواية ابن جريج عن عطاء.
(2) قوله: "فلولا هذا الحرف"، يعني: فلولا هذا القول من الله تعالى. واستعمال"الحرف" بمعنى القول، لم أجده في كتاب من كتب اللغة، ولكنه مجاز حسن، كما سموا القصيدة"كلمة"، فجائز أن يقال للآية وللقول كله"حرف".(6/49)
داود، عن عامر في هذه الآية:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه"، حتى بلغ هذا المكان:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، قال: رخص في ذلك، فمن شاء أن يأتمن صاحبه فليأتمنه.
6335 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي في قوله:"فإن أمن بعضكم بعضا"، قال: إن أشهدت فحزم، وإن لم تشهد ففي حل وسعة.
6336- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن إسماعيل بن أبي خالد قال: قلت للشعبي: أرأيت الرجل يستدين، من الرجل الشيء، أحتم عليه أن يشهد؟ قال: فقرأ إلى قوله: (1) "فإن أمن بعضكم بعضا"، قد نسخ ما كان قبله.
6337 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا محمد بن مروان العقيلي قال، حدثنا عبد الملك بن أبي نضرة، [عن أبيه] ، عن أبي سعيد الخدري أنه قرأ:"يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى" إلى:"فإن أمن بعضكم بعضا" = (2) قال: هذه نسخت ما قبلها. (3)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "قال فقال إلى قوله. . " بياض بين الكلمتين، و"فقال"، مكان"فقرأ" والذي في المطبوعة أشبه بالصواب.
(2) في المطبوعة: "قال فقرأ إلى: فإن أمن. . . " وفي المخطوطة تكرار بعد قوله: "إلى أجل مسمى" نصه: "قال فقرأ: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى. هذه نسخت ما قبلها" ولم يذكر"فإن أمن. . . " وهي الآية الناسخة. وأثبت الصواب من الناسخ والمنسوخ: 83، وروى الخبر، كما سيأتي.
(3) الأثر: 6337 -"محمد بن مروان بن قدمة العقيلي" روى عنه البخاري في التعاليق، وأبو داود في المراسيل، وروى عنه مسدد ويحيى معين وغيرهم. قال أحمد: "رأيت محمد بن مروان العقيلي، وحدث بأحاديث وأنا شاهد، لم أكتبها، تركتها على عمد" - كأنه ضعفه. وقال ابن معين: "ليس به بأس"، وعن أبي داود: "صدوق". مترجم في التهذيب. و"عبد الملك بن أبي نضرة العبدي" روى عن أبيه. قال الحافظ في التهذيب: "ذكره ابن حبان في الثقات وقال: ربما أخطأ. له عندهما حديث في آية الدين: يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم. قلت: وقال الدارقطني: لا بأس به. وقال الحاكم في المستدرك: من أعز البصريين حديثا". مترجم في التهذيب. وأبوه"أبو نضرة" هو: "المنذر بن مالك بن قطعة العبدي" روى عن علي بن أبي طالب، وأبي موسى الأشعري، وأبي ذر، وأبي سعيد، وابن عباس وغيرهم من الصحابة. قال أحمد: "ثقة". وقال ابن سعد: "ثقة كثير الحديث، وليس كل أحد يحتج به". مترجم في التهذيب.
هذا، وقد أسقطت المخطوطة والمطبوعة ما وضعناه بين القوسين [عن أبيه] ، وهو سهو من الناسخ، وقد جاء على الصواب في الناسخ والمنسوخ: 83 بهذا الإسناد نفسه، كما أشرت إليه في التعليق السالف.(6/50)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وليكتب كتاب الدين إلى أجل مسمى بين الدائن والمدين ="كاتب بالعدل"، يعني: بالحق والإنصاف في الكتاب الذي يكتبه بينهما، بما لا يحيف ذا الحق حقه، ولا يبخسه، (1) ولا يوجب له حجة على من عليه دينه فيه بباطل، ولا يلزمه ما ليس عليه، كما:
6338 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل"، قال: اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يدعن منه حقا، ولا يزيدن فيه باطلا.
* * *
وأما قوله:"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، فإنه يعني: ولا يأبين كاتب استكتب ذلك، أن يكتب بينهم كتاب الدين، كما علمه الله كتابته فخصه بعلم ذلك، وحرمه كثيرا من خلقه.
* * *
وقد اختلف أهل العلم في وجوب الكتاب على الكاتب إذا استكتب ذلك،
__________
(1) في المطبوعة: "لا يحيف ذا الحق"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، وهي فيها برسم ما أثبت غير منقوط. حاف يحف حيفا: مال وجار، وهو فعل لازم غير متعد. أما"تحيفه ماله وحقه": تنقصه من حافاته.(6/51)
نظير اختلافهم في وجوب الكتاب على الذي له الحق.
ذكر من قال ذلك:
6339 - حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ولا يأب كاتب"، قال: واجب على الكاتب أن يكتب.
6340 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله:"ولا يأب كاتب أن يكتب"، أواجب أن لا يأبى أن يكتب؟ قال: نعم= قال: ابن جريج، وقال مجاهد: واجب على الكاتب أن يكتب.
6341- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، بمثله.
6342 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر وعطاء قوله:"ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، قالا إذا لم يجدوا كاتبا فدعيت، فلا تأب أن تكتب لهم.
* * *
ذكر من قال:"هي منسوخة". قد ذكرنا جماعة ممن قال:"كل ما في هذه الآية من الأمر بالكتابة والإشهاد والرهن منسوخ بالآية التي في آخرها"، (1) وأذكر قول من تركنا ذكره هنالك ببعض المعاني.
6343 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو زهير، عن
__________
(1) انظر ما سلف من رقم: 6327-6337.(6/52)
جويبر، عن الضحاك:"ولا يأب كاتب"، قال: كانت عزيمة، فنسختها: (وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ) .
6344 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر. عن أبيه، عن الربيع:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله" فكان هذا واجبا على الكتاب.
* * *
وقال آخرون: هو على الوجوب، ولكنه واجب على الكاتب في حال فراغه.
ذكر من قال ذلك:
6345 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله"، يقول: لا يأب كاتب أن يكتب إن كان فارغا.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا: أن الله عز وجل أمر المتداينين إلى أجل مسمى باكتتاب كتب الدين بينهم، وأمر الكاتب أن يكتب ذلك بينهم بالعدل، وأمر الله فرض لازم، إلا أن تقوم حجة بأنه إرشاد وندب. ولا دلالة تدل على أن أمره جل ثناؤه باكتتاب الكتب في ذلك، وأن تقدمه إلى الكاتب أن لا يأبى كتابة ذلك، ندب وإرشاد، فذلك فرض عليهم لا يسعهم تضييعه، ومن ضيعه منهم كان حرجا بتضييعه. (1)
ولا وجه لاعتلال من اعتل بأن الأمر بذلك منسوخ بقوله:"فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته". لأن ذلك إنما أذن الله تعالى ذكره به حيث لا سبيل إلى الكتاب أو إلى الكاتب. فأما والكتاب والكاتب موجودان، فالفرض - إذا كان الدين إلى أجل مسمى - ما أمر الله تعالى ذكره به في قوله:"فاكتبوه
__________
(1) قوله: "حرجا"، أي آثما. وانظر ما سلف مرارا في التعليق على هذه الكلمة 2: 423/ ثم 4: 224 (تعليق: 1) / ثم 475 تعليق: 2/ ثم 566 تعليق: 3، ثم ص 567 وما بعدها.(6/53)
وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه والله".
وإنما يكون الناسخ ما لم يجز اجتماع حكمه وحكم المنسوخ في حال واحدة، على السبيل التي قد بيناها. (1) فأما ما كان أحدهما غير ناف حكم الآخر، فليس من الناسخ والمنسوخ في شيء.
ولو وجب أن يكون قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ) ناسخا قوله:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله" - لوجب أن يكون قوله: (وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا) [سورة المائدة: 6] ناسخا الوضوء بالماء = في الحضر عند وجود الماء فيه وفي السفر = الذي فرضه الله عز وجل بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ) [سورة المائدة: 6] وأن يكون قوله في كفارة الظهار: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) [سورة المجادلة: 4] ناسخا قوله: (فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا) (2) [سورة المجادلة: 3] .
* * *
فيُسْأل القائل إنّ قول الله عز وجل:"فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته" ناسخٌ قوله:"إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه": ما الفرقُ بَينه وبين قائلٍ في التيمم وما ذكرنا قوله = (3) فزعم أنّ كل ما أبيح في حال
__________
(1) يعني ما سلف له بيانه في 3: 385، 563/ 4: 582، وما سيأتي في هذا الجزء: 118، تعليق: 1.
(2) ساق رأي الطبري مختصرًا، أبو جعفر النحاس في الناسخ والمنسوخ: 83، 84، والقرطبي في تفسيره 3: 403، 404.
(3) في المطبوعة: "ما الفرق بينه وبين القائل في التيمم ما ذكرنا قوله"، أدخل التعريف على"قائل"، وحذف الواو من"وما ذكرنا" فصار الكلام محفوفًا بالفساد والخلط من كل مكان، وتخلع السياق تخلعًا فظيعًا. وقول الطبري"وما ذكرنا" يعني ما ذكره في آية الظهار السالفة. ويعني بقوله: "وما ذكرنا قوله"، أي أنه منسوخ بتمام الآية.(6/54)
الضرورة لعلة الضرورة، ناسخ حكمُه في حال الضرورة حكمَه في كل أحواله: نظيرَ قوله في أنّ الأمر باكتتاب كتب الديون والحقوق منسوخٌ بقوله:"وإن كنتم عَلى سَفر ولم تجدُوا كاتبًا فرهانٌ مقبوضة فإن أمن بعضُكم بعضًا فليؤدّذ الذي اؤتمن أمانته) ؟
فإن قال: الفرق بيني وبينه أن قوله:"فإن أمن بعضُكم بعضًا" كلام منقطع عن قوله:"وإن كنتم على سَفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة"، وقد انتهى الحكم في السفر إذا عُدم فيه الكاتب بقوله:"فرهان مقبوضة". وإنما عنى بقوله:"فإن أمن بعضكم بعضًا":"إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمى"، فأمن بعضكم بعضًا، فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته.
قيل له: وما البرهان على ذلك من أصل أو قياس، وقد انقضى الحكم في الدّين الذي فيه إلى الكاتب والكتاب سبيلٌ بقوله:"ويُعلّمكم الله واللهُ بكل شيء عليم"؟ (1)
* * *
وأما الذين زعموا أن قوله:"فاكتبوا"، وقوله:"ولا يأب كاتب" على وجه الندب والإرشاد، فإنهم يُسألون البرهان على دعواهم في ذلك، ثم يعارضون بسائر أمر الله عز وجل الذي أمر في كتابه، ويُسألون الفرق بين ما ادّعوا في ذلك وأنكروه في غيره. فلم يقولوا في شيء من ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله.
* * *
ذكر من قال:"العدل" في قوله:"وليكتب بينكم كاتب بالعدل": الحقّ.
__________
(1) هذه حجة حبر رباني بصير بمعاني الكلام.(6/55)
.........................................................................
.........................................................................
............................................................................ (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}
(2)
قال أبو جعفر: يعني بذلك:" فليكتب" الكاتب = وليملل الذي عليه الحق"، وهو الغريم المدينُ يقول: ليتولّ المدَين إملالَ كتاب ما عليه من دين ربّ المال على الكاتب ="وليتق الله ربه" المملي الذي عليه الحقّ، فليحذر عقابه في بخس الذي له الحق من حقه شيئًا، أن ينقُصَه منه ظلمًا أو يذهب به منه تعدّيًا، فيؤخذ به حيث لا يقدرُ على قضائه إلا من حسناته، أو أن يتحمل من سيئاته، كما:
6346 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فليكتب وليملل الذي عليه الحق"، فكان هذا واجبًا -"وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا"، يقول: لا يظلم منه شيئًا.
6347 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يبخس منه شيئًا"، قال: لا ينقص من حقّ هذا الرجل شيئًا إذا أملى.
* * *
__________
(1) سقط من الناسخ في هذا المكان، ما رواه أبو جعفر من أقوال القائلين في معنى"العدل" بإسناده إليهم. ولا سبيل إلى إتمام ذلك حتى توجد نسخة من التفسير يقل سهو ناسخها وإغفاله.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: سقط من الناسخ"فليكتب" قبل"وليملل"، فأثبتها.(6/56)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا"، فإن كان المدين الذي عليه المال"سفيهًا"، يعني: جاهلا بالصواب في الذي عليه أن يُملَّه على الكاتب، كما:-
6348 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا"، أما السفيه: فالجاهل بالإملاء والأمور.
* * *
وقال آخرون: بل"السفيه" في هذا الموضع، الذي عناه الله: الطفلُ الصغير.
ذكر من قال ذلك:
6349 - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا"، أما السفيه، فهو الصغير.
6350 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا"، قال: هو الصبي الصغير، فليملل وليُّه بالعدل.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال:"السفيه في هذا الموضع: الجاهل بالإملاء وموضع صواب ذلك من خطئه"، لما قد بينا قبل من أن معنى"السفه" في كلام العرب: الجهلُ. (1)
__________
(1) انظر تفسير"السفه" فيما سلف 1: 293-295/ 3: 90، 129، 130.(6/57)
وقد يدخل في قوله:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا"، كل جاهل بصواب ما يُملّ من خطئه، من صغير وكبير، وذكر وأنثى. غير أن الذي هو أولى بظاهر الآية أن يكون مرادًا بها: كلُّ جاهل بموضع خطأ ما يملّ وصوابه: من بالغي الرجال الذين لا يُولىَّ عليهم = والنساء. لأنه جل ذكره ابتدأ الآية بقوله:"يا أيها الذين آمنوا إذا تدينتم بدَين إلى أجل مسمى"، والصبي ومن يُولّى عليه، لا يجوز مُداينته، وأنّ الله عز وجل قد استثنى من الذين أمرَهم بإملال كتاب الدَّين مع السفيه، الضعيفَ ومن لا يستطيع إملاله، ففي فصْله جل ثناؤه الضعيفَ من السفيه ومن لا يستطيع إملاء الكتاب في الصفة التي وصف بها كل واحد منهم: (1) ما أنبأ عن أن كل واحد من الأصناف الثلاثة الذين ميَّز بين صفاتهم، غير الصنفين الآخرين. (2)
وإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أنّ الموصوف بالسفه منهم دون الضعف، هو ذو القوة على الإملال، غيرَ أنه وُضع عنه فرض الإملال بجهله بموضع صواب ذلك من خطئه = وأن الموصوف بالضعف منهم، هو العاجز عن إملاله، وإن كان شديدًا رشيدًا، إما لعيّ لسانه أو خرس به = وأنّ الموصوف بأنه لا يستطيع أن يملّ، هو الممنوع من إملاله، إما بالحبس الذي لا يقدر معه على حضور الكاتب الذي يكتب الكتاب فيملّ عليه، وإما لغيبته عن موضع الإملال، فهو غير قادر من أجل غيبته عن إملال الكتاب.
فوضع الله جلّ وعز عنهم فرض إملال ذلك، للعلل التي وصفنا - إذا كانت بهم - وعذرهم بترك الإملال من أجلها، وأمرَ، عند سقوط فرض ذلك عليهم، وليَّ
__________
(1) في المخطوطة: "فعن فصله جل ثناؤه الضعيف من السفيه، فالصفة ومن لا يستطيع إملاء الكتاب التي وصف الله بها كل واحد منهم. . . " وهو كلام مضطرب، وقد أصاب ناشر المطبوعة في تصحيحه.
(2) في المخطوطة: ". . . الذين بين الله صفاتهم"، وهو تصحيح لما كان في المخطوطة وهو: "الذين سن منه صفاتهم" غير منقطة، ورجحت قراءتها كما أثبتها.(6/58)
الحق بإملاله فقال:"فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل"، يعني: وليُّ الحقّ.
* * *
ولا وجه لقول من زعم أن"السفيه" في هذا الموضع هو الصغير، وأن"الضعيفَ" هو الكبير الأحمق. لأن ذلك إن كان كما قال، يوجب أن يكون قوله:"أو لا يستطيعُ أن يملّ هو" هو، العاجز من الرجال العقلاء الجائزي الأمر في أموالهم وأنفسهم عن الإملال، إما لعلة بلسانه من خرس أو غيره من العلل، وإما لغيبته عن موضع الكتاب. وإذا كان ذلك كذلك معناه، لبطل معنى قوله:"فليملل وليه بالعدل"، (1) لأن العاقل الرشيد لا يولى عليه في ماله وإن كان أخرس أو غائبا، (2) ولا يجوز حُكم أحد في ماله إلا بأمره. وفي صحة معنى ذلك، ما يقضي على فساد قول من زعم أن"السفيه" في هذا الموضع، هو الطفل الصغير، أو الكبير الأحمق.
ذكر من قال ذلك:
6351 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل"، يقول: وليّ الحق.
6352 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليه بالعدل"، قال يقول: إن كان عجز عن ذلك، أملَّ صاحبُ الدَّين بالعدل.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "بطل"، وفي المخطوطة: "فبطل"، ورجحت قراءتها كما أثبتها.
(2) في المخطوطة: "لا يولى عليه ماله"، وما في المطبوعة أشبه بالصواب.(6/59)
ذكر الرواية عمن قال:"عنى بالضعيف في هذا الموضع: الأحمق"، وبقوله:"فليملل وليه بالعدل"، ولي السفيه والضعيف.
6353 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يمل هو"، قال: أمر وليّ السفيه أو الضعيف أن يملّ بالعدل.
6354 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما الضعيف، فهو الأحمق.
6355 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: أما الضعيفُ فالأحمق.
6356 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا" لا يعرف فيثبت لهذا حقه ويجهل ذلك، فوليه بمنزلته حتى يضع لهذا حقه.
* * *
وقد دللنا على أولى التأويلين بالصواب في ذلك.
* * *
وأما قوله:"فليملل وليه بالعدل"، فإنه يعني: بالحق.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واستشهدوا على حقوقكم شاهدين.
* * *
يقال:"فلان" شَهيدي على هذا المال، وشاهدي عليه". (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"شهيد" فيما سلف 1: 376، 377.(6/60)
وأما قوله:"من رجالكم"، فإنه يعني من أحراركم المسلمين، دون عبيدكم، ودون أحراركم الكفار، كما:-
6357 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، قال: الأحرار.
6358- حدثني يونس قال، أخبرنا علي بن سعيد، عن هشيم، عن داود بن أبي هند، عن مجاهد مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن لم يكونا رجلين، فليكن رجلٌ وامرأتان على الشهادة. ورفع"الرجل والمرأتان"، بالرّد على"الكون". وإن شئتَ قلتَ: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجل وامرأتان على ذلك. وإن شئت: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان يُشهدون عليه. وإن قلت: فإن لم يكونا رجلين فهو رجلٌ وامرأتان، (1) كان صوابًا. كل ذلك جائز.
* * *
ولو كان"فرجلا وامرأتين" نصبًا، كان جائزًا، على تأويل: فإن لم يكونا رجلين فاستشهدوا رجلا وامرأتين. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فرجل وامرأتان"، والصواب ما أثبت، وهو الوجه الذي ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 184.
(2) أكثر هذا نص معاني القرآن للفراء 1: 184. وفي المخطوطة والمطبوعة: "فرجل وامرأتان" نصبًا، والأجود ما أثبت.(6/61)
وقوله:"ممن ترضون من الشهداء"، يعني: من العدول المرتضَى دينهُم وصلاحهم، كما:-
6359 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، يقول: في الدَّين ="فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان"، وذلك في الدين ="ممن تَرْضون من الشهداء"، يقول: عدولٌ.
6360 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم"، أمر الله عز وجل أن يُشهدوا ذَوَيْ عدل من رجالهم ="فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضَون من الشهداء".
* * *
القول في تأويل قوله: {أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأ عامة أهل الحجاز والمدينة وبعض أهل العراق: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى) بفتح"الألف" من"أنْ"، ونصب"تَضلَّ"، و"تذكرَ"، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان، كي تذكر إحداهما الأخرى إن ضَلّت. وهو عندهم من المقدّم الذي معناه التأخير. لأن"التذكير" عندهم هو الذي يجب أن يكون مكان"تضلّ". لأن المعنى ما وصفنا في قولهم. وقالوا: إنما نصبنا"تذكّر"، لأن الجزاء لما تقدم اتصلَ بما قبله، (1) فصار جوابه
__________
(1) في المخطوطة: "لما تقدم تضل بما قبله"، والصواب من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء.(6/62)
مردودًا عليه، كما تقول في الكلام:"إنه ليعجبني أن يسأل السائل فيُعطى"، بمعنى: إنه ليعجبني أن يُعطى السائل إن سأل - أو: إذا سأل. فالذي يعجبك هو الإعطاء دون المسألة. ولكن قوله:"أنْ يسأل" لما تقدم، اتصل بما قبله وهو قوله:"ليعجبني"، ففتح"أنْ" ونصب بها، (1) ثم أتبع ذلك قوله:"يعطى"، فنصبه بنصب قوله:"ليعجبني أن يسأل"، نسقًا عليه، وإن كان في معنى الجزاء. (2)
* * *
وقرأ ذلك آخرون كذلك، غير أنهم كانوا يقرأونه بتسكين"الذال" من (تُذْكِرَ) وتخفيف كافها. وقارئو ذلك كذلك مختلفون فيما بينهم في تأويل قراءتهم إياه كذلك.
وكان بعضهم يوجّهه إلى أن معناه: فتصيِّر إحداهما الأخرى ذَكرًا باجتماعهما، بمعنى: أن شهادَتها إذا اجتمعت وشهادة صاحبتها، جازت كما تجوز شهادةُ الواحد من الذكور في الدَّين، لأن شهادة كل واحدة منهما منفردةً غيرُ جائزة فيما جازَت فيه من الديون إلا باجتماع اثنتين على شهادة واحد، فتصير شهادتهما حينئذ بمنزلة شهادة واحد من الذكور، (3) فكأن كل واحدة منهما - في قول متأوِّلي ذلك بهذا المعنى - صيرَّت صاحبتها معها ذَكَرًا. وذهب إلى قول العرب:"لقد أذكرت بفلان أمُّه"، أي ولدته ذَكرًا،"فهي تُذْكِر به"،"وهي امرأةٌ مُذْكِرٌ"، إذا كانت تَلد الذكور من الأولاد. وهذا قول يروى عن سفيان بن عيينه أنه كان يقوله.
__________
(1) في المطبوعة: "فتح أن ونصب بها"، وفي المخطوطة: "ففلح ونصب بها" تصحيف، وبإسقاط"أن".
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 184.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "منزلة شهادة واحد. . . " بإسقاط الباء، والصواب ما أثبت.(6/63)
6361 - حدثت بذلك عن أبي عبيد القاسم بن سلام أنه قال: حدثت عن سفيان بن عيينة أنه قال: ليس تأويل قوله:"فتذْكر إحداهما الأخرى" من الذِّكْر بعد النسيان، إنما هو من الذَّكَر، بمعنى: أنها إذا شهدت مع الأخرى صَارت شَهادتهما كشَهادة الذكر.
* * *
وكان آخرون منهم يوجهونه إلى أنه بمعنى"الذكر" بعد النسيان. (1)
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخْرَى) "بكسر"إن" من قوله:"إن تضلَ" ورفع"تذكر" وتشديده، كأنه بمعنى ابتداء الخبر عما تفعل المرأتان إن نسيت إحداهما شهادتها، ذكرتها الأخرى، (2) من تثبيت الذاكرة الناسيةَ وتذكيرها ذلك (3) = وانقطاع ذلك عما قبله. (4) ومعنى الكلام عند قارئ ذلك كذلك: واستشهدوا شهيدين من رجالكم، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء، فإن إحداهما إن ضَلت ذكرتها الأخرى = على استئناف الخبر عن فعلها إن نسيت إحداهما شهادتها، من تذكير الأخرى منهما صاحبتها الناسية. (5)
وهذه قراءة كان الأعمش يقرؤها ومن أخذَها عنه. وإنما نصب الأعمش"تضل"، لأنها في محل جزم بحرف الجزاء، وهو"إن". وتأويل الكلام على
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وقال آخرون منهم يوجهونه" ليس صوابًا، والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة"تذكرها الأخرى"، وفي المخطوطة"وذكرها الأخرى"، والسياق يقتضي ما أثبت. وسيأتي بعد ما يدل على صواب ما رجحت.
(3) في المخطوطة: "وتنكيرها ذلك"، تصحيف.
(4) قوله: "وانقطاع ذلك عما قبله" معطوف على قوله آنفًا: "بمعنى ابتداء الخبر. . . ".
(5) في المخطوطة: "من تنكير الأخرى منهما. . . "، تصحيف، كالسالف في التعليق رقم: 3.(6/64)
قراءته (1) "إن تَضْللْ"، فلما اندغمت إحدى اللامين في الأخرى، حركها إلى أخفّ الحركات، ورفع"تذكر" بالفاء، لأنه جواب الجزاء.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك، قراءةُ من قرأه بفتح"أن" من قوله:"أن تضلّ إحداهما"، وبتشديد الكاف من قوله:"فتذكِّر إحداهما الأخرى". ونصب الراء منه، بمعنى: فإن لم يكونا رجلين، فليشهد رجلٌ وامرأتان، كي إن ضلت إحداهما ذكَّرتها الأخرى.
وأما نصب"فتذكر" فبالعطف على"تضل"، وفتحت"أن" بحلولها محل"كي" وهي في موضع جزاء، والجواب بعده، اكتفاءً بفتحها = أعني بفتح"أن" = من"كي"، ونسق الثاني - أعني:"فتذكر" - على"تضل"، ليعلم أن الذي قام مقام ما كان يعمل فيه وهو ظاهر، قد دلّ عليه وأدّى عن معناه وعمله - أي عن"كي".
وإنما اخترنا ذلك في القراءة، لإجماع الحجة من قُدماء القرأة والمتأخرين على ذلك، وانفراد الأعمش ومن قرأ قراءَته في ذلك بما انفرد به عنهم. ولا يجوز تركُ قراءة جاء بها المسلمون مستفيضة بَينهم، إلى غيرها. وأما اختيارنا"فتذكر" بتشديد الكاف، فإنه بمعنى: ترديد الذكر من إحداهما على الأخرى، وتعريفها بأنها [نسيت] ذلك، لتذكر. (2) فالتشديد به أولى من التخفيف.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "تأويل الكلام" بإسقاط الواو، والصواب، ما أثبت.
(2) مطبوعة بولاق: "فإنه بمعنى تأدية الذكر من إحداهما على الأخرى وتعريفها بأنها ذلك لتذكر" وهو كلام بلا معنى. وفي مطبوعة أخرى قبله، مع"بإنهاء ذلك" مكان"بأنها ذلك" وهو أشد خلوًا من المعنى. وفي المخطوطة: "بمعنى يوره الذكر. . . بأنها ذلك"، غير منقوطة. وصواب قراءتها ما أثبت، مع زيادة"نسيت" التي وضعتها بين القوسين.(6/65)
وأما ما حكي عن ابن عيينة من التأويل الذي ذكرناه، فتأويلٌ خطأ لا معنى له، لوجوه شتى:
أحدها: أنه خلافٌ لقول جميع أهل التأويل.
والثاني: أنه معلوم أن ضلال إحدى المرأتين في الشهادة التي شهدت عليها، (1) إنما هو ذهابُها عنها ونسيانها إياها، (2) كضلال الرجل في دينه: إذا تحيَّر فيه فعدَل عن الحق (3) . وإذا صارت إحداهما بهذه الصفة، فكيف يجوز أن تصير الأخرى ذكرًا معها، مع نسيانها شهادتها وضلالها فيها؟ ولَلضّالة منهما في شهادتها حينئذ، (4) لا شك أنها إلى التذكير أحوجُ منها إلى الإذكار، إلا إن أراد أنّ الذاكرة إذا ضَعُفت صاحبتُها عن ذكر شهادتها شحذَتها على ذكر ما ضعفت عن ذكره فنسيته، (5) فقوتها بالذكر حتى صيرتها كالرجل في قوتها في ذكر ما ضعفت عن ذكره من ذلك، (6) كما يقال للشيء القوي في عمله:"ذَكرٌ"، وكما يقال للسيف الماضي في ضربه:"سيف ذكر"، و"رجل ذَكَر" يراد به: ماض في عمله، قويّ البطش، صحيحُ العزم.
فإن كان ابن عيينة هذا أراد، فهو مذهبٌ من مذاهب تأويل ذلك؟
__________
(1) في المطبوعة: "أنه معلوم بأن ضلال. . . " بزيادة الباء، وهو لا خير فيه، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "إنما هو خطؤها عنها بنسيانها"، والصواب من المخطوطة، غير أنها أسقطت الواو قبل"ونسيانها".
(3) انظر تفسير"الضلال" فيما سلف 1: 195 / ثم 2: 495، 496.
(4) في المطبوعة: "فالضالة منهما"، وفي المخطوطة: "ولا الضالة منهما"، والصواب ما أثبت.
(5) في المطبوعة: "ستجرئها على ذكر ما ضعفت عن ذكره. . . "، وفي المخطوطة: "سحدتها" غير منقوطة، وصواب قراءتها ما أثبت. مجاز من قولهم: "شحذ السكين والسيف": حدده بالمسن ومنه: "شحذ الجوع معدته"، إذا أضرمها وقواها على الطعام وأحدها. ويقال: "اشحذ له غرب ذهنك"، و"هذا الكلام مشحذة للفهم".
(6) في المخطوطة: "فقوته بالذكر"، وما في المطبوعة أجود.(6/66)
إلا أنه إذا تُؤُوِّل ذلك كذلك، (1) صار تأويله إلى نحو تأويلنا الذي تأولناه فيه، وإن خالفت القراءةُ بذلك المعنى، القراءةَ التي اخترناها. (2) ومعنى القراءة حينئذ صحيح بالذي اختار قراءته من تخفيف الكاف من قوله:"فتذكر". (3) ولا نعلم أحدًا تأوّل ذلك كذلك، ويستحب قراءته كذلك بذلك المعنى. فالصواب في قراءته - إذْ كان الأمر عامًّا على ما وصفنا - ما اخترنا. (4)
* * *
ذكر من تأول قوله:"أنْ تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى" نحو تأويلنا الذي قُلنا فيه:
6362 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"واستشهدوا شهدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجلٌ وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضلّ إحداهما فتذكِّر إحداهما الأخرى"، علم الله أن ستكونُ حقوق، فأخذ لبعضهم من بعض الثِّقة، فخذوا بثقة الله، فإنه أطوع لربِّكم، وأدرَكُ لأموالكم. ولعمري لئن كان تقيًّا لا يزيده الكتاب إلا خيرًا، وإن كان فاجرًا فبالحرَي أن يؤدّي إذا علم أنّ عليه شهودًا.
6363 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى"، يقول: أن تنسى إحداهما فتذكِّرها الأخرى.
6364 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
__________
(1) في المطبوعة: "إذا تأول ذلك. . . " وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "القراءة الذي اخترناها"، وهو سهو من الناسخ الكثير السهو!!
(3) في المطبوعة: "بأن تغير القراءة حينئذ الصحيحة بالذي اختار قراءته. . . " وهو كلام قد أريق معناه ضياعًا. وفي المخطوطة: "بأن +تعين القراءة حينئذ الصحيح بالذي اختار قراءته. . . "، وهو مصحف، وأرجح أن يكون صواب الجملة كما أثبتها، لأنها عندئذ مصيبة معنى ما أراد أبو جعفر.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "فالصواب في قوله. . . "، والصواب ما أثبت. وسياق الجملة: "فالصواب في قراءته. . . ما اخترنا".(6/67)
عن السدي:"أن تضل إحداهما"، يقول: تنسى إحداهما الشهادة، فتذكّرها الأخرى.
6365 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"أن تضل إحداهما"، يقول: إنْ تنسَ إحدَاهما، كذتِّرْها الأخرى.
6366 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أن تضل إحداهما فتُذْكِرَ إحداهما الأخرى"، قال: كلاهما لغة، وهما سواء، ونحن نقرأ:"فتذكِّر".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في الحال التي نَهى الله الشهداءَ عن إباء الإجابة إذا دعوا بهذه الآية.
فقال بعضهم: معناه: لا يأب الشهداء أن يجيبوا، إذا دعوا ليشهدوا على الكتاب والحقوق.
ذكر من قال ذلك:
6367 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله تعالى:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، كان الرجل يطوف في الحِوَاء العظيم فيه القوم، (1) فيدعوهم إلى الشهادة، فلا يتبعه أحد منهم. قال: وكان قتادة يتأوّل هذه الآية:"ولا يأبَ الشّهداء إذا ما دُعوا" ليشهدوا لرجل على رجل.
6368 - حدثت عن عمار قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: كان الرجل يطوف في القوم
__________
(1) الحواء (بكسر الحاء) : بيوت مجتمعة من الناس على ماء.(6/68)
الكثير يدعوهم ليشهدوا، فلا يتبعه أحد منهم، فأنزل الله عز وجل:"ولا يأبَ الشهداء إذا ما دُعوا".
6369 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: لا تأب أن تشهد إذا ما دُعيت إلى شهادة.
* * *
وقال آخرون بمثل معنى هؤلاء، إلا أنهم قالوا: يجب فرضُ ذلك على مَن دعي للإشهاد على الحقوق إذا لم يوجد غيره. فأما إذا وُجد غيره فهو في الإجابة إلى ذلك مخيَّر، إن شاء أجاب، وإن شاء لم يجب.
ذكر من قال ذلك:
6370 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن جابر، عن الشعبي قال:"لا يأب الشهداء إذا ما دعوا" - قال: إن شاء شهد، وإن شاء لم يشهد، فإذا لم يوجد غيره شهد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" - للشهادة على من أراد الدّاعي إشهادَه عليه، والقيامَ بما عنده من الشهادة - من الإجابة.
ذكر من قال ذلك:
6371 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن الحسن:"ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا"، قال: قال الحسن: الإقامة والشهادة. (1)
6372 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر
__________
(1) الأثر 6371-"أبو عامر" هو: "صالح بن رستم المزني"، روى عن عبد الله بن أبي مليكة، وأبي قلابة، وحميد بن هلال، والحسن البصري، وعكرمة وغيرهم. روى عنه ابنه عامر، وإسرائيل، وهشيم، ومعتمر، وأبو داود الطيالسي. قال ابن معين: "ضعيف". وقال أحمد: "صالح الحديث". وقال ابن أبي حاتم عن أبيه: "شيخ، يكتب حديثه". وقال أبو داود: "ثقة". وسيأتي في الأسانيد رقم: 6383، 6384، 6387.(6/69)
في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: كان الحسن يقول: جَمَعتْ أمرين: لا تأب إذا كانت عندك شهادة أن تشهد، ولا تأب إذا دعيتَ إلى شهادة.
6373 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، يعني: من احتيج إليه من المسلمين شهد على شهادة إن كانت عنده، ولا يحلّ له أن يأبى إذا ما دُعي.
6374 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن يونس، عن الحسن:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: لإقامتها، ولا يبدأ بها، إذا دعاه ليشهده، وإذا دعاه ليقيمها.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا" - للقيام بالشهادة التي عندهم للداعي - من إجابته إلى القيام بها.
ذكر من قال ذلك:
6375 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا شهد.
6376 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانوا قد شهدوا قبل ذلك.
6377 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، يقول: إذا كانوا قد أشْهِدوا.
6378 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانت عندك شهادة فدُعيت.
6379 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ليث، عن(6/70)
مجاهد في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كانت شهادة فأقمها، فإذا دُعيت لتشهد، فإن شئتَ فاذْهب، وإن شئت فلا تذهب.
6380 - حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصّباح، عن عمران بن حُدَير، قال: قلت لأبي مجلز: ناس يدعونني لأشهد بينهم، وأنا أكره أن أشهد بينهم؟ قال: دع ما تكره، فإذا شهدتَ فأجب إذا دُعيت.
6381 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن عامر قال: الشاهد بالخيار ما لم يَشْهد.
6382 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن عكرمة في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا". قال: لإقامة الشهادة.
6383 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن أبي عامر، عن عطاء قال: في إقامة الشهادة.
6384 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، حدثنا أبو عامر المزني قال، سمعت عطاء يقول: ذلك في إقامة الشهادة = يعني قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا". (1)
6385 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا أبو حُرّة، أخبرنا عن الحسن أنه سأله سائل قال: أُدْعَى إلى الشهادة وأنا أكره أن أشهد عليها. قال: فلا تجبْ إن شئت. (2)
6386 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة قال: سألت إبراهيم
__________
(1) الأثران: 6383، 6384 - أبو"عامر" مضت ترجمته برقم: 6372.
(2) الأثر: 6385 -"أبو حرة" البصري، هو: "واصل بن عبد الرحمن". روى عن عكرمة بن عبد الله المزني، والحسن، وابن سيرين، ومحمد بن واسع وغيرهم. روى عنه حماد بن سلمة، وهشيم، والقطان، وابن مهدي، ووكيع، وغيرهم. قال البخاري: "يتكلمون في روايته عن الحسن". قال عبد الله بن أحمد: سألت يحيى بن معين عن أبي حرة فقال: "صالح، وحديثه عن الحسن ضعيف، يقولون: لم يسمعها من الحسن". مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: أبو مرة، وهو خطأ.(6/71)
قلت: أدعى إلى الشهادة وأنا أخاف أن أنسى؟ قال: فلا تشهد إن شئتَ.
6387 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عامر، عن عطاء قال: للإقامة. (1)
6388 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شريك، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير:"ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا"، قال: إذا كانوا قد شهدوا.
6389 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم، عن سعيد:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: هو الذي عنده الشهادة.
6390 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا"، يقول: لا يأب الشاهد أن يتقدّم فيشهد، إذا كان فارغًا.
6391 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء:"ولا يأبَ الشهداء إذا ما دعوا"، قال: هم الذين قد شهدوا. قال: ولا يضرّ إنسانًا أن يأبى أن يشهد إن شاء. قلت لعطاء: ما شأنه؟ إذا دُعي أن يكتب وجبَ عليه أن لا يأبى، وإذا دعي أن يشهد لم يجب عليه أن يشهد إن شاء! قال: كذلك يجب على الكاتب أن يكتُب، ولا يجب على الشاهد أن يشهد إن شاء، الشهداء كثيرٌ.
6392 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا شهد فلا يأب إذا دُعي أن يأتي يؤدي شهادةً ويُقيمها.
6393 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:
__________
(1) الأثر: 6387-"أبو عامر"، انظر ما سلف رقم: 6372.(6/72)
"ولا يأب الشهداء"، قال: كان الحسن يتأوّلها: إذا كانت عنده شهادة فدعي ليقيمها.
6394 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: إذا كتب الرجل شهادته، أو أشهِد لرجل فشهد، والكاتبُ الذي يكتب الكتاب - دعوا إلى مَقطع الحق، فعليهم أن يجيبوا وأن يشهدوا بما أشهِدوا عليه. (1)
* * *
وقال آخرون: هو أمر من الله عز وجل الرجلَ والمرأةَ بالإجابة إذا دعي ليشهد على ما لم يشهد عليه من الحقوق، ابتداءً، لا لإقامة الشهادة، (2) ولكنه أمر نَدْب لا فرْض.
ذكر من قال ذلك:
6395 - حدثني أبو العالية العبدي إسماعيل بن الهيثم قال، حدثنا أبو قتيبة، عن فضيل بن مرزوق، عن عطية العوفي في قوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، قال: أمرت أن تشهد، فإن شئت فاشهد، وإن شئت فلا تشهد. (3)
6396 - حدثني أبو العالية قال، حدثنا أبو قتيبة، عن محمد بن ثابت العَصَريّ، عن عطاء، بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال:" [معنى]
__________
(1) قوله: "مقطع الحق": هو موضع الفصل في الحكم بين الحق والباطل. من"القطع"، وهو الفصل بين الأجزاء.
(2) في المطبوعة: "لا إقامة الشهادة"، وفي المخطوطة كتب"لا إقامة" ثم ضرب على الألف ووضع تحت الألف من"لا" همزة، وظاهر أن الذي أثبته هو الصواب.
(3) الخبر: 6395- إسماعيل بن الهيثم، أبو العالية العبدي، شيخ الطبري: لم نجد له ترجمة ولا ذكرًا في شيء من المراجع، إلا رواية الطبري هذا الخبر والذي بعده، وروايته عنه في التاريخ 1: 206 مرة واحدة، عن أبي قتيبة أيضًا.
وأبو قتيبة: هو سلم بن قتيبة، مضت ترجمته في: 1924.(6/73)
ذلك: (1) ولا يأب الشهداء من الإجابة، إذا دعوا لإقامة الشهادة وأدائها عند ذي سلطان أو حاكم يأخذُ من الذي عليه ما عليه، للذي هو له".
وإنما قلنا هذا القول بالصواب أولى في ذلك من سائر الأقوال غيره، لأن الله عز وجل قال:"ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا"، فإنما أمرهم بالإجابة للدعاء للشهادة وقد ألزمهم اسم"الشهداء". وغير جائز أن يلزمهم اسم"الشهداء" إلا وقد استُشهدوا قبل ذلك فشهدوا على ما ألزمتهم شهادتهم عليه اسم"الشهداء". (2) فأما قبل أن يُستشهدوا على شيء، فغير جائز أن يقال لهم"شهداء". لأن ذلك الاسم لو كان يلزمهم ولمَّا يستشهدوا على شيء يستوجبون بشهادتهم عليه هذا الاسم، لم يكن على الأرض أحد له عقل صحيح إلا وهو مستحق أن يقال له"شاهد"، بمعنى أنه سيشهد، أو أنه يصلح لأن يشهد. وإذْ كان خطأ أن يسمى بذلك الاسم إلا من عنده شهادة لغيره، (3) أو من قد قام شهادته فلزمه لذلك هذا الاسم = (4) كان معلومًا أن المعنيَّ بقوله:"ولا يأبَ الشهداءُ إذا ما دعوا"، من وصفنا صفته ممن قد استُرْعى شهادةً، أو شَهد، فدعى إلى القيام بها. لأن الذي لم يُستشْهد ولم يُسترْعَ شهادةً قبل الإشهاد، غيرُ مستحق اسم"شهيد" ولا"شاهد"، لما قد وصفنا قبل.
=مع أن في دخول"الألف واللام" في"الشهداء"، دلالةً واضحةً على أن المسمَّى بالنهي عن ترك الإجابة للشهادة، أشخاصٌ معلومون قد عرفوا بالشهادة،
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها.
(2) في المطبوعة: "على ما ألزمهم شهادتهم عليه"، وفي المخطوطة: "لزمهم شهادتهم"، والصواب في قراءة ذلك ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "وإن كان خطأ. . . " والصواب من المخطوطة. وفي المخطوطة: "شهادة لغيرهم"، والصواب ما في المطبوعة.
(4) في المطبوعة: "من قد قام بشهادته"، وفي المخطوطة: "من قد قام شهادته"، وصواب القراءة ما أثبت.(6/74)
وأنهم الذين أمر الله عز وجل أهلَ الحقوق باستشهادهم بقوله:"واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضونَ من الشهداء". وإذْ كان ذلك كذلك، كانَ معلومًا أنهم إنما أمروا بإجابة داعيهم لإقامة شهادتهم بعد ما استُشْهدوا فشهدوا. ولو كان ذلك أمرًا لمن أعرَض من الناس فدُعي إلى الشهادة يشهد عليها، لقيل: (1) ولا يأبَ شاهد إذا ما دعى.
غيرَ أنّ الأمر وإن كان كذلك، فإنّ الذي نقول به في الذي يُدعى لشهادة ليشهد عليها إذا كان بموضع ليس به سواه ممن يصلحُ للشهادة، فإنّ الفرضَ عليه إجابةُ داعيه إليها، كما فَرضٌ على الكاتب إذا استكتب بموضع لا كاتب به سواه، ففرضٌ عليه أن يكتب، كما فرضٌ على من كان بموضع لا أحد به سواه يعرف الإيمان وشرائع الإسلام، فحضره جاهلٌ بالإيمان وبفرائض الله، فسأله تعليمه وبيان ذلك له، أنْ يعلمه ويبيِّنه له. (2) ولم نوجب ما أوجبنا على الرجل من الإجابة للشهادة إذا دعي ابتداءً ليشهِد على ما أشْهِد عليه بهذه الآية، ولكن بأدلة سواها، وهي ما ذكرنا. وإنَّ فرْضًا على الرجل إحياءُ ما قَدَر على إحيائه من حق أخيه المسلم. (3)
* * *
"والشهداء" جمع"شهيد". (4)
* * *
__________
(1) في المخطوطة: "إلى الشهادة فشهد"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) سياق هذه الجملة: كما فرض على من كان بموضع. . . أن يعلمه. . ".
(3) في المطبوعة: "وقد فرضنا على الرجل. . . "، وهو خطأ فاسد، وتحريف لما في المخطوطة من الصواب المحض.
(4) انظر ما سلف في بيان"الشهداء" 1/ 377/ ثم 3: 97، 145/ وما سلف قريبًا ص: 60.(6/75)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تسأموا، أيها الذين تُداينون الناس إلى أجل، أن تكتبوا صغيرَ الحق، يعني: قليله، أو كبيره = يعني: أو كثيره = إلى أجله = إلى أجل الحق، فإنّ الكتاب أحصى للأجل والمال.
6397 - حدثني المثنى قال حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن ليث، عن مجاهد:"ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله"، قال: هو الدّين.
* * *
ومعنى قوله:"ولا تسأموا": لا تملوا. يقال منه:"سئمتُ فأنا أسأم سَآمة وسَأمةً"، ومنه قول لبيد:
وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَسُؤَالِ هذَا النَّاسِ: كَيْفَ لَبيدُ؟ (1)
ومنه قول زهير:
سَئِمْتُ تَكَالِيفَ الحَيَاةِ، وَمَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ عَامًا، لا أَبَالَكَ، يَسْأَمِ (2)
يعني مللت.
* * *
وقال بعض نحويي البصريين: تأويل قوله:"إلى أجله"، إلى أجل الشاهد. ومعناه إلى الأجل الذي تجوز شهادته فيه. وقد بينا القول فيه. (3)
* * *
__________
(1) ديوانه، القصيدة رقم: 7، يذكر فيها طول عمره، ومآثره في ماضيه.
(2) ديوانه: 9. تكاليف الحياة: مشقاتها ومتاعبها. وهذا البيت هو مطلع أبياته الحكيمة التي ختم بها معلقته.
(3) انظر ما قاله في"الأجل" فيما سلف قريبًا ص: 43.(6/76)
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ذلكم"، اكتتاب كتاب الدين إلى أجله.
* * *
ويعني بقوله:"أقسط"، أعدل عند الله.
يقال منه:"أقسط الحاكم فهو يُقسط إقساطًا، وهو مُقسط"، إذا عدل في حكمه وأصاب الحق فيه. فإذا جار قيل:"قَسَط فهو يَقْسِط قُسوطًا". ومنه قول الله عز وجل: (وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا) [سورة الجن: 15] ، يعني الجائرون.
* * *
وبمثل ما قلنا في ذلك قال جماعة أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6398 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ذلكم أقسط عند الله"، يقول: أعدل عند الله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأصوب للشهادة.
* * *
وأصله من قول القائل:"أقمتُ من عَوَجه"، (1) إذا سويته فاستوى.
* * *
وإنما كان الكتاب أعدل عند الله، وأصوب لشهادة الشهود على ما فيه،
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "أقمته من عوجه"، والصواب ما أثبت.(6/77)
لأنه يحوي الألفاظ التي أقرّ بها البائع والمشتري وربّ الدَّين والمستدين على نفسه، فلا يَقع بين الشهود اختلاف في ألفاظهم بشهادتهم، لاجتماع شهادتهم على ما حواه الكتاب، وإذا اجتمعت شهادتهم على ذلك، كان فصلُ الحكم بينهم أبيَن لمن احتُكم إليه من الحكام، مع غير ذلك من الأسباب. وهو أعدل عند الله، لأنه قد أمر به. واتباعُ أمر الله لا شَكّ أنه عند الله أقسطُ وأعدلُ من تركه والانحراف عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَدْنَى أَلا تَرْتَابُوا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وأدنى"، وأقرب، من"الدنو"، وهو القرب.
* * *
ويعني بقوله:"أن لا ترتابوا"، أن لا تَشكوا في الشهادة، (1) كما:-
6399 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي"ذلك أدنى أن لا ترتابوا"، يقول: أن لا تشكوا في الشهادة.
* * *
وهو"تفتعل" من"الرِّيبة". (2)
* * *
ومعنى الكلام: ولا تملُّوا أيها القوم أن تكتبوا الحقّ الذي لكم قِبَل من داينتموه من الناس إلى أجل، صغيرًا كان ذلك الحق قليلا أو كثيرًا، فإن كتابكم ذلك أعدل عند الله، وأصوبُ لشهادة شهودكم عليه، وأقربُ لكم أن لا تشكوا فيما شهد به شهودكم عليكم من الحق والأجل إذا كان مكتوبًا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "من أن لا تشكوا"، والصواب حذف"من"، أو جعلها"أي أن لا تشكوا".
(2) في المخطوطة: "وهو تفعيل"، وهو خطأ محض وتحريف.(6/78)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلا تَكْتُبُوهَا}
قال أبو جعفر: ثم استثنى جل ذكره مما نهاهم عنه أن يسأموه من اكتتاب كتب حقوقهم على غرمائهم بالحقوق التي لهم عليهم = ما وجب لهم قِبَلهم من حقّ عن مُبايعة بالنقود الحاضرة يدًا بيد، فرخَّص لهم في ترك اكتتاب الكُتب بذلك. لأن كل واحد منهم، أعني من الباعة والمشترين، يقبض = إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا = ما وجب له قِبَل مبايعيه قبْل المفارقة، (1) فلا حاجة لهم في ذلك إلى اكتتاب أحد الفريقين على الفريق الآخر كتابًا بما وجب لهم قبلهم، وقد تقابضوا الواجبَ لهم عليهم. فلذلك قال تعالى ذكره:"إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم"، لا أجل فيها ولا تأخير ولا نَسَاء="فليس عليكم جُناح أن لا تكتبوها"، يقول: فلا حرج عليكم أن لا تكتبوها - يعني التجارة الحاضرةَ.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6400 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم"، يقول: معكم بالبلد تَرَوْنها، فتأخذُ وتعطى، فليس على هؤلاء جناح أن لا يكتبوها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إذا كان التواجب بينهم فيما يتابعونه بعد ما وجب له قبل مبايعيه. . " وهو كلام لا معنى له. وفي المخطوطة: "إذا كان التواجب بينهم فيما يتبايعون نقدًا ما وجب له قبل مبايعيه"، وقوله"++ ما وجب" غير منقوطة. فرأيت صواب قراءة"التواجب"، "الواجب" وصواب الأخرى"نقدا" فاستقام الكلام. وسياق العبارة: "لأن كل واحد منهم. . يقبض. . . ما وجب له قبل مبايعيه قبل المفارقة" وقوله: "إذا كان الواجب بينهم فيما يتبايعونه نقدًا"، جملة فاصلة.(6/79)
6401 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك."ولا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله"، إلى قوله:"فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها"، قال: أمر الله أن لا تسأموا أن تكتبوه صغيرًا أو كبيرًا إلى أجله، وأمر ما كان يدًا بيد أن يُشهد عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا، ورخصّ لهم أن لا يكتبوه.
واختلفت القرَأة في قراءة ذلك.
فقرأته عامة قرأة الحجاز والعراق وعامة القرأة: (إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةٌ حَاضِرَةٌ) بالرفع.
وانفرد بعض قرأة الكوفيين فقرأ به بالنصب. (1) وذلك وإن كان جائزًا في العربية، إذ كانت العربُ تنصبُ النكرات والمنعوتات مع"كان"، وتضمر معها في"كان" مجهولا فتقول:"إن كان طعامًا طيبًا فأتنا به"، وترفعها فتقول:"إن كان طعامٌ طيبٌ فأتنا به"، فتتبع النكرةَ خبرَها بمثل إعرابها = فإن الذي أختار من القراءة، ثم لا أستجيز القراءةَ بغيره، الرفعُ في"التجارة الحاضرة"، لإجماع القرأة على ذلك، وشذوذ من قرأ ذلك نصبًا عنهم، ولا يُعترض بالشاذ على الحجة. ومما جاء نصبًا قولُ الشاعر: (2)
أَعَيْنيَ هَلا تَبْكِيَانِ عِفَاقَا ... إذَا كانَ طَعْنًا بَيْنَهُمْ وعِنَاقَا (3)
__________
(1) في المطبوعة: "فقرأه"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو صواب.
(2) لم أعرف قائله، ولكن أخشى أن يكون هو متمم بن نويرة، كما سترى في التعليق التالي.
(3) معاني القرآن للفراء 1: 186. أرجح أن"عفاقًا" هذا، هو"عفاق بن أبي مليل اليربوعي"، الذي قتل يوم العظالى (انظر هذا 1: 337، تعليق: 2) فرثاه متمم بن نويرة اليربوعي، ورثى أخاه بجيرًا، وقد سلف شعر متمم في رثائهما (1: 337) . ومن أجل ذلك قلت إن الشعر خليق أن يكون لمتمم. أما ما زعمه زاعمون من أنه في"عفاق" الذي أكلته باهلة. والذي يقول فيه القائل: إنَّ عِفَاقًا أَكلَتْهُ باَهِلَهْ ... تمشَّشُوا عِظَامَهُ وكاهِلَهْ
فذاك"عفاق" آخر، هو"عفاق بن مرى بن سلمة بن قشير" (القاموس- التاج عفق) .(6/80)
وقول الآخر: (1)
وَلِلهِ قَومِي: أَيُّ قَوْمٍ لِحُرَّةٍ ... إذَا كَانَ يَوْمًا ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا! ! (2)
وإنما تفعل العرب ذلك في النكرات، لما وصفنا من إتباع أخبار النكرات أسماءَها. و"كان" من حكمها أن يكون معها مرفوع ومنصوب، فإذا رفعوهما جميعهما، تذكروا إتباع النكرة خبرَها، وإذا نصبوهما، تذكروا صحبة"كان" لمنصوب ومرفوع. (3) ووجدوا النكرة يتبعها خبرُها، وأضمروا في"كان" مجهولا لاحتمالها الضمير.
* * *
وقد ظن بعض الناس أن من قرأ ذلك:"إلا أن تَكون تجارةً حاضرةً"، إنما قرأه على معنى: إلا أن يكون تجارة حاضرة، فزعم أنه كان يلزم قارئ ذلك أنْ يقرأ"يكون" بالياء، وأغفل موضعَ صواب قراءته من جهة الإعراب، وألزمه غير ما يلزمه. وذلك أن العربَ إذا جعلوا مع"كان" نكرة مؤنثًا بنعتها أو خبرها، أنَّثوا"كان" مرة، وذكروها أخرى، فقالوا:"إن كانت جارية صغيرة فاشترُوها، وإن كان جاريةً صغيرةً فاشتروها"، تذكر"كان" - وإن نصبت النكرة المنعوتة أو رَفعت - أحيانًا، وتؤنث أحيانًا.
* * *
__________
(1) هو عمرو بن شأس، على الشك في ذلك كما سترى في التعليق التالي.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 186، سيبويه 1: 22، وصدره في سيبويه منسوبًا لعمرو بن شأس: "بَني أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنا"
وأنا أخشى أن يكون الشعر لغير عمرو بن شأس، ولكني لم أجده، وإن كنت أذكر أني قرأته في أبيات غير شعر عمرو. وقوله: "ذا كواكب"، أي شديد عصيب، قد ظهرت النجوم فيه نهارًا، كأنه أظلم فبدت كواكبه، لأن شمسه كسفت بارتفاع الغبار في الحرب، وإذا كسفت الشمس، ظهرت الكواكب. ويقال: "أمر أشنع وشنيع"، أي فظيع قبيح. وكان في المطبوعة: "بحرة"، وهو خطأ، صوابه من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء. يعني أن أمهم حرة، فولدتهم أحرارًا.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "منصوب ومرفوع" والصواب ما أثبت. وانظر ما قاله الفراء في معاني القرآن 1: 185-187.(6/81)
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن قوله:"إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ" مرفوعة فيه"التجارة الحاضرة"، لأن"تكون"، بمعنى التمام، ولا حاجة بها إلى الخبر، بمعنى: إلا أن تُوجد أو تقعَ أو تحدث. فألزم نفسه ما لم يكن لها لازمًا، لأنه إنما ألزم نفسه ذلك، إذْ لم يكن يجدك لـ"كان" منصوبًا، (1) ووجد"التجارة الحاضرة" مرفوعة، وأغفل جَواز قوله:"تديرونها بينكم" أن يكون خبرًا لـ"كان"، فيستغني بذلك عن إلزام نفسه ما ألزم.
* * *
والذي قال من حكينا قوله من البصريين غيرُ خطأ في العربية، غيرَ أن الذي قلنا بكلام العرب أشبه، وفي المعنى أصحّ: وهو أن يكون في قوله:"تديرونها بينكم" وجهان: أحدهما أنه في موضع نصب، على أنه حل محل خبر"كان"، و"التجارة الحاضرة" اسمها. والآخر: أنه في موضع رفع على إتباع"التجارة الحاضرة"، لأن خبرَ النكرة يتبعها. فيكون تأويله: إلا أن تكون تجارةٌ حاضرةٌ دائرةً بينكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وأشهدوا على صغير ما تبايعتم وكبيره من حقوقكم، عاجل ذلك وآجله، ونقده ونَسَائه، فإنّ إرخاصي لكم في ترك اكتتاب الكتب بينكم فيما كان من حقوق تجري بينكم لبعضكم من قبل بعض عن تجارة حاضرة دائرة بينكم يدًا بيدٍ ونقدًا، ليس بإرخاص مني لكم في ترك الإشهاد منكم على مَنْ بعتموه شيئًا أو ابتعتم منه. لأن في ترككم الإشهاد على ذلك خوفَ المضرّة على كل من الفريقين. أما على المشتري، فأنْ يجحد البائعُ
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "إذا لم يكن يجد"، والسياق يقتضي: "إذ".(6/82)
البيع، (1) وله بيِّنة على ملكه ما قد باع، ولا بيِّنة للمشتري منه على الشراء منه، فيكون القولُ حينئذ قولَ البائع مع يمينه ويُقضَى له به، فيذهب مالُ المشتري باطل وأما على البائع، فأنْ يجحد المشتري الشراءَ، وقد زال ملك البائع عما باع، ووجب له قِبل المبتاع ثمن ما باع، فيحلفُ على ذلك، فيبطل حقّ البائع قِبَلَ المشتري من ثمن ما باعه. فأمر الله عز وجل الفريقين بالإشهاد، لئلا يضيع حق أحد الفريقين قبل الفريق الآخر.
* * *
ثم اختلفوا في معنى قوله:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، أهو أمرٌ من الله واجبٌ بالإشهاد عند المبايعة، أم هو ندب؟
فقال بعضهم:"هو نَدْبٌ، إن شاء أشهد، وإن شاء لم يُشهد".
ذكر من قال ذلك:
6402 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن الربيع، عن الحسن وشقيق، عن رجل، عن الشعبي في قوله:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، قال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألم تسمع إلى قوله:"فإن أمن بعضكم بعضًا فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته"؟
6403 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا الربيع ابن صبيح قال: قلت للحسن: أرأيتَ قول الله عز وجل:"وأشهدوا إذا تبايعتم"؟ قال: إن أشهدت عليه فهو ثقة للذي لك، وإن لم تُشهد عليه فلا بأس.
6404 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الربيع بن صبيح قال: قلت للحسن: يا أبا سعيد، قول الله عز وجل:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، أبيع الرجل وأنا أعلم أنه لا ينقدني شهرين ولا ثلاثة، (2) أترى
__________
(1) في المطبوعة: ". . البائع المبيع. . "، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ينقد في شهرين". . .، وأثبت ما في المخطوطة.(6/83)
بأسًا أن لا أشهد عليه؟ قال: إن أشهدت فهو ثقة للذي لك، وإن لم تشهد فلا بأس. (1)
6405 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن داود، عن الشعبي:"وأشهدوا إذا تبايعتم"، قال: إن شاؤوا أشهدوا، وإن شاؤوا لم يشهدوا.
* * *
وقال آخرون:"الإشهاد على ذلك واجب".
ذكر من قال ذلك:
6406 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"إلا أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أن لا تكتبوها"، ولكن أشهدوا عليها إذا تبايعتم. أمر اللهُ، ما كان يدًا بيد أن يُشهدوا عليه، صغيرًا كان أو كبيرًا.
6407 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع حاضر فإن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد. وما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله أن يكتب ويُشْهد عليه. وذلك في المقام.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب: أنّ الإشهاد على كل مَبيع ومُشترًي، حقٌّ واجبٌ وفرضٌ لازم، لما قد بيَّنا: من أن كلَّ أمرٍ لله ففرضٌ،
__________
(1) الأثران: 6403، 6404 -"الربيع بن صبيح السعدي". روى عن الحسن، وحميد الطويل ومجاهد بن جبر، وغيرهم. وروى عنه الثوري، وابن المبارك، وابن مهدي، ووكيع وغيرهم. قال حرملة عن الشافعي: "كان الربيع بن صبيح غزاء - وإذا مدح الرجل بغير صناعته، فقد وهص، أي دق عنقه". وقال أحمد: "رجل صالح لا بأس به". وقال ابن معين وابن سعد والنسائي: "ضعيف الحديث". وقال ابن حبان: "كان من عباد أهل البصرة وزهادهم، وكان يشبه بيته بالليل ببيت النحل من كثرة التهجد، إلا أن الحديث لم يكن من صناعته، فكان يهم فيما يروى كثيرًا، حتى وقع في حديثه المناكير من حيث لا يشعر. لا يعجبني الاحتجاج به إذا انفرد". مترجم في التهذيب.(6/84)
إلا ما قامت حُجته من الوجه الذي يجب التسليم لهُ بأنه ندبٌ وإرشاد. (1)
* * *
وقد دللنا على وَهْيِ قول من قال: (2) ذلك منسوخ بقوله:"فليؤدِّ الذي اؤتمن أمانته"، فيما مضى فأغنى عن إعادته. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ}
قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: ذلك نهيٌ من الله الكاتبَ الكتابَ بين أهل الحقوق والشهيدَ أن يضارّ أهله، (4) فيكتب هذا ما لم يُملله المملي، ويَشهد هذا بما لم يستشهده المستشهِد. (5)
ذكر من قال ذلك:
6408 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:""ولا يضارّ كاتب ولا شهيد"،"ولا يضار كاتب" فيكتب ما لم يملَّ عليه =،"ولا شهيد" فيشهد بما لم يُستشهد.
6409 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، قال: كان الحسن يقول:"لا يضارّ كاتب" فيزيد شيئًا أو يحرّف ="ولا شهيد"، قال: لا يكتم الشهادة، ولا يشهدْ إلا بحق.
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا ص: 53.
(2) في المخطوطة: "على وهاء قول من قال"، وقد سلف ما قلته في قول الفقهاء"الوهاء" بمعنى"الوهى"، وهو الضعف الشديد في 4: 18 / ثم ص: 155 تعليق: 1/ ثم ص: 361، تعليق3، فراجعه.
(3) انظر ما سلف قريبًا ص: 53-55.
(4) في المطبوعة: "نهي من الله لكاتب الكتاب"، وأثبت ما في المخطوطة. وقوله: "الكاتب الكتاب. . والشهيد" منصوب بالمصدر"نهى"، و"الكتاب" منصوب باسم الفاعل"الكاتب"
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "بما لم يستشهده الشهيد"، وهو محال وخطأ، وإنما"الشهيد الشاهد، وهو لا يعني إلا"المستشهد"، فكذلك أثبتها.(6/85)
6410 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: اتقى الله شاهدٌ في شهادته، لا ينقص منها حقًّا ولا يزيد فيها باطلا. اتقى الله كاتب في كتابه، فلا يَدَعنَّ منه حقًّا ولا يزيدنَّ فيه باطلا. (1)
6411 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال:"لا يضار كاتب" فيكتب ما لم يُملل ="ولا شهيد"، فيشهد بما لم يستشهد.
6411 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال:"لا يضار كاتب" فيكتب ما لم يُملل ="ولا شهيد"، فيشهد بما لم يستشهد.
6412 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة نحوه.
6413- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال:"لا يضار كاتب" فيكتب غير الذي أملي عليه. قال: والكتاب يومئذ قليلٌ، ولا يدرون أي شيء يُكتب، فيضار فيكتبَ غير الذي أملي عليه، فيبطل حقهم. قال: والشهيد: يضارّ فيحوِّل شهادته، فيبطل حقهم.
* * *
قال أبو جعفر: فأصل الكلمة على تأويل من ذكرنا من هؤلاء: ولا يضارِرْ كاتبٌ ولا شهيد، ثم أدغمت"الراء" في"الراء"، لأنهما من جنس، وحُرِّكت إلى الفتح وموضعها جزم، لأنّ الفتح أخفّ الحركات. (2)
* * *
وقال آخرون ممن تأول هذه الكلمة هذا التأويل: معنى ذلك:،"ولا يضارّ كاتب ولا شهيد" بالامتناع عمن دعاهما إلى أداء ما عندهما من العلم أو الشهادة.
__________
(1) الأثر: 6410- في المطبوعة: "قال حدثنا يزيد بن قتادة"، وفي المخطوطة: "قال حدثنا يزيد، قال حدثنا يزيد، عن قتادة"، وهو إسناد دائر في الطبري كما أثبته، أقربه رقم: 6393، هذا وقد سلف هذا الأثر مختصرًا برقم: 6338.
(2) انظر ما سلف 5: 46-53، وفي"تضار" وقراءاتها، وفي قوله: "لأن الفتح أخف الحركات" 5: 52، تعليق: 1، ثم هذا فيما سلف قريبا ص: 65 س: 2.(6/86)
ذكر من قال ذلك:
6414 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: أن يؤديا ما قِبَلهما.
6415 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء."ولا يضار كاتب ولا شهيد"؟ قال:"لا يضار"، أن يؤديا ما عندهما من العلم. (1)
6416 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس قال:"لا يضار" كاتب ولا شهيد"، قال: أن يدعوهما، فيقولان: إن لنا حاجة. (2)
6417 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قالا واجب على الكاتب أن يكتب ="ولا شهيد"، قالا إذا كان قد شهد، اقبلْهُ. (3)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:"ولا يضارّ المستكتِب والمستشهِد الكاتبَ والشهيدَ". وتأويل الكلمة على مذهبهم: ولا يضَارَرْ، على وجه ما لم يسمّ فاعله.
ذكر من قال ذلك:
6418 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة قال، كان عمر يقرأ:"ولا يُضَارَرْ كاتبٌ ولا شهيد".
__________
(1) في المطبوعة: "لا يضارا أن يؤديا" وهو خطأ، وفاسد المعنى، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "فيقولا"، والصواب من المخطوطة.
(3) قوله: "اقبله"، هكذا في المخطوطة والمطبوعة، وأنا في شك منها، وضبطتها على أقرب المعاني إلى الصواب، ولكني أخشى أن يكون في الكلمة تحريف لم أقف على وجهه.(6/87)
6419 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك قال: كان ابن مسعود يقرأ: (ولا يُضَارَرْ) .
6420 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد أنه كان يقرأ:"ولا يُضَارَرْ كاتب ولا شهيد"، وأنه كان يقول في تأويلها: ينطلق الذي له الحق فيدعو كاتبَه وشاهدَه إلى أن يشهد، ولعله أن يكون في شُغل أو حاجة، ليؤثمه إن ترك ذلك حينئذ لشغله وحاجته = وقال مجاهد: لا يقمْ عن شغله وحاجته، فيجدَ في نفسه أو يحرَج.
6421 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، والضِّرار أن يقول الرجل للرجل وهو عنه غنىّ: إنّ الله قد أمرك أن لا تأبَى إذا دعيت! فيضارُّه بذلك، وهو مكتف بغيره. فنهاه الله عز وجل عن ذلك وقال:"وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم".
6422 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: إنه يكون للكاتب والشاهد حاجةٌ ليس منها بدٌّ؛ فيقول: خلُّوا سبيله.
6423 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن عكرمة في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال: يكون به العلة أو يكون مشغولا يقول: فلا يضاره.
6424 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: لا يأت الرجل فيقول: انطلق فاكتبْ لي، واشهد لي، فيقول: إن لي حاجة فالتمسْ غيري! فيقول: اتق الله، فإنك قد أمِرتَ أن تكتب لي! فهذه المضارّة، ويقول: دعه والتمس غيره، والشاهدُ بتلك المنزلة.(6/88)
6425 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: يدعو الرجل الكاتبَ أو الشهيدَ، فيقولُ الكاتب أو الشاهد: إن لنا حاجة! فيقولُ الذي يدعوهما: إن الله عز وجل أمركما أن تجيبا في الكتابة والشهادة! يقول الله عز وجل لا يضارّهما.
6426 - حدثت عن الحسن قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك في قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، هو الرجل يدعو الكاتب أو الشاهدَ وهما على حاجة مهمة، فيقولان: إنّا على حاجة مهمة فاطلب غيرنا! فيقول: والله لقد أمركما أن تجيبا! (1) فأمره أن يطلب غيرهما ولا يضارهما، = يعني: لا يشغلهما عن حاجتهما المهمة وهو يجد غيرهما.
6427 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: ليس ينبغي أن تعترض رجلا له حاجة فتضاره فتقول له: اكتب لي! فلا تتركه حتى يكتب لك وتفوته حاجته = (2) ولا شاهدًا من شهودك وهو مشغول، فتقول: اذهب فاشهد لي! تحبسه عن حاجته، وأنتَ تجد غيره.
6428 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، قال: لما نزلت هذه الآية:"ولا يأب كاتبٌ أن يكتب كما علَّمه الله"، كان أحدهم يجيء إلى الكاتب فيقول: اكتب لي! فيقول: إني مشغول = أو: لي حاجة، فانطلق إلى غيري! فيلزَمه ويقول: إنك
__________
(1) في المطبوعة: "الله أمركما أن تجيبا"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى يكتب له"، والسياق يقتضي"لك". وقوله بعد"ولا شاهدًا من شهودك. . . " معطوف على قوله قبل: "أن تعترض رجلا. . . ".(6/89)
قد أمِرتَ أن تكتب لي! فلا يدعه ويضارّه بذلك وهو يجد غيره. ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي فاشهد لي! فيقول: انطلق إلى غيري فإني مشغول = أو: لي حاجة! (1) فيلزمه ويقول: قد أمِرت أن تتبعني. فيضاره بذلك، وهو يجد غيره، فأنزل الله عز وجل:"ولا يضار كاتب ولا شهيد".
6429 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، يقول: إن لي حاجة فدعني! فيقول: اكتب لي ="ولا شهيد"، كذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، بمعنى: ولا يضارهما من استكتَبَ هذا أو استشهدَ هذا، بأن يأبى على هذا إلا أن يكتبَ له وهو مشغول بأمر نفسه، ويأبى على هذا إلا أن يجيبه إلى الشهادة وهو غير فارغ = (2) على ما قاله قائلو ذلك من القول الذي ذكرنا قبل.
وإنما قلنا هذا القول أولى بالصواب من غيره، لأن الخطاب من الله عز وجل في هذه الآية من مُبتدئها إلى انقضائها على وجه:"افعلوا= أو: لا تفعلوا"، إنما هو خطابٌ لأهل الحقوق والمكتوب بينهم الكتابُ، والمشهود لهم أو عليهم بالذي تداينوه بينهم من الديون. فأما ما كان من أمر أو نهي فيها لغيرهم، فإنما هو على وجه الأمر والنهي للغائب غير المخاطب، كقوله:"وليكتب بينكم كاتب"، وكقوله:"ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا"، وما أشبه ذلك. فالوجهُ = إذْ كان المأمورون فيها مخاطبين بقوله:"وإن تَفعلوا فإنه فُسوقٌ بكم" = [بأن يكون
__________
(1) في المطبوعة: "ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي. فيقول: اذهب إلى غيري فإني مشغول" وكان في المخطوطة: "ويأتي الرجل فيقول: انطلق معي إلى غيري فإني مشغول"، وهو فاسدًا، وآثرت تصحيحه على وجه غير الوجه الذي كان في المطبوعة، ليكون أوضح وأقرب إلى معنى الشهادة.
(2) في المطبوعة: "أن يجيب" وأثبت ما في المخطوطة.(6/90)
الأمر مردودًا على المستكتب والمستشهد] ، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد. (1) ومع ذلك، فإنّ الكاتب والشهيد لو كانا هما المنهيَّين عن الضرار لقيل: (2) وإن يفعلا فإنه فسوقٌ بهما، لأنهما اثنان، وأنهما غير مخاطبين بقوله:"ولا يضارّ"، بل النهي بقوله:"ولا يضار"، نهيٌ للغائب غير المخاطب. فتوجيهُ الكلام إلى ما كان نظيرًا لما في سياق الآية، أولى من توجيهه إلى ما كان مُنعدِلا عنه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإن تضارّوا الكاتب أو الشاهدَ، وما نُهيتم عنه من ذلك ="فإنه فسوق بكم"، يعني: إثم بكم ومعصيةٌ. (3)
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم بنحو الذي قلنا.
ذكر من قال ذلك:
6430 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم"، يقول: إن تفعلوا غير الذي آمركم به، فإنه فسوق بكم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فالواجب إذ كان المأمورون مخاطبين بقوله: وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم، أشبه منه بأن يكون مردودًا على الكاتب والشهيد"، وهو كلام مختل أشد الاختلال، وهو في المطبوعة أشد اختلالا إذ جعل"إذ كان المأمورون" -"إذ كان. . . "، وقد وضعت بين القوسين ما هو أشبه بسياق المعنى، وكأنه الصواب إن شاء الله.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "ومع ذلك إن الكاتب والشهيد" والصواب ما أثبت.
(3) انظر تفسير"الفسوق" فيما سلف 1: 409، 410 / ثم 2: 118، 119، 399 / ثم 4: 135-140.(6/91)
6431 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم"، والفسوقُ المعصية.
6432 - حدثت عن عمار، قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم"، الفسوق العصيان.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وإن يضارّ كاتبٌ فيكتبَ غير الذي أملَى المملي، ويضارّ شهيدٌ فيحوِّلَ شهادته ويغيرَها ="فإنه فسوق بكم"، يعني: فإنه كذب.
ذكر من قال ذلك:
6433 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن تفعلوا فإنه فُسوق بكم"، الفسوق الكذب. قال: هذا فسوق، لأنه كذب الكاتبُ فحوَّل كتابه فكذَب، وكذَب الشاهدُ فحوّل شهادته، فأخبرهم الله أنه كذبٌ.
* * *
قال أبو جعفر: وقد دللنا فيما مضى على أن المعنىّ بقوله:"ولا يضار كاتب ولا شهيد"، إنما معناه: لا يضارّهما المستكتب والمستشهد، بما فيه الكفاية. (1)
فقوله:"وإن تفعلوا" إنما هو إخبارُ من يضارّهما بحكمه فيهما، وأنّ من يضارّهما فقد عصَى ربه وأثم به، (2) وركب ما لا يحلّ له، وخرج عن طاعة ربه في ذلك.
__________
(1) انظر ما سلف قريبًا في تفسير الآية.
(2) قوله: ""أثم به". قد سلف في 4: 530 تعليق 3 ما نصه: "آثما بربه" غير منقوطة، كأنها"بربه" ولكني لم أجد في كتب اللغة"آثم بربه" وإن كنت أخشى أن يكون صوابًا له وجه لم أتحققه" وغيرتها هناك"أثم بريائه"، فقد جاء هذا النص هنا محققًا ما خشيت، فصح أن الصواب هناك"آثمًا بربه"، فقيده هناك، وفي كتب اللغة. ومعنى: "أثم بربه": أي: قدم الإثم إلى ربه بمعصيته، فالباء فيه للغاية، كما في قوله تعالى {وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ} وكما قال كثير: أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي، لا مَلُومَةً ... لَدَيْنَا، ولا مقلِيَّةً إن تَقَلَّتِ
فهذه هي الحجة الناهضة في صواب التعبير الذي جاء في كلام الطبري، والحمد لله رب العالمين على حسن توفيقه إيانا إلى الصواب.(6/92)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"واتقوا الله"، وخافوا الله، أيها المتداينون في الكتاب والشهود، أن تضاروهم، وفي غير ذلك من حدود الله أن تُضِيعوه. ويعني بقوله:"ويُعلَّمكم الله"، ويبين لكم الواجب لكم وعليكم، فاعملوا به="والله بكل شيء عليم"، يعني: [بكل شيء] من أعمالكم وغيرها، (1) يحصيها عليكم، ليجازيكم بها.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6434 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"ويعلمكم الله"، قال: هذا تعليم علَّمكموه فخذُوا به.
* * *
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، وليست في المخطوطة ولا المطبوعة.(6/93)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك.
فقرأته القرأة في الأمصار جميعًا (كَاتِبًا) ، بمعنى: ولم تجدوا من يكتب لكم كتابَ الدَّين الذي تداينتموه إلى أجل مسمًّى،"فرهان مقبوضة".
* * *
وقرأ جماعةٌ من المتقدمين: (وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا) ، بمعنى: ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين سبيلٌ، إما بتعذّر الدواة والصحيفة، وإما بتعذر الكاتب وإن وجدتم الدواة والصحيفة.
* * *
والقراءة التي لا يجوز غيرها عندنا هي قراءة الأمصار:"ولم تجدوا كاتبًا"، بمعنى: من يكتب، لأن ذلك كذلك في مصاحف المسلمين.
* * *
[قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه] : (1) وإن كنتم، أيها المتداينون، في سفر بحيث لا تجدون كاتبًا يكتب لكم، ولم يكن لكم إلى اكتتاب كتاب الدين الذي تداينتموه إلى أجل مسمى بينكم الذي أمرتكم باكتتابه والإشهاد عليه سبيلٌ، فارتهنوا بديونكم التي تداينتموها إلى الأجل المسمى رهونًا تقبضونها ممن تداينونه كذلك، ليكون ثقةً لكم بأموالكم.
ذكر من قال ما قلنا في ذلك:
6435 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا فرهان مقبوضة"، فمن كان على سفر فبايع بيعًا إلى أجل فلم يجد كاتبًا، فرخص له
__________
(1) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، حتى يستقيم الكلام.(6/94)
في الرهان المقبوضة، وليس له إن وَجد كاتبًا أن يرتهن.
6436 - حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبًا"، يقول: كاتبًا يكتب لكم ="فرهان مقبوضة".
6437 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: ما كان من بيع إلى أجل، فأمر الله عز وجل أنْ يكتب ويُشْهد عليه، وذلك في المُقام. فإن كان قوم على سفر تبايعوا إلى أجل فلم يجدوا [كاتبًا] ، فرهان مقبوضة. (1)
* * *
ذكر قول من تأول ذلك على القراءة التي حكيناها:
6438 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس:"فإن لم تجدوا كتابًا"، يعني بالكتاب، الكاتبَ والصحيفة والدواة والقلم.
6439 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج قال، أخبرني أبي، عن ابن عباس أنه قرأ:"فإن لم تجدوا كتابًا"، قال: ربما وجد الرجل الصحيفة ولم يجد كاتبًا.
6440 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد، كان يقرأها:"فإن لم تجدوا كتابًا"، ويقول: ربما وجد الكاتبُ ولم تُوجد الصحيفة أو المداد، ونحو هذا من القول.
6441 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كتابًا"، يقول: مدادًا، - يقرأها كذلك - يقول: فإن لم تجدوا مدادًا، فعند ذلك تكون الرهون المقبوضة ="فرهن مقبوضة"، قال: لا يكون الرهن إلا في السفر.
__________
(1) الزيادة بين القوسين، أخشى أن تكون سقطت من الناسخ.(6/95)
6442 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد بن زيد، عن شعيب بن الحبحاب قال: إن أبا العالية كان يقرؤها،"فإن لم تجدوا كتابًا"، قال أبو العالية: تُوجد الدواةُ ولا توجد الصحيفة.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف القرأة في قراءة قوله:"فرهان مقبوضة".
فقرأ ذلك عامة قرأة الحجاز والعراق: (فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) ، بمعنى جماع"رَهْن" كما"الكباش" جماع"كبش"، و"البغال" جماع"بَغل"، و"النعال" جماع"نعل".
* * *
وقرأ ذلك جماعة آخرون: (فَرُهُنٌ مَقْبُوضَةٌ) على معنى جمع:"رِهان"،"ورُهن" جمع الجمع، وقد وجهه بعضهم إلى أنها جمع"رَهْن":، مثل"سَقْف وسُقُف".
* * *
وقرأه آخرون: (فَرُهْنٌ) مخففة الهاء على معنى جماع"رَهْن"، كما تجمع"السَّقْف سُقْفًا". قالوا: ولا نعلم اسمًا على"فَعْل" يجمع على"فُعُل وفُعْل" إلا"الرُّهُنُ والرُّهْن". و"السُّقُف والسُّقْف".
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب في ذلك قراءة من قرأه:"فرهان مقبوضة". لأن ذلك الجمعُ المعروفُ لما كان من اسم على"فَعْل"، كما يقال:"حَبْلٌ وحبال" و"كَعْب وكعاب"، ونحو ذلك من الأسماء. فأما جمع"الفَعْل" على"الفُعُل أو الفُعْل" فشاذّ قليل، إنما جاء في أحرف يسيرة وقيل:"سَقْف وسُقُفٌ وسُقْف""وقلْبٌ وقُلُب وقُلْب" من:"قلب النخل". (1) "وجَدٌّ وجُدٌّ"، للجد الذي هو بمعنى الحظّ. (2) وأما ما جاء من جمع"فَعْل" على"فُعْل"
__________
(1) هذا كله غريب لم يرد في كتب اللغة.
(2) وهذا أيضًا غريب لم أجده في كتب اللغة، وإنما قالوا في جمعه"أجداد وأجد وجدود". وكان في المطبوعة"حد وحد" بالحاء، و"الخط"، وهو خطأ، وفي المخطوطة غير منقوط.(6/96)
ف"ثَطٌّ، وثُطّ"، و"وَرْدٌ ووُرْد" و"خَوْدٌ وخُود".
وإنما دعا الذي قرأ ذلك:"فرُهْنٌ مقبوضة" إلى قراءته فيما أظن كذلك، مع شذوذه في جمع"فَعْل"، أنه وجد"الرِّهان" مستعملة في رِهَان الخيل، فأحبّ صرف ذلك عن اللفظ الملتبس برهان الخيل، الذي هو بغير معنى"الرهان" الذي هو جمع"رَهْن"، ووجد"الرُّهُن" مقولا في جمع"رَهْن"، كما قال قَعْنَب:
بَانَتْ سُعادُ وأَمْسَى دُونَهَا عَدَنُ ... وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَلْبِكَ الرُّهُنُ (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن كان المدين أمينًا عند رب المال والدَّين فلم يرتهن منه في سفره رَهْنًا بدينه لأمانته عنده على ماله وثقته، ="فليتق الله"، المدينُ ="رَبّه"، يقول: فليخف الله ربه في الذي عليه من دين صاحبه أن يجحده، أو يَلُطّ دونه، (2) أو يحاول الذهاب به، فيتعرّض من عقوبة الله لما لا قبل له، (3) به وليؤدّ دينه الذي ائتمنه عليه، إليه.
* * *
وقد ذكرنا قول من قال:"هذا الحكم من الله عز وجل ناسخٌ الأحكامَ التي
__________
(1) مختارات ابن الشجرى 1: 6، ولباب الآداب 402-404، اللسان (رهن) ، وروايته هناك"من قبلك"، وهي أجود فيما أرى. غلق الرهن غلقًا (بفتحتين) وغلوقًا: إذا لم تجد ما تخلص به الرهن وتفكه في الوقت المشروط، فعندئذ يملك المرتهن الرهن الذي عنده. كان هذا على رسم الجاهلية، فأبطله الإسلام. يقول: فارقتك بعد العهود والمواثيق والمحبات التي أعطيتها، فذهبت بذلك كله، كما يذهب بالرهان من كانت تحت يده.
(2) يقال: "لط الغريم بالحق دون الباطل": دافع ومنع الحق. و"لط حقه، ولط عليه" جحده ومنعه.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "ما لا قبل" بحذف اللام، وما أثبت هو أقرب إلى الجودة.(6/97)
في الآية قبلها: من أمر الله عز وجلّ بالشهود والكتاب". وقد دللنا على أولى ذلك بالصواب من القول فيه، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1) وقد:-
6443 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فإن أمِن بعضكم بعضًا فليؤد الذي اؤتمن أمانته"، إنما يعني بذلك: في السفر، فأما الحضر فلا وهو واجد كاتبًا، فليسَ له أن يرتهن ولا يأمن بعضُهم بعضًا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله الضحاك = من أنه ليس لرب الدين ائتمانُ المدين وهو واجد إلى الكاتب والكتاب والإشهاد عليه سبيلا وإن كانا في سفر=، فكما قال، لما قد دللنا على صحّته فيما مضى قبل.
وأما ما قاله= من أنّ الأمر في الرّهن أيضًا كذلك، مثل الائتمان: في أنه ليس لربّ الحق الارتهان بماله إذا وجد إلى الكاتب والشهيد سبيلا في حضر أو سفر= فإنه قولٌ لا معنى له، لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:-
6444- أنه اشترى طعامًا نَسَاءً، ورهن به درعًا لهُ. (2)
* * *
فجائز للرجل أن يرهن بما عليه، ويرتهن بمالَهُ من حقّ، في السفر والحضر- لصحة الخبر بما ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنّ معلومًا أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن - حين رَهن من ذكرنا - غير واجد كاتبًا ولا شهيدًا، لأنه لم يكن متعذرًا عليه بمدينته في وقت من الأوقات الكاتبُ والشاهدُ، غير أنهما إذا تبايعا برَهْن، فالواجب عليهما= إذا وجدا سبيلا إلى كاتب وشهيد، أو كان البيع
__________
(1) انظر ما سلف آنفًا: ص 53-55.
(2) الأثر: 6444- ذكره الطبري بغير إسناد. وقد رواه البخاري في صحيحه (الفتح 5: 100- 102) ومسلم في صحيحه 11: 39، 40 من طرق، عن عائشة أم المؤمنين. وسنن البيهقي 6: 36. يقال نسأت عنه دينه نساء: (بالمد وفتح النون) : أخرته. و"بعته بنسيئة"، أي: بأخرة.(6/98)
أو الدَّين إلى أجل مسمى (1) = أن يكتبا ذلك ويشهدَا على المال والرّهن. وإنما يجوز ترك الكتاب والإشهاد في ذلك، حيث لا يكون لهما إلى ذلك سبيلٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) }
قال أبو جعفر: وهذا خطابٌ من الله عز وجل للشهود الذين أمر المستدينَ وربَّ المال بإشهادهم، فقال لهم:"ولا يأب الشهداءُ إذا ما دعوا" - ولا تكتموا، أيها الشهود، بعد ما شهدتم شهادَتكم عند الحكام، كما شهدتم على ما شهدتم عليه، ولكن أجيبوا من شهدتم له إذا دعاكم لإقامة شهادتكم على خصمه على حقه عند الحاكم الذي يأخذُ له بحقه.
ثم أخبر الشاهدَ جل ثناؤه ما عليه في كتمان شهادته، وإبائه من أدائها والقيام بها عند حاجة المستشهد إلى قيامه بها عند حاكم أو ذي سلطان، فقال:"ومن يَكتمها". يعني: ومن يكتم شهادته ="فإنه آثم قَلبه"، يقول: فاجرٌ قلبه، مكتسبٌ بكتمانه إياها معصية الله، (2) كما:-
6445 - حدثني المثنى قال، أخبرنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تكتموا الشهادة ومن يكتمها فإنه آثمُ قلبه"، فلا يحل لأحد أن يكتم شهادةً هي عنده، وإن كانت على نفسه والوالدين، ومن يكتمها فقد ركب إثمًا عظيمًا.
6446 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي
__________
(1) في المطبوعة: "وكان البيع. . . " وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر تفسير"الإثم" فيما سلف من فهارس اللغة.(6/99)
قوله:"ومن يكتمها فإنه آثم قلبه"، يقول: فاجر قلبه.
6447 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: أكبر الكبائر الإشراك بالله، لأن الله يقول: (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) (1) [سورة المائدة: 72] ، وشهادة الزور، وكتمان الشهادة، لأن الله عز وجل يقول:"ومَنْ يكتمها فإنه آثمٌ قلبه".
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقول:"على الشاهد أن يشهد حيثما استُشهد، ويخبر بها حيثُ استُخبر".
6448 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن مسلم قال، أخبرنا عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إذا كانت عندك شهادة فسألك عنها فأخبره بها، ولا تقل:"أخْبِر بها عند الأمير"، أخبره بها، لعله يراجع أو يَرْعَوي.
* * *
وأما قوله:"والله بما تعملون عليمٌ"، فإنه يعني:"بما تعملون" في شهادتكم من إقامتها والقيام بها، أو كتمانكم إياها عند حاجة من استشهدكم إليها، وبغير ذلك من سرائر أعمالكم وعلانيتها ="عليمٌ"، يحصيه عليكم، ليجزيكم بذلك كله جزاءكم، إما خيرًا وإما شرًّا على قدر استحقاقكم.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "ومن يشرك بالله"، وليست هذه قراءتها، أخطأ الناسخ وسها.(6/100)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
القول في تأويل قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ}
(1)
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"لله ما في السموات وما في الأرض"، لله ملك كل ما في السموات وما في الأرض من صغير وكبير، وإليه تدبير جميعه، وبيده صرفه وتقليبه، لا يخفى عليه منه شيء، لأنه مدبره ومالكه ومصرّفه.
وإنما عنى بذلك جل ثناؤه كتمانَ الشهود الشهادةَ، يقول: لا تكتموا الشهادة أيها الشهود، ومن يكتمها يفجُرْ قلبه، ولن يخفى عليّ كتمانه ذلك، لأني بكل شيء عليم، وبيدي صَرْف كل شيء في السموات والأرض ومِلكه، أعلمُ خفيّ ذلك وَجليّه، (2) فاتقوا عقابي إياكم على كتمانكم الشهادة = وعيدًا من الله بذلك مَنْ كتمها، وتخويفًا منه له به. ثم أخبرهم عما هو فاعل بهم في آخرتهم وبمن كان من نظرَائهم ممن انطوى كشحًا على معصية فأضمرها، أو أظهر مُوبقة فأبداها من نفسه - من المحاسبة عليها فقال:"وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، يقول: وإن تظهروا فيما عندكم من الشهادة على حقّ ربّ المالِ الجحودَ والإنكار، أو تخفوا ذلك فتضمروه في أنفسكم، وغير ذلك من سيئ أعمالكم ="يحاسبكم به الله"، يعني
__________
(1) لم تثبت المخطوطة ولا المطبوعة قوله تعالى: "فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء" في هذا الموضع ولا في غيره إلى القول في تفسير تمام الآية، وأثبتها في مكانها.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "أعلمه خفي. . "، والسياق يقتضي ما أثبت. وفي المخطوطة: "وجليله"، ولا بأس بها، ولكن ما في المطبوعة أمثل بالسياق.(6/101)
بذلك: يحتسب به عليكم من أعمالكم، (1) فمجازٍ من شاء منكم من المسيئين بسوء عمله، (2) وغافرٌ لمن شاء منكم من المسيئين. (3)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما عنى بقوله:"وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله".
فقال بعضهم بما قلنا: من أنه عنى به الشهودَ في كتمانهم الشهادة، وأنه لاحق بهم كل من كان من نظرائهم ممن أضمر معصية أو أبداها.
ذكر من قال ذلك:
6449 - حدثني أبو زائدة زكريا بن يحيى بن أبي زائدة قال، حدثنا ابن فضيل، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يُحاسبكم به الله"، يقول: يعني في الشهادة. (4)
6450 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال: في الشهادة.
6451 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال: سئل داود عن قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فحدثنا عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يحسب به عليه من أعماله" بالضمير المفرد، والسياق يقتضي الجمع كما أثبته. ويقال: "احتسب عليه بالمال"، أي: عددته عليه وحاسبته به. و"احتسب" من"الحساب" مثل"اعتد" من"العد".
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "فيجازي من شاء. . " والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "وغافر منكم لمن شاء. . . "، وهو تقديم من عجلة الناسخ، والصواب ما أثبت.
(4) الأثر: 6449-"ابن فضيل"، هو محمد بن فضيل، وقد سلف مرارًا. وكان في المخطوطة والمطبوعة"أبو نفيل" وليس في الرواة من يقال له"أبو نفيل" يروي عن يزيد بن أبي زياد، والذي يروي عنه هو ابن فضيل.(6/102)
عكرمة قال: هي الشهادة إذا كتمتها.
6452 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو وأبي سعيد: أنه سمع عكرمة يقول في هذه الآية:"وإنْ تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال: في الشهادة.
6453 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن الشعبي في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" قال: في الشهادة.
6454 - حدثنا يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يزيد بن أبي زياد، عن مقسم، عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية،"وإنْ تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نزلت في كتمان الشهادة وإقامتها.
6455 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن عكرمة في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، يعني: كتمان الشهادة وإقامتها على وجهها.
* * *
وقال آخرون:"بل نزلت هذه الآية إعلامًا من الله تبارك وتعالى عبادَه أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وحدثتهم به أنفسهم مما لم يعملوه".
ثم اختلف متأوِّلو ذلك كذلك.
فقال بعضهم:"ثم نسخ الله ذلك بقوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) [سورة البقرة: 286] "
ذكر من قال ذلك:
6456 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن(6/103)
ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: لما نزلتْ:"لله ما في السموات وما في الأرض وإن تُبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، اشتد ذلك على القوم، فقالوا: يا رسول الله، إنا لمؤاخذون بما نحدّث به أنفسنا! هلكنا! فأنزل الله عز وجل: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) الآية إلى قوله: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ، قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال اللهُ: نعم = (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا) إلى آخر الآية = قال أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: نعم. (1)
6457 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا سفيان بن وكيع
__________
(1) الحديث: 6456- إسحاق بن سليمان الرازي العبدي: ثقة ثبت في الحديث، متعبد كبير، من خيار المسلمين. أخرج له الجماعة.
مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير: تكلم فيه الأئمة، فضعفه أحمد، وابن معين، وغيرهم. وأثنى عليه الزهري. وقال أبو حاتم: "صدوق كثير الغلط، ليس بالقوي، ويروي عنه إسحاق بن سليمان"، ولكن ترجمه البخاري في الكبير 4/1/353، فلم يذكر فيه جرحًا. والظاهر أن من ضعفه فإنما ذهب إلى كثرة غلطه، كما فعل أبو حاتم. وأيًا ما كان، فهو لم ينفرد بهذا الحديث، كما سيأتي في التخريج.
والحديث سيأتي بعضه: 6538، بهذا الإسناد.
ورواه أحمد في المسند: 9333 (2: 412 حلبي) ، عن عفان، عن عبد الرحمن بن إبراهيم القاص المدني، عن العلاء بن عبد الرحمن، به، مطولا عما هنا.
وعبد الرحمن بن إبراهيم - هذا - ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التعجيل، وابن أبي حاتم 2/2/211.
ورواه مسلم -مطولا أيضًا- 11: 46-47، وابن حبان في صحيحه: 139 (1: 225-226- من مخطوطة الإحسان) - كلاهما من طريق يزيد بن زريع، عن روح بن القاسم، عن العلاء، به.
ونقله ابن كثير 2: 79-80، عن رواية المسند.
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 154، من رواية مسلم.
وذكره السيوطي 1: 374، وزاد نسبته لأبي داود في ناسخه، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. ولم ينسبه لصحيح ابن حبان.(6/104)
قال: حدثنا أبي = قال، حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان مولى خالد بن خالد، قال: سمعت سعيد بن جبير يحدّث، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء"، دخل قلوبهم منها شيء لم يدخلها من شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"سمعنا وأطعنا وسلَّمنا. قال: فألقى الله عز وجل الإيمان في قلوبهم، قال: فأنزل الله عز وجل: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) = قال أبو كريب: فقرأ: (رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) = قال فقال: قد فعلت = (رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبِلْنَا) = قال: قد فعلت = (رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) = قال: قال: قد فعلت = (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) = قال: قد فعلت. (1)
6458 - حدثني أبو الردّاد المصري عبد الله بن عبد السلام قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، عن حيوة بن شريح قال، سمعت يزيد بن أبي حبيب يقول: قال ابن شهاب، حدثني سعيد ابن مرجانة قال: جئتُ عبد الله بن عمر فتلا هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاءُ ويعذب من يشاء". ثم قال ابن عمر: لئن آخذَنا بهذه الآية، لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سالت دُموعه. قال، ثم جئتُ عبدَ الله بن العباس فقلت: يا أبا عباس، إني جئت ابن عمر فتلا هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" الآية، ثم قال: لئن وَاخذنا بهذه الآية لنهلكنّ! ثم بكى حتى سالت دموعه! فقال ابن عباس: يغفر الله لعبد الله بن عمر! لقد فَرِق أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم منها كما فَرِق ابن عمر منها، فأنزل الله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، فنسخ الله الوَسوسة، وأثبت القول والفعلَ. (2)
6459- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد، عن ابن شهاب، عن سعيد بن مرجانة يحدث: أنه بينا هو جالس سمع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية،"لله ما في السموات وما في الأرض وَإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" الآية، فقال: والله لئن آخذنا الله بهذا لنهلِكنّ! ثم بكى ابن عمر حتى سُمع نَشيجه، فقال ابن مرجانة: فقمت حتى أتيت ابن عباس
__________
(1) الحديث: 6457- سفيان بن وكيع يرويه عن أبيه. وأبوه يرويه عن سفيان، وهو الثوري، ووقع في المطبوعة هنا حذف قوله"قال: حدثنا أبي". وهو خطأ. وسيأتي الإسناد على الصواب: 6537، حيث روى الطبري بعضه مختصرًا. بهذا الإسناد.
آدم بن سليمان القرشي، مولى خالد بن بن خالد بن عقبة بن أبي معيط: ثقة، وهو والد يحيى بن آدم صاحب كتاب الخراج.
والحديث رواه أحمد في المسند: 2070، عن وكيع، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه مسلم 1: 47، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وأبي كريب، وإسحاق بن إبراهيم - وهو ابن راهويه-: ثلاثتهم عن وكيع، به.
وفي التهذيب، في ترجمة آدم بن سليمان، أن مسلمًا أخرج له هذا الحديث الواحد متابعة؛ وليس كذلك، بل هو أصل لا متابعة، إذ لم يروه مسلم من طريق غيره.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 286، من طريق ابن راهويه، عن وكيع. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير 2: 81، عن رواية المسند. ثم أشار إلى رواية مسلم.
وأشار إليه الحافظ في الفتح 8: 154، من رواية مسلم.
وذكره السيوطي 1: 374، وزاد نسبته للترمذي، والنسائي، وابن المنذر، والبيهقي في الأسماء والصفات.
وسيأتي بعض معناه: 6464، عن سعيد بن جبير، مرسلا غير متصل، فيستفاد وصله من هذه الرواية.
(2) الحديث: 6458- أبو الرداد المصري، عبد الله بن عبد السلام - شيخ الطبري: ثقة ترجمة ابن أبي حاتم 2/2/107، وقال: "سمعنا منه بمصر، وهو صدوق".
أبو زرعة وهب الله بن راشد: هذه أول مرة يثبت فيها اسمه في المطبوعة على الصواب، فقد مضى في: 2377، 2891، 5386- وكان فيها كلها محرفًا في المطبوعة. وترجمنا له في أولهن.
سعيد ابن مرجانة: هو سعيد بن عبد الله، مولى قريش. ومرجانة - بفتح الميم وسكون الراء: أمه. قال الحافظ في التهذيب: "فعلى هذا فيكتب: ابن مرجانة - بالألف". وهو تابعي ثقة. ثبت سماعه من أبي هريرة، خلافًا لمن زعم غير ذلك، كما بينا في المسند: 7583.
والحديث سيأتي عقبه: 6459، من وجه آخر عن ابن شهاب. ونذكر تخريجه هناك.(6/105)
فذكرتُ لهُ ما تلا ابن عمر، وما فعل حين تلاها، فقال عبد الله بن عباس: يغفر الله لأبي عبد الرحمن! لعمري لقد وَجَد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وَجد عبد الله بن عمر، فأنزل اللهُ بعدها (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) إلى آخر السورة. قال ابن عباس: فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله عز وجل أنّ للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القوْل والفعل. (1)
6460 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، سمعتُ الزهري يقول في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال: قرأها ابن عمر فبكى وقال: إنا لمؤاخذون بما نحدِّث به أنفسنا! فبكى حتى سُمع نشيجه، فقام رجل من عنده فأتى ابن عباس فذكر ذلك له، فقال: رَحم الله ابن عُمر! لقد وَجَد المسلمون نحوًا مما وَجدَ، حتى نزلت: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) . (2)
6461 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن جعفر بن سليمان، عن حميد الأعرج، عن مجاهد قال: كنت عند ابن عمر فقال:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" الآية، فبكى. فدخلت على ابن عباس فذكرت له ذلك، فضحك ابن عباس فقال: يرحم الله ابن عمر!
__________
(1) الحديث: 6459- هو الحديث السابق، نحوه.
وقد ذكره ابن كثير 2: 81-82، عن هذا الموضع من الطبري.
وذكره الحافظ في الفتح 8: 154، مختصرًا، عن هذا الموضع أيضًا. قال: "أخرج الطبري، بإسناد صحيح عن الزهري. . . "- إلخ.
وذكره السيوطي 1: 374، ونسبه لعبد بن حميد، وأبي داود في ناسخه، وابن جرير، والطبراني، والبيهقي في الشعب.
وانظر الأحاديث الآتية: 6460-6464.
(2) الحديث: 6460- هذا حديث مرسل، لم يسمعه الزهري، من ابن عمر، ولا من ابن عباس. وهو مختصر من الحديثين قبله، ومن الحديث: 6462. فقد سمع الزهري القصة من سعيد ابن مرجانة، ومن سالم بن عبد الله بن عمر.(6/107)
أوَ ما يدري فيم أنزلت؟ إن هذه الآية حين أنزلت غَمَّت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غمًّا شديدًا وقالوا: يا رسول الله، هلكنا! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: قولوا:"سمعنا وأطعنا"، فنسختها: (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) إلى قوله: (وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) فَتُجُوِّز لهم منْ حديث النفس، وأخِذوا بالأعمال. (1)
6462 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن سالم: أن أباه قرأ:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فدمعت عينه، فبلغ صَنِيعه ابنَ عباس، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن! لقد صَنعَ كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلتْ، فنسختها الآية التي بعدها: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) . (2)
__________
(1) الحديث: 6461- جعفر بن سليمان: هو الضبعي، وقد مضى توثيقه في: 2905.
حميد الأعرج: هو حميد بن قيس المكي، قارئ أهل مكة. مضى توثيقه في: 3352.
والحديث رواه أحمد في المسند: 3071، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن حميد الأعرج، به.
فظهر من رواية الطبري هذه: أن عبد الرزاق سمعه من شيخين، من معمر، ومن جعفر بن سليمان - كلاهما حدثه به عن حميد الأعرج.
وقد ذكره ابن كثير 2: 81، عن رواية أحمد في المسند، وكذلك ذكره الحافظ في الفتح 8: 154، عن رواية أحمد.
وذكره السيوطي 1: 374، وزاد نسبته لعبد الرزاق، وابن المنذر.
وهو في معنى الأحاديث السابقة: 6458-6460.
وقوله: "كنت عند ابن عمر فقال: (وإن تبدوا ما في أنفسكم) . . . " - هكذا في المخطوطة والمطبوعة. ولعل صوابه: "فقرأ"، بدل"فقال". وهو الثابت في رواية المسند ومن نقل عنه.
وقوله في آخر الحديث: "فتجوز لهم من حديث النفس" - هكذا في المخطوطة والمطبوعة أيضًا. ولعل صوابه"عن حديث النفس"، كرواية المسند.
(2) الحديث: 6462- سفيان بن حسين الواسطي: مضى الكلام في روايته عن الزهري، وأن فيها تخاليط، في 3471. ولكن يظهر لي الآن أن في هذا غلوًا من ابن حبان. فإن البخاري ترجم له في الكبير 2/2/90، وأشار إلى رواية عن الزهري، فلم يذكر فيها قدحًا، ثم إن الأئمة صححوا هذا الحديث من روايته عن الزهري، كما سيجيء.
فالحديث رواه أبو جعفر بن النحاس في الناسخ والمنسوخ، ص: 86. والحاكم في المستدرك 2: 287 - كلاهما من طريق يزيد بن هارون، عن سفيان بن حسين، بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ثم قد ذكره ابن كثير 2: 82، عن هذا الموضع - بعد الروايات السابقة، ثم قال: "فهذه طرق صحيحة عن ابن عباس".
وقد رجحت توثيق سفيان بن حسين - وفي روايته عن الزهري - فيما كتبت تعليقًا على تهذيب السنن للمنذري، ج3 ص: 402، فأنسيته حين كتبت ما مضى في: 3471.
والحديث ذكره أيضًا السيوطي 1: 374، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.(6/108)
6463 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير قال: نسخت هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" - (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) . (1)
6464 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا سفيان، عن آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت هذه الآية:"إن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قالوا: أنؤاخذ بما حدِّثنا به أنفسنا، ولم تعمل به جوارحنا؟ قال: فنزلت هذه الآية: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا) ، قال: ويقول: قد فعلت. قال: فأعطيت هذه الأمة خواتيم"سورة البقرة"، لم تُعطها الأمم قبلها. (2)
__________
(1) الحديث: 6463- أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. وهو يروي عن سفيان الثوري. ويروي عنه محمد بن بشار.
وهذا الحديث مرسل، لأنه حكاية من سعيد بن جبير عن إخبار بنسخ الآية.
وقد سبقت رواية لسعيد بن جبير عن ابن عباس: 6457، لعلها تشير إلى هذا المعنى.
(2) الحديث: 6464- وهذا حديث مرسل أيضًا، من رواية سعيد بن جبير، ولكنه بعض معنى الحديث السابق: 6457، الذي رواه سعيد عن ابن عباس متصلا.
وسيأتي بعضه: 6539، بهذا الإسناد، مع تحريف في اسم الراوي عن سفيان، كما سنذكر هناك، إن شاء الله.(6/109)
6465 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح قال، حدثنا إسماعيل، عن عامر:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء"، قال: فنسختها الآية بعدها، قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) .
6466 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نسختها الآية التي بعدها: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) = وقوله:"وإن تُبدوا"، قال: يحاسب بما أبدَى من سرّ أو أخفى من سر، فنسختها التي بعدها.
6467- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا سيّار، عن الشعبي، قال: لما نزلت هذه الآية:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفرُ لمن يشاء ويعذب من يشاء"، قال: فكان فيها شدّة، حتى نزلت هذه الآية التي بعدها: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، قال: فنسخت ما كان قبلها.
6468 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون قال: ذكروا عند الشعبي:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" حتى بلغ (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، قال، فقال الشعبي: إلى هذا صار، رجَعتْ إلى آخر الآية.
6469 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، قال قال ابن مسعود: كانت المحاسبة قبل أن تنزل: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، فلما نزلت نسخت الآية التي كانت قبلها.
6470- حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ يقول، حدثنا عبيد(6/110)
قال، سمعت الضحاك يذكر، عن ابن مسعود نحوه.
6471- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن الشعبي قال: نسخت"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" = (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) .
6472 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن عبيدة، عن محمد بن كعب = وسفيان، عن جابر، عن مجاهد = وعن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد قالوا: نسخت هذه الآية (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) ،"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه"، الآية.
6473 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أ، عن إسرائيل، عن جابر، عن عكرمة وعامر بمثله.
6474 - حدثنا المثنى قال، حدثنا الحجاج قال: حدثنا حماد، عن حميد، عن الحسن في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه" إلى آخر الآية، قال: محتها: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) . (1)
6475 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أنه قال: نسخت هذه الآية = يعني قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) = الآية التي كانت قبلها:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله".
6476 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نسختها قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) .
6477 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن زيد قال: لما نزلت هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" إلى آخر
__________
(1) الأثر: 6474-"حماد" هو حماد بن سلمة، و"حميد" هو حميد الطويل. وكان في المطبوعة والمخطوطة"حماد بن حميد"، وليس في رواة الأثر من يعرف بهذا الاسم، وحجاج بن المنهال يروي عن حماد بن سلمة، وحماد يروي عن خاله حميد الطويل، وحميد الطويل يروي عن الحسن.(6/111)
الآية، اشتدّت على المسلمين، وشقَّتْ مشقةً شديدة، فقالوا: يا رسول الله، لو وَقع في أنفسنا شيء لم نعمل به وَأخذنا الله به؟ قال:"فلعلكم تقولون كما قال بنو إسرائيل:"سمعنا وعصينا"! قالوا: بل سمعنا وأطعنا يا رسول الله! قال: فنزل القرآن يفرِّجها عنهم:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله" إلى قوله: (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) ، قال: فصيَّره إلى الأعمال، وترك ما يقع في القلوب.
6478 - حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا هشيم، عن سيارٍ عن أبي الحكم، عن الشعبي، عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود في قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: نسخت هذه الآية التي بعدَها: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) .
6479 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وإن تبدُوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: يوم نزلت هذه الآية كانوا يؤاخذون بما وَسْوست به أنفسهم وما عملوا، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: إن عمل أحدُنا وإن لم يعملْ أخِذنا به؟ والله ما نملك الوَسوسة!! فنسخها الله بهذه الآية التي بعدُ بقوله: (1) (لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا) الآية، فكان حديث النفس مما لم تطيقوا. (2)
* * *
6480 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة أن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: نسختها قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) .
__________
(1) في المطبوعة: "التي بعدها بقوله"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "مما لم تطيقوا، الآية" أخر الناسخ"الآية"، فرددتها إلى مكانها قبل.(6/112)
وقال آخرون = ممن قال معنى ذلك:"الإعلام من الله عز وجل عبادَه أنه مؤاخذهم بما كسبته أيديهم وعملته جوارحهم، وبما حدثتهم به أنفسهم مما لم يعلموه"= (1) "هذه الآية محكمة غيرُ منسوخة، والله عز وجل محاسبٌ خلقَه على ما عملوا من عمل وعلى ما لم يعملوه مما أصرّوه في أنفسهم ونووه وأرادُوه، فيغفره للمؤمنين، ويؤاخذ به أهلَ الكفر والنفاق".
ذكر من قال ذلك:
6481 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس قوله:"وإن تُبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فإنها لم تنسخ، ولكن الله عز وجل إذا جَمع الخلائق يوم القيامة، يقول الله عز وجل:"إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم تطلع عليه ملائكتي"، فأما المؤمنون فيخبرهم ويغفر لهم ما حدَّثوا به أنفسهم، وهو قوله:"يحاسبكم به الله"، يقول: يخبركم. وأما أهل الشك والرَّيْب، فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، (2) وهو قوله: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) [سورة البقرة: 225] ، من الشكّ والنفاق.
6482 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، فذلك سِرُّ عملكم وعلانيته، يحاسبكم به الله، فليس من عبد
__________
(1) انظر ما سلف ص: 103 وما بعدها.
(2) في المخطوطة والمطبوعة بعد قوله: "من التكذيب" ما نصه: "وهو قوله: فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء". وهي زيادة بلا شك من الناسخ. فإلا تكن منه، فمكانها قبل ذلك بعد قوله"يحاسبكم به الله" وقبل قوله: "وأما أهل الشك والريب. . . "، ولكني آثرت إسقاطها، لأن السيوطي خرجه في الدر المنثور 1: 375 بغير ذكر هذه الزيادة في الموضعين.(6/113)
مؤمن يُسرّ في نفسه خيرًا ليعمل به، فإن عمل به كُتبت له به عشرُ حسنات، وإن هو لم يُقدَر له أن يعمل به كتبت له به حسنة، من أجل أنه مؤمن، والله يَرْضى سرّ المؤمنين وعلانيتهم. وإن كان سُوءًا حدَّث به نفسه، اطلع الله عليه وأخبره به يوم تُبلى السرائر، وإن هو لم يعمل به لم يؤاخذه الله به حتى يعمل به، فإن هو عمل به تجاوَز الله عنه، كما قال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ) [سورة الأحقاف: 16] .
6483 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله: (وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ) ، الآية، قال: قال ابن عباس: إن الله يقول يوم القيامة:"إن كُتّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلا ما ظَهر منها، فأما ما أسررتم في أنفسكم فأنا أحاسبكم به اليومَ، فأغفر لمن شئت وأعذّب من شئت".
6484 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا علي بن عاصم قال، أخبرنا بيان، عن بشر، عن قيس بن أبي حازم قال: إذا كان يوم القيامة قال الله عز وجل يُسمع الخلائق:"إنما كان كُتّابي يكتبون عليكم ما ظهر منكم، فإما ما أسررتم فلم يكونوا يكتبونه ولا يعلمونه، أنا اللهُ أعلم بذلك كله منكم، فأغفر لمن شئتُ، وأعذّب من شئت".
6485 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، كان ابن عباس يقول: إذا دعي الناس للحساب أخبرَهم الله بما كانوا يسرُّون في أنفسهم مما لم يعملوه فيقول:"إنه كان لا يعزُب عني شيء، وإني مخبركم بما كنتم تسرُّون من السُّوء، ولم تكن حفظتكم عليكم مطَّلعين عليه". فهذه المحاسبة.(6/114)
6486- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك، عن ابن عباس نحوه.
6487 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: هي محكمة، لم ينسخها شيء يقول:"يحاسبكم به الله"، يقول: يعرّفه الله يوم القيامة:"إنك أخفيتَ في صدرك كذا وكذا"! لا يؤاخذه.
6488 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن عمرو بن عبيد، عن الحسن قال: هي محكمة لم تنسخ.
6489 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، قال، حدثنا ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: من الشك واليقين.
6490 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، يقول: في الشك واليقين. (1)
6491 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل هذه الآية على قول ابن عباس الذي رواه على بن أبي طلحة: (2) وإن تبدوا ما في أنفسكم من شيء من الأعمال فتظهروه بأبدانكم وجوارحكم، أو تخفوه فتسروه في أنفسكم، فلم يطلع عليه أحد من خلقي، أحاسبكم به، فأغفر كل ذلك لأهل الإيمان، وأعذِّب أهلَ الشرك والنفاق في ديني.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "في اليقين والشك"، قدم وأخر، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) هو رقم: 6481.(6/115)
وأما على الرواية التي رواها عنه الضحاك من رواية عبيد بن سليمان عنه، (1) وعلى ما قاله الربيع بن أنس، (2) فإن تأويلها: إنْ تظهروا ما في أنفسكم فتعملوه من المعاصي، أو تضمروا إرادته في أنفسكم فتخفوه، يُعْلمكم به الله يوم القيامة، فيغفر لمن يشاء، ويعذّب من يشاء.
* * *
وأما قول مجاهد، (3) فشبيهٌ معناه بمعنى قول ابن عباس الذي رواه علي بن أبي طلحة.
* * *
وقال آخرون = ممن قال:"هذه الآية محكمة، وهي غير منسوخة"، ووافقوا الذين قالوا:"معنى ذلك: أن الله عز وجل أعلم عبادَه ما هو فاعل بهم فيما أبدَوْا وأخفوا من أعمالهم" = معناها: إن الله محاسبٌ جميعَ خلقه بجميع ما أبدَوْا من سيئ أعمالهم، وجميع ما أسروه، وُمعاقبهم عليه. غيرَ أن عقوبته إياهم على ما أخفوه مما لم يعملوه، ما يحدث لهم في الدنيا من المصائب والأمور التي يحزَنون عليها ويألمون منها.
ذكر من قال ذلك:
6492 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، الآية، قال: كانت عائشة رضي الله عنها تقول: من همّ بسيئة فلم يعملها، أرسل الله عليه من الهم والحزَن مثل الذي همّ به من السيئة فلم يعملها، فكانت كفّارته.
6493 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد قال،
__________
(1) هي رقم: 6486.
(2) هو رقم: 6487.
(3) هو رقم: 6489 وما بعده.(6/116)
سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله"، قال: كانت عائشة تقول: كل عبد يهمّ بمعصية، أو يحدّث بها نفسه، حاسبه الله بها في الدنيا، يخافُ ويحزن ويهتم.
6494 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو تميلة، عن عبيد، عن الضحاك قال: قالت عائشة في ذلك: كل عبد همّ بسوء ومعصية، وحدّث نفسه به، حاسبه الله في الدنيا، يخاف ويحزَن ويشتدّ همّه، لا يناله من ذلك شيء، كما همّ بالسوء ولم يعمل منه شيئًا.
6495 - حدثنا الربيع قال، حدثنا أسد بن موسى قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن أميّة أنها سألت عائشة عن هذه الآية:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله" و (مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ) [سورة النساء: 123] فقالت: ما سألني عنها أحد مذْ سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا عائشة، هذه متابعة الله العبدَ بما يصيبه من الحمَّى والنكبة والشَّوكة، حتى البضاعة يضعها في كمِّه فيفقدها، فيفزع لها فيجدُها في ضِبْنه، حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما يخرُج التبر الأحمر من الكير. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 6495 - علي بن زيد: هو ابن جدعان.
أمية: هي بنت عبد الله، وهي تابعية لم ترو عن عائشة غير هذا الحديث. وعلي بن زيد، هو بن زوجها. وقد مضى البيان عن ترجمتها في: 4897.
ووقع في المطبوعة هنا: "عن أمه". وهو خطأ. وقع مثل ذلك في بعض نسخ الترمذي. ولو صحت هذه النسخ لم يكن بذلك بأس، إذ لا يبعد أن يسميها ربيبها"أمه".
والحديث رواه الطيالسي: 1584، عن حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن"أمية بنت عبد الله".
ورواه أحمد في المسند 6: 218 (حلبي) ، عن بهز، عن حماد - وهو ابن سلمة، وفيه: "عن أمية".
ورواه الترمذي 4: 78-79، من طريق روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة، به. وفيه: "عن أمية"، قال الترمذي: "هذا حديث حسن غريب من حديث عائشة، لا نعرفه إلا من حديث حماد ابن سلمة".
ورواه ابن أبي حاتم - فيما نقله عنه ابن كثير 2: 85- من طريق سليمان بن حرب، عن حماد ابن سلمة. وفيه"عن أبيه" بدل"عن أمية"؛ وهو تحريف مطبعي.
وقال ابن كثير: "علي بن زيد بن جدعان: ضعيف يغرب في رواياته. وهو يروي هذا الحديث عن امرأة أبيه: أم محمد أمية بنت عبد الله عن عائشة، وليس لها عنها في الكتب سواه".
أقول: وعلي بن زيد ليس بضعيف، كما قلنا في: 4897، وكما رجحنا في شرح المسند: 783.
وذكره السيوطي 1: 375، وزاد نسبته لابن المنذر، والبيهقي في الشعب.
قول"هذه متابعة الله العبد" - يعني ما يصيب الإنسان ما يؤلمه، يتابعه الله به ليكفر عنه من سيئاته. وهذا هو الثابت في الطبري والمسند. والذي في الطيالسي والترمذي والدر المنثور: "معاتبة الله" ومعناه قريب من هذا. وفي ابن كثير: "مبايعة". وهو تحريف.
النكبة - بفتح النون: أن ينكبه الحجر إذا أصاب ظفره أو إصبعه. ومنه قيل لما يصيب الإنسان: نكبة.
البضاعة: اليسير من المال تبعثه في التجارة، ثم سميت السلعة: بضاعة.
الضبن - بكسر فسكون: ما بين الإبط والكشح.
التبر: فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغ، فإذا صيغ فهو ذهب أو فضة.
الكير- بكسر الكاف، كير الحداد: وهو زق أو جلد غليظ ذو حافات، ينفخ النار حتى تتوهج.(6/117)
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرناها بتأويل الآية قول من قال:"إنها محكمة، وليست بمنسوخة". وذلك أن النسخ لا يكون في حكم إلا بنفيه بآخر، هو له ناف من كل وجوهه. (1) وليس في قوله جل وعز:"لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، نفى الحكم الذي أعلم عبادَه بقوله:"أو تخفوه يحاسبكم به الله". لأن المحاسبة ليست بموجبة عقوبةً، ولا مؤاخذةً بما حوسب عليه العبد من ذنوبه.
وقد أخبر الله عز وجل عن المجرمين أنهم حين تعرض عليهم كتب أعمالهم يوم القيامة يقولون: (يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً
__________
(1) في المطبوعة: "إلا ينفيه"، بالياء في أوله، وهو في المخطوطة غير منقوط. وفيهما معًا"بآخر له ناف"، والصواب زيادة"هو" كما أثبت. وبذلك يستقيم الكلام.
وانظر ما قال في"النسخ" فيما سلف ص: 54، والتعليق: 1.(6/118)
إِلا أَحْصَاهَا) [سورة الكهف: 49] . فأخبر أن كتبهم محصيةٌ عليهم صغائرَ أعمالهم وكبائرَها، فلم تكن الكتب - وإن أحصت صغائرَ الذنوب وكبائرَها - بموجبِ إحصاؤها على أهل الإيمان بالله ورسوله، وأهل الطاعة له، أن يكونوا بكل ما أحصته الكتب من الذنوب معاقبين. لأن الله عز وجل وَعدهم العفوَ عن الصغائر، باجتنابهم الكبائر فقال في تنزيله: (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلا كَرِيمًا) [سورة النساء: 31] . فذلك محاسبة الله عبادَه المؤمنين بما هو محاسبهم به من الأمور التي أخفتها أنفسهم، غيرَ موجبٍ لهم منه عقوبة، (1) بل محاسبته إياهم - إن شاء الله - عليها، ليعرّفهم تفضُّله عليهم بعفوه لهم عنها، كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي:-
6496 - حدثني به أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي، عن قتادة، عن صَفوان بن مُحْرز، عن ابن عمر، عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: يُدْني الله عبدَه المؤمن يوم القيامة حتى يضع عليه كَنَفه، فيقرِّره بسيئاته يقول: هل تعرف؟ فيقول: نعم! فيقول: سترتها في الدنيا وأغفرها اليوم! ثم يظهر له حسناته فيقول: (هَاؤُمُ اقْرَأُوا كِتَابِيَهْ) [سورة الحاقة: 19] أو كما قال = وأما الكافر فإنه ينادي به على رؤوس الأشهاد. (2)
6497 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، وهشام = وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا هشام = قالا جميعا في حديثهما عن
__________
(1) في المطبوعة: "فدل أن محاسبة الله. . . "، وأثبت ما في المخطوطة. وفي المطبوعة والمخطوطة بعد: "غير موجبة لهم منه عقوبة"، والسياق يقتضي: "غير موجب. . " كما أثبتها.
(2) الحديث: 6496- صفوان بن محرز المازني: تابعي ثقة جليل، له فضل وورع. والحديث مختصر من الذي بعده. وسنذكر تخريجه فيه، إن شاء الله.(6/119)
قتادة، عن صفوان بن محرز قال: بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف، إذ عرض له رجل فقال: يا ابن عمر، أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يدنو المؤمن من ربه حتى يضع عليه كنفه، فيقرره بذنوبه فيقول:"هل تعرف كذا"؟ فيقول:"رب اغفر" - مرتين - حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ قال:"فإني قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم". قال: فيعطى صحيفة حسناته - أو: كتابه - بيمينه، وأما الكفار والمنافقون فينادي بهم على رؤوس الأشهاد: (هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) . (1) [سورة هود: 18] .
* * *
__________
(1) الحديث: 6497- سعيد: هو ابن أبي عروبة، الثقة المأمون الحافظ. وهشام: هو ابن أبي عبد الله الدستوائي.
ووقع في المطبوعة: "حدثنا ابن أبي عدي، وسعيد، وهشام"، وهو تحريف.
وصوابه: "عن سعيد"، لأن ابن أبي عدي - وهو محمد بن إبراهيم - إنما يروي عن ابن أبي عروبة وعن هشام الدستوائي. فهو ليس من طبقتهما. ثم هو لم يدرك أن يروي عن قتادة. وكذلك ابن بشار - وهو محمد بن بشار. شيخ الطبري - إنما يروي عن ابن أبي عدي وطبقته، لم يدرك أن يروي عن ابن أبي عروبة والدستوائي.
وأيضًا، فإن قوله في الإسناد - بعد تحويله إلى ابن علية عن هشام-"قالا جميعا في حديثهما عن قتادة"، يرجع ضمير المثنى فيه إلى سعيد وهشام، دون ابن أبي عدي. إذ لو كان معهما لكان القول أن يقول: "قالوا جميعا".
ثم قد ثبت أنه"عن سعيد" في نقل ابن كثير هذا الحديث عن هذا الموضع 2: 84، وإن وقع فيه خطأ مطبعي آخر، إذ فيه: "عن سعيد بن هشام" بدل"وهشام". وفيه بعد ابن علية"حدثنا ابن هشام" بزيادة"ابن" زيادة هي غلط غير مستساغ.
ثم الحديث سيأتي في تفسر الطبري 12: 14 (بولاق) ، بهذا الإسناد، على الصواب. ولكنه جعله هناك إسنادين: فصل إسناد ابن علية عن إسناد ابن أبي عدي.
والحديث رواه أحمد في المسند: 5436، عن بهز وعفان، كلاهما عن همام - وهو ابن يحيى- عن قتادة، بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا: 5825، عن عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، وهو ابن أبي عروبة، عن قتادة، به.
ورواه البخاري 5: 70 (فتح) ، ومسلم 2: 329 - كلاهما من طريق هشام الدستوائي، عن قتادة، به.
ورواه البخاري أيضًا 8: 266-267، من طريق سعيد بن أبي عروبة وهشام الدستوائي، عن قتادة.
ورواه أيضًا: 10: 406-407، و 13: 397-398، من طريق أبي عوانة، عن قتادة
ورواه أبو جعفر بن النحاس، في كتاب الناسخ والمنسوخ، ص: 86-87، من طريق ابن علية، عن هشام. وقال: "وإسناده إسناد لا يدخل القلب منه لبس. وهو من أحاديث أهل السنة والجماعة".
وذكره ابن كثير 2: 84-85، كما قلنا من قبل، عن هذا الموضع من الطبري.
وذكره أيضًا 4: 353، عن رواية المسند الأولى.
وذكره السيوطي 3: 325. وزاد نسبته لابن المبارك، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في الأسماء والصفات.
ونسبه القسطلاني 4: 206، للنسائي في التفسير والرقائق، وابن ماجه في السنة.
ووقع في المخطوطة - هنا -"وأما الكفار أو المنافقين"، وهو خطأ واضح.(6/120)
= أن الله يفعل بعبده المؤمن: (1) من تعريفه إياه سيئات أعماله، حتى يعرفه تفضله عليه بعفوه له عنها. فكذلك فعله تعالى ذكره في محاسبته إياه بما أبداه من نفسه وبما أخفاه من ذلك، ثم يغفر له كل ذلك بعد تعريفه تفضله وتكرمه عليه، فيستره عليه. وذلك هو المغفرة التي وعد الله عباده المؤمنين فقال:"فيغفر لمن يشاء". (2)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإن قوله:"لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، ينبئ عن أن جميع الخلق غير مؤاخذين إلا بما كسبته أنفسهم من ذنب، ولا مثابين إلا بما كسبته من خير؟
قيل: إن ذلك كذلك، وغير مؤاخذ العبد بشيء من ذلك إلا بفعل ما نهي عن فعله، أو ترك ما أمر بفعله.
فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فما معنى وعيد الله عز وجل إيانا على ما أخفته أنفسنا بقوله:"ويعذب من يشاء"، إن كان لها ما كسبت وعليها
__________
(1) سياق هذه الجملة من قبل الخبرين السالفين: "كما بلغنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. . . أن الله يفعل بعبده المؤمن. . . "، فجملة"أن الله يفعل"، هي فاعل قوله: "بلغنا".
(2) في المطبوعة: "يغفر لمن يشاء" بغير فاء، وأثبت نص الآية كما في المخطوطة.(6/121)
ما اكتسبت، وما أضمرته قلوبنا وأخفته أنفسنا -: من هم بذنب، أو إرادة لمعصية - لم تكتسبه جوارحنا؟
قيل له: إن الله جل ثناؤه قد وعد المؤمنين أن يعفو لهم عما هو أعظم مما هم به أحدهم من المعاصي فلم يفعله، وهو ما ذكرنا من وعده إياهم العفو عن صغائر ذنوبهم إذا هم اجتنبوا كبائرها، وإنما الوعيد من الله عز وجل بقوله:"ويعذب من يشاء"، سعلى ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله، والمرية في وحدانيته، أو في نبوة نبيه صلى الله عليه وسلم وما جاء به من عند الله، أو في المعاد والبعث - من المنافقين، (1) على نحو ما قال ابن عباس ومجاهد، ومن قال بمثل قولهما، إن تأويل قوله:"أو تخفوه يحاسبكم به الله"، على الشك واليقين.
غير أنا نقول إن المتوعد بقوله:"ويعذب من يشاء"، هو من كان إخفاء نفسه ما تخفيه الشك والمرية في الله، (2) وفيما يكون الشك فيه بالله كفرا = والموعود الغفران بقوله: (3) "فيغفر لمن يشاء" هو الذي إخفاء ما يخفيه، (4) الهمة بالتقدم على بعض ما نهاه الله عنه من الأمور التي كان جائزا ابتداءً تحليلُه وإباحته، فحرمه على خلقه جل ثناؤه = (5) أو على ترك بعض ما أمر الله بفعله، مما كان جائزا ابتداءً إباحة تركه، فأوجب فعله على خلقه. فإن الذي يهم بذلك من المؤمنين - إذا هو لم يصحح همه بما يهم به، ويحقق ما أخفته نفسه من ذلك
__________
(1) سياق الجملة: "على ما أخفته نفوس الذين كانت أنفسهم تخفي الشك في الله. . من المنافقين"، وما بينهما صفات فاصلة.
(2) قوله: "الشك والمرية. . . " خبر"كان".
(3) قوله: "الموعود" منصوب معطوف على قوله"إن المتوعد. . . "، وقوله: "الغفران" منصوب باسم المفعول وهو"الموعود"، أي الذي وعد الغفران.
(4) في المطبوعة: "هو الذي أخفى وما يخفيه الهمة بالتقدم. . . " وفي المخطوطة: "هو الذي إحفا وما يخفيه +الهمه" غير منقوطة بهذا الرسم: وصواب قراءة المخطوطة هو ما أثبت.
(5) قوله: "أو على ترك. . . " معطوف على قوله آنفًا: "بالتقدم على بعض ما نهاه. . . "(6/122)
بالتقدم عليه - لم يكن مأخوذا به، كما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
6498 -"من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم تكتب عليه". (1)
* * *
فهذا الذي وصفنا هو الذي يحاسب الله به مؤمني عباده، ثم لا يعاقبهم عليه. فأما من كان ما أخفته نفسه شكا في الله وارتيابا في نبوة أنبيائه، فذلك هو الهالك المخلد في النار الذي أوعده جل ثناؤه العذاب الأليم بقوله:"ويعذب من يشاء".
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا:"وإن تبدوا ما في أنفسكم"، أيها الناس، فتظهروه ="أو تخفوه"، فتنطوي عليه نفوسكم ="يحاسبكم به الله"، فيعرف مؤمنكم تفضله بعفوه عنه ومغفرته له فيغفره له، ويعذب منافقكم على الشك الذي انطوت عليه نفسه في وحدانية خالقه ونبوة أنبيائه. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله عز وجل = على العفو عما أخفته نفس هذا المؤمن من الهمة بالخطيئة، وعلى عقاب هذا الكافر على ما أخفته نفسه من الشك في توحيد الله عز وجل ونبوة أنبيائه، ومجازاة كل واحد منهما على كل ما كان منه، وعلى غير ذلك من الأمور = قادر.
* * *
__________
(1) الأثر: 6498- لم يذكر الطبري إسناده، وأحاديث تجاوز الله عن حديث النفس في مسلم 2: 146- 152 بغير هذا اللفظ، ثم سائر كتب السنة.
(2) في المخطوطة: "فيعرف مؤمنيكم. . . ويعذب منافقيكم" بالجمع، والذي في المطبوعة أصح وأجود.(6/123)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)
القول في تأويل قوله تعالى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: صدق الرسول = يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقر ="بما أنزل إليه"، يعني: بما أوحي إليه من ربه من الكتاب، وما فيه من حلال وحرام، ووعد وعيد، وأمر ونهي، وغير ذلك من سائر ما فيه من المعاني التي حواها.
* * *
وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية عليه قال: يحق له.
6499 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه"، ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما نزلت هذه الآية قال: ويحق له أن يؤمن. (1)
* * *
وقد قيل: إنها نزلت بعد قوله:"وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله على كل شيء قدير"، لأن المؤمنين برسول الله من أصحابه شق عليهم ما توعدهم الله به من محاسبتهم على ما أخفته نفوسهم، فشكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: لعلكم تقولون:"سمعنا وعصينا" كما قالت بنو إسرائيل! فقالوا:
__________
(1) الأثر: 6499- أخرج الحاكم في المستدرك 2: 287 من طريق خلاد بن يحيى، عن أبي عقيل، عن يحيى بن أبي كثير، عن أنس قال: "لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم: "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه" قال النبي صلى الله عليه وسلم: وأحق له أن يؤمن". ثم قال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه" واستدرك عليه الذهبي فقال: "منقطع".(6/124)
بل نقول:"سمعنا وأطعنا"! فأنزل الله لذلك من قول النبي صلى الله عليه وسلم وقول أصحابه:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله"، يقول: وصدق المؤمنون أيضا مع نبيهم بالله وملائكته وكتبه ورسله، الآيتين. وقد ذكرنا قائلي ذلك قبل. (1)
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة قوله:"وكتبه".
فقرأ ذلك عامة قرأة المدينة وبعض قرأة أهل العراق (وكتبه) على وجه جمع"الكتاب"، على معنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وجميع كتبه التي أنزلها على أنبيائه ورسله.
* * *
وقرأ ذلك جماعة من قرأة أهل الكوفة: (وكتابه) ، بمعنى: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وبالقرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقد روي عن ابن عباس أنه كان يقرأ ذلك:"وكتابه"، ويقول: الكتاب أكثر من الكتب. وكأن ابن عباس يوجه تأويل ذلك إلى نحو قوله: (وَالْعَصْرِ إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) [سورة العصر: 1-2] ، بمعنى جنس"الناس" وجنس"الكتاب"، كما يقال:"ما أكثر درهم فلان وديناره"، ويراد به جنس الدراهم والدنانير. (2) وذلك، وإن كان مذهبا من المذاهب معروفا، فإن الذي هو أعجب إلي من القراءة في ذلك أن يقرأ بلفظ الجمع. لأن الذي قبله جمع، والذي بعده كذلك - أعني بذلك:"وملائكته وكتبه ورسله" - فإلحاق"الكتب" في الجمع لفظا به، أعجب إلي من توحيده وإخراجه في اللفظ به بلفظ الواحد، ليكون لاحقا في اللفظ والمعنى بلفظ ما قبله وما بعده، وبمعناه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف رقم: 6477.
(2) انظر ما سلف 4: 263.(6/125)
القول في تأويل قوله تعالى: {لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ}
قال أبو جعفر: وأما قوله:"لا نفرق بين أحد من رسله"، فإنه أخبر جل ثناؤه بذلك عن المؤمنين أنهم يقولون ذلك. ففي الكلام في قراءة من قرأ:"لا نفرق بين أحد من رسله" بالنون، متروك، قد استغني بدلالة ما ذكر عنه. وذلك المتروك هو"يقولون". وتأويل الكلام: والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، يقولون: لا نفرق بين أحد من رسله. وترك ذكر"يقولون" لدلالة الكلام عليه، كما ترك ذكره في قوله: (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ) [سورة الرعد: 23-24] ، بمعنى: يقولون: سلام.
* * *
وقد قرأ ذلك جماعة من المتقدمين: (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) ب"الياء"، بمعنى: والمؤمنون كلهم آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا يفرق الكل منهم بين أحد من رسله، فيؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولكنهم يصدقون بجميعهم، ويقرون أن ما جاءوا به كان من عند الله، وأنهم دعوا إلى الله وإلى طاعته، ويخالفون في فعلهم ذلك اليهود الذين أقروا بموسى وكذبوا عيسى، والنصارى الذين أقروا بموسى وعيسى وكذبوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وجحدوا نبوته، ومن أشبههم من الأمم الذين كذبوا بعض رسل الله، وأقروا ببعضه، كما:-
6500 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"لا نفرق بين أحد من رسله"، كما صنع القوم - يعني بني إسرائيل - قالوا: فلان نبي، وفلان ليس نبيا، وفلان نؤمن به، وفلان لا نؤمن به.
* * *
قال أبو جعفر: والقراءة التي لا نستجيز غيرها في ذلك عندنا بالنون:(6/126)
"لا نفرق بين أحد من رسله"، لأنها القراءة التي قامت حجتها بالنقل المستفيض، (1) الذي يمتنع معه التشاعر والتواطؤ والسهو والغلط= (2) بمعنى ما وصفنا من: يقولون لا نفرق بين أحد من رسله= (3) ولا يعترض بشاذ من القراءة، على ما جاءت به الحجة نقلا ووراثة. (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وقال الكل من المؤمنين:"سمعنا" قول ربنا وأمره إيانا بما أمرنا به، ونهيه عما نهانا عنه ="وأطعنا"، يعني: أطعنا ربنا فيما ألزمنا من فرائضه، واستعبدنا به من طاعته، وسلمنا له = وقوله:"غفرانك ربنا"، يعني: وقالوا:"غفرانك ربنا"، بمعنى: اغفر لنا ربنا غفرانك، كما يقال:"سبحانك"، بمعنى: نسبحك سبحانك.
* * *
وقد بينا فيما مضى أن"الغفران" و"المغفرة"، الستر من الله على ذنوب من
__________
(1) في المطبوعة: "التي قامت حجة. . . "، وفي المخطوطة: "التي قامت حجته"، وصواب قراءتها ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "التشاغر" بغين معجمة، وهو خطأ غث. والصواب من المخطوطة. و"تشاعروا الأمر، أو على الأمر"، أي تعالموه بينهم. من قولهم: "شعر" أي"علم". وهي كلمة قلما تجدها في كتب اللغة، ولكنها دائرة في كتب الطبري ومن في طبقته من القدماء. وانظر الرسالة العثمانية للجاحظ: 3، وتعلق: 5، ثم ص: 263، وصواب شرحها ما قلت. وانظر ما سيأتي ص: 155، تعليق 1.
(3) في المطبوعة: "يعني ما وصفنا"، والصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "نقلا ورواية"، وفي المخطوطة"نقلا وراثة"، وهي الصواب، وآثرت زيادة الواو قبلها، فإني أرجح أنها كانت كذلك. وقد أكثر الطبري استعمال"وراثة" و"موروثة" فيما سلف، من ذلك فيما مضى في 4: 33". . . بالحجة القاطعة العذر، نقلا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة. . . " / ثم في 5: 238"لخلافها القراءة المستفيضة الموروثة. . . ". وانظر ما سيأتي ص: 155، تعليق: 1.(6/127)
غفر له، وصفحة له عن هتك ستره بها في الدنيا والآخرة، وعفوه عن العقوبة - عليه. (1)
* * *
وأما قوله:"وإليك" المصير"، فإنه يعني جل ثناؤه أنهم قالوا: وإليك يا ربنا مرجعنا ومعادنا، فاغفر لنا ذنوبنا. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فما الذي نصب قوله:"غفرانك"؟
قيل له: وقوعه وهو مصدر موقع الأمر. وكذلك تفعل العرب بالمصادر والأسماء إذا حلت محل الأمر، وأدت عن معنى الأمر نصبتها، فيقولون: "شكرا لله يا فلان"، و"حمدا له"، بمعنى: اشكر الله واحمده."والصلاة، الصلاة". بمعنى: صلوا. ويقولون في الأسماء:"الله الله يا قوم"، ولو رفع بمعنى: هو الله، أو: هذا الله - ووجه إلى الخبر وفيه تأويل الأمر، كان جائزا، كما قال الشاعر: (3)
إن قوما منهم عمير وأشبا ... هـ عمير ومنهم السفاح (4) لجديرون بالوفاء إذا قا ... ل أخو النجدة: السلاح السلاح! !
ولو كان قوله:"غفرانك ربنا" جاء رفعا في القراءة، لم يكن خطأ، بل كان صوابا على ما وصفنا. (5)
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثناء من
__________
(1) انظر ما سلف 2: 109، 110.
(2) انظر ما سلف في تفسير"المصير" 3: 56.
(3) لم أعرف قائله.
(4) معاني القرآن للفراء 1: 188، وشواهد العيني (بهامش الخزانة) 4: 306. ولم أستطع تعييني"عمير" و"السفاح"، فهما كثير.
(5) أكثر هذا من معاني القرآن للفراء 1: 188.(6/128)
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
الله عليه وعلى أمته، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل قد أحسن عليك وعلى أمتك الثناء، فسل ربك.
6501 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن بيان، عن حكيم بن جابر قال: لما أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، قال جبريل: إن الله عز وجل قد أحسن الثناء عليك، وعلى أمتك، فسل تعطه! فسأل:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" إلى آخر السورة. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: لا يكلف الله نفسا فيتعبدها إلا بما يسعها، (2) فلا يضيق عليها ولا يجهدها.
* * *
__________
(1) الحديث: 6501- بيان: هو ابن بشر الأحمسي، مضت ترجمته في: 259. "حكيم بن جابر بن طارق بن عوف الأحمسي": تابعي كبير ثقة، أرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم. روى عن أبيه، وعمر، وابن مسعود، وطلحة، وعبادة بن الصامت. وروى عنه إسماعيل ابن أبي خالد، و"بيان". ثقة. مات في آخر إمارة الحجاج. وقيل سنة 82، وقيل سنة 95. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/12. وصرح بأنه سمع عمر.
فهذا الحديث مرسل.
وذكره السيوطي 1: 376، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وابن أبي حاتم.
ونقله ابن كثير 2: 89، عن هذا الموضع من الطبري. ولكن وقع فيه تحريف في الإسناد، من ناسخ أو طابع - هكذا: "عن سنان، عن حكيم، عن جابر"؛ فصار الإسناد موهما أنه حديث متصل من رواية جابر بن عبد الله الصحابي. فيصحح من هذا الموضع.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها فيتعبدها إلا بما يسعها" وبين أن الناسخ عجل فزاد"إلا وسعها"، والسياق يقتضي تركها هنا، فتركتها.(6/129)
وقد بينا فيما مضى قبل أن"الوسع" اسم من قول القائل:"وسعني هذا الأمر"، مثل"الجهد" و"الوجد" من:"جهدني هذا الأمر" و"وجدت منه"، (1) كما:-
6502 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاومة، عن علي، عن ابن عباس قوله:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها" قال: هم المؤمنون، وسع الله عليهم أمر دينهم، فقال الله جل ثناؤه: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) [سورة الحج: 78] ، وقال: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [سورة البقرة: 185] ، وقال: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) (2) [سورة التغابن: 16] .
6503 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس قال: لما نزلت، ضج المؤمنون منها ضجة وقالوا: يا رسول الله، هذا نتوب من عمل اليد والرجل واللسان! (3) كيف نتوب من الوسوسة؟ كيف نمتنع منها؟ فجاء جبريل صلى الله عليه وسلم بهذه الآية،"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، إنكم لا تستطيعون أن تمتنعوا من الوسوسة.
6504 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، وسعها، طاقتها. وكان حديث النفس مما لم يطيقوا. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 5: 45.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "اتقوا الله. . " وأثبت نص القراءة.
(3) قوله: "هذا نتوب. . . "، تعبير فصيح يكون مع التعجب، وقد جاء في الشعر، ولكن سقط عني موضعه الآن فلم أجده.
(4) في المطبوعة: "مما لا يطيقون"، وأثبت ما في المخطوطة.(6/130)
القول في تأويل قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"لها" للنفس التي أخبر أنه لا يكلفها إلا وسعها. يقول: لكل نفس ما اجترحت وعملت من خير ="وعليها"، يعني: وعلى كل نفس ="ما اكتسبت"، ما عملت من شر، (1) كما:-
6505 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت"، أي: من خير ="وعليها ما اكتسبت"، أي: من شر - أو قال: من سوء.
6506 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط. عن السدي."لها ما كسبت"، يقول: ما عملت من خير ="وعليها ما اكتسبت"، يقول: وعليها ما عملت من شر.
6507 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتاده، مثله.
6508 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن الزهري، عن عبد الله بن عباس:"لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت"، عمل اليد والرجل واللسان.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: لا يكلف الله نفسا إلا ما يسعها فلا يجهدها، ولا يضيق عليها في أمر دينها، فيؤاخذها بهمة إن همت، ولا بوسوسة إن عرضت لها، ولا بخطرة إن خطرت بقلبها.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الكسب" و"الاكتساب" فيما سلف 2: 273، 274 / ثم 3: 100، 101، 128، 129 / ثم 4: 449.(6/131)
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}
قال أبو جعفر: وهذا تعليم من الله عز وجل عباده المؤمنين دعاءه كيف يدعونه، وما يقولونه في دعائهم إياه. ومعناه: قولوا:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا" شيئا فرضت علينا عمله فلم نعمله=،"أو أخطأنا" في فعل شيء نهيتنا عن فعله ففعلناه، على غير قصد منا إلى معصيتك، ولكن على جهالة منا به وخطأ، كما:-
6509 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، إن نسينا شيئا مما افترضته علينا، أو أخطأنا، [فأصبنا] شيئا مما حرمته علينا. (1)
6510 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن الله عز وجل تجاوز لهذه الأمة عن نسيانها وما حدثت به أنفسها. (2)
6511 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال، زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال له جبريل صلى الله عليه وسلم: فقل ذلك يا محمد.
* * *
__________
(1) الزيادة بين القوسين، توشك أن تكون زيادة لا يستقيم بغيرها الكلام.
(2) الأثر: 6510 - أخرجه مسلم في صحيحه (2: 146، 147) من طرق، عن قتادة، عن زرارة بن أوفى، عن أبي هريرة ولفظه: "إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها، ما لم يتكلموا أو يعملوا".(6/132)
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وهل يحوز أن يؤاخذ الله عز وجل عباده بما نسوا أو أخطأوا، فيسألوه أن لا يؤاخذهم بذلك؟
قيل: إن"النسيان" على وجهين: أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله.
= فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو ترك منه لما أمر بفعله. فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به، وهو"النسيان" الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [سورة طه: 115] ، وهو"النسيان" الذي قال جل ثناؤه: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) [سورة الأعراف: 51] . فرغبة العبد إلى الله عز وجل بقوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فيما كان من نسيان منه لما أمر بفعله على هذا الوجه الذي وصفنا، ما لم يكن تركه ما ترك من ذلك تفريطا منه فيه وتضييعا، كفرا بالله عز وجل. فإن ذلك إذا كان كفرا بالله، فإن الرغبة إلى الله في تركه المؤاخذة به غير جائزة، لأن الله عز وجل قد أخبر عباده أنه لا يغفر لهم الشرك به، فمسألته فعل ما قد أعلمهم أنه لا يفعله، خطأ. وإنما تكون مسألته المغفرة، فيما كان من مثل نسيانه القرآن بعد حفظه بتشاغله عنه وعن قراءته، ومثل نسيانه صلاة أو صياما، باشتغاله عنهما بغيرهما حتى ضيعهما.
= وأما الذي العبد به غير مؤاخذ، لعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ما وكل بمراعاته، فإن ذلك من العبد غير معصية، وهو به غير آثم، فذلك الذي لا وجه لمسألة العبد ربه أن يغفره له، لأنه مسألة منه له أن يغفر له ما ليس له بذنب، وذلك مثل الأمر يغلب عليه وهو حريص على تذكره وحفظه، كالرجل(6/133)
يحرص على حفظ القرآن بجد منه فيقرأه، ثم ينساه بغير تشاغل منه بغيره عنه، ولكن بعجز بنيته عن حفظه، وقلة احتمال عقله ذكر ما أودع قلبه منه، وما أشبه ذلك من النسيان، فإن ذلك مما لا تجوز مسألة الرب مغفرته، لأنه لا ذنب للعبد فيه فيغفر له باكتسابه.
* * *
وكذلك "الخطأ" وجهان:
= أحدهما: من وجه ما نهي عنه العبد فيأتيه بقصد منه وإرادة، فذلك خطأ منه، وهو به مأخوذ. يقال منه:"خطئ فلان وأخطأ" فيما أتى من الفعل، و"أثم"، إذا أتى ما يأثم فيه وركبه، (1) ومنه قول الشاعر: (2)
الناس يلحون الأمير إذا هم ... خطئوا الصواب ولا يلام المرشد (3)
يعني: أخطأوا الصواب = وهذا الوجه الذي يرغب العبد إلى ربه في صفح ما كان منه من إثم عنه، (4) إلا ما كان من ذلك كفرا.
= والآخر منهما: ما كان عنه على وجه الجهل به، والظن منه بأن له فعله، كالذي يأكل في شهر رمضان ليلا وهو يحسب أن الفجر لم يطلع = أو يؤخر
__________
(1) في المطبوعة: "ما يتأثم فيه"، والصواب من المخطوطة. وانظر معنى"خطئ" فيما سلف 2: 110.
(2) هو عبيد بن الأبرص الأسدي، وفي حماسة البحتري، 236"عبيد بن منصور الأسدي"، وكأنه تحريف.
(3) ديوانه: 54، وحماسة البحتري 236 واللسان (أمر) ورواية ديوانه: والناس يلحون الأمير إذا غوى ... خطب الصواب. . . . . . . .
أما رواية اللسان، فهي كما جاءت في الطبري. ولحاه يلحاه: لامه وقرعه. والأمير: صاحب الأمر فيهم، يأمرهم فيطيعونه. والمرشد (اسم مفعول بفتح الشين) : من هداه الله إلى الصواب. وهو شبيه بقول القطامي: والناس من يلق خيرا قائلون له ... ما يشتهى، ولأم المخطئ الهبل
(4) استعمل أبو جعفر"الصفح" هنا بمعنى: الرد والصرف، ولو كان من قولهم"صفح عن ذنبه" لكان صواب العبارة"في صفحه عما كان منه من إثم". واستعمال أبي جعفر جيد صحيح.(6/134)
صلاة في يوم غيم وهو ينتظر بتأخيره إياها دخول وقتها، فيخرج وقتها وهو يرى أن وقتها لم يدخل. فإن ذلك من الخطأ الموضوع عن العبد، الذي وضع الله عز وجل عن عباده الإثم فيه، فلا وجه لمسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه به.
* * *
وقد زعم قوم أن مسألة العبد ربه أن لا يؤاخذه بما نسي أو أخطأ، إنما هو فعل منه لما أمره به ربه تبارك وتعالى، أو لما ندبه إليه من التذلل له والخضوع بالمسألة، فأما على وجه مسألته الصفح، فما لا وجه له عندهم (1)
وللبيان عن هؤلاء كتاب سنأتي فيه إن شاء الله على ما فيه الكفاية، لمن وفق لفهمه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا}
قال أبو جعفر: ويعني بذلك جل ثناؤه: قولوا:"ربنا ولا تحمل علينا إصرا"، يعني ب"الإصر" العهد، كما قال جل ثناؤه: (قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) [سورة آل عمران: 81] . وإنما عنى بقوله:" وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا) ولا تحمل علينا عهدا فنعجز عن القيام به ولا نستطيعه ="كما حملته على الذين من قبلنا"، يعني: على اليهود والنصارى الذين كلفوا أعمالا وأخذت عهودهم ومواثيقهم على القيام بها، فلم يقوموا بها فعوجلوا بالعقوبة. فعلم الله عز وجل أمة محمد صلى الله عليه وسلم - الرغبة إليه بمسألته أن لا يحملهم من عهوده ومواثيقه على أعمال - إن ضيعوها
__________
(1) انظر أمالي الشريف المرتضى 2: 131، 132.(6/135)
أو أخطأوا فيها أو نسوها - مثل الذي حمل من قبلهم، فيحل بهم بخطئهم فيه وتضييعهم إياه، مثل الذي أحل بمن قبلهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6512 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قي قوله:"لا تحمل علينا إصرا"، قال: لا تحمل علينا عهدا وميثاقا، كما حملته على الذين من قبلنا. يقول: كما غلظ على من قبلنا.
6513 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن موسى بن قيس الحضرمي، عن مجاهد في قوله:"ولا تحمل علينا إصرا"، قال: عهدا (1)
6514 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إصرا"، قال: عهدا.
6515 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"إصرا"، يقول: عهدا.
6516 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا"، والإصر: العهد الذي كان على من قبلنا من اليهود.
6517 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:"ولا تحمل علينا إصرا"، قال: عهدا لا نطيقه ولا نستطيع
__________
(1) الأثر: 6513-"موسى بن قيس الحضرمي" الفراء، الكوفي، لقبه: "عصفور الجنة". روى عن سلمة بن كهيل، ومحمد بن عجلان، ومسلم البطين وغيرهم. روى عنه وكيع، ويحيى بن آدم، وأبو نعيم، وغيرهم. قال أحمد: "لا أعلم إلا خيرا". وقال ابن سعد: "كان قليل الحديث". ووثقه ابن معين. وقال العقيلي: "كان من الغلاة في الرفض. . . يحدث بأحاديث مناكير - أو: بواطيل". مترجم في التهذيب.(6/136)
القيام به ="كما حملته على الذين من قبلنا"، اليهود والنصارى فلم يقوموا به، فأهلكتهم.
6518 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"إصرا"، قال: المواثيق.
6519 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"الإصر"، العهد. = (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) [سورة آل عمران 81] ، قال: عهدي.
6520 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس: (وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي) ، قال: عهدي.
وقال آخرون:"معنى ذلك: ولا تحمل علينا ذنوبًا وإثمًا، كما حملت ذلك على من قبلنا من الأمم، فتمسخنا قردةً وخنازير كما مسختهم".
ذكر من قال ذلك:
6521 - حدثني سعيد بن عمرو السكوني قال، حدثنا بقية بن الوليد، عن علي بن هارون، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح في قوله:"ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، قال: لا تمسخنا قردة وخنازير. (1)
6522 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، لا تحمل علينا ذنبًا ليس فيه توبةً ولا كفارة.
* * *
وقال آخرون:"معنى"الإصر" بكسر الألف: الثِّقْل".
__________
(1) الأثر: 6521-"سعيد بن عمرو السكوني"، سلفت ترجمته في رقم: 5563. أما"علي بن هارون" فلم أجده، وأظن صوابه"يزيد بن هارون"، و"بقية بن الوليد"، يروي عن"يزيد بن هارون" ومات قبله. وهم جميعًا مترجمون في التهذيب.(6/137)
ذكر من قال ذلك:
6523 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، يقول: التشديد الذي شدّدته على من قبلنا من أهل الكتاب.
6524 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سألته - يعنى مالكًا - عن قوله:"ولا تحمل علينا إصرًا"، قال: الإصر، الأمر الغليظ.
* * *
قال أبو جعفر: فأما"الأصر"، بفتح الألف: فهو ما عَطف الرجلَ على غيره من رَحم أو قرابة، يقال:"أصَرتني رَحم بيني وبين فلانٌ عليه"، بمعنى: عطفتني عليه."وما يأصِرُني عليه"، أي: ما يعطفني عليه."وبيني وبينه آصرةُ رَحم تأصرني عليه أصرًا"، يعني به: عاطفة رَحم تعطفني عليه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {رَبَّنَا وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِهِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وقولوا أيضًا: ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به، لثِقَل حمله علينا.
وكذلك كانت جماعة أهل التأويل يتأولونه.
ذكر من قال ذلك:
6525 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، تشديدٌ يشدِّد به، كما شدّد على من كان قبلكم.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وبيني وبينه أصر رحم يأصرني عليه"، وسياق شرحه يقتضي ما أثبتته كتب اللغة، وهو الذي أثبته هنا.(6/138)
6526 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، قال: لا تحملنا من الأعمال ما لا نطيق.
6527 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، لا تفترض علينا من الدّين ما لا طاقة لنا به فنعجز عنه.
6528 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، مَسخُ القردة والخنازير.
6529 - حدثني سلام بن سالم الخزاعي قال، حدثنا أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي قال، حدثنا محمد بن شعيب بن شابور، عن سالم بن شابور في قوله:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، قال: الغُلْمة. (1)
6530 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، من التغليظ والأغلال التي كانت عليهم من التحريم.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا إن تأويل ذلك: ولا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيق القيام به، على نحو الذي قلنا في ذلك، لأنه عَقيب مسألة المؤمنين ربَّهم أن لا يؤاخذهم إن نسوا أو أخطأوا، وأن لا يحمل عليهم إصرًا كما حمله على الذين من قبلهم،
__________
(1) الأثر: 6529-"سلام بن سالم الخزاعي"، سلفت ترجمته برقم: 252. وأما"أبو حفص عمر بن سعيد التنوخي"، فهو"عمر بن سعيد بن سليمان، أبو حفص القرشي الدمشقي"، راوية سعيد بن عبد العزيز التنوخي، فكأنه نسب إليه. روى عن محمد بن شعيب ابن شابور. مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد (11: 200) . و"محمد بن شعيب بن شابور" الدمشقي، أحد الكبار. روى عن الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز التنوخي، وغيرهما. كان يسكن بيروت، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 200.
والغلمة: غليان شهوة المواقعة من الرجل والمرأة.(6/139)
فكان إلحاق ذلك بمعنى ما قبله من مسألتهم التيسيرَ في الدين، أولى مما خالف ذلك المعنى.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا}
قال أبو جعفر: وفي هذا أيضًا، من قول الله عز وجل، خبرًا عن المؤمنين من مسألتهم إياه ذلك = (1) الدلالةُ الواضحة أنهم سألوه تيسير فرائضه عليهم بقوله:"ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، لأنهم عقبوا ذلك بقولهم:"واعف عنا"، مسألةً منهم ربَّهم أن يعفوَ لهم عن تقصير إن كان منهم في بعض ما أمرهم به من فرائضه، فيصفح لهم عنه ولا يعاقبهم عليه. وإن خفّ ما كلفهم من فرائضه على أبدانهم.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال بعض أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
6531 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"واعف عنا"، قال: اعفُ عنا إن قصرنا عن شيء من أمرك مما أمرتنا به.
* * *
وكذلك قوله:"واغفر لنا"، يعني: واستر علينا زلَّة إن أتيناها فيما بيننا وبينك، فلا تكشفها ولا تفضحنا بإظهارها.
* * *
وقد دللنا على معنى"المغفرة" فيما مضى قبل. (2)
* * *
__________
(1) سياق العبارة: "وفي هذا أيضًا. . . الدلالة الواضحة" خبر ومبتدأ.
(2) انظر، ما سلف قريبًا: 127، 128 تعليق: 1، والمراجع هناك. وانظر فهارس اللغة (غفر) .(6/140)
6532 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"واغفر لنا" إن انتهكنا شيئًا مما نهيتنا عنه.
* * *
القول في تأويل قوله: {وَارْحَمْنَا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: تغمدنا منك برحمة تنجينا بها من عقابك، فإنه ليس بناج من عقابك أحد إلا برحمتك إياه دُون عمله، وليست أعمالنا منجيتنا إن أنت لم ترحمنا، فوفقنا لما يرضيك عنا، كما:-
6533 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد قوله:"وارحمنا"، قال يقول: لا ننال العمل بما أمرتنا به، ولا تركَ ما نهيتنا عنه إلا برحمتك. (1) قال: ولم ينج أحدٌ إلا برحمتك.
* * *
القول في تأويل قوله: {أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أنت مَوْلانا"، أنت وَليُّنا بنصرك، دون من عَاداك وكفر بك، لأنا مؤمنون بك، ومطيعوك فيما أمرتنا ونهيتنا، فأنت وليّ من أطاعك، وعدوّ من كفر بك فعصاك =،"فانصرنا"، لأنا حزْبك =
__________
(1) في المطبوعة: "لا نترك"، وأثبت ما في المخطوطة، وهو الصواب، منصوبًا بقوله: "تنال" معطوفًا على قوله"العمل".(6/141)
"على القوم الكافرين"، الذين جحدوا وحدانيتك، وعبدوا الآلهة والأندادَ دونك، وأطاعوا في معصيتك الشيطان.
* * *
و"المولى" في هذا الموضع"المفعَل"، من:"وَلى فلانٌ أمرَ فُلان، فهو يليه وَلاية، وهو وليُّه ومولاه". (1) وإنما صارت"الياء" من"ولى""ألفًا"، لانفتاح"اللام" قبلها، التي هي عينُ الاسم.
* * *
وقد ذكروا أن الله عز وجل لما أنزل هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم، استجاب الله له في ذلك كله.
ذكر الأخبار التي جاءت بذلك:
6534 - حدثني المثنى بن إبراهيم ومحمد بن خلف قالا حدثنا آدم قال، حدثنا ورقاء، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية:"آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه"، قال: قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى قوله:"غُفرانك ربنا"، قال الله عز وجل:"قد غفرت لكم. فلما قرأ:"ربنا لا تؤاخذنا إنْ نسينا أو أخطأنا"، قال الله عز وجل: لا أحملكم. فلما قرأ:"واغفر لنا"، قال الله تبارك وتعالى: قد غفرت لكم. فلما قرأ:"وارحمنا"، قال الله عز وجل:"قد رحمتكم"، فلما قرأ:"وانصرنا على القوم الكافرين"، قال الله عز وجل: قد نصرتُكم عليهم. (2)
__________
(1) انظر تفسير"الولي"، و"المولى" فيما سلف 2: 489، 564 / ثم 5: 424.
(2) الحديث: 6534- محمد بن خلف بن عمار العسقلاني، شيخ الطبري: ثقة، من شيوخ النسائي، وابن ماجه، وابن خزيمة، وقد مضت رواية أخرى للطبري عنه في: 126.
آدم: هو ابن أبي إياس العسقلاني، وهو ثقة مأمون. وكان مكينًا عند شعبة. وقد مضت ترجمته في: 187.
ورقاء: هو ابن عمر اليشكري، أبو بشر. وهو كوفي ثقة، أثنى عليه شعبة جدًا. والراجح - عندي - أن ورقاء ممن سمع من عطاء قديمًا قبل تغيره، لأنه من القدماء من طبقة شعبة، ولأنه كوفي، وعطاء تغير في مقدمه البصرة آخر حياته.
وهذا الحديث من هذا الوجه - من رواية عطاء بن سعيد بن المسيب - لم أجده في شيء من الدواوين، غير تفسير الطبري. فرواه هنا مرفوعًا، ثم سيرويه بنحوه: 6540 موقوفًا على ابن عباس.
وذاك الموقوف في الحقيقة مرفوع حكمًا، لأنه ليس مما يعرف بالرأي ولا القياس. فهو مؤيد لصحة هذا المرفوع.
ثم رفع الحديث في هذا الإسناد زيادة في ثقة، فهي مقبولة.
بل إن هذا الإسناد أرجح صحة من ذاك. لأن ورقاء قديم، رجحنا أنه سمع من عطاء قبل تغيره.
وأما ذاك الإسناد، فإنه من رواية محمد بن فضيل عن عطاء. وابن فضيل سمع من عطاء بأخرة، بعد تغيره. كما نص على ذلك ابن أبي حاتم عن أبيه 3/ 334.
ومعنى الحديث ثابت صحيح من وجه آخر، كما مضى في: 6457، من رواية آدم بن سليمان، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وهناك الإجابة بعد كل دعاء: "قد فعلت". وهنا الإجابة من لفظ الدعاء. والمعنى واحد.
والظاهر أن متن الحديث هنا سقط منه شيء، سهوًا من الناسخين، عند قوله: "فلما قرأ: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) ، قال الله عز وجل: لا أحملكم". وفي الرواية الآتية: "قال: لا أؤاخذكم"، ثم ذكر هناك ما بعدها من الدعاء: (ربنا ولا تحمل علينا إصرار كما حملته على الذين من قبلنا) -"قال: لا أحمل عليكم". وذاك هو السياق الصحيح الكامل، الذي يدل على نقص من هذا السياق هنا.
واضطرب كاتب المخطوطة اضطرابًا أشد من هذا، لأنه كرر في متن الحديث: "فلما انتهى إلى قوله (غفرانك ربنا) ، قال الله عز وجل: قد غفرت لكم" - مرتين. ثم أسقط باقي الحديث فلم يذكره.(6/142)
6535 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: أتى جبريل النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، قل:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقالها، فقال جبريل: قد فعل. وقال له جبريل: قل:"ربنا ولا تَحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، فقالها، فقال جبريل: قد فعل. فقال: قل"ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به"، فقالها، فقال جبريل صلى الله عليه وسلم: قد فعل. فقال: قل:"واعف عَنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، فقالها، فقال جبريل: قد فَعل.(6/143)
6536 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط قال: زعم السدي أن هذه الآية حين نزلت:"ربَنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقال له جبريل: فعل ذلك يا محمد ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، فقال له جبريل في كل ذلك: فَعَل ذلك يا محمد.
6537 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع = وحدثنا سفيان قال، حدثنا أبي = عن سفيان، عن آدم بن سليمان، مولى خالد قال، سمعت سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزل الله عز وجل:"آمن الرسول بما أنزل من ربه" إلى قوله:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، فقرأ:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال فقال: قد فعلت ="ربنا ولا تحمل علينا إصرًا كما حملته على الذين من قبلنا"، فقال: قد فعلت ="ربنا ولا تحملنا ما لا طاقه لنا به"، قال: قد فعلت ="واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين"، قال: قد فعلت. (1)
6538 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن سليمان، عن مصعب بن ثابت، عن العلاء بن عبد الرحمن بن يعقوب، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: أنزل الله عز وجل:"ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا"، قال: أبي: قال أبو هريرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الله عز وجل: نعم. (2)
6539 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن آدم بن
__________
(1) الحديث: 6537 - هو مختصر من الحديث: 6457، بهذا الإسناد.
وقد ثبت الإسناد هنا على الصواب، كما أشرنا هناك.
(2) الحديث: 6538 - هو مختصر من الحديث: 6456، بهذا الإسناد. وقد أشرنا إليه هناك.(6/144)