3473 - حدثني أحمد بن المغيرة، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا محمد بن مسلم الطائفي، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: من صام يوما في شوال ويوما في ذي القعدة ويوما في ذي الحجة، أجزأه عنه من صوم التمتع. (1)
3474حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن ليث، عن مجاهد، قال: إن شاء صام أول يوم من شوال.
3475 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد في قول الله جل وعز:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: إن شاء صامها في العشر، وإن شاء في ذي القعدة، وإن شاء في شوال.
* * *
وقال آخرون: يصومهن في عشر ذي الحجة دون غيرها.
* ذكر من قال ذلك:
3476 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء: يصوم الثلاثة الأيام للمتعة في العشر إلى يوم عرفة.
3477 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني يعقوب أن عطاء بن أبي رباح كان يقول: من استطاع أن يصومهن فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة، فليصم.
3478 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: ولا بأس أن يصوم المتمتع في العشر وهو حلال.
3479 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو شهاب، عن الحجاج، عن أبي جعفر، قال: لا يصام إلا في العشر.
__________
(1) الخبر: 3473 - أحمد بن المغيرة، شيخ الطبري: لم أعرف من هو، ولم أجد له ترجمة ولا ذكرا.(3/102)
3480 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا الربيع، عن عطاء أنه كان يقول في صيام ثلاثة أيام في الحج، قال: في تسع من ذي الحجة أيها شئت، فمن صام قبل ذلك في شوال وفي ذي القعدة، فهو بمنزلة من لم يصم.
* * *
وقال آخرون: له أن يصومهن قبل الإحرام بالحج.
* ذكر من قال ذلك:
3481 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، قال: إذا خشي أن لا يدرك الصوم بمكة صام بالطريق يوما أو يومين.
3482 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: لا بأس أن تصوم الثلاثة الأيام في المتعة وأنت حلال.
* * *
وقال آخرون: لا يجوز أن يصومهن إلا بعد ما يحرم بالحج.
* ذكر من قال ذلك:
3483 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يصومهن إلا وهو حرام.
3484 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة. (1)
3485 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن نافع، عن ابن عمر، قال: لا يجزيه صوم ثلاثة أيام وهو
__________
(1) الأثر: 3484: انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 3439.(3/103)
متمتع إلا أن يحرم. وقال مجاهد: يجزيه إذا صام في ذي القعدة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن للمتمتع أن يصوم الأيام الثلاثة التي أوجب الله عليه صومهن لمتعته إذا لم يجد ما استيسر من الهدي، من أول إحرامه بالحج بعد قضاء عمرته واستمتاعه بالإحلال إلى حجه، إلى انقضاء آخر عمل حجه وذلك بعد انقضاء أيام منى سوى يوم النحر، فإنه غير جائز له صومه ابتدأ صومهن قبله، أو ترك صومهن فأخره حتى انقضاء يوم عرفة.
وإنما قلنا: له صوم أيام التشريق، لما ذكرنا من العلة لقائل ذلك قبل، (1) فإن صامهن قبل إحرامه بالحج فإنه غير مجزئ صومه ذلك من الواجب عليه من الصوم الذي فرضه الله عليه لمتعته. وذلك أن الله جل وعز إنما أوجب الصوم على من لم يجد هديا ممن استمتع بعمرته إلى حجه، فالمعتمر قبل إحلاله من عمرته وقبل دخوله في حجه غير مستحق اسم" متمتع" بعمرته إلى حجه. وإنما يقال له قبل إحرامه" معتمر"، حتى يدخل بعد إحلاله في الحج قبل شخوصه عن مكة. فإذا دخل في الحج محرما به - بعد قضاء عمرته في أشهر الحج، ومقامه بمكة بعد قضاء عمرته حلالا حتى حج من عامه - سمي"متمتعا". فإذا استحق اسم"متمتع" لزمه الهدي، وحينئذ يكون له الصوم بعدمه الهدي إن عدمه فلم يجده.
فأما إن صامه قبل دخوله في الحج - وإن كان من نيته الحج- فإنما هو رجل صام صوما ينوي به قضاء عما عسى أن يلزمه أو لا يلزمه، فسبيله سبيل رجل معسر صام ثلاثة أيام ينوي بصومهن كفارة يمين، ليمين يريد أن يحلف بها ويحنث فيها، وذلك ما لا خلاف بين الجميع أنه غير مجزئ من كفارة إن حلف بها بعد الصوم فحنث.
__________
(1) في المطبوعة: "قيل" مكان"قبل" وهو خطأ وتصحيف بلا معنى.(3/104)
فإن ظن ظان أن صوم المعتمر- بعد إحلاله من عمرته، أو قبله، وقبل دخوله في الحج - مجزئ عنه من الصوم الذي أوجبه الله عليه إن تمتع بعمرته إلى الحج، نظير ما أجزأ الحالف بيمين إذا كفر عنها قبل حنثه فيها بعد حلفه بها فقد ظن خطأ. لأن الله جل ثناؤه جعل لليمين تحليلا هو غير تكفير، فالفاعل فيها قبل الحنث فيها ما يفعله المكفر بعد حنثه فيها، محلل غير مكفر. والمتمتع إذا صام قبل تمتعه صائم، تكفيرا لما يظن أنه يلزمه ولما يلزمه، وهو كالمكفر عن قتل صيد يريد قتله وهو محرم قبل قتله، وعن تطيب قبل تطيبه.
ومن أبى ما قلنا في ذلك ممن زعم أن للمعتمر الصوم قبل إحرامه بالحج، قيل له: ما قلت فيمن كفر من المحرمين عن الواجب على من ترك رمي الجمرات أيام منى يوم عرفة، وهو ينوي ترك الجمرات، ثم أقام بمنى أيام منى حتى انقضت تاركا رمي الجمرات، هل يجزيه تكفيره ذلك عن الواجب عليه في ترك ما ترك من ذلك؟
فإن زعم أن ذلك يجزيه، سئل عن مثل ذلك في جميع مناسك الحج التي أوجب الله في تضييعه على المحرم، أو في فعله، كفارة، فإن سوى بين جميع ذلك قاد قوله، (1)
وسئل عن نظير ذلك في العازم على أن يجامع في شهر رمضان، وهو مقيم صحيح، إذا كفر قبل دخول الشهر، ودخل الشهر ففعل ما كان عازما عليه هل تجزيه كفارته التي كفر عن الواجب من وطئه ذلك، وكذلك يسأل: عمن أراد أن يظاهر من امرأته، فإن قاد قوله في ذلك، (2) خرج من قول جميع الأمة.
__________
(1) في المطبوعة في الموضعين: "قاد قوله" بالفاء وهو تصحيف غث جدا، وجاء بعض من علق على تفسير الطبري فقال: "لعله يريد اضطراب قولهن قال في اللسان: فاد يفيد فيدا: تبختر، وقيل: هو أن يحذر شيئا فيعدل عنه جانبا"!! فصار معنى الكلام أعرق في الغثاثة من تصحيف لفظه!
(2) والصواب ما أثبت، يقال: "قاد قوله" أي استقام به على نهجه الذي نهجه، ولم يخالف منطقته فيه ولا سياقه. وذلك من قولهم: قاد الفرس قودا. وهذا المجاز قد استعمله قدماء الفقهاء والمتكلمين والمناطقة يقولون: "هذا لا يستقيم على قود كلامك" أي: على سياقه ونهجه.(3/105)
وإن أبى شيئا من ذلك، سئل الفرق بينه وبين الصائم لمتعته قبل تمتعه وقبل إحرامه بالحج، ثم عكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فمن لم يجد ما استيسر من الهدي، فعليه صيام ثلاثة أيام في حجه وصيام سبعة أيام إذا رجع إلى أهله ومصره.
فإن قال لنا قائل: أو ما يجب عليه صوم السبعة الأيام بعد الأيام الثلاثة التي يصومهن في الحج إلا بعد رجوعه إلى مصره وأهله؟
قيل: بل قد أوجب الله عليه صوم الأيام العشرة بعدم ما استيسر من الهدي لمتعته، ولكن الله تعالى ذكره رأفة منه بعباده رخص لمن أوجب ذلك عليه، كما رخص للمسافر والمريض في شهر رمضان الإفطار وقضاء عدة ما أفطر من الأيام من أيام أخر. ولو تحمل المتمتع فصام الأيام السبعة في سفره قبل رجوعه إلى وطنه، أو صامهن بمكة، كان مؤديا ما عليه من فرض الصوم في ذلك، وكان بمنزلة الصائم شهر رمضان في سفره أو مرضه، مختارا للعسر على اليسر.
وبالذي قلنا في ذلك قالت علماء الأمة.
* ذكر من قال ذلك:
3486 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: هي رخصة إن شاء صامها في الطريق.
3487 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان،(3/106)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: هي رخصة إن شاء صامها في الطريق، وإن شاء صامها بعد ما يرجع إلى أهله.
3488 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد، نحوه.
3489 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: إن شاء صامها في الطريق، وإنما هي رخصة.
3490 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن مجاهد، قال: إن شئت صم السبعة في الطريق، وإن شئت إذا رجعت إلى أهلك.
3491 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن فطر، عن عطاء، قال: يصوم السبعة إذا رجع إلى أهله أحب إلي.
3492 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: إن شئت في الطريق، وإن شئت بعد ما تقدم إلى أهلك.
* * *
فإن قال: وما برهانك على أن معنى قوله:" وسبعة إذا رجعتم" إذا رجعتم إلى أهليكم وأمصاركم = دون أن يكون معناه: إذا رجعتم من منى إلى مكة؟
قيل: إجماع جميع أهل العلم على أن معناه ما قلنا دون غيره.
* ذكر بعض من قال ذلك:
3493 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:" وسبعة إذا رجعتم"، قال: إذا رجعت إلى أهلك.(3/107)
3495 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" وسبعة إذا رجعتم" إذا رجعتم إلى أمصاركم.
3496 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
3497 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير:" وسبعة إذا رجعتم" قال: إلى أهلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" كاملة".
فقال بعضهم: معنى ذلك: فصيام الثلاثة الأيام في الحج والسبعة الأيام بعد ما يرجع إلى أهله عشرة كاملة من الهدي.
* ذكر من قال ذلك:
3498 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن عباد، عن الحسن في قوله:" تلك عشرة كاملة"، قال: كاملة من الهدي.
3499 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن عباد، عن الحسن، مثله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: كملت لكم أجر من أقام على إحرامه، ولم يحل ولم يتمتع تمتعكم بالعمرة إلى الحج.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: الأمر، وإن كان مخرجه مخرج الخبر، وإنما عنى بقوله:" تلك عشرة كاملة" تلك عشرة أيام فأكملوا صومها لا تقصروا عنها، لأنه فرض عليكم صومها.
* * *(3/108)
وقال آخرون: بل قوله:" كاملة"، توكيد للكلام، كما يقول القائل:" سمعته بأذني، ورأيته بعيني"، وكما قال: (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ) [النحل: 26] ولا يكون" الخر" إلا من فوق، فأما من موضع آخر، فإنما يجوز على سعة الكلام.
* * *
وقال آخرون: إنما قال:" تلك عشرة كاملة"، وقد ذكر"سبعة" و"ثلاثة"، لأنه إنما أخبر أنها مجزئة، وليس يخبر عن عدتها، وقالوا: ألا ترى أن قوله:"كاملة" إنما هو وافية؟.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال عندي [بالصواب] قول من قال: معنى ذلك تلك عشرة كاملة عليكم فرضنا إكمالها. وذلك أنه جل ثناؤه قال: فمن لم يجد الهدي فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع، ثم قال: تلك عشرة أيام عليكم إكمال صومها لمتعتكم بالعمرة إلى الحج. فأخرج ذلك مخرج الخبر، ومعناه الأمر بها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله" ذلك"، أي التمتع بالعمرة إلى الحج، لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام، كما:-
3500 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، يعني المتعة أنها لأهل الآفاق، ولا تصلح لأهل مكة.(3/109)
3501 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أن هذا لأهل الأمصار ليكون عليهم أيسر من أن يحج أحدهم مرة ويعتمر أخرى، فتجمع حجته وعمرته في سنة واحدة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به، وأنه لا متعة لهم.
فقال بعضهم: عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
3502 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، قال: قال ابن عباس ومجاهد: أهل الحرم.
3503 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن مجاهد:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: أهل الحرم.
3504 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، قال: بلغنا عن ابن عباس في قوله:" حاضري المسجد الحرام"، قال: هم أهل الحرم، والجماعة عليه.
3505 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال قتادة: ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول: يا أهل مكة، إنه لا متعة لكم، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم، إنما يقطع أحدكم واديا = أو قال: يجعل بينه وبين الحرم واديا = ثم يهل بعمرة.
3506 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثنا الليث، قال: حدثني يحيى بن سعيد الأنصاري: أن أهل مكة كانوا يغزون ويتجرون، فيقدمون(3/110)
في أشهر الحج ثم يحجون، ولا يكون عليهم الهدي ولا الصيام، أرخص لهم في ذلك، لقول الله عز وجل:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام".
3507 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، قال: أهل الحرم.
3508 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: المتعة للناس، إلا لأهل مكة ممن لم يكن أهله من الحرم، وذلك قول الله عز وجل:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: وبلغني عن ابن عباس مثل قول طاوس. (1) بالكلام
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك أهل الحرم ومن كان منزله دون المواقيت إلى مكة.
* ذكر من قال ذلك:
3509 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، عن عبد الرحمن بن يزيد بن جابر، عن مكحول:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: من كان دون المواقيت.
3510 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك بإسناده مثله = إلا أنه قال: ما كان دون المواقيت إلى مكة.
3511 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن رجل، عن عطاء، قال: من كان أهله من دون المواقيت، فهو كأهل مكة لا يتمتع.
* * *
__________
(1) الأثر: 3508 - في تفسير ابن كثير 1: 453: "المتعة للناس لا لأهل مكة من لم يكن أهله من الحرم" وفي الدر المنثور 1: 217: "المتعة للناس، إلا لأهل مكة هي لمن لم يكن أهله في الحرم". والصواب ما في نص الطبري.(3/111)
وقال بعضهم: بل عنى بذلك أهل الحرم، ومن قرب منزله منه.
* ذكر من قال ذلك:
3512 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: عرفة، ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع، ونخلتان.
3513 - حدثنا أحمد بن حازم الغفاري والمثنى قالا حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: عرفة ومر، وعرنة، وضجنان، والرجيع.
3514 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري في هذه الآية قال: اليوم واليومين.
3515 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، قال: سمعت الزهري يقول: من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع.
3516 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، عن عطاء: أنه جعل أهل عرفة من أهل مكة في قوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام".
3517 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام"، قال: أهل مكة وفج وذي طوي، وما يلي ذلك فهو من مكة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصحة عندنا قول من قال: إن حاضري المسجد الحرام من هو حوله ممن بينه وبينه من المسافة ما لا تقصر إليه الصلوات. لأن"حاضر الشيء"، في كلام العرب، هو الشاهد له بنفسه. وإذا كان ذلك كذلك = وكان لا يستحق أن يسمى"غائبا"، إلا من كان مسافرا(3/112)
شاخصا عن وطنه، وكان المسافر لا يكون مسافرا إلا بشخوصه عن وطنه إلى ما تقصر في مثله الصلاة، وكان من لم يكن كذلك لا يستحق اسم"غائب" عن وطنه ومنزله = كان كذلك من لم يكن من المسجد الحرام على ما تقصر إليه الصلاة، غير مستحق أن يقال: هو من غير حاضريه إذ كان الغائب عنه هو من وصفنا صفته.
وإنما لم تكن المتعة لمن كان من حاضري المسجد الحرام، من أجل أن"التمتع" إنما هو الاستمتاع بالإحلال من الإحرام بالعمرة إلى الحج، مرتفقا في ترك العود إلى المنزل والوطن بالمقام بالحرم حتى ينشئ منه الإحرام بالحج. وكان المعتمر متى قضى عمرته في أشهر الحج، ثم انصرف إلى وطنه، أو شخص عن الحرم إلى ما تقصر فيه الصلاة، ثم حج من عامه ذلك، بطل أن يكون مستمتعا. لأنه لم يستمتع بالمرفق الذي جعل للمستمتع، من ترك العود إلى الميقات، والرجوع إلى الوطن بالمقام في الحرم. وكان المكي من حاضري المسجد الحرام لا يرتفق بذلك، من أجل أنه متى قضى عمرته أقام في وطنه بالحرم، فهو غير مرتفق بشيء مما يرتفق به من لم يكن أهله من حاضري المسجد الحرام فيكون متمتعا بالإحلال من عمرته إلى حجه.
* * *(3/113)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل اسمه:" واتقوا الله"، بطاعته فيما ألزمكم من فرائضه وحدوده، واحذروا أن تعتدوا في ذلك وتتجاوزوا فيما بين لكم من مناسككم، فتستحلوا ما حرم فيها عليكم."واعلموا": تيقنوا أنه تعالى ذكره شديد عقابه لمن عاقبه على ما انتهك من محارمه وركب من معاصيه.
* * *(3/114)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
القول في تأويل قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وقت الحج أشهر معلومات.
* * *
"والأشهر" مرفوعات بـ "الحج"، وإن كان له وقتا، لا صفة ونعتا، إذ لم تكن محصورات بتعريف، بإضافة إلى معرفة أو معهود، فصار الرفع فيهن كالرفع في قول العرب في نظير ذلك من المحل:" المسلمون جانب، والكفار جانب"، برفع الجانب الذي لم يكن محصورا على حد معروف. ولو قيل:"جانب أرضهم، أو بلادهم"، لكان النصب هو الكلام. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" الحج أشهر معلومات".
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن لفراء 1: 119.(4/114)
فقال بعضهم: يعني بـ "الأشهر المعلومات": شوالا وذا القعدة، وعشرا من ذي الحجة.
* ذكر من قال ذلك:
3518 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قوله:" الحج أشهر معلومات" قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة.
3519 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وشريك، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس، مثله.
3520 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم عن ابن عباس، مثله.
3521 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر السلمي، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: أشهر الحج شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة. (1)
3523 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" الحج أشهر معلومات"، وهن: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة، جعلهن الله سبحانه للحج، وسائر الشهور للعمرة، فلا يصلح أن يحرم أحد بالحج إلا في أشهر الحج، والعمرة يحرم بها في كل شهر.
3524 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:" الحج أشهر معلومات"، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
3525 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن وأبو عامر قالا
__________
(1) سقط من ترقيمنا رقم: 3522.(4/115)
حدثنا سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق = قال: أخبرنا الثوري عن المغيرة، عن إبراهيم مثله.
3526 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي مثله.
3527 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان وإسرائيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
3528 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا إسرائيل، عن جابر، عن عامر، مثله.
3529 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، مثله.
3530 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3531 - حدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس = وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم والشعبي = وأخبرنا يونس، عن الحسن = وأخبرنا جويبر، عن الضحاك = وأخبرنا حجاج، عن عطاء ومجاهد، مثله. (1)
3532 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا حماد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة في" الحج أشهر معلومات".
3533 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا ورقاء،
__________
(1) الأثر: 3531 - القائل: "وأخبرنا مغيرة. . . = وأخبرنا جويبر. . . = إلخ" هو هشيم.(4/116)
عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر، قال:" الحج أشهر معلومات" قال: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة.
3534 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، قال: شوال، وذو القعدة، وعشر من ذي الحجة.
3535 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقيل الخراساني، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله.
* * *
وقال آخرون: بل يعني بذلك شوالا وذا القعدة، وذا الحجة كله.
* ذكر من قال ذلك:
3536 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لنافع: أكان عبد الله يسمي أشهر الحج؟ قال: نعم، شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
3537 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لنافع: أسمعت ابن عمر يسمي أشهر الحج؟ قال: نعم، كان يسمي شوالا وذا القعدة، وذا الحجة.
3538 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
3539 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء:" الحج أشهر معلومات"، قال عطاء: فهي شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
3540 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
3541 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة(4/117)
قوله:" الحج أشهر معلومات" أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة = وربما قال: وعشر ذي الحجة.
3542 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" الحج أشهر معلومات" قال: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
3543 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، مثله.
3544 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أشهر الحج: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما وجه قائلي هذه المقالة، وقد علمت أن عمل الحج لا يعمل بعد تقضي أيام منى؟
قيل: إن معنى ذلك غير الذي توهمته، وإنما عنوا بقيلهم: الحج ثلاثة أشهر كوامل، أنهن أشهر الحج لا أشهر العمرة، وأن شهور العمرة سواهن من شهور السنة. ومما يدل على أن ذلك معناهم في قيلهم ذلك ما:-
3545 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، قال: قال ابن عمر: أن تفصلوا بين أشهر الحج والعمرة فتجعلوا العمرة في غير أشهر الحج، أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته.
3546 - حدثني نصر بن علي الجهضمي، قال: أخبرني أبي، قال: حدثنا شعبة، قال: ما لقيني - أيوب أو قال: ما لقيت أيوب - إلا سألني عن حديث قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: قلت لعبد الله: امرأة منا قد حجت، أو هي تريد أن تحج، أفتجعل مع حجها عمرة؟ فقال: ما أرى هؤلاء إلا أشهر الحج. قال: فيقول لي أيوب ومن عنده: مثل هذا الحديث حدثك قيس(4/118)
بن مسلم عن طارق بن شهاب أنه سأل عبد الله؟ !.
3547 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن ابن عون، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن العمرة في أشهر الحج ليست بتامة. قال: فقيل له: العمرة في المحرم؟ فقال: كانوا يرونها تامة.
3548 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق بن يوسف، عن ابن عون، قال: سألت القاسم بن محمد عن العمرة في أشهر الحج، قال: كانوا لا يرونها تامة.
3549 - حدثنا ابن بيان الواسطي، قال: أخبرنا إسحاق عن عبد الله بن عون، عن ابن سيرين أنه كان يستحب العمرة في المحرم، قال: تكون في أشهر الحج؟ قال: كانوا لا يرونها تامة.
3550 - حدثنا ابن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن عون، عن محمد بن سيرين، قال: قال ابن عمر للحكم بن الأعرج أو غيره: إن أطعتني انتظرت حتى إذا أهل المحرم خرجت إلى ذات عرق فأهللت منها بعمرة.
3551 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن أبي يعقوب، قال: سمعت ابن عمر يقول: لأن أعتمر في عشر ذي الحجة أحب إلي من أن أعتمر في العشرين.
3552 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، قال: سألت ابن مسعود عن امرأة منا أرادت أن تجمع مع حجها عمرة، فقال: أسمع الله يقول:" الحج أشهر معلومات" ما أراها إلا أشهر الحج.
3553 - حدثني أحمد بن المقدام، قال: حدثنا حزام القطعي، قال: سمعت محمد بن سيرين يقول: ما أحد من أهل العلم شك أن عمرة في غير أشهر الحج أفضل من عمرة في أشهر الحج.(4/119)
= ونظائر ذلك مما يطول باستيعاب ذكره الكتاب، مما يدل على أن معنى قيل من قال: وقت الحج ثلاثة أشهر كوامل، أنهن من غير شهور العمرة، وأنهن شهور لعمل الحج دون عمل العمرة، وإن كان عمل الحج إنما يعمل في بعضهن لا في جميعهن.
* * *
وأما الذين قالوا: تأويل ذلك: شوال، وذو القعدة، وعشر ذي الحجة، فإنهم قالوا: إنما قصد الله جل ثناؤه بقوله:" الحج أشهر معلومات" إلى تعريف خلقه ميقات حجهم، لا الخبر عن وقت العمرة. قالوا: فأما العمرة، فإن السنة كلها وقت لها، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه اعتمر في بعض شهور الحج، ثم لم يصح عنه بخلاف ذلك خبر. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك، وكان عمل الحج ينقضي وقته بانقضاء العاشر من أيام ذي الحجة، علم أن معنى قوله:" الحج أشهر معلومات" إنما هو ميقات الحج، شهران وبعض الثالث.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا، قول من قال: إن معنى ذلك: الحج شهران وعشر من الثالث; لأن ذلك من الله خبر عن ميقات الحج، ولا عمل للحج يعمل بعد انقضاء أيام منى، فمعلوم أنه لم يعن بذلك جميع الشهر الثالث، وإذا لم يكن معنيا به جميعه، صح قول من قال: وعشر ذي الحجة.
* * *
فإن قال قائل: فكيف قيل:" الحج أشهر معلومات" وهو شهران وبعض الثالث؟
قيل: إن العرب لا تمتنع خاصة في الأوقات من استعمال مثل ذلك، فتقول:" له اليوم يومان منذ لم أره"، وإنما تعني بذلك: يوما وبعض آخر، وكما قال جل ثناؤه: (فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [البقرة: 203] وإنما يتعجل في يوم ونصف. وقد يفعل الفاعل منهم الفعل في الساعة، ثم يخرجه(4/120)
عاما على السنة والشهر، فيقول:" زرته العام، وأتيته اليوم"، وهو لا يريد بذلك أن فعله أخذ من أول الوقت الذي ذكره إلى آخره، ولكنه يعني أنه فعله إذ ذاك، وفي ذلك الحين، فكذلك" الحج أشهر"، والمراد منه: الحج شهران وبعض آخر. (1)
* * *
فمعنى الآية إذا: ميقات حجكم أيها الناس شهران وبعض الثالث، وهو شوال وذو القعدة وعشر ذي الحجة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:" فمن فرض فيهن الحج"، فمن أوجب الحج على نفسه وألزمها إياه فيهن - يعني: في الأشهر المعلومات التي بينها. وإيجابه إياه على نفسه، العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاج عمله، وترك جميع ما أمره الله بتركه.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في المعنى الذي يكون به الرجل فارضا الحج، بعد إجماع جميعهم، على أن معنى" الفرض": الإيجاب والإلزام.
فقال بعضهم: فرض الحج الإهلال.
* ذكر من قال ذلك:
3554 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا ورقاء، عن عبد الله المدني بن دينار، عن ابن عمر قوله:" فمن فرض فيهن الحج" قال: من أهل بحج.
3555 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال:
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 152.(4/121)
أخبرنا عبد الرزاق = قال: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن عطاء، قال: التلبية.
3556 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا مهران = وحدثنا علي، قال: حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان الثوري:" فمن فرض فيهن الحج" قال: فالفريضة الإحرام، والإحرام التلبية.
3557 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن إبراهيم - يعني ابن مهاجر-، عن مجاهد:" فمن فرض فيهن الحج" قال: الفريضة: التلبية.
3558 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار، عن ابن عمر:" فمن فرض فيهن الحج" قال: أهل.
3559 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا شريك، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الفرض التلبية، ويرجع إن شاء ما لم يحرم.
3560 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فمن فرض فيهن الحج" قال: الفرض: الإهلال.
3561 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:" فمن فرض فيهن الحج" قال: التلبية.
3562 - حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن مسلم، قال: حدثنا أبو عمرو الضرير، قال: أخبرنا حماد بن سلمة، عن جبر بن حبيب، قال: سألت القاسم بن محمد عن:" من فرض فيهن الحج"، قال: إذا اغتسلت ولبست ثوبك ولبيت، فقد فرضت الحج. (1)
__________
(1) الخر: 3562 - إبراهيم بن عبد الله بن مسلم بن ماعز، أبو مسلم الكجي الحافظ: ثقة نبيل، مدحه البحتري. له كتاب في السنن. مات سنة 292 وقد قارب المئة. مترجم في تذكرة الحفاظ 2: 176- 177ن وتاريخ بغداد 6: 120- 124. "أبو عمر الضرير الأكبر": هو حفص بن عمر البصري، وهو ثقة كان غاية في السنة وكان من العلماء بالفرائض والحساب والشعر وأيام الناس والفقه. مات سنة 220، عن بضع وسبعين سنة. ووقع في المطبوعة"أبو عمرو". وهو خطأ. "جبر بن حبيب": ثقة وكان إماما في اللغة. مترجم في التهذيب والكبير 1/2/242، وابن أبي حاتم 1/1/533. ولم يذكروا له رواية إلا عن أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق. فيستفاد من هذا الموضع روايته أيضًا عن ابن أخيها: القاسم بن محمد بن أبي بكر.(4/122)
وقال آخرون: فرض الحج إحرامه.
* ذكر من قال ذلك:
3563 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فمن فرض فيهن الحج" يقول: من أحرم بحج أو عمرة.
3564 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن = وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد= وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم = قالوا جميعا: حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم:" فمن فرض فيهن الحج" قال: فمن أحرم - واللفظ لحديث ابن بشار.
3565 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك والحسن بن صالح، عن ليث، عن عطاء، قال: الفرض: الإحرام.
3566 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن عطاء وبعض أشياخنا عن الحسن في قوله:" فمن فرض فيهن الحج" قالا فرض الحج الإحرام.
3567 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" فمن فرض فيهن الحج" فهذا عند الإحرام.
3568 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، عن ابن عباس قال: الفرض الإحرام.
3569 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا(4/123)
حسين بن عقيل الخراساني، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله.
3570 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، قال: أخبرنا المغيرة، عن إبراهيم:" فمن فرض فيهن الحج" قال: من أحرم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني يحتمل أن يكون بمعنى ما قلنا من أن يكون الإحرام -كان عند قائله- الإيجاب بالعزم، ويحتمل أن يكون كان عنده بالعزم والتلبية، كما قال القائلون القول الأول.
وإنما قلنا: إن فرض الحج الإحرام، لإجماع الجميع على ذلك. وقلنا: إن الإحرام هو إيجاب الرجل ما يلزم المحرم أن يوجبه على نفسه، على ما وصفنا آنفا، لأنه لا يخلو القول في ذلك من أحد أمور ثلاثة:
إما أن يكون الرجل غير محرم إلا بالتلبية وفعل جميع ما يجب على الموجب الإحرام على نفسه فعله، فإن يكن ذلك كذلك، فقد يجب أن لا يكون محرما إلا بالتجرد للإحرام، وأن يكون من لم يكن له متجردا فغير محرم. وفي إجماع الجميع على أنه قد يكون محرما وإن لم يكن متجردا من ثيابه، بإيجابه الإحرام = ما يدل على أنه قد يكون محرما وإن لم يلب، إذ كانت التلبية بعض مشاعر الإحرام، كما التجرد له بعض مشاعره. وفي إجماعهم على أنه قد يكون محرما بترك بعض مشاعر حجه، ما يدل على أن حكم غيره من مشاعره حكمه.
أو يكون - إذ فسد هذا القول - قد يكون محرما وإن لم يلب ولم يتجرد ولم يعزم العزم الذي وصفنا. وفي إجماع الجميع على أنه لا يكون محرما من لم يعزم على الإحرام ويوجبه على نفسه، إذا كان من أهل التكليف، ما ينبئ عن فساد هذا القول.
وإذ فسد هذان الوجهان فبينة صحة الوجه الثالث، وهو أن الرجل قد يكون(4/124)
محرما بإيجابه الإحرام بعزمه على سبيل ما بينا، وإن لم يظهر ذلك بالتجرد والتلبية وصنيع بعض ما عليه عمله من مناسكه. وإذا صح ذلك صح ما قلنا من أن فرض الحج، هو ما قرن إيجابه بالعزم، (1) على نحو ما بينا قبل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى" الرفث" في هذا الموضع، (2)
فقال بعضهم: هو الإفحاش للمرأة في الكلام، وذلك بأن يقول:" إذا حللنا فعلت بك كذا وكذا"، لا يكني عنه، وما أشبه ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
3571 - حدثنا أحمد بن حماد الدولابي ويونس قالا حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس عن الرفث في قول الله:" فلا رفث ولا فسوق" قال: هو التعريض بذكر الجماع، وهي"العرابة" من كلام العرب، وهو أدنى الرفث. (3)
3572 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن روح بن القاسم،
__________
(1) في المطبوعة: "هو ما مر إيجابه بالعزم" وهو تحريف فاسد لا معنى له. والدليل على صحة ما ذهبت إليه في قراءة هذا النص قوله في أول تفسير هذه الكلمة من الآية: "وإيجابه إياه على نفسه، العزم على عمل جميع ما أوجب الله على الحاج عمله. . . " ثم ما جاء بعد ذلك في تفصيل معنى"الفرض". فالسياق يقتضي ما أثبت من قراءتي للنص.
(2) انظر ما سلف في معنى: "الرفث" من الجزء 3: 487، 488
(3) الخبر: 3571- أحمد بن حماد الدولابي: مضت ترجمته في: 2593.
والعرابة (بفتح الهين وكسرها) والإعراب والتعريب والإعرابة: ما قبح من الكلام أو التصريح بالهجر من الكلام والفاحش منه. وأعرب الرجل وعرب: أفحش. والجيد هنا أن يقال إن"العرابة" هو التعريض بالنكاح. وأنظر الآثار الآتية من رقم: 3581 وما بعده.(4/125)
عن ابن طاوس في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث: العرابة والتعريض للنساء بالجماع.
3573 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن عون، قال: حدثنا زياد بن حصين، قال: حدثني أبي حصين بن قيس، قال: أصعدت مع ابن عباس في الحاج، وكنت له خليلا فلما كان بعدما أحرمنا قال ابن عباس، فأخذ بذنب بعيره، فجعل يلويه، وهو يرتجز ويقول:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا (1)
قال: فقلت: أترفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء.
3574 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن رجل، عن أبي العالية الرياحي، عن ابن عباس أنه كان يحدو وهو محرم، ويقول:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا (2)
قال: قلت: تتكلم بالرفث وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما قيل عند النساء.
3575 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الرفث إتيان النساء، والتكلم بذلك للرجال والنساء، إذا ذكروا ذلك بأفواههم.
3576 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، مثله.
__________
(1) لم أعرف قائله، وسيأتي في هذا الجزء 127، 130 - ثم في 5: 68/ ثم 16: 157 (بولاق) وهو رجز كثير الدوران في الكتب. والهمس والهميس: الصوت الخفي الذي لا غور له في الكلام والوطء والأكل وغيرها. ولميس: اسم صاحبته. ويزيد بقوله: "إن تصدق الطير" أنه زجر الطير فتيامن بمرها ودلته على قرب اجتماعه بأصحابه وأهله.
(2) انظر التعليق السالف(4/126)
3577 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أيحل للمحرم أن يقول لامرأته:" إذا حللت أصبتك"؟ قال: لا ذاك الرفث. قال: وقال عطاء: الرفث ما دون الجماع.
3578 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثني محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش.
3579 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: قول الرجل لامرأته:" إذا حللت أصبتك"، قال: ذاك الرفث!.
3580 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن الأعمش، عن زيادة بن حصين، عن أبي العالية، قال: كنت أمشي مع ابن عباس وهو محرم، وهو يرتجز ويقول:
وهن يمشين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا (1)
قال: قلت: أترفث يا ابن عباس وأنت محرم؟ قال: إنما الرفث ما روجع به النساء.
3581 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان ويحيى بن سعيد، عن ابن جريج، قال: أخبرنا ابن الزبير السبائي وعطاء: أنه سمع طاوسا قال: سمعت ابن الزبير يقول: لا يحل للمحرم الإعرابة. فذكرته لابن عباس، فقال: صدق! قلت لابن عباس: وما الإعراب؟ قال: التعريض. (2)
3582 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا يحيى، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني الحسن بن مسلم، عن طاوس أنه كان يقول: لا يحل للمحرم
__________
(1) انظر التعليق السالف: 126 تعليق: 1
(2) الخبر: 3581 -ابن الزبير السبائي: هكذا ثبت في المطبوعة؛ ولا أدري ما هذا؟ ولا من هو؟ ولولا كلمة"السبائي" لظننا أنه"أبو الزبير محمد بن مسلم بن تدرس الأسدي المكي" التابعي المشهور، فإنه من هذه الطبقة. وانظر تفسير"الإعرابة" والإعراب" فيما سلف ص: 125، تعليق: 3.(4/127)
الإعرابة. قال طاوس: والإعرابة: أن يقول وهو محرم:" إذا حللت أصبتك".
3583 - حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فطر، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، قال: لا يكون رفث إلا ما واجهت به النساء. (1)
3584 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن عطاء قال: كانوا يكرهون الإعرابة - يعني التعريض بذكر الجماع - وهو محرم.
3585 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، عن ابن طاوس أنه سمع أباه أنه كان يقول: لا تحل الإعرابة."والإعرابة" التعريض.
3586 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: سألت ابن عباس عن قول الله تعالى:" فلا رفث" قال: الرفث الذي ذكر ههنا، ليس بالرفث الذي ذكر في: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187] ومن" الرفث"، التعريض بذكر الجماع، وهي الإعرابة بكلام العرب. (2)
3587 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا أبو معاوية: قال: حدثنا ابن جريج، عن عطاء: أنه كره التعريب للمحرم.
3588 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال:
__________
(1) الأثر: 3583 - فطر، هو فطر بن خليفة القرشي المخزومي مولاهم. وكان في المطبوعة"قطر" بالقاف، ومضى مرارا، وظننته تصحيفا مع الطابع ولكنه تكرر فنبهت هنا عليه، وعلى تصويبه.
(2) انظر ما سلف في الجزء 3: 487(4/128)
أخبرني ابن طاوس أن أباه كان يقول: الرفث: الإعرابة مما وراه من شأن النساء، والإعرابة: الإيضاح بالجماع. (1)
3589 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: حدثنا الحسن بن مسلم أنه سمع طاوسا يقول: لا يحل للمحرم الإعرابة.
3590 - حدثني علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" فلا رفث" قال: الرفث: غشيان النساء والقبل والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك.
3591 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن مجاهد قال: كان ابن عمر يقول للحادي: لا تعرض بذكر النساء.
3592 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر وابن جريج، عن ابن طاوس عن أبيه، عن ابن عباس، قال: الرفث في"الصيام": الجماع، والرفث في"الحج" الإعرابة. وكان يقول: الدخول والمسيس الجماع.
* * *
وقال آخرون:"الرفث" في هذا الموضع: الجماع نفسه.
* ذكر من قال ذلك:
3593 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، قال: الرفث: الجماع.
3594 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.
__________
(1) في المطبوعة: "مما رواه من شأن النساء" والصواب ما أثبت ومعناه: مما كنى به من شأن النساء وما عرض به من ذكرهن.(4/129)
3595 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الرفث: إتيان النساء.
3596 - حدثنا عبد الحميد قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن الرفث، فقال: الجماع.
3597 - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن سفيان، عن عاصم الأحول، عن بكر بن عبد الله، عن ابن عباس قال: الرفث: هو الجماع، ولكن الله كريم يكني عما شاء.
3598 - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن الأعمش، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية قال: سمعت ابن عباس يرتجز وهو محرم، يقول:
خرجن يسرين بنا هميسا ... إن تصدق الطير ننك لميسا (1)
= قال شريك:"إلا أنه لم يكن عن الجماع" - لميسا. (2) فقلت: أليس هذا الرفث؟ قال: لا إنما الرفث: إتيان النساء والمجامعة.
3599 - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن عون، عن زياد بن حصين، عن أبي العالية، عن ابن عباس بنحوه - إلا أن عونا صرح به.
3600 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس، قال: الرفث الجماع.
3601 - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله قوله:" فلا رفث" قال: الرفث إتيان النساء.
__________
(1) انظر تخريجه فيما سلف: 126 تعليق 1. وهذه رواية تخالف الماضية: "وهن يمشين".
(2) يريد أن شريكا أنشد البيت: "إن تصدق الطير" ثم قطع الإنشاد وقال: "ألا إنه لم يكن الجماع" ثم عاد للإنشاد فقال: "لميسا"، ولم ينطق الكلمة.(4/130)
3602 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:" فلا رفث"، قال: الرفث: غشيان النساء.
3603 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عمرو بن دينار: الرفث: الجماع فما دونه من شأن النساء.
3604 - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار بنحوه.
3605 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث الجماع.
3606 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عمرو، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد:" فلا رفث"، قال: الرفث الجماع.
3607 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد، عن قتادة في قوله:" فلا رفث" قال: كان قتادة يقول: الرفث: غشيان النساء.
3608 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة مثله.
3609 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الرفث: الجماع.
3610 -حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن الحسن بن عبيد الله، عن أبي الضحى، عن ابن عباس، قال: الرفث: الجماع.
3611 -حدثنا أحمد، حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: الرفث: الجماع.
3612 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الرفث: المجامعة.(4/131)
3613 -حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فلا رفث" فلا جماع.
3614 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فلا رفث" قال: الرفث: الجماع.
3615 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فلا رفث" قال: جماع النساء.
3616 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث: الجماع.
3617 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الرفث: الجماع.
3618 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الرفث الجماع.
3619 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة قال: الرفث: الجماع. (1)
3620 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، قال: الرفث: الجماع.
3621 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن حسين بن عقيل = وحدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق = قالا أخبرنا حسين بن عقيل، عن الضحاك، قال: الرفث: الجماع.
3622 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال:
__________
(1) الأثر: 3619 - يحيى بن بشر الخراساني ترجم له البخاري في الكبير 4/2/263، وذكر أنه سمع عكرمة عن ابن عباس.(4/132)
أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس، مثله - قال: وأخبرنا عبد الملك، عن عطاء، مثله.
3623 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن = وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم = قالا مثل ذلك.
3624 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين - وأخبرنا مغيرة، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
3625 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الرفث: النكاح.
3626 - حدثنا أحمد بن حازم قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثني ثوير، قال: سمعت ابن عمر يقول الرفث: الجماع.
3627 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الرفث: غشيان النساء = قال معمر: وقال مثل ذلك الزهري عن قتادة.
3628 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: الرفث: إتيان النساء، وقرأ: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [البقرة: 187]
3629 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:" فلا رفث" قال: الرفث: الجماع.
3630 - حدثنا ابن حميد، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن الله جل ثناؤه نهى -من فرض الحج في أشهر الحج- عن الرفث، فقال:" فمن فرض فيهن الحج فلا رفث". و"الرفث" في كلام العرب: أصله الإفحاش في المنطق على ما قد(4/133)
بينا فيما مضى، ثم تستعمله في الكناية عن الجماع. (1) فإذ كان ذلك كذلك، (2) وكان أهل العلم مختلفين في تأويله، وفي هذا النهي من الله عن بعض معاني"الرفث" أم عن جميع معانيه؟ - وجب أن يكون على جميع معانيه، إذ لم يأت خبر = بخصوص"الرفث" الذي هو بالمنطق عند النساء من سائر معاني"الرفث" = (3) يجب التسليم له، إذ كان غير جائز نقل حكم ظاهر آية إلى تأويل باطن إلا بحجة ثابتة.
* * *
فإن قال قائل: إن حكمها من عموم ظاهرها إلى الباطن من تأويلها، (4) منقول بإجماع. وذلك أن الجميع لا خلاف بينهم في أن"الرفث" عند غير النساء غير محظور على محرم، فكان معلوما بذلك أن الآية معني بها بعض"الرفث" دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن لا يحرم من معاني"الرفث" على المحرم شيء إلا ما أجمع على تحريمه عليه، أو قامت بتحريمه حجة يجب التسليم لها.
قيل: إن ما خص من الآية فأبيح، خارج من التحريم، والحظر ثابت لجميع ما لم تخصصه الحجة من معنى"الرفث" بالآية، كالذي كان عليه حكمه لو لم يخص منه شيء، لأن ما خص من ذلك وأخرج من عمومه إنما لزمنا إخراج حكمه من الحظر بأمر من لا يجوز خلاف أمره، فكان حكم ما شمله معنى الآية - بعد الذي خص منها- على الحكم الذي كان يلزم العباد فرضه بها لو لم يخصص منها شيء، لأن العلة فيما لم يخصص منها بعد الذي خص منها، نظير العلة فيه قبل أن يخص منها شيء.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في الجزء 3: 487، 488.
(2) في المطبوعة: "فإن كان ذلك كذلك" وهو خطأ والصواب ما أثبت.
(3) السياق: "إذ لم يأت خبر يجب التسليم له".
(4) في المطبوعة: "فإن قال قائل بأن حكمها. . . " والصواب ما أثبت وانظر مراجع"الظاهر والباطن" في فهارس الأجزاء السالفة، وهذا الجزء.(4/134)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا فُسُوقَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الفسوق"، التي نهى الله عنها في هذا الموضع، (1) فقال بعضهم: هي المعاصي كلها.
* ذكر من قال ذلك:
3631 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال الفسوق: المعاصي.
3632 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء:" ولا فسوق"، قال: الفسوق المعاصي.
3633 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثني محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الفسوق: المعاصي كلها، قال الله تعالى: (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ) [البقرة: 282]
3634 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عطاء، مثله.
3635 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:" ولا فسوق"، قال: الفسوق المعاصي.
3636 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، قال: الفسوق: المعصية.
3637 - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الفسوق: المعاصي كلها.
3638 - حدثني يعقوب قال: أخبرنا ابن عيينة، عن روح بن القاسم،
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"الفسق" 1: 409-410/ 2: 118، 399.(4/135)
عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:" ولا فسوق"، قال: الفسوق: المعاصي.
3639 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي في قوله:" ولا فسوق" قال: الفسوق المعاصي كلها.
3640 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية = وحدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد = جميعا، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة:" ولا فسوق"، قال: الفسوق المعاصي.
3641 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا فسوق" قال: المعاصي.
3642 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3643 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الفسوق المعاصي = قال: وقال مجاهد مثل قول سعيد.
3644 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: الفسوق المعاصي.
3645 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ولا فسوق"، قال: الفسوق: عصيان الله.
3646 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا فسوق" قال: الفسوق المعاصي.
3647 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الفسوق المعاصي.
3648 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.(4/136)
3649 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا الحجاج، عن عطاء، عن ابن عباس:" ولا فسوق" قال: المعاصي = قال: وأخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله.
3650 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
3651 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، مثله.
3652 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر، عن عكرمة قال: الفسوق معصية الله، لا صغير من معصية الله.
3653 - حدثني علي بن داود، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" ولا فسوق" قال: الفسوق: معاصي الله كلها.
3654 - حدثني الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه = وعن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: الفسوق: المعاصي. وقال مثل ذلك الزهري وقتادة.
* * *
وقال آخرون: بل"الفسوق" في هذا الموضع: ما عصي الله به في الإحرام مما نهى عنه فيه، من قتل صيد، وأخذ شعر، وقلم ظفر، وما أشبه ذلك مما خص الله به الإحرام، وأمر بالتجنب منه في خلال الإحرام.
* ذكر من قال ذلك:
3655 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن(4/137)
نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الفسوق إتيان معاصي الله في الحرم.
3656 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الفسوق: ما أصيب من معاصي الله به، صيد أو غيره. (1)
* * *
وقال آخرون: بل"الفسوق" في هذا الموضع: السباب.
* ذكر من قال ذلك:
3657 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عمر، قال: الفسوق: السباب.
3658 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الفسوق: السباب.
3659 - حدثني أحمد بن حازم الغفاري، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا إسرائيل، قال: حدثنا ثوير، قال: سمعت ابن عمر يقول: الفسوق: السباب.
3660 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام عن عمرو، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد:" ولا فسوق"، قال: الفسوق السباب.
3661 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:" ولا فسوق"، قال: أما الفسوق: فهو السباب.
3662 - حدثني المثنى، قال: حدثنا معلى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: الفسوق السباب.
3663 - حدثني المثنى، قال: حدثنا معلى، قال: حدثنا عبد العزيز، عن موسى بن عقبة، قال: سمعت عطاء بن يسار يحدث نحوه.
3664 - حدثنا القاسم، قال: حدثني الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال:
__________
(1) قوله: "من معاصي الله به"، أي بالحرم.(4/138)
أخبرنا يونس، عن الحسن = قال: وأخبرنا مغيرة، عن إبراهيم = قالا الفسوق السباب.
3665 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: الفسوق: السباب.
3666 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:" ولا فسوق" قال: الفسوق: السباب.
3667 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور عن إبراهيم، مثله.
* * *
وقال آخرون:"الفسوق": الذبح للأصنام.
* ذكر من قال ذلك:
3668 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في"الفسوق": الذبح للأنصاب، وقرأ: (أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) [الأنعام: 145] فقطع ذلك أيضا، (1) قطع الذبح للأنصاب بالنبي صلى الله عليه وسلم، حين حج فعلم أمته المناسك.
* * *
وقال آخرون:"الفسوق": التنابز بالألقاب.
*ذكر من قال ذلك:
3669 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا حسين بن عقيل، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول، فذكر مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال التي ذكرنا بتأويل الآية في ذلك، قول من
__________
(1) قوله: "قطع ذلك أيضًا " يشير إلى ما قطع من الرفث وحرم.(4/139)
قال: معنى قوله:" ولا فسوق" النهي عن معصية الله في إصابة الصيد، وفعل ما نهى الله المحرم عن فعله في حال إحرامه.
وذلك أن الله جل ثناؤه قال:" فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق"، يعني بذلك: فلا يرفث، ولا يفسق، أي لا يفعل ما نهاه الله عن فعله في حال إحرامه، ولا يخرج عن طاعة الله في إحرامه. وقد علمنا أن الله جل ثناؤه قد حرم معاصيه على كل أحد، محرما كان أو غير محرم، وكذلك حرم التنابز بالألقاب في حال الإحرام وغيرها بقوله: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ) [الحجرات: 11] وحرم على المسلم سباب أخيه في كل حال، فرض الحج أو لم يفرضه.
فإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي نهى الله عنه العبد من الفسوق في حال إحرامه وفرضه الحج، هو ما لم يكن فسوقا في حال إحلاله وقبل إحرامه بحجه، كما أن"الرفث" الذي نهاه عنه في حال فرضه الحج، هو الذي كان له مطلقا قبل إحرامه. لأنه لا معنى لأن يقال فيما قد حرم الله على خلقه في كل الأحوال:"لا يفعلن أحدكم في حال الإحرام ما هو حرام عليه فعله في كل حال". لأن خصوص حال الإحرام به لا وجه له، وقد عم به جميع الأحوال من الإحلال والإحرام.
فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذي نهى عنه المحرم من"الفسوق" فخص به حال إحرامه، وقيل له:" إذا فرضت الحج فلا تفعله"، هو الذي كان له مطلقا قبل حال فرضه الحج، وذلك هو ما وصفنا وذكرنا أن الله جل ثناؤه خص بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه مما نهاه عنه: من الطيب، واللباس، والحلق، وقص الأظفار، وقتل الصيد، وسائر ما خص الله بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه.
* * *(4/140)
فتأويل الآية إذا: فمن فرض الحج في أشهر الحج فأحرم فيهن، فلا يرفث عند النساء فيصرح لهن بجماعهن، ولا يجامعهن، ولا يفسق بإتيان ما نهاه الله في حال إحرامه بحجه، من قتل صيد، وأخذ شعر، وقلم ظفر، وغير ذلك مما حرم الله عليه فعله وهو محرم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك: النهي عن أن يجادل المحرم أحدا.
ثم اختلف قائلو هذا القول.
فقال بعضهم: نهى عن أن يجادل صاحبه حتى يغضبه.
* ذكر من قال ذلك:
3670 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله:" ولا جدال في الحج"، قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3671 - حدثنا عبد الحميد، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن"الجدال"، فقال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3672 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عيينة، عن خصيف، عن مقسم، عن ابن عباس، قال: الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3673 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن عبد الملك بن سليمان، عن عطاء، قال: الجدال: أن يماري الرجل أخاه حتى يغضبه.(4/141)
3674 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن سالم الأفطس، عن سعيد بن جبير:" ولا جدال في الحج" قال: أن تمحن صاحبك حتى تغضبه. (1)
3675 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن شعيب بن خالد، عن سلمة بن كهيل، قال: سألت مجاهدا عن قوله:" ولا جدال في الحج"، قال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3676 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار قال: الجدال هو أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3677 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا حماد بن مسعدة، قال: حدثنا عوف، عن الحسن، قال: الجدال: المراء.
3678 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الجدال: أن تجادل صاحبك حتى تغضبه.
3679 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير، قال: الجدال: أن تصخب [على] صاحبك. (2)
3680 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج" قال: المراء.
__________
(1) أنا في شك من هذه اللفظة: "تمحن"، وإن كان لها وجه في العربية، من قولهم: محنت الفضة: إذا أذبتها بالنار لتختبرها، ومحن الفرس بالعدو: جهده ومحنه بالسوط: ضربه. كل هذا صالح في مجاز المماراة والمخاصمة. ولكني أظن صوابها: "تمحك" من قولهم: محكه، إذا نازعه في الكلام وتمادى حتى يغضبه، منه حديث علي: "لا تضيق به الأمور ولا تمحكه الخصوم". والمحك المشارة والمنازعة في الكلام، واللجاج والتمادي عند المساومة والغضب وغيرها.
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها، والصخب الصياح والجلبة، صخب يصخب صخبا، وهو فعل غير متعد. وسيأتي في الآثار الآتية: أن الجدال هو الصخب والمراء.(4/142)
3681 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق = وحدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم = قالا حدثنا حسين بن عقيل، عن الضحاك قال: الجدال أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3682 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا واقد الخلقاني، عن عطاء، قال: أما الجدال: فتماري صاحبك حتى تغضبه. (1)
3683 - حُدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: الجدال: المراء، أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3684 - حدثني المثنى، قال: حدثنا المعلى بن أسد، قال: حدثنا خالد، عن المغيرة، عن إبراهيم قال: الجدال المراء.
3685 - حدثني المثنى، قال: حدثنا المعلى، قال: حدثنا عبد العزيز، عن موسى بن عقبة، قال: سمعت عطاء بن يسار يحدث نحوه.
3686 - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن أبي جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم بمثله.
3687 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج بن المنهال، قال: حدثنا حماد، عن الحجاج، عن عطاء بن أبي رباح، قال: الجدال: أن يماري بعضهم بعضا حتى يغضبوا.
3688 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن
__________
(1) الخبر: 3682 - واقد الخلقاني: هو"واقد بن عبد الله الخلقاني الكوفي الحنظل". ترجمه البخاري في الكبير 4/2/173 وقال: "سمع عطاء". وترجمه ابن أبي حاتم 4/2/33، وزاد أنه"بياع الغنم" وأنه"روى عنه وكيع، ومروان الفزاري وأبو نعيم" وأنه سأل عنه أباه، فقال: "شيخ محله الصدق". وله رواية في المسند: 539"عمن رأى عثمان بن عفان" ولكنه نسب فيه التميمي". و"الحنظلي": تميمي أيضًا. وقد وهم فيه الحسيني، وتعقبه الحافظ في التعجيل: 435- 436 فأحسن بيانه. و"الخلقاني" قال ابن الأثير في اللباب: "بضم الخاء [يعني المعجمة] وسكون اللام وفتح القاف وفي آخرها نون: هذه النسبة إلى بيع الخلق من الثياب وغيرها".(4/143)
يحيى بن بشر، عن عكرمة:" ولا جدال " الجدال الغضب، أن تغضب عليك مسلما، إلا أن تستعتب مملوكا فتعظه من غير أن تغضبه، ولا إثم عليك إن شاء الله تعالى في ذلك. (1)
3689 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن النضر بن عربي، عن عكرمة، قال: الجدال: أن تماري صاحبك حتى يغضبك أو تغضبه.
3690 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة قالا الجدال هو الصخب والمراء وأنت محرم.
3691 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: الجدال ما أغضب صاحبك من الجدل.
3692 - حدثني علي، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" ولا جدال في الحج"، قال: الجدال: المراء والملاحاة حتى تغضب أخاك وصاحبك، فنهى الله عن ذلك.
3693 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن خصيف، عن مقسم عن ابن عباس، قال: الجدال: أن تماري صاحبك حتى تغضبه.
3694 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن منصور، عن إبراهيم، قال: الجدال: المراء.
3695 - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري وقتادة قالا هو الصخب والمراء وأنت محرم.
__________
(1) الأثر: 3688 - في تفسير ابن كثير 1: 460 وفيه"ولا بأس عليك إن شاء الله". وفي المطبوعة هنا"ولا أمر عليك"، ولعل الصواب ما أثبت. واستعبه: رده عن الإساءة يعني تأديبه.(4/144)
3696 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا جدال في الحج"، كانوا يكرهون الجدال.
* * *
وقال آخرون منهم:"الجدال" في هذا الموضع، معناه: السباب.
* ذكر من قال ذلك:
3697 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس أن نافعا أخبره أن عبد الله بن عمر كان يقول: الجدال في الحج: السباب والمراء والخصومات.
3698 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر، قال: الجدال: السباب والمنازعة.
3699 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الجدال: السباب.
3700 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد = وحدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية = جميعا، عن سعيد، عن قتادة، قال: الجدال: السباب.
* * *
وقال آخرون منهم: بل عنى بذلك خاصا من الجدال والمراء، وإنما عنى الاختلاف فيمن هو أتم حجا من الحجاج.
* ذكر من قال ذلك:
3701 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي، قال:"الجدال"، كانت قريش إذا اجتمعت بمنى قال هؤلاء:"حجنا أتم من حجكم! "، وقال هؤلاء:"حجنا أتم من حجكم! ".
* * *(4/145)
وقال آخرون منهم: بل ذلك اختلاف كان يكون بينهم في اليوم الذي فيه الحج، فنهوا عن ذلك.
*ذكر من قال ذلك:
3702 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن جبر بن حبيب، عن القاسم بن محمد أنه قال: الجدال في الحج أن يقول بعضهم:"الحج اليوم! "، ويقول بعضهم:"الحج غدا!.
* * *
وقال آخرون: بل اختلافهم ذلك في أمر مواقف الحج أيهم المصيب موقف إبراهيم.
* ذكر من قال ذلك:
3703 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" ولا جدال في الحج"، قال: كانوا يقفون مواقف مختلفة يتجادلون، كلهم يدعي أن موقفه موقف إبراهيم. فقطعه الله حين أعلم نبيه صلى الله عليه وسلم بمناسكهم.
* * *
وقال آخرون: بل قوله جل ثناؤه:" ولا جدال في الحج"، خبر من الله تعالى عن استقامة وقت الحج على ميقات واحد لا يتقدمه ولا يتأخره، وبطول فعل النسيء. (1)
* ذكر من قال ذلك:
3704 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز بن رفيع، عن مجاهد في قوله:" ولا جدال في الحج"، قال: قد استقام الحج ولا جدال فيه.
__________
(1) ستأتي صفة"النسيء" في الأثر: 3705، وقوله: "بطول" مصدر بطل الشيء بطولا وبطلانا. وقد أكثر الطبري من استعماله انظر ما سلف 2: 426 ثم الجزء 3: 205ن تعليق: 6، والتعليق فيهما.(4/146)
3705 - حدثني محمد بن عمرو، قال: أخبرنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد" ولا جدال في الحج"، قال: لا شهر ينسأ، ولا شك في الحج، قد بين. كانوا يسقطون المحرم ثم يقولون:"صفران" لصفر وشهر ربيع الأول، ثم يقولون:" شهرا ربيع" لشهر ربيع الآخر وجمادى الأولى، ثم يقولون:"جماديان" لجمادى الآخرة ولرجب، ثم يقولون لشعبان:"رجب"، ثم يقولون لرمضان:"شعبان"، ثم يقولون لشوال:"رمضان"، ويقولون لذي القعدة:"شوال"، ثم يقولون لذي الحجة:"ذا القعدة"، ثم يقولون للمحرم:"ذا الحجة"، فيحجون في المحرم. ثم يأتنفون فيحسبون على ذلك عدة مستقبلة على وجه ما ابتدءوا، (1) فيقولون:"المحرم وصفر وشهرا ربيع"، فيحجون في المحرم ليحجوا في كل سنة مرتين، فيسقطون شهرا آخر، فيعدون على العدة الأولى، فيقولون:"صفران، وشهرا ربيع" نحو عدتهم في أول ما أسقطوا.
3706 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
3707 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: صاحب النسيء الذي ينسأ لهم أبو ثمامة رجل من بني كنانة.
3708 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا ابن إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج" قال: لا شبهة في الحج، قد بين الله أمر الحج.
3709 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي" ولا جدال في الحج"، قال: قد استقام أمر الحج فلا تجادلوا فيه.
3710 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن
__________
(1) استأنف الشيء وائتنفه: أخذ أوله وابتدأه. من قولهم: أنف الشيء أي أوله.(4/147)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج" قال: لا شهر ينسأ، ولا شك في الحج قد بين.
3711 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، عن العلاء بن عبد الكريم، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج"، قال: قد علم وقت الحج، فلا جدال فيه ولا شك.
3712 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عبد العزيز والعلاء، عن مجاهد، قال: هو شهر معلوم لا تنازع فيه.
3713 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن سالم، عن مجاهد:" ولا جدال في الحج"، قال: لا شك في الحج.
3714 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس:" ولا جدال في الحج" قال: المراء بالحج.
3715 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد،" ولا جدال في الحج"، فقد تبين الحج. قال: كانوا يحجون في ذي الحجة عامين، وفي المحرم عامين، ثم حجوا في صفر عامين. وكانوا يحجون في كل سنة في كل شهر عامين، ثم وافقت حجة أبي بكر من العامين في ذي القعدة قبل حجة النبي صلى الله عليه وسلم بسنة، ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم من قابل في ذي الحجة، فذلك حين يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض".
3716 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:" ولا جدال في الحج" قال: بين الله أمر الحج ومعالمه فليس فيه كلام.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال في قوله:" ولا جدال في الحج" بالصواب،(4/148)
قولُ من قال: معنى ذلك: قد بطل الجدال في الحج ووقته، واستقام أمره ووقته على وقت واحد، ومناسك متفقة غير مختلفة، ولا تنازع فيه ولا مراء. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أن وقت الحج أشهر معلومات، ثم نفى عن وقته الاختلاف الذي كانت الجاهلية في شركها تختلف فيه.
وإنما اخترنا هذا التأويل في ذلك، ورأيناه أولى بالصواب مما خالفه، لما قد قدمنا من البيان آنفا في تأويل قوله:" ولا فسوق"، أنه غير جائز أن يكون الذي خص بالنهي عنه في تلك الحال [إلا ما هو] مطلق مباح في الحال التي يخالفها، (1) وهي حال الإحلال. وذلك أن حكم ما خص به من ذلك حكم حال الإحرام، إن كان سواء فيه حال الإحرام وحال الإحلال، فلا وجه لخصوصه به حالا دون حال، وقد عم به جميع الأحوال. وإذ كان ذلك كذلك، وكان لا معنى لقول القائل في تأويل قوله:" ولا جدال في الحج"، أن تأويله: لا تمار صاحبك حتى تغضبه، إلا أحد معنيين:
إما أن يكون أراد: لا تماره بباطل حتى تغضبه، فذلك ما لا وجه له. لأن الله عز وجل، قد نهى عن المراء بالباطل في كل حال، محرما كان المماري أو محلا فلا وجه لخصوص حال الإحرام بالنهي عنه، لاستواء حال الإحرام والإحلال في نهي الله عنه.
أو يكون أراد: لا تماره بالحق، وذلك أيضا ما لا وجه له. لأن المحرم لو رأى رجلا يروم فاحشة، كان الواجب عليه مراءه في دفعه عنها، أو رآه يحاول ظلمه والذهاب منه بحق له قد غصبه عليه، كان عليه مراؤه فيه وجداله حتى يتخلصه منه. والجدال والمراء لا يكون بين الناس إلا من أحد وجهين: إما من قبل ظلم، وإما من قبل حق، فإذا كان من أحد وجهيه غير جائز فعله بحال، ومن الوجه الآخر غير جائز تركه بحال، فأي وجوهه التي خص بالنهي عنه حال الإحرام؟
__________
(1) هذه الزيادة لا بد منها حتى يستقيم الكلام. وكان في الأصل أيضًا: "أنه غير جائز أن يكون الله خص. . " واستقامة الكلام تقتضي ما أثبت.(4/149)
وكذلك لا وجه لقول من تأوَّل ذلك أنه بمعنى السباب، لأن الله تعالى ذكره قد نهى المؤمنين بعضهم عن سباب بعض على لسان رسوله عليه الصلاة والسلام في كل حال، فقال صلى الله عليه وسلم:
3717 -" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر". (1)
= فإذا كان المسلم عن سب المسلم منهيا في كل حال من أحواله، محرما كان أو غير محرم، فلا وجه لأن يقال: لا تسبه قي حال الإحرام إذا أحرمت = وفيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر الذي:-
3718 - حدثنا به محمد بن المثنى، قال: حدثني وهب بن جرير، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج مثل يوم ولدته أمه".
3719 - حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. (2)
__________
(1) الحديث: 3717 - رواه الطبري بغير إسناد. وهو حديث صحيح ثابت من روايات كثيرة. فرواه أحمد في المسند: 3647، من حديث عبد الله بن مسعود. وكذلك رواه الشيخان والترمذي والنسائي وابن ماجه. وانظر بقية أرقامه في المسند في الاستدراك: 886. وثبت أيضًا من رواية صحابة آخرين، انظر الفتح الكبير 2: 150- 151.
(2) الحديث: 3718- 3720"سيار": بفتح السين وتشديد الياء: مضت ترجمته في: 39.
أبو حازم: هو الأشجعي واسمه"سلمان" مولى عزة الأشجعية. وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وليس"أبو حازم" هنا-"أبا حازم سلمة بن دينار صاحب سهل بن سعد" فإن سلمة لم يسمع من أبي هريرة، كما نص عليه الحافظ في الفتح 3: 302.
والحديث رواه أبو داود الطيالسي: 2519 عن سيار ومنصور- كلاهما عن أبي حازم.
ورواه أحمد في المسند: 9302 (2: 410 حلبي) والبخاري 3: 302- 303، كلاهما من طريق شعبة، عن سيار به.
وسيأتي مرة رابعة، من طريق شعبة عن سيار: 3725.(4/150)
3720 - حدثنا أحمد بن الوليد، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثل حديث ابن المثنى، عن وهب بن جرير.
3721 - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريره، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله أيضا.
3722 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا أبو الوليد، قال: حدثنا شعبة، قال: أخبرني منصور، قال: سمعت أبا حازم يحدث عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (1)
3723 - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، قال: أخبرنا محمد بن عبيد الله، عن الأعمش، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كما ولدته أمه". (2)
3724 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن سفيان، عن منصور، عن أبي حازم، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه
__________
(1) الحديثان: 3721، 3722 - منصور: هو ابن المعتمر. وقد سمع منصور هذا الحديث من أبي حازم، كما صرح بذلك في الإسناد الثاني. فانتفت بذلك شبهة عدم سماعه هذا الحديث منه. كما سيأتي بيانه في: 3726، 3727.
* والحديث من هذا الوجه -رواه الطيالسي: 2519، عن شعبة- كما أشرنا من قبل.
* ورواه أيضًا أحمد في المسند: 9300 (2: 410 حلبي) والبخاري 4: 17 (فتح) كلاهما من طريق شعبة عن منصور.
(2) الحديث: 3723 -هو في معنى الأحاديث قبله وبعده. وقد رواه الدارقطني في سننه ص: 282، من طريق حجاج بن أرطأة عن الأعمش بهذا الإسناد بلفظ: "من حج أو اعتمر، فلم يرفث ولم يفسق، يرجع كهيئته يوم ولدته أمه". فزاد الحجاج بن أرطأة لفظ"أو اعتمر".
* وأشار الحافظ في الفتح 3: 302 -إلى رواية الدارقطني هذه، وقال: "لكن في الإسناد إلى الأعمش ضعف".(4/151)
وسلم، فذكر مثله - إلا أنه قال: رجع كما ولدته أمه. (1)
3725 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو أسامة، عن شعبة، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه، إلا أنه قال: رجع إلى أهله مثل يوم ولدته أمه".
3726 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن إبراهيم بن طهمان، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال، فذكر نحوه - إلا أنه قال: رجع إلى أهله مثل يوم ولدته أمه.
3727 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن أبي بكير، عن إبراهيم بن طهمان، عن منصور عن هلال بن يساف، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج هذا البيت - يعني الكعبة- فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه. (2)
__________
(1) الحديث: 3724 -سفيان: هو الثوري. والحديث -من هذا الوجه- رواه أحمد في المسند: 10279 (2: 484 حلبي) عن وكيع وعبد الرحمن بن مهدي كلاهما عن سفيان. وكذلك رواه البخاري 4: 17 (فتح) عن محمد بن يوسف -وهو الفريابي- عن سفيان.
* وقد رواه أحمد أيضًا: 7375 (2: 248 حلبي) عن سفيان عن منصور. وسفيان هنا: هو ابن عيينة.
(2) الحديثان: 3726، 3727 -هما إسناد واحد مكرر لحديث واحد. لم يذكر لفظه كاملا في أولهما، وذكره في ثانيهما. ولا أدري سبب هذا؟
* يعقوب بن إبراهيم: هو الدورقي الحافظ، مضى مرارا، آخرها: 3223. يحيى بن أبي بكير- بضم الباء الموحدة وفتح الكاف- الأسدي القيسي: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة مات سنة 208 أو 209. ووقع في المطبوعة هنا"يحيى بن أبي كثير". وهو خطأ فإن ابن أبي كثير قديم الوفاة مات سنة 129 أو 132. ويعقوب الدورقي ولد سنة 166، فلا يعقل أن يروى عنه.
* وإبراهيم بن طهمان الخراساني: ثقة صحيح الحديث، أخرج له الأئمة الستة. منصور: هو ابن المعتمر، كما مضى في بعض الأسانيد السابقة.
* هلال بن يساف -ويقال: إساف- الأشجعي الكوفي: تابعي ثقة كبير، لعله أقدم من أبي حازم. و"يساف": بكسر الياء التحتية وفتح السين المهملة مخففة. وكذلك"إساف" بالهمزة بدل الياء. ووقع في المطبوعة هنا في الإسنادين"هلال بن يسار". وهو خطأ صرف.
* والحديث -من هذا الوجه- رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 262 من طريق محمد بن إسماعيل الصائغ عن يحيى بن أبي بكير، بهذا الإسناد.
* ومنصور قد سمع هذا الحديث من أبي حازم مباشرة، كما صرح بذلك في الرواية الماضية: 3722. فقال الحافظ في الفتح 4: 17"فانتفى بذلك تعليل من أعله بالاختلاف على منصور. لأن البيهقي أورده من طريق إبراهيم بن طهمان عن منصور عن هلال بن يساف، عن أبي حازم زاد فيه رجلا. فإن كان إبراهيم حفظه، فلعله حمله منصور عن هلال، ثم لقى أبا حازم فسمعه منه، فحدث به على الوجهين".
* ونزيد هنا أن الحديث رواه أيضًا أحمد في المسند: 10414 (2: 494 حلبي) عن جرير عن منصور عن أبي حاتم وكذلك رواه مسلم 1: 382 من طريق جرير.
* ورواه مسلم أيضًا من طريق أبي عوانة وأبي الأحوص ومسعر والثوري وشعبة -كلهم عن منصور عن أبي حازم. وكذلك رواه النسائي 2: 3- 4 من طريق الفضيل بن عياض عن منصور به.(4/152)
3728 - حدثنا الفضل بن الصباح، قال: حدثنا هشيم بن بشير، عن سيار، عن أبي حازم، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كهيئة يوم ولدته أمه. (1)
* * *
(2)
=دلالة واضحة على أن قوله:" ولا جدال في الحج" بمعنى النفي عن الحج بأن يكون في وقته جدال ومراء دون النهي عن جدال الناس بينهم فيما يعنيهم من الأمور أو لا يعنيهم.
وذلك أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه من حج فلم يرفث ولم يفسق، استحق من الله الكرامة ما وصف أنه استحقه بحجه، تاركا للرفث والفسوق اللذين نهى الله الحاج عنهما في حجه، من غير أن يضم إليهما الجدال. فلو كان الجدال الذي ذكره الله في قوله:" ولا جدال في الحج" مما نهاه الله عنه بهذه الآية - على نحو الذي تأول ذلك من تأوله: من أنه المراء والخصومات أو السباب وما أشبه ذلك - لما كان صلى الله عليه وسلم ليخص باستحقاق الكرامة التي ذكر أنه يستحقها الحاج
__________
(1) الحديث: 3728 -رواه أحمد في المسند: 7136، عن هشيم بهذا الإسناد وكذلك رواه مسلم 1: 382- 383، عن سعيد بن منصور عن هشيم به، وانظر ما سيأتي رقم: +3059.
(2) أول هذا الكلام في ص 150، قوله: "فيما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الخبر. . . دلالة" وفصلت بين الخبر والمبتدأ الأحاديث المتتابعة.(4/153)
الذي وصف أمره، باجتناب خلتين مما نهاه الله عنه في حجه دون الثالثة التي هي مقرونة بهما.
ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها = في أنها خبر على المعنى الذي وصفنا، وأن الأخريين بمعنى النهي الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مجتنبهما في حجه مستوجب ما وصف من إكرام الله إياه مما أخبر أنه مكرمه به - إذ كانتا بمعنى النهي- (1) وكان المنتهي عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما = ترك ذكر الثالثة، (2) إذ لم تكن في معناهما، وكانت مخالفة سبيلها سبيلهما.
* * *
فإذ كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بالقراءة من القراءات المخالفة بين إعراب "الجدال" وإعراب "الرفث والفسوق"، ليعلم سامع ذلك - إذا كان من أهل الفهم باللغات- أن الذي من أجله خولف بين إعرابيهما اختلاف معنييهما.
وإن كان صوابا قراءة جميع ذلك باتفاق إعرابه على اختلاف معانيه، إذ كانت العرب قد تتبع بعض الكلام بعضا بإعراب، مع اختلاف المعاني، وخاصة في هذا النوع من الكلام.
فأعجب القراءات إلي في ذلك - إذ كان الأمر على ما وصفت - قراءة من قرأ:" فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج"، برفع"الرفث والفسوق" وتنوينهما، وفتح"الجدال" بغير تنوين. وذلك هو قراءة جماعة البصريين، وكثير من أهل مكة، منهم عبد الله بن كثير وأبو عمرو بن العلاء. (3)
* * *
وأما قول من قال: معناه: النهي عن اختلاف المختلفين في أتمهم حجا،
__________
(1) في المطبوعة: "إذا كانتا بمعنى النهي" وهو خطأ والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "وترك ذكر الثالثة" وهذه الواو مقحمة من النساخ بلا شك. وسياق هذه الجملة بطولها: "ولكن لما كان معنى الثالثة مخالفا معنى صاحبتيها. . .، إذا كانتا بمعنى النهي، وكان المنتهى عنهما لله مطيعا بانتهائه عنهما. . . ترك ذكر الثالثة" وبهذا يتبين صواب التصحيح في لموضعين السالفين.
(3) انظر تفصيل ذلك مستوعبا في معاني القرآن للفراء 1: 120- 122.(4/154)
والقائلين:، معناه النهي عن قول القائل:"غدا الحج" مخالفا به قول الآخر:"اليوم الحج"، فقول في حكايته الكفاية عن الاستشهاد على وهائه وضعفه، (1) وذلك أنه قول لا تدرك صحته إلا بخبر مستفيض أوخبر صادق يوجب العلم أن ذلك كان كذلك، (2) فنزلت الآية بالنهي عنه؛ أو أن معنى ذلك في بعض معاني الجدال دون بعض، ولا خبر بذلك بالصفة التي وصفنا.
* * *
وأما دلالتنا على قول ما قلنا من أنه نفي من الله جل وعز عن شهور الحج، فالاختلاف الذي كانت الجاهلية تختلف فيها بينها قبل كما وصفنا. (3)
وأما دلالتنا على أن الجاهلية كانت تفعل ذلك، فالخبر المستفيض في أهل الأخبار أن الجاهلية كانت تفعل ذلك، مع دلالة قول الله تقدس اسمه: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا) [التوبة: 37]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: افعلوا أيها المؤمنون ما أمرتكم به في حجكم، من إتمام مناسككم فيه، وأداء فرضكم الواجب عليكم في إحرامكم، وتجنب ما أمرتكم بتجنبه من الرفث والفسوق في حجكم، لتستوجبوا به الثواب
__________
(1) هكذا في الأصل"على وهائه" وهو خطأ قديم في كلام الفقهاء. قال المطرزي في المغرب 2: 265: "قوله: "فإن حاضت في حال وهاء الملك" لا يعتد به. الوهاء بالمد خطأ وإنما الوهي (بفتح فسكون) مصدر: "وهي الحبل يهى وهيا" إذا ضعف". وأخشى أن يكون ذلك من ناسخ التفسير، لا من أبي جعفر وأن أصله"على وهيه وضعفه" فهو قد استعمل كلمة"الوهي" مرارا فيما سلف من عباراته، ولكني لم أستطع أن أجدها في هذا البحر من الكلام، ثم وجدتها بعد ذلك في هذا الجزء 4: 18، س: 7.
(2) في المطبوعة: "وخبر صادق" بالواو، وهو مخل بالكلام.
(3) في المطبوعة: "الاختلاف" بذف الفاء، والصواب إثباتها وإلا تخلع الكلام.(4/155)
الجزيل، فإنكم مهما تفعلوا من ذلك وغيره من خير وعمل صالح ابتغاء مرضاتي وطلب ثوابي، فأنا به عالم، ولجميعه محص، حتى أوفيكم أجره، وأجازيكم عليه، فإني لا تخفى علي خافية، ولا ينكتم عني ما أردتم بأعمالكم، لأني مطلع على سرائركم، وعالم بضمائر نفوسكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى}
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في قوم كانوا يحجون بغير زاد، وكان بعضهم إذا أحرم رمى بما معه من الزاد واستأنف غيره من الأزودة، (1) فأمر الله جل ثناؤه من لم يكن يتزود منهم بالتزود لسفره، ومن كان منهم ذا زاد أن يحتفظ بزاده فلا يرمي به.
* ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:
3729 - حدثني الحسين بن علي الصدائي، قال: حدثنا عمرو بن عبد الغفار، قال: حدثنا محمد بن سوقة، عن نافع، عن ابن عمر، قال: كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها واستأنفوا زادا آخر، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" فنهوا عن ذلك وأمروا أن يتزودوا الكعك والدقيق والسويق.
3730 - حدثنا محمد بن عبد الله المخرمي، قال: حدثنا شبابة، قال: حدثنا ورقاء، عن عمرو بن دينار، عن عكرمة عن ابن عباس، قال: كانوا يحجون ولا يتزودون، فنزلت:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" (2)
__________
(1) الأزودة: جمع زاد على غير قياس، وقياسه: أزواد.
(2) الأثر: 3730 -محمد بن عبد الله بن المبارك القرشي المخرمي (بضم الميم وفتح الخاء، وراء مشددة مكسورة) أبو جعفر البغدادي المدائني الحافظ، قاضي حلوان. مات سنة 254 ببغداد، كان أحد الثقات جليل القدر. وكان في المطبوعة: "المخزومي" هو خطأ كما ترى.(4/156)
3731 - حدثنا عمرو بن علي، قال: حدثنا سفيان، عن ابن سوقة، عن سعيد بن جبير في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: الكعك والزيت.
3732 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن ابن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: هو الكعك والسويق.
3733 - وحدثنا عمرو، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن عكرمة، قال: كان أناس يحجون، ولا يتزودون، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
3734 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا سفيان بن عيينة، قال: حدثنا عبد الملك بن عطاء، كوفي لنا = (1)
3735 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن عبد الملك، عن الشعبي في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" قال: التمر والسويق.
3736 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا حنظلة، قال: سئل سالم عن زاد الحاج، فقال: الخبز واللحم والتمر. قال عمرو: وسمعت أبا عاصم مرة يقول: حدثنا حنظلة سئل سالم عن زاد الحاج، فقال الخبز والتمر.
3737 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا ابن أبي عدي، عن هشيم، عن المغيرة،
__________
(1) الخبر: 3734 -عبد الملك بن عطاء: هو البكائي العامري، ختن الشعبي وهو ثقة وثقه ابن معين وغيره. و"البكائي": بفتح الباء وتشديد الكاف وبعد الألف همزة، نسبة إلى"البكاء" وهو"ربيعة بن عامر" من بني عامر بن صعصعة.
وقوله هنا"كوفي لنا"- لا أدري ما وجهه؟ ولعل أصله"كوفي جار لنا" أو نحو ذلك لأن سفيان ابن عيينة كوفي، ثم سكن مكة. فإني لم أجد لعبد الملك هذا ترجمة إلا عند ابن أبي حاتم 2/2/361 وروى فيها بإسناده إلى ابن نمير، قال: "عبد الملك بن عطاء، كان شيخا ثقة، روى عنه شيوخنا وهو كوفي له حديث أو حديثين".(4/157)
عن إبراهيم، قال: كان ناس من الأعراب يحجون بغير زاد، ويقولون:" نتوكل على الله! "، فأنزل الله جل ثناؤه:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
3738 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، قال: كان الحاج منهم لا يتزود، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
3739 - حدثنا عمرو، قال: حدثنا يحيى، عن عمر بن ذر = وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا عمر بن ذر = عن مجاهد قال: كانوا يسافرون ولا يتزودون، فنزلت:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". وقال الحسن بن يحيى في حديثه: كانوا يحجون ولا يتزودون.
3740 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، عن عمر بن ذر، عن مجاهد نحوه.
3741 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عمر بن ذر، قال: سمعت مجاهدا يحدث فذكر نحوه.
3742 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: أخبرنا إسحاق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان أهل الآفاق يخرجون إلى الحج يتوصلون بالناس بغير زاد، يقولون:" نحن متكلون". فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
3743 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" وتزودوا"، قال: كان أهل الآفاق يخرجون إلى الحج، يتوصلون بالناس بغير زاد، فأمروا أن يتزودوا.
3744 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان أهل اليمن يتوصلون بالناس، فأمروا أن يتزودوا ولا يستمتعوا. قال: وخير الزاد التقوى.
3745 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث،(4/158)
عن مجاهد:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كانوا لا يتزودون، فأمروا بالزاد، وخير الزاد التقوى.
3746 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، فكان الحسن يقول: إن ناسا من أهل اليمن كانوا يحجون ويسافرون، ولا يتزودون، فأمرهم الله بالنفقة والزاد في سبيل الله، ثم أنبأهم أن خير الزاد التقوى.
3747 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن سعيد بن أبي عروبة في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: قال قتادة: كان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون - ثم ذكر نحو حديث بشر عن يزيد.
3748 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان ناس من أهل اليمن يخرجون بغير زاد إلى مكة، فأمرهم الله أن يتزودوا، وأخبرهم أن خير الزاد التقوى.
3749 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان ناس يخرجون من أهليهم ليست معهم أزودة، يقولون:" نحج بيت الله ولا يطعمنا! ". فقال الله: تزودوا ما يكف وجوهكم عن الناس.
3750 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، فكان ناس من أهل اليمن يحجون ولا يتزودون، فأمرهم الله أن يتزودوا، وأنبأ أن خير الزاد التقوى.
3751 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير:" وتزودوا" قال: السويق والدقيق والكعك.
3752 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد(4/159)
بن سوقة، عن سعيد بن جبير:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: الخشكانج والسويق. (1)
3753 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن عبد الملك بن عطاء البكائي، قال: سمعت الشعبي يقول في قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: هو الطعام، وكان يومئذ الطعام قليلا. قال: قلت: وما الطعام؟ قال: التمر والسويق. (2)
3754 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، وخير زاد الدنيا المنفعة من اللباس والطعام والشراب.
3755 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كان الناس يتزودون إلى عقبة، فإذا انتهوا إلى تلك العقبة توكلوا ولم يتزودوا. (3)
3756 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، قال: قال سفيان في قوله:" وتزودوا"، قال: أمروا بالسويق والكعك.
3757 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرني أبي أنه سمع عكرمة يقول في قوله:" وتزودوا"، قال: هو السويق والدقيق.
3758 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في
__________
(1) في اللسان (كعك) وفي المغرب لجواليقي: 134"الخشكنان" قد تكلمت به العرب قال الراجز: يا حبذا الكعك بلحم مثرود ... وخشكنان وسويق مقنود
والخشكنانج هو الخشكنان: وهو طعام من دقيق مصنوع.
(2) الخبر: 3753 - مضت ترجمة"عبد الملك بن عطاء" في: 3734 وأنه"البكائي". ووقع في المطبوعة هنا"البكالي" باللام بدل الهمزة وهو خطأ وتصحيف.
(3) العقبة (بضم فسكون) قدر ما يسير السائر حتى ينزل.(4/160)
قوله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى"، قال: كانت قبائل من العرب يحرمون الزاد إذا خرجوا حجاجا وعمارا لأن يتضيفوا الناس، فقال الله تبارك تعالى لهم:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
3759 - حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآملي، قال: حدثنا سفيان عن عمرو، عن عكرمة قال: كان الناس يقدمون مكة بغير زاد، فأنزل الله:" وتزودوا فإن خير الزاد التقوى". (1)
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذا: فمن فرض في أشهر الحج الحج فأحرم فيهن، فلا يرفثن ولا يفسقن. فإن أمر الحج قد استقام لكم، وعرفكم ربكم ميقاته وحدوده، فاتقوا الله فيما أمركم به ونهاكم عنه من أمر حجكم ومناسككم، فإنكم مهما تفعلوا من خير أمركم به أو ندبكم إليه، يعلمه. وتزودوا من أقواتكم ما فيه بلاغكم إلى أداء فرض ربكم عليكم في حجكم ومناسككم، فإنه لا بر لله جل ثناؤه في ترككم التزود لأنفسكم ومسألتكم الناس ولا في تضييع أقواتكم وإفسادها، ولكن البر في تقوى ربكم باجتناب ما نهاكم عنه في سفركم لحجكم وفعل ما أمركم به، فإنه خير التزود، فمنه تزودوا.
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي الخبر عن الضحاك بن مزاحم.
3760 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" فإن خير الزاد التقوى"، قال: والتقوى عمل بطاعة الله.
وقد بينا معنى"التقوى" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الألْبَابِ (197)
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتقون يا أهل العقول والأفهام بأداء فرائضي عليكم التي أوجبتها عليكم في حجكم ومناسككم وغير ذلك من ديني الذي شرعته لكم = وخافوا عقابي باجتناب محارمي التي حرمتها عليكم، تنجوا بذلك مما تخافون من غضبي عليكم وعقابي، وتدركوا ما تطلبون من الفوز بجناتي.
* * *
وخص جل ذكره بالخطاب بذلك أولي الألباب، لأنهم هم أهل التمييز بين الحق والباطل، وأهل الفكر الصحيح والمعرفة بحقائق الأشياء التي بالعقول تدرك وبالألباب تفهم، ولم يجعل لغيرهم من أهل الجهل في الخطاب بذلك حظا، إذ كانوا أشباحا كالأنعام، وصورا كالبهائم، بل هم منها أضل سبيلا.
و"الألباب": جمع"لب"، وهو العقل. (3)
* * *
__________
(1) الخبر: 3759 -عمرو بن عبد الحميد الآملي- شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة ولعله محرف عن شيء لا أعرفه.
(2) انظر ما سلف 1: 232، 233، 364.
(3) انظر ما سلف في الجزء 3: 383.(4/161)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
القول في تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلا مِنْ رَبِّكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: ليس عليكم أيها المؤمنون جناح.
* * *
و"الجناح"، الحرج، (1) كما:-
3761 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"الجناح" من الجزء 3: 230، 231.(4/162)
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، وهو لا حرج عليكم في الشراء والبيع قبل الإحرام وبعده.
* * *
وقوله:" أن تبتغوا فضلا من ربكم"، يعني: أن تلتمسوا فضلا من عند ربكم.
يقال منه: ابتغيت فضلا من الله - ومن فضل الله- أبتغيه ابتغاء"، إذا طلبته والتمسته،" وبغيته أبغيه بغيا"، (1) كما قال عبد بني الحسحاس:
بغاك، وما تبغيه حتى وجدته ... كأنك قد واعدته أمس موعدا (2)
يعني طلبك والتمسك.
* * *
وقيل: إن معنى" ابتغاء الفضل من الله"، التماس رزق الله بالتجارة، وأن هذه الآية نزلت في قوم كانوا لا يرون أن يتجروا إذا أحرموا يلتمسون البر بذلك، فأعلمهم جل ثناؤه أن لا بر في ذلك، وأن لهم التماس فضله بالبيع والشراء.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير: "ابتغي" من الجزء 3: 508.
(2) ديوانه: 41 وسيأتي في التفسير 4: 15- 16/ 5: 45 (بولاق) وهذا البيت متعلق بثلاثة أبيات قبله، هو تمام معناها في ذكر الموت: رأيت المنايا لم يهبن محمدا ... ولا أحدا ولم يدعن مخلدا
ألا لا أرى على المنون ممهلا ... ولا باقيا إلا له الموت مرصدا
سيلقاك قرن لا تريد قتاله ... كمي إذا ما هم بالقرن أقصدا
بغاك وما تبغيه. . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وقوله: "حتى وجدته" رواية الديوان"إلا وجدته". ورواية الطبري عزيزة فهي شاهد قل أن نظفر به على أن"حتى" تأتي بمعنى"إلا" في الاستثناء وقد ذكر ذلك ابن هشام في المغني 1: 111 قال بعد ذكر وجوه"حتى": "وبمعنى إلا في لاستثناء، وهذا أقلها وقل من يذكره".(4/163)
3762 - حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي، عن عمر بن ذر، عن مجاهد، قال: كانوا يحجون ولا يتجرون، فأنزل الله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: في الموسم.
3763 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عمر بن ذر، قال: سمعت مجاهدا يحدث قال: كان ناس لا يتجرون أيام الحج، فنزلت فيهم" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". (1)
3764 - حدثني محمد بن عمارة الأسدي، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا أبو ليلى، عن بريدة في قوله تبارك وتعالى:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: إذا كنتم محرمين، أن تبيعوا وتشتروا.
3765 - حدثنا طليق بن محمد الواسطي، قال: أخبرنا أسباط، قال: أخبرنا الحسن ابن عمرو، عن أبي أمامة التيمي قال: قلت لابن عمر: إنا قوم نكرى، فهل لنا حج؟ قال: أليس تطوفون بالبيت، وتأتون المعرف وترمون الجمار، وتحلقون رؤوسكم؟ فقلنا: بلى! قال: جاء رجل إلى النبي: صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني عنه، فلم يدر ما يقول له، حتى نزل جبريل عليه السلام عليه بهذه الآية:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إلى آخر الآية، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنتم حجاج. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "فنزلت فيهم: لا جناح عليكم أن تبتغوا. . " وبين أنه خطأ وسهو.
(2) الحديث: 3765 -طليق بن محمد بن السكن الواسطي شيخ الطبري: ثقة، قال ابن حبان في الثقات: "مستقيم الحديث كالأثبات". وهو من شيوخ النسائي وابن خزيمة وغيرهما. وهذا الباب باب"طليق": نص الذهبي في المشتبه على أنه بفتح الطاء وتبعه الحافظ ابن حجر في تحرير المشتبه. ولم يذكرا غير هذا الضبط. ولكن الحافظ في التقريب ضبط أول اسم فيه"بالتصغير" بالنص على ذلك. وأنا أرجح أنه وهم منه، رحمه الله.
أسباط: هو ابن محمد بن عبد الرحمن بن خالد بن ميسرة وهو ثقة من شيوخ أحمد وابن راهويه وغيرهما. الحسن بن عمرو الفقيمي -بضم الفاء- التميمي الكوفي: ثقة أخرج له البخاري في صحيحه ابو أمامة التيمي: تابعي ثقة. بينا ترجمته ومراجعها في شرح المسند: 6434.
والحديث رواه أحمد في المسند: 6434 عن أسباط بن محمد بهذا الإسناد. وقد فصلنا القول في تخريجه هناك. ونقله ابن كثير 1: 463 عن المسند و 464 عن هذا الموضع من الطبري وسيأتي بإسناد آخر: 3789.(4/164)
3766 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: أخبرنا أيوب، عن عكرمة، قال: كانت تقرأ هذه الآية:"ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
3767 - حدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن منصور بن المعتمر في قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: هو التجارة في البيع والشراء، والاشتراء لا بأس به.
3768 - حدثت عن أبي هشام الرفاعي، قال: حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
3769 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، عن علي بن مسهر، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كان متجر الناس في الجاهلية عكاظ وذو المجاز، فلما جاء الإسلام كأنهم كرهوا ذلك، حتى أنزل الله جل ثناؤه:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم".
3770 - حدثنا الحسن بن عرفة، قال: حدثنا شبابة بن سوار، قال: حدثنا شعبة، عن أبي أميمة، قال: سمعت ابن عمر - وسئل عن الرجل يحج ومعه تجارة - فقرأ ابن عمر:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". (1)
3771 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم = وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم = قال: أخبرنا يزيد بن أبي
__________
(1) الخبر: 3770 -أبو أميمة: الراجح الظاهر أنه"أبو أمامة التيمي" الماضي في الحديث 3765، وأن هذا الخبر مختصر من ذاك الحديث ولكنه موقوف على ابن عمر.
وقد نقله ابن كثير 1: 463، عن هذا الموضع من الطبري وقال: "وهذا موقوف، وهو قوي جيد".(4/165)
زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كانوا لا يتجرون في أيام الحج، فنزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم".
3772 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن عطاء، عن ابن عباس أنه قرأ: (1) " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
3773 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا طلحة بن عمرو الحضرمي، عن عطاء قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج"، هكذا قرأها ابن عباس.
3774 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا ليث، عن مجاهد في قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: التجارة في الدنيا، والأجر في الآخرة.
3775 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: التجارة، أحلت لهم في المواسم. قال: فكانوا لا يبيعون، أو يبتاعون في الجاهلية بعرفة.
3776 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3777 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا ضالة ليلة النفر، وكانوا يسمونها"ليلة الصدر"، ولا
__________
(1) في المطبوعة: "قال" مكان"قرأ" وهو سهو من الناسخ، وانظر الأثر السالف: 3766، 3768، والآثار التي تلي هذا الأثر.(4/166)
يطلبون فيها تجارة ولا بيعا، فأحل الله عز وجل ذلك كله للمؤمنين، أن يعرجوا على حوائجهم ويبتغوا من فضل ربهم.
3778 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عبيد الله بن أبي يزيد، قال: سمعت ابن الزبير يقرأ: (1) " ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج". (2)
3779 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، قال: قال ابن عباس: كانت ذو المجاز وعكاظ متجرا للناس في الجاهلية، فلما جاء الإسلام تركوا ذلك حتى نزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
3780 - حدثنا أحمد بن حازم والمثنى، قالا حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن محمد بن سوقة، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: كان بعض الحاج يسمون"الداج"، فكانوا ينزلون في الشق الأيسر من منى، وكان الحاج ينزلون عند مسجد منى، فكانوا لا يتجرون، حتى نزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، فحجوا. (3)
3781 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا عمر بن ذر، عن مجاهد قال: كان ناس يحجون ولا يتجرون، حتى نزلت:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، فرخص لهم في المتجر والركوب والزاد.
3782 - حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "سمعت ابن الزبير يقول" والصواب من مخطوطة تفسير عبد الرزاق ص: 21.
(2) الخبر: 3778 - أشار إليه الحافظ في الفتح 3: 473 وذكر أنه رواه ابن عيينة وابن جريج عن عبيد الله بن أبي يزيد. ولم يذكر من خرجه وقد عرفنا من رواية الطبري أنه خرجه عبد الرزاق عن ابن عيينة. وهو في تفسير عبد الرزاق ص: 21، بهذا الإسناد. وهو صحيح عبيد الله بن ألبي يزيد المكي: تابعي ثقة.
(3) الداج: هم الذين مع الحجاج من الأجراء والمكارين والأعوان والخدم، وظاهر أنهم كانوا لا يحجون مع الناس.(4/167)
أسباط عن السدي، قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، هي التجارة. قال: اتجروا في الموسم.
3783 - حدثنا محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: كان الناس إذا أحرموا لم يتبايعوا حتى يقضوا حجهم، فأحله الله لهم.
3784 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: كانوا يتقون البيوع والتجارة أيام الموسم، يقولون:" أيام ذكر! " فأنزل الله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، فحجوا.
3785 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج".
3786 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحماني، قال: حدثنا شريك، عن منصور، عن إبراهيم، قال: لا بأس بالتجارة في الحج، ثم قرأ:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم".
3787 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قوله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم"، قال: كان هذا الحي من العرب لا يعرجون على كسير ولا على ضالة ولا ينتظرون لحاجة، وكانوا يسمونها" ليلة الصدر"، ولا يطلبون فيها تجارة. فأحل الله ذلك كله، أن يعرجوا على حاجتهم، وأن يطلبوا فضلا من ربهم.
3788 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا مندل، عن عبد الرحمن بن المهاجر، عن أبي صالح مولى عمر، قال: قلت لعمر: يا أمير(4/168)
المؤمنين، كنتم تتجرون في الحج؟ قال: وهل كانت معايشهم إلا في الحج.
3789 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري، عن العلاء بن المسيب، عن رجل من بني تيم الله، قال: جاء رجل إلى عبد الله بن عمر، فقال: يا أبا عبد الرحمن، إنا قوم نكرى فيزعمون أنه ليس لنا حج! قال: ألستم تحرمون كما يحرمون، وتطوفون كما يطوفون، وترمون كما يرمون؟ قال: بلى! قال: فأنت حاج! جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألت عنه، فنزلت هذه الآية:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم". (1)
3790 - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: كانوا إذا أفاضوا من عرفات لم يتجروا بتجارة، ولم يعرجوا على كسير، ولا على ضالة، فأحل الله ذلك، فقال:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم" إلى آخر الآية.
3791 - حدثني سعيد بن الربيع الرازي، قال: حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، قال: كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقا في الجاهلية، فكانوا يتجرون فيها. فلما كان الإسلام كأنهم تأثموا منها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم في مواسم الحج. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 3789 -العلاء بن المسيب بن رافع الأسدي: ثقة مأمون، كما قال ابن معين.
والديث رواه أحمد في المسند: 6435، عن عبد الله بن الوليد العدني، عن سفيان الثوري بهذا الإسناد. وقلنا في شرحه: إن إسناده صحيح، وأن إبهام الرجل من بني تيم الله- لا يضر، فقد عرف أنه"أبو أمامة التيمي". كما مضى في: 3765. وقد خرجناه مفصلا في المسند.
(2) الحديث: 3791 -سعيد بن الربيع الرازي- شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة. وقد ذكر في فهارس تاريخ الطبري بهذا الاسم، فانتفت شبهة التحريف فيه. و"سفيان" -شيخه: هو ابن عيينة. ويشتبه"سعيد بن الربيع" براو آخر، هو"سعيد بن الربيع الهروي الجرشي العامري" المترجم في التهذيب. ولكنه قديم الوفاة، مات سنة 211 قبل ولادة الطبري. وهو من أقدم شيوخ البخاري.
والحديث رواه البخاري 4: 248، 269، و 8: 139 (فتح) من طريق سفيان ابن عيينة بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا 3: 473- 474 من طريق ابن جريج عن عمرو بن دينار. وذكره ابن كثير 1: 462، من رواية البخاري.
وهذا الحديث من أفراد البخاري -دون مسلم- كما نص على ذلك الحافظ في الفتح 3: 475. ولم أجده في مسند أحمد. وهو من الأحاديث الصحاح القليلة، التي في أحد الصحيحين وليست في المسند.
وقد مضى نحو معناه مختصرا: 3779، من رواية عبد الرزاق عن ابن عيينة ومضى كذلك مختصرا: 3771، 3784، من وجه آخر من رواية مجاهد عن ابن عباس. و 3772، 3785، من وجه ثالث، من رواية عطاء عن ابن عباس.(4/169)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:" فإذا أفضتم"، فإذا رجعتم من حيث بدأتم.
* * *
ولذلك قيل للذي يضرب القداح بين الأيسار:"مفيض"، لجمعه القداح، ثم إفاضته إياها بين الياسرين. (1) ومنه قول بشر بن أبي خازم الأسدي: (2)
فقلت لها ردي إليه جنانه ... فردت كما رد المنيح مفيض (3)
* * *
ثم اختلف أهل العربية في"عرفات"، والعلة التي من أجلها صُرفت وهي
__________
(1) القداح جمع قدح (بكسر فسكون) : هو السهم قبل أن ينصل ويراش، كانوا يستقسمون بها في الميسر، وهي الأزلام أيضًا. والأيسار جمع يس (بفتحين) وهم المجتمعون على الميسر من أشراف الحي. وفي المطبوعة: "المياسرين" والصواب ما أثبت. والياسر: الضارب بالقداح والمتقامر على الجزور اللاعب بالقداح.
(2) في المطبوعة: "ابن أبي حازم" وهو خطأ.
(3) لم أجد هذا البيت في مكان، ومن القصيدة ثلاثة أبيات في الحيوان 6: 343 من هذا الشعر، وهي أبيات جياد. والمنيح: أحد القداح الأربعة التي ليس لها غرم ولا غنم في قداح الميسر، ولكن قد يمنح صاحبه شيئا من الجزور. ولا أتبين معنى البيت حتى أعرف ما قبله، وأعرف الضمائر فيه إلى من تعود.(4/170)
معرفة، وهل هي اسم لبقعة واحدة أم هي لجماعة بقاع؟
فقال بعض نحويي البصريين: هي اسم كان لجماعة مثل"مسلمات، ومؤمنات"، سميت به بقعة واحدة، فصرف لما سميت به البقعة الواحدة، إذ كان مصروفا قبل أن تسمى به البقعة، تركا منهم له على أصله. لأن"التاء" فيه صارت بمنزلة"الياء والواو" في"مسلمين ومسلمون"، لأنه تذكيره، وصار التنوين بمنزلة"النون". فلما سمي به ترك على حاله، كما يترك" المسلمون" إذا سمي به على حاله. (1) قال: ومن العرب من لا يصرفه إذا سمي به، ويشبه"التاء" بهاء التأنيث، وذلك قبيح ضعيف، واستشهدوا بقول الشاعر: (2)
تنورتها من أذرعات وأهلها ... بيثرب أدنى دارها نظر عالي (3)
ومنهم من لا ينون"أدرعات" وكذلك:"عانات"، وهو مكان.
وقال بعض نحويي الكوفيين: إنما انصرفت"عرفات"، لأنهن على جماع مؤنث"بالتاء". قال: وكذلك ما كان من جماع مؤنث"بالتاء"، ثم سميت به رجلا أو مكانا أو أرضا أو امرأة، انصرفت. قال: ولا تكاد العرب تسمي شيئا من الجماع إلا جماعا، ثم تجعله بعد ذلك واحدا.
__________
(1) هو قول الأخفش (اللسان: عرف) ومعجم البلدان (عرفات) وانظر سيبويه 2: 17- 18.
(2) هو امرؤ القيس بن حجر.
(3) ديوانه: 140، وسيبويه 2: 18 والخزانة 1: 26 وهو من قصيدته الرائعة المشهورة والضمير في قوله: "تنورتها" للمرأة التي يذكرها (انظر طبقات فحول الشعراء: 68 تعليق: 3) . وتنورالنار أبصرها من بعيد جعل المرأة تضيء له فيراها كالنار المشبوبة. وأذرعات: بلد بالشام. ويثرب: مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هذا اسمها في الجاهلية. يقول: لاح له نورها في الظلماء، وهو بالشام وأهلها بالمدينة. ثم يقول: أقرب ما يرى منها لا يرى إلا من مكان عال في جو السماء. يصف بعد ما بينه وبينها، ومع ذلك فقد لاحت له في الليل من هذا المكان البعيد، وأتم المعنى في البيت لتالي:
نظرت إليها والنجوم كأنها مصابيح رهبان تشب لقفال(4/171)
وقال آخرون منهم: ليست"عرفات" حكاية، ولا هي اسم منقول، (1) ولكن الموضع مسمى هو وجوانبه"بعرفات"، ثم سميت بها البقعة. اسم للموضع، ولا ينفرد واحدها. قال: وإنما يجوز هذا في الأماكن والمواضع، ولا يجوز ذلك في غيرها من الأشياء. قال: ولذلك نصبت العرب"التاء" في ذلك، لأنه موضع. ولو كان محكيا، لم يكن ذلك فيه جائزا، لأن من سمى رجلا"مسلمات" أو"مسلمين" لم ينقله في الإعراب عما كان عليه في الأصل، فلذلك خالف:"عانات، وأذرعات"، ما سمي به من الأسماء على جهة الحكاية.
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في المعنى الذي من أجله قيل لعرفات"عرفات". فقال بعضهم: قيل لها ذلك من أجل أن إبراهيم خليل الله صلوات الله عليه لما رآها عرفها بنعتها الذي كان لها عنده، فقال: قد عرفت، فسميت عرفات بذلك. وهذا القول من قائله يدل على أن عرفات اسم للبقعة، وإنما سميت بذلك لنفسها وما حولها، كما يقال: ثوب أخلاق، وأرض سباسب، فتجمع بما حولها. (2)
* ذكر من قال ذلك:
3792 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، عن أسباط، عن السدي، قال: لما أذن إبراهيم في الناس بالحج، فأجابوه بالتلبية، وأتاه من أتاه أمره الله أن يخرج إلى عرفات، ونعتها فخرج، فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان يرده، فرماه بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية، فصده أيضا، فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبر.
__________
(1) الحكاية: الإتيان باللفظ على ما كان عليه من قبل، وسيظهر معناها في الأسطر الآتية.
(2) انظر ما سلف 1: 433.(4/172)
فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب، (1) انطلق حتى أتى ذا المجاز، (2) فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز، فلذلك سمي:"ذا المجاز". ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت، قال:"قد عرفت! " فسمي:"عرفات". فوقف إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، فسميت:"المزدلفة"، فوقف بجمع. (3)
3793 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن سليمان التيمي، عن نعيم بن أبي هند، قال: لما وقف جبريل بإبراهيم عليهما السلام بعرفات، قال:"عرفت! "، فسميت عرفات لذلك.
3794 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: بعث الله جبريل إلى إبراهيم فحج به، فلما أتى عرفة قال:"قد عرفت! "، وكان قد أتاها مرة قبل ذلك، ولذلك سميت"عرفة".
* * *
وقال آخرون: بل سميت بذلك بنفسها وببقاع أخر سواها.
* ذكر من قال ذلك:
3795 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن مسلم القرشي، عن أبي طهفة، عن أبي الطفيل، عن ابن عباس قال: إنما سميت عرفات، لأن جبريل عليه السلام، كان يقول لإبراهيم: هذا موضع كذا، هذا موضع كذا، فيقول:" قد عرفت! "، فلذلك سميت"عرفات". (4)
__________
(1) في المطبوعة: "فلما رأى أنه لا يطيعه، فلم يدر إبراهيم" والصواب ما أثبته عن نص الطبري آنفًا، كما سيأتي في المراجع بعد.
(2) في المطبوعة: "فانطلق" والصواب ما أثبت.
(3) الأثر: 3792 -قد سلف تاما برقم: 2065، والتصويب السالف منه.
(4) الخبر: 3795 - هذا إسناد مشكل، لا أدري ما وجه صوابه. أما"وكيع بن مسلم القرشي": فما وجدت راويا بهذا الاسم ولا ما يشبهه. والذي أكاد أجزم به أنه"وكيع بن الجراح" الإمام المعروف. وأن كلمة"بن" محرفة عن كلمة"عن" ثم يزيد الإشكال أن لم أجد من اسمه"مسلم القرشي" وإشكال ثالث، أن"أبا طهفة" هذا لا ندري ما هو؟
واليقين -عندي- أن الإسناد محرف غير مستقيم.(4/173)
3796 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء قال: إنما سميت عرفة أن جبريل كان يري إبراهيم عليهما السلام المناسك، فيقول:" عرفت، عرفت! " فسمي"عرفات".
3797 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن زكريا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: قال ابن عباس: أصل الجبل الذي يلي عرنة وما وراءه موقف، حتى يأتي الجبل جبل عرفة.
وقال ابن أبي نجيح: عرفات:"النبعة" و"النبيعة" و"ذات النابت"، وذلك قول الله:" فإذا أفضتم من عرفات"، وهو الشعب الأوسط.
وقال زكريا: ما سال من الجبل الذي يقف عليه الإمام إلى عرفة، فهو من عرفة، وما دبر ذلك الجبل فليس من عرفة.
* * *
وهذا القول يدل على أنها سميت بذلك نظير ما يسمى الواحد باسم الجماعة المختلفة الأشخاص.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في ذلك عندي أن يقال: هو اسم لواحد سمي بجماع، فإذا صرف ذهب به مذهب الجماع الذي كان له أصلا. وإذا ترك صرفه ذهب به إلى أنه اسم لبقعة واحدة معروفة، فترك صرفه كما يترك صرف أسماء الأمصار والقرى المعارف.
* * *(4/174)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم فكررتم راجعين من عرفة، إلى حيث بدأتم الشخوص إليها منه،" فاذكروا الله"، يعني بذلك: الصلاة، والدعاء عند المشعر الحرام.
* * *
وقد بينا قبل أن"المشاعر" هي المعالم، من قول القائل:"شعرت بهذا الأمر"، أي علمت، ف"المشعر"، هو المعلم، (1) سمي بذلك لأن الصلاة عنده والمقام والمبيت والدعاء، من معالم الحج وفروضه التي أمر الله بها عباده. وقد:-
3798 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن زكريا، عن ابن أبي نجيح، قال: يستحب للحاج أن يصلي في منزله بالمزدلفة إن استطاع، وذلك أن الله قال:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم".
* * *
فأما"المشعر": فإنه هو ما بين جبلي المزدلفة من مأزمي عرفة إلى محسر.
وليس مأزما عرفة من"المشعر". (2)
وبالذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر ما سلف في الجزء 3: 226، 227 (بولاق) تفسير"شعائر".
(2) المأزم: كل طريق ضيق بين جبلين. ومأزما عرفة: مضيق ين جمع وعرفة.(4/175)
3799 - حدثنا هناد بن السري قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: رأى ابن عمر الناس يزدحمون على الجبيل بجمع فقال: أيها الناس إن جمعا كلها مشعر.
3800 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن نافع، عن ابن عمر أنه سئل عن قوله:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، قال: هو الجبل وما حوله.
3801 - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا إسرائيل، عن حكيم بن جبير، عن ابن عباس قال: ما بين الجبلين اللذين بجمع مشعر.
3802 - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبير، مثله.
3803 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا الثوري= وحدثني أحمد بن حازم قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان= عن السدي، عن سعيد بن جبير، قال: سألته عن المشعر الحرام فقال: ما بين جبلي المزدلفة.
3804 - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سالم، عن ابن عمر، قال:"المشعر الحرام" المزدلفة كلها= قال معمر: وقاله قتادة.
3805 - حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، قال: أنبأنا الثوري، عن السدي، عن سعيد بن جبير:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، قال: ما بين جبلي المزدلفة هو المشعر الحرام.
3806 - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا أبي، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: سألت عبد الله بن عمر عن المشعر الحرام،(4/176)
فقال: إذا انطلقت معي أعلمتكه. قال: فانطلقت معه، فوقفنا حتى إذا أفاض الإمام سار وسرنا معه، حتى إذا هبطت أيدي الركاب، وكنا في أقصى الجبال مما يلي عرفات قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ أخذت فيه! قلت: ما أخذت فيه؟ قال: كلها مشاعر إلى أقصى الحرم.
3807 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا إسرائيل= وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل= عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون الأودي، قال: سألت عبد الله بن عمر، عن المشعر الحرام قال: إن تلزمني أركه. قال: فلما أفاض الناس من عرفة وهبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال، قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ قال: قلت: ها أنا ذاك، قال: أخذت فيه! قلت: ما أخذت فيه! قال: حين هبطت أيدي الركاب في أدنى الجبال فهو مشعر إلى مكة.
3808 - حدثنا هناد، قال: حدثنا وكيع، عن عمارة بن زاذان، عن مكحول الأزدي، قال: سألت ابن عمر يوم عرفة عن المشعر الحرام؟ فقال: الزمني! فلما كان من الغد وأتينا المزدلفة، قال: أين السائل عن المشعر الحرام؟ هذا المشعر الحرام.
3809 - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد: المشعر الحرام: المزدلفة كلها.
3810 - حدثنا هناد، قال: حدثنا ابن أبي زائدة، قال: أخبرنا داود، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أين المزدلفة؟ قال: إذا أفضت من مأزمي عرفة، فذلك إلى محسر. قال: وليس المأزمان مأزما عرفة من المزدلفة، ولكن مفاضاهما.
قال: قف بينهما إن شئت، وأحب إلي أن تقف دون قزح. هلم إلينا من أجل طريق الناس!.
3811 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر،(4/177)
عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: رآهم ابن عمر يزدحمون على قزح، فقال: علام يزدحم هؤلاء؟ كل ما ههنا مشعر!.
3812 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: المشعر الحرام المزدلفة كلها.
3813 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3814 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام" وذلك ليلة جمع. قال قتادة: كان ابن عباس يقول: ما بين الجبلين مشعر.
3815 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: المشعر الحرام هو ما بين جبال المزدلفة = ويقال: هو قرن قزح. (1)
3816 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فاذكروا الله عند المشعر الحرام"، وهي المزدلفة، وهي جمع.
* * *
* وذكر عن عبد الرحمن بن الأسود ما:-
3817 - حدثنا به هناد، قال: حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن جابر، عن عبد الرحمن بن الأسود، قال: لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام.
3818 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن السدي، قال: سمعت سعيد بن جبير يقول: المشعر الحرام: ما بين جبلي مزدلفة.
3819 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا قيس، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، قال: سألت ابن عمر عن المشعر الحرام فقال:
__________
(1) القرن: الجبل الصغير المستطيل المنقطع عن الجبل الكبير.(4/178)
ما أدري؟ وسألت ابن عباس، فقال: ما بين الجبلين.
3820 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل: عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: الجبيل وما حوله مشاعر.
3821 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن ثوير، قال: وقفت مع مجاهد على الجبيل، فقال: هذا المشعر الحرام.
3822 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حسن بن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن الضحاك، عن ابن عباس، الجبيل وما حوله مشاعر.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما جعلنا أول حد المشعر مما يلي منى، منقطع وادي محسر مما يلي المزدلفة، لأن:-
3823 - المثنى حدثني قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن زيد بن أسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"عرفة كلها موقف إلا عرنة، وجمع كلها موقف إلا محسرا". (1)
3824 - حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن حجاج، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن الزبير، أنه قال: كل مزدلفة موقف إلا وادي محسر.
3825 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن حجاج، قال: أخبرني من سمع عروة بن الزبير يقول مثل ذلك.
__________
(1) الحديث: 3823 -هذا حديث مرسل كما قال ابن كثير 1: 467 وقد رواه مالك في الموطأ ص: 388"أنه بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم"- دون إسناد. وذكره ابن عبد البر في كتاب"التقصي" رقم: 839. وقال: "وهذا الحديث يتصل من حديث جابر بن عبد الله ومن حديث ابن عباس، ومن حديث علي بن أبي طالب". وحديث جابر رواه مسلم 1: 348 ولكن ليس فيه استثناء"عرنة" و"محسر" ورواه ابن ماجه: 3012 من حديث جابر وفيه هذا الاستثناء. وإسناده ضعيف جدا.
وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5: 115، والتلخيص الحبير ص: 216 ونصب الراية 3: 60- 62.(4/179)
3826 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن هشام بن عروة، قال: قال عبد الله بن الزبير في خطبته: تعلمن أن عرفة كلها موقف إلا بطن عرنة، تعلمن أن مزدلفة كلها موقف إلا بطن محسر. (1)
* * *
قال أبو جعفر: غير أن ذلك وإن كان كذلك فإني أختار للحاج أن يجعل وقوفه لذكر الله من المشعر الحرام على قزح وما حوله، لأن:-
3827 - أبا كريب حدثنا، قال: حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، عن زيد بن علي، عن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي قال: لما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة، غدا فوقف على قزح، وأردف الفضل، ثم قال: هذا الموقف، وكل مزدلفة موقف.
3828 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، قال: أخبرنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع، عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي بن الحسين، عن عبيد الله بن أبي رافع عن أبي رافع، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (2)
__________
(1) الخبر: 3826 -رواه مالك في الموطأ ص 388، بنحوه عن هشام بن عروة عن عبد الله بن الزبير.
(2) الحديثان: 3827، 3828 -إبراهيم بن إسمعيل بن مجمع الأنصاري المدني: ضعيف قال ابن معين: "ليس بشيء" وقال البخاري: "كثير الوهم". عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة المخزومي: ثقة من أهل العلم. ين بن علي بن أبي طالب: ثقة معروف، لا يحتاج إلى تعريف. وهو الذي تنسب إليه الزيدية من الشيعة. وكان حربا على الرافضة. وهو يروى عن عبيد الله بن أبي رافع مباشرة، ولكنه روى هذا الحديث بعينه -كما سيأتي في التخريج- عن أبيه زين العابدين علي بن الحسين عن عبيد الله. عبيد الله بن أبي رافع المدني، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم: تابعي ثقة. وكان كاتبا لعلي بن أبي طالب رضي اله عنه.
وهذا الحديث مختصر من حديث مطول. وقد أخطأ فيه إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع: فحذف من الإسناد [عن أبيه] بين زيد بن علي وعبيد الله بن أبي رافع. وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم"أردف الفضل" -في هذا الحديث. وإنما"أردف أسامة بن زيد". وإرداف الفضل بن عباس كان في حادثة أخرى.
والحديث رواه احمد في المسند: 1347، عن يحيى بن آدم عن سفيان -وهو الثوري-"عن عبد الرحمن بن عياش عن زيد بن علي، عن أبيه عن عبيد الله بن أبي رافع عن علي قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة فقال: هذا الموقف وعرفة كلها موقف ثم أردف أسامة فجعل يعتق على ناقته، والناس يضربون الإبل يمينا وشمالا، لا يلتفت إليهم". وهذا مختصر أيضًا. ورواه أبو داود: 1922، عن أحمد بن حنبل بهذا الإسناد واختصره قليلا.
ورواه أحمد: 562 عن أبي أحمد الزبيري عن سفيان بهذا الإسناد مطولا. وفيه -بعد إرداف أسامة-"ثم أتى قزح فوقف على قزح، فقال: هذا الموقف وجمع كلها موقف. . . "- إلى آخره مطولا.
ورواه عبد الله بن أحمد، في زيادات المسند: 564 من طريق المغيرة بن عبد الرحمن المخزومي عن أبيه. و 613 من طريق مسلم بن خالد الزنجي، عن عبد الرحمن المخزومي - بهذا الإسناد مطولا أيضًا.
ورواه الترمذي 2: 100- 101، مطولا من طريق أبي أحمد الزبيري عن الثوري وقال: "حديث حسن صحيح، لا نعرفه من حديث علي إلا من هذا الوجه من حديث عبد الرحمن بن الحارث ابن عياش. وقد رواه غير واحد عن الثوري مثل هذا".(4/180)
3829 - حدثنا هناد وأحمد الدولابي، قالا حدثنا سفيان، عن ابن المنكدر، عن سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع عن ابن الحويرث، قال: رأيت أبا بكر واقفا على قزح وهو يقول: أيها الناس أصبحوا! أيها الناس أصبحوا! ثم دفع. (1)
__________
(1) الخر: 3829 -سفيان: هو ابن عيينة. ابن المنكدر: هو محمد بن المنكدر التيمي: أحد الأئمة الأعلام من التابعين.
سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع: ترجمه الحافظ في التعجيل ص: 154 وذكر أنه مخزومي وأشار إلى هذا الخبر من روايته. وقال: "وقع عند غيره: عبد الرحمن بن سعيد بن يربوع". ويريد: عند غير الشافعي، لأن هذا الخبر رواه الشافعي كما سيأتي. وقد رمز لهذه الترجمة في التعجيل بحرف الألف، وهو رمز"أحمد" في المسند. وهو خطأ مطبعي. وصحته"فع" رمز الشافعي. وعبد الرحمن ابن سعيد بن يربوع: مترجم في التهذيب 6: 187 وابن سعد 5: 111 وابن أبي حاتم 2/2/239، ولكن جميع روايات هذا الخبر فيها"سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع". وأنا أرجح بما يظهر لي من الترجمتين: أن الراوي هنا غير المترجم في التهذيب ومن المحتمل أن راوي هذا الخبر ابن +الذي في التهذيب. خصوصا وأن ابن أبي حاتم ذكره في ترجمة"ابن الحويرث" راويا عنه. وإن لم يترجم هو ولا البخاري في الكبير ل"سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع".
ابن الحويرث: هو جبير بن الحويرث. ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/512 وقال: "روى عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. روى عنه سعيد بن عبد الرحمن بن يربوع". وكذلك ترجمه ابن عبد البر في الاستيعاب رقم: 317 ثم قال: "في صحبته نظر". وترجمه ابن الأثير في أسد الغابة 1: 270 وقال: "وقتل أبوه يوم فتح مكة قتله علي. وهذا يدل على أن لابنه جبير صحبة أو رؤية". وكذلك رجح صحبته - الحافظ في الإصابة 1: 235 والتعجيل: 66- 67. وكلهم ذكر أباه باسم"الحويرث" إلا المصعب الزبيري في نسب قريش ص: 257 فإنه ذكره باسم"الحارث" و"الحويرث" هو الصواب الموافق لما في سيرة ابن هشام، ص: 819 (طبعة أوربة) وطبقات ابن سعد 1/2/90.
وهذا الخبر رواه الشافعي في الأم 2: 180 عن سفيان بن عيينة بهذا الإسناد بزيادة في آخره ولكن فيه: "عن أبي الحويرث" وكذلك ثبت في مسنده بترتيب الشيخ عابد السندي 1: 256. ووقع في مسند الشافعي المطبوع بهامش الجزء 6 من الأم: "عن جوبير بن حويرث". وهذا الضطراب يدل على تحريف الاسم في بعض نسخ الأم ومسند الشافعي. خصوصا وأن الحافظ ابن حجر ذكر اسمه في التعجيل على الصواب ولم يذكر فيه خلافا، لو كان هذا اختلاف رواية مع أنه رمز له برمز الشافعي وحده. ولعل هذا الخطأ كان في بعض نسخ الأم. ومسند الشافعي القديمة وأن هذا حمل البيهقي على أن يروي الخبر من غير طريق الشافعي خلافا لعادته الغالبة.
فقد رواه البيهقي 5: 125، من طريق سعدان بن نصر عن سفيان وهو ابن عيينة -بهذا الإسناد. ورواه ابن حزم في المحلى 3: 215- 216 من طريق محمد بن المثنى عن سفيان به.(4/181)
3830 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عبد الله بن عثمان، عن يوسف بن ماهك، قال: حججت مع ابن عمر، فلما أصبح بجمع صلى الصبح، ثم غدا وغدونا معه حتى وقف مع الإمام على قزح، ثم دفع الإمام فدفع بدفعته.
* * *
وأما قول عبد الله بن عمر حين صار بالمزدلفة:" هذا كله مشاعر إلى مكة"، فإن معناه أنها معالم من معالم الحج ينسك في كل بقعة منها بعض مناسك الحج = لا أن كل ذلك"المشعر الحرام" الذي يكون الواقف حيث وقف منه إلى بطن مكة قاضيا ما عليه من الوقوف بالمشعر الحرام من جمع.
* * *(4/182)
وأما قول عبد الرحمن بن الأسود:" لم أجد أحدا يخبرني عن المشعر الحرام" فلأنه يحتمل أن يكون أراد: لم أجد أحدا يخبرني عن حد أوله ومنتهى آخره على حقه وصدقه. لأن حدود ذلك على صحتها حتى لا يكون فيها زيادة ولا نقصان، لا يحيط بها إلا القليل من أهل المعرفة بها. غير أن ذلك وإن لم يقف على حد أوله ومنتهى آخره وقوفا لا زيادة فيه ولا نقصان إلا من ذكرت، فموضع الحاجة للوقوف لا خفاء به على أحد من سكان تلك الناحية وكثير من غيرهم. وكذلك سائر مشاعر الحج، والأماكن التي فرض الله عز وجل على عباده أن ينسكوا عندها كعرفات ومنى والحرم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واذكروا الله أيها المؤمنون عند المشعر الحرام= بالثناء عليه، والشكر له على أياديه عندكم، وليكن ذكركم إياه بالخضوع لأمره، والطاعة له والشكر على ما أنعم عليكم من التوفيق، لما وفقكم له من سنن إبراهيم خليله بعد الذي كنتم فيه من الشرك والحيرة والعمى عن طريق الحق وبعد الضلالة= كذكره إياكم بالهدى، حتى استنقذكم من النار به بعد أن كنتم على شفا حفرة منها، فنجاكم منها. وذلك هو معنى قوله:" كما هداكم".
* * *
وأما قوله:" وإن كنتم من قبله لمن الضالين"، فإن من أهل العربية من يوجه تأويل" إن" إلى تأويل" ما"، وتأويل اللام التي في" لمن" إلى" إلا". (1)
__________
(1) هذا توجيه الكوفيين انظر المعنى لابن هشام 1: 191 وغيره.(4/183)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
فتأويل الكلام على هذا المعنى: وما كنتم = من قبل هداية الله إياكم لما هداكم له من ملة خليله إبراهيم التي اصطفاها لمن رضي عنه من خلقه = إلا من الضالين.
* * *
ومنهم من يوجه تأويل"إن" إلى"قد".
فمعناه على قول قائل هذه المقالة: واذكروا الله أيها المؤمنون كما ذكركم بالهدى، فهداكم لما رضيه من الأديان والملل، وقد كنتم من قبل ذلك من الضالين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك، ومن المعني بالأمر بالإفاضة من حيث أفاض الناس؟ ومن"الناس" الذين أمروا بالإفاضة من موضع إفاضتهم؟
فقال بعضهم: المعني بقوله:" ثم أفيضوا"، قريش ومن ولدته قريش، الذين كانوا يسمون في الجاهلية"الحمس"، أمروا في الإسلام أن يفيضوا من عرفات، وهي التي أفاض منها سائر الناس غير الحمس. وذلك أن قريشا ومن ولدته قريش، كانوا يقولون:"لا نخرج من الحرم". فكانوا لا يشهدون موقف الناس بعرفة معهم، فأمرهم الله بالوقوف معهم.
* ذكر من قال ذلك:
3831 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الطفاوي، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه. عن عائشة قالت: كانت(4/184)
قريش ومن كان على دينها -وهم الحمس- يقفون بالمزدلفة يقولون:"نحن قطين الله! "، وكان من سواهم يقفون بعرفة. فأنزل الله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" (1)
3832 - حدثنا عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا أبان، قال: حدثنا هشام بن عروة، عن عروة: أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان كتبت إلي في قول النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار:"إني أحمس" (2) وإني لا أدري أقالها النبي أم لا؟ غير أني سمعتها تحدث عنه. والحمس: ملة قريش- وهم مشركون- ومن ولدت قريش في خزاعة وبني كنانة. كانوا لا يدفعون من عرفة، إنما كانوا يدفعون من المزدلفة وهو المشعر الحرام، وكانت بنو عامر حمسا، وذلك أن قريشا ولدتهم، ولهم قيل:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، وأن العرب كلها كانت تفيض من عرفة إلا الحمس، كانوا يدفعون إذا أصبحوا من المزدلفة. (3)
__________
(1) الحديث: 3831 - محمد بن عبد الرحمن الطفاوي بضم الطاء المهملة: ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني وغيرهما.
والحديث رواه البخاري 8: 139 (فتح) عن ابن المديني عن محمد بن خازم عن هشام به، مطولا قليلا. وكذلك رواه مسلم 1: 348 عن يحيى بن يحيى عن أبي معاوية وهو محمد بن خازم به.
القطين اسم جماعة واحدهم قاطن والجمع قطان: وهم سكان الدار المقيمون بها لا يبرحونها وقولهم"نحن قطين الله" فيه محذوف أي: قطين بيت الله وحرمه. ولو حمل على قولهم: القطين هم الخدم لكان معناه: خدم الله والقائمون بأمر بيته، بلا حاجة إلى تقدير محذوف. وهو جيد أيضًا.
(2) انظر الآثار السالفة من رقم: 3077- 3087 ففيها خبر الأنصاري ومقالة رسول الله له.
(3) الحديث: 3832 -أبان: هو ابن يزيد العطار وهو ثقة وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما.
وهذا الحديث بهذا السياق -لم أجده في موضع آخر. ومعناه ثابت في الحديث الذي قبله، وفي حديث مطول آخر، رواه البخاري 3: 411- 413 (فتح) . من طريق علي بن مسهر. ومسلم: 348ن من طريق أبي أسامة- كلاهما عن هشام بن عروة عن أبيه.
وانظر أيضًا ما مضى في الطبري: 3077- 3087.
وقول عروة -هنا-"غير أني سمعتها تحدث عنه": يريد به خالته"عائشة أم المؤمنين" وأنها تحدث ذلك عن رسول اله صلى الله عليه وسلم. وهذا واضح من سياق القول ومن سائر الروايات الأخر. ولعله عبر عنهما بالضمير لسبق ذكرهما في سؤال عبد الملك بن مروان الذي يجيبه بهذا القول.(4/185)
3833 - حدثني أحمد بن محمد الطوسي، قال: حدثنا أبو توبة، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن سفيان، عن حسين بن عبيد الله، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم الموقف إلى موقف العرب بعرفة. (1)
3834 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عبد الملك، عن عطاء:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس" من حيث تفيض جماعة الناس.
3835 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن عبد الله بن طلحة، عن مجاهد قال: إذا كان يوم عرفة هبط الله إلى
__________
(1) الحديث: 3833 - أحمد بن محمد الطوسي شيخ الطبري: روى عنه في لتاريخ 1: 8، 17 باسم"أحمد بن محمد بن حبيب". ثم في 1: 67 باسم"أحمد بن محمد الطوسي" كما هنا. ثم في 1: 209 باسم"أحمد بن محمد بن حبيب الطوسي". فتعين أنه هو وهو مترجم لتهذيب وتاريخ بغداد 5: 108- 109، باسم"أحمد بن محمد بن نيزك بن حبيب أبو جعفر يعرف بالطوسي". وهو من شيوخ لترمذي وذكره ابن حبان في الثقات. و"نيزك": بكسر النون وفتح الزاي بينهما ياء تحتية، كما ضبط في التقريب والخلاصة.
أبو توبة: هو الربيع بن نافع الحلبي سكن طرسوس وهو ثقة صدوق حجة كما قال أبو حاتم وهو من شيوخه وشيوخ الإمام أحمد وأبي داود وغيرهم.
أبو إسحاق الفزاري: هو الحافظ الحجة شيخ الإسلام إراهيم بن محمد بن الحارث بن أسماء بن خارجة بن حصن وهو الثقة المأمون الإمام. شيخه سفيان: هو الثوري.
حسين بن عبيد اله: هو حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب وهو ضعيف ضعفه ابن معين وابن المديني وأبو حاتم وغيرهم. ولعله نسب هنا إلى جده بل لعل الأصل"بن عبد الله" فحرفها الناسخون. وإنما جزمت بأنه هو: لأنه هو الذي يروي عن عكرمة ويروي عنه الثوري كما في ترجمته عند ابن أبي حاتم 1/2/57. ثم ما في هذه الطبقة من الرواة من يسمى"حسين بن عبيد الله". بل ليس في التهذيب ولا في الكبير ولا عند ابن أبي حاتم من يدعي ذلك. نعم هناك رواة بهذا الاسم في لسان الميزان وكلهم متأخرون عن هذه الطبقة.
وهذا الحديث لم أجده في غير الطبري، ولم ينسبه السيوطي 1: 227 لغيره.(4/186)
السماء الدنيا في الملائكة، فيقول: هلم إلي عبادي، آمنوا بوعدي وصدقوا رسلي! فيقول: ما جزاؤهم؟ فيقال: أن تغفر لهم. فذلك قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم".
3836 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح = وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح = عن مجاهد:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال: عرفة. قال: كانت قريش تقول نحن:" الحمس أهل الحرم، ولا نخلف الحرم، ونفيض عن المزدلفة"، فأمروا أن يبلغوا عرفة.
3837 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال قتادة: وكانت قريش وكل حليف لهم وبني أخت لهم، لا يفيضون من عرفات، إنما يفيضون من المغمس، ويقولون:"إنما نحن أهل الله، فلا نخرج من حرمه"، فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس من عرفات، وأخبرهم أن سنة إبراهيم وإسمعيل هكذا: الإفاضة من عرفات.
3838 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال: كانت العرب تقف بعرفات، فتعظم قريش أن تقف معهم، فتقف قريش بالمزدلفة، فأمرهم الله أن يفيضوا مع الناس من عرفات.
3839 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، قال: كانت قريش وكل ابن أخت وحليف لهم، لا يفيضون مع الناس من عرفات، يقفون في الحرم ولا يخرجون منه، يقولون:"إنما نحن أهل حرم الله فلا نخرج من حرمه"؛(4/187)
فأمرهم الله أن يفيضوا من حيث أفاض الناس; وكانت سنة إبراهيم وإسمعيل الإفاضة من عرفات.
3840 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح، قال: كانت قريش - لا أدري قبل الفيل أم بعده - ابتدعت أمر الحمس، رأيا رأوه بينهم، (1) قالوا: نحن بنو إبراهيم وأهل الحرمة وولاة البيت، وقاطنو مكة وساكنوها، (2) فليس لأحد من العرب مثل حقنا ولا مثل منزلنا، ولا تعرف له العرب مثل ما تعرف لنا، فلا تعظموا شيئا من الحل كما تعظمون الحرم، فإنكم إن فعلتم ذلك استخفت العرب بحرمكم" (3) وقالوا: قد عظموا من الحل مثل ما عظموا من الحرم، فتركوا الوقوف على عرفة، والإفاضة منها، وهم يعرفون ويقرون أنها من المشاعر والحج ودين إبراهيم، ويرون لسائر الناس أن يقفوا عليها، وأن يفيضوا منها، إلا أنهم قالوا: نحن أهل الحرم، فليس ينبغي لنا أن نخرج من الحرمة، ولا نعظم غيرها كما نعظمها نحن الحمس - والحمس: أهل الحرم.
ثم جعلوا لمن ولدوا من العرب من ساكني الحل مثل الذي لهم بولادتهم إياهم، فيحل لهم ما يحل لهم، ويحرم عليهم ما يحرم عليهم. وكانت كنانة وخزاعة قد دخلوا معهم في ذلك. ثم ابتدعوا في ذلك أمورا لم تكن، حتى قالوا:"لا ينبغي للحمس أن يأقطوا الأقط، ولا يسلأوا السمن وهم حرم، (4) ولا يدخلوا بيتا من شعر، ولا يستظلوا إن استظلوا إلا في بيوت الأدم ما كانوا حراما". ثم رفعوا في ذلك (5) فقالوا:"لا ينبغي لأهل الحل أن يأكلوا من طعام جاءوا به معهم من الحل
__________
(1) في سيرة ابن هشام: "رأيا رأوه وأداروه".
(2) في سيرة ابن هشام: "وقطان مكة وساكنها".
(3) في سيرة ابن هشام: "بحرمتكم".
(4) في سيرة ابن هشام: "أن يأتقطوا" ائتقط الأقط: اتخذه والأقط: شيء يتخذ من اللبن المخيض، يطبخ ثم يترك حتى يمصل وهو من ألبان الإبل خاصة. وسلأ السمن: طبخه وعالجه فأذاب زبده. والحرم (بضمتين) جمع حرام. رجل حرام: محرم.
(5) رفعوا في ذلك: زادوا وغالوا.(4/188)
في الحرم، (1) إذا جاءوا حجاجا أو عمارا، ولا يطوفون بالبيت إذا قدموا أول طوافهم إلا في ثياب الحمس، فإن لم يجدوا منها شيئا طافوا بالبيت عراة". فحملوا على ذلك العرب فدانت به، وأخذوا بما شرعوا لهم من ذلك، (2) فكانوا على ذلك حتى بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله- حين أحكم له دينه وشرع له حجه: (3) " ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم" - يعني قريشا، و"الناس" العرب- فرفعهم في سنة الحج إلى عرفات، والوقوف عليها، والإفاضة منها. فوضع الله أمر الحمس- وما كانت قريش ابتدعت منه- عن الناس بالإسلام حين بعث الله رسوله. (4)
3841 - حدثنا بحر بن نصر، قال: حدثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: كانت قريش تقف بقزح، وكان الناس يقفون بعرفة، قال: فأنزله الله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس".
* * *
وقال آخرون: المخاطبون بقوله:" ثم أفيضوا"، المسلمون كلهم، والمعني بقوله:" من حيث أفاض الناس"، من جمع، وبـ "الناس"، إبراهيم خليل الرحمن عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك.
3842 - حدثت عن القاسم بن سلام، قال: حدثنا هارون بن معاوية الفزاري، عن أبي بسطام عن الضحاك، قال: هو إبراهيم. (5)
__________
(1) في سيرة ابن هشام: "من الحل إلى الحرم".
(2) هذه الجملة غير موجودة بنصها في سيرة ابن هشام.
(3) في المطبوعة: "حجته" وفي سيرة ابن هشام: "وشرع له سنن حجه".
(4) الأثر: 3840 -في سيرة ابن هشام 1: 211- 216 وفي السيرة زيادات وقد أثبتنا الاختلاف آنفًا.
(5) الخبر: القاسم بن سلام بتشديد اللام: هو أبو عبيد الإمام الحجة صاحب كتاب الأموال وغيره من المؤلفات.
مروان بن معاوية الفزاري: مضت ترجمته: 1222، 3322. ووقع في المطبوعة هنا"هارون""مروان". وهو خطأ واضح. و"مروان الفزاري" من شيوخ القاسم بن سلام كما في ترجمته الممتعة في تاريخ بغداد 12: 403- 406.
أبو بسطام: هو مقاتل بن حيان النبطي البلخي وهو ثقة بينا ذلك في المسند: 3107.
الضحاك: هو ابن مزاحم الهلالي الخراساني وهو ثقة ما ذكرنا في المسند: 2262.
وهذا الخبر أشار إليه ابن كثير 1: 469 أنه"حكاه ابن جرير عن الضحاك بن مزاحم فقط". وهم السيوطي 1: 227، فذكره من رواية الطبري عن ابن عباس؟ ولعله سبق ذهنه لكثرة رواية الضحاك عن ابن عباس؟؟(4/189)
قال أبو جعفر: والذي نراه صوابا من تأويل هذه الآية، أنه عنى بهذه الآية قريش ومن كان متحمسا معها من سائر العرب لإجماع الحجة من أهل التأويل على أن ذلك تأويله.
وإذ كان ذلك كذلك فتأويل الآية: فمن فرض فيهن الحج، فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، وما تفعلوا من خير يعلمه الله.
وهذا، إذ كان ما وصفنا تأويله فهو من المقدم الذي معناه التأخير، والمؤخر الذي معناه التقديم، على نحو ما تقدم بياننا في مثله، (1) ولولا إجماع من وصفت إجماعه على أن ذلك تأويله. لقلت: أولى التأويلين بتأويل الآية ما قاله الضحاك من أن الله عنى بقوله:" من حيث أفاض الناس"، من حيث أفاض إبراهيم. لأن الإفاضة من عرفات لا شك أنها قبل الإفاضة من جمع، وقبل وجوب الذكر عند المشعر الحرام. وإذ كان ذلك لا شك كذلك، وكان الله عز وجل إنما أمر بالإفاضة من الموضع الذي أفاض منه الناس، بعد انقضاء ذكر الإفاضة من عرفات، وبعد أمره بذكره عند المشعر الحرام، ثم قال بعد ذلك:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"= كان معلوما بذلك أنه لم يأمر بالإفاضة إلا من الموضع الذي لم يفيضوا منه، دون الموضع الذي قد أفاضوا منه، وكان الموضع الذي قد
__________
(1) انظر فهرس المباحث العربية في الجزءين السالفين.(4/190)
أفاضوا منه فانقضى وقت الإفاضة منه، لا وجه لأن يقال:"أفض منه".
فإذ كان لا وجه لذلك، وكان غير جائز أن يأمر الله جل وعز بأمر لا معنى له، كانت بينة صحة ما قاله من التأويل في ذلك، وفساد ما خالفه، لولا الإجماع الذي وصفناه، وتظاهر الأخبار بالذي ذكرنا عمن حكينا قوله من أهل التأويل.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف يجوز أن يكون ذلك معناه:"والناس" جماعة،"وإبراهيم" صلى الله عليه وسلم واحد، والله تعالى ذكره يقول:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"؟
قيل: إن العرب تفعل ذلك كثيرا، فتدل بذكر الجماعة على الواحد. (1) ومن ذلك قول الله عز وجل: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) [آل عمران: 173] والذي قال ذلك واحد، وهو فيما تظاهرت به الرواية من أهل السير- نعيم بن مسعود الأشجعي، (2) ومنه قول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا) [المؤمنون: 51] قيل: عنى بذلك النبي صلى الله عليه وسلم= ونظائر ذلك في كلام العرب أكثر من أن تحصى. (3)
* * *
__________
(1) انظر فهرس المباحث العربية في الجزءين السالفين.
(2) انظر الاستيعاب: 301 وابن سعد 2/1/42 وتاريخ الطبري 3: 41- 42 ولكن الطبري لم يذهب هذا المذهب في تفسير الآية من سورة آل عمران 4: 118- 121 (بولاق) .
(3) سيعود الطبري بعد أسطر فيذكر تتمة تفسير هذا الشطر من الآية.(4/191)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا أفضتم من عرفات منصرفين إلى منى فاذكروا الله عند المشعر الحرام، وادعوه واعبدوه عنده، كما ذكركم بهدايته فوفقكم لما ارتضى لخليله إبراهيم، فهداه له من شريعة دينه، بعد أن كنتم ضلالا عنه.
* * *
وفي" ثم" في قوله:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس"، من التأويل وجهان:
أحدهما ما قاله الضحاك من أن معناه: ثم أفيضوا فانصرفوا راجعين إلى منى من حيث أفاض إبراهيم خليلي من المشعر الحرام، وسلوني المغفرة لذنوبكم، فإني لها غفور، وبكم رحيم. كما:-
3843 - حدثني إسماعيل بن سيف العجلي، قال: حدثنا عبد القاهر بن السري السلمي، قال: حدثنا ابن كنانة- ويكنى أبا كنانة-، عن أبيه، عن العباس بن مرداس السلمي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: دعوت الله يوم عرفة أن يغفر لأمتي ذنوبها، فأجابني أن قد غفرت، إلا ذنوبها بينها وبين خلقي. فأعدت الدعاء يومئذ، فلم أجب بشيء، فلما كان غداة المزدلفة قلت: يا رب، إنك قادر أن تعوض هذا المظلوم من ظلامته، وتغفر لهذا الظالم! فأجابني أن قد غفرت. قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فقلنا: يا رسول الله، رأيناك تضحك في يوم لم تكن تضحك فيه! قال:"ضحكت من عدو الله إبليس لما سمع بما سمع إذ هو يدعو بالويل والثبور، ويضع التراب على رأسه" (1)
__________
(1) الحديث: 3843 - إسماعيل بن سيف العجلي: لم أستطع التحقق من معرفته. فلم أجد في كتب التراجم إلا"إسماعيل بن سيف أبو إسحاق"- هكذا في الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 1/1/176 وأنه سأل أباه عنه، فقال: "هو مجهول". وله ترجمة في لسان الميزان 1: 409- 410 بل ثنتان ورجح الحافظ أنهما لشخص واحد. -فيما يظهر لي- من هذه الطبقة ولكني لا أجزم أنه هو شيخ الطبري هذا.
عبد القاهر بن السري السلمي البصري: قال ابن معين: "صالح" وذكره ابن شاهين في الثقات.
ابن كنانة: هو عبد الله بن كنانة بن عباس بن مرداس، كما تبين اسمه من التخريج -فيما يأتي- وكما ذكر في التراجم. وهو مجهول كما في التقريب والخلاصة. والمراد أنه مجهول الحال. وفي التهذيب: "قال البخاري" لم يصح حديثه". ولم يترجم له ابن أبي حاتم في العبادلة ولا في الأبناء مع أنه ذكره في ترجمة أبيه، كما سيأتي ولم أجد كنيته" أبا كنانة" إلا في هذا الموضع فستفاد منه.
أبوه"كنانة بن العباس": ترجمه البخاري في الكبير 4/1/236 قال: "كنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه. روى عنه ابنه". وبنحو ذلك ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/169. ولم يذكرا فيه جرحا ولم يسميا ابنه. وبنحو هذا ذكره ابن حبان في الثقات ص: / 317 ولم يسم ابنه أيضًا. ثم ذكره في كتاب المجروحين في الورقة: 192 قال: "كنانة بن العباس بن مرداس السلمي يروي عن أبيه روى عنه ابنه: منكر الحديث جدا فلا أدري: التخليط في حديثه منه، أو من ابنه؟ أو من أيهما كان فهو ساقط الاحتجاج بما روى لعظم ما أتى من المناكير عن المشاهير"!! هكذا قال ابن حبان مهولا في غير موضع التهويل! فما ذكر العلماء الحفاظ لكنانة غير هذا الحديث الواحد. وما هو بمنكر المعنى وإن كان الإسناد إليه فيه ضعف بجهالة حال عبد الله ابن كنانة. وكنانة هذا قال فيه ابن مندة: "يقال إن لكنانة صحبة" ولذلك ذكره الحافظ في الإصابة 5: 318 في القسم الثاني ممن لهم رؤية وأشار إلى خطأ ابن حبان بأنه ذكره في الثقات"ثم غفل فذره في الضعفاء".
والحديث رواه عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند: 16276 (4: 14- 15 حلبي) عن إبراهيم بن الحجاج الناجي. ورواه ابن ماجه: 3013 عن أيوب بن محمد الهاشمي. ورواه البيهقي 5: 118 من طريق أبي داود الطيالسي -ثلاثتهم عن عبد القاهر بن السري"حدثنا عبد الله ابن كنانة بن عباس بن مرداس السلمي" - إلخ، كما في رواية ابن ماجه. وفي روايتي عبد الله بن أحمد والبيهقي: "حدثني ابن كنانة بن العباس بن مرداس". وكذلك روى أبو داود في السنن: 5234- قطعة منه، عن عيسى بن إبراهيم البركي، وعن أبي الوليد الطيالسي كلاهما عن عبد القاهر بن السري. وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2: 127- 128 من رواية ابن ماجه ثم من رواية البيهقي. ثم نقل عن البيهقي أنه قال: "وهذا الحديث له شواهد كثيرة، وقد ذكرناها في كتاب البعث. فإن صح بشواهده ففيه الحجة. وإن لم يصح، فقد قال الله تعالى: (ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء) . وظلم بعضهم بعضا دون الشرك. انتهى". وذكره السيوطي 1: 230 ونسبه أيضًا للطبراني. والضياء المقدسي في المختارة.(4/192)
3844 - حدثني مسلم بن حاتم الأنصاري، قال: حدثنا بشار بن بكير الحنفي، قالا حدثنا عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع، عن ابن عمر، قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة، فقال:"أيها الناس إن الله تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل محسنكم، وأعطى محسنكم ما سأل، ووهب(4/193)
مسيئكم لمحسنكم، إلا التبعات فيما بينكم، أفيضوا على اسم الله. فلما كان غداة جمع قال:"أيها الناس، إن الله قد تطول عليكم في مقامكم هذا، فقبل من محسنكم، ووهب مسيئكم لمحسنكم، والتبعات بينكم عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله. فقال أصحابه: يا رسول الله، أفضت بنا بالأمس كئيبا حزينا، وأفضت بنا اليوم فرحا مسرورا! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إني سألت ربي بالأمس شيئا لم يجد لي به، سألته التبعات فأبى علي، فلما كان اليوم أتاني جبريل قال: إن ربك يقرئك السلام ويقول التبعات ضمنت عوضها من عندي". (1)
* * *
فقد بين هذان الخبران أن غفران الله التبعات التي بين خلقه فيما بينهم، إنما هو غداة جمع، وذلك في الوقت الذي قال جل ثناؤه:" ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله"، لذنوبكم، فإنه غفور لها حينئذ، تفضلا منه عليكم، رحيم بكم.
* * *
__________
(1) الحديث: 3844 - مسلم بن حاتم أبو حاتم الأنصاري: ثقة من شيوخ أبي داود والترمذي وثقه الترمذي والطبراني.
بشار بن بكير الحنفي: لم أجد له ترجمة بعد طول البحث والتتبع، حتى لقد ظننته محرفا لولا أن وجدته مذكورا أيضًا في إسناد هذا الحديث في الحلية لأبي نعيم.
عبد العزيز بن أبي رواد المكي: ثقة معروف بالورع والصلاح والعبادة. ومن تكلم فيه من أجل رأيه فلا حجة له.
والحديث رواه أبو نعيم في الحلية 8: 199 بإسنادين: من طريق أبي هشام عبد الرحيم بن هارون الغساني ومن طريق بشار بن بكير الحنفي -كلاهما عن عبد العزيز بن أبي رواد. ثم قال: "السياق لبشار بن بكير وحديث أبي هاشم فيه اختصار. . . غريب تفرد به عبد العزيز عن نافع ولم يتابع عليه".
وذكر المنذري في الترغيب والترهيب 2: 127 نحو معناه من حديث عبادة بن الصامت ثم قال: "رواه الطبراني في الكبير ورواته محتج بهم في الصحيح إلا أن فيهم رجلا لم يسم". وكذلك ذكره الهيثمي في الزوائد 3: 256- 257. ثم ذكر كلاهما بعده حديثا بنحوه لأنس بن مالك ونسباه لأبي يعلى. وقال الهيثمي: "وفيه صالح المري وهو ضعيف" وكذلك ذكرهما السيوطي 1: 230 دون بيان تعليلهما.(4/194)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)
والآخر منهما:" ثم أفيضوا" من عرفة إلى المشعر الحرام، فإذا أفضتم إليه منها فاذكروا الله عنده كما هداكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}
قال أبو جعفر: يعني بقول جل ثناؤه:" فإذا قضيتم مناسككم "، فإذا فرَغتم من حَجكم فذبحتم نَسائككم، فاذكروا الله (1)
* * *
يقال منه:"نسك الرجل يَنسُك نُسْكًا ونُسُكًا ونسيكة ومَنْسَكًا"، إذا ذبح نُسُكه، و"المنسِك" اسم مثل"المشرق والمغرب"، فأما"النُّسْك" في الدين، فإنه يقال منه:" ما كان الرجل نَاسكًا، ولقد نَسَك، ونَسُك نُسْكًا نُسُكًا ونَساكة"، (2) وذلك إذا تقرَّأ. (3)
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى"المناسك" في هذا الموضع قال مجاهد:
3845 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا قَضَيتم مَناسككم"، قال: إهراقة الدماء. (4)
__________
(1) انظر تفسير"قضى" فيما سلف 2: 542، 543.
(2) انظر تفسير"نسك" فيما سلف من 3: 75- 80/ ثم هذا الجزء وفي النسك الذي هو الذبح. مصادر لم تذكر في كتب اللغة.
(3) تقرأ الرجل: تفقه وتنسك فهو قارئ ومتقرى وقراء (بضم القاف وتشديد الراء) .
(4) "إهراقة" مصدر هراق الدم يهريقه، هراقة وإهراقة وهو سفحه وصبه.(4/195)
3846 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
وأما قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدَّ ذكرًا"، فإنّ أهل التأويل اختلفوا في صفة" ذكر القوم آباءهم"، الذين أمرَهم الله أن يجعلوا ذكرهم إياه كذكرهم آباءَهم أو أشد ذكرًا.
فقال بعضهم: كان القوم في جاهليتهم بعد فراغهم من حجهم ومناسكهم يجتمعون فيتفاخرون بمآثر آبائهم، فأمرهم الله في الإسلام أن يكون ذكرُهم بالثناء والشكر والتعظيم لربهم دون غيره، وأن يُلزموا أنفسهم من الإكثار من ذكره، نظيرَ ما كانوا ألزموا أنفسهم في جاهليتهم من ذكر آبائهم.
* ذكر من قال ذلك:
3847 - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا إسحاق بن يوسف، عن القاسم بن عثمان، عن أنس في هذه الآية، قال: كانوا يذكرون آباءهم في الحج، فيقول بعضهم: كان أبي يطعم الطعام، ويقول بعضهم: كان أبي يضرب بالسيف! ويقول بعضهم: كان أبي جزَّ نواصي بني فلان!.
3848 - حدثني محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان. عن عبد العزيز، عن مجاهد قال: كانوا يقولون: كان آباؤنا ينحرون الجُزُر، ويفعلون كذا! فنزلت هذه الآية:" أذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا":
3849 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل:" فاذكروا الله كذركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال: كان أهل الجاهلية يذكرون فَعَال آبائهم.
3850 - حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش، قال: كان(4/196)
أهل الجاهلية إذا فَرغوا من الحج قاموا عند البيت فيذكرون آباءَهم وأيامهم: كان أبي يُطعم الطعام! وكان أبي يفعل! فذلك قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم"= قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل.
3851 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني حجاج عمن حدثه، عن مجاهد في قوله:" اذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: كانوا إذا قَضَوا مناسكهم وقفوا عند الجَمرة فذكروا آباءهم، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفَعال آبائهم، فنزلت هذه الآية.
3852 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن عبد الملك، عن قيس، عن مجاهد في قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم" قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم وَقفوا عند الجمرة، وذكروا أيامهم في الجاهلية وفعال آبائهم. قال: فنزلت هذه الآية.
3853 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم"، قال: تفاخرت العرب بَينها بفعل آبائها يوم النحر حين فَرَغوا فأمروا بذكر الله مكانَ ذلك.
3854 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، نحوه.
3855 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم" قال قتادة: كان أهل الجاهلية إذا قضوا مناسكهم بمنىً قعدوا حِلَقًا فذكروا صنيعَ آبائهم في الجاهلية وفَعالَهم به، يخطب خطيبهم ويُحدِّث محدثهم، فأمر الله عز وجل المسلمين أن يذكروا الله كذكر أهل الجاهلية آباءهم أو أشد ذكرًا.(4/197)
3856 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا" قال: كانوا إذا قضوا مناسكهم اجتمعوا فافتخروا، وذكروا آباءهم وأيامها، فأمروا أن يجعلوا مكان ذلك ذكرَ الله، يذكرونه كذكرهم آبائهم، أو أشد ذكرًا.
3857 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن سعيد بن جبير وعكرمة قالا كانوا يذكرون فعل آبائهم في الجاهلية إذا وَقفوا بعرفة، فنزلت هذه الآية.
3858 - حدثنا القاسم، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: أخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول ذلك يومَ النحر، حين ينحرون. قال: قال" فاذكروا الله كذكركم آبائكم" قال: كانت العرب يوم النحر حين يفرُغون يَتفاخرون بفَعَال آبائها، فأمروا بذكر الله عز وجل مكانَ ذلك:
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فاذكروا الله كذكر الأبناءِ والصِّبيانِ الآباءَ.
* ذكر من قال ذلك:
3859 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عثمان بن أبي رواد، عن عطاء أنه قال في هذه الآية:" كذكركم آباءَكم" قال: هو قول الصبيّ: يا أباه!.
3860 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا زهير، عن جويبر، عن الضحاك:" فاذكروا الله كذكركم آباءكم" يعني بالذكر، ذكر الأبناء الآباء.
3861 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء:" كذكركم آباءكم": أبَهْ! أمَّهْ!.(4/198)
3862 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا صالح بن عمر، عن عبد الملك، عن عطاء، قال: كالصبي، يَلهج بأبيه وأمه.
3863 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشدّ ذكرًا"، يقول: كذكر الأبناء الآباءَ أو أشد ذكرًا.
3864 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، يقول: كما يذكر الأبناء الآباء.
3865 - حدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: أخبرنا عُبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:" كذكركم آباءكم" يعني ذكر الأبناء الآباء.
* * *
وقال آخرون: بل قيل لهم:" اذكروا الله كذكركم آباءكم"، لأنهم كانوا إذا قضوا مناسكهم فدعوا ربَّهم، لم يذكروا غير آبائهم، فأمروا من ذكر الله بنظير ذكر آباءهم.
* ذكر من قال ذلك:
3866 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فإذا قَضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال: كانت العرب إذا قَضت مناسكها، وأقاموا بمنى، يقومُ الرجل فيسأل الله ويقول:"اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة عَظيم القبة، كثير المال، فأعطني مثل ما أعطيتَ أبي!! "، ليس يذكر الله، إنما يذكر آباءه، ويسأل أن يُعطى في الدنيا.
* * *(4/199)
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمرَ عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له، بعد قَضاء مَناسكهم. وذلك"الذكر" جائز أن يكون هو التكبير الذي أمرَ به جل ثناؤه بقوله: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ) [سورة البقرة:203] الذي أوجبه على من قضى نُسكه بعد قضائه نُسكه، فألزمه حينئذ مِنْ ذِكْره ما لم يكن له لازمًا قبل ذلك، وحثَّ على المحافظة عليه مُحافظة الأبناء على ذكر الآباء في الآثار منه بالاستكانة له والتضرع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرُّع الولد لوالده، والصبي لأمه وأبيه، أو أشد من ذلك، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه، وهو وليه.
وإنما قلنا:"الذكر" الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاجَّ بعد قضاء مَناسكه بقوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا":"جائزٌ أن يكون هو التكبير الذي وَصفنا"، من أجل أنه لا ذكر لله أمرَ العباد به بعد قَضاء مَناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم، سوى التكبير الذي خصَّ الله به أيام منى.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان معلومًا أنه جل ثناؤه قد أوجبَ على خلقه بعد قَضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبًا عليهم قبل ذلك، وكان لا شيء من ذكره خَصّ به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه= كانت بَيِّنةً صحةُ ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا.
* * *(4/200)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإذا قَضيتم مناسككم أيها المؤمنون فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا، وارغبوا إليه فيما لديه من خير الدنيا والآخرة بابتهال وتمسكن، واجعلوا أعمالكم لوجهه خالصًا ولطلب مرضاته، وقولوا:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنةً وفي الآخرة حَسنة وقنا عذاب النار"، ولا تكونوا كمن اشترى الحياةَ الدنيا بالآخرة، فكانت أعمالهم للدنيا وزينتها، فلا يسألون ربهم إلا متاعها، ولا حظَّ لهم في ثواب الله، ولا نصيبَ لهم في جناته وكريم ما أعدَّ لأوليائه، كما قال في ذلك أهل التأويل.
3867 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل:" فمن الناس من يقول ربَّنا آتنا في الدنيا"، هب لنا غنمًا! هب لنا إبلا! " وماله في الآخرة من خلاق".
3868 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن عاصم، عن أبي وائل، قال: كانوا في الجاهلية يقولون:" هبْ لنا إبلا! "، ثم ذكر مثله.
3869 - حدثنا أبو كريب، قال: سمعت أبا بكر بن عياش في قوله:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا ومَا له في الآخرة من خَلاق"، قال: كانوا = يَعني أهلَ الجاهلية = يقفون - يعني بعد قضاء مناسكهم - فيقولون:" اللهم ارزقنا إبلا! اللهم ارزقنا غنمًا! "، فأنزل الله هذه الآية:" فمن الناس من يقول ربّنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق" = قال أبو كريب: قلت ليحيى بن آدم: عمن هو؟ قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، عن عاصم، عن أبي وائل.(4/201)
3870 - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: أخبرنا إسحاق، عن القاسم بن عثمان، عن أنس:" فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، قال: كانوا يطوفون بالبيت عُراة فيدعون فيقولون:" اللهم اسقنا المطر، وأعطنا على عدونا الظفر، ورُدَّنا صَالحين إلى صالحين!.
3871 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تبارك وتعالى:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا" نَصرًا ورزقًا، ولا يسألون لآخرتهم شيئًا.
3872 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3873 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قول الله:" فمن الناس من يقول ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، فهذا عبدٌ نَوَى الدنيا، لها عملَ، ولها نَصِب.
3874 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:" فمن الناس من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خلاق"، قال: كانت العرب إذا قضت مناسكها وأقامت بمنى لا يذكر اللهَ الرجلُ منهم، وإنما يذكر أباه، ويسأل أن يُعطَي في الدنيا.
3875 - حدثني يونس، قال: حدثنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا"، قال كانوا أصنافًا ثلاثة في تلك المواطن يومئذ: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأهلُ الكفر، وأهلُ النفاق. فمن الناس من يقول:" ربنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق" إنما حجوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة، ولا يؤمنون بها= ومنهم من يقول:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة"، الآية= قال: والصنف الثالث:" ومنَ الناس مَن يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" الآية.(4/202)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)
وأما معنى"الخلاق" فقد بيناه في غير هذا الموضع، وذكرنا اختلافَ المختلفين في تأويله والصحيحَ لدينا من معناه بالشواهد من الأدلة وأنه النصيب، بما فيه كفاية عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الحسنة" التي ذكر الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم. يعني بذلك: ومن الناس مَن يقول: ربَّنا أعطنا عافية في الدنيا وعافية في الآخرة.
* ذكر من قال ذلك:
3876 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنة"، قال: في الدنيا عافيةً، وفي الآخرة عافية. قال قتادة: وقال رجل:" اللهم ما كنتَ معاقبي به في الآخرة فعجِّله لي في الدنيا"، فمرض مرضًا حتى أضنى على فراشه، (2) فذكر للنبي صلى الله عليه وسلم شأنُه، فأتاه النبي عليه السلام، فقيل له: إنه دعا بكذا وكذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنه لا طاقة لأحد بعقوبه الله، ولكن قُل:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة وقنا عَذاب النار". فقالها، فما لبث إلا أيامًا= أو: يسيرًا =حتى بَرَأ.
__________
(1) انظر ما سلف 2: 452- 454.
(2) أضنى الرجل: إذا لزم الفراش من الضنى وهو شدة المرض حتى ينحل الجسم.(4/203)
3877 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سعيد بن الحكم، قال: أخبرنا يحيى بن أيوب، قال: حدثني حميد، قال: سمعت أنس بن مالك يقول: عاد رَسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد صار مثل الفرْخ المنتوف، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو الله بشيء؟ - أو تسأل الله شيئًا؟ قال: قلت:"اللهم ما كنت مُعاقبي به في الآخرة فعاقبني به في الدنيا! ". قال:" سبحان الله! هل يستطيع ذلك أحد أو يطيقه؟ فهلا قلت:" اللهم آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار؟ ". (1)
* * *
وقال آخرون: بل عَنى الله عز وجل بـ "الحسنة" - في هذا الموضع- في الدنيا، العلمَ والعبادة، وفي الآخرة: الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الحديث: 3877 -سعيد بن الحكم: هو"سعيد بن أبي مريم الجمحي" مضت الإشارة إليه في: 22 وهو ثقة حجة. "يحيى بن أيوب" هو الغافقي أبو العباس المصري وهو ثقة حافظ أخرج له أصحاب الكتب الستة.
حميد: هو ابن أبي حميد الطويل وهو تابعي ثقة، سمع من أنس بن مالك، وسمع من ثابت البناني عن أنس. وزعم بعضهم أنه لم يسمع من أنس إلا أحاديث قليلة وأن سائرها إنما هو"عن ثابت عن أنس". ورد الحافظ ذلك ردا شديدا، وقال: "قد صرح حميد بسماعه من أنس بشيء كثير. وفي صحيح البخاري من ذلك جملة".
وإنما فصلت هذا لأن رواية هذا الحديث هنا فيها تصريح حميد بسماعه من أنس. ولكنه رواه أحمد ومسلم من حديث حميد، عن ثابت عن أنس. فلعله سمعه من أنس ومن ثابت عن أنس:
فرواه أحمد في المسند: 12074 (3: 107 حلبي) عن ابن أبي عدي وعبد الله بن بكر السهمي - كلاهما عن حميد عن ثابت عن أنس. وكذلك رواه مسلم 2: 309 من طريق ابن أبي عدي عن حميد ثم من طريق خالد بن الحارث عن حميد.
وذكره ابن كثير 1: 472- 473 من رواية المسند. ثم قال: "انفرد بإخراجه مسلم" يعني انفرد به عن البخاري.
وذكره السيوطي 1: 233 وزاد نسبته لعبد بن حميد وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وأبي يعلى وابن حبان وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب. ولكنه وهم فنسبه أيضًا للبخاري ولم أجده فيه، مع جزم ابن كثير بانفراد مسلم بروايته.(4/204)
3878 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا عباد، عن هشام بن حسان، عن الحسن:" ومنهم من يقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: العلمُ والعبادةُ، وفي الآخرة: الجنة.
3879 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عمرو بن عون، قال: حدثنا هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الحسن في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة، وفي الآخرة حَسنةً، وقنا عذابَ النار"، قال: العبادة في الدنيا، والجنة في الآخرة.
3880 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن بن واقد العطار، قال: حدثنا عباد بن العوام، عن هشام، عن الحسن في قوله:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: الفهمُ في كتاب الله والعلم.
3881 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت سفيان الثوري يقول [في] هذه الآية:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، قال: الحسنة في الدنيا: العلمُ والرزق الطيب، وفي الآخرة حَسنة الجنة.
* * *
وقال آخرون:"الحسنة" في الدنيا: المال، وفي الآخرة: الجنة.
* ذكر من قال ذلك:
3882 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:" ومنهم مَنْ يقول رَبنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، قال: فهؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.
3883 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي" ومنهم من يَقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة"، هؤلاء المؤمنون; أما حسنة الدنيا فالمال، وأما حَسنة الآخرة فالجنة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أخبر عن قوم من أهل الإيمان به وبرسوله، ممن حجَّ بَيته، يسألون ربهم(4/205)
أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
الحسنة في الدنيا، والحسنة في الآخرة، وأن يقيهم عذاب النار. وقد تجمع"الحسنةُ" من الله عز وجل العافيةَ في الجسم والمعاش والرزق وغير ذلك، والعلم والعبادة.
وأما في الآخرة، فلا شك أنها الجَّنة، لأن من لم يَنلها يومئذ فقد حُرم جميع الحسنات، وفارق جميع مَعاني العافية.
وإنما قلنا إن ذلك أولى التأويلات بالآية، لأن الله عز وجل لم يخصص بقوله - مخبرًا عن قائل ذلك- من معاني"الحسنة" شيئًا، ولا نصب على خُصوصه دلالة دالَّةً على أن المراد من ذلك بعض دون بعض، فالواجب من القول فيه ما قلنا: من أنه لا يجوز أن يُخَصّ من معاني ذلك شيء، وأن يحكم له بعمومه على ما عَمَّه الله.
* * *
وأما قوله:" وقنا عذاب النار"، فإنه يعني بذلك: اصرف عنا عَذاب النار.
* * *
ويقال منه:"وقيته كذا أقيه وِقاية وَوَقاية ووِقاء"، ممدودًا، وربما قالوا:" وقاك الله وَقْيًا"، إذا دفعت عنه أذى أو مكروهًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"أولئك" الذين يقولون بعد قضاء مناسكهم:" ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وَقِنا عذاب النار"، رغبةً منهم إلى الله جل ثناؤه فيما عنده، وعلمًا منهم بأن الخيرَ كله من عنده، وأن الفضل بيده يؤتيه من يَشاء. فأعلم جل ثناؤه أنّ لهم نصيبًا وحظًّا من حجِّهم ومناسكهم، وثوابًا جزيلا على عملهم الذي كسبوه، وبَاشروا معاناته بأموالهم وأنفسهم،(4/206)
خاصًّا ذلك لهم دون الفريق الآخر، الذين عانوا ما عانوا من نَصَب أعمالهم وتعبها، وتكلَّفوا ما تكلفوا من أسفارهم، بغير رغبةٍ منهم فيما عند رَبهم من الأجر والثواب، ولكن رجاء خسيس من عَرض الدنيا، وابتغاء عَاجل حُطامها. كما:-
3884 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:" فمن الناسَ من يقول رَبنا آتنا في الدنيا وما له في الآخرة من خَلاق"، قال: فهذا عبد نوى الدنيا، لها عمل ولها نَصِب،" ومنهم من يقول رَبنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حَسنة وقنا عذابَ النار. أولئك لَهم نصيب مما كسبوا"، أي حظٌّ من أعمالهم.
3885 - وحدثني يونس، قال أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في:" فمن الناس مَن يَقول رَبنا آتنا في الدنيا ومَاله في الآخرة من خَلاق"، إنما حَجُّوا للدنيا والمسألة، لا يريدون الآخرة ولا يؤمنون بها،" ومنهم مَن يقول رَبنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حَسنةً وقنا عذاب النار"، قال: فهؤلاء النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنون=" أولئك لهم نصيبٌ مما كسبوا والله سريع الحساب"، لهؤلاء الأجرُ بما عملوا في الدنيا.
* * *
وأما قوله:" والله سريع الحساب"، فإنه يعني جل ثناؤه: أنه محيط بعمل الفريقين كليهما اللذين من مسألة أحدهما:" رَبنا آتنا في الدنيا"، ومن مسألة الآخر:" ربنا آتنا في الدنيا حَسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار"، فَمُحْصٍ له بأسرع الحساب، (1) ثم إنه مجازٍ كلا الفريقين على عمله.
وإنما وصف جل ثناؤه نفسه بسرعة الحساب، لأنه جل ذكره يُحصى ما يُحصى من أعمال عباده بغير عَقد أصابع، ولا فكرٍ ولا رَوية، فِعلَ العَجَزة الضَّعَفة من الخلق، ولكنه لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يَعزب عنه مثقال ذرة فيهما، ثم هو مُجازٍ عبادَه على كل ذلك. فلذلك امتدح
__________
(1) قوله: "فمحص" عطف على قوله: "أنه محيط. . . "(4/207)
نفسه جل ذكره بسرعة الحساب، (1) وأخبر خلقه أنه ليس لهم بمِثْلِ، فيحتاجَ في حسابه إلى عَقد كف أو وَعْي صَدر.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فلذلك جل ذكره امتدح بسرعة الحساب"، والذي أثبت أشبه بالصواب إن شاء الله.(4/208)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}
قال أبو جعفر: يعني جَلّ ذكره: أذكروا الله بالتوحيد والتعظيم في أيام مُحصَيات، وهي أيام رَمي الجمار. أمر عباده يومئذ بالتكبير أدبارَ الصلوات، وعند الرمي مع كل حصاة من حَصى الجمار يرمي بها جَمرةً من الجمار.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
3886 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال: أيام التشريق.
3887 - حدثني محمد بن نافع البصري، قال: حدثنا غندر: قال: حدثنا شعبة، عن هشيم، عن أبى بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله. (1)
3888 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، يعني الأيام المعدودات أيامَ التشريق، وهي ثلاثة أيام بعد النحر.
__________
(1) الأثر: 3887 -"محمد بن نافع البصري" هو محمد بن أحمد بن نافع العبدي القيسي أبو بكر بن نافع البصري مشهور بكنيته. مترجم في التهذيب"غندر" هو محمد بن جعفر الهذلي مولاهم أبو عبد الله البصري. مترجم في التهذيب.(4/208)
3889 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، يعني أيام التشريق.
3890 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، مثله.
3891 - وحدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مخلد، عن ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس: سمعه يوم الصَّدَر يَقول بعد ما صدر يُكبر في المسجد ويتأول:" واذكروا الله في أيام مَعدودات".
3892 - حدثنا علي بن داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" واذكروا الله في أيام معدودات"، يعني أيام التشريق.
3893 - حدثنا عبد الحميد بن بيان السكري، قال: أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن عطاء بن أبي رباح في قول الله عز وجل:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال: هي أيام التشريق.
3894 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثني أبي، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء، مثله.
3895 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال أيام التشريق بمنى.
3896 - حدثنا محمد بن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن ليث، عن مجاهد وعطاء قالا هي أيام التشريق.
3897 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.(4/209)
3898 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، مثله.
3899 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم قال: الأيام المعدودات: أيام التشريق.
3900 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، مثله.
3901 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا يونس، عن الحسن، قال: الأيام المعدودات: الأيام بعد النحر.
3902 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سألت إسماعيل بن أبي خالد عن"الأيام المعدودات"، قال: أيام التشريق.
3903 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، فقال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، كنا نُحدَّث أنها أيام التشريق.
3904 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" واذكروا الله في أيام معدودات"، قال: هي أيام التشريق.
3905 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" أما الأيام المعدوداتُ": فهي أيام التشريق.
3906 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
3907 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك، قال:" الأيام المعدودات"، ثلاثة أيامٍ بعد يوم النحر.
3908 - حدثت عن حسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن(4/210)
خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:" في أيام معدودات" قال: أيام التشريق الثلاثة.
3910 - حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال: سألت ابن زيد عن" الأيام المعدودات" و"الأيام المعلومات"، فقال:"الأيام المعدودات" أيام التشريق،"والأيام المعلومات"، يوم عرفة، ويوم النحر، وأيام التشريق.
* * *
وإنما قلنا: إنّ"الأيام المعدودات"، هي أيام منى وأيام رمي الجمار لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول فيها: إنها أيام ذكر الله عز وجل.
* ذكر الأخبار التي رويت بذلك:
3911 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وخلاد بن أسلم، قال: حدثنا هشيم، عن عمر بن أبي سلمة، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيام التشريق أيام طُعْمٍ وذِكْر". (1)
__________
(1) الحديث: عمر بن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف: ثقة وثقه أحمد وغيره وتكلم فيه آخرون من قبل حفظه.
والحديث رواه أحمد في المسند: 7134 عن هشيم بهذا الإسناد. ورواه أيضًا: 9008 (2: 387 حلبي) عن عفان عن أبي عوانة عن عمر بن أبي سلمة.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 428 من طريق سعيد بن منصور عن هشيم به.
ولم ينفرد عمر بن أبي سلمة بروايته. فرواه ابن ماجه: 1719 من طريق محمد بن عمرو عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال البوصيري في زوائده: "إسناده صحيح على شرط الشيخين".
وسيأتي عقب هذا من رواية سعيد بن المسيب عن أبي هريرة.(4/211)
3912 - حدثنا خلاد، قال: حدثنا روح، قال: حدثنا صالح، قال: حدثني ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعثَ عبد الله بن حُذافة يطوف في منى:"لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله عز وجل". (1)
3912م - وحدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا بشر بن المفضل= وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية= قالا جميعًا، حدثنا خالد، عن أبي قلابة، عن أبي المليح، عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إن هذ الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله.
3913 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن ابن أبي ليلى، عن عطاء، عن عائشة، قالت: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق وقال: هي أيام أكل وشرب وذكر الله. (2)
3914 - حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عمرو بن دينار: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بَعث بشر بن سُحَيم، فنادى في أيام التشريق، فقال: إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله. (3)
__________
(1) الحديث: 3912 - روح: هو ابن عبادة. صالح: هو ابن أبي الأخضر اليمامي. وهو ثقةن تكلموا في روايته عن الزهري بما ليس بقادح. وهو كان خادما لزهري فالظاهر أن يكون عرف عن الزهري ما لم يعرف غيره.
والحديث رواه أحمد في المسند: 10674، 10930 (2: 513، 535 حلبي) عن روح ابن عبادة بهذا الإسناد. وكذلك رواه الطحاوي 1: 428 ونسباه للطبري فقط.
وانظر ما مضى: 3471 وما يأتي: 3916.
(2) الحديث: 3913 - خالد: هو ابن مهران الحذاء. أبو قلابة: هو الجرمي عبد الله ابن زيد. أبو المليح: هو ابن أسامة الهذلي. وهذا إسناد صحيح ليست له علة.
ويشهد له ما روى البخاري 4: 211 (فتح) من طريق الزهري عن عروة عن عائشة - وعن سالم عن ابن عمر قالا: "لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدى" وهو مرفوع حكما -على الراجح- وإن كان لفظه لفظ الموقوف.
وقد مضى معناه مرفوعا لفظا من وجه آخر، عن الزهري عن سالم عن ابن عمر.
وانظر الحديث التالي لهذا.
(3) الحديث: 3914 - ابن أبي ليلى: هو محمد بن عبد الرحمن. عطاء: هو ابن أبي رباح وهذا إسناد حسن.
والحديث رواه الطحاوي 1: 428 من طريق سعيد بن منصور عن هشيم بهذا الإسناد. وذكره ابن كثير 1: 475 ولم يذكر تخريجه. وذكره السيوطي 1: 235 منسوبا للطبري فقط.(4/212)
3915 - حدثني يعقوب. قال: حدثنا هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس فنادى في أيام التشريق فقال:"إن هذه الأيام أيام أكل وشرب وذكر الله، إلا من كان عليه صومٌ من هَدْي". (1)
3916 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، عن حكيم بن حكيم، عن مسعود بن الحكم الزُّرَقي، عن أمه قالت: لكأني أنظر إلى عليٍّ رضي الله عنه على بغلة رسول الله صلى الله عليه وسلم البيضاء حين وقف على شِعْب الأنصار وهو يقول:"أيها الناس إنها ليست بأيام صيام، إنما هي أيام أكل وشرب وذكر". (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 3915 - هذا إسناد مرسل لأن عمرو بن دينار تابعي. ولكن الحديث ورد من طريقه متصلا صحيحًا وكذلك من غير طريقه:
فرواه أحمد في المسند: 15496 (3: 415 حلبي) عن محمد بن جعفر عن شعبة عن عمرو بن دينار"عن نافع بن جبير بن مطعم عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه بعث بشر بن سحيم فأمره أن ينادي: ألا إنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمن وإنها أيام أكل وشرب يعني أيام التشريق".
ورواه أحمد أيضًا بنحوه (4: 235 حلبي) عن سريج عن حماد بن زيد عن عمرو بن دينار عن نافع بن جبير عن بشر بن سحيم. وكذلك رواه الطحاوي 1: 429 عن ابن خزيمة عن حجاج بن منهال عن حماد بن زيد به.
ورواه شعبة أيضًا عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير وروايته في مسند الطيالسي 1299 ومسند أحمد: 15497 (3: 415 حلبي) والطحاوي 1: 429.
وكذلك رواه سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت عن نافع بن جبير وروايته في المسند: 15495 (3: 415 حلبي) وفيه أيضًا (4: 235 حلبي) وسنن ابن ماجه: 1730 وقال البوصيري في زوائده: "رواه ابن خزيمة في صحيحه". وكذلك رواه البيهقي 4: 298.
(2) الحديث: 3916 - مضى بهذا الإسناد: 3471.
حكيم بن حكيم بفتح الحاء فيهما بن عباد بن حنيف: ثقة وثقه ابن حبان والعجلي وغيرهما وصحح له الترمذي وابن خزيمة. وترجمه البخاري في الكبير 2/1/17 وابن أبي حاتم 1/2/202 فلم يذكرا فيه جرحا.
مسعود بن الحكم بن الربيع الزرقي الأنصاري المدني: تابعي ثقة يعد في جلة التابعين وكبارهم. وأمه صحابية معروفة.
والحديث رواه ابن سعد في الطبقات 2/1/134 عن إسماعيل بن إبراهيم -وهو ابن علية- بهذا الإسناد.
ورواه الحاكم في المستدرك 1: 434- 435 من طريق أحمد بن حنبل عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وهذا الإسناد -من طريق الإمام احمد: ليس من طريق رواية المسند بل من طريق آخر عنه ولم يذكر هذا الإسناد في المسند. ولكنه رواه بإسناد آخر:
فرواه في المسند: 708 عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه عن ابن إسحاق: "حدثني عبد اله بن أبي سلمة عن مسعود بن الحكم الأنصاري ثم الزرقي عن أمه أنها حدثته. . . " فذكر الحديث. وهذا إسناد صحيح أيضًا. فلابن إسحاق فيه شيخان سمعه منهما: حكيم بن حكيم وعبد الله بن أبي سلمة الماجشون- كلاهما عن مسعود بن الحكم.
وانظر أيضًا في المسند: 567، 821، 824.(4/213)
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم إذ قال في أيام منى: إنها أيام أكل وشرب وذكر الله، لم يخبر أمَّته أنها"الأيام المعدودات" التي ذكرها الله في كتابه، فما تنكر أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم عنى بقوله:"وذكْر الله"،"الأيامَ المعلومات"؟
قيل: غير جائز أن يكون عنى ذلك. لأن الله لم يكن يُوجب في"الأيام المعلومات" من ذكره فيها ما أوجبَ في"الأيام المعدودات". وإنما وصف"المعلومات" جل ذكره بأنها أيام يذكر فيها اسم الله على بهائم الأنعام، فقال: (لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ) [الحج: 28] ، فلم يوجب في"الأيام المعلومات" من ذكره كالذي أوجبه في"الأيام المعدودات" من ذكره، بل أخبر أنها أيام ذكره علىَ بهائم الأنعام. فكان معلومًا= إذ قال صلى الله عليه وسلم لأيام التشريق:" إنها أيام أكل وشرب وذكر الله" فأخرج قوله:" وذكر الله" مطلقًا بغير شرط، ولا إضافة، إلى أنه الذكر على بهائم الأنعام = أنه عنى بذلك الذكر الذي ذكره الله في كتابه، فأوجبه على عباده مطلقًا بغير شرط ولا إضافة إلى معنى في"الأيام المعدودات"، وأنه لو كان أراد بذلك صلى الله عليه وسلم(4/214)
وصف"الأيام المعلومات" به، لوصل قوله:" وذكر"، إلى أنه ذكر الله على ما رزقهم من بهائم الأنعام، كالذي وصف الله به ذلك، ولكنه أطلق ذلك باسم الذكر من غير وصله بشيء، كالذي أطلقه تبارك وتعالى باسم الذكر، فقال:" واذكروا الله في أيام معدودات" فكان ذلك من أوضح الدليل على أنه عنى بذلك ما ذكره الله في كتابه وأوجبه في"الأيام المعدودات".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: معناه: فمن تعجل في يَومين من أيام التشريق فنفر في اليوم الثاني فلا إثم عليه في نَفْره وتعجله في النفر، ومن تأخر عن النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق إلى اليوم الثالث حتى ينفر في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تأخره.
* ذكر من قال ذلك.
3917 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا هشيم، عن عطاء، قال: لا إثم عليه في تعجيله، ولا إثم عليه في تأخيره.
3918 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال. حدثنا هشيم، عن عوف، عن الحسن، مثله.
3919 - حدثنا أحمد، قال. حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا هشيم، عن مغيره، عن عكرمة، مثله.
3920 - حدثني محمد بن عمرو، قال. حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،(4/215)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" فمن تعجَّل في يومين"، يوم النَّفر،" فلا إثم عليه"، لا حرج عليه،" ومن تأخر فلا إثم عليه".
3921 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أما:"من تعجَّل في يومين فلا إثم عليه"، يقول: من نَفَر في يومين فلا جُناح عليه، ومن تأخر فنفر في الثالث فلا جناح عليه.
3922 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فمن تعجَّل في يومين"، يقول: فمن تعجَّل في يومين- أي: من أيام التشريق="فلا إثم عليه"، ومن أدركه الليل بمنى من اليوم الثاني من قيل أن ينفر، فلا نَفْر له حتى تزول الشمس من الغد=" ومن تأخر فلا إثم عليه"، يقول: من تأخر إلى اليوم الثالث من أيام التشريق فلا إثم عليه.
3923 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال. أخبرنا عبد الرزاق، قال. أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه"، قال: رخَّص الله في أن ينفروا في يومين منها إن شاءوا، ومن تأخر في اليوم الثالث فلا إثم عليه.
3924 - حدثني محمد بن المثنى، قال. حدثنا محمد بن جعفر، قال. حدثنا شعبة، عن منصور، عن إبراهيم أنه قال في هذه الآية:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، قال في تعجيله.
3925 - حدثني هناد بن السريّ، قال: حدثنا ابن أبى زائدة، قال: حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم قال:" لا إثم عليه"، لا إثم على من تعجل، ولا إثم على من تأخر.
3926 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا إسرائيل، عن منصور، عن إبراهيم، قال: هذا في التعجيل.
3927 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا شريك وإسرائيل، عن زيد بن جبير، قال: سمعت ابن عمر يقول: حلَّ النَّفر في يومين لمن اتقى.(4/216)
3928 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس:" فمن تجعل في يومين فلا إثم عليه" في تعجله،" ومن تأخر فلا إثم عليه" في تأخره.
3929 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أللمكي أن ينفر في النفْر الأول؟ قال: نعم، قال الله عز وجل:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، فهي للناس أجمعين.
3930 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، قال: ليس عليه إثم
3931 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين" بعد يوم النحر،" فلا إثم عليه"، بقول: من نَفَر من منى في يومين بعد النحر فلا إثم عليه،"ومن تأخر فلا إثم عليه" في تأخره، فلا حرج عليه. (1)
3932 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" في تعجله،" ومن تأخر فلا إثم عليه" في تأخره.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: فمن تعجل في يومين فهو مغفور له لا إثم عليه، ومن تأخر كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
3933 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل،
__________
(1) الأثر: 3931 - كان في المطبوعة"حدثنا علي قال حدثنا أبو صالح. . . " و"علي" تصحيف"المثنى" وهعو إسناد دائر في الطبري أقربه رقم: 2893.(4/217)
عن ثوير، عن أبيه، عن عبد الله:" فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: ليس عليه إثم.
3934 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال حدثنا سفيان، عن حماد. عن إبراهيم، عن عبد الله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، أي غفر له" ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: غُفر له.
3935 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا مسعر، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، أي غفر له.
3936 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا المحاربي= وحدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد= جميعًا، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: قد غُفر له.
3937 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن سفيان، عن حماد، عن إبراهيم في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قد غفر له.
3938 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم، عن عبد الله قال في هذه الآية:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخّر فلا إثم عليه" قال: برئ من الإثم.
3939 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا حماد بن سلمة، عن علي بن زيد، عن الحسن، عن ابن عمر:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" قال: رجع مغفورًا له.(4/218)
3940 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عَليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: قد غفر له.
3941 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن جابر، عن أبي عبد الله، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، قال: قد غفر له، إنهم يتأولونها على غير تأويلها، إن العمرة لتكفِّر ما معها من الذنوب فكيف بالحج!.
3942 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي حصين، عن إبراهيم وعامر:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قالا غفر له.
3943 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: حدثني من أصدقه، عن ابن مسعود قوله:" فلا إثم عليه"، قال: خرج من الإثم كله" ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: برئ من الإثم كله، وذلك في الصَّدَر عن الحج = قال ابن جريج: وسمعت رجلا يحدث عن عطاء بن أبي رباح، عن على بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال:" فلا إثم عليه"، قال. غفر له،" ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: غُفر له.
3944 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، قال. حدثنا أسود بن سوادة القطان، قال: سمعت معاوية بن قُرة قال: يَخرج من ذنوبه. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 3944 - لم أجد"أسود بن سوادة القطان"، ولعله"سوادة بن أبي الأسود القطان" وهو الذي يروي عنه أبو نعيمن واسمه"عبد الله" ويقال مسلم بن مخارق القطان. ترجمه في التهذيب.(4/219)
وقال آخرون: معنى ذلك:" فمن تعجل في يومين فعلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه"، فيما بينه وبين السنة التي بَعدها.
* ذكر من قال ذلك:
3945 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا إسحاق بن يحيى بن طلحه، قال: سألت مجاهدًا عن قول الله عز وجل:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: لمن في الحج، ليس عليه إثم حتى الحج من عام قابل.
* * *
وقال آخرون: بل معناه. فلا إثم عليه إن اتقى الله فيما بقي من عمره.
* ذكر من قال ذلك:
3946 - حدثنا أحمد، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: ذهب إثمه كله إن اتقى فيما بقي.
3947 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله.
3948 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، مثله.
3949 - حدثني يونس، قاله: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، قال: لمن اتقى بشرط.
3950 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، لا جُناح عليه ="ومن تأخر" إلى اليوم الثالث فلا جناح عليه لمن اتقى= وكان ابن عباس يقول: وددت أنّي من هؤلاء، ممن يُصيبه اسمُ التقوى.
3951 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال:(4/220)
قال ابن جريج: هي في مصحف عبد الله:" لِمَنِ اتَّقَى اللهَ".
3952 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه"، فلا حرج عليه، يقول: لمن اتقى معاصيَ الله عز وجل. (1)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك:" فمن تعجل في يومين" من أيام التشريق" فلا إثم عليه"، أي فلا حرج عليه في تعجيله النفْر، إن هو اتقى قَتْل الصيد حتى ينقضي اليوم الثالث، ومن تأخر إلى اليوم الثالث فلم ينفر فلا حرج عليه.
* ذكر من قال ذلك:
3953 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا محمد بن أبي صالح:" لمن اتقى" أن يصيب شيئًا من الصيد حتى يمضي اليوم الثالث.
3954 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه"، ولا يحل له أن يقتل صيدًا حتى تخلو أيام التشريق.
* * *
وقال آخرون: بل معناه:"فمن تعجل في يومين" من أيام التشريق فنفر"فلا إثم عليه"، أي مغفورٌ له-"ومن تأخر" فنفر في اليوم الثالث"فلا إثم عليه"، أي مغفور له إن اتقى على حجه أن يصيبَ فيه شيئًا نهاه الله عنه.
* ذكر من قال ذلك:
3955 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، فال: حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) الأثر: 3952 - في المطبوعة: "حدثنا علي، قال حدثنا عبد الله". وقوله"علي" تصحيف والصواب ما أثبتنا، وانظر الأثر السالف رقم: 3931 والتعليق عليه.(4/221)
قوله:" لمن اتقى"، قال: يقول لمن اتقى على حجه = قال قتادة: ذكر لنا أن ابن مسعود كان يقول: من اتقى في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه - أو: ما سلف من ذنبه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: تأويل ذلك:"فمن تعجل في يومين" من أيام منى الثلاثة فنفر في اليوم الثاني"فلا إثم عليه"، لحطِّ الله ذنوبَه، إن كان قد اتقى الله في حجه، فاجتنب فيه ما أمره الله باجتنابه، وفعل فيه ما أمره الله بفعله، وأطاعه بأدائه على ما كلفه من حدوده ="ومن تأخر" إلى اليوم الثالث منهن فلم ينفر إلى النفر الثاني حتى نفر من غد النفر الأول،"فلا إثم عليه"، لتكفير الله له ما سلف من آثامه وإجرامه، وإن كان اتقى الله في حجه بأدائه بحدوده.
وإنما قلنا أن ذلك أولى تأويلاته [بالصحة] ، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"ومن حجّ هذا البيت فلم يرفُثْ ولم يفسُقْ خرَج من ذنوبه كيوم ولدته أمه = وأنه قال صلى الله عليه وسلم:"تابعوا بين الحجّ والعمرة، فإنهما ينفيان الذنوب كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة".
3956 - حدثنا عبد الله بن سعيد الكندي، قال: حدثنا أبو خالد الأحمر، قال: حدثنا عمرو بن قيس، عن عاصم، عن شقيق، عن عبد الله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقرَ والذنوبَ كما ينفي الكِيرُ خَبَثَ الحديد والذهب والفضة، وليس للحجة المبرورة ثوابُ دون الجنة". (1)
__________
(1) الحديث: 3956 - عبد الله بن سعيد الكندي أبو سعيد الأشج: ثقة حافظ من شيوخ أصحاب الكتب الستة. أبو خالد الأحمر: هو سليمان بن حيان -بالياء التحتية- الأزدي وهو ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق أخرج له جماعة. عمرو بن قيس: هو الملائي. عاصم: هو ابن أبي النجود. شقيق: هو ابن سلمة أبو وائل الأسدي عبد الله: هو ابن مسعود.
والحديث رواه احمد في المسند: 3669 عن أبي خالد الأحمر بهذا الإسناد ورواه الترمذي 2: 78 والنسائي 2: 4- كلاهما من طريق أبي خالد الأحمر.
وذكره السيوطي 1: 211 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن خزيمة وابن حبان.
الكير: زق أو جلد غليظ ذو حافات ينفخ فيه الحداد، ليؤرث النار. وخبث الحديد وغيره: هو ما ينفيه الكير والنار من الحديد إذا أذيب وهو ما لا خير فيه منه.(4/222)
3957 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، عن عمرو بن قيس، عن عاصم، عن زر، عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
3958 - حدثنا الفضل بن الصباح، قال:. حدثنا ابن عيينة، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة، عن أبيه، عن عمر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال:"تابعوا بين الحج والعمرة، فإنّ متابعة ما بينهما تنفي الفقر والذنوبَ كما ينفي الكيرُ الخبَثَ= أو: خبَثَ الحديد". (2)
3959 - حدثنا إبراهيم بن سعيد، قال: حدثنا سعد بن عبد الحميد، قال: حدثنا ابن أبي الزناد، عن موسى بن عقبة، عن صالح مولى التوأمة، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا قضيتَ حجَّك فأنت مثل ما ولدتك أمك. (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 3957 - وهذا إسناد آخر صحيح لهذا الحديث لم أجده عند غير الطبري. وهو يدل على أن عاصم بن أبي النجود رواه عن شيخين، هما أبو وائل وزر بن حبيش-: كلاهما عن ابن مسعود.
(2) الحديث: 3958 - عاصم بن عبيد الله بن عاصم بن عمر بن الخطاب: ضعيف وقد بينا ضعفه في شرح المسند: 128، 5229.
والحديث رواه ابن ماجه: 2887 بإسنادين من طريق ابن عيينة ومن طريق عبيد الله بن عمر- كلاهما عن عاصم بن عبيد الله. وقال البوصيري في زوائده: "مدار الإسنادين على عاصم ابن عبيد الله، وهو ضعيف. والمتن صحيح من حديث ابن مسعود رواه الترمذي والنسائي"، يريد الحديثين السابقين.
وذكره السيوطي 1: 211 وزاد لابن أبي شيبة، والبيهقي.
(3) الحديث: 3959 - إبراهيم بن سعيد هو الجوهري. مضى في: 3355. سعد بن عبد الحميد بن جعفر بن عبد الله الأنصاري المدني: ضعفه ابن حبان جدا وقال ابن معين: "ليس به بأس". والذي أرجحه أنه ثقة، فإن البخاري ترجمه في الكبير 2/2/62 فلم يذكر فيه حرجا ولم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء وترجمه ابن أبي حاتم 2/1/92 فلم يجرحه أيضًا.
صالح مولى التوأمة: هو صالح بن نبهان، مضى في 1020 تصحيح رواية من سمع منه قديما قبل تغير حفظه. وموسى بن عقبة سمع منه قديما، كما بينا في شرح المسند: 2604.
وهذا الحديث. بهذا الإسناد - لم أجده في موضع آخر من المراجع من حديث ابن عباس. ومعناه ثابت في أحاديث أخر صحاح. انظر الترغيب والترهيب 2: 105- 113 ومجمع الزوائد 3: 207- 209، 274- 277، وانظر ما سلف من رقم: 3718- 3728.(4/223)
= وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول بذكر جميعها الكتاب، مما ينبئ عنه أنّ من حجّ فقضاه بحدوده على ما أمره الله، فهو خارج من ذنوبه، كما قال جل ثناؤه:" فلا إثم عليه لمن اتقى" الله في حجه. فكان في ذلك من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوضح عن أن معنى قوله جل وعزّ:" فلا إثم عليه"، أنه خارجٌ من ذنوبه، محطوطة عنه آثامه، مغفورَةٌ له أجْرامه= وأنه لا معنى لقول من تأول قوله:" فلا إثم عليه"، فلا حرج عليه في نفره في اليوم الثاني، ولا حرج عليه في مقامه إلى اليوم الثالث. لأن الحرَج إنما يوضع عن العامل فيما كان عليه ترْك عمله، فيرخّص له في عمله بوضع الحرَج عنه في عمله؛ أو فيما كان عليه عمله، فيرخَّص له في تركه بوضع الحرج عنه في تركه. فأما ما على العامل عَمله فلا وَجه لوضع الحرَج عنه فيه إن هو عَمله، وفرضُه عَملُه، لأنه محال أن يكون المؤدِّي فرضًا عليه، حرجا بأدائه، (1) فيجوز أن يقال: قد وضعنا عنك فيه الحرَج.
وإذ كان ذلك كذلك= وكان الحاج لا يخلو عند من تأوّل قوله:" فلا إثم عليه" فلا حرج عليه، أو فلا جناح عليه، من أن يكون فرضه النفر في اليوم الثاني من أيام التشريق، فوضع عنه الحرَج في المقام، أو أن يكون فرضَه المقام،
__________
(1) قوله: "حرجًا" على وزن"فرح" بمعنى آثم وقد مضى في الجزء 2: 423 استعمال هذه الصيغة وعلقت عليه أن أهل اللغة ينكرون ذلك ويقولون بل هو"حارج" ولقد أعاد الطبري استعمالها هنا مرة أخرى، ورأيت أيضًا القاضي الباقلاني قد استعملها في كتابه التمهيد ص: 221، فقال: ". . . لم يكن الإمام بذلك مأثومًا ولا حرجًا" وكأني رأيت الشافعي قد استعملها أيضًا في الأم، ولكن ذهب عني مكانها.(4/224)
إلى اليوم الثالث، فوضع عنه الحرج في النفر في اليوم الثاني، فإن يكن فرضه في اليوم الثاني من أيام التشريق المقام إلى اليوم الثالث منها، فوضع عنه الحرج في نفره في اليوم الثاني منها - وذلك هو التعجُّل الذي قيل:" فمن تعجَّل في يومين فلا إثم عليه"- فلا معنى لقوله على تأويل من تأوّل ذلك:" فلا إثم عليه"، فلا جناح عليه،" ومن تأخر فلا إثمَ عليه". لأن المتأخر إلى اليوم الثالث إنما هو متأخّرٌ عن أداء فرض عليه، تاركٌ قبولَ رُخصة النفر، فلا وجه لأن يقال:"لا حرج عليك في مقامك على أداء الواجب عليك"، لما وصفنا قبل- أو يكون فرضُه في اليوم الثاني النفر، فرُخِّص له في المقام إلى اليوم الثالث، فلا معنى أن يقال:" لا حرج عليك في تعجُّلك النفر الذي هو فرضك وعليك فعله"، للذي قدمنا من العلة.
وكذلك لا معنى لقول من قال: معناه:" فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه" ولا حرج عليه في نفره ذلك، إن اتقى قتل الصيد إلى انقضاء اليوم الثالث. لأن ذلك لو كان تأويلا مسلَّمًا لقائله لكان في قوله:" ومن تأخر فلا إثم عليه"، ما يُبطل دعواه، لأنه لا خلاف بين الأمة في أن الصيد للحاجّ بعد نفره من منى في اليوم الثالث حلال، فما الذي من أجله وَضَع عنه الحرج في قوله:" ومن تأخر فلا إثم عليه"، إذا هو تأخر إلى اليوم الثالث ثم نفر؟ هذا، مع إجماعِ الحجة على أن المحرم إذا رمى وذبح وحلق وطافَ بالبيت، فقد حلَّ له كل شيء، وتصريحِ الرواية المروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو ذلك، (1) التي:-
3960 - حدثنا بها هناد بن السري الحنظلي، قال: حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن حجاج، عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن عمرة قالت: سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها متى يحلّ المحرم؟ فقالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رَميتم وذبحتم وحلقتم، حلّ لكم كل شيء إلا النساء=
__________
(1) في المطبوعة: "الرواية المروية" ورددتها إلى عبارة الطبري التي يكثر استعمالها، انظر ما سلف 4: 33ن س: 19 وفي مواضع كثيرة لم استطع أن أجدها الآن.(4/225)
قال: وذكر الزهري، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، مثله. (1)
وأما الذي تأوّل ذلك أنه بمعنى:" لا إثم عليه إلى عام قابل"، فلا وجه لتحديد ذلك بوقت، وإسقاطه الإثمَ عن الحاجّ سنة مستقبَلة، دون آثامه السالفة. لأن الله جل ثناؤه لم يحصُر ذلك على نفي إثم وقت مستقبَل بظاهر التنزيل، ولا على لسان الرسول عليه الصلاة والسلام، بل دلالةُ ظاهر التنزيل تُبين عن أن المتعجّل في اليومين والمتأخر لا إثم على كل واحد منهما في حاله التي هو بها دون غيرها من الأحوال.
والخبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم يصرِّح بأنه بانقضاء حجه على ما أمر به، خارجٌ من ذنوبه كيوم ولدته أمه. ففي ذلك = من دلالة ظاهر التنزيل، وصريح قول الرسول صلى الله عليه وسلم= دلالة واضحة على فساد قول من قال: معنى قوله:" فلا إثم عليه"، فلا إثم عليه من وقت انقضاء حجه إلى عام قابل.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: ما الجالب"اللام" في قوله:" لمن أتقى"؟ وما معناها؟
قيل: الجالبُ لها معنى قوله:" فلا إثم عليه". لأن في قوله:" فلا إثم عليه" معنى: حططنا ذنوبه وكفَّرنا آثامه، فكان في ذلك معنى: جعلنا تكفيرَ الذنوب لمن اتقى الله في حجه، فترك ذكر" جعلنا تكفير الذنوب"، اكتفاء بدلالة قوله:" فلا إثم عليه".
وقد زعم بعض نحوييّ البصرة أنه كأنه إذا ذكر هذه الرخصة فقد أخبر عن أمر، فقال:" لمن اتقى" أي: هذا لمن اتقى. وأنكرَ بعضُهم ذلك من قوله، وزعم أن الصفة لا بد لها من شيء تتعلق به، (2) لأنها لا تقوم بنفسها، ولكنها فيما زعم من صلة" قول" متروك، فكان معنى الكلام عنده" قلنا": (3) " ومن تأخر فلا
__________
(1) الحديث: 3960 - هناد بن السري الدارمي: مضت ترجمته: 2058. وقد نسب هنا حنظليا كما نسبه البخاري في الكبير. وكلاهما صحيح فهو من بني"دارم بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم". انظر جمهرة ابن حزم ص: 211، 217.
حجاج: هو ابن أرطأة وهو ثقة على الراجح عندنا كما ذكرنا في: 2299.
وقد روى الحجاج هذا الحديث بإسنادين: فرواه عن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم عن عمرة، وهي بنت عبد الرحمن -وهي خالة أبي بكر بن حزم- عن عائشة وذكر لفظ الحديث. ثم رواه عن الزهري عن عمرة عن عائشة"مثله". فلم يذكر لفظه. وهذا من تحري الحجاج بن أرطأة ودققه كما سيبين مما يجيء.
فالحديث -من رواية أبي بكر بن حزم- رواه أحمد في المسند 6: 143 (حلبي) عن يزيد ابن هارون عن الحجاج بهذا الإسناد نحوه. ولكن ليس فيه كلمة"وذبحتم". وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 5: 136 من طريق مالك بن يحيى عن يزيد بن هارون، ثم قال: "ورواه محمد بن أبي بكر، عن يزيد بن هارون فزاد فيه: وذبحتم فقد حل لكم كل شيء، الطيب والثياب إلا النساء". ثم ذكر البيهقي إسناده به إلى محمد بن أبي بكر. ثم أعله البيهقي وسنذكر ما قال والجواب عنه، إن شاء الله.
وقد سها السيوطي، حين ذكر هذا الحديث في زوائد الجامع الصغير (1: 117 من الفتح الكبير) فنسبه لصحيح مسلم -مع البيهقي) وهذا خطأ يقينا، فإنه ليس في صحيح مسلم.
وأما من رواية الحجاج عن الزهري: فرواه أبو داود في السنن: 1978 عن مسدد عن عبد الواحد بن زياد عن الحجاج عن الزهري عن عمرة عن عائشة مرفوعا بلفظ: "إذا رمى أحدكم جمرة العقبة فقد حل له كل شيء إلا النساء". ثم أعله أبو داود فقال: "هذا حديث ضعيف. والحجاج لم ير الزهري ولم يسمع منه". وهذا تعليل جيد من أبي داود فقد روى ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل ص: 18 بإسناده عن هشيم قال: "قال لي الحجاج بن أرطأة: سمعت من الزهري؟ قلت: نعم قال: لكني لم أسمع منه شيئًا".
وأما البيهقي فإنه أعلى رواية الحجاج عن أبي بكر بن حزم تعليلا لا أراه مستقيما. قال عقب روايته: "وهذا من تخليطات الحجاج بن أرطأة وإنما الحديث عن عمرة عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما رواه سائر الناس عن عائشة". ثم ذكر حديثها قالت: "طيب رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم، ولحله قبل أن يفيض -بأطيب ما وجدت من الطيب". وهو حديث صحيح رواه مسلم.
وما نرى إعلال ذاك بهذا هذا حديث فعلي، من حكاية عائشة وذاك حديث قولي من روايتها عن النبي صلى الله عليه وسلم، وكل منهما مؤيد لصحة الآخر، فأتى يستقيم التعليل؟
وقد ورد نحو هذا الحديث أيضًا من حديث ابن عباس مرفوعا: "إذا رميتم الجمرة فقد حل لكم كل شيء إلا النساء". رواه أحمد في المسند: 2090، 3204، 3491. ولكنه بإسناد منقطع لأنه من رواية الحسن العرني عن ابن عباس. وهو لم يسمع من ابن عباس كما قال البخاري في الصغير ص 136. ولكنه يصلح على كل حال شاهدا لهذا الحديث.
(2) الصفة: هي حرف الجر وهي حروف الصفات وانظر ما سلف 1: 299 تعليق: 1 ثم 3: 475 تعليق: 1.
(3) في المطبوعة: "فكان معنى الكلام عنده"ما قلنا" بزيادة"ما" وهو خطأ بين بدل عليه سياق هذا التأويل.(4/226)
إثم عليه لمن اتقى"، وقام قوله:" ومن تأخر فلا إثم عليه"، مقامَ"القول".
وزعم بعضُ أهل العربية أنّ موضع طرْح الإثم في المتعجِّل، فجُعل في المتأخر= وهو الذي أدَّى ولم يقصر= مثل ما جُعل على المقصِّر، كما يقال في الكلام:"إن تصدقت سرًّا فحسنٌ، وإن أظهرتَ فحسنٌ"، وهما مختلفان، لأن المتصدق علانية إذا لم يقصد الرياء فحسن، وإن كان الإسرار أحسن.
وليس في وصف حالتي المتصدقين بالحُسن وصف إحداهما بالإثم. وقد أخبر الله عز وجل عن النافرين بنفي الإثم عنهما، ومحال أن ينفي عنهما إلا ما كان في تركه الإثم على ما تأوَّله قائلو هذه المقالة. وفي إجماع الجميع على أنهما جميعًا لو تركا النفر وأقاما بمنىً لم يكونا آثمين، ما يدل على فساد التأويل الذي تأوله من حكينا عنه هذا القول.
وقال أيضًا: فيه وجهٌ آخر، وهو معنى نهي الفريقين عن أن يُؤثِّم أحدُ الفريقين الآخر، كأنه أراد بقوله:" فلا إثم عليه"، لا يقل المتعجل للمتأخر:" أنت آثم"، ولا المتأخر للمتعجل:"أنت آثم"، بمعنى: فلا يؤثِّمنَّ أحدهما الآخر.
وهذا أيضًا تأويل لقول جميع أهل التأويل مخالفٌ، وكفى بذلك شاهدًا على خطئه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: واتقوا الله أيها المؤمنون فيما فَرض عليكما من فرائضه، فخافوه في تضييعها والتفريط فيها، وفيما نهاكم عنه في حجكم ومناسككما أن ترتكبوه أو تأتوه وفيما كلفكم في إحرامكم لحجكم أن تقصِّروا في(4/228)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)
أدائه والقيام به،"واعلموا أنكم إليه تحشرون"، فمجازيكم هو بأعمالكم- المحسن منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته- وموفٍّ كل نفس منكم ما عملت وأنتم لا تظلمون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ}
قال أبو جعفر: وهذا نعت من الله تبارك وتعالى للمنافقين، بقوله جل ثناؤه: ومن الناس من يعجبك يا محمد ظاهرُ قوله وعلانيته، ويستشهد الله على ما في قليه، وهو ألدُّ الخصام، جَدِلٌ بالباطل.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم. نزلت في الأخنس بن شرِيق، قدِم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فزعم أنه يريد الإسلام، وحلف أنه ما قدم إلا لذلك، ثم خرج فأفسد أموالا من أموال المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
3961 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ومن الناس من يُعجبك قولُه في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألدُّ الخصام"، قال: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي- وهو حليفٌ لبني زُهره- وأقبل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فأظهر له الإسلام، فأعجبَ النبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك منه، وقال: إنما جئت أريد الإسلام، والله يعلم أنّي صادق! = وذلك قوله:" ويشهد الله على ما في قلبه"= ثم خرج من عند النبي صلى الله عليه وسلم فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين وُحُمر، فأحرق الزرع،(4/229)
وعقر الحُمُرُ، فأنزل الله عز وجل:" وإذا تولى سعَى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرْثَ والنسل". وأما"ألد الخصام" فأعوجُ الخصام، وفيه نزلت: (وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) [الهمزة: 1] ونزلت فيه: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَهِينٍ) إلى (عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ) [القلم: 10-13] (1)
* * *
وقال آخرون: بل نزل ذلك في قوم من أهل النفاق تكلموا في السرية التي أصيبت لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرَّجيع.
* ذكر من قال ذلك:
3962 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن أبى إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس، قال: لما أصيبت هذه السرية أصحاب خُبَيْب بالرجيع بين مكة والمدينة، فقال رجال من المنافقين: يا ويح هؤلاء المقتولين الذين هلكوا هكذا! (2) لا هم قعدوا في بيوتهم، ولا هم أدَّوْا رسالة صاحبهم! فأنزل الله عز وجلّ في ذلك من قول المنافقين، وما أصاب أولئك النفر في الشهادة والخير من الله:" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا" = أي: ما يُظهر بلسانه من الإسلام =" ويشهد الله على ما في قلبه" = أي من النفاق- (3) " وهو ألد الخصام" أي: ذو جدال إذا كلمك وراجعك =" وإذا تولى"- أي: خرج من عندك=" سعىَ في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحَرثَ والنسل والله لا يحب الفساد"- أي:
__________
(1) الأثر رقم: 3961 - لم يذكر الطبري في تفسير"سورة الهمزة" و"سورة القلم" هذا الخبر من أن الآيتين نزلتا في الأخنس بن شريق. وهذا دليل آخر على صدق ما أخبروا به عنه أنه قد اختصر هذا التفسير اختصارًا كبيرًا، كما جاء في أخباره.
وسيأتي بعض هذا الاثر برقم: 3978.
(2) في المطبوعة: "هؤلاء المقتولين". والصواب من سيرة ابن هشام. وبعد هذا في ابن هشام: "لا هم قعدوا في أهليهم".
(3) مكان هذا التفسير في نص ابن هشام: "وهو مخالف لما يقول بلسانه".(4/230)
لا يحبّ عمله ولا يرضاه=" وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسْبُه جهنم ولبئس المهاد ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله"= الذين شروا أنفسهم لله بالجهاد في سبيل الله والقيام بحقه، حتى هلكوا على ذلك- يعني هذه السرّية.
3963 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت، عن عكرمة مولى ابن عباس- أو: عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس- قال: لما أصيبت السرية التي كان فيها عاصم ومرْثد بالرَّجيع، قال رجال من المنافقين:- ثم ذكر نحو حديث أبي كريب. (1)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك جميعَ المنافقين، وعنى بقوله:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة
__________
(1) الأثر: 3962، 3963 - سيرة ابن هشام 3: 183- 184 وسيأتي بعضه برقم 3973ن ثم رقم: 3980.(4/231)
الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه"، اختلافَ سريرته وعلانيته.
* ذكر من قال ذلك:
3964 - حدثني محمد بن أبي معشر، قال: أخبرني أبى أبو معشر نجيح، قال: سمعت سعيدًا المقبري يذاكر محمد بن كعب، فقال سعيد: إنّ في بعض الكتب أن لله عبادًا ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبِر، لبسوا للناس مسوكَ الضأن من اللين، (1) يجترُّون الدنيا بالدين، قال الله تبارك وتعالى: أعليّ يجترءون، وبي يغترُّون!! وعزتي لأبعثنّ عليهم فتنة تترك الحليمَ منهم حيران!! فقال محمد بن كعب: هذا في كتاب الله جل ثناؤه. فقال سعيد: وأين هو من كتاب الله؟ قال: قول الله عز وجل:" ومنَ الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرثَ والنسل والله لا يحبَ الفساد" فقال سعيد: قد عرفتَ فيمن أنزلت هذه الآية! فقال محمد بن كعب: إن الآية تنزل في الرجل، ثم تكون عامة بعدُ.
3965 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني الليث بن سعد، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن القرظي، عن نَوْفٍ- وكان يقرأ الكتب- قال: إني لأجد صفة ناس من هذه الأمة في كتاب الله المنزل:" قومٌ يجتالون الدنيا بالدين، (2) ألسنتهم أحلى من العسل، وقلوبهم أمرُّ من الصَّبر، يلبسون للناس لباسَ مُسوك الضأن، وقلوبهم قلوب الذئاب، فعليّ يجترءون! وبي يغترُّون! حلفت بنفسي لأبعثنّ عليهم فتنةً تترك الحليم فيهم حيران". قال القرظي: تدبرتها في القرآن فإذا هم المنافقون، فوجدتها:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام"، (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ) (3) [الحج: 11]
3966 - وحدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر عن قتادة قوله:" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه" قال: هو المنافق.
3967 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) الصبر (بفتح الصاد وكسر الباء) : عصارة شجر مر. والمسوك جمع مسك (بفتح فسكون) : الجلد جلد الغنم وغيرها.
(2) في الأصل: "يحتالون" والصواب ما أثبت. اجتال الرجل الشيء: إذا ذهب به وطرده وساقه. واجتال الجيش أموالهم: ذهب بها.
(3) الأثر: 3965 - خالد بن يزيد الجمحي أبو عبد الرحيم المصري كان فقيها مفتيا. ثقة مات سنة 139. مترجم في التهذيب. و"نوف" هو نوف بن فضالة الحميري البكالي، كان ثقة رواية للقصص وهو ابن امرأة كعب الأحبار، مات ما بين التسعين إلى المئة. مترجم في التهذيب.(4/232)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ومن الناس من يُعجبك قوله"، قال: علانيته في الدنيا، ويُشهد الله في الخصومة، إنما يريد الحق.
3968 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا ويُشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام"، قال: هذا عبد كان حسن القول سيئ العمل، يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيحسن له القول،" وإذا تولَّى سَعَى في الأرض ليُفسد فيها".
3969 - وحدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء:" ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه"، قال. يقول قولا في قلبه غيره، والله يعلم ذلك.
* * *
وفي قوله:" ويُشهد الله على ما في قلبه"، وجهان من القراءة: فقرأته عامة القرأة:" ويُشهد الله على ما في قلبه"، بمعنى أن المنافق الذي يُعجب رسول الله صلى الله عليه وسلم قولُه، يستشهدُ الله على ما في قلبه، أن قوله موافقٌ اعتقادَه، وأنه مؤمن بالله ورسوله وهو كاذب. كما:-
3970 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" إلى" والله لا يحب الفساد"، كان رجلٌ يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: أي رسول الله أشهد أنك جئت بالحق والصدق من عند الله! قال: حتى يُعجب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله. ثم يقول: أما والله يا رسولَ الله، إنّ الله ليعلم ما في قلبي مثلُ ما نطق به لساني! فذلك قوله:" ويُشهد الله على ما في قلبه". قال: هؤلاء المنافقون، وقرأ قول الله تبارك وتعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ) حتى بلغ: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون: 1] بما يشهدون أنك رسول الله.
* * *(4/233)
وقال السدي:" ويُشهد الله على ما في قلبه"، يقول: الله يعلم أني صادق، أني أريد الإسلام.
3971 - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، عن أسباط.
* * *
وقال مجاهد: ويُشهد الله في الخصومة، إنما يريد الحق.
3972 - حدثني بذلك محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عنه.
* * *
وقرأ ذلك آخرون: (وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ) بمعنى: والله يشهد على الذي في قلبه من النفاق، وأنه مضمرٌ في قلبه غير الذي يُبديه بلسانه وعلى كذبه في قلبه. وهي قراءة ابن مُحَيْصن، وعلى ذلك المعنى تأوله ابن عباس. وقد ذكرنا الرواية عنه بذلك فيما مضى في حديث أبي كريب، عن يونس بن بكير عن محمد بن إسحاق الذي ذكرناه آنفًا. (1)
* * *
والذي نختار في ذلك من قول القرأة قراءة من قرأ:" ويشهد الله على ما في قلبه"، بمعنى يستشهد الله على ما في قلبه، لإجماع الحجة من القرأةِ عليه.
* * *
__________
(1) انظر رقم: 3962.(4/234)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) }
قال أبو جعفر:"الألد" من الرجال: الشديد الخصومة، يقال في" فعلت" منه:" قد لَدَدْتَ يا هذا، ولم تكن ألدَّ، فأنت تلُدُّ لَدَدًا ولَدَادةً". (1) فأما إذا غلب من خاصمه، فإنما يقال فيه:" لدَدْت يا فلانُ فلانًا فأنت تَلُدُّه لَدًّا، ومنه قول الشاعر:
ثُمَّ أُرَدِّي بِهِمُ من تُرْدِي ... تَلُدُّ أقْرَانَ الخُصُومِ اللُّدِّ (2)
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: أنه ذو جدال.
* ذكر من قال ذلك:
3973 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يونس بن بكير، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد، قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:" وهو ألد الخصام"، أي: ذو جدال، إذا كلمك وراجعك. (3)
3974 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وهو ألد الخصام"، يقول: شديد القسوة في معصية الله جَدِلٌ بالباطل،
__________
(1) قوله: "لدادة" مصدر لم أجده في كتب اللغة التي بين يدي.
(2) لم أعرف قائله. والبيت الثاني في اللسان (لدد) روايته"ألد أقران". والبيتان جميعا في معاني القرآن للفراء 1: 123 بتقديم البيت الثاني على الأول، وروايته: "اللُّدّ أقران الرجال اللُّدِّ"
وكأنه تصحيف وخطأ وصوابه"ألد" كما في اللسان. وكان في الطبري"ثم أردى وبهم. . " بزيادة واو، والصواب ما في معاني القرآن.
(3) هو بعض الأثر السالف رقم: 3962.(4/235)
وإذا شئتَ رأيته عالم اللسان جاهلَ العمل، يتكلم بالحكمة، ويعمل بالخطيئة.
3975 - حدثنا الحسن بن يحيى. قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" وهو ألد الخصام"، قال: جَدِلٌ بالباطل.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك أنه غير مستقيم الخصومة، ولكنه معوَجُّها.
* ذكر من قال ذلك:
3976 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" وهو ألد الخصام"، قال: ظالم لا يستقيم.
3977 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد، قال:"الألدُّ الخصام"، الذي لا يستقيم على خصومة.
3978 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ألد الخصام"، أعوجُ الخصام. (1)
* * *
قال، أبو جعفر: وكلا هذين القولين متقاربُ المعنى، لأن الاعوجاجَ في الخصومة من الجدال واللدد.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وهو كاذبٌ في قوله.
* ذكر من قال ذلك:
3979 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا وكيع، عن بعض أصحابه، عن الحسن، قال:"الألد الخصام"، الكاذب القول.
* * *
وهذا القول يحتمل أن يكون معناه معنى القولين الأولين إن كان أراد به
__________
(1) هو بعض الأثر السالف رقم: 3961.(4/236)
وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)
قائله أنه يخاصم بالباطل من القول والكذب منه جدلا واعوجاجًا عن الحق.
* * *
وأما"الخصام" فهو مصدر من قول القائل:"خاصمت فلانًا خصامًا ومخاصمة".
* * *
وهذا خبر من الله تبارك وتعالى عن المنافق الذي أخبر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم أنه يُعجبه إذا تكلم قِيلُه ومنطقه، ويستشهد الله على أنه محقّ في قيله ذلك، لشدة خصومته وجداله بالباطل والزور من القول.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:" وإذا تولى"، وإذا أدبر هذا المنافق من عندك يا محمد منصرفًا عنك. (1) كما:-
3980 - حدثنا به ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، قال: حدثني محمد بن إسحاق، قال حدثني محمد بن أبي محمد قال: حدثني سعيد بن جبير أو عكرمة، عن ابن عباس:" وإذا تولى"، قال: يعني: وإذا خرج من عندك"سعى". (2)
* * *
وقال بعضهم: وإذا غضب.
* ذكر من قال ذلك:
3981 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج قال:
__________
(1) انظر معنى"التولي" فيما سلف 2: 162- 163، 298، 535/ ثم 3: 115، 131.
(2) الأثر: 3980 - هو بعض الأثر السالف رقم: 3962.(4/237)
قال ابن جريج في قوله:" وإذا تولى"، قال: إذا غضب.
* * *
فمعنى الآية: وإذا خرَج هذا المنافق من عندك يا محمد غضْبان، عَمل في الأرض بما حرَّم الله عليه، وحاول فيها معصيةَ الله، وقطعَ الطريق وإفسادَ السبيل على عباد الله، كما قد ذكرنا آنفًا من فعل الأخنس بن شريق الثقفي، الذي ذكر السدي أن فيه نزلت هذه الآية، من إحراقه زرع المسلمين وقتله حُمرهم. (1)
* * *
و"السعي" في كلام العرب العمل، يقال منه:"فلان يسعى على أهله"، يعني به: يعمل فيما يعود عليهم نفعه، ومنه قول الأعشى:
وَسَعَى لِكِنْدَةَ سَعْيَ غَيْرِ مُوَاكِلٍ ... قَيْسٌ فَضَرَّ عَدُوَّها وَبَنَى لَهَا (2)
يعني بذلك: عمل لهم في المكارم.
* * *
وكالذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.
3982 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله" وإذا تولى سعى"، قال: عمل.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الإفساد" الذي أضافه الله عز وجل إلى هذا المنافق.
فقال بعضهم: تأويله ما قلنا فيه من قطعه الطريق وإخافته السبيل، كما قد ذكرنا قبل من فعل الأخنس بن شريق.
* * *
__________
(1) انظر الأثر رقم: 3961 السالف.
(2) ديوانه: 25، وكان في المطبوعة"ونبالها" وهو خطأ وقيس هو قيس بن معد يكرب الكندي، كان يكثر مدحه والثناء عليه.(4/238)
وقال بعضهم: بل معنى ذلك قطع الرحم وسفك دماء المسلمين.
* ذكر من قال ذلك:
3983 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج في قوله:" سعَى في الأرض ليفسد فيها"، قطع الرحم، وسفك الدماء، دماء المسلمين، فإذا قيل: لم تَفعل كذا وكذا؟ قال أتقرب به إلى الله عز وجل.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله تبارك وتعالى وَصَف هذا المنافقَ بأنه إذا تولى مدبرًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمِل في أرض الله بالفساد. وقد يدخل في"الإفساد" جميع المعاصي، (1) وذلك أن العمل بالمعاصي إفسادٌ في الأرض، فلم يخصص الله وصفه ببعض معاني"الإفساد" دون بعض. وجائزٌ أن يكون ذلك الإفساد منه كان بمعنى قطع الطريق، وجائز أن يكون غير ذلك. وأيّ ذلك كان منه فقد كان إفسادًا في الأرض، لأن ذلك منه لله عز وجل معصية. غير أن الأشبه بظاهر التنزيل أن يكون كان يقطع الطريقَ ويُخيف السبيل. لأن الله تعالى ذكره وصَفه في سياق الآية بأنه" سَعى في الأرض ليفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل"، وذلك بفعل مخيف السبيل، أشبهُ منه بفعل قَطَّاع الرحم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في وجه"إهلاك" هذا المنافق، الذي وصفه الله بما وصفَه به من صفة"إهلاك الحرث والنسل".
__________
(1) انظر معنى"الإفساد في الأرض" فيما سلف 1: 287- 290، 416 ثم معنى"الفساد" فيما سيأتي: 243، 244.(4/239)
فقال بعضهم: كان ذلك منه إحراقًا لزرع قوم من المسلمين وعقرًا لحمُرهم.
3984 - حدثني بذلك موسى بن هارون، قال: حدثني عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط عن السدي. (1)
* * *
وقال آخرون بما:-
3985 - حدثنا به أبو كريب، قال: حدثنا عثام، قال: حدثنا النضر بن عربي، عن مجاهد:" وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها ويُهلك الحرث والنسل" الآية. قال: إذا تولى سعى في الأرض بالعدوان والظلم، فيحبس الله بذلك القطرَ، فيُهلك الحرثَ والنسلَ والله لا يحب الفساد. قال: ثم قرأ مجاهد: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41] قال: ثم قال: أما والله ما هو بحركم هذا، ولكن كل قرية على ماءٍ جارٍ فهو"بحر". (2)
* * *
والذي قاله مجاهد، وإن كان مذهبًا من التأويل تحتمله الآية، فإن الذي هو أشبهُ بظاهر التنزيل من التأويل ما ذكرنا عن السدي، فلذلك اخترناه
* * *
وأما"الحرث" فإنه الزرع، والنسل: العقب والولد.
* * *
"وإهلاكه الزرع" إحراقه. وقد يجوز أن يكون كان كما قال مجاهد باحتباس القطر من أجل معصيته ربَّه وَسعيه بالإفساد في الأرض. وقد يحتمل أن يكون كان بقتله القُوَّام به والمتعاهدين له حتى فسد فهلك. وكذلك جائز في معنى:" إهلاكه النسل": أن يكون كانَ بقتله أمهاته أو آباءه التي منها يكون النسل، فيكون في
__________
(1) يعني الأثر السالف رقم: 3961.
(2) الأثر: 3985 - سيأتي هذا الأثر في تفسير الآية من سورة الروم ج: 21: 32 (بولاق) .(4/240)
قتله الآباء والأمهات انقطاع نسلهما. وجائزٌ أن يكون كما قال مجاهد، غير أن ذلك وإن كان تحتمله الآية، فالذي هو أولى بظاهرها ما قاله السدي غير أن السدي ذكر أن الذي نزلت فيه هذه الآية إنما نزلت في قتله حُمُرَ القوم من المسلمين وإحراقه زرعًا لهم. وذلك وإن كان جائزًا أن يكون كذلك، فغير فاسد أن تكون الآية نزلت فيه، والمراد بها كلُّ من سلك سبيله في قتل كل ما قَتل من الحيوان الذي لا يحلّ قتله بحال، والذي يحلّ قتله في بعض الأحوال - إذا قتله بغير حق، بل ذلك كذلك عندي، لأن الله تبارك وتعالى لم يخصُص من ذلك شيئًا دون شيء بل عمَّه.
وبالذي قلنا في عموم ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
3986 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن التميمي أنه سأل ابن عباس:" ويهلك الحرث والنسل"، قال: نسلَ كل دابة.
3987 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن عطية، قال: حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن التميمي، أنه سأل ابن عباس: قال: قلت أرأيت قوله:" الحرث والنسل"؟ قال: الحرث حرثكم، والنسل: نسل كل دابة.
3988 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن أبي إسحاق، عن التميمي، قال: سألت ابن عباس عن"الحرث والنسل"، فقال: الحرثُ: مما تحرثون، والنسلُ: نسل كلّ دابة.
3989 - حدثنا ابن حميد، قال. حدثنا حكام، عن عمرو، عن مطرِّف، عن أبي إسحاق، عن رجل من تميم، عن ابن عباس، مثله. (1)
__________
(1) الآثار: 3986- 3989. "التميمي"، قد مضى ما كتبه أخي السيد أحمد في التعليق على الأثر رقم: 2095. ولكن ظهر من الأثر رقم. 3989، أنه رجل من بني تميم - مجهول الاسم فيما يظهر، كان يسأل ابن عباس كما كان يسأله أصحاب المسائل من الأمة وذلك بين في مسند أبي داود الطيالسي رقم: 2739 ص 358.(4/241)
3990 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ويهلك الحرثَ والنسل"، فنسلَ كل دابة، والناس أيضًا.
3991 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: ثنى عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ويهلك الحرث"، قال: نبات الأرض،" والنسل" من كل دابة تمشي من الحيوان من الناس والدواب.
3992 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ويهلك الحرث"، قال: نبات الأرض،" والنسل": نسل كل شيء.
3993 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري، قال: حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك، قال: الحرثُ النبات، والنسل: نسل كل دابة.
3994 - حدثني عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ويهلك الحرث"، قال:"الحرث" الذي يحرثه الناس: نباتُ الأرض،" والنسل" نسل كل دابة.
3995 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء:" ويهلكَ الحرثَ والنسل"، قال: الحرث: الزرع، والنسل من الناس والأنعام، قال: يقتُل نسْل الناس والأنعام= قال: وقال مجاهد: يبتغي في الأرض هلاك الحرث- نباتَ الأرض- والنسل من كل شيء من الحيوان.
3996 - حدثني يحيى بن أبي طالب، قال: أخبرنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" ويهلك الحرثَ والنسل"، قال: الحرث: الأصل، والنسل: كل دابة والناس منهم. (1)
__________
(1) قوله: "الحرث: الأصل" معنى قلما تصيبه في كتب اللغة بينا، ولكنه أتى فيها معترضا كقولهم: "الحرث أصل جردان الحمار" وهذا تخصيص، وهذا الأثر دال على عموم معنى"الحرث" أنه: الأصل وهو جيد في مجاز اللغة.(4/242)
3997 - حدثني ابن عبد الرحيم البرقيّ، قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال، (1) سئل سعيد بن عبد العزيز عن"فساد الحرث والنسل" وما هما: أيُّ حرث، وأيُّ نسل؟ قال سعيد: قال مكحول: الحرث: ما تحرثون، وأما النسل: فنسْل كل شيء.
* * *
قال أبو جعفر: وقد قرأ بعض القرأة:"ويهلكُ الحرث والنسل" برفع "يهلك"، = على معنى: ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام، ويهلك الحرثَ والنسل، وإذا تولى سعى في الأرض ليُفسد فيها، والله لا يجب الفساد= فيردُّ"ويُهلكُ" على"ويشهدُ الله" عطفًا به عليه.
وذلك قراءةٌ عندي غير جائزة، وإن كان لها مخرج في العربية، لمخالفتها لما عليه الحجة مجمعةٌ من القراءة في ذلك، قراءةَ" ويهلكَ الحرثَ والنسل"، وأن ذلك في قراءة أبيّ بن كعب ومصحفه - فيما ذكر لنا: (2) "ليفسد فيها وليهلك الحرث والنسل"، وذلك من أدل الدليل على تصحيح قراءة من قرأ ذلك" ويهلك" بالنصب، عطفًا به على:" ليفسدَ فيها".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله لا يحب المعاصيَ، وقطعَ السبيل، وإخافة الطريق.
* * *
و"الفساد" مصدر من قول القائل:"فسد الشيء يفسُد"، نظير قولهم:
__________
(1) في المطبوعة"عمر بن أبي سلمة" والصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "فيما ذكرنا" وهو لا يستقيم.(4/243)
وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206)
"ذهب يذهب ذهابًا". ومن العرب من يجعل مصدر"فسد""فسودًا"، ومصدر"ذهب يذهب ذُهوبًا". (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وإذا قيل = لهذا المنافق الذي نعَتَ نعتَه لنبيه عليه الصلاة والسلام، وأخبره أنه يُعجبه قوله في الحياة الدنيا=: اتق الله وخَفْهُ في إفسادك في أرْض الله، وسعيكَ فيها بما حرَّم الله عليك من معاصيه، وإهلاكك حروث المسلمين ونسلهم- استكبر ودخلته عِزة وحَمية بما حرّم الله عليه، وتمادى في غيِّه وضلاله. قال الله جل ثناؤه: فكفاه عقوبة من غيه وضلاله، صِلِيُّ نارِ جهنم، ولبئس المهاد لصاليها.
* * *
واختلف أهل التأويل فيمن عنى بهذه الآية.
فقال بعضهم: عنى بها كل فاسق ومنافق.
* ذكر من قال ذلك:
3998 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع، قال: حدثنا جعفر بن سليمان، قال: حدثنا بسطام بن مسلم، قال: حدثنا أبو رجاء العطارديّ قال: سمعت عليًّا في هذه الآية:" ومن الناس من يُعجبك قوله في الحياة الدنيا" إلى:" والله رؤوف بالعباد"، قال علي:"اقتَتَلا وربِّ الكعبة".
__________
(1) انظر معنى"الإفساد في الأرض" 1: 287- 290، 416 وما سلف قريبًا: 239. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 124.(4/244)
3999 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" وإذا قيلَ له اتق الله أخذته العزة بالإثم" إلى قوله:" والله رؤوف بالعباد"، قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السُّبْحة وفرغ، دخل مربدًا له، (1) فأرسل إلى فتيان قد قرأوا القرآن، منهم ابن عباس وابن أخي عيينة، (2) قال: فيأتون فيقرأون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف. قال فمرُّوا بهذه الآية:" وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم"،" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاءَ مرضَات الله والله رؤوفٌ بالعباد"= قال ابن زيد: وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله= فقال ابن عباس لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان؟ فسمع عمر ما قال، فقال: وأيّ شيء قلت؟ قال: لا شيء يا أمير المؤمنين! قال: ماذا قلت؟ اقتَتل الرجلان؟ قال فلما رأى ذلك ابن عباس قال: أرى ههنا مَنْ إذا أُمِر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يَشري نفسه ابتغاءَ مرضاة الله، يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي! فقاتله، فاقتتل الرجلان! فقال عمر: لله بلادك يا بن عباس. (3)
* * *
وقال آخرون: بل عنى به الأخنس بن شريق، وقد ذكرنا من قال ذلك فيما مضى. (4)
* * *
__________
(1) السبحة: صلاة التطوع والنافلة وذكر الله، تقول: "قضيت سبحتي" والمريد: قضاء وراء البيوت برتفق بهن كالحجرة في الدار وهو أيضًا موضع التمر يجفف فيه لينشف يسميه أهل المدينة مريدا وهو المراد هنا.
(2) ابن أخي عيينة، هو الحر بن قيس بن حصين الفزاري ويقال: الحارث بن قيس والأول أصح. وروى البخاري من طريق الزهري عن عبيد اله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: قدم عيينة بن حصن فنزل على ابن أخيه الحر بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر - الحديث. ترجم في الإصابة وغيرها.
(3) في المطبوعة: "لله تلادك" بالتاء في أوله ولا معنى له، والصواب ما أثبت. وفي الدر المنثور 1: 241 -"لله درك". والعرب تقول: "لله در فلان، ولله بلاده".
(4) انظر الأثر رقم: 3961.(4/245)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
وأما قوله:" ولبئس المهاد"، فإنه يعني: ولبئس الفراشُ والوِطاء جهنمُ التي أوعدَ بها جل ثناؤه هذا المنافق، ووطَّأها لنفسه بنفاقه وفجوره وتمرُّده على ربه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه: ومن الناس من يبيع نفسه بما وعد الله المجاهدين في سبيله وابتاع به أنفسهم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) [التوبة: 111] .
* * *
وقد دللنا على أن معنى"شرى" باع، في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وأما قوله:" ابتغاءَ مرضات الله" فإنه يعني أن هذا الشاري يشرى إذا اشترى طلبَ مرضاة الله.
ونصب"ابتغاء" بقوله:"يشري"، فكأنه قال. ومن الناس من يَشري [نفسه] من أجل ابتغاء مرضاة الله، ثم تُرك" من أجل" وعَمل فيه الفعل.
وقد زعم بعض أهل العربية أنه نصب ذلك على الفعل، (2) على"يشرى"، كأنه قال: لابتغاء مرضاة الله، فلما نزع"اللام" عمل الفعل، قال: ومثله: (حَذَرَ الْمَوْتِ) [البقرة: 19] (3) وقال الشاعر وهو حاتم:
__________
(1) انظر ما سلف 2: 341- 343ن 455 وفهارس الغة.
(2) قوله: "على الفعل" أي أنه مفعول لأجله وقد مضى مثله"على التفسير للفعل" 1: 354 تعليق: 4.
(3) انظر القول في إعراب هذه الكلمة فيما سلف 1: 354- 355.(4/246)
وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ إدِّخَارَهُ ... وَأُعْرِضُ عَنْ قَوْلِ الَّلئِيمِ تَكَرُّمَا (1)
وقال: لما أذهب"اللام" أعمل فيه الفعل.
وقال بعضهم: أيُّما مصدر وُضع موضعَ الشرط، (2) وموضع"أن" فتحسن فيها"الباء" و"اللام"، فتقول:"أتيتك من خوف الشرّ -ولخوف الشر- وبأن خفتُ الشرَّ"، فالصفة غير معلومة، فحذفت وأقيم المصدرُ مقامها. (3) قال: ولو كانت الصفة حرفًا واحدًا بعينه، لم يجز حذفها، كما غير جائز لمن قال:"فعلت هذا لك ولفلان" أن يسقط"اللام".
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن نزلت هذه الآية فيه ومن عنى بها. فقال بعضهم: نزلت في المهاجرين والأنصار، وعنى بها المجاهدون في سبيل الله.
* ذكر من قال ذلك:
4000 - حدثنا الحسين بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: المهاجرون والأنصار.
* * *
وقال بعضهم: نزلت في رجال من المهاجرين بأعيانهم.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) ديوانه: 24، من أبيات جياد كريمة وسيبويه 1: 184، 464 ونوادر أبي زيد: 110ن الخزانة 1: 491 والعيني 3: 75 وغيرها. وفي البيت اختلاف كثير في الرواية، والشاهد فيه نصب"ادخاره" على أنه مفعول له.
(2) قوله: "الشرط" كأنه فيما أظن أراد به معنى العلة والعذر يعني أنه علة وسببًا أو عذرًا لوقوع الفعل.
(3) "الصفة" هي حرف الجر. وانظر ما سلف آنفًا 1: 299 وفهرس المصطلحات في الأجزاء السالفة.(4/247)
4001 - حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة:" ومن الناس مَنْ يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: نزلت في صُهيب بن سنان، وأبي ذرّ الغفاري جُندب بن السَّكن أخذ أهل أبي ذرّ أبا ذرّ، فانفلت منهم، فقدم على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رجع مهاجرًا عرَضوا له، وكانوا بمرِّ الظهران، فانفلت أيضًا حتى قدم على النبي عليه الصلاة والسلام. وأما صُهيب فأخذه أهله، فافتدى منهم بماله، ثم خرج مهاجرًا فأدركه قُنقذ بن عُمير بن جُدعان، فخرج له مما بقي من ماله، وخلَّى سبيله. (1)
4002 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبى جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله" الآية، قال: كان رجل من أهل مكة أسلم، فأراد أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويهاجر إلى المدينة، فمنعوه وحبسوه، فقال لهم: أعطيكم داري ومالي وما كان لي من شيء! فخلُّوا عني، فألحق بهذا الرجل! فأبوْا. ثم إنّ بعضهم قال لهم: خذوا منه ما كان له من شيء وخلُّوا عنه! ففعلوا، فأعطاهم داره وماله، ثم خرج; فأنزل الله عز وجل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، الآية. فلما دنا من المدينة تلقاه عُمر في رجال، فقال له عمر: رَبح البيعُ! قال: وبيعك فلا يخسر! قال: وما ذاك؟ قال: أنزل فيك كذا وكذا. (2)
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك كل شار نفسه في طاعة الله وجهادٍ في سبيله، أو أمرٍ بمعروف.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 4001 - في الدر المنثور 1: 240، في المطبوعة: "منقذ بن عمير" وهو خطأ وقد ذكر قنفد بن عمير، أبو طالب في قصيدته المشهورة وذكر ابن هشام نسبه في سيرته (انظر 1: 295، 301) . وقد أسلم قنفد بن عمير، وله صحبة، وولاه عمر مكة، ثم عزله.
(2) الأثر: 4002 - في تفسير البغوي 1: 481- 482، مع اختلاف في اللفظ.(4/248)
4003 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا حسين بن الحسن أبو عبد الله، قال: حدثنا أبو عون، عن محمد، قال: حمل هشام بن عامر على الصف حتى خرقه، فقالوا: ألقى بيده!! فقال أبو هريرة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله". (1)
4004 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مصعب بن المقدام، قال: حدثنا إسرائيل، عن طارق بن عبد الرحمن، عن قيس بن أبي حازم، عن المغيرة، قال: بعث عمر جيشًا فحاصروا أهل حصن، وتقدم رجل من بجيلة، فقاتل، فقُتِل، فأكثر الناس فيه يقولون: ألقى بيده إلى التهلكة! قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقال: كذبوا، أليس الله عز وجل يقول:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد"؟
4005 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا هشام، عن قتادة، قال: حَمل هشام بن عامر على الصّف حتى شقَّه، فقال أبو هريرة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله".
4006 - حدثنا سوار بن عبد الله العنبري، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا حزم بن أبي حزْم، قال: سمعت الحسن قرأ:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد"، أتدرون فيم أنزلت؟ نزلت في أن المسلم لقي الكافرَ فقال له:"قل لا إله إلا الله"، فإذا قلتها عصمتَ دمك
__________
(1) الأثر: 4003 - حسين بن الحسن أبو عبد الله النصري روى عن ابن عون وغيره، وروى عنه أحمد والفلاس وبندار وغيرهم. كان من المعدودين من الثقات وكان يحفظ عن ابن عون. توفي سنة 188ن مترجم في التهذيب. و"أبو عون" كنية"ابن عون" - عبد الله بن عون المزني مولاهم. "ومحمد" هو محمد بن سيرين وهشام بن عامر بن أمية الأنصاري كان اسمه في الجاهلية"شهابًا" فغيره رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان ذلك منه في غزاة كابل انظر الإصابة وغيرها. وقوله: "ألقى بيده" أي: ألقى بيده إلى التهلكة، كما هو مبين في الروايات الأخرى، وانظر ما سيأتي رقم: 4005، مختصرًا.(4/249)
ومالك إلا بحقهما! فأبى أن يقولها، فقال المسلم: والله لأشرِيَنَّ نفسي لله! فتقدم فقاتل حتى قتل. (1)
4007 - حدثني أحمد بن حازم، قال: حدثنا أبو نعيم، حدثنا زياد بن أبي مسلم، عن أبي الخليل، قال: سمع عُمر إنسانًا قرأ هذه الآية:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"، قال: استرجع عُمر فَقال: إنا لله وإنا إليه رَاجعون! قام رجلٌ يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فقُتل. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر هذه الآية من التأويل، ما روي عن عمر بن الخطاب وعن علي بن أبي طالب وابن عباس رضي الله عنهم، من أن يكون عُنى بها الأمرُ بالمعروف والناهي عن المنكر.
وذلك أن الله جل ثناؤه وصَف صفة فريقين: أحدهما منافقٌ يقول بلسانه خلافَ ما في نفسه، وإذا اقتدر على معصية الله ركبها، وإذا لم يقتدر رَامَها، وإذا نُهى أخذته العزّة بالإثمٌ بما هو به إثم، والآخر منهما بائعٌ نفسه، طالب من الله رضا الله. فكان الظاهر من التأويل أن الفريقَ الموصوف بأنه شرى نفسه لله وطلب رضاه، إنما شراها للوثُوب بالفريق الفاجر طلبَ رضا الله. فهذا هو الأغلب الأظهر من تأويل الآية.
وأما ما رُوي من نزول الآية في أمر صُهيب، فإنّ ذلك غير مستنكرٍ، إذ كان غيرَ مدفوع جوازُ نزول آية من عند الله على رسوله صلى الله عليه وسلم بسبب من الأسباب، والمعنيُّ بها كلُّ من شمله ظاهرها.
__________
(1) الأثر: 4006 -"حزم بن أبي حزم" القطعي أبو عبد الله البصري روى عن الحسن وغيره، قال أبو حاتم: صدوق لا بأس به، وهو من ثقات من بقى من أصحاب الحسن، مات سنة 75. مترجم في التهذيب. وكان في المطبوعة: "حزام بن أبي حزم" وهو خطأ.
(2) الأثر: 4007 -"زياد بن أبي مسلم" أبو عمر الفراء البصري، روى عن صالح أبي الخليل وأبي العالية والحسن. مترجم في التهذيب. "وأبو الخليل": صالح بن أبي مريم الضبعي مولاهم تابعي، مترجم في التهذيب.(4/250)
فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إنّ الله عز وجل وصف شاريًا نفسَه ابتغاء مرضاته، فكل من باعَ نفسه في طاعته حتى قُتل فيها، أو استقتل وإن لم يُقتل، (1) فمعنيٌّ بقوله:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"- في جهاد عدو المسلمين كان ذلك منه، أو في أمرٍ بمعروف أو نهي عن منكر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) }
قد دللنا فيما مضى على معنى"الرأفة"، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع، وأنها رقة الرحمة (2)
* * *
فمعنى ذلك: والله ذو رحمة واسعة بعبده الذي يشري نفسه له في جهاد من حادَّه في أمره من أهل الشرك والفُسوق وبغيره من عباده المؤمنين في عاجلهم وآجل معادهم، فينجز لهم الثواب على ما أبلوا في طاعته في الدنيا، ويسكنهم جناته على ما عملوا فيها من مرضاته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى السلم في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معناه: الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "واستقتل" بواو العطف، وهو فاسد، والصواب ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 3: 171، 172.(4/251)
4008 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السِّلم"، قال: ادخلوا في الإسلام.
4009 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:" ادخلوا في السلم"، قال: ادخلوا في الإسلام.
4010 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: السلم: الإسلام.
4011 - حدثني موسى بن هارون، قال: أخبرنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ادخلوا في السلم"، يقول: في الإسلام.
4012 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن النضر بن عربي، عن مجاهد: ادخلوا في الإسلام.
4013 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" ادخلوا في السلم". قال: السلم: الإسلام.
4014 - حدثت عن الحسين بن فرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: حدثنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول:" ادخلوا في السلم": في الإسلام.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ادخلوا في الطاعة.
* ذكر من قال ذلك:
4015 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ادخلوا في السلم"، يقول: ادخلوا في الطاعة.
* * *
وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك، فقرأته عامة قراء أهل الحجاز:"ادخلوا في السَّلم" بفتح السين، وقرأته عامة قرأة الكوفيين بكسر السين.(4/252)
فأما الذين فتحوا"السين" من"السلم"، فإنهم وجهوا تأويلها إلى المسالمة، بمعنى: ادخلوا في الصلح والمساومة وترك الحرب وإعطاء الجزية.
وأما الذين قرءوا ذلك بالكسر من"السين" فإنهم مختلفون في تأويله.
فمنهم من يوجهه إلى الإسلام، بمعنى ادخلوا في الإسلام كافة، ومنهم من يوجّهه إلى الصلح، بمعنى: ادخلوا في الصلح، ويستشهد على أن"السين" تكسر، وهي بمعنى الصلح بقول زهير ابن أبي سلمى:
وَقَدْ قُلْتُمَا إنْ نُدْرِكِ السِّلْمَ وَاسِعًا ... بِمَالٍ وَمَعْرُوفٍ مِنَ الأمْرِ نَسْلَمِ (1)
وأولى التأويلات بقوله:" ادخلوا في السلم"، قول من قال: معناه: ادخلوا في الإسلام كافة.
وأمّا الذي هو أولى القراءتين بالصواب في قراءة ذلك، فقراءة من قرأ بكسر "السين" لأن ذلك إذا قرئ كذلك - وإن كان قد يحتمل معنى الصلح - فإن معنى الإسلام: ودوام الأمر الصالح عند العرب، أغلبُ عليه من الصلح والمسالمة، وينشد بيت أخي كندة:
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمّا ... رَأَيْتُهُمُ تَوَلَّوْا مُدْبِرينَا (2)
__________
(1) ديوانه: 16 من معلقته النبيلة. والضمير في"قلتما" للساعيان في الصلح وهما الحارث ابن عوف وهرم بن سنان، وذلك في حرب عبس وذبيان. وقوله: "واسعًا" أي: قد استقر الأمرواطمأنت النفوس فاتسع للناس فيه ما لا يتسع لهم في زمن الحرب. وكان الحارث وهرم قد حملا الحمالة في أموالهما، ليصطلح الناس.
(2) من أبيات لامرئ القيس بن عابس الكندي وتروى لغيره. المؤتلف والمختلف: 9 والوحشيات: 75 وغيرهما وكان امرؤ القيس قد وفد على رسول الله صلى اله عليه وسلم ولم يرتد في أيام أبي بكر، وأقام على الإسلام وكان له في الردة غناء وبلاء، وقد قال الأبيات في زمن الردة وقبل البيت: أَلاَ أَبْلِغْ أبَا بَكْرٍ رَسُولاً ... وَأَبْلِغْهَا جَمِيعَ المُسْلِمِينَا
فَلَسْتُ مُجَاوِرًا أَبَدًا قَبِيلاً ... بِمَا قَالَ الرَّسُولُ مُكَذِّبِينَا
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ حَتَّى رَأَيْتُهُمُ أَغَارُوا مُفْسِدينَا(4/253)
بكسر السين، بمعنى: دعوتهم للإسلام لما ارتدُّوا، وكان ذلك حين ارتدت كندة مع الأشعث (1) بعد وَفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد كان أبو عمرو بن العلاء يقرأ سائرَ ما في القرآن من ذكر"السلم" بالفتح سوى هذه التي في سورة البقرة، فإنه كان يخصُّها بكسر سينها توجيهًا منه لمعناها إلى الإسلام دون ما سواها.
وإنما اخترنا ما اخترنا من التأويل في قوله:" ادخلوا في السلم" وصرفنا معناه إلى الإسلام، لأن الآية مخاطب بها المؤمنون، فلن يعدوَ الخطاب إذ كان خطابًا للمؤمنين من أحد أمرين:
إما أن يكون خطابًا للمؤمنين بمحمد المصدقين به وبما جاء به، فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان:"ادخلوا في صلح المؤمنين ومسالمتهم"، لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان حربًا بترك الحرب، فأما الموالي فلا يجوز أن يقال له:"صالح فلانا"، ولا حرب بينهما ولا عداوة.
= أو يكون خطابًا لأهل الإيمان بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المصدِّقين بهم، وبما جاءوا به من عند الله المنكرين محمدًا ونبوته، فقيل لهم:" ادخلوا في السلم"، يعني به الإسلام، لا الصُّلح. لأن الله عز وجل إنما أمر عباده بالإيمان به وبنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإلى الذي دعاهم دون المسالمة والمصالحة. بل نهي نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن دعاء أهل الكفر إلى الصلح (2) فقال: (فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأعْلَوْنَ وَاللَّهُ
__________
(1) هو الأشعث بن قيس الكندين وكان وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة في سبعين راكبا من كندة ثم ارتد فيمن ارتد من العرب. وقاتل في الردة حتى هزم ثم استسلم وأسر وقدموا به على أبي بكر فقال له أبو بكر: ماذا تراني أصنع بك؟ فإنك قد فعلت ما علمت قال الأشعث: تمن علي فتفكني من الحديد وتزوجني أختك فإني قد راجعت وأسلمت. فقال أبو بكر: قد فعلت! فزوجه ام فروة بنت أبي قحافة، فكان بالمدينة حتى فتح العراق. ثم شهد الفتوح حتى مات سنة 40، وله ثلاث وستون سنة.
(2) في المطبوعة: ". . عن دعاء أهل الكفر إلى الإسلام" وهو خطأ لا شك فيه، سبق قلم الكاتب فوضع"الإسلام" مكان"الصلح" ومحال أن ينهى الله نبيه عن دعاء أحد إلى الإسلام والسياق دال على الصواب كما ترى.(4/254)
مَعَكُمْ) [محمد: 35] وإنما أباحَ له صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال إذا دعَوه إلى الصلح ابتداءَ المصالحة، فقال له جل ثناؤه: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا) [الأنفال: 61] فأما دعاؤهم إلى الصُّلح ابتداءً، فغير موجود في القرآن، فيجوزُ توجيه قوله:" ادخلوا في السلم" إلى ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: فأيّ هذين الفريقين دعى إلى الإسلام كافة؟
قيل قد اختلف في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: دعى إليه المؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وما جاء به.
* * *
وقال آخرون: قيل: دُعي إليه المؤمنون بمن قبل محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء المكذبون بمحمد.
* * *
فإن قال: فما وجه دعاء المؤمن بمحمد وبما جاء به إلى الإسلام؟
قيل: وجه دُعائه إلى ذلك الأمرُ له بالعمل بجميع شرائعه، وإقامة جميع أحكامه وحدوده، دون تضييع بعضه والعمل ببعضه. وإذا كان ذلك معناه، كان قوله" كافة" من صفة"السلم"، ويكون تأويله: ادخلوا في العمل بجميع معاني السلم، ولا تضيعوا شيئًا منه يا أهل الإيمان بمحمد وما جاء به.
وبنحو هذا المعنى كان يقول عكرمة في تأويل ذلك.
4016 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: نزلت في ثعلبة، وعبد الله بن سلام وابن يامين وأسد وأسَيْد ابني كعب وسَعْيَة بن عمرو (1)
__________
(1) في المطبوعة: "شعبة" وفي الدر المنثور: "سعيد" والذي في أسماء يهود: "سعية" و"سعنة" وأكثر هذه الأسماء من أسماء يهود مما يصعب تحقيقها ويطول، لكثرة الاختلاف فيها.(4/255)
وقيس بن زيد- كلهم من يهود- قالوا: يا رسول الله، يوم السبت يومٌ كنا نعظمه، فدعنا فلنُسبِت فيه! وإن التوراة كتاب الله، فدعنا فلنقم بها بالليل! فنزلت:" يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان" (1)
* * *
فقد صرح عكرمة بمعنى ما قلنا في ذلك من أن تأويل ذلك دعاء للمؤمنين إلى رَفض جميع المعاني التي ليست من حكم الإسلام، والعمل بجميع شرائع الإسلام، والنهي عن تضييع شيء من حدوده.
* * *
وقال آخرون: بل الفريق الذي دُعي إلى السلم فقيل لهم:"ادخلوا فيه" بهذه الآية هم أهل الكتاب، أمروا بالدخول في الإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
4017 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال. قال ابن عباس في قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، يعني أهل الكتاب.
4018 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد يقول: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: يعني أهل الكتاب.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن يقال: إن الله جل ثناؤه أمر الذين آمنوا بالدخول في العمل بشرائع الإسلام كلها، وقد يدخل في"الذين آمنوا" المصدِّقون بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبما حاء به، والمصدقون بمن قبله من الأنبياء والرسل، وما جاءوا به، وقد دعا الله عز وجل كلا الفريقين إلى العمل بشرائع الإسلام وحدوده، والمحافظة على فرائضه التي فرضها، ونهاهم عن تضييع
__________
(1) الأثر: 4016 - في الدر المنثور 1: 241.(4/256)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208)
شيء من ذلك، فالآية عامة لكل من شمله اسم"الإيمان"، فلا وجه لخصوص بعض بها دون بعض.
وبمثل التأويل الذي قلنا في ذلك كان مجاهد يقول.
4019 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: ادخلوا في الإسلام كافة، ادخلوا في الأعمال كافة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَافَّةً}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله (1) " كافة" عامة، جميعًا، كما:-
4020 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:" في السلم كافة" قال: جميعًا.
4021 - حدثنا موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" في السلم كافة"، قال: جميعًا.
4022 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع" في السلم كافة"، قال: جميعًا= وعن أبيه، عن قتادة مثله.
4023 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع بن الجراح، عن النضر، عن مجاهد، ادخلوا في الإسلام جميعًا.
4024 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج، قال ابن عباس:" كافة"،: جميعًا.
__________
(1) في المطبوعة: "جل ثناؤه: كافة" بإسقاط"بقوله" وهذا سياق الكلام.(4/257)
4025 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:" كافة" جميعًا، وقرأ. (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [التوبة: 36] جميعًا.
4026 - حدثت عن الحسين، قال. سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال: أخبرنا عبيد بن سليمان، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:" ادخلوا في السلم كافة"، قال: جميعًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه. بذلك: اعملوا أيها المؤمنون بشرائع الإسلام كلها، وادخلوا في التصديق به قولا وعملا ودعوا طرائق الشيطان وآثاره أن تتبعوها فإنه لكم عدو مبين لكم عداوته. (1) وطريقُ الشيطان الذي نهاهم أن يتبعوه هو ما خالف حكم الإسلام وشرائعه، ومنه تسبيت السبت وسائر سنن أهل الملل التي تخالف ملة الإسلام.
* * *
وقد بينت معنى"الخطوات" بالأدلة الشاهدة على صحته فيما مضى، فكرهت إعادته في هذا المكان. (2)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"عدو مبين" فيما سلف 3: 300.
(2) انظر ما سلف 3: 301، 302.(4/258)
فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أخطأتم الحق، (1)
فضللتم عنه، وخالفتم الإسلام وشرائعه، من بعد ما جاءتكم حُجَجي وبيِّنات هداي، واتضحت لكم صحة أمر الإسلام بالأدلة التي قطعت عذركم أيها المؤمنون = فاعلموا أن الله ذو عزة، لا يمنعه من الانتقام منكم مانع، ولا يدفعه عن عقوبتكم على مخالفتكما أمره ومعصيتكم إياه دافع ="حكيم" فيما يفعل بكم من عقوبته على معصيتكم إياه، بعد إقامته الحجة عليكم، وفي غيره من أموره.
* * *
وقد قال عدد من أهل التأويل إن"البينات" هي محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن. (2)
وذلك قريب من الذي قلنا في تأويل ذلك، لأن محمدًا صلى الله عليه وسلم والقرآن، من حجج الله على الذين خوطبوا بهاتين الآيتين. غير أن الذي قلناه في تأويل ذلك أولى بالحق، لأن الله جل ثناؤه، قد احتج على من خالف الإسلام من أحبار أهل الكتاب بما عهد إليهم في التوراة والإنجيل، وتقدَّم إليه على ألسن أنبيائهم بالوَصاةِ به، فذلك وغيرُه من حجج الله تبارك وتعالى عليهم مع ما لزمهم من الحجج بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن. فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* * *
* ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله:" فإن زللتم": (3)
4027 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي في قوله:" فإن زللتم"، يقول: فإن ضللتم.
__________
(1) انظر معنى"زل" فيما سلف 1: 524- 525.
(2) انظر ما سلف في تفسير"البينات" 2: 318، 354/ ثم 3: 249- 151.
(3) انظر معنى"زل" فيما سلف 1: 524- 525.(4/259)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
4028 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فإن زللتم" قال: الزلل: الشرك.
* * *
ذكر أقوال القائلين في تأويل قوله:" من بعد ما جاءتكم البينات": (1)
4029 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" من بعد ما جاءتكم البينات"، يقول: من بعد ما جاءكم محمد صلى الله عليه وسلم.
4030 - وحدثني القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج:" فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات"، قال: الإسلام والقرآن.
* * *
4031 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فاعلموا أن الله عزيز حكيم"، يقول: عزيز في نقمته، حكيم في أمره. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: هل ينظرُ المكذِّبون بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، إلا أن يأتيهم الله في ظُلل من الغمام والملائكة؟.
* * *
ثم اختلفت القرأة في قراءة قوله:" والملائكة".
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"البينات" 2: 318، 354/ ثم 3: 249- 251.
(2) انظر معنى"عزيز" و"حكيم" في فهرس اللغة.(4/260)
فقرأ بعضهم:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة"، بالرفع، عطفًا بـ "الملائكة" على اسم الله تبارك وتعالى، على معنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكةُ في ظلل من الغمام.
* ذكر من قال ذلك:
4032 - حدثني أحمد بن يوسف عن أبي عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر الرازي، عن أبيه، عن الربيع بن أنس، عن أبي العالية قال- في قراءة أبيّ بن كعب:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكةُ في ظلل من الغمام"، قال: تأتي الملائكة في ظلل من الغمام، ويأتي الله عزّ وجل فيما شاء.
4033 - وقد حدثت هذا الحديث عن عمار بن الحسن، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" الآية، وقال أبو جعفر الرازي: وهي في بعض القراءة:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام"، كقوله: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنَزَّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً) [الفرقان: 25]
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكةِ" بالخفض عطفًا بـ "الملائكة" على"الظلل"، بمعنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة.
* * *
وكذلك اختلفت القرأة في قراءة"ظلل"، فقرأها بعضُهم:"في ظُلَل"، وبعضهم:"في ظلال".
فمن قرأها" في ظُلل"، فإنه وجهها إلى أنها جمع"ظُلَّة"، و"الظُلَّة"، تجمع"ظُلل وظِلال"، كما تجمع"الخُلَّة"،"خُلَل وخِلال"، و"الجلَّة"، جُلَلٌ وجلال".(4/261)
وأما الذي قرأها"في ظلال"، فإنه جعلها جمع"ظُلَّة"، كما ذكرنا من جمعهم"الخلة""خلال".
وقد يحتمل أن يكون قارئه كذلك، وجَّهه إلى أنّ ذلك جمع"ظِلّ"، لأن"الظلُّة" و"الظِّل" قد يجمعان جميعًا"ظِلالا".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندي:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظُللٍ من الغمام"، لخبر روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفًا. (1) فدل بقوله"طاقات"، على أنها ظلل لا ظلال، لأن واحد"الظلل""ظلة"، وهي الطاق= واتباعًا لخط المصحف. (2) وكذلك الواجبُ في كل ما اتفقت معانيه واختلفتْ في قراءته القرأة، ولم يكن على إحدى القراءتين دلالة تنفصل بها من الأخرى غير اختلاف خطّ المصحف، فالذي ينبغي أن تؤثر قراءته منها ما وافق رَسم المصحف.
* * *
وأما الذي هو أولى القراءتين في:" والملائكة"، فالصواب بالرفع، عطفًا بها على اسم الله تبارك وتعالى، على معنى: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وإلا أن تأتيهم الملائكة، على ما روي عن أبيّ بن كعب، لأن الله جل ثناؤه قد أخبر في غير موضع من كتابه أن الملائكة تأتيهم، فقال جل ثناؤه: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) [الفجر: 22] ، وقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ) [الأنعام: 158] فإن أشكلَ على امرئ قول الله جل ثناؤه: (وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) فظن أنه مخالفٌ معناه معنى قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة"،
__________
(1) سيأتي في الأثر رقم: 4038.
(2) قوله: "واتباعا. . . " معطوف على موضع قوله: "لخبر روي عن رسول الله. . . "(4/262)
إذ كان قوله:"والملائكة" في هذه الآية بلفظ جمع، وفي الأخرى بلفظ الواحد. فإن ذلك خطأ من الظنّ، وذلك أن"الملك" في قوله: (وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ) بمعنى الجميع، ومعنى"الملائكة". والعرب تذكر الواحد بمعنى الجميع، فتقول:"فلان كثير الدرهم والدينار"= يراد به: الدراهم والدنانير= و"هلك البعير والشاةُ"، بمعنى جماعة الإبل والشاء، فكذلك قوله:" والملك" بمعنى"الملائكة".
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" ظُلل من الغمام"، وهل هو من صلة فعل الله جل ثناؤه، أو من صلة فعل"الملائكة"، ومن الذي يأتي فيها؟ فقال بعضهم: هو من صلة فعل الله، ومعناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وأن تأتيهم الملائكة.
* ذكر من قال ذلك:
4034 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام"، قال: هو غير السحاب (1) لم يكن إلا لبني إسرائيل في تيههم حين تاهوا، وهو الذي يأتي الله فيه يوم القيامة.
4035 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتاده:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام"، قال: يأتيهم الله وتأتيهم الملائكة عند الموت.
4036 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال عكرمة في قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام"، قال: طاقات من الغمام، والملائكة حوله= قال ابن جريج، وقال غيره: والملائكةُ بالموت
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الغمام" فيما سلف 2: 90، 91، وما سيأتي قريبا: 266.(4/263)
وقول عكرمة هذا، وإن كان موافقًا قولَ من قال: إن قوله: في ظُلل من الغمام" من صلة فعل الرب تبارك وتعالى الذي قد تقدم ذكرناه، فإنه له مخالف في صفة الملائكة. وذلك أن الواجب من القراءة = على تأويل قول عكرمة هذا في"الملائكة" = الخفضُ، لأنه تأول الآية: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام وفي الملائكة، لأنه زعم أن الله تعالى يأتي في ظلل من الغمام والملائكةُ حوله.
هذا إن كان وجَّه قوله:"والملائكة حوله"، إلى أنهم حول الغمام، وجعل"الهاء" في"حوله" من ذكر"الغمام". وإن كان وجَّه قوله:"والملائكة حوله" إلى أنهم حول الرب تبارك وتعالى، وجعل"الهاء" في"حوله" من ذكر الرب عز جل، فقوله نظيرُ قول الآخرين الذين قد ذكرنا قولهم، غيرُ مخالفهم في ذلك.
* * *
وقال آخرون: بل قوله:" في ظلل من الغمام" من صلة فعل"الملائكة"، وإنما تأتي الملائكة فيها، وأما الرب تعالى ذكره فإنه يأتي فيما شاء.
* ذكر من قال ذلك:
4037 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة" الآية، قال: ذلك يوم القيامة، تأتيهم الملائكة في ظلل من الغمام. قال: الملائكة يجيئون في ظلل من الغمام، والرب تعالى يجيء فيما شاء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في ذلك تأويل من وجَّه قوله:" في ظُلل من الغمام" إلى أنه من صلة فعل الرب عز وجل، وأن معناه: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وتأتيهم الملائكة، لما:-
4038 - حدثنا به محمد بن حميد، قال: حدثنا إبراهيم بن المختار، عن ابن جريج، عن زمعة بن صالح عن سلمة بن وهرام، عن عكرمة، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن من الغمام طاقات يأتي الله فيها محفوفًا، وذلك(4/264)
قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقُضي الأمر". (1)
* * *
وأما معنى قوله:" هل ينظرون"، فإنه ما ينظرون، وقد بيّنا ذلك بعلله فيما مضى من كتابنا هذا قبل. (2)
* * *
ثم اختلف في صفة إتيان الرب تبارك وتعالى الذي ذكره في قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله".
فقال بعضهم: لا صفة لذلك غير الذي وصَف به نفسه عز وجل من المجيء والإتيان والنزول، وغيرُ جائز تكلُّف القول في ذلك لأحد إلا بخبر من الله جل جلاله، أو من رسول مرسل. فأما القول في صفات الله وأسمائه، فغيرُ جائز لأحد من جهة الاستخراج إلا بما ذكرنا.
* * *
وقال آخرون: إتيانه عز وجل، نظيرُ ما يعرف من مجيء الجائي من موضع إلى موضع، وانتقاله من مكان إلى مكان.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:" هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله"، يعني به: هل ينظرون إلا أن يأتيهم أمرُ الله، كما يقال:"قد خشينا أن يأتينا بنو أمية"، يراد به: حُكمهم.
* * *
__________
(1) الحديث: 4038 -زمعة بن صالح الجندي- بفتح الجيم والنون- اليماني: ضعيف ضعفه أحمد وابن معين وغيرهما. وفصلنا ذلك في شرح المسند: 2061.
سلمة بن وهرام -بفتح الواو وسكون الهاء- اليماني: ثقة، وإنما تكلموا فيه من أجل أحاديث رواها عنه زمعة بن صالح، والحمل فيها على زمعة.
وهذا الحديث ضعيف، كما ترى وذكره السيوطي 1: 241- 242 ونسبه لابن جرير والديلمي فقط.
ونقل قبله نحو معناه، موقوفًا على ابن عباس ونسبه لعبد بن حميد، وأبي يعلى وابن المنذر وابن أبي حاتم. ولعله موقوفًا أشبه بالصواب.
وانظر الحديث بعده: 4039.
(2) كأنه يريد ما سلف 2: 485، من أن حروف الاستفهام تدخل بمعنى الجحد. ولم أجد موضعًا مما يشير إليه غير هذا. وانظر اللسان مادة (هلل) .(4/265)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: هل ينظرون إلا أن يأتيهم ثوابه وحسابه وعذابه، كما قال عز وجل: (بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) [سبأ: 33] وكما يقالَ:"قطع الوالي اللص أو ضربه"، وإنما قطعه أعوانُه.
* * *
وقد بينا معنى"الغمام" فيما مضى من كتابنا هذا قبل فأغنى ذلك عن تكريره، (1) لأن معناه ههنا هو معناه هنالك.
* * *
قال أبو جعفر: فمعنى الكلام إذًا: هل ينظر التاركون الدخول في السلم كافة (2) والمتبعون خُطوات الشيطان، إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، فيقضي في أمرهم ما هو قاضٍ.
4939 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن إسماعيل بن رافع المديني، عن يزيد بن أبي زياد، عن رجل من الأنصار، عن محمد بن كعب القرظي، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: توقفون موقفًا واحدًا يوم القيامة مقدار سَبعين عامًا، لا يُنظر إليكم ولا يُقضي بينكم، قد حُصر عليكم، فتبكون حتى ينقطع الدمع، ثم تدمعون دمًا، وتبكون حتى يبلغ ذلك منكم الأذقان، أو يلجمكم فتصيحون، ثم تقولون: من يشَفع لنا إلى ربنا فيقضي بيننا؟ فيقولون من أحقُّ بذلك من أبيكم آدم؟ جبل الله تُربته، وخلَقه بيده، ونفخ فيه من روحه، وكلَّمه قِبَلا (3) فيؤتى آدم، فيطلبَ ذلك إليه، فيأبى، ثم يستقرئون الأنبياء نبيًّا نبيًّا، كلما جاءوا نبيًا أبى، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حتى يأتوني، فإذا جاءوني خرجت حتى آتي الفَحْص= قال أبو هريرة: يا رسول الله، وما الفَحْص؟ قال: قُدّام العرش= فأخرّ ساجدًا، فلا أزال ساجدًا
__________
(1) انظر ما سلف 2: 90- 91، وما مضى قريبا: 263.
(2) في المطبوعة: "هل ينظرون التاركون. . " والصواب ما أثبت.
(3) "كلمة قبلا" (بكسر القاف وفتح الباء) أي عيانا ومقابلة، لا من وراء حجاب ومن غير أن يولى أمره او كلامه أحدًا من الملائكة.(4/266)
حتى يبعث الله إليَّ ملَكًا، فيأخذ بعضديّ فيرفعني، ثم يقول الله لي: يا محمد! فأقول: نعم! وهو أعلم. فيقول: ما شأنك؟ فأقول: يا رب وعدتني الشفاعة، فشفِّعني في خلقك، فاقض بينهم. فيقول: قد شفَّعتك، أنا آتيكم فأقضي بينكم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" فأنصرف حتى أقف مع الناس، فبينا نحن وقوفٌ سمعنا حِسًّا من السماء شديدًا، فهالنا، فنزل أهل السماء الدنيا بمثلَيْ من في الأرض من الجن والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقَت الأرضُ بنورهم، وأخذوا مَصافَّهم، فقلنا لهم: أفيكم ربُّنا؟ قالوا: لا! وهو آتٍ. ثم نزل أهل السماء الثانية بمثْليْ من نزل من الملائكة، وبمثلي من فيها من الجنّ والإنس، حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مصافهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا! وهو آتٍ. ثم نزل أهل السماء الثالثة بمثلي من نزل من الملائكة، وبمثلي من في الأرض من الجن والإنس حتى إذا دنوا من الأرض أشرقت الأرض بنورهم، وأخذوا مَصافَّهم، فقلنا لهم: أفيكم ربنا؟ قالوا: لا! وهو آتٍ، ثم نزل أهلُ السموات على عدد ذلك من التضعيف، حتى نزل الجبار في ظُلل من الغمام والملائكة، ولهم زجَلٌ من تسبيحهم يقولون:" سبحان ذي الملك والملكوت! سبحان ربّ العرش ذي الجبروت! سبحان الحي الذي لا يموت! سبحان الذي يُميت الخلائق ولا يموت! سبوح قدوس، رب الملائكة والروح! قدّوس قدّوس! سبحان ربنا الأعلى! سبحان ذي السلطان والعظمة! سبحانه أبدًا أبدًا"! فينزل تبارك وتعالى، يحملُ عرشه يومئذ ثمانية، وهم اليوم أربعا، أقدامهم على تُخوم الأرض السفلى والسموات إلى حُجَزهم، والعرشُ على مناكبهم. فوضع الله عز وجل عرشه حيث شاء من الأرض، ثم ينادي مناد نداءً يُسمع الخلائق، فيقول: يا معشر الجن والإنس إني قد أنصتُّ منذ يوم خلقتكم إلى يومكم هذا، أسمع كلامكم، وأبصر أعمالكم، فأنصتوا إلىّ، فإنما هو صُحُفكم وأعمالكم تقرأ عليكم، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه! فيقضي الله عز وجل بين خلقه الجن والإنس والبهائم، فإنه ليقتصُّ يومئذ للجمَّاءِ من ذات القَرْن". (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الخبر يدلّ على خطأ قول قتادة في تأويله قوله:" والملائكة" أنه يعني به الملائكة تأتيهم عند الموت. لأنه صلى الله عليه وسلم ذكر أنهم يأتونهم بعد قيام الساعة في موقف الحساب، حين تشقَّقُ السماء، وبمثل ذلك روي الخبر
__________
(1) الحديث: 4039 - هذا حدث ضعيف من جهتين: من جهة إسماعيل بن رافع ومن جهة الرجل المبهم من الأنصار ثم هذا السياق فيه نكارة.
فإسماعيل بن رافع بن عويمر المدني: ضعيف جدًا، ضعفه أحمد وابن معين وأبو حاتم وابن سعد وغيرهم وذكره ابن حبان في كتاب المجروحين رقم: 42 (مخطوط مصور) وقال: "كان رجلا صالحا، إلا أنه يقلب الأخبار حتى صار الغالب على حديثه المناكير التي يسبق إلى القلب أنه كالمعتمد لها".
وهذا الحديث أشار إليه ابن كثير 1: 474- 475 وقال: "وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم"! وما وجدته في شيء مما بين يدي من المراجع فلا أدري كيف كان هذا؟ .
ولإسماعيل بن رافع هذا حديث آخر، في معنى هذا الحديث أطول منه جدًا. ذكره ابن كثير في التفسير 3: 337- 342 من رواية الطبراني في كتابه (المطولات) بإسناده من طريق أبي عاصم النبيل عن إسماعيل بن رافع عن محمد بن زياد عن محمد بن كعب القرظي عن أبي هريرة مرفوعا. ثم قال ابن كثير بعد سياقه بطوله: "هذا حديث مشهور وهو غريب جدا، ولبعضه شواهد في الأحاديث المتفرقة وفي بعض أفاظه نكارة. تفرد به إسماعيل بن رافع قاص أهل المدينة وقد اختلف فيه: فمنهم من وثقه ومنهم من ضعفه. ونص على نكارة حديثه غير واحد من الأئمة كأحمد بن حنبل وأبي حاتم الرازي وعمرو بن علي الفلاس ومنهم من قال فيه: هو متروك وقال ابن عدي: أحاديثه كلها فيها نظر إلا انه يكتب حديثه في جملة الضعفاء قلت: [القائل ابن كثير] : وقد اختلف عليه في إسناد هذا الحديث على وجوه كثيرة وقد أفردتها في جزء على حدة. وأما سياقه فغريب جدًا، ويقال أنه جمعه من أحاديث كثيرة وجعله سياقًا واحدًا فأنكر عليه بسبب ذلك. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول: إنه رأى للوليد بن مسلم مصنفًا قد جمعه كالشواهد لبعض مفردات هذا الحديث. فاله أعلم".
ثم جاء صدر الدين بن أبي العز قاضي القضاة -تلميذ ابن كثير- فأشار إلى هذين الحديثين: حديث الطبري الذي هنا، وحديث الطبراني الذي ذكره شيخه ابن كثير إشارة واحدة في شرح الطحاوية ص: 171- 172 بتحقيقنا كأنه اعتبرهما حديثًا واحدًا، فذكر بعض سياق الحديث المطول ثم قال: "رواه الأئمة: ابن جرير في تفسيره والطبراني وأبو يعلى الموصلي والبيهقي" فكان شأنه في ذلك موضع نظر، لأن رواية الطبراني إنما هي في كتاب آخر غير معاجمة الثلاثة كما نقل ابن كثير ثم لم أجده في كتاب الأسماء والصفات للبيهقي. ثم لم يذكره صاحب الزوائد. ولو كان في أحد معاجم الطبراني او في مسند أبي يعلى الموصلي كما يوهمه إطلاق ابن أبي العز- لذكره صاحب الزوائد بما التزم من ذلك في كتابه.(4/267)
عن جماعة من الصحابة والتابعين، كرهنا إطالة الكتاب بذكرهم وذكر ما قالوا في ذلك،= ويوضحُ أيضًا صحة ما اخترنا في قراءة قوله:" والملائكة" بالرفع على معنى: وتأتيهم الملائكة = ويُبينُ عن خطأ قراءة من قرأ ذلك بالخفض، لأنه أخبر صلى الله عليه وسلم أن الملائكة تأتي أهل القيامة في موقفهم حين تَفَطَّر السماء، قبل أن يأتيهم ربُّهم، في ظلل من الغمام. إلا أن يكون قارئ ذلك ذهب إلى أنه عز وجل عنى بقوله ذلك: إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وفي الملائكة الذين يأتون أهلَ الموقف حين يأتيهم الله في ظلل من الغمام، فيكون ذلك وجهًا من التأويل، وإن كان بعيدًا من قول أهل العلم، ودلالة الكتاب وآثار رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقُضِيَ الأمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (210) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: وفُصِل القضاء بالعدل بين الخلق، (1) على ما ذكرناه قبلُ عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: من أخْذ الحق لكلّ مظلوم من كل ظالم، حتى القصاص للجمّاء من القرناء من البهائم". (2)
وأما قوله:" وإلى الله تُرجع الأمور"، فإنه يعني: وإلى الله يؤول القضاء بين خلقه يوم القيامة، والحكم بينهم في أمورهم التي جرت في الدنيا، من ظلم بعضهم بعضًا، واعتداءِ المعتدي منهم حدودَ الله، وخلافَ أمره، وإحسانِ المحسن منهم، وطاعته إياه فيما أمرَه به- فيفصلُ بين المتظالمين، ويجازي أهل الإحسان بالإحسان،
__________
(1) انظر معنى"قضى" و"القضاء" فيما سلف 2: 542، 543.
(2) انظر الأثر السالف رقم: 4039.(4/269)
وأهل الإساءة بما رأى، ويتفضل على من لم يكن منهم كافرًا فيعفو. ولذلك قال جل ثناؤه:" وإلى الله تُرجع الأمور"، وإن كانت أمور الدنيا كلها والآخرةِ، من عنده مبدؤها، وإليه مصيرها، إذْ كان خلقُه في الدنيا يتظالمون، ويلي النظرَ بينهم أحيانًا في الدنيا بعضُ خلقه، فيحكم بينهم بعضُ عبيده، فيجوزُ بعضٌ ويعدل بعضٌ، ويصيبُ واحد ويخطئ واحد، ويمكَّن من تنفيذ الحكم على بعض، ويتعذَّر ذلك على بعض، لمنعة جانبه وغلبته بالقوة. فأعلم عبادَه تعالى ذكره أن مرجع جميع ذلك إليه في موقف القيامة، فينصف كُلا من كُلٍّ، ويجازي حق الجزاء كُلا حيثُ لا ظلمَ ولا مُمْتَنَعَ من نفوذ حكمه عليه، وحيث يستوي الضعيف والقويّ، والفقير والغني، ويضمحل الظلم وينزلُ سلطان العدل.
* * *
وإنما أدخل جل وعزّ" الألف واللام" في"الأمور"، لأنه جل ثناؤه عنى بها جميع الأمور، ولم يعن بها بعضًا دون بعض، فكان ذلك بمعنى قول القائل:"يعجبني العسل- والبغل أقوى من الحمار"، فيدخل فيه"الألف واللام"، لأنه لم يُقصد به قصد بعض دون بعض، إنما يراد به العموم والجمع.
* * *(4/270)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: سل يا محمد بني إسرائيل = الذين لا ينتظرون - بالإنابة إلى طاعتي، والتوبة إليّ بالإقرار بنبوتك وتصديقك فيما جئتهم به من عندي- إلا إن آتيهم في ظلل من الغمام وملائكتي، فأفصلُ القضاء بينك وبين من آمن بك وصدَّقك بما أنزلت إليك من كتبي، وفرضت(4/270)
عليك وعليهم من شرائع ديني، وبينهم = كم جئتهم به من قبلك من آية وعلامة، على ما فرضتُ عليهم من فرائضي، فأمرتهم به من طاعتي، وتابعتُ عليهم من حججي على أيدي أنبيائي ورسلي من قبلك، مؤيِّدةً لهم على صدقهم، بيِّنةً أنها من عندي، واضحةً أنها من أدلتي على صدق نُذُري ورُسلي فيما افترضت عليهم من تصديقهم وتصديقك، فكفروا حُجَجي، وكذَّبوا رسلي، وغيَّروا نعمي قِبَلهم، وبدَّلوا عهدي ووصيتي إليهم.
* * *
وأما"الآية"، فقد بينت تأويلها فيما مضى من كتابنا بما فيه الكفاية (1) وهي ها هنا. ما:-
4040 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة"، ما ذكر الله في القرآن وما لم يذكر، وهم اليهود.
4041 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيه بينة"، يقول: آتاهم الله آيات بينات: عصا موسى ويده، وأقطعهم البحر، وأغرق عدوَّهم وهم ينظرون، وظلَّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المنّ والسلوى، وذلك من آيات الله التي آتاها بني إسرائيل في آيات كثيرة غيرها، خالفوا معها أمر الله، فقتلوا أنبياء الله ورسله، وبدلوا عهده ووصيته إليهم، قال الله:" ومن يُبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب".
* * *
قال أبو جعفر: وإنما أنبأ الله نبيه بهذه الآيات، فأمره بالصبر على من كذَّبه، واستكبر على ربه، وأخبره أنّ ذلك فعل من قبْله من أسلاف الأمم قبلهم بأنبيائهم،
__________
(1) انظر ما سلف معنى"الآية" 1: 106/ ثم 2: 397- 398، 553/ ثم 3: 184. ومعنى"بينة" في 2: 318، 397/ ثم 3: 249/ وهذا الجزء 4: 259، 260.(4/271)
مع مظاهرته عليهم الحجج، وأنّ من هو بين أظهُرهم من اليهودُ إنما هم من بقايا من جرت عادتهم [بذلك] ، ممن قص عليه قصصهم من بني إسرائيل. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) }
قال أبو جعفر: يعني"بالنعم" جل ثناؤه: الإسلام وما فرض من شرائع دينه.
ويعني بقوله:" ومن يُبدّل نعمة الله" ومن يغير ما عاهد الله في نعمته التي هي الإسلام، (2) من العمل والدخول فيه فيكفر به، فإنه مُعاقبه بما أوْعد على الكفر به من العقوبة، والله شديدٌ عقابه، أليم عذابه.
* * *
فتأويل الآية إذًا يا أيها الذين آمنوا بالتوراة فصَدَّقوا بها، ادخلوا في الإسلام جميعًا، ودعوا الكفر، وما دعاكم إليه الشيطان من ضلالته، وقد جاءتكم البينات من عندي بمحمد، وما أظهرت على يديه لكم من الحجج والعِبَرِ، فلا تبدِّلوا عهدي إليكم فيه وفيما جاءكم به من عندي في كتابكم بأنه نبي ورسولي، فإنه من يبدِّل ذلك منكم فيغيره فإنى له معاقب بالأليم من العقوبة.
وبمثل الذي قلنا في قوله:" ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته"، قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) ما بين القوسين زيادة، أخشى أن تكون لازمة حتى يستقيم الكلام.
(2) انظر معنى"التبديل" فيما سلف 3: 396.(4/272)
زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
4042- حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته"، قال: يكفر بها.
4043 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
4044 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" ومن يبدِّل نعمة الله"، قال: يقول: من يبدِّلها كفرًا.
4045 - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع" ومن يبدِّل نعمة الله من بعد ما جاءته"، يقول: ومن يكفُر نعمتَه من بعد ما جاءته.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: زيِّن للذين كفروا حبُّ الحياة الدنيا العاجلة اللذات، (1) فهم يبتغون فيها المكاثرة والمفاخرة، ويطلبون فيها الرياسات والمباهاة، ويستكبرون عن اتباعك يا محمد، والإقرار بما جئت به من عندي، تعظُّمًا منهم على من صدَّقك واتبعك، ويسخرون بمن تبعك من أهل، الإيمان، والتصديق بك، في تركهم المكاثرة، والمفاخرة بالدنيا وزيتها من الرياش والأموال،
__________
(1) في المطبوعة: "العاجلة في الذنب" وهو كلام بلا معنى. وقد سمى الله الدنيا"العاجلة" لتعجيله الذين يحبونها ما يشاء من زينتها ولذتها، وهو يشير بذلك إلى قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا} [سورة الإسراء: 18] .(4/273)
بطلب الرياسات وإقبالهم على طلبهم ما عندي برفض الدنيا وترك زينتها، والذين عملوا لي= وأقبلوا على طاعتي، ورفضوا لذات الدنيا وشهواتها، اتباعًا لك، وطلبًا لما عندي، واتقاءً منهم بأداء فرائضي، وتجنُّب معاصيَّ = فوق الذين كفروا يوم القيامة، بإدخال المتقين الجنة، وإدخال الذين كفروا النار.
وبنحو الذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة منهم.
* ذكر من قال ذلك:
4046 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قوله:" زُيِّن للذين كفروا الحياة الدنيا"، قال: الكفار يبتغون الدنيا ويطلبونها =" ويسخرون من الذين آمنوا"، في طلبهم الآخرة - قال ابن جريج: لا أحسبه إلا عن عكرمة، قال: قالوا: لو كان محمد نبيًا كما يقول، لاتبعه أشرافنا وساداتنا! والله ما اتبعه إلا أهل الحاجة مثل ابن مسعود!
4047 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة"، قال:"فوقهم" في الجنة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212) }
قال أبو جعفر: ويعني بذلك: والله يعطي الذين اتقوا يوم القيامة من نعمه وكراماته وجزيل عطاياه، بغير محاسبة منه لهم على ما منّ به عليهم من كرامته.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما في قوله:" يرزق من يشاء بغير حساب" من المدح؟ قيل: المعنى الذي فيه من المدح، الخيرُ عن أنه غير خائف نفادَ خزائنه،(4/274)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
فيحتاج إلى حساب ما يخرج منها، إذ كان الحساب من المعطي إنما يكون ليعلم قَدْر العطاء الذي يخرج من ملكه إلى غيره، لئلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يُجحف به، فربنا تبارك وتعالى غيرُ خائف نفادَ خزائنه، ولا انتقاصَ شيء من ملكه، بعطائه ما يعطي عبادَه، فيحتاج إلى حساب ما يعطي، وإحصاء ما يبقي. فذلك المعنى الذي في قوله:" والله يرزق من يشاء بغير حساب"
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"الأمة": في هذا الموضع، (1) وفي"الناس" الذين وصفهم الله بأنهم: كانوا أمة واحدة.
فقال بعضهم: هم الذين كانوا بين آدم ونوح، وهم عشرة قرون، كلهم كانوا على شريعة من الحق، فاختلفوا بعد ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
4048 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو داود، قال: حدثنا همام بن منبه، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: كان بين نوح وآدم عشرة قرون، كلهم على شريعة من الحق، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال: وكذلك هي في قراءة عبد الله"كان الناس أمةً واحدةً فاختلفوا". (2)
__________
(1) انظر معنى (الأمة) فيما سلف 1: 221/ ثم 3: 74ن 100، 128ن 141.
(2) الأثر: 4048 -رواه الحاكم في المستدرك 2: 546- 547 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي.(4/275)
4049 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" كان الناس أمة واحدة"، قال: كانوا على الهدى جميعًا، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، فكان أوَّلَ نبي بُعث نوحٌ.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل"الأمة" على هذا القول الذي ذكرناه عن ابن عباس"الدين"، كما قال النابغة الذبياني:
حَلَفْتُ فَلَمْ أَتْرُكْ لِنَفْسِكَ رِيبَةً ... وَهَلْ يَأثَمَنْ ذُو أُمَّةٍ وَهْوَ طَائِعُ? (1)
يعني ذا الدين.
* * *
فكان تأويل الآية على معنى قول هؤلاء: كان الناس أمَّة مجتمعة على ملة واحدة ودين واحد فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
وأصل"الأمة"، الجماعة تجتمع على دين واحد، ثم يُكتفى بالخبر عن"الأمة" من الخبر عن"الدين"، لدلالتها عليه، كما قال جل ثناؤه: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) [سورة المائدة:48 سورة النحل: 93] ، يراد به أهل دين واحد وملة واحدة. فوجه ابن عباس في تأويله قوله:" كان الناس أمة واحدة"، إلى أن الناس كانوا أهل دين واحد حتى اختلفوا.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك كان آدم على الحقّ إمامًا لذريته، فبعث الله النبيين في ولده. ووجهوا معنى"الأمة" إلى طاعة لله، والدعاء إلى توحيده واتباع أمره، من قول الله عز وجل (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا) [سورة النحل: 120] ، يعني بقوله"أمة"، إمامًا في الخير يُقتدى به، ويُتَّبع عليه.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) ديوانه: 40، واللسان (أمم) من قصيدته المشهورة في اعتذاره للنعمان. يقول: أيتهجم على الإثم ذو دين، وقد أطاع الله واخبت له، فيحلف لك كاذبا يمين غموس كالتي حلفت بها، لأنفي عن قلبك الريبة في أمري.(4/276)
4050 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" كان الناس أمة واحدة"، قال: آدم.
4051 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد، مثله.
4052 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: ثنى حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:" كان الناس أمة واحدة"، قال: آدم، قال: كان بين آدم ونوح عشرة أنبياء، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين، قال مجاهد: آدم أمة وحدَه، (1)
* * *
وكأنّ من قال هذا القول، استجاز بتسمية الواحد باسم الجماعة لاجتماع أخلاق الخير الذي يكون في الجماعة المفرَّقة فيمن سماه بـ "الأمة"، كما يقال:"فلان أمة وحده"، يقول مقام الأمة.
وقد يجوز أن يكون سماه بذلك لأنه سبب لاجتماع الأسباب من الناس على ما دعاهم إليه من أخلاق الخير، (2) فلما كان آدم صلى الله عليه وسلم سببًا لاجتماع من اجتمع على دينه من ولده إلى حال اختلافهم (3) سماه بذلك"أمة".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك كان الناس أمة واحدة على دين واحد يوم استخرَج ذرية آدمَ من صلبه، فعرضهم على آدم.
* ذكر من قال ذلك:
4053 - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع
__________
(1) في المطبوعة: "أمة واحدة" في الموضعين وهو خطأ والصواب ما أثبت. وذلك ما جاء في حديث قس بن ساعدة: "إنه يبعث يوم القيامة أمة وحده" ويقال أيضًا: "هو أمة على حدة" كالذي في الحديث: "يبعث يوم القيامة زيد بن عمرو بن نفيل أمه على حدة".
(2) في لمطبوعة: "سبب لاجتماع الأسباب من الناس" وهو تصحيف. والأشتات المتفرقون، ومثله: شتى.
(3) قوله: "إلى حال اختلافهم" أي: إلى ان صارت حالهم إلى الاختلاف والتفرق.(4/277)
قوله:" كان الناس أمة واحدة"- وعن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية، عن أبي بن كعب، قال: كانوا أمة واحدة حيث عُرضوا على آدم، ففطَرهم يومئذ على الإسلام، وأقرُّوا له بالعبودية، وكانوا أمة واحدة مسلمين كلهم، ثم اختلفوا من بعد آدم= فكان أبيّ يقرأ:"كان الناسُ أمة واحدة فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين" إلى"فيما اختلفوا فيه". وإن الله إنما بعث الرسل وأنزل الكتب عند الاختلاف.
4054 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" كان الناس أمة واحدة"، قال: حين أخرجهم من ظهر آدم لم يكونوا أمة واحدة قطُّ غيرَ ذلك اليوم="فبعث الله النبيين"، قال: هذا حين تفرقت الأمم.
* * *
وتأويل الآية على هذا القول نظيرُ تأويل قول من قال يقول ابن عباس: إن الناس كانوا على دين واحد فيما بين آدمَ ونوح- وقد بينا معناه هنالك; إلا أن الوقت الذي كان فيه الناس أمة واحدة مخالفٌ الوقتَ الذي وقَّته ابن عباس.
* * *
وقال آخرون بخلاف ذلك كله في ذلك، وقالوا: إنما معنى قوله:" كان الناس أمة واحدة"، على دين واحد، فبعث الله النبيين.
* ذكر من قال ذلك:
4055 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" كان الناس أمة واحدة"، يقول: كان دينًا واحدًا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات في هذه الآية بالصواب أن يقال إن الله عز وجل أخبر عباده أن الناس كانوا أمة واحدة على دين واحد وملة واحدة. كما:-(4/278)
4056 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" كان الناس أمة واحدة"، يقول: دينًا واحدًا على دين آدم، فاختلفوا، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين.
* * *
= وكان الدينُ الذي كانوا عليه دينَ الحق، كما قال أبي بن كعب، كما:-
4057 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هي في قراءة ابن مسعود:"اختلفوا عنه" عن الإسلام. (1)
* * *
= فاختلفوا في دينهم، (2) فبعث الله عند اختلافهم في دينهم النبيين مبشرين ومنذرين،"وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"، رحمة منه جل ذكره بخلقه واعتذارًا منه إليهم.
وقد يجوز أن يكون ذلك الوقت الذي كانوا فيه أمة واحدة من عهد آدم إلى عهد نوح عليهما السلام، كما روي عكرمة، عن ابن عباس، وكما قاله قتادة.
وجائزٌ أن يكون كان ذلك حين عَرض على آدم خلقه. وجائزٌ أن يكون كان ذلك في وقت غير ذلك- ولا دلالة من كتاب الله ولا خبر يثبت به الحجة على أيِّ هذه الأوقات كان ذلك. فغيرُ جائز أن نقول فيه إلا ما قال الله عز وجل: من أن الناس كانوا أمة واحدة، فبعث الله فيهم لما اختلفوا الأنبياءَ والرسل. ولا يضرُّنا
__________
(1) الأثر: 4057 - سيأتي هذا الأثر برقم: 4063 وكان نصه هنا كنصه هناك ولكنه تصحيف نساخ فيما أظن، كما سيأتي. كان في المطبوعة"اختلفوا فيه - على الإسلام".
(2) في المطبوعة: "واختلفوا في دينهم" بالواو والصواب بالفاء وهو من كلام الطبري، لا من الأثر وهو من سياق قوله قبل: "وكان الدين الذي كانوا عليه دين الحق. . . فاختلفوا. . "(4/279)
الجهل بوقت ذلك، كما لا ينفعُنَا العلمُ به، إذا لم يكن العلم به لله طاعةً، (1)
غير أنه أي ذلك كان، فإن دليلَ القرآن واضحٌ على أن الذين أخبر الله عنهم أنهم كانوا أمة واحدة، إنما كانوا أمة واحدة على الإيمان ودين الحق دون الكفر بالله والشرك به. وذلك إن الله جل وعز قال في السورة التي يذكر فيها"يونس": (وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) [يونس: 19] . فتوعَّد جل ذكره على الاختلاف لا على الاجتماع، ولا على كونهم أمة واحدة، ولو كان اجتماعُهم قبل الاختلاف كان على الكفر ثم كان الاختلاف بعد ذلك، لم يكن إلا بانتقال بعضهم إلى الإيمان، ولو كان ذلك كذلك لكان الوعد أولى بحكمته جل ثناؤه في ذلك الحال من الوعيد لأنها حال إنابة بعضهم إلى طاعته، ومحالٌ أن يتوعد في حال التوبة والإنابة، ويترك ذلك في حال اجتماع الجميع على الكفر والشرك.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:" فبعثَ الله النبيين مبشرين ومنذرين"، فإنه يعني أنه أرسل رسلا يبشرون من أطاع الله بجزيل الثواب، وكريم المآب= ويعني بقوله:" ومنذرين"، ينذرون من عصى الله فكفر به، بشدّة العقاب، وسوء الحساب والخلود في النار=" وأنزل معهم الكتابَ بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه"، يعني بذلك: ليحكم الكتاب- وهو التوراة- بين الناس فيما اختلف المختلفون فيه. فأضاف جل ثناؤه"الحكم" إلى"الكتاب"، وأنه الذي يحكم بين الناس دون النبيين والمرسلين، إذْ كان مَنْ حَكم من النبيين والمرسلين بحُكم، إنما يحكم بما دلَّهم عليه الكتاب الذي أنزل الله عز وجل، فكان الكتاب بدلالته على ما دلَّ وصفه على صحته من الحكم، حاكمًا بين الناس، وإن كان الذي يفصل القضاء بينهم غيرُه.
* * *
__________
(1) هذه حجة رجل تقي ورع عاقل. بصير بمواضع الزلل في العقول وبمواطن الجرأة على الحق من أهل الجرأة الذين يتهجمون على العلم بغيًا بالعلم. ولو عقل الناس لأمسكوا فضل ألسنتهم ولكنهم قلما يفعلون.(4/280)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:" وما اختلف فيه"، وما اختلف في الكتاب الذي أنزله وهو التوراة=" إلا الذين أوتوه"، يعني، بذلك اليهودَ من بني إسرائيل، وهم الذين أوتوا التوراة والعلم بها= و"الهاء" في قوله:"أوتوه" عائدة على"الكتاب" الذي أنزله الله=" من بعد ما جاءتهم البينات"، يعني بذلك: من بعد ما جاءتهم حجج الله وأدلته أنّ الكتابَ الذي اختلفوا فيه وفي أحكامه عند الله، وأنه الحق الذي لا يسعهم الاختلاف فيه، ولا العمل بخلاف ما فيه.
فأخبر عز ذكره عن اليهود من بني إسرائيل أنهم خالفوا الكتابَ التوراةَ، واختلفوا فيه على علم منهم، ما يأتون متعمِّدين الخلاف على الله فيما خالفوه فيه من أمره وحكم كتابه.
ثم أخبر جل ذكره أن تعمُّدهم الخطيئة التي أتوها، (1) وركوبهم المعصية التي ركبوها من خلافهم أمرَه، إنما كان منهم بغيًا بينهم.
* * *
و"البغي" مصدر من قول القائل:"بغى فلانٌ على فلان بغيًا"، إذا طغى واعتدى عليه فجاوز حدّه، ومن ذلك قيل للجرح إذا أمدّ، وللبحر إذا كثر ماؤه ففاض، وللسحاب إذا وقع بأرض فأخصبت: "بَغَى" كل ذلك بمعنى واحد، وهي زيادته وتجاوز حده. (2)
* * *
فمعنى قوله جل ثناؤه:" وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"، من ذلك. يقول: لم يكن اختلاف هؤلاء المختلفين من اليهود من بني إسرائيل في كتابي الذي أنزلته مع نبييِّ عن جهل منهم به، بل كان
__________
(1) في المطبوعة: "تعمدهم الخطيئة التي أنزلها"، وهو تصحيف وكلام بلا معنى.
(2) انظر معنى"البغي" فيما سلف 1: 342.(4/281)
اختلافهم فيه، وخلافُ حكمه، من بعد ما ثبتت حجته عليهم، بغيًا بينهم، طلبَ الرياسة من بعضهم على بعض، واستذلالا من بعضم لبعض. كما:-
4058 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: ثم رجع إلى بني إسرائيل في قوله:" وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه" يقول: إلا الذين أوتوا الكتابَ والعلم=" من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"، يقول: بغيًا على الدنيا وطلبَ ملكها وزخرفها وزينتها، أيُّهم يكون له الملك والمهابة في الناس، فبغى بعضُهم على بعض، وضرب بعضُهم رقاب بعض.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العربية في"مِنْ" التي في قوله:" من بعد ما جاءتهم البينات" ما حكمها ومعناها؟ وما المعنى المنتسق في قوله:" وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيًا بينهم"؟
فقال بعضهم:"من"، ذلك للذين أوتوا الكتاب، وما بعده صلة له. غيرَ أنه زعم أن معنى الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، بغيًا بينهم، من بعد ما جاءتهم البينات. وقد أنكر ذلك بعضهم فقال: لا معنى لما قال هذا القائل، ولا لتقديم"البغي" قبل"من"، لأن"من" إذا كان الجالب لها"البغي"، فخطأ أن تتقدمه لأن"البغي" مصدر، ولا تتقدم صلة المصدر عليه. وزعم المنكر ذلك أن"الذين" مستثنى، وأنّ"من بعد ما جاءتهم البينات" مستثنى باستثناء آخر، وأن تأويل الكلام: وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه، ما اختلفوا فيه إلا بغيًا ما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينات = فكأنه كرر الكلام توكيدًا.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول الثاني أشبه بتأويل الآية، لأن القوم لم يختلفوا إلا من بعد قيام الحجة عليهم ومجيء البينات من عند الله، وكذلك لم يختلفوا إلا بغيًا، فذلك أشبه بتأويل الآية.
* * *(4/282)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:" فهدى الله"، فوفق [الله] الذي آمنوا (1) وهم أهل الإيمان بالله وبرسوله محمد صلى الله عليه وسلم المصدّقين به وبما جاء به أنه من عند الله لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه.
وكان اختلافهم الذي خذلهم الله فيه، وهدى له الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فوفقتهم لإصابته:"الجمُعة"، ضلوا عنها وقد فُرضت عليهم كالذي فُرض علينا، فجعلوها"السبت"، فقال صلى الله عليه وسلم:"نحن الآخِرون السابقون"، بيدَ أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا، وأوتيناه من بعدهم، وهذا اليوم الذي اختلفوا فيه، فهدانا الله له فلليهود غدًا وللنصارى بعد غد".
4059 - حدثنا بذلك محمد بن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن عياض بن دينار الليثي، قال: سمعت أبا هريرة يقول: قال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم. فذكر الحديث. (2)
4060- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن أبي صالح عن أبي هريرة:" فهدى الله الذين آمنوا لما
__________
(1) انظر معنى"هدى" فيما سلف 1: 166- 170، 230، 249، 549- 551، وانظر فهارس اللغة في الأجزاء السالفة، في معنى هذه الكلمة وفي معنى"الإيمان".
(2) الحديث: 4059 - محمد بن حميد الرازي شيخ الطبري: معروف مضت الرواية عنه كثيرا. ووقع في المطبوعة هنا"أحمد بن حميد" وهو غلط وتحريف.
عياض بن دينار الليثي: تابعي ثقة سمع من أبي هريرة. وقد وثقه ابن إسحاق في حديث آخر. رواه عنه في المسند: 7481 وترجمه البخاري في الكبير 4/1/22 وذكره ابن حبان في ثقات التابعين ص: 299 (من كتاب الثقات المخطوط المصور) .
وهذا حديث صحيح معروف مشهورن من حديث أبي هريرةن ثبت عنه من غير وجه. ونظر الحديث الذي عقبه.(4/283)
اختلفوا فيه من الحق بإذنه"، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: نحن الآخرون الآولون يوم القيامة، نحن أوّل الناس دخولا الجنة بيد أنهم أوتوا الكتابَ من قبلنا وأوتيناه من بعدهم، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه فهذا اليوم الذي هدانا الله له والناس لنا فيه تبع، غدًا اليهود، وبعد غد للنصارى". (1)
* * *
* وكان مما اختلفوا فيه أيضًا ما قال ابن زيد، وهو ما:-
4061 - حدثني به يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" فهدى الله الذين آمنوا" للإسلام، واختلفوا في الصلاة، فمنهم من يصلي إلى المشرق، ومنهم من يصلي إلى بيت المقدس، فهدانا للقبلة.
واختلفوا في الصيام، فمنهم من يصوم بعضَ يوم، وبعضهم بعض ليلة، وهدانا الله له. واختلفوا في يوم الجمعة، فأخذت اليهود السبت وأخذت النصارى الأحد، فهدانا الله له. واختلفوا في إبراهيم، فقالت اليهود كان يهوديًا، وقالت النصارى كان نصرانيًا! فبرأه الله من ذلك، وجعله حنيفًا مسلمًا، وما كان من المشركين للذين يدَّعونه من أهل الشرك. (2) واختلفوا في عيسى، فجعلته اليهود لِفِرْية، وجعلته النصارى ربًا، فهدانا الله للحق فيه. فهذا الذي قال جل ثناؤه:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه".
* * *
قال أبو جعفر: (3) فكانت هداية الله جل ثناؤه الذين آمنوا بمحمد، وبما
__________
(1) الحديث: 4060 -هو في تفسير عبد الرزاق ص 23ن بهذا الإسناد وكذلك رواه أحمد في المسند: 7692ن عن عبد الرزاق.
* ورواه الشيخان وغيرهما. فانظر المسند أيضًا: 7213، 7308، 7393، 7395، 7693، وما أشرنا إليه هناك من التخريج في مواضع متعددة.
(2) في المطبوعة: "الذين يدعونه" والصواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة: قال: فكانت هداية الله جل ثناؤه. . . " يتوهم القارئ أن هذا الآتي إنما هو من الأثر السالف وليس ذلك كذلكن بل هو من كلام أبي جعفر، كما يدل عليه سياقه الآتي، وكما يتبين من رواية هذا الأثر السالف في تفسير ابن كثير 1: 489: 490 والدر المنثور 1: 243. فلذلك فصلت بين الكلامين وجعلت صدر الكلام: "قال أبو جعفر".(4/284)
جاء به لما اختلف -هؤلاء الأحزاب من بنى إسرائيل الذين أوتوا الكتاب- فيه من الحق بإذنه أنْ وفقهم لإصابة ما كان عليه مَنْ الحق من كان قبل المختلفين الذين وصف الله صفتهم في هذه الآية، إذ كانوا أمة واحدة، وذلك هو دين إبراهيم الحنيف المسلم خليل الرحمن، فصاروا بذلك أمة وَسطًا، كما وصفهم به ربهم ليكونوا شهداء على الناس. كما:-
4062- حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"، فهداهم الله عند الاختلاف، أنهم أقاموا على ما جاءت به الرسل قبل الاختلاف: أقاموا على الإخلاص لله وحده، وعبادته لا شريك له، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فأقاموا على الأمر الأول الذي كان قبل الاختلاف، واعتزلوا الاختلاف، فكانوا شهداء على الناس يوم القيامة، كانوا شهداء على قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم شعيب، وآل فرعون، أن رسلهم قد بلَّغوهم، وأنهم كذَّبوا رسلهم. وهي في قراءة أبي بن كعب: (وَلِيَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) يوم القيامة (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) . فكان أبو العالية يقول في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن.
4063 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"، يقول: اختلف الكفار فيه، فهدى الله الذي آمنوا للحق من ذلك; وهي في قراءة ابن مسعود:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا عنه"، عن الإسلام. (1)
* * *
__________
(1) الأثر: 4063 - انظر الأثر السالف رقم: 4057 والتعليق عليه. وكان في المطبوعة هنا وهناك: "لما اختلفوا فيه على الإسلام"، وهو غير بين المعنى والذي أثبته هو نص ما في القرطبي 3: 33 والدر المنثور 1: 243.(4/285)
قال أبو جعفر: وأمّا قوله:" بإذنه"، فإنه يعني جل ثناؤه بعلمه بما هداهم له، وقد بينا معنى"الإذن" إذْ كان بمعنى العلم في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته ههنا. (1)
* * *
وأما قوله:" والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم"، فإنه يعني به: والله يسدّد من يشاء من خلقه ويُرشده إلى الطريق القويم على الحق الذي لا اعوجاج فيه، كما هدى الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، لما اختلف الذين أوتوا الكتاب فيه بغيًا بينهم، فسددهم لإصابة الحق والصواب فيه.
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية البيان الواضح على صحة ما قاله أهل الحقّ: من أن كل نعمة على العباد في دينهم آو دنياهم، فمن الله جل وعز.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما معنى قوله:" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"؟ أهداهم للحق، أم هداهم للاختلاف؟ فإن كان هداهم للاختلاف فإنما أضلهم! وإن كان هداهم للحق، فيكف قيل،" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه"؟
قيل: إن ذلك على غير الوجه الذي ذهبتَ إليه، وإنما معنى ذلك: فهدى الله الذين آمنوا للحقّ فيما اختلف فيه من كتاب الله الذين أوتوه، فكفر بتبديله بعضُهم، وثبت على الحق والصواب فيه بعضهم- وهم أهل التوراة الذين بدّلوها- فهدى الله مما للحقّ بدَّلوا وحرَّفوا، الذين آمنوا من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: فإن أشكل ما قلنا على ذي غفلة، فقال وكيف يجوز أن يكون ذلك كما قلت، و"مِنْ" إنما هي في كتاب الله في"الحق" و"اللام" في قوله:" لما اختلفوا فيه"، وأنت تحول"اللام" في"الحق"، و"من" في"الاختلاف"، في التأويل الذي تتأوله فتجعله مقلوبًا؟
__________
(1) انظر ما سلف 2: 449- 450.(4/286)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
قيل: ذلك في كلام العرب موجودٌ مستفيضٌ، والله تبارك وتعالى إنما خاطبَهم بمنطقهم، فمن ذلك قول الشاعر: (1)
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُول كما ... كَانَ الزِّنَاءُ فَريضَةَ الرَّجْمِ (2)
وإنما الرجم فريضة الزنا. وكما قال الآخر:
إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُهْ ... تَحْلَى به العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ (3)
وإنما سراجٌ الذي يحلى بالعين، لا العين بسراج.
* * *
وقد قال بعضهم: إن معنى قوله" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق"، أن أهلَ الكتب الأوَل اختلفوا، فكفر بعضهم بكتاب بعض، وهي كلها من عند الله، فهدى الله أهلَ الإيمان بمحمد للتصديق بجميعها.
وذلك قولٌ، غير أن الأوّل أصح القولين. لأن الله إنما أخبر باختلافهم في كتاب واحد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) }
قال أبو جعفر: وأما قوله:" أم حسبتم"، كأنه استفهم بـ "أم" في ابتداء لم يتقدمه حرف استفهام، لسبوق كلام هو به متصل، (4) ولو لم يكن قبله كلام
__________
(1) هو النابغة الجعدي.
(2) سلف تخريج البيت في 3: 311، 312.
(3) سلف تخريج الشعر في 3: 312.
(4) في المطبوعة: "لمسبوق كلام" وهو فاسد المعنى وذلك أن أحد شروط"أم" في الاستفهام: أن تكون نسقًا في الاستفهام لتقدم ما تقدمها من الكلام (انظر ما سلف 2: 493) وقوله"لسبوق" هذا مصدر لم يرد في كتب اللغة، ولكني رأيت الطبري وغيره يستعمله وسيأتي في نص الطبري بعد 2: 240، 246 (بولاق) .(4/287)
يكون به متصلا وكان ابتداءً لم يكن إلا بحرف من حروف الاستفهام; لأن قائلا لو كان قال مبتدئًا كلامًا لآخر:"أم عندك أخوك"؟ لكان قائلا ما لا معنى له. ولكن لو قال:"أنت رجل مُدِلٌّ بقوتك أم عندك أخوك ينصرك؟ " كان مصيبًا. وقد بينَّا بعض هذا المعنى فيما مضى من كتابنا هذا بما فيه الكفاية عن إعادته.
* * *
فمعنى الكلام: أم حسبتم أنكم أيها المؤمنون بالله ورسله تدخلون الجنة، ولم يصبكم مثلُ ما أصاب مَن قبلكم مِن أتباع الأنبياء والرسل من الشدائد والمحن والاختبار، فتُبتلوا بما ابتُلوا واختبروا به من"البأساء"- وهو شدة الحاجة والفاقة ="والضراء" -وهي العلل والأوصاب (1) - ولم تزلزلوا زلزالهم- يعني: ولم يصبهم من أعدائهم من الخوف والرعب شدة وجهدٌ حتى يستبطئ القوم نصر الله إياهم، فيقولون: متى الله ناصرنا؟ ثم أخبرهم الله أن نصره منهم قريبٌ، وأنه مُعليهم على عدوِّهم، ومظهرهم عليه، فنجَّز لهم ما وعدهم، وأعلى كلمتهم، وأطفأ نار حرب الذين كفروا.
* * *
وهذه الآية - فيما يزعم أهل التأويل- نزلت يومَ الخندق، حين لقي المؤمنون ما لَقوا من شدة الجهد، من خوف الأحزاب، وشدة أذى البرد، وضيق العيش الذي كانوا فيه يومئذ، يقول الله جل وعز للمؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا) إلى قوله: (وَإِذْ زَاغَتِ الأبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا) [الأحزاب: 9-11]
__________
(1) انظر معنى"البأساء والضراء" فيما سلف 3: 349- 352.(4/288)
* ذكر من قال نزلت هذه الآية يوم الأحزاب:
4064 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا"، قال: نزل هذا يوم الأحزاب حين قال قائلهم:" ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا" [الأحزاب: 12]
4065 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسَّتهم البأساءُ والضراء وزلزلوا"، قال: نزلت في يوم الأحزاب، أصاب رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه بلاءٌ وحصرٌ، فكانوا كما قال الله جل وعزّ: (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ)
* * *
وأما قوله:" ولما يأتكم"، فإنّ عامة أهل العربية يتأوّلونه بمعنى: ولم يأتكم، ويزعمون أن"ما" صلة وحشو، وقد بينت القول في"ما" التي يسميها أهل العربية"صلة"، ما حكمها؟ في غير هذا الموضع بما أغنى عن إعادته. (1)
* * *
وأما معنى قوله:" مثل الذين خلوا من قبلكم"، فإنه يعني: شبه الذين خلوا فمضوا قبلكم. (2)
* * *
وقد دللت في غير هذا الموضع على أن"المثل"، الشبه. (3)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر ما سلف 1: 405، 406/ ثم 2: 230، 331. وقوله: "صلة" أي زيادة، كما سلف شرحها مرارا، فاطلبها في فهرس المصطلحات.
(2) انظر تفسير"خلا" فيما سلف 3: 100، 128، 129.
(3) انظر ما سلف: 1: 403.(4/289)
4066 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا" ... (1)
4067 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن عبد الملك بن جريج، قال قوله:" حتى يقول الرسول والذين آمنوا"، قال: هو خيرُهم وأعلمهم بالله.
* * *
وفي قوله:" حتى يقول الرسول"، وجهان من القراءة: الرفع، والنصب. ومن رفع فإنه يقول: لما كان يحسُن في موضعه"فعَل" أبطل عمل"حتى" فيها، لأن"حتى" غير عاملة في"فعل"، وإنما تعمل في"يفعل"، وإذا تقدمها"فعل"، وكان الذي بعدها"يفعل"، وهو مما قد فُعل وفُرغ منه، وكان ما قبلها من الفعل غير متطاول، فالفصيح من كلام العرب حينئذ الرفع في"يفعل" وإبطال عمل"حتى" عنه، وذلك نحو قول القائل:" قمت إلى فلان حتى أضربُه"، والرفع هو الكلام الصحيح في"أضربه"، إذا أراد: قمت إليه حتى ضربته، إذا كان الضرب قد كانَ وفُرغ منه، وكان القيام غيرَ متطاول المدة. فأمَّا إذا كان ما قبل"حتى" من الفعل على لفظ"فعل" متطاول المدة، وما بعدها من الفعل على لفظ غير منقضٍ، فالصحيح من الكلام نصب"يفعل"، وإعمال"حتى"، وذلك نحو قول القائل:"ما زال فلان يطلبك حتى يكلمك = وجعل ينظر إليك حتى يثبتك"، فالصحيح من الكلام - الذي لا يصح غيره- النصبُ بـ "حتى"، كما قال الشاعر: (2)
مَطَوْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهمْ ... وَحَتَّى الجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بِأَرْسَانِ (3)
__________
(1) الأثر: 4066 - هذا أثر ناقص، ولم أجد تمامه في مكان آخر.
(2) هو امرؤ القيس.
(3) ديوانه: 186، ومعاني القرآن للفراء 1: 133 وسيبويه 1: 417/ 2: 203، ورواية سيبويه: "سريت بهم" وفي الموضع الثاني منه روى: "حَتَّى تَكِلَّ غَزِيّهم"
مطا بالقوم يمطو مطوًا: مد بهم وجد في السير. يقول: جد بهم ورددهم في السير حتى كلت مطاياهم فصارت من الإعياء إلى حال لا تحتاج معها إلى أرسان تقاد بها، وصار راكبوها من الكلال إلى إلقاء الأرسان وطرحها على الخيل. لا يبالون من تبعهم وإعيائهم، كيف تسير، ولا إلى أين.(4/290)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
فنصب"تكل"، والفعل الذي بعد"حتى" ماض، لأن الذي قبلها من"المطو" متطاول.
والصحيح من القراءة - إذْ كان ذلك كذلك-:"وزلزلوا حتى يقولَ الرسول"، نصب"يقول"، إذ كانت"الزلزلة" فعلا متطاولا مثل"المطو بالإبل".
وإنما"الزلزلة" في هذا الموضع: الخوف من العدو، لا"زلزلة الأرض"، فلذلك كانت متطاولة وكان النصبُ في"يقول" وإن كان بمعنى"فعل" أفصحَ وأصحَّ من الرفع فيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد، أي شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به؟، وعلى مَن ينفقونه فيما ينفقونه ويتصدقون به؟ فقل لهم: ما أنفقتم من أموالكم وتصدقتم به، فأنفقوه وتصدقوا به واجعلوه لآبائكم وأمهاتكم وأقربيكم، ولليتامى منكم، والمساكين، وابن السبيل، فإنكم ما تأتوا من خير وتصنعوه إليهم فإن الله به عليم، وهو مُحْصيه لكم حتى يوفِّيَكم أجوركم عليه يوم القيامة، ويثيبكم = على ما أطعتموه بإحسانكم = عليه.
* * *
__________
(1) قد استوفى الكلام في"حتى" الفراء في معاني القرآن 1: 132- 138 واعتمد عليه الطبري في أكثر ما قاله في هذا الموضع.(4/291)
و"الخير" الذي قال جل ثناؤه في قوله:" قل ما أنفقتم من خير"، هو المال الذي سأل رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أصحابُه من النفقة منه، فأجابهم الله عنه بما أجابهم به في هذه الآية.
* * *
وفي قوله:"ماذا"، وجهان من الإعراب.
أحدهما: أن يكون"ماذا" بمعنى: أيّ شيء؟، فيكون نصبًا بقوله:"ينفقون".
فيكون معنى الكلام حينئذ: يسألونك أيَّ شيء ينفقون؟، ولا يُنصَب بـ "يسألونك". والآخر منهما الرفع. وللرفع في"ذلك" وجهان: أحدهما أن يكون"ذا" الذي مع"ما" بمعنى"الذي"، فيرفع"ما" ب"ذا" و"ذا" لِ"ما"، و"ينفقون" من صلة"ذا"، فإن العرب قد تصل"ذا" و"هذا"، كما قال الشاعر: (1)
عَدَسْ! مَا لِعَبَّادٍ عَلَيْكِ إمَارَةٌ ... أمنْتِ وهذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ! (2)
فـ "تحملين" من صلة"هذا".
فيكون تأويل الكلام حينئذ: يسألونك ما الذي ينفقون؟
والآخر من وجهي الرفع أن تكون"ماذا" بمعنى أيّ شيء، فيرفع"ماذا"،
__________
(1) هو يزيد بن مفرغ الحميري.
(2) تاريخ الطبري 6: 178 والأغاني 17: 60 (ساسي) ومعاني القرآن للفراء 1: 138 والخزانة: 2: 216، 514 واللسان (عدس) من أبيات في قصة يزيد بن مفرغ مع عباد بن زياد بن أبي سفيان، وكان معاوية ولاه سجستان فاستصحب معه يزيد بن مفرغ فاشتغل عنه بحرب الترك. فغاظ ذلك ابن مفرغ واستبطأ جائزته، فبسط لسانه في لحية عباد وكان عباد عظيم اللحية فقال: ألاَ لَيْتَ اللِّحَى كانت حشيشًا ... فنَعْلِفَها خيولَ المسلمينَا
فعرف عباد ما أراد فطلبه منه، فهجاه وهجا معاوية باستلحاق زياد بن أبي سفيان فأخذه عبيد الله بن زياد اخو عباد، فعذبه عذابًا قبيحًا، وأرسله إلى عباد، ثم أمرهما معاوية بإطلاقه فلما انطلق على بغلة البريد، قال هذا الشعر الذي أوله هذا البيت.
وقوله: "عدس" زجر للبغلة، حتى صارت كل بغلة تسمى"عدس". والشعر شعر جيد فاقرأه في المراجع السالفة.(4/292)
وإن كان قوله:" ينفقون" واقعًا عليه، (1) إذ كان العاملُ فيه، وهو"ينفقون"، لا يصلح تقديمه قبله، وذلك أن الاستفهامَ لا يجوز تقديم الفعل فيه قبل حرف الاستفهام، كما قال الشاعر: (2)
ألا تَسْأَلانِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاِولُ ... أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضلالٌ وَبَاطِلُ (3)
وكما قال الآخر: (4)
وَقَالُوا (5) تَعَرَّفْهَا المَنَازِلَ مِنْ مِنًى ... وَمَا كُلُّ مَنْ يَغْشَى مِنًى أَنَا عَارِفُ (6)
فرفع"كل" ولم ينصبه"بعارف"، إذ كان معنى قوله:"وما كلُّ من يغشى منىً أنا عارف" جحودُ معرفه من يغشى منيً، فصار في معنى ما أحد. (7) وهذه الآية [نزلت] (8) - فيما ذكر- قبل أن يفرض الله زكاةَ الأموال.
* ذكر من قال ذلك:
4068 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا
__________
(1) سلف أن"الوقوع" هو تعدي الفعل إلى المفعول، فانظر فهرس المصطلحات وما سلف 2: 108، 198.
(2) هو لبيد بن ربيعة.
(3) ديوانه: 2/27 القصيدة: 41، وسيبويه 1: 405 والخزانة 2: 556 ومعاني القرآن للفراء 1: 139 وغيرها. والشاهد فيه أنه رفع"نحب" وهو مردود على"ما" في"ماذا". فدل ذلك على أن"ذا" بمعنى"الذي" وما بعده من صلته، فلا يعمل فيما قبله. والنحب: النذر. يقول: أعليه نذر في طول سعيه الذي ألزم به نفسه؟ والنحب: الحاجة وهي صحيحة المعنى في مثل هذا البيت يقول: أهي حاجة لا بد منها يقضيها بسعيه، أم هي اماني باطلة يتمناهان لو استغنى عنها وطرحها لما خسر شيئًا، ولسارت به الحياة سيرًا بغير حاجة إلى هذا الجهاد المتواصل، والاحتيال المتطاول؟
(4) هو مزاحم العقيلي.
(5) هو مزاحم العقيل
(6) ديوانه: 28، وسيبويه 1: 36ن 73، شاهدا على نصب"كل" ورفعها ومعاني القرآن للفراء 1: 139 وقال: لم"أسمع أحدًا نصب" كل وشرح شواهد المغني: 328.
وقوله: "تعرفها المنازل" بنصبها على حذف الخافض أو الظرف أي تعرف صاحبتك بالمنازل من منى. فيقول: لا أعرف أحدًا يعرفها ممن يغشى مني فأسأله عنها.
(7) انظر أكثر ما مضى في معاني القرآن للفراء 138- 140.
(8) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، ليستقيم الكلام.(4/293)
أسباط، عن السدي:" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين"، قال: يوم نزلت هذه الآية لم تكن زكاة، وإنما هي النفقةُ ينفقها الرجل على أهله، والصدقة يتصدق بها فنسختها الزكاة.
4069 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، قال: قال ابن جريج: سأل المؤمنون رسول الله صلى الله عليه وسلم أينَ يضعون أموالهم؟ فنزلت:" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامىَ والمساكين وابن السبيل"، فذلك النفقةُ في التطوُّع، والزكاةُ سوى ذلك كله= قال: وقال مجاهد: سألوا فأفتاهم في ذلك:" ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين" وما ذكر معهما.
4070 - حدثنا محمد بن عمرو، قال حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، قال: سمعت ابن أبي نجيح في قول الله:" يسألونك ماذا ينفقون"، قال: سألوه فأفتاهم في ذلك:" فللوالدين والأقربين" وما ذكر معهما.
4071 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد = وسألته عن قوله:" قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين"= قال: هذا من النوافل، قال: يقول: هم أحق بفضلك من غيرهم.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي قاله السدي =: من أنه لم يكن يوم نزلت هذه الآية زكاةٌ، وإنما كانت نفقةً ينفقها الرجل على أهله، وصدقةً يتصدق بها، ثم نسختها الزكاة = قولٌ ممكن أن يكون كما قال: وممكن غيره. ولا دلالة في الآية على صحة ما قال، لأنه ممكن أن يكون قوله:" قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين" الآية، حثًا من الله جل ثناؤه على الإنفاق على من كانت نفقته غيرَ واجبة من الآباء والأمهات والأقرباء، ومن سمي معهم في هذه الآية، وتعريفًا من(4/294)
الله عبادَه مواضع الفضل التي تُصرف فيها النفقات، كما قال في الآية الأخرى: (وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ) [سورة البقرة: 177] . وهذا القول الذي قلناه في قول ابن جريج الذي حكيناه.
* * *
وقد بينا معنى المسكنة، ومعنى ابن السبيل فيما مضى، فأغنى ذلك عن إعادته. (1)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"المسكين" فيما سلف 2: 137، 293/ ثم 3: 345 = ومعنى"اليتامى" فيما سلف 2: 292/ ثم 3: 345 = ومعنى"ابن السبيل" فيما سلف 3: 345.(4/295)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه بقوله: " كتب عليكم القتال"، فُرض عليكم القتال، يعني قتال المشركين=" وهو كُرْهٌ لكم".
* * *
واختلف أهل العلم في الذين عُنوا بفرض القتال.
فقال بعضهم: عنى بذلك أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاصةً دون غيرهم.
* ذكر من قال ذلك:
4072 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء قلت له:" كتب عليكم القتال وهو كُرْهٌ لكم"، أواجبٌ الغزوُ على الناس من أجلها؟ قال: لا! كُتب على أولئك حينئذ.
4073 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا عثمان بن سعيد، قال: حدثنا(4/295)
خالد، عن حسين بن قيس، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، قال نسختها (قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا) [سورة البقرة: 285]
* * *
قال أبو جعفر: وهذ اقول لا معنى له، لأن نسخَ الأحكام من قبل الله جل وعزّ، لا من قبل العباد، وقوله:" قالوا سمعنا وأطعنا"، خبر من الله عن عباده المؤمنين وأنهم قالوه لا نسخٌ منه.
4074 - حدثني محمد بن إسحاق، قال: حدثنا معاوية بن عمرو، قال: حدثنا أبو إسحاق الفزاري، قال: سألت الأوزاعي عن قول الله عز وجل:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم"، أواجبٌ الغزو على الناس كلهم؟ قال: لا أعلمه، ولكن لا ينبغي للأئمة والعامة تركه، فأما الرجل في خاصة نفسه فلا. (1)
* * *
وقال آخرون: هو على كل واحد حتى يقوم به من في قيامه الكفاية، فيسقطُ فرض ذلك حينئذ عن باقي المسلمين، كالصلاة على الجنائز وغسلهم الموتى ودفنهم، وعلى هذا عامة علماء المسلمين.
* * *
قال أبو جعفر: وذلك هو الصواب عندنا لإجماع الحجة على ذلك، ولقول الله عز وجل: (فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [سورة النساء: 95] ، فأخبر جل ثناؤه أنّ الفضل للمجاهدين، وأن لهم وللقاعدين الحسنى، ولو كان القاعدون مضيِّعين فرضًا لكان لهم السُّوأى لا الحسنى.
* * *
__________
(1) الأثر: 4074 - محمد بن إسحاق بن جعفر الصاغاني نزل بغداد وكان وجه مشايخ بغداد وكان أحد الحفاظ الأثبات المتقنين مات سنة 270، وروى عنه الطبري في المذيل (انظر المنتخب من ذيل المذيل: 104) ومعاوية بن عمرو بن المهلب الأزدي روى عنه البخاري، توفي ببغداد سنة 215. وكلاهما مترجم في التهذيب.(4/296)
وقال آخرون: هو فرضٌ واجبٌ على المسلمين إلى قيام الساعة.
* ذكر من قال ذلك:
4075- حدثنا حُبَيش بن مبشر قال: حدثنا روح بن عبادة، عن ابن جريج، عن داود بن أبي عاصم، قال: قلت لسعيد بن المسيب: قد أعلم أن الغزو واجبٌ على الناس! فسكت، وقد أعلم أنْ لو أنكر ما قلت لبيَّن لي. (1)
* * *
وقد بينا فيما مضى معنى قوله:"كتب" بما فيه الكفاية. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: وهو ذو كره لكم، فترك ذكر"ذو" اكتفاء بدلالة قوله:"كره لكم"، عليه، كما قال: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) [سورة يوسف: 83]
وبنحو الذي قلنا في ذلك روي عن عطاء في تأويله.
* ذكر من قال ذلك:
4076 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:" وهو كره لكم" قال: كُرّه إليكم حينئذ.
* * *
"والكره" بالضم: هو ما حمل الرجلُ نفسه عليه من غير إكراه أحد إياه عليه،"والكَرْهُ" بفتح"الكاف"، هو ما حمله غيره، فأدخله عليه كرهًا. وممن حكي عنه هذا القول معاذ بن مسلم.
__________
(1) الأثر: 4075 - حبيش بن مبشر بن أحمد الطوسي الفقيه، كان ثقة من عقلاء البغداديين مات سنة 258، مترجم في التهذيب وتاريخ بغداد. وكان في المطبوعة: "حسين بن ميسر" وليس في الرواة من يعرف بذلك.
(2) انظر ما سلف 3: 357، 364، 365.(4/297)
4077 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن معاذ بن مسلم، قال: الكُرْه المشقة، والكَرْه الإجبار.
* * *
وقد كان بعض أهل العربية يقول:"الكُره والكَره" لغتان بمعنى واحد، مثل:"الغُسْل والغَسْل" و"الضُّعف والضَّعف"، و"الرُّهبْ والرَّهبْ". وقال بعضهم:"الكره" بضم"الكاف" اسم و"الكره" بفتحها مصدر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: ولا تكرهوا القتالَ، فإنكم لعلكم أن تكرهوه وهو خيرٌ لكم، ولا تحبوا تركَ الجهاد، فلعلكم أن تحبوه وهو شر لكم، كما:-
4078 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم"، وذلك لأن المسلمين كانوا يكرهون القتال، فقال:"عسى أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم" يقول: إن لكم في القتال الغنيمةَ والظهور والشهادة، ولكم في القعود أن لا تظهروا على المشركين، ولا تُستْشهدوا، ولا تصيبوا شيئًا.
4079 - حدثني محمد بن إبراهيم السلمي، قال: حدثني يحيى بن محمد بن مجاهد، قال: أخبرني عبيد الله بن أبي هاشم الجعفي، قال: أخبرني عامر بن واثلة قال: قال ابن عباس: كنت رِدْفَ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا ابن عباس ارضَ عن الله بما قدَّرَ، وإن كان خلافَ هواك، فإنه مثبَتٌ في كتاب الله. قلت: يا رسول الله، فأين؟ وقد قرأت القرآن! قال: في قوله:" وعسى(4/298)
أن تكرهوا شيئًا وهو خيرٌ لكم وعسى أن تحبوا شيئًا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون" (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: والله يعلم ما هو خيرٌ لكم، مما هو شر لكم، فلا تكرهوا ما كتبتُ عليكم من جهاد عدوكم، وقتال من أمرتكم بقتاله، فإني أعلم أنّ قتالكم إياهم، هو خيرٌ لكم في عاجلكم ومعادكم، وترككم قتالهم شر لكم، وأنتم لا تعلمون من ذلك ما أعلم، يحضّهم جل ذكره بذلك على جهاد أعدائه، ويرغِّبهم في قتال من كفر به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك يا محمد أصحابُك عن الشهر الحرام = وذلك رَجبٌ = عن قتالٍ فيه.
__________
(1) الحديث: 4079 - هذا إسناد مظلم والمتن منكر! لم أجد ترجمة"يحيى بن محمد بن مجاهد" ولا"عبيد الله بن أبي هاشم" ولا أدري ما هما. ولفظ الحديث لم أجده، ولا نقله أحد +من ينقل عن الطبري.(4/299)
وخفضُ"القتال" على معنى تكرير"عن" عليه، وكذلك كانت قراءةُ عبد الله بن مسعود فيما ذكر لنا. وقد:-
4080 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه"، قال: يقول: يسألونك عن قتال فيه، قال: وكذلك كان يقرؤها:"عن قتال فيه".
* * *
= قال أبو جعفر:"قل" يا محمد:"قتالٌ فيه"- يعني في الشهر الحرام"كبيرٌ"، أي عظيمٌ عند الله استحلاله وسفك الدماء فيه.
ومعنى قوله:" قتال فيه"، قل القتال فيه كبير. وإنما قال:"قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، لأن العرب كانت لا تقرعُ فيه الأسنَّة، فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يَهيجه تعظيما له، وتسميه مضر"الأصمَّ" (1) لسكون أصوات السلاح وقعقعته فيه. وقد:-
4081 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا شعيب بن الليث، قال: حدثنا الليث، قال: حدثنا الزبير، عن جابر قال: لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يُغْزَى، أو يَغزو حتى إذا حضر ذلك أقامَ حتىّ ينسلخ.
* * *
وقوله جل ثناؤه:" وصَدٌّ عن سبيل الله". ومعنى"الصدّ" عن الشيء، المنع منه، والدفع عنه، ومنه قيل:" صدّ فلان بوجهه عن فلان"، إذا أعرض عنه فمنعه من النظر إليه.
* * *
وقوله:" وكفرٌ به"، يعني: وكفر بالله، و"الباء" في"به" عائدة على اسم الله الذي في"سبيل الله". وتأويل الكلام: وصدٌّ عن سبيل الله، وكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراج أهل المسجد الحرام- وهم أهله وولاته- أكبرُ عند الله من القتال في الشهر الحرام.
__________
(1) يعني شهر رجب، وهو رجب الأصم.(4/300)
فـ "الصدُّ عن سييل الله" مرفوع بقوله:" أكبر عند الله". وقوله:" وإخراج أهله منه" عطف على"الصد". ثم ابتدأ الخبر عن الفتنة فقال:" والفتنة أكبر من القتل"، يعني: الشرك أعظم وأكبرُ من القتل، (1) يعني: مِنْ قَتل ابن الحضرميّ الذي استنكرتم قتله في الشهر الحرام.
* * *
قال أبو جعفر: وقد كان بعض أهل العربية يزعم أن قوله:" والمسجد الحرام" معطوف على"القتال" وأن معناه: يسألونك عن الشهر الحرام، عن قتال فيه، وعن المسجد الحرام، فقال الله جل ثناؤه:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من القتال في الشهر الحرام. (2)
وهذا القول، مع خروجه من أقوال أهل العلم، قولٌ لا وجهَ له. لأن القوم لم يكونوا في شك من عظيم ما أتى المشركون إلى المسلمين في إخراجهم إياهم من منازلهم بمكة، فيحتاجوا إلى أن يسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن إخراج المشركين إياهم من منازلهم، وهل ذلك كان لهم؟ بل لم يدَّع ذلك عليهم أحدٌ من المسلمين، ولا أنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك.
وإذ كان ذلك كذلك، فلم يكن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عَمَّا ارتابوا بحكمه (3) كارتيابهم في أمر قتل ابن الحضرمي، إذ ادَّعوا أن قاتله من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قتله في الشهر الحرام، فسألوا عن أمره، لارتيابهم في حكمه. فأما إخراجُ المشركين أهلَ الإسلام من المسجد الحرام، فلم يكن فيهم أحدٌ شاكًّا أنه كان ظلمًا منهم لهم فيسألوا عنه.
ولا خلاف بين أهل التأويل جميعًا أن هذه الآية نزلت
__________
(1) انظر معنى"الفتنة" فيما سلف 3: 565، 566 ثم 570ن 571 وفهرس اللغة في الأجزاء السالفة.
(2) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 141.
(3) في المطبوعة: "وإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن القوم سألوا رسول الله. . . " والصواب ما أثبت، وإلا اختل الكلام اختلالا شديدًا.(4/301)
على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبب قتل ابن الحضرمي وقاتله.
* ذكر الرواية عمن قال ذلك:
4082 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة بن الفضل، عن ابن إسحاق، قال: حدثني الزهري، ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب مَقْفَلَه من بدر الأولى، وبعثَ معه بثمانية رهط من المهاجرين، ليس فيهم من الأنصار أحد، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي لما أمره، ولا يستكره من أصحابه أحدًا.
= وكان أصحابُ عبد الله بن جحش من المهاجرين من بني عبد شمس أبو حذيفة [بن عتبة] بن ربيعة- (1) ومن بني أمية- بن عبد شمس، ثم من حلفائهم: عبد الله بن جحش بن رئاب، وهو أمير القوم، وعكاشة بن محصن بن حُرثان أحد بني أسد بن خزيمة- ومن بني نوفل بن عبد مناف عتبة بن غزوان حليف لهم - ومن بني زهرة بن كلاب: سعد بن أبي وقاص- ومن بني عدي بن كعب عامر بن ربيعة حليف لهم، وواقد بن عبد الله بن مناة بن عرين (2) بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة، وخالد بن البكير أحد بني سعد بن ليث حليف لهم- ومن بني الحارث بن فهر: سهيل بن بيضاء.
= فلما سار عبدُ الله بن جحش يومين فتح الكتاب ونظر فيه، فإذا فيه: "إذا نظرت إلى كتابي هذا، (3) فسرْ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف،
__________
(1) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام ونص ابن هشام: "أبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة بن عبد شمس -ومن حلفائهم: عبد الله بن جحش" بإسقاط: "ومن بني أمية" فتركت ما في الطبري على حاله لأنه صحيح المعنى أيضًا.
(2) في المطبوعة: ". . . عبد الله بن مناة بن عويم" وأثبت ما في نص ابن هشام وهو الموافق لما أجمعت عليه كتب السير والأنساب.
(3) في المطبوعة: "إذا نظرت إلى كتابي. . . " وأثبت ما في هشام وتاريخ الطبري وهو الصواب.(4/302)
فترصَّد بها قريشًا، وتعلَّمْ لنا من أخبارهم". فلما نظر عبد الله بن جحش في الكتاب قال:" سمعا وطاعة"، ثم قال لأصحابه: قد أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أمضي إلى نخلة فأرصد بها قريشًا حتى آتيه منهم بخبر، وقد نهاني أن أستكره أحدًا منكم، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى ومضى معه أصحابه، فلم يتخلَّف عنه [منهم] أحد، وسلك على الحجاز، حتى إذا كان بمَعْدِن فوق الفُرع يقال له بُحْران، (1) أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرًا لهما كانا عليه يعتقبانه، (2) فتخلَّفا عليه في طلبه، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل بنخلة، فمرت به عيرٌ لقريش تحمل زبيبًا وأدَمًا وتجارةً من تجارة قريش (3) فيها منهم عمرو بن الحضرمي، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، وأخوه نوفل بن عبد الله بن المغيرة المخزوميان، والحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة فلما رآهم القوم هابوهم، وقد نزلوا قريبًا منهم، فأشرف لهم عكاشة بن محصن، وقد كان حلق رأسه، فلما رأوه أمنوا وقالوا: عُمّار! فلا بأس علينا منهم. (4) وتشاور القوم فيهم، وذلك في آخر يوم من جمادى، (5) فقال القوم: والله لئن تركتم القومَ هذه الليلة ليدخُلُنَّ الحرم فليمتنعُنَّ به منكم، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام! فتردّد القوم فهابوا الإقدام عليهم، ثم شجُعوا عليهم، وأجمعوا على قتل من قدروا عليه منهم، وأخذ ما معهم. فرمى واقدُ بن عبد الله التميمي عمرَو بن الحضرميّ بسهم فقتله، واستأسرَ عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، وأفلت نوفل بن عبد الله فأعجزهم.
=وقدم عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين، حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أنّ عبد الله بن جحش قال لأصحابه: إنّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمتم الخمُس.
وذلك قبل أن يُفرضُ الخمس من الغنائم، فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خُمس العير، وقسم سائرها على أصحابه فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام! فوقف العير والأسيرين، وأبى أن يأخذ من ذلك شيئًا فلما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، سُقط في أيدي القوم، وظنوا أنهم قد هلكوا، وعنَّفهم المسلمون فيما صنعوا، وقالوا لهم: صنعتم ما لم تؤمروا به وقاتلتم في الشهر الحرام ولم تؤمروا بقتال! وقالت قريش: قد استحلّ محمد وأصحابه الشهر الحرام، فسفكوا فيه الدمَ، وأخذوا فيه الأموال وأسروا. [فيه الرجال] (6) فقال من يردُّ ذلك عليهم من المسلمين ممن كان بمكة إنما أصابوا ما أصابوا في جمادى! (7) وقالت يهود -تتفاءل بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم-: عمرو بن الحضرمي قتله واقد بن عبد الله! " عمرو"، عمرت الحرب! و"الحضرميّ"، حَضَرت الحربُ! " وواقد بن عبد الله"، وقدت الحرب! فجعل الله عليهم ذلك وبهم.
= فلما أكثر الناسُ في ذلك أنزل الله جل وعز على رسوله:" يسألونك عن الشهر
__________
(1) في المطبوعة: "نجران" وهو خطأ صرف.
(2) "يتعقبانه": أي يركبه هذا عقبة وهذا عقبة، أي هذا نوبة وهذا نوبة.
(3) العير: القافلة من الإبل والحمير والبغال تخرج للميرة فيمتار عليها. والأدم جمع أديم: وهو الجلد المدبوغ.
(4) عمار: معتمرون. والاعتمار والعمرة زيارة البيت الحرام وأداء حقه، في أي شهر كان. وهو غير الحج يقال عنه"اعتمر" ولم يسمع"عمر" ولكن جاء"عمار" جمع"عامر" على هذا الثلاثي المتروك.
(5) هكذا في المطبوعة: "آخر يوم من جمادى" وفي نص ابن هشام وتاريخ الطبري"آخر يوم من رجب" وهو أصح النصين، ولم أغيرها، لأنه سيأتي بعد ما يدل على أن الرواية هنا هكذا.
(6) الزيادة بين القوسين من نص ابن هشام، وتاريخ الطبري.
(7) انظر ص: 303 التعليق: 5 ونص ابن هشام والطبري"في شعبان".(4/303)
الحرام قتال فيه"،
أي: عن قتالٍ فيه" قل قتال فيه كبيرٌ" إلى قوله:" والفتنة أكبر من القتل"، أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به، وعن المسجد الحرام، وإخراجُكم عنه إذ أنتم أهله وولاته، أكبرُ عند الله من قتل من قتلتم منهم،" والفتنة أكبر من القتل"، أي: قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه، وذلك أكبر عند الله من القتل=" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا"، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين. فلما نزل القرآن بهذا من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشَّفَق، (1) قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم العيرَ والأسيرين. (2)
4083 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط عن السدي:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبيرٌ"، وذلك أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية - وكانوا سبعةَ نفر - وأمَّر عليهم عبد الله بن جحش الأسدي، وفيهم عمار بن ياسر، وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسعد بن أبي وقاص،
__________
(1) الشفق (لفتح الشين والفاء) والإشقاق: الخوف والحذر.
(2) الأثر: 4082 - هو نص ابن هشام في السيرة عن ابن إسحاق 2: 252- 254 ورواه الطبري في تاريخه 2: 262- 263.(4/305)
وعتبة بن غزوان السلمي حليف لبني نوفل، وسهيل بن بيضاء، وعامر بن فهيرة، وواقد بن عبد الله اليربوعي، حليفٌ لعمر بن الخطاب. وكتب مع ابن جحش كتابًا وأمره أن لا يقرأه حتى ينزل [بطن] مَلَل، (1) فلما نزل ببطن ملل فتحَ الكتاب، فإذا فيه: أنْ سِرْ حتى تنزل بطن نخلة، (2) فقال لأصحابه: من كان يريد الموت فليمضِ وليوص، فإني موصٍ وماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فسار وتخلّف عنه سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان، أضلا راحلةً لهما، فأتيا بُحران يطلبانها، (3) وسار ابن جحش إلى بطن نخلة، فإذا هم بالحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، والمغيرة بن عثمان، وعمرو بن الحضرمي، فاقتتلوا، فأسَرُوا الحكم بن كيسان، وعبد الله بن المغيرة، وانفلت المغيرة، وقُتل عمرو بن الحضرميّ، قتله واقد بن عبد الله. فكانت أوّل غنيمةٍ غنمها أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.
= فلما رجعوا إلى المدينة بالأسيرين وما غنموا من الأموال، أراد أهل مكة أن يفادوا بالأسيرين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: حتى ننظر ما فعل صاحبانا! فلما رجع سعد وصاحبه فادَى بالأسيرين، ففجَر عليه المشركون وقالوا: محمد يزعم أنه يتَّبع طاعة الله، وهو أول من استحلَّ الشهر الحرام، وقتل صاحبنا في رجب! فقال المسلمون: إنما قتلناه في جُمادى! - وقيل: في أول ليلة من رجب، وآخر ليلة من جمادى - وغمد المسلمون سيوفهم حين دخل رَجب. فأنزل الله جل وعز يعيِّر أهل مكة:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير" لا يحل، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام، حين كفرتم بالله، وصددتم عنه محمدًا وأصحابه، وإخراجُ أهل المسجد الحرام منه، حين أخرجوا محمدًا، أكبر من القتل عند الله، والفتنة - هي الشرك - أعظم عند الله من القتل في الشهر الحرام، فذلك قوله:" وصد عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرامِ وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل". (4)
4084 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني، قال، حدثنا المعتمر بن سليمان التيمي، عن أبيه: أنه حدثه رجل، عن أبي السوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه بعث رَهطًا، فبعثَ عليهم
__________
(1) الزيادة بين القوسين من رواية الطبري في تاريخه.
(2) في تاريخه: "بطن نخل" في هذا الموضع منه، وفيما يليه"بطن نخلة".
(3) في المطبوعة: "نجران" وهو خطأ مضى مثله ص: 303 والصواب من التاريخ.
(4) الأثر: 4083 - رواه الطبري في تاريخه 2: 263- 264.(4/306)
أبا عبيدة. فلما أخذ لينطلق، بكى صَبابةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. فبعث رجلا مكانه يقال له عبد الله بن جحش، وكتب له كتابًا، وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ كذا وكذا:" ولا تكرهنَّ أحدًا من أصحابك على السير معك". فلما قرأ الكتاب استرجعَ وقال: سمعًا وطاعة لأمر الله ورسوله! فخبَّرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب، فرجع رجلان ومضَى بقيتهم. فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه، ولم يدروا ذلك اليوم: أمن رَجب أو من جمادى؟ فقال المشركون للمسلمين: فعلتم كذا وكذا في الشهر الحرام! فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فحدّثوه الحديث، فأنزل الله عز وجل:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبرُ من القتل"- والفتنة هي الشرك. وقال بعضُ الذين - أظنه قال -: كانوا في السرية: والله ما قتله إلا واحد! فقال: إن يكن خيرًا فقد وَلِيت! وإن يكن ذنبًا فقد عملت! (1)
4085 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه"، قال: إن رجلا من بني تميم أرسله النبي صلى الله عليه وسلم في سرية، فمرّ بابن الحضرميّ يحمل خمرًا من الطائف إلى مكة، فرماه بسهم فقتله. وكان بين قريش ومحمد عَقْدٌ، فقتله في آخر يوم من جُمادى الآخرة وأول يوم من رجب، فقالت قريش: في الشهر الحرام! ولنا عهد! فأنزل الله جل وعز:" قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكُفر به" وصد عن المسجد الحرام" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من قتل ابن الحضرميّ، والفتنة كفرٌ بالله، وعبادة الأوثان أكبر من هذا كله.
__________
(1) الأثر: 4084 رواه الطبري في تاريخه 2: 264- 265- وسيأتي تمامه برقم: 4102.(4/307)
4086 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري وعُثمان الجزريّ، وعن مقسم مولى ابن عباس قال: لقي واقد بنُ عبد الله عمرَو بنَ الحضرميّ في أول ليلة من رجب، وهو يرى أنه من جمادى، فقتله، وهو أول قتيل من المشركين. فعيَّر المشركون المسلمين فقالوا: أتقتلون في الشهر الحرام! فأنزل الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام" = يقول: وصد عن سبيل الله وكفرٌ بالله =" والمسجد الحرام" = وصد عن المسجد الحرام =" وإخراج أهله منه أكبر عند الله"، من قتل عمرو بن الحضرميّ =" والفتنة"، يقول: الشرك الذي أنتم فيه أكبر من ذلك أيضا = قال الزهري وكان النبي صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرِّم القتالَ في الشهر الحرام، ثم أحِلّ [له] بعدُ. (1)
4087 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير"، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وردُّوه عن المسجد الحرام في شهر حرام، ففتح الله على نبيه في شهر حرام من العام المقبل. فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتالَ في شهر حرام،
__________
(1) الحديث: 4086 - هذا حديث مرسل، مروي بإسنادين عن اثنين من التابعين، هما: الزهري ومقسم مولى ابن عباس.
فرواه معمر عن الزهري ورواه عن عثمان الجزري عن مقسم. وهو ثابت في تفسير عبد الرزاق، ص: 26. وزدنا منه [الواو] في قوله: "وعن مقسم"، وكلمة [له] في آخر الحديث في قوله" ثم أحل [له] بعد".
وعثمان الجزري: هو"عثمان بن ساج" ترجم له ابن أبي حاتم 3/1/153، وهو غير"عثمان ابن عمرو بن ساج" الذي ترجم له ابن أبي حاتم 3/1/162. وقد خلط بينهما الحافظ المزي في التهذيب، وتعقبه الحافظ ابن حجر. وانظر ما كتبنا في ذلك، في شرح المسند: 2562.
مقسم -بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين-: هو ابن بجرة، مولى عبد الله بن الحارث بن نوفل. وإنما قيل له"مولى ابن عباس" للزومه له. وهو تابعي ثقة.(4/308)
فقال الله جل وعز:" وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله" من القتل فيه = وأنّ محمدًا بعث سرية، فلقوا عمرو بن الحضرمي وهو مقبل من الطائف آخرَ ليلة من جمادى، وأول ليلة من رجب = وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أنّ تلك الليلة من جمادى، وكانت أول رجب ولم يشعروا، فقتله رجلٌ منهم واحدٌ = وأنّ المشركين أرسلوا يُعيرونه بذلك فقال الله جل وعز:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير" وغير ذلك أكبر منه،" صد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه" إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب محمدٌ، والشرك بالله أشدُّ.
4088 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن أبي مالك: قال لما نزلت:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبير" إلى قوله:" والفتنة أكبرُ من القتل"، استكبروه. فقال: والفتنة = الشرك الذي أنتم عليه مقيمون = أكبر مما استكبرتم.
4089 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن حصين، عن أبي مالك الغفاري قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في جيش، فلقي ناسًا من المشركين ببطن نخلة، والمسلمون يحسَبون أنه آخر يوم من جمادى وهو أول يوم من رجب، فقتل المسلمون ابنَ الحضرميّ، فقال المشركون: ألستم تزعمون أنكم تحرِّمون الشهرَ الحرام والبلدَ الحرام، وقد قتلتم في الشهر الحرام! فأنزل الله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه" إلى قوله" أكبر عند الله" من الذي استكبرتم من قتل ابن الحضرمي، و"الفتنة" - التي أنتم عليها مقيمون، يعني الشركَ -" أكبر من القتل".
4090 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال:(4/309)
وكان يسميها (1) - يقول: لقي واقدُ بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي ببطن نخلةَ فقتله.
4091 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه"، فيمن نزلت؟ قال: لا أدري = قال ابن جريج: وقال عكرمة ومجاهد: في عمرو بن الحضرمي. قال ابن جريج، وأخبرنا ابن أبي حسين، عن الزهري ذلك أيضًا.
4092 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال مجاهد:" قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام"، - قال: يقول: صدٌ عن المسجد الحرام" وإخراج أهله منه" - فكل هذا أكبر من قتل ابن الحضرمي -" والفتنة أكبر من القتل" - كفرٌ بالله وعبادة الأوثان، أكبرُ من هذا كله.
4093 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد، قال أخبرنا عبيد بن سليمان الباهلي، قال سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتالٌ فيه كبير"، كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قتلوا ابن الحضرمي في الشهر الحرام، فعيّر المشركون المسلمين بذلك، فقال الله: قتال في الشهر الحرام كبير، وأكبر من ذلك صد عن سبيل الله وكفرٌ به، وإخراجُ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام.
قال أبو جعفر: وهذان الخبران اللذان ذكرناهما عن مجاهد والضحاك، ينبئان عن صحة ما قلنا في رفع"الصد" و"الكفر به"، (2) وأن رافعه"أكبر عند الله". وهما يؤكدان صحّة ما روينا في ذلك عن ابن عباس، ويدلان على خطأ من زعم أنه مرفوعٌ على العطف على"الكبير"، وقولِ من زعم أن معناه: وكبيرٌ صدٌّ عن سبيل الله،
__________
(1) هكذا في المطبوعة، وأظن الصواب: "وكان يسميهما".
(2) في المطبوعة"في رفع الصد به" والصواب ما أثبت.(4/310)
وزعم أن قوله:"وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله"، خبر منقطع عما قبله مبتدأ.
* * *
4094 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسمعيل بن سالم، عن الشعبي في قوله:" والفتنة أكبر من القتل"، قال: يعني به الكفر.
4095 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله" من ذلك. ثم عيَّر المشركين بأعمالهم أعمال السوء فقال:" والفتنة أكبر من القتل"، أي الشرك بالله أكبر من القتل.
* * *
وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك روي عن ابن عباس:
4096 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبى قال، حدثني عمي قال، ثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: لما قتل أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرَو بن الحضرمي في آخر ليلة من جُمادى وأول ليلة من رجب، أرسل المشركون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيِّرونه بذلك، فقال:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، وغيرُ ذلك أكبر منه:" صدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر" من الذي أصابَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم.
* * *
قال أبو جعفر: وأما أهل العربية فإنهم اختلفوا في الذي ارتفع به قوله:" وصدٌّ عن سبيل الله".
فقال بعض نحويي الكوفيين: في رفعه وجهان: أحدهما، أن يكون" الصدُّ" مردودًا على" الكبير"، يريد: قل القتالُ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله وكفرٌ(4/311)
به. وإن شئت جعلت" الصد"" كبيرًا"، يريد به: قل القتالُ فيه كبير، وكبيرٌ الصدُّ عن سبيل الله والكفر به. (1)
* * *
قال أبو جعفر: قال فأخطأ -يعني الفراء- في كلا تأويليه. وذلك أنه إذا رفع" الصد" عطفًا به على" كبير"، يصير تأويل الكلام: قل القتالُ في الشهر الحرام كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل الله، وكفرٌ بالله. وذلك من التأويل خلافُ ما عليه أهل الإسلام جميعًا. لأنه لم يدَّع أحد أن الله تبارك وتعالى جعل القتال في الأشهر الحرم كفرًا بالله، بل ذلك غير جائز أن يُتَوَهَّم على عاقل يعقل ما يقولُ أن يقوله. وكيف يجوز أن يقوله ذو فطرة صحيحة، والله جل ثناؤه يقول في أثر ذلك:" وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله"؟! فلو كان الكلام على ما رآه جائزًا في تأويله هذا، لوجب أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، كان أعظمَ عند الله من الكفر به، وذلك أنه يقول في أثره:" وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله". وفي قيام الحجة بأن لا شيء أعظمُ عند الله من الكفر به، ما يُبين عن خطأ هذا القول.
وأما إذا رفع" الصد"، بمعنى ما زعم أنه الوجه الآخر - وذلك رفعه بمعنى: وكبير صدٌّ عن سبيل الله، ثم قيل:" وإخراجُ أهله منه أكبرُ عند الله" - صار المعنى إلى أن إخراجَ أهل المسجد الحرام من المسجد الحرام، أعظمُ عند الله من الكفر بالله والصدِّ عن سبيله، وعن المسجد الحرام. ومتأوِّل ذلك كذلك، داخل من الخطأ في مثل الذي دخل فيه القائلُ القولَ الأوّل: (2) من تصييره بعض خلال الكفر أعظمَ عند الله
__________
(1) هو قول الفراء، كما سيأتي بعد في النص، وانظر معاني القرآن 1: 141. وقد رد الطبري كلام الفراء ردًا حكيما، وأظهر الفساد الذي ينطوي عليه قول من يقول في القرآن، وهو لا يحكم النظر في أحكام الله، فيظن كل جائز في العربية والنحو، جائزا أن يحمل عليه كتاب الله. وردود الطبري تعلم المرء كيف يتخلق بأخلاق أهل العلم والإيمان، من الأناة والتوقف والصبر والورع، أن تزل قدم في هوة من الضلال والجهالة وسوء الرأي.
(2) في المطبوعة: "داخل من الخطأ مثل. . . " سقطت"في" من ناسخ فيما أرجح.(4/312)
من الكفر بعينه. وذلك مما لا يُخيل على أحدٍ خطؤه وفسادُه (1) .
* * *
وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول القولَ الأول في رفع" الصد"، ويزعم أنه معطوف به على" الكبير"، ويجعل قوله:" وإخراج أهله" مرفوعًا على الابتداء، وقد بينا فسادَ ذلك وخطأ تأويله.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم؟
فقال بعضهم: هو منسوخ بقوله الله جل وعز: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] ، وبقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ) [سورة التوبة: 5]
* ذكر من قال ذلك:
4097 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء بن ميسرة: أحلَّ القتالَ في الشهر الحرام في" براءة" قوله: (فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] : يقول: فيهن وفي غيرهن. (2)
4098 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم، فيما بلغنا، يحرّم القتال في الشهر الحرام، ثم أحِلَّ بعد. (3)
__________
(1) أخال الشيء يخيل: اشتبه. يقال: "هذا الأمر لا يخيل على أحد"، أي: لا يشكل على أحد. و"شيء مخيل"، أي مشكل.
(2) الأثر: 4097 -"عطاء بن ميسرة" هو عطاء بن أبي مسلم الخراساني يقال اسم أبيه"عبد الله"، ويقال"ميسرة". مات سنة 135، وانظر الاختلاف فيه، والإشكال في أمره وأمر عطاء بن أبي رباح في التهذيب في ترجمته.
(3) الأثر: 4098 - هو بعض الأثر السالف: 4086. وانظر التعليق عليه.(4/313)
وقال آخرون: بل ذلك حكم ثابتٌ = لا يحلّ القتال لأحد في الأشهر الحرم بهذه الآية، لأن الله جعل القتال فيه كبيرًا.
* ذكر من قال ذلك:
4099 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاجُ، عن ابن جريج، (1) قال: قلت لعطاء:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، قلت: ما لهم! وإذ ذاك لا يحل لهم أن يغزوا أهل الشرك في الشهر الحرام، ثم غزوهم بعد فيه؟ فحلف لي عطاء بالله: ما يحل للناس أن يغزوا في الشهر الحرام، ولا أن يقاتلوا فيه، وما يستحب. قال: ولا يدعون إلى الإسلام قبل أن يقاتَلوا، ولا إلى الجزية، تركوا ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله عطاء بن ميسرة: من أن النهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرُم منسوخ بقول الله جل ثناؤه: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] .
وإنما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه غزَا هوازن بحُنين وثقيفًا بالطائف، وأرسل أبا عامر إلى أوْطاس لحرب من بها من المشركين، في الأشهر الحرُم، وذلك في شوال وبعض ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرم. فكان معلومًا بذلك أنه لو كان القتالُ فيهن حرامًا وفيه معصية، كان أبعد الناس من فعله صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) في المطبوعة: ". . . عن ابن جريج، عن مجاهد، قال قلت لعطاء. . . "، فقوله: "عن مجاهد" خطأ وزيادة مفسدة، فحذفتها. وانظر الأثر السالف رقم: 4901.(4/314)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
وأخرى، أن جميعَ أهل العلم بِسِيَر رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تتدافع أنّ بيعة الرضوان على قتال قريش كانت في ذي القعدة، وأنه صلى الله عليه وسلم إنما دعا أصحابه إليها يومئذ، لأنه بلغه أن عثمان بن عفان قتله المشركون إذ أرسله إليهم بما أرسله به من الرسالة، فبايع صلى الله عليه وسلم على أن يناجز القومَ الحربَ ويحاربَهم، حتى رجع عثمان بالرسالة، جرى بين النبي صلى الله عليه وسلم وقريش الصلح، فكفَّ عن حربهم حينئذ وقتالهم. وكان ذلك في ذي القعدة، وهو من الأشهر الحرُم.
فإذ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ صحةُ ما قلنا في قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه قل قتالٌ فيه كبيرٌ"، وأنه منسوخ.
فإذا ظنّ ظانّ أن النهي عن القتال في الأشهر الحرُم كان بعد استحلال النبي صلى الله عليه وسلم إياهن لما وصفنا من حروبه. فقد ظنّ جهلا. وذلك أن هذه الآية - أعني قوله:" يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه" - في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه، وما كان من أمرهم وأمر القتيل الذي قتلوه، فأنزل الله في أمره هذه الآية في آخر جمادى الآخرة من السنة الثانية من مَقْدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ وهجرته إليها، وكانت وقعةُ حُنين والطائف في شوال من سنة ثمان من مقدمه المدينة وهجرته إليها، وبينهما من المدة ما لا يخفى على أحد.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولا يزال مشركو قريش يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن قدروا على ذلك، كما:-(4/315)
4100 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير:" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا"، أي: هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه، غيرُ تائبين ولا نازعين = يعني: على أن يفتنوا المسلمين عن دينهم حتى يردُّوهم إلى الكفر، كما كانوا يفعلون بمن قدروا عليه منهم قبل الهجرة. (1)
4101 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردُّوكم عن دينكم إن استطاعوا"، قال: كفار قريش.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:" ومن يرتدد منكم عن دينه"، من يرجع منكم عن دينه، كما قال جل ثناؤه: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) [سورة الكهف: 64] يعني بقوله:" فارتدَّا"، رجعا. ومن ذلك قيل:" استردّ فلان حقه من فلان"، إذا استرجعه منه. (2)
وإنما أظهر التضعيف في قوله:" يرتدد" لأن لام الفعل ساكنة بالجزم، وإذا
__________
(1) الأثر: 4100 - هو بعض الأثر السالف: 4082. والكلام من أول قوله: "يعني: على أن يفتنوا. . . " ليس في سيرة ابن هشام، ولا في تاريخ الطبري. فإما أن يكون من كلام الطبري، أو من كلام ابن حميد، أو بعض رواة الأثر.
(2) انظر ما سلف 3: 163، وفهارس اللغة فيما سلف، ردد"(4/316)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
سكِّنت فالقياس ترك التضعيف، وقد تضعَّف وتدغم وهي ساكنة، بناء على التثنية والجمع.
* * *
وقوله:" فيمت وهو كافر"، يقول: من يرجع عن دينه دين الإسلام،" فيمت وهو كافر"، فيمت قبل أن يتوب من كفره، فهم الذين حبَطت أعمالهم.
* * *
يعني بقوله:" حبطت أعمالهم"، بطلت وذهبت. وبُطولها: ذهابُ ثوابها، وبطول الأجر عليها والجزاء في دار الدنيا والآخرة.
* * *
وقوله:" وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون"، يعني: الذين ارتدُّوا عن دينهم فماتوا على كفرهم، هم أهل النار المخلَّدون فيها. (1)
* * *
وإنما جعلهم" أهلها" لأنهم لا يخرجون منها، فهم سكانها المقيمون فيها، كما يقال:" هؤلاء أهل محلة كذا"، يعني: سكانها المقيمون فيها.
* * *
ويعني بقوله:" هم فيها خالدون"، هم فيها لابثون لَبْثًا، من غير أمَدٍ ولا نهاية. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ذكره: إنّ الذين صَدَّقوا بالله وبرسوله وبما جاء به = وبقوله:" والذين هاجروا" الذين هجروا مُساكنة المشركين في أمصارهم
__________
(1) انظر معنى"أصحاب النار" فيما سلف 2: 286.
(2) انظر معنى"خالد" فيما سلف 2: 286- 287، وفهارس اللغة.(4/317)
ومجاورتهم في ديارهم، فتحولوا عنهم، وعن جوارهم وبلادهم، (1) إلى غيرها هجرة ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ... (2) لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه. وأصل المهاجرة:" المفاعلة" من هجرة الرجل الرجلَ للشحناء تكون بينهما، ثم تستعمل في كل من هجر شيئًا لأمر كرهه منه. وإنما سمي المهاجرون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم" مهاجرين"، لما وصفنا من هجرتهم دورَهم ومنازلهم كراهةً منهم النزولَ بين أظهر المشركين وفي سلطانهم، بحيث لا يأمنون فتنتهم على أنفسهم في ديارهم - إلى الموضع الذي يأمنون ذلك.
* * *
وأما قوله:" وجاهدوا" فإنه يعني: وقاتلوا وحاربوا.
* * *
وأصل" المجاهدة"" المفاعلة" من قول الرجل:" قد جَهَد فلان فلانًا على كذا" -إذا كرَبَه وشقّ عليه-" يجهده جهدًا". فإذا كان الفعل من اثنين، كل واحد منهما يكابد من صَاحبه شدة ومشقة، قيل:" فلانٌ يجاهد فلانًا" - يعني: أن كل واحد منهما يفعل بصاحبه ما يجهده ويشق عليه -" فهو يُجاهده مجاهدة وجهادًا".
* * *
وأما" سبيل الله"، فطريقه ودينه. (3)
* * *
__________
(1) كان الكلام في المطبوعة متصلا بما بعده في موضع هذه النقط، ولكنه لا يستقيم ولا يطرد. ففصلت بين الكلامين. وظني أن سياق الكلام وتمامه: "فتحوَّلوا عنهم وعن جوارهم وبلادهم إلى غيرها هجرة، لما كرهوا من كفرهم وشركهم، وإيثارًا لجوار المؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم"، وسياق الكلام يدل على ذلك.
(2) مكان هذه النقط خرم لا شك فيه، كأن ناسخًا أسقط سطرًا أو سطرين، وكان صدر الكلام فيما أتوهم. "هجر المكان يهجره هجرًا وهجرانًا وهجرة: كرهه فخرج منه، تاركًا لما انتقل عنه إلى ما انتقل إليه" - أو كلامًا هذا معناه.
(3) انظر معنى"سبيل الله" فيما سلف، 2: 497/ 3: 564، 583.(4/318)
فمعنى قوله إذًا:" والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله"، والذين تحوَّلوا من سلطان أهل الشرك هجرةً لهم، وخوفَ فتنتهم على أديانهم، وحاربوهم في دين الله ليدخلوهم فيه وفيما يرضي الله =" أولئك يرجون رَحمه الله"، أي: يطمعون أن يرحمهم الله فيدخلهم جنته بفضل رحمته إياهم.
=" والله غفور"، أي ساتر ذنوبَ عباده بعفوه عنها، متفضل عليهم بالرحمة. (1)
* * *
وهذه الآية أيضًا ذُكر أنها نزلت في عبد الله بن جحش وأصحابه.
* ذكر من قال ذلك:
4102 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، أنه حدثه رجل، عن أبي السَّوار، يحدثه عن جندب بن عبد الله قال: لما كان من أمر عبد الله بن جحش وأصحابه وأمر ابن الحضرمي ما كان، قال بعض المسلمين: إن لم يكونوا أصابوا في سفرهم -أظنه قال: - وِزْرًا، فليس لهم فيه أجرٌ. فأنزل الله:" إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم". (2)
4103 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحق قال، حدثني الزهري ويزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير قال: أنزل الله عز وجل القرآنَ بما أنزلَ من الأمر، وفرَّج الله عن المسلمين في أمر عبد الله بن جحش وأصحابه - يعني: في قتلهم ابن الحضرمي - فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كانوا فيه حين نزل القرآن، طمعوا في الأجر، فقالوا: يا رسول الله، أنطمعُ أن تكون لنا غزوة نُعْطى فيها أجرَ المجاهدين؟ فأنزل الله عز وجل فيهم:" إنّ الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفورٌ رحيمٌ".
__________
(1) انظر معنى"غفور" فيما سلف من مراجعه في فهارس اللغة (غفر) .
(2) الأثر: 4102 - هو من تمام الأثر السالف رقم: 4084، وهو بتمامه في الدر المنثور 1: 250(4/319)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)
فوضعهم الله من ذلك على أعظم الرجاء. (1)
4104 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: أثنى الله على أصحاب نبيه محمد صلى الله عليه وسلم أحسنَ الثناء فقال:" إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمه الله والله غفورٌ رحيم"، هؤلاء خيارُ هذه الأمة. ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون، وأنه من رجَا طلب، ومن خاف هرب.
4105 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: يسألك أصحابك يا محمد عن الخمر وشُربها.
* * *
و"الخمر" كل شراب خمَّر العقل فستره وغطى عليه. وهو من قول القائل:" خَمَرت الإناء" إذا غطيته، و"خَمِر الرجل"، إذا دخل في الخَمَر. ويقال:" هو في خُمار الناس وغُمارهم"، يراد به دخل في عُرْض الناس. ويقال للضبع:" خامري أم عامر"، أي استتري. وما خامر العقل من داء وسكر فخالطه وغَمَره فهو"خمر".
__________
(1) الأثر: 3103 - سيرة ابن هشام 2: 255، وهو تمام الأثر السالف: 4082. وكان في المطبوعة هنا: "فوفقهم الله من ذلك. . . "، والصواب ما أثبت من ابن هشام.(4/320)
ومن ذلك أيضا"خِمار المرأة"، وذلك لأنها تستر [به] رأسها فتغطيه. ومنه يقال:" هو يمشي لك الخمَر"، أي مستخفيًا، كما قال العجاج:
فِي لامِعِ العِقْبَانِ لا يَأتي الْخَمَرْ ... يُوَجِّهُ الأرْضَ وَيَسْتَاقُ الشَّجَرْ (1)
ويعني بقوله:" لا يأتي الخمر"، لا يأتي مستخفيًا ولا مُسارَقةً، ولكن ظاهرًا برايات وجيوش. و"العقبان" جمع"عُقاب"، وهي الرايات.
* * *
وأما"الميسر" فإنها"المفعل" من قول القائل:" يسَرَ لي هذا الأمر"، إذا وجب لي" فهو يَيْسِر لي يَسَرًا وَميسِرًا" (2) و"الياسر" الواجب، بقداح وَجب ذلك، أو فُتاحة أو غير ذلك. (3) ثم قيل للمقامر،" ياسرٌ ويَسَر"، كما قال الشاعر:
فَبِتُّ كَأَنَّنِي يَسَرٌ غَبِينٌ ... يُقَلِّبُ، بَعْدَ مَا اخْتُلِعَ، القِدَاحَا (4)
وكما قال النابغة: (5)
__________
(1) ديوانه: 17، من قصيدة يذكر فيها فتوح عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي، سلف منها بيتان في 2: 157. واقرأ التعليق هناك رقم: 2. ولمعت الرايات: خفقت. وقوله: "يوجه الأرض" يعني جيش عمر، أي يقشر وجهها من شدة وطئه وكثرته وسرعة سيره، يشبهه بالسيل. يقال: " وجه المطر الأرض"، قشر وجهها وأثر فيه. وقوله: "يستاق الشجر"، يقول: جيشه كالسيل المنفجر المتدافع يقشر الأرض، ويختلع شجرها، ويسوقه.
(2) هذا المعنى لم أصبه في كتب اللغة، وأنا أظنه مجازًا من"الميسر"، لا أصلا في اشتقاق الميسر منه، لأن حظ صاحب الميسر واجب الأداء إذا خرج قدحه.
(3) في المطبوعة: "أو مباحه"، ولا معنى لها، وكأن الصواب ما أثبت. والفتاحة (بضم الفاء) : الحكم بين الخصمين يختصمان إليك.
(4) لم أعرف قائله. والغبين والمغبون: الخاسر. واختلع (بالبناء للمجهول) : أي قمر ماله وخسره، فاختلع منه، أي انتزع. والمخالع المقامر، والمخلوع: المقمور ماله. يقول: إنه بات ليلته حزينًا كاسفًا مطرقًا، إطراق المقامر الذي خسر كل شيء، فأخذ يقلب في كفيه قداحه مطرقًا متحسرا على ما أصابه ونكبه.
(5) لم أجد البيت في شعر النابغة الذبياني، ولست أدري أهو لغيره من النوابغ، أم هو لغيرهم.(4/321)
أَوْ يَاسِرٌ ذَهَبَ القِدَاح بوَفْرِهِ ... أَسِفٌ تآكَلَهُ الصِّدِيقُ مُخَلَّعُ (1)
يعني"بالياسر": المقامر. وقيل للقمار"ميسر".
* * *
وكان مجاهد يقول نحو ما قلنا في ذلك.
4106 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر" قال: القمار، وإنما سمّي"الميسر" لقولهم:"أيْسِروا واجْزُرُوا"، كقولك: ضع كذا وكذا.
4107- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: كل القمار من الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز.
4108 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص قال: قال عبد الله: إياكم وهذه الكِعاب الموسومة التي تزجرون بها زجرًا، فإنهن من الميسر. (2)
4109 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص مثله.
4110 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن نافع قال، حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن أبي الأحوص، عن عبد الله أنه قال: إياكم وهذه الكعاب التي تزجرون بها زَجرًا، فإنها من الميسر.
__________
(1) الوفر: المال الكثير الواسع. وأسف: حزين بالغ الحزن على ما فاته، يقال هو: أسف وآسف وأسفان وأسيف. وفي المطبوعة: "بآكله"، رجحت قراءتها"تآكله". والصديق، واحد وجمع. ومخلع: قد قمر مرة بعد مرة، فهلك ماله وفني. وقوله: " تآكله الصديق"، تناهبوه بينهم في الميسر وهم أصدقاؤه، وذلك أشد لحزنه لما يرى من سرورهم، ولما يؤسفه من ضياع ماله، ويحزنه من لؤم صديقه.
(2) الكعاب والكعبات، جمع كعب وكعبة: وهي فصوص النرد وقوله: "تزجرونها زجرًا" من الزجر، وهو الحث والدفع، أو من زجر الطير، هو ضرب من العيافة والتكهن. يريد ما يكون معها من توقع الغيب وتطلبه. والموسومة: التي وسمت بسمة تميزها تكون علامة فيها.(4/322)
4111 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: القمار ميسرٌ.
4112 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عامر قال، حدثنا سفيان، عن عاصم الأحول، عن محمد بن سيرين قال: كل شيء له خَطَرٌ = أو: في خَطَر، أبو عامر شك = فهو من الميسر. (1)
4113 - حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم، عن محمد بن سيرين قال: كل قمار ميسر، حتى اللعب بالنَّرد على القيام والصِّياح والريشة يجعلها الرجل في رأسه.
4114 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن ابن سيرين قال: كل لعب فيه قمار من شُرب أو صياح أو قيام، فهو من الميسر.
4115 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا خالد بن الحارث قال، حدثنا الأشعث، عن الحسن أنه قال: الميسر القمار.
4116 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا المعتمر، عن ليث، عن طاوس وعطاء قالا كل قمار فهو من الميسر، حتى لعب الصبيان بالكعاب والجوز.
4117 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: الميسر القمار.
4118 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك بن عمير، عن أبي الأحوص، عن عبيد الله قال: إياكم وهاتين الكَعْبتين يُزجر بهما زجرًا، فإنهما من الميسر. (2)
4119 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن عليه، عن ابن أبي
__________
(1) الخطر: الرهن يخاطر عليه، ويقال له"السبق، والندب" (بالتحريك فيهما) ، وهو كله الذي يوضع في الرهان، فمن سبق أو غلب أخذه.
(2) انظر التعليق السالف ص: 322، تعليق: 2.(4/323)
عروبة، عن قتادة قال: أما قوله:"والميسر"، فهو القمار كله.
4120 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يحيى بن عبد الله بن سالم، عن عبيد الله بن عمر: أنه سمع عمر بن عبيد الله يقول للقاسم بن محمد: النرد" ميسر"، أرأيت الشطرنج؟ ميسر هو؟ فقال القاسم: كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو ميسر.
4121 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قال: الميسر القمار. كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله، فأيهما قمر صاحبه ذهب بأهله وماله. (1)
4122 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: الميسر القمار.
4123 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: الميسر القمار.
4124 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن الليث، عن مجاهد وسعيد بن جبير قالا الميسر القمار كله، حتى الجوز الذي يلعب به الصبيان.
4125 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، سمعت عبيد الله بن سليمان يحدث، عن الضحاك قوله:" والميسر"، قال: القمار.
4126 - حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الميسر القمار.
4127 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحق قال، حدثنا أبو بدر شجاع
__________
(1) المخاطرة: المراهنة، وقمر الرجل صاحبه يقمره (بكسر الميم) قمرًا: إذا لاعبه في القمار فغلبه.(4/324)
بن الوليد قال، حدثنا موسى بن عقبة، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: القمار من الميسر.
4128 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: الميسرُ، قداح العرب وكِعابُ فارس = قال: وقال ابن جريج: وزعم عطاء بن ميسرة: أن الميسر القمار كله.
4129 - حدثنا ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز قال، قال مكحول: الميسر القمار.
4130 - حدثنا الحسين بن محمد الذارع قال، حدثنا الفضل بن سليمان وشجاع بن الوليد، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال: الميسر القمار.
* * *
وأما قوله:" قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافع للناس"، فإنه يعني بذلك جل ثناؤه: قل يا محمد لهم:" فيهما"، يعني في الخمر والميسر" إثم كبير"، فالإثم الكبير الذي فيهما ما ذكر عن السدي فيما:-
4131 - حدثني به موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:" فيهما إثمٌ كبير"، فإثم الخمر أنّ الرجل يشرَب فيسكر فيؤذي الناس. وإثم الميسر أن يُقامر الرجلُ فيمنعَ الحق ويظلم.
4132 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثم كبير"، قال: هذا أوَّل ما عِيبَتْ به الخمر.
4133 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" قل فيهما إثم كبير"، يعني ما ينقُص من الدين عند من يشربها.
* * *(4/325)
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل" الإثم الكبير" الذي ذكر الله جل ثناؤه أنه في الخمر والميسر: (1) في"الخمر" ما قاله السدي: (2) زوال عقل شارب الخمر إذا سكر من شربه إياها حتى يعزب عنه معرفة ربه، وذلك أعظمُ الآثام. وذلك معنى قول ابن عباس إن شاء الله. وأما في"الميسر"، فما فيه من الشغل به عن ذكر الله وعن الصلاة، ووقوع العداوة والبغضاء بين المتياسرين بسببه، كما وصف ذلك به ربنا جل ثناؤه بقوله: (إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ) [سورة المائدة: 91]
* * *
وأما قوله:" ومنافع للناس"، فإن منافعَ الخمر كانت أثمانها قبل تحريمها، وما يصلون إليه بشربها من اللذة، كما قال الأعشى في صفتها.
لَنَا مِنْ ضُحَاها خُبْثُ نَفْسٍ وَكَأْبَةٌ ... وذِكْرَى هُمُوم مَا تُغِبُّ أَذَاتُهَا ... وَعِنْد العِشَاءِ طِيبُ نَفْسٍ وَلَذَّةٌ ... وَمَالٌ كَثِير، عِزَّةٌ نَشَوَاتُهَا (3)
وكما قال حسان:
__________
(1) في المطبوعة: "والذي هو أولى بتأويل الآية الإثم الكبير" بزيادة"الآية" سبق بها قلم ناسخ، وصواب العبارة في حذفها.
(2) في المطبوعة: "فالخمر ما قاله السدي. . . "، وسياق عبارته يقتضي ما أثبت.
(3) ديوانه: 61، والأشربة لابن قتيبة: 70 والبيتان مصحفان تصحيفًا قبيحًا في المطبوعة، في البيت الأول"صحاها" بالصاد المهملة، و"ما تفك أداتها". وفي البيت الثاني"عده نشواتها" وفي الأشربة"عدة"، وفي الديوان"غدوة نشواتها" (بضم الغين ونصب التاء بفتحتين) . ونسخة الديوان أيضًا كثيرة التصحيف، فآثرت قراءة الكلمة"عزة". وذلك أن الأعشى يقول قبل البيتين: لَعَمْرُكَ إنَّ الرَّاحَ إِنْ كُنْتَ شاربًا ... لَمُخْتَلِفٌ آصَالُها وَغَدَاتُها
ثم بين في البيت الثاني أنها في"الضحى" -وهو الغدوة- تعقب خبث النفس والكآبة والهموم المؤذية. ثم أتبع ذلك بما يكون عند العشي من طيب النفس واللذة - فلا معنى لإعادة ذكر"الغدوة" مرة أخرى، بل إنه لو فعل لنقض على نفسه البيت السالف، فصارت الخمر في الغدوة أو الضحى، مخبثة للنفس، ومبهجة لها في وقت واحد، وهذا باطل.
فالصواب عندي أن تقرأ"عزة لنشواتها"، كقوله أيضًا: مِنْ قَهْوَةٍ بَاتَتْ بِبَابِلَ صَفْوَةٍ ... تَدَعَ الفَتَى مَلِكًا يَمِيلُ مُصَرَّعًا
ويؤيد ذلك أن ابن قتيبة قدم قبل الأبيات السالفة: "وقال في الخمر أنها تمد في الأمنية" ثم ذكر الأبيات، فمعنى ذلك أنها تريه أنه صار ملكًا عزيزًا يهب المال الكثير إذا انتشى.
وقوله: "ما تغب أذاتها" من قولهم: "غب الشيء" أي بعد وتأخر. تقول: "ما يغبك لطفي" أي ما يتأخر عنك يومًا، بل يأتيك كل يوم، تعني متتابعًا.(4/326)
فَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكُنَا مُلُوكًا ... وَأُسْدًا، مَا يُنَهْنِهُنَا اللِّقَاءُ (1)
وأما منافع الميسر، فما يصيبون فيه من أنصِباء الجزور. وذلك أنهم كانوا يياسرون على الجزور، وإذا أفلجَ الرجلُ منهم صاحبَه نحره، ثم اقتسموا أعشارًا على عدد القداح، (2) وفي ذلك يقول أعشى بني ثعلبة:
وَجَزُورِ أَيْسَارٍ دَعَوْتُ إلَى النَّدَى ... وَنِيَاطِ مُقْفِرَةٍ أَخَافُ ضَلالَهَا (3)
* * *
__________
(1) ديوانه: 4، والكامل 1: 74، وغيرهما، ونهنهه عن الشيء: زجره عنه وكفه ومنعه. أي: لا نخاف لقاء العدو.
(2) الأنصباء جمع نصيب. والمياسرة: المقامرة. وفلج سهم المقامر وأفلج: فاز. وأعشار الجزور: الأنصباء. وكانوا يقسمونه عشرة أجزاء.
(3) ديوانه: 23. الأيسار جمع يسر: وهو الذي يضرب القداح، واللاعب أيضًا، وهو المراد هنا. ورواية الديوان"دعوت لحتفها" والمقفرة: المفازة المقفرة. ونياط المفازة: بعد طريقها، كأنها نيطت -أي وصلت- بمفازة أخرى، لا تكاد تنقطع. وهو بيت من أبيات جياد يتمدح فيها الأعشى بفعله، يقول: وَسَبِيئَةٍ ممّا تُعَتِّقُ بَابِلٌ ... كَدَمِ الذَّبِيحِ، سَلَبْتُهَا جِرْيالَهَا
وَغَرِيبَةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكِيمَةٍ ... قَد قُلْتُهَا لِيُقَالَ: مَنْ ذَا قالَهَا!!
وجَزُورِ أيْسَارٍ. . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان الميسر عندهم من كرم الفعال.(4/327)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4134 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: المنافع ههنا ما يصيبون من الجَزور.
4135 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما منافعهُما، فإن منفعة الخمر في لذته وثمنه، ومنفعة الميسر فيما يُصاب من القمار.
4136 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافعُ للناس"، قال: منافعهما قبل أن يحرَّما.
4137 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية عن علي، عن ابن عباس:" ومنافع للناس"، قال: يقول فيما يصيبون من لذتها وفرَحها إذا شربوها.
* * *
واختلف القرأة في قراءة ذلك:
فقرأه عُظْم أهل المدينة وبعضُ الكوفيين والبصريين:" قل فيهما إثم كبيرٌ" بالباء، بمعنى قل: في شرب هذه، والقمار هذا، كبيرٌ من الآثام.
وقرأه آخرون من أهل المصرين البصرة والكوفة:"قل فيهما إثمٌ كثيرٌ"، بمعنى الكثرة من الآثام. وكأنهم رأوا أن"الإثم" بمعنى"الآثام"، وإن كان في اللفظ واحدًا، فوصفوه بمعناه من الكثرة. (1)
__________
(1) انظر معنى"الإثم" فيما سلف 3: 406 وما بعدها / ثم ص 550.(4/328)
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين في ذلك بالصواب قراءة من قرأه "بالباء":" قل فيهما إثم كبير"، لإجماع جميعهم على قوله:" وإثمهما أكبر من نفعهما"، وقراءته بالباء. وفي ذلك دلالة بيّنة على أن الذي وُصف به الإثم الأول من ذلك، هو العظم والكبَر، لا الكثرة في العدد. ولو كان الذي وصف به من ذلك الكثرة، لقيل: وإثمهما أكثر من نفعهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا}
قال أبو جعفر: يعني بذلك عز ذكره: والإثم بشرب [الخمر] هذه والقمار هذا، أعظمُ وأكبرُ مضرة عليهم من النفع الذي يتناولون بهما. وإنما كان ذلك كذلك، لأنهم كانوا إذا سكروا وثب بعضهم على بعض، وقاتَل بعضهم بعضًا، وإذا ياسرُوا وقع بينهم فيه بسببه الشرُّ، فأدَّاهم ذلك إلى ما يأثمون به.
* * *
ونزلت هذه الآية في الخمر قبل أن يُصرَّح بتحريمها، فأضاف الإثم جل ثناؤه إليهما، وإنما الإثم بأسبابهما، إذ كان عن سببهما يحدث.
* * *
وقد قال عددٌ من أهل التأويل: معنى ذلك: وإثمهما بعد تحريمهما أكبر من نفعهما قبل تحريمهما.
* ذكر من قال ذلك:
4138 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" وإثمهما أكبر من نفعهما"، قال: منافعهما قبل التحريم، وإثمهما بعدَ ما حرِّما.
4139 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"(4/329)
ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما" ينزل المنافعَ قبل التحريم، والإثم بعد ما حرِّم.
4140 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرني عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" وإثمهما أكبرُ من نفعهما"، يقول: إثمهما بعد التحريم، أكبر من نفعهما قبل التحريم.
4141 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" وإثمهما أكبرُ من نفعهما"، يقول: ما يذهب من الدِّين والإثمُ فيه، أكبر مما يصيبون في فرحها إذا شربوها.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا ما قلنا في ذلك من التأويل لتواتر الأخبار وتظاهُرها بأن هذه نزلت قبل تحريم الخمر والميسر، فكان معلومًا بذلك أن الإثم الذي ذكره الله في هذه الآية فأضافه إليهما، إنما عنى به الإثم الذي يحدث عن أسبابهما - على ما وصفنا - لا الإثم بعد التحريم.
* * *
* ذكر الأخبار الدالة على ما قلنا من أن هذه الآية نزلت قبل تحريم الخمر:
4142 - حدثنا أحمد بن إسحق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا قيس، عن سالم، عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت:" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيها إثمٌ كبير ومنافع للناس" فكرهها قوم لقوله:" فيها إثم كبير"، وشربها قوم لقوله:" ومنافع للناس"، حتى نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) [سورة النساء: 43] ، قال: فكانوا يدعونها في حين الصلاة ويشربونها في غير حين الصلاة، حتى نزلت: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) [سورة المائدة: 90] فقال عمر: ضَيْعَةً لك! اليوم قُرِنْتِ بالميسر!(4/330)
4143 - حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا محمد بن أبي حميد، عن أبي توبة المصري، قال، سمعت عبد الله بن عمر يقول: أنزل الله عز وجل في الخمر ثلاثًا، فكان أول ما أنزل:" يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم كبير" الآية، فقالوا: يا رسول الله، ننتفع بها ونشربها كما قال الله جل وعز في كتابه! ثم نزلت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى) الآية، قالوا: يا رسول الله، لا نشربها عند قرب الصلاة. قال: ثم نزلت: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) الآية، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حُرِّمت الخمر". (1)
__________
(1) الحديث: 4143 - أبو عامر: هو العقدي -بفتح العين والقاف- عبد الملك بن عمرو، وهو ثقة مأمون، روى عنه أحمد، وإسحاق، وابن المديني، وغيرهم.
محمد بن أبي حميد الأنصاري الزرقي، واسم أبيه"إبراهيم": ضعيف منكر الحديث، اتفقوا على تضعيفه.
أبو توبة المصري: لا يوجد راو بهذا الاسم، وإنما هو من تخليط محمد بن أبي حميد. وصحته"أبو طعمة الأموي" بضم الطاء وسكون العين المهملة، وهو مولى عمر بن عبد العزيز، شامي سكن مصر، وكان قارئًا، يقرئ القرآن بمصر. وهو تابعي ثقة.
وهذا الحديث رواه الطيالسي في مسنده: 1957، عن محمد بن أبي حميد"عن أبي توبة المصري"، عن ابن عمر. وزاد في آخره قصة شق روايا الخمر، شقها رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر. ثم لعن شاربها وعاصرها. إلخ.
ونقل ابن كثير في التفسير 3: 226، القسم الذي هنا فقط، عن مسند الطيالسي. ولكنه حين رأى الغلط في الإسناد"عن أبي توبة المصري" -تصرف تصرفًا سديدًا، فأثبته: "عن المصري"، ثم قال: "يعني أبا طعمة". فلم يغير في أصل الإسناد، وأشار إلى ما هو الصواب.
وذكره السيوطي في الدر المنثور 2: 314- 315، ونسبه للطيالسي، والطبري، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في شعب الإيمان.
والحديث الصحيح من رواية أبي طعمة: ما رواه أحمد في المسند: 5390، في قصة شق زقاق الخمر، ثم قوله صلى الله عليه وسلم: "لعنت الخمر، وشاربها، وساقيها، وبائعها، ومبتاعها، وحاملها، والمحمولة إليه، وعاصرها، ومعتصرها، وآكل ثمنها"- من طريق ابن لهيعة، عن أبي طعمة وقد فصلنا تخريجه في الاستدراك، رقم: 1765 في المسند.
ورواه ابن عبد الحكم، في فتوح مصر، أطول قليلا من رواية المسند، ص 264 بإسنادين من طريق أبي شريح عبد الرحمن بن شريح، عن شراحيل بن بكيل- ومن طريق ابن لهيعة، عن أبي طعمة، كلاهما عن ابن عمر. وشراحيل بن بكيل: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 2/2/256. وابن أبي حاتم 2/1/373. ولم يذكرا فيه جرحًا.(4/331)
4144 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن قالا قال الله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) = و" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبيرٌ ومنافعُ للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، فنسختها الآية التي في المائدة، فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) ، الآية.
4145 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف، عن أبي القَمُوص زيد بن علي قال: أنزل الله عز وجلّ في الخمر ثلاثَ مرات. فأول ما أنزل قال الله:" يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثمٌ كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبرُ من نفعهما"، قال: فشربها من المسلمين من شاء الله منهم على ذلك، حتى شرب رجلان فدخلا في الصلاة فجعلا يَهْجُران كلامًا لا يدري عوف ما هو، فأنزل الله عز وجل فيهما: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، فشربها من شربها منهم، وجعلوا يتقونها عند الصلاة، حتى شربها - فيما زعم أبو القموص - رجلٌ، فجعل ينوح على قتلى بدر:
تُحَيِّي بِالسَّلامَةِ أُمُّ عَمْروٍ ... وَهَلْ لَكِ بَعْدَ رَهْطِكِ مِنْ سَلامِ (1)
__________
(1) سيأتي في تخريج هذا الأثر، أن رواية هذا الخبر تنسب هذا الشعر لأبي بكر الصديق، ونفي عائشة لذلك. وهذه الأبيات بعض أبيات من شعر لأبي بكر بن شعوب، اختلطت بشعر بحير بن عبد الله بن عامر القشيري. ومراجع الأبيات جميعًا هي: سيرة ابن هشام 3: 30 وتاريخ ابن كثير 3: 341، والوحشيات لأبي تمام: 425، والاشتقاق: 63، ونسب قريش: 301، ومن نسب لأمه (نوادر) : 82، وكنى الشعراء (نوادر) : 282، والبخاري 5: 65، وفتح الباري 7: 201، والإصابة (ترجمة أبي بكر بن شعوب) ، وغيرها.
والبيت الأول والرابع والخامس، من أبيات رواها ابن هشام، والبخاري لأبي بكر بن شعوب، من الشعر الذي ذكر فيه قتلى بدر، والذي يقول في آخره: يُحَدِّثُنَا الرّسُولُ بأَنْ سَنَحْيَا ... وَكَيفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ!
وكان أبو بكر قد أسلم فيما يقال. أما البيتان الثاني والثالث فهما من أبيات قالها بحير بن عبد الله القشيري، يرثي هشام بن المغيرة، وكان شريفًا مذكورًا، وكانت قريش تؤرخ بموته، ولما مات نادى مناد بمكة: "اشهدوا جنازة ربكم"! فقال بحير يرثيه أبياتًا أولها: ذَرِيني أَصْطَبحْ يَا بَكْرُ، إِنِّي ... رَأَيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ
وقد رواها لبحير بن عبد الله، الآمدي في المؤتلف والمختلف، وأبو تمام في الوحشيات، وابن دريد في الاشتقاق، ولكن المصعب في نسب قريش روى هذا البيت والذي يليه لأبي بكر بن شعوب في رثاء هشام. والصواب فيما أرجح مع من خالف المصعب. فإن البيتين الثاني والثالث، ظاهر أنهما مقحمان هنا، وهما ليسا في رواية الثقات، وفيهما ذكر هشام ورثاؤه، وهشام مات قبل الإسلام وقبل يوم بدر بدهر طويل. وشهد بدرًا ولداه الحارث بن هشام، وأبو جهل بن هشام = فلا معنى لذكره في رثاء قتلى بدر. هذا خلط في الرواية، حتى لو صح أن البيتين لأبي بكر بن شعوب.(4/332)
ذَرِيني أَصْطَبِحْ بَكْرًا، فَإنِّي ... رَأَيْتُ المَوْتَ نَقَّبَ عَنْ هِشَامِ (1) وَوَدَّ بَنُو المُغِيرَةِ لَوْ فَدَوْهُ ... بِأَلْفٍ مِنْ رِجَالٍ أَوْ سَوَامِ ... كَأَيٍّ بالطَّو ... مِنْ الشِّيزَى يُكَلَّلُ بالسَّنَامِ (2) كَأَيٍّ بالطَّوِىِّ طَوِيِّ بَدْرٍ ... مِنَ الفِتْيَانِ والحُلَلِ الكِرَامِ (3)
قال: فبلغ ذلك رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فجاء فزِعًا يجرُّ رداءه من الفزع، حتى انتهى إليه، فلما عاينه الرجل، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا كان بيده ليضربه، قال: أعوذ بالله من غضب الله ورسوله! والله لا أطعمُها
__________
(1) يروى: "يا بكر إني" و"يا هند إني".
(2) في المطبوعة: "كأني"، والصواب"كأي" أي: كم. ويروى"وكم لك بالطوى" و"ماذا بالطوى". والطوى: البئر المطوية. والشيزى: خشب أسود تعمل منه القصاع والجفان. والسنام سنام البعير من ظهره. يقول: كم ألقي في هذه البئر من كريم مطعم. فجعل جفانه هي التي ألقيت في القليب، كأن لا أحد بعده يخلفه في كرمه وفعاله وإطعامه الضيف والفقير.
(3) في المطبوعة"كأني" وانظر التعليق السالف. ويروى: "من القينات" جمع قينة، يقول ذهب اللهو فلا لهو بعدهم ولا منادمة، ويروى، "والشرب الكرام".
هذا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم، أمر بعد النصر في بدر أن تطرح القتلى في القليب (البئر) . في خبر مذكور في السير.(4/333)
أبدًا! فأنزل الله تحريمها: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ) ، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: انتهينا، انتهينا!! (1)
4146 - حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا إسحق الأزرق، عن زكريا، عن سماك، عن الشعبي قال: نزلت في الخمر أربعُ آيات:" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، فتركوها، ثم نزلت: (تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا) [سورة النحل: 67] ، فشربوها ثم نزلت الآيتان في"المائدة": (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
4147 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: قال نزلت هذه الآية:" يسألونك عن الخمر والميسر" الآية، فلم يزالوا بذلك يشربونها، حتى صنع عبد الرحمن بن عوف طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم علي بن أبي طالب، فقرأ: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ) ، ولم يفهمها. فأنزل الله عز وجل يشدد في الخمر: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، فكانت لهم حلالا يشربون من صلاة الفجر حتى يرتفع النهار، أو ينتصف، فيقومون إلى صَلاة الظهر وهم مُصْحُون، (2) ثم لا يشربونها حتى يُصَلوا العَتَمة - وهي
__________
(1) الحديث: 4145 -عبد الوهاب: هو ابن عبد المجيد الثقفي، ترجمناه في: 2039. "عوف" هو ابن أبي جميلة الأعرابي، مضى في 2905. زيد بن علي أبو القموص، بفتح القاف وضم الميم: تابعي ثقة قليل الحديث.
وروايته هذه مرسلة، لا تقوم بها حجة. وقد أشار إليها الحافظ في الإصابة 7: 21، وأنه رواها الفاكهي في تاريخ مكة، عن يحيى بن جعفر، عن علي بن عاصم، عن عوف بن أبي جميلة، عن أبي القموص. وأشار إليها أيضًا في الفتح 7: 201 وجزم بتضعيفها، لمعارضتها بما رواه الفاكهي نفسه، من وجه صحيح، عن عائشة، قالت: "والله ما قال أبو بكر بيت شعر في الجاهلية ولا الإسلام، ولقد ترك هو وعثمان شرب الخمر في الجاهلية". ثم قال الحافظ: "وهي أعلم بشأن أبيها من غيرها. وأبو القموص لم يدرك أبا بكر، فالعهدة على الواسطة. فلعله كان من الروافض". وهذا هو الحق.
(2) صحا السكران يصحو فهو صاح، وأصحى فهو مصح: ذهب سكره وأفاق.(4/334)
العشاء - ثم يشربونها حتى ينتصف الليل، وينامون، ثم يقومون إلى صلاة الفجر وقد صحوا - فلم يزالوا بذلك يشربونها حتى صنع سعد بن أبي وقاص طعامًا، فدعا ناسًا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيهم رجل من الأنصار، فشوى لهم رأس بعير ثم دعاهم عليه، فلما أكلوا وشربوا من الخمر، سكروا وأخذوا في الحديث. فتكلم سعد بشيء فغضب الأنصاري، فرفع لَحْي البعير فكسر أنف سعد، (1) فأنزل الله نَسْخ الخمر وتحريمها وقال: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ) إلى قوله: (فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ)
4148 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة - وعن رجل، عن مجاهد - في قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر"، قال: لما نزلت هذه الآية شربها بعض الناس وتركها بعضٌ، حتى نزل تحريمها في"سورة المائدة".
4149 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" قل فيهما إثمٌ كبير"، قال: هذا أول ما عِيبت به الخمر. (2)
4150 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر قُل فيهما إثم كبير ومنافع للناس"، فذمَّهما الله ولم يحرِّمهما، لما أراد أن يبلغ بهما من المدة والأجل. ثم أنزل الله في"سورة النساء" أشد منها: (لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، فكانوا يشربونها، حتى إذا حضرت الصلاة سكتوا عنها، فكان السكر عليهم
__________
(1) اللحى (بفتح اللام وسكون الحاء) حائط الفم، وهما العظم الذي فيه الأسنان من داخل الفم، وللبعير والإنسان وغيرهما: لحيان، أعلى وأسفل.
(2) الأثر: 4149 - مضى بنصه هذا برقم: 4132.(4/335)
حرامًا. ثم أنزل الله جل وعز في"سورة المائدة" بعد غزوة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) إلى (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) فجاء تحريمها في هذه الآية، قليلها وكثيرها، ما أسكر منها وما لم يسكر. وليس للعرب يومئذ عيش أعجبُ إليهم منها. (1)
4151 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما"، قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن ربكم يُقدِّم في تحريم الخمر، قال: ثم نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّ ربكم يقدِّم في تحريم الخمر. قال: ثم نزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنْصَابُ وَالأزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) ، فحرّمت الخمر عند ذلك.
4152 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" يسألونك عن الخمر والميسر" الآية كلها، قال: نسخت ثلاثةً، (2) في"سورة المائدة"، وبالحدّ الذي حدَّ النبي صلى الله عليه وسلم، وضَرْب النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضربهم بذلك حدًّا، ولكنه كان يعمل في ذلك برأيه، ولم يكن حدًّا مسمًّى وهو حَدٌّ، وقرأ: (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ) الآية. (3)
__________
(1) قوله: "عيش" مجاز حسن، لم تقيده كتب اللغة، ويعني به: المتاع واللذة. وأصل"العيش": المطعم والمشرب وما تكون به الحياة. فنقل إلى المتاع، ومثله ما جاء في الأثر: "لا عيش إلا عيش الآخرة"، فأولى أن يفسر بالمتاع واللذة.
(2) يقال: "نسخت ثلاثًا"، أي ثلاث مرات من النسخ، ويجوز"نسخت ثلاثة" كما هنا، أي ثلاثة نسوخ، لتذكير"النسخ".
(3) يعني أن آية البقرة هذه، نسختها آية المائدة نسخًا واحدًا، ثم جعل الله حدها الضرب غير مسمى العدد، فكان نسخًا ثانيًا، ثم اجتهد رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيه في عدد الضرب وصورته، فكان اجتهاده نسخًا ثالثًا.(4/336)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ذكره بذلك: ويسألك يا محمد أصحابك: أيّ شيء ينفقون من أموالهم فيتصدقون به؟ فقل لهم يا محمد: أنفقوا منها العفوَ.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى:" العفو" في هذا الموضع.
فقال بعضهم: معناه: الفضل.
* ذكر من قال ذلك:
4153 - حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا وكيع = ح، وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: العفوُ ما فضل عن أهلك.
4154 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قل العفو"، أي الفضْل.
4155 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: هو الفضل.
4156 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء في قوله:"العفو"، قال: الفضل.
4157 - حدثنا موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"العفو"، يقول: الفضل.
4158 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: كان القوم يعملون في كل(4/337)
يوم بما فيه، فإن فضَل ذلك اليوم فَضْل عن العيال قدَّموه، ولا يتركون عِيالهم جُوَّعًا ويتصدقون به على الناس.
4159 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا يونس، عن الحسن في قوله:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: هو الفضل، فضل المال.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ما كان عفوًا لا يَبين على من أنفقه أو تصدّق به.
* ذكر من قال ذلك:
4160 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: ما لا يتبيَّن في أموالكم.
4161 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن جريج، عن طاوس في قول الله جل وعز:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: اليسير من كل شيء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: الوسط من النفقة، ما لم يكن إسرافًا ولا إقتارًا.
* ذكر من قال ذلك:
4162 - حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا بشر بن المفضل، عن عوف، عن الحسن في قوله:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: لا تجهَد مالك حتى ينفد للناس.
4163 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء عن قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: العفو في النفقة: أن لا تجهدَ مالك حتى ينفد فتسأل الناس.(4/338)
4164 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال سألت عطاء عن قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: العفو ما لم يسرفوا ولم يَقتروا في الحق = قال: وقال مجاهد: العفو صدقة عن ظَهْر غنى.
4165 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: هو أن لا تجهد مالك.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:" قل العفو"، خذ منهم ما أتوك به من شيء قليلا أو كثيرًا.
* ذكر ذلك من قال ذلك:
4166 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، يقول: ما أتوك به من شيء قليل أو كثير فاقبله منهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ما طابَ من أموالكم.
* ذكر من قال ذلك:
4167 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: يقول: الطيِّبَ منه، يقول: أفضلَ مالك وأطيبَه.
4168 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة قال: كان يقول: العفو، الفضل، يقول: أفضل مالك.
* * *(4/339)
وقال آخرون: معنى ذلك: الصدقة المفروضة.
* ذكر من قال ذلك:
4169 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس، عن مجاهد - شك أبو عاصم = قول الله جل وعز:" قل العفو"، قال: الصدقة المفروضة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى"العفو": الفضلُ من مالِ الرجل عن نفسه وأهله في مؤونتهم ما لا بد لهم منه. وذلك هو الفضل الذي تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإذن في الصدقة، وصَدقته في وجوه البر: (1)
* ذكر بعض الأخبار التي رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك:
4170 - حدثنا علي بن مسلم قال، حدثنا أبو عاصم، عن ابن عجلان، عن المقبري، عن أبي هريرة قال: قال رجل: يا رسول الله، عندي دينار! قال:"أنفقه على نفسك. قال: عندي آخر! قال:"أنفقه على أهلك. قال: عندي آخر! قال: أنفقه على ولدك! قال: عندي آخر؛ قال: فأنتَ أبْصَرُ! (2)
__________
(1) في المطبوعة: "وصدقة في وجوه البر". والصواب ما أثبت، يعني أن التصدق بالعفو في وجوه البر، أما الزكاة المفروضة، فلها شأن آخر، كما سيأتي بعد.
(2) الحديث: 4170 -علي بن مسلم بن سعيد أبو الحسن الطوسي، نزيل بغداد: ثقة، روى عنه البخاري في صحيحه، وابن معين، وأبو داود، وغيرهم، مترجم في التهذيب، وتاريخ بغداد 12 108- 109. أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد. ابن عجلان: هو محمد: مضت ترجمته: 304. المقبري: هو سعيد بن أبي سعيد.
والحديث رواه أحمد في المسند: 7413، بزيادة في أوله، عن يحيى -وهو القطان- عن ابن عجلان، به، نحوه. وقد بينا هناك تخريجه في أبي داود، والنسائي، والمستدرك للحاكم، وابن حبان.
وذكره السيوطي 1: 253، ونسبه لهؤلاء والطبري، عدا المسند. ونقله ابن كثير 1: 503 عن الطبري، ثم قال: "وقد رواه مسلم في صحيحه". وقد وهم رحمه الله. فإن الحديث ليس في صحيح مسلم، على اليقين. بعد طول التتبع مني ومن أخي السيد محمود.(4/340)
4171 - حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا ابن جريج، قال، أخبرني أبو الزبير: أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا كان أحدكم فقيرًا فليبدأ بنفسه، فإن كان له فضل فليبدأ مع نفسه بمن يعول، ثم إن وجد فضلا بعد ذلك فليتصدق على غيرهم". (1)
4172 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا يزيد بن هرون قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن جابر بن عبد الله قال: أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ ببيضة من ذهب أصابها في بعض المعادن، فقال: يا رسول الله، خذ هذه مني صدقة، فوالله ما أصبحت أملك غيرها! فأعرض عنه، فأتاه من ركنه الأيمن فقال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فأعرض عنه. ثم قال له مثل ذلك، فقال: هاتها! مغضبًا، فأخذها فحذفه بها حذفة لو أصابه شجَّه أو عقَره، ثم قال:"يجيء أحدكم بماله كله يتصدق به، ويجلس يتكفف الناس!! إنما الصدقة عن ظهر غِنًى. (2)
__________
(1) الحديث: 4171 -رواه أحمد في المسند: 14323 (3: 305 حلبي) ، بنحوه، مع قضة في أوله - من طريق أيوب، عن أبي الزبير، عن جابر.
ورواه مسلم 1: 274، نحو رواية المسند - من طريق الليث بن سعد، عن أبي الزبير. ثم من طريق أيوب، عن أبي الزبير.
وذكره ابن كثير 1: 503، ونسبه لمسلم. وذكره السيوطي 1: 254، ونسبه لمسلم والنسائي.
(2) الحديث: 4172 - عاصم بن عمر بن قتادة: مضى في: 1519. ووقع في المطبوعة"عاصم عن عمر بن قتادة". وهو خطأ واضح.
والحديث رواه أبو داود: 1673، عن موسى بن إسمعيل، عن حماد -وهو ابن سلمة- عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد. ورواه الحاكم في المستدرك 1: 413، من طريق موسى بن إسمعيل، به وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي 1: 253- 254، وزاد نسبته لابن سعد، وهو في طبقات ابن سعد 4/2/19، من وجه آخر، من رواية"عمر بن الحكم بن ثوبان"، عن جابر.
حذفه بالشيء رماه به. تكفف الناس: تعرض لمعروفهم باسطا يده، ليتلقى منهم ما يتصدقون به عليه. وقوله: "عن ظهر غني" أي عن غنى يستقيم به أمره ويقوى.(4/341)
4173 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إبراهيم المخرّمي قال: سمعت أبا الأحوص يحدث، عن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ارضَخْ من الفضل، وابدأ بمن تعول، ولا تُلام على كَفاف". (1)
* * *
= وما أشبه ذلك من الأخبار التي يطول باستقصاء ذكرها الكتاب.
فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم لأمته، الصدقةَ من أموالهم بالفضل
__________
(1) الحديث: 4173 - إبرهيم المخرمي: هكذا ثبت في المطبوعة، ولا يوجد راو -فيما أعلم- بهذا الاسم. والراجح عندي، بل الذي أكاد أوقن به، أنه محرف عن"إبراهيم الهجري"، فالحديث حديثه. والرسم مقارب. والهجري: هو إبرهيم بن مسلم العبدي الكوفي، وهو ضعيف. ضعفه ابن عيينة، والبخاري، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.
وهذا الحديث جزء من حديث، ذكره السيوطي 1: 254، قال: "أخرج أبو يعلى، والحاكم وصححه، عن عبد الله بن مسعود، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الأيدي ثلاثة، فيد الله العليا، ويد المعطي التي تليها، ويد السائل السفلى إلى يوم القيامة، فاستعفف عن السؤال وعن المسألة ما استطعت، فإن أعطيت خيرًا فلير عليك، وابدأ بمن تعول، وارضخ من الفضل، ولا تلام على الكفاف".
وكذلك ذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2: 10، وقال: "رواه أبو يعلى، والغالب على روايته التوثيق. ورواه الحاكم، وصحح إسناده".
وهكذا حكى السيوطي والمنذري تصحيح الحاكم إياه. ولنا على ذلك تعقيب: أنه ليس في المستدرك تصحيحه -كما سيأتي. فإن لم يكن السيوطي نقل عن المنذري وقلده، يكن في نسخة المستدرك المطبوعة سقط التصحيح الذي حكياه.
وأول الحديث إلى قوله"ويد السائل السفلى" -رواه أحمد في المسند: 4261، عن القاسم بن مالك، عن الهجري، عن أبي الأحوص، عن عبد الله -وهو ابن مسعود- مرفوعًا. وذكر الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 97 أوله عن المسند وأبي يعلى، وزيادة آخره عن أبي يعلى. وقال: "ورجاله موثقون".
ورواية الحاكم إياه - هي في المستدرك 1: 408، بثلاثة أسانيد، لم يذكر لفظه فيها كاملا. بل ذكر في أولها أنه سقط عليه تمام الحديث، ثم ذكر في الآخرين بعض الحديث، ولم يذكره كله. ولم يذكر فيه تصحيحًا ولا تضعيفًا، ولا قال الذهبي شيئًا في ذلك في مختصره.
رضخ له من ماله يرضخ رضخًا، ورضخ له رضيخة: أعطاه القليل اليسير. والكفاف: هو الذي يكف المرء عن سؤال الناس: يقول: إذا لم يكن عندك فضل مال تبذله، لم تلم على أن لا تعطي أحدًا.(4/342)
عن حاجة المتصدق، فالفضل من ذلك هو"العفو" من مال الرجل، (1) إذْ كان"العفو"، في كلام العرب، في المال وفي كل شيء: هو الزيادة والكثرة - ومن ذلك قوله جل ثناؤه:" حتى عَفَوْا" بمعنى: زادوا على ما كانوا عليه من العدد وكثروا، (2) ومنه قول الشاعر: (3)
وَلكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ منا ... بِأَسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ (4)
يعني به: كثيرات الشحوم. ومن ذلك قيل للرجل:"خذ ما عفا لك من فلان"، يراد به ما فضل فصفا لك عن جُهده بما لم يَجْهده = (5) كان بيِّنًا أنّ الذي أذن الله به في قوله:" قل العفو" لعباده من النفقة، فأذنهم بإنفاقه إذا أرادوا إنفاقه، هو الذي بيّن لأمته رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقوله:"خير الصدقة ما أنفقت عن غنى"، وأذِنهم به.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما تنكر أن يكون ذلك"العفو" هو الصدقة المفروضة؟ (6)
__________
(1) في المطبوعة: "الفضل من ذلك. . . " بحذف الفاء، والفاء لا بد منها ليستقيم الكلام.
(2) انظر ما قاله في معنى"عفا" فيما سلف: 3: 370.
(3) هو لبيد بن ربيعة.
(4) ديوانه قصيدة 2: 19، ثم يأتي في التفسير 9: 6 (بولاق) ، وفي المطبوعة هنا"يعض السيف منا" وهو خطأ، والصواب ما في الموضع الآخر والديوان. وهذا البيت من أبيات يفخر فيها بإكرامهم الضيف، ولا سيما في الشتاء، يقول إذا جاء الشتاء ببرده وقحطه: فَلاَ نَتَجَاوَزُ العَطِلاتِ مِنْها ... إلى البَكْرِ المُقَارِبِ والكَزُوم
ولكنّا نُعِضّ السَّيْف. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والضمير في"منها" للإبل. يقول: لا نتجاوز عند الذبح فندع النوق الطوال الأعناق السمينات، إلى بكر دنيء أو بكر هرم، ولكننا نعض السيف، أي نضرب بالسيف حتى يعض في اللحم -بعراقيب السمينات العظام الأسنمة، وهي الكوم، جمع كوماء.
(5) قوله: "كان بينا. . . " جواب قوله: "فإذا كان الذي أذن صلى الله عليه وسلم. . . " كان بينا. . . "، وأذن هنا بمعنى: أعلم وأخبر.
(6) "الصدقة المفروضة" يعني: الزكاة المفروضة.(4/343)
قيل: أنكرنا ذلك لقيام الحجة على أنّ من حلَّت في ماله الزكاة المفروضة فهلكَ جميعُ ماله إلا قَدْرُ الذي لَزِم مالَه لأهل سُهْمان الصدقة، أنّ عليه أن يسلمه إليهم، إذا كانَ هلاكُ ماله بعد تفريطه في أداء الواجب كان لهم في ماله، إليهم. (1) وذلك لا شك أنه جُهْده - إذا سلّمه إليهم - لا عفوُه. وفي تسمية الله جل ثناؤه ما علَّم عبادَه وَجْه إنفاقهم من أموالهم"عفوا"، ما يبطل أن يكون مستحقًا اسم"جهد" في حالة. وإذا كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ فسادُ قول من زعم أن معنى"العفو" هو ما أخرجه رب المال إلى إمامه فأعطاه، كائنًا ما كان من قليل ماله وكثيره، وقولِ من زعم أنه الصدقة المفروضة. وكذلك أيضًا لا وَجه لقول من يقول إن معناه:"ما لم يتبيّن في أموالكم"، (2) لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له أبو لبابة:"إنّ من توبتي أن أنخلع إلى الله ورسوله من مالي صدقة"، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"يكفيك من ذلك الثلث! "، وكذلك روي عن كعب بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له نحوًا من ذلك. (3) والثلث لا شك أنه بيِّنٌ فَقْدُه من مال ذي المال، ولكنه عندي كما قال جل ثناؤه: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [سورة الفرقان: 67] ، وكما قال جل ثناؤه لمحمد صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا) [سورة الإسراء: 29] ، وذلك هو ما حدَّه صلى الله عليه وسلم فيما دون ذلك على قدر المال واحتماله.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في هذه الآية: هل هي منسوخة أم ثابتة الحكم على العباد؟ فقال بعضهم: هي منسوخة، نسختها الزكاة المفروضة.
* ذكر من قال ذلك:
4174 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: كان هذا قبل أن تفرض الصدقة.
4175 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، قال: لم تفرض فيه فريضة معلومة. ثم قال: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ) [سورة الأعراف: 199] ، ثم نزلت الفرائض بعد ذلك مسمَّاةً.
4176 - حدثني موسى بن هرون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" يسألونك ماذا ينفقون قل العفو"، هذه نسختها الزكاة.
* * *
وقال آخرون: بل مُثْبَتة الحكم غير منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
4177 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس = عن مجاهد - شكّ أبو عاصم قال - قال: العفو الصدقة المفروضة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قاله ابن عباس على ما رواه عنه عطية، من أن قوله:" قل العفو" ليس بإيجاب فرض فُرض من الله حقًا في ماله، ولكنه إعلامٌ منه ما يرضيه من النفقة مما يُسخطه، جوابًا منه لمن سأل نبيه
__________
(1) في المطبوعة: "الواجب كان لهم ما له إليهم"، وزيادة"في" واجبة لتمام المعنى واستقامته يعني:. . . أداء الواجب في ماله إليهم، وقوله: "كان لهم" صفة لقوله"الواجب".
(2) انظر هذا القول فيما سلف قريبًا ص: 338.
(3) حديث توبة أبي لبابة بن المنذر، وانخلاعه من ماله في المسند 3: 452، 502 قال، لما تاب الله عليه في أمر غزوة بني قريظة (انظر سيرة ابن هشام 3: 247، 248) يا رسول الله إن من توبتي أن أهجر دار قومي، وأن أنخلع من مالي صدقة لله ولرسوله؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يجزئ عنك الثلث.
وأما خبر كعب بن مالك، فهو خبر الثلاثة الذين خلفوا (رواه البخاري في غزوة بني قريظة 6: 7) ، فلما تاب الله عليه قال: إن من توبتي أن أنخلع من مالي صدقة إلى رسوله! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك فهو خير لك.(4/344)
محمدًا صلى الله عليه وسلم عما فيه له رضًا. فهو أدبٌ من الله لجميع خلقه على ما أدَّبهم به في الصدقات غير المفروضات ثابتُ الحكم، غيرُ ناسخ لحكم كان قبله بخلافه، ولا منسوخ بحكم حدث بعده. فلا ينبغي لذي ورع ودين أن يتجاوز في صدقات التطوعَ وهباته وعطايا النفل وصدقته، ما أدَّبهم به نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله:"إذا كان عند أحدكم فضل فليبدأ بنفسه، ثم بأهله، ثم بولده"، ثم يسلك حينئذ في الفضل مسالكه التي ترضي الله ويحبها. وذلك هو"القَوام" بين الإسراف والإقتار، الذي ذكره الله عز وجل في كتابه = إن شاء الله تعالى.
* * *
ويقال لمن زعم أن ذلك منسوخ: ما الدلالة على نسخه، وقد أجمع الجميعُ لا خلاف بينهم: على أن للرجل أن ينفق من ماله صدقةً وهِبهً ووصيةً، الثلثَ؟ فما الذي دل على أن ذلك منسوخ؟
فإن زعم أنه يعني بقوله:"إنه منسوخ"، أنّ إخراج العفو من المال غير لازم فرضًا، وإن فرض ذلك ساقطٌ بوجود الزكاة في المال =
= قيل له: وما الدليل على أن إخراج العفو كان فرضًا فأسقطه فرضُ الزكاة، ولا دلالة في الآية على أن ذلك كان فرضًا، إذ لم يكن أمرٌ من الله عز ذكره، بل فيها الدلالة على أنها جوابُ ما سأل عنه القوم على وَجه التعرف لما فيه لله الرضا من الصدقات؟
ولا سبيل لمدَّعي ذلك إلى دلالة توجب صحة ما ادَّعى.
* * *
قال أبو جعفر: وأما القرأة فإنهم اختلفوا في قراءة"العفو". فقرأته عامة قرأة الحجاز وقرأة الحرمين وعُظم قرأة الكوفيين:" قل العفو" نصبًا. وقرأه بعض قرأة البصريين:"قل العفو" رفعًا.
فمن قرأه نصبًا جعل"ماذا" حرفًا واحدًا، ونصبه بقوله:" ينفقون"، على ما قد بيَّنت قبل(4/346)
- (1) ثم نصب"العفو" على ذلك. فيكون معنى الكلام حينئذ: ويسألونك أيّ شيء ينفقون؟
ومن قرأ رفعًا جعل"ما" من صلة"ذا"، ورفعوا"العفو". فيكون معنى الكلام حينئذ: ما الذي ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، العفو.
ولو نصب"العفو"، ثم جعل"ماذا" حرفين، بمعنى: يسألونك ماذا ينفقون؟ قل: ينفقون العفو = ورفع الذين جعلوا"ماذا" حرفًا واحدًا، بمعنى: ما ينفقون؟ قل: الذي ينفقون، خبرًا = (2) كان صوابًا صحيحًا في العربية.
وبأي القراءتين قرئ ذلك، فهو عندي صواب، (3) لتقارب معنييهما، مع استفاضة القراءة بكل واحدة منهما. غير أن أعجبَ القراءتين إليّ، وإن كان الأمر كذلك، قراءةُ من قرأه بالنصب، لأن من قرأ به من القرأة أكثر، وهو أعرف وأشهرُ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله عز ذكره:" كذلك يُبين الله لكم الآيات"، هكذا يبين = أي: ما بينت لكم أعلامي وحُججي - وهي"آياته" - في هذه السورة، وعرَّفتكم فيها ما فيه خلاصكم من عقابي، وبينت لكم حدودي وفرائضي، ونبَّهتكم فيها على الأدلة على وحدانيتي، ثم على حُجج رسولي إليكم، فأرشدتكم إلى ظهور
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء: 292، 293.
(2) يعني: ورفعوه على أنه خبر"الذي ينفقون".
(3) في المطبوعة: "قرئ ذلك عندي صواب" والصواب زيادة"فهو"، أو يقول: "كان عندي صوابا". .(4/347)
الهدى = فكذلك أبين لكم في سائر كتابي الذي أنزلته على نبيِّي محمد صلى الله عليه وسلم آياتي وحُججي وأوضحها لكم، لتتفكروا في وعدي ووعيدي، وثوابي وعقابي، فتختاروا طاعتي التي تنالون بها ثوابي في الدار الآخرة، والفوز بنعيم الأبد، (1) على القليل من اللذات واليسير من الشهوات، بركوب معصيتي في الدنيا الفانية، التي من ركبها كان معاده إليّ، ومصيره إلى ما لا قِبَل له به من عقابي وعذابي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4178 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي، عن ابن عباس:" كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، قال: يعني في زوال الدنيا وفنائها، وإقبال الآخرة وبقائها.
4179 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، قال يقول: لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة، فتعرفون فضل الآخرة على الدنيا.
4180 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قوله:" كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، قال: أما الدنيا، فتعلمون أنها دار بلاء ثم فناء، والآخرة دارُ جزاء ثم بقاء، فتتفكرون فتعملون للباقية منهما = قال: وسمعت أبا عاصم يذكر نحو هذا أيضًا.
4181 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة
__________
(1) في المطبوعة: "فتجاوزوا طاعتي. . . " وهو خطأ، والصواب ما أثبت. يقال: "اخترت فلانًا على فلان"، بمعنى آثرته عليه. وعدي"الاختيار" بقوله"على" لتضمنها معنى: "فضلت".(4/348)
قوله: " كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة"، وأنه من تفكر فيهما عرف فضل إحداهما على الأخرى، وعرف أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء، وأن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء، فكونوا ممن يَصْرم حاجة الدنيا لحاجة الآخرة.
* * *(4/349)
فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}
اختلف أهل التأويل فيمَ نزلت هذه الآية. (1)
فقال بعضهم: نزلت [في الذين عزلوا أموال اليتامى الذين كانوا عندهم، وكرهوا أن يخالطوهم في مأكل أو في غيره، وذلك حين نزلت (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة الأنعام: 152] ، وقوله: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا) [سورة النساء: 10] .
* ذكر من قال ذلك] : (2)
4182 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن إسرائيل، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [سورة الأنعام: 152، والإسراء: 34] عزلوا أموال اليتامى، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت:" وإن تخالطوهم فإخوانكم، والله يعلمَ المفسدَ من المصْلح، ولو شاء الله لأعنتكم"، فخالطوهم. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "فيما نزلت"، والأجود ما أثبت.
(2) ما بين القوسين زيادة استظهرتها من سياق الكلام، واستجزت أن أزيدها بين الأقواس في متن الكتاب، حتى لا تنقطع على القارئ قراءته، وكان مكانها في المطبوعات والمخطوطات بياض.
(3) الأثر: 4182 - أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 278 مطولا، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي. وكان في المطبوعة. "فإخوانكم ولو شاء لأعنتكم"، فأتممت الآية على تنزيلها.(4/349)
4183 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، و (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [سورة النساء: 10] ، انطلق من كان عنده يتيمٌ فعزل طعامَه من طعامه، وشرابه من شرابه، فجعل يفضُل الشيء من طعامه فيُحبس له حتى يأكله أو يفسُد. فاشتدَّ ذلك عليهم، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:" ويسألونك عن اليتامى قل إصْلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم"، فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. (1)
4184 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن عطاء، عن سعيد قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، قال: كنا نصنع لليتيم طعامًا فيفضُل منه الشيء، فيتركونه حتى يَفسد، فأنزل الله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم". (2)
4185- حدثنا يحيى بن داود الوسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم قال: سئل عبد الرحمن بن أبي ليلى عن مال اليتيم فقال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، اجتُنبت مخالطتهم، واتقوا كل شيء، حتى اتقوا الماء، فلما نزلت" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: فخالطوهم.
4186 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ويسألونك عن اليتامى" الآية كلها، قال: كان الله أنزل قبل ذلك في
__________
(1) الأثر: 4183 - أخرجه أبو داود 3: 155 رقم: 2871، والنسائي 6: 256.
(2) الأثر: 4184 - قوله"عن سعيد قال" يعني قال ابن عباس، كما هو ظاهر الخبر.(4/350)
"سورة بني إسرائيل" (1) (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في مأكل ولا في غيره، فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة فقال:" وإن تخالطوهم فإخوانكم".
4187 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: لما نزلت: (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) ، اعتزل الناس اليتامى فلم يخالطوهم في مأكل ولا مشرب ولا مال، قال: فشق ذلك على الناس، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله عز وجل:" ويسألونك عن اليتامى قُل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم".
4188 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم" الآية، قال: فذكر لنا والله أعلمُ أنه أنزل في"بني إسرائيل": (2) (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ) فكبُرت عليهم، فكانوا لا يخالطونهم في طعام ولا شراب ولا غير ذلك. فاشتد ذلك عليهم، فأنزل الله الرخصة فقال:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم"، يقول: مخالطتهم في ركوب الدابة وشرب اللبن وخدمة الخادم. يقول: الوليّ الذي يلي أمرهم، فلا بأس عليه أن يركب الدابة أو يشرب اللبن أو يخدمه الخادم.
* * *
وقال آخرون في ذلك بما:-
4189 - حدثني عمرو بن علي قال، حدثنا عمران بن عيينة قال، حدثنا عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله:" إنّ الذينَ يأكلون أموالَ اليتامى ظُلما إنما يأكلون في بطونهم" الآية، قال: كان يكون في حِجْر الرجل اليتيمُ فيعزل طعامه وشرابه وآنيته، فشقّ ذلك على المسلمين، فأنزل
__________
(1) "سورة بني إسرائيل" هي"سورة الإسراء".
(2) "سورة بني إسرائيل" هي"سورة الإسراء".(4/351)
الله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح"، فأحل خُلطتهم. (1)
4190 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي قال: لما نزلت هذه الآية:" إنّ الذين يأكلونَ أموالَ اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسَيصْلونَ سعيرًا"، قال: فاجتنب الناس الأيتامَ، فجعل الرجل يعزل طعامه من طعامه، وماله من ماله، وشرابه من شرابه. قال: فاشتد ذلك على الناس، فنزلت:" وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح". قال الشعبي: فمن خالط يتيما فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل من ماله فلا يفعل.
4191 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس: قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير"، وذلك أن الله لما أنزل:" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظُلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصْلون سعيرًا"، كره المسلمون أن يضمُّوا اليتامى، وتحرَّجوا أن يخالطوهم في شيء، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم".
4192 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: سألت عطاء بن أبي رباح عن قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: لما نزلت"سورة النساء"، عزل الناس طعامهم فلم يخالطوهم. قال: ثم جاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: إنا يشقُّ علينا أن نعزل طعام اليتامى وهم يأكلون معنا! فنزلت:" وإن تخالطوهم فإخوانكم" = قال ابن جريج، وقال مجاهد: عزلوا طعامهم عن طعامهم وألبانهم عن ألبانهم وأدْمهم عن أدْمِهم، (2) فشقّ ذلك عليهم، فنزلت:" وإن تخالطوهم
__________
(1) الأثر: 4189- أخرجه النسائي 6: 256- 257. وفي المطبوعة: "فأحل لهم خلطم والهصوا من النسائي.
(2) الأدم (بضم فسكون) والإدام: ما يؤتدم به، أي ما يؤكل بالخبر أي شيء كان، وفي الحديث: "نعم الإدام الخل".(4/352)
فإخوانكم"، قال: مخالطة اليتيم في المراعي والأدْم = قال ابن جريج، وقال ابن عباس: الألبان وخِدمة الخادم وركوب الدابة = قال ابن جريج: وفي المساكن، قال: والمساكن يومئذ عزيزةٌ.
4193 - حدثنا محمد بن سنان قال، حدثنا الحسين بن الحسن الأشقر قال، أخبرنا أبو كدينة، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: لما نزلت:" ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن" و" إنّ الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا"، قال: اجتنب الناس مالَ اليتيم وطعامه، حتى كان يفسُد، إنْ كان لحمًا أو غيره. فشقّ ذلك على الناس، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير" (1)
4194 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد = أو عيسى، عن قيس بن سعد، شك أبو عاصم - عن مجاهد:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: مخالطة اليتيم في الرِّعْي والأدْم. (2)
* * *
وقال آخرون: بل كان اتقاء مال اليتيم واجتنابه من أخلاق العرب، فاستفتوا في ذلك لمشقته عليهم، فأفتوا بما بيَّنه الله في كتابه.
* ذكر من قال ذلك:
4195 - حدثني موسى بن هرون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير وإن تخالطوهم فإخوانكم والله يعلم المفسد من المصلح"، قال: كانت العرب يشددون في اليتيم حتى لا يأكلوا معه في قصعة واحدة، ولا يركبوا له بعيرًا، ولا يستخدموا له خادمًا،
__________
(1) الأثر: 4193- أخرجه النسائي 6: 256.
(2) الرعي (بكسر الراء وسكون العين) : الكلأ نفسه، كالمرعى.(4/353)
فجاءوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه عنه، فقال:" قل إصلاح لهم خيرٌ"، يصلح له ماله وأمره له خيرٌ، وإن يخالطه فيأكل معه ويطعمه ويرْكب راحلته ويحمله ويستخدم خادمه ويخدمه، فهو أجودُ" والله يعلم المفسدن من المصلح".
4196 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ويسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خيرٌ" إلى" إن الله عزيز حكيم"، وإن الناس كانوا إذا كان في حِجْر أحدهم اليتيمُ جعل طعامه على ناحية، ولبنه على ناحية، مخافة الوِزر، وإنه أصاب المؤمنين الجَهْد، فلم يكن عندهم ما يجعلون خدمًا لليتامى، فقال الله:" قل إصلاحٌ لهم خير وإن تخالطوهم" إلى آخر الآية.
4197 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" ويسألونك عن الناس"، كانوا في الجاهلية يعظِّمون شأنَ اليتيم، فلا يمسُّون من أموالهم شيئًا، ولا يركبون لهم دابة، ولا يطعمون لهم طعامًا. فأصابهم في الإسلام جَهْدٌ شديد، حتى احتاجوا إلى أموال اليتامى، فسألوا نبي الله صلى الله عليه وسلم عن شأنِ اليتامَى وعن مخالطتهم، فأنزل الله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، يعني"بالمخالطة": ركوب الدابة، وخدمة الخادم، وشربَ اللبن.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: ويسألك يا محمد أصحابك عن مال اليتامى، وخلطهم أموالهم به في النفقة والمطاعمة والمشاربة والمساكنة والخدمة، فقل لهم: تفضُّلكم عليهم بإصلاحكم أموالهم - من غير مَرْزِئة شيء من أموالهم، (1) وغير أخذ عوض من أموالهم على إصلاحكم ذلك لهم - خيرُ لكم عند الله وأعظمُ
__________
(1) يقال: "رزأه في ماله رزءًا (بضم فسكون) ومرزئة (بفتح الميم وسكون الراء وكسر الزاي) : أصاب منه خيرًا ما كان، فنقص من ماله.(4/354)
لكم أجرًا، لما لكم في ذلك من الأجر والثواب = وخيرٌ لهم في أموالهم في عاجل دنياهم، لما في ذلك من توفر أموالهم عليهم ="وإنْ تخالطوهم" فتشاركوهم بأموالكم أموالهم في نفقاتكم ومطاعمكم ومشاربكم ومساكنكم، فتضمُّوا من أموالهم عوضًا من قيامكم بأمورهم وأسبابهم وإصلاح أموالهم، فهم إخوانكم، والإخوان يعين بعضهم بعضًا، ويكنُفُ بعضهم بعضًا، (1) فذو المال يعينُ ذا الفاقة، وذو القوة في الجسم يعين ذا الضعف. يقول تعالى ذكره: فأنتم أيها المؤمنون وأيتامكم كذلك، إن خالطتموهم بأموالكم = فخلطتم طعامكم بطعامهم، وشرابكم بشرابهم، وسائر أموالكم بأموالهم، فأصبتم من أموالهم فَضْل مَرْفَق بما كان منكم من قيامكم بأموالهم وولائهم، ومعاناة أسبابهم، على النظر منكم لهم نظرَ الأخ الشفيق لأخيه، العامل فيما بينه وبينه بما أوجب الله عليه وألزمه = فذلك لكم حلالٌ، لأنكم إخوان بعضكم لبعض، كما:-
4198 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، قال: قد يخالط الرجل أخاه.
4199 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي مسكين، عن إبراهيم قال: إني لأكره أن يكون مال اليتيم كالعُرة. (2)
4200 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم، عن عائشة قالت: إنى لأكره أن يكون مالُ اليتم عندي عُرَّةً، حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي. (3)
* * *
__________
(1) كنفه يكنفه: حاطه وصانه وكان إلى جنبه وعاونه، والمكانفة: المعاونة. وأصلها من"الكنف"، وهو حضن الرجل. ويقال: "هو في كنف الله"، أي في كلاءته وحفظه وحرزه ورعايته.
(2) العرة: القذر وعذرة الناس، يريد: أن يتجنبه تجنب القذر.
(3) الأثر: 4200- في تفسير ابن كثير 1: 505، والدر المنثور 1: 256، ولم أجده في مكان آخر. و"العرة"، سلف شرحها. وفي تفسير ابن كثير"عندي حدة"، ولعل صوابها ما في التفسير.(4/355)
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قال:" فإخوانُكم"، فرفع"الإخوان"؟ وقال في موضع آخر: (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا) [سورة البقرة: 239]
قيل: لافتراق معنييهما. وذلك أنّ أيتام المؤمنين إخوان المؤمنين، خالطهم المؤمنون بأموالهم أو لم يخالطوهم. فمعنى الكلام: وإن تخالطوهم فهم إخوانكم. و"الإخوان" مرفوعون بالمعنى المتروك ذكره، وهو"هم" لدلالة الكلام عليه = وأنه لم يرد"بالإخوان" الخبر عنهم أنهم كانوا إخوانًا من أجل مخالطة وُلاتهم إياهم. ولو كان ذلك المراد، لكانت القراءة نصبًا، وكان معناه حينئذ: وإن تخالطوهم فخالطوا إخوانكم، ولكنه قرئ رفعًا لما وصفت: من أنهم إخوان للمؤمنين الذين يلونهم، خالطوهم أو لم يخالطوهم.
وأما قوله: (فرجالا أو رُكبانًا) ، فنصبٌ، لأنهما حالان للفعل، غير دائمين، (1) ولا يصلح معهما"هو". وذلك أنك لو أظهرت"هو" معهما لاستحال الكلام. ألا ترى أنه لو قال قائل:"إن خفت من عدوك أن تصلي قائمًا فهو راجل أو راكب"، لبطل المعنى المرادُ بالكلام؟ وذلك أن تأويل الكلام. فإن خفتم أن تصلوا قيامًا من عدوكم، فصلوا رجالا أو ركبانًا. ولذلك نصبه إجراءً على ما قبله من الكلام، كما تقول في نحوه من الكلام:"إن لبست ثيابًا فالبياض" فتنصبه، لأنك تريد: إن لبست ثيابًا فالبس البياض - ولستَ تريد الخبر عن أن جميع ما يلبس من الثياب فهو البياض. ولو أردت الخبر عن ذلك لقلت:"إن لبستَ ثيابًا فالبياضُ" رفعًا، إذ كان مخرج الكلام على وجه الخبر منك عن اللابس، أنّ كل ما يلبس من الثياب فبياضٌ. لأنك تريد حينئذ: إن لبست ثيابًا فهي بياضٌ. (2)
__________
(1) في المطبوعة"غير ذاتيين":، وهو تصحيف فاحش لا معنى له، والصواب ما أثبت والحال غير الدائمة، هي الحال المشتقة المنتقلة، والدائم هو الجامد والثابت.
(2) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا 1: 141- 142.(4/356)
فإن قال: فهل يجوز النصب في قوله:" فإخوانكم".
قيل: جائز في العربية. فأما في القراءة، فإنما منعناه لإجماع القرأة على رفعه. وأما في العربية، فإنما أجزناه، لأنه يحسن معه تكريرُ ما يحمل في الذي قبله من الفعل فيهما: وإن تخالطوهم، فإخوانكم تخالطون - فيكون ذلك جائزًا في كلام العرب. (1)
* * *
(2)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن ربكم قد أذن لكم في مخالطتكم اليتامى على ما أذن لكم به، (3) فاتقوا الله في أنفسكم أن تخالطوهم وأنتم تريدون أكل أموالهم بالباطل، وتجعلون مخالطتكم إياهم ذريعة لكم إلى إفساد أموالهم وأكلها بغير حقها، فتستوجبوا بذلك منه العقوبة التي لا قِبل لكم بها، فإنه يعلم من خالط منكم يتيمه - فشاركه في مطعمه ومشربه ومسكنه وخدمه ورعاته في حال مخالطته إياه - ما الذي يقصد بمخالطته إياه: إفسَاد ماله وأكله بالباطل، أم إصلاحه وتثميره؟ لأنه لا يخفى عليه منه شيء، (4) ويعلم أيُّكم المريد إصلاح ماله، من المريد إفسادَه. كما:-
__________
(1) انظر تفصيل ذلك في معاني القرآن للفراء أيضًا 1: 141- 142.
(2) من أول تفسير هذه الآية يبدأ الجزء الرابع من المخطوطة العتيقة التي اعتمدناها. وأولها:
{بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيم}
ربّ أَعِن برَحْمَتِك}
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "إن ربكم وإن أذن لكم. . . " وهو كلام مختل، وكأن الذي أثبت قريب من الصواب.
(4) في المخطوطة"لا نها عليه منه شيء"، وفيها تصحيف لم أتبينه، والذي في المطبوعة جيد في سياق المعنى.(4/357)
4201 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله تعالى ذكره:" والله يعلم المفسد من المصلح" قال: الله يعلم حين تخلط مالك بماله: أتريد أن تصلح ماله، أو تفسده فتأكله بغير حق؟
4202 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص بن غياث قال، حدثنا أشعث، عن الشعبي:" والله يعلم المفسد من المصلح"، قال الشعبي: فمن خالط يتيمًا فليتوسَّع عليه، ومن خالطه ليأكل ماله فلا يفعلْ. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولو شاء الله لحرَّم ما أحله لكم من مخالطة أيتامكم بأموالكم أموالَهم، فجَهَدكم ذلك وشقّ عليكم، ولم تقدروا على القيام باللازم لكم من حق الله تعالى والواجب عليكم في ذلك من فرضه، ولكنه رخَّص لكم فيه وسهله عليكم، رحمةً بكم ورأفةً.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" لأعنتكم". فقال بعضهم بما:-
4203 - حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن قيس بن سعد - أو عيسى، عن قيس بن سعد - عن مجاهد = شك أبو عاصم = في قول الله تعالى ذكره:" ولو شاء الله لأعنتكم" لحرم عليكم المرعى والأدْم.
__________
(1) الأثر: 4202- في المخطوطة والمطبوعة: "حدثني أبو السائب، قال حدثنا أشعث. . . "، وهو إسناد ناقص، أسقط"قال حدثنا حفص بن غياث"، وقد مضى هذا الإسناد مرارًا، أقربه: 4190، وهذا الأثر مختصره.(4/358)
قال أبو جعفر: يعني بذلك مجاهد: رعي مواشي والي اليتيم مع مواشي اليتيم، والأكلَ من إدامه. لأنه كان يتأول في قوله:" وإن تخالطوهم فإخوانكم"، أنه خُلْطة الوليّ اليتيم بالرِّعْي والأدْم. (1)
* * *
4204 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" ولو شاء الله لأعنتكم"، يقول: لو شاء الله لأحرجكم فضيَّق عليكم، ولكنه وسَّع ويسَّر فقال: (وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ) [سورة النساء: 6]
4205 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده:" ولو شاء الله لأعنتكم"، يقول: لجهدكم، فلم تقوموا بحقّ ولم تؤدُّوا فريضة.
4206 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع نحوه = إلا أنه قال: فلم تعملوا بحقّ.
4207 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولو شاء الله لأعنتكم"، لشدد عليكم.
4208 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قول الله:" ولو شاء الله لأعنتكم"، قال: لشقّ عليكم في الأمر. ذلك العنتُ.
4209 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قوله:" ولو شاء الله لأعنتكم"، قال: ولو شاء الله لجعل ما أصبتُم من أموال اليتامى مُوبقًا.
* * *
وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرت عنه، وإن اختلفت ألفاظ قائليها فيها، فإنها متقارباتُ المعاني. لأن من حُرِّم عليه شيء فقد ضُيِّق عليه في ذلك
__________
(1) انظر الأثر السالف رقم: 4194.(4/359)
الشيء، ومن ضُيق عليه في شيء فقد أحْرِج فيه، ومن أحرج في شيء أو ضيِّق عليه فيه فقد جُهِد. وكل ذلك عائد إلى المعنى الذي وصفت من أن معناه: الشدة والمشقة.
ولذلك قيل:"عَنِت فلانٌ" = إذا شق عليه الأمر، وجهده، = (1) "فهو يعنَتُ عَنَتًا"، كما قال تعالى ذكره: (عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ) [سورة التوبة: 128] ، يعني ما شق عليكم وآذاكم وجَهدكم، ومنه قوله تعالى ذكره: (ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ) [سورة النساء: 25] . فهذا إذا عَنِت العانِت. فإن صيَّره غيره كذلك، قيل:"أعنته فلانٌ في كذا" = إذ جهده وألزمه أمرًا جهده القيام به ="يُعْنِته إعناتًا". فكذلك قوله:" لأعنتكم" معناه: لأوجب لكم العنَت بتحريمه عليكم ما يَجْهدكم ويحرجكم، مما لا تطيقون القيام باجتنابه، وأداء الواجب له عليكم فيه.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: لأوبقكم وأهلككم.
* ذكر من قال ذلك:
4210 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا طلق بن غنام، عن زائدة، عن منصور، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قرأ علينا:" ولو شاء الله لأعنتكم"، قال ابن عباس: ولو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقًا.
4211 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن فضيل - وجرير، عن منصور = وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور = عن الحكم،
__________
(1) في المطبوعة: "عنت فلانًا" وهو خطأ، والفعل لازم، كما سيأتي. وفي المخطوطة والمطبوعة: "إذا شق عليه وجهده"، والصواب زيادة"الأمر".(4/360)
عن مقسم، عن ابن عباس:" ولو شاء الله لأعنتكم" قال: لجعل ما أصبتم مُوبقًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إن الله"عزيز" في سلطانه، لا يمنعه مانع مما أحل بكم من عقوبة لو أعنتكم بما يجهدكم القيام به من فرائضه فقصرتم في القيام به، ولا يقدرُ دافعٌ أن يدفعه عن ذلك ولا عن غيره مما يفعله بكم وبغيركم من ذلك لو فعله، (2) ولكنه بفضل رحمته منَّ عليكم بترك تكليفه إياكم ذلك = وهو"حكيم" في ذلك لو فعله بكم وفي غيره من أحكامه وتدبيره، لا يدخل أفعاله خلل ولا نقصٌ ولا وَهْي ولا عيب، (3) لأنه فِعل ذي الحكمة الذي لا يجهل عواقبَ الأمور فيدخل تدبيره مذمّة عاقبة، كما يدخل ذلك أفعال الخلق لجهلهم بعواقب الأمور، لسوء اختيارهم فيها ابتداءً.
* * *
__________
(1) الأثر: 4211- قد سلف بالإسناد الثاني برقم: 4209.
(2) في المطبوعة: "لو فعله هو لكنه"، والصواب الجيد من المخطوطة.
(3) في المخطوطة: "ولا وهاء ولا عيب". وقد سلف في هذا الجزء 4: 18، 155، والتعليق رقم: 1، وما قيل في خطأ ذلك، واستعمال الفقهاء له.(4/361)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في هذه الآية: هل نزلت مرادًا بها كل مشركة، أم مراد بحكمها بعض المشركات دون بعض؟ (1) وهل نسخ منها بعد وجوب الحكم بها شيء أم لا؟
فقال بعضهم: نزلت مرادًا بها تحريم نكاح كل مشركة على كلّ مسلم من أيّ أجناس الشِّرك كانت، عابدةَ وثن كانت، (2) أو كانت يهودية أو نصرانية أو مجوسية أو من غيرهم من أصناف الشرك، ثم نسخ تحريم نكاح أهل الكتاب بقوله: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ) إلى (وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) [سورة المائدة: 4-5]
* ذكر من قال ذلك:
4212 - حدثني علي بن واقد قال، حدثني عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ"، ثم استثنى نساءَ أهل الكتاب فقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) حِلٌّ لكم (إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) . (3)
4213 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين
__________
(1) في المطبوعة: "أم مرادًا بحكمها"، بالنصب، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "عابدة وثن أو كانت يهودية. . . "، وفي المخطوطة: "عابدة وثن كانت يهودية. . . "، وكلاهما مضطرب، والصواب ما أثبت بزيادة"كانت".
(3) الأثر: 4212- في المخطوطة والمطبوعة"حدثني علي بن واقد، قال حدثني عبد الله ابن صالح"، والصواب ما أثبت. وهذا إسناد كثير الدوران فيما مضى وفيما سيأتي، وأقربه رقم: 4204. والآية في المطبوعة والمخطوطة كما أثبتها، بين جزئي الآية بقوله: "حل لكم"، وإسقاط قوله تعالى"من قبلكم"، وأخشى أن يكون ناسخ قد تصحف عليه فجعل هذه هذه. ولكني أثبت ما اتفقت عليه النسخ.(4/362)
بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ"، فنُسخ من ذلك نساء أهل الكتاب، أحلّهُن للمسلمين.
4214 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن"، قال: نساءُ أهل مكة ومن سواهنّ من المشركين، ثم أحل منهن نساء أهل الكتاب.
4215 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
4216 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" ولا تنكحوا المشركات" إلى قوله:" لعلهم يتذكرون"، قال: حرم الله المشركات في هذه الآية، ثم أنزل في"سورة المائدة"، فاستثنى نساء أهل الكتاب فقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ) .
* * *
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادًا بحكمها مشركات العرب، لم ينسخ منها شيء ولم يُستثن، وإنما هي آية عامٌّ ظاهرُها، خاصٌّ تأويلها. (1)
* ذكر من قال ذلك:
4217 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن"، يعني: مشركات العرب اللاتي ليس فيهن كتاب يقرأنه. (2)
4218 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
__________
(1) في المخطوطة، والمطبوعة: "بل هي آية عامة ظاهرها. . . "، والصواب ما أثبت.
(2) في المخطوطة، "يقرأ به" وتلك أجود.(4/363)
معمر، عن قتادة قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، قال: المشركات، مَنْ ليس من أهل الكتاب، وقد تزوج حذيفة يهودية أو نصرانية. (1)
4219 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن قتادة في قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، يعني مشركات العرب اللاتي ليس لهن كتابٌ يقرأنه.
4220 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ"، قال: مشركات أهل الأوثان.
* * *
وقال آخرون: بل أنزلت هذه الآية مرادًا بها كل مشركة من أيّ أصناف الشرك كانت، غير مخصوص منها مشركةٌ دون مشركة، وثنيةً كانت أو مجوسية أو كتابيةً، ولا نُسخ منها شيء.
* ذكر من قال ذلك:
4221 - حدثنا عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الحميد بن بهرام الفزاري قال، حدثنا شهر بن حوشب قال: سمعت عبد الله بن عباس يقول: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء، إلا ما كان من المؤمنات المهاجرات، وحرَّم كل ذات دين غير الإسلام، وقال الله تعالى ذكره: (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ) [سورة المائدة: 5] ، وقد نكح طلحة بن عبيد الله يهودية، ونكح حذيفة بن اليمان نصرانية، فغضب عمر بن الخطاب رضي الله عنه غضبًا شديدًا، حتى همّ بأن يسطُو عليهما. فقالا نحن نطلِّق يا أمير المؤمنين،
__________
(1) يعني: حذيفة بن اليمان، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صاحب سره صلى الله عليه وسلم في المنافقين. لم يعلمهم أحد إلا حذفة، أعلمه بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر الأثر الآتي برقم: 4221.(4/364)
ولا تغضب! فقال: لئن حل طلاقُهن لقد حل نكاحهن، ولكن أنتزعهن منكم صَغَرة قِماءً. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله قتادة: من أن الله تعالى ذكره عنى بقوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ" من لم يكن من أهل الكتاب من المشركات = وأن الآية عام ظاهرها خاص باطنها، لم ينسخ منها شيء = وأن نساء أهل الكتاب غير داخلات فيها. وذلك أنّ الله تعالى ذكره أحل بقوله: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) - للمؤمنين من نكاح محصناتهن، مثلَ الذي أباح لهم من نساء المؤمنات.
وقد بينا في غير هذا الموضع من كتابنا هذا، وفي كتابنا (كتاب اللطيف من البيان) : (2) أن كل آيتين أو خبرين كان أحدهما نافيًا حكم الآخر في فطرة العقل، فغير جائز أن يقضَى على أحدهما بأنه ناسخ حكم الآخر، إلا بحجة من خبر قاطع للعذر مَجيئُه. وذلك غير موجود، أن قوله: (3) (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) ناسخٌ ما كان قد وجبَ تحريمه من النساء بقوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنّ". فإذ لم يكن ذلك موجودًا كذلك، (4) فقول القائل:"هذه ناسخة هذه"، دعوى لا برهان له عليها، والمدعي دعوَى
__________
(1) الأثر: 4221-"عبد الحميد بن برهام الفزاري"، مترجم في التهذيب، وثقه أبو داود وابن معين وغيرهما، وقال شعبة: صدوق إلا أنه يروي عن شهر بن حوشب، وعابوا عليه كثرة روايته عن شهر، وشهر ضعيف. وقد سلف كلام أخي في توثيق شهر رقم: 1389، وفي عبد الله بن بهرام: 1605. وقال ابن كثير في التفسير 1: 507 بعد روايته الخبر: "هو حديث غريب جدًا، وهذا الأثر غريب عن عمر". وكلام الطبري الآتي بعد قاض بضعفه.
والصغرة جمع صاغر: هو الراضي بالذل. وقماء جمع قميء: وهو الذليل الصاغر وإن لم يكن قصيرًا. والقميء: القصير. وفي المخطوطة وابن كثير"قمأة"، وليس جمعًا قياسيا، ولا هو وارد في كتب اللغة، ولكن إن صح الخبر، فهو إتباع لقوله: "صغرة" ومثله كثير في كلامهم.
(2) انظر ما سلف 2: 534- 535/ ثم 3: 385، 563.
(3) في المطبوعة: "بأن قوله": وأثبت ما في المخطوطة، وهو أعرق في العربية.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن لم يكن ذلك"، وهو خطأ صرف، والصواب ما أثبت. وإلا تناقض كلام أبي جعفر.(4/365)
لا برهان له عليها متحكم، والتحكم لا يعجز عنه أحدٌ. (1)
* * *
وأما القول الذي روي عن شهر بن حوشب، عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه: من تفريقه بين طلحة وحذيفة وامرأتيهما اللتين كانتا كتابيتين، فقولٌ لا معنى له - لخلافه ما الأمة مجتمعة على تحليله بكتاب الله تعالى ذكره، وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم. وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه من القول خلاف ذلك، بإسناد هو أصح منه، وهو ما:-
4222 - حدثني به موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا محمد بن بشر قال، حدثنا سفيان بن سعيد، عن يزيد بن أبي زياد، عن زيد بن وهب قال، قال عمر: المسلم يتزوج النصرانية، ولا يتزوج النصراني المسلمة. (2)
* * *
وإنما ذكره عمر لطلحة وحذيفة رحمة الله عليهم نكاحَ اليهودية والنصرانية، حذارًا من أن يقتدي بهما الناس في ذلك، فيزهدوا في المسلمات، أو لغير ذلك من المعاني، فأمرهما بتخليتهما. كما:
4223 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا الصلت بن بهرام، عن شقيق قال: تزوج حذيفة يهودية، فكتب إليه عمر:" خلِّ سبيلها"، فكتب إليه:" أتزعُمُ أنها حرامٌ فأخلي سبيلها؟ "، فقال:" لا أزعم
__________
(1) حجج أبي جعفر في استدلاله، قاضية له على كل خصم خالفه، وهي حجج بصير بالمعاني، مؤيد بالعقل، قادر على البيان عن المعاني الخفية، والفصل بين المعاني المتداخلة.
(2) الحديث: 4222- هذا إسناد صحيح متصل إلى عمر.
محمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار العبدي الحافظ: ثقة باتفاقهم. سفيان بن سعيد: هو الثوري. زيد بن وهب الجهني. تابعي كبير مخضرم، رحل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقبض وهو في الطريق. وهو ثقة كثير الحديث. له ترجمة في تاريخ بغداد 8: 440- 442، والإصابة 3: 46- 47.
وهذا الخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 172، من طريق سفيان -وهو الثوري- بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير 1: 507- 508، عن رواية الطبري، وصحح إسناده.(4/366)
أنها حرام، ولكن أخاف أن تعاطوا المومسات منهن". (1)
وقد:-
4224 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوَّجون نساءَنا. (2)
* * *
فهذا الخبر - وإن كان في إسناده ما فيه - فالقول به، لإجماع الجميع على صحة القول به، أولى من خبر عبد الحميد بن بهرام، عن شهر بن حوشب.
* * *
فمعنى الكلام إذًا: ولا تنكحوا أيها المؤمنون مشركاتٍ، غير أهل الكتاب، حتى يؤمنَّ فيصدِّقن بالله ورسوله وما أنزل عليه.
* * *
__________
(1) الخبر: 4223- الصلت بن بهرام التيمي الكوفي: ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وقد فصلنا القول في شأنه في صحيح ابن حبان، رقم: 81 بتحقيقنا.
شقيق: هو ابن سلمة الأسدي، التابعي الكبير المشهور. مضى في: 177.
والخبر رواه البيهقي أيضًا 7: 172، من طريق سفيان، بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير 1: 507، عن رواية الطبري، وقال: "وهذا إسناد صحيح. وروى الخلال، عن محمد بن إسماعيل، عن وكيع، عن الصلت، نحوه". وذكره السيوطي 1: 256، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق.
وذكره الجصاص في أحكام القرآن 1: 333، والقرطبي في تفسيره: 3: 68، بدون إسناد. ووقع في المطبوعة هنا، وفي ابن كثير، والسيوطي"المؤمنات"!! بدل"المومسات". وهو تحريف غريب، في ثلاثة كتب. وصوابه وتصححه من البيهقي والجصاص والقرطبي.
(2) الحديث: 4224- إسحق الأزرق: هو إسحق بن يوسف، مضى في: 332. شريك: هو ابن عبد الله النخعي القاضي، مضى في: 2527. الحسن: هو البصري.
وهذا الحديث لم أجده في شيء من دواوين الحديث، غير هذا الموضع. ونقله عنه ابن كثير 1: 508 ثم نقل كلام الطبري الذي عقبه، ثم قال: "كذا قال ابن جرير رحمه الله".
وتعقيب ابن جرير بأنه"وإن كان في إسناده ما فيه" - لعله يشير رحمه الله إلى القول بأن الحسن البصري لم يسمع من جابر. ففي المراسيل لابن أبي حاتم، ص: 13"حدثنا محمد بن أحمد بن البراء، قال: قال علي بن المديني: الحسن لم يسمع من جابر بن عبد الله شيئًا. سئل أبو زرعة: الحسن لقي جابر بن عبد الله؟ قال: لا. حدثنا محمد بن سعيد بن بلج، قال: سمعت عبد الرحمن بن الحكم يقول سمعت جريرًا يسأل بهزًا عن الحسن: من لقي من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لم يسمع من جابر بن عبد الله. سألت أبي: سمع الحسن من جابر؟ قال: ما أرى، ولكن هشام بن حسان يقول: عن الحسن، حدثنا جابر بن عبد الله، وأنا أنكر هذا، إنما الحسن عن جابر كتاب، مع أنه أدرك جابرًا".
وأنا أرى أن رواية هشام بن حسان كافية في إثبات سماع الحسن من جابر. فقد قال ابن عيينة: "كان هشام أعلم الناس بحديث الحسن".
ومعنى هذا الحديث ثابت عن جابر، موقوفا عليه من كلامه. رواه الشافعي في الأم ج 5 ص 6، من رواية أبي الزبير، عن جابر، وكذلك رواه البيهقي 7: 172، من طريق الشافعي.
والموقوف -عندنا- لا يعلل به المرفوع، بل هو يؤيده ويثبته، كما بينا ذلك في غير موضع من كتبنا. والحمد لله.(4/367)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" ولأمة مؤمنة" بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خيرٌ عند الله وأفضل من حرة مشركة كافرة، وإن شرُف نسبها وكرُم أصلها. يقول: ولا تبتغوا المناكح في ذوات الشرف من أهل الشرك بالله، فإنّ الإماء المسلمات عند الله خير مَنكحًا منهن.
* * *
وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل نكح أمة، فعُذل في ذلك، وعُرضت عليه حرة مشركة.
* ذكر من قال ذلك:
4225 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم"، قال: نزلت في عبد الله بن رواحة، وكانت له أمة سوداءُ، وأنه غضب عليها فلطمها. ثم فزع فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بخبرها، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"ما هي يا عبد الله؟ قال: يا رسول الله، هي تصوم وتصلي وتحسن الوضوءَ وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله. فقال:(4/368)
هذه مؤمنة! فقال عبد الله: فوالذي بعثك بالحق لأعتِقنَّها ولأتزوجنَّها! ففعل، فطعن عليه ناس من المسلمين فقالوا: تزوج أمة!! وكانوا يريدون أن يَنكحوا إلى المشركين وينكحوهم رغبة في أحسابهم، فأنزل الله فيهم:" ولأمةٌ مؤمنة خيرٌ من مشركة" و" عبدٌ مؤمن خيرٌ من مشرك".
4226 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج قال، قال ابن جريج في قوله:" ولا تنكحوا إلى المشركات حتى يؤمنَّ"، قال: المشركات - لشرفهن - حتى يؤمن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وإن أعجبتكم المشركة من غير أهل الكتاب في الجمال والحسب والمال، فلا تنكحوها، فإن الأمة المؤمنة خيرٌ عند الله منها.
* * *
وإنما وضعت"لو" موضع"إن" لتقارب مخرجيهما، ومعنييهما، ولذلك تجاب كل واحدة منهما بجواب صَاحبتها، على ما قد بينا فيما مضى قبْل. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2: 458 ومعاني القرآن للفراء 1: 143.(4/369)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، أن الله قد حرَّم على المؤمنات أن ينكحن مشركًا كائنًا من كان المشرك، ومن أيّ أصناف الشرك كان، فلا تنكحوهنَّ أيها المؤمنون منهم، فإنّ ذلك حرام عليكم، ولأن تزوجوهن من عبدٍ مؤمن مصدق بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله، خير لكم من أن تزوجوهن من حر مشرك، ولو شرُف نسبه وكرم أصله، وإن أعجبكم حسبه ونسبه.
* * *
وكان أبو جعفر محمد بن عليّ يقول: هذا القولُ من الله تعالى ذكره، دلالةٌ على أن أولياء المرأة أحق بتزويجها من المرأة.
4227 - حدثنا محمد بن يزيد أبو هشام الرفاعي قال، أخبرنا حفص بن غياث، عن شيخ لم يسمه، قال أبو جعفر: النكاح بوليّ في كتاب الله، ثم قرأ:" ولا تُنكحوا المشركين حتى يؤمنوا" برفع التاء.
4228 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة والزهري في قوله:" ولا تنكحوا المشركين"، قال: لا يحل لك أن تنكح يهوديًّا أو نصرانيًّا ولا مشركًا من غير أهل دينك.
4229 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج:" ولا تنكحوا المشركين" - لشرفهم -" حتى يؤمنوا".
4230 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري:" ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا"، قال: حرَّم المسلمات على رجالهم - يعني رجال المشركين.
* * *(4/370)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" أولئك"، هؤلاء الذين حرمت عليكم أيها المؤمنون مناكحتهم من رجال أهل الشرك ونسائهم، يدعونكم إلى النار = يعني: يدعونكم إلى العمل بما يدخلكم النار، وذلك هو العمل الذي هم به عاملون من الكفر بالله ورسوله. يقول: ولا تقبلوا منهم ما يقولون، ولا تستنصحوهم، ولا تنكحوهم ولا تنكحوا إليهم، فإنهم لا يألونكم خبالا ولكن اقبلوا من الله ما أمركم به فاعملوا به، وانتهوا عما نهاكم عنه، فإنه يدعوكم إلى الجنة = يعني بذلك يدعوكم إلى العمل بما يدخلكم الجنة، ويوجب لكم النجاة إن عملتم به من النار، وإلى ما يمحو خطاياكم أو ذنوبكم، فيعفو عنها ويسترها عليكم.
* * *
وأما قوله:" بإذنه"، (1) فإنه يعني: أنه يدعوكم إلى ذلك بإعلامه إياكم سبيلَه وطريقَه الذي به الوصول إلى الجنة والمغفرة.
* * *
ثم قال تعالى ذكره:" ويبين آياته للناس لعلهم يتذكرون"، يقول: ويوضح حججه وأدلته في كتابه الذي أنزله على لسان رسوله لعباده، ليتذكروا فيعتبروا، ويميزوا بين الأمرين اللذين أحدهما دَعَّاءٌ إلى النار والخلود فيها، والآخر دَعَّاءٌ إلى الجنة وغفران الذنوب، فيختاروا خيرهما لهم. ولم يجهل التمييز بين هاتين إلا غبيّ [غَبين] الرأي مدخول العقل.
* * *
__________
(1) انظر معنى"الإذن" فيما سلف 2: 449/ ثم هذا الجزء 4: 286(4/371)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" ويسألونك عن المحيض"، ويسألك يا محمد أصحابك عن الحيض.
* * *
وقيل:"المحيض"، لأن ما كان من الفعل ماضيه بفتح عين الفعل، وكسرها في الاستقبال، مثل قول القائل:" ضرَب يضرِب، وحبَس يحبِس، ونزل ينزل"، فإن العرب تبني مصدره على"المفعَل" والاسم على"المفعِل"، مثل"المضرَب، والمضرِب" من"ضربتُ"،"ونزلت منزلا ومنزلا". ومسموع في ذوات الياء والألف والياء،"المعيش والمعاش" و"المعيبُ والمعاب"، كما قال رؤبة في المعيش:
إلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعيشِ ... وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي (1)
* * *
وإنما كان القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذُكر لنا - عن الحيض، لأنهم كانوا قبل بيان الله لهم ما يتبينون من أمره، لا يساكنون حائضًا في بيت، ولا يؤاكلونهنَّ في إناء ولا يشاربونهن. فعرَّفهم الله بهذه الآية، أنّ الذي عليهم في أيام حيض نسائهم: أن يجتنَّبوا جماعهن فقط، دون ما عدا ذلك من
__________
(1) ديوانه: 78، من قصيدة يمدح فيها الحارث بن سليم الهجيمي، وبين البيتين في الديوان: * دَهْرًا تَنَفَّى المُخَّ بِالتَّمْشِيشِ *
ورواية الديوان، بعده: وَجَهْدَ أَعْوَامٍ بَرَيْنَ رِيشِي ... نَتْفَ الحُبَارى عَنْ قَرًى رَهِيشِ(4/372)
مضاجعتهن ومؤاكلتهن ومشاربتهن، كما:-
4231 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ويسألونك عن المحيض" حتى بلغ:" حتى يطهرن" فكان أهلُ الجاهلية لا تساكنهم حائضٌ في بيت، ولا تؤاكلهم في إناءٍ، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك، فحرَّم فرْجها ما دامت حائضًا، وأحل ما سوى ذلك: أن تصبغ لك رأسك، وتؤاكلك من طعامك، وأن تضاجعك في فراشك، إذا كان عليها إزارٌ محتجزةً به دونك. (1)
4232 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
* * *
وقد قيل: إنهم سألوا عن ذلك، لأنهم كانوا في أيام حيضهن يجتنبون إتيانهن في مخرج الدم، ويأتونهنّ في أدبارهن، فنهاهم الله عن أن يقربوهن في أيام حيضهن حتى يطهرن، ثم أذن لهم - إذا تطهَّرن من حيضهن - في إتيانهن من حيث أمرَهم باعتزالهنَّ، وحرم إتيانهن في أدبارهنَّ بكل حال.
* ذكر من قال ذلك:
4233 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد قال، كانوا يجتنبون النساء في المحيض ويأتونهن في أدبارهن، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله:" ويسألونك عن المحيض" إلى:" فإذا تطهرن فأتوهنّ من حيث أمركم الله" - في الفرج لا تعدوه. (2)
* * *
__________
(1) احتجز بالإزار: إذا شده على وسطه. والحجزة (بضم الحاء وسكون الجيم) : موضع شد الإزار، ثم يسمى الإزار نفسه حجزة، وجمعه حجز.
(2) في المطبوعة: "ولا تعدوه"، والصواب في المخطوطة بحذف الواو.(4/373)
وقيل: إن السائل الذي سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان ثابتَ بن الدَّحداح الأنصاري.
4234 - حدثني بذلك موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ هُوَ أَذًى}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: قل لمن سألك من أصحابك يا محمد عن المحيض:"هو أذى".
* * *
"والأذى" هو ما يؤذى به من مكروه فيه. وهو في هذا الموضع يسمى"أذى" لنتن ريحه وقذره ونجاسته، وهو جامع لمعان شتى من خلال الأذى، غير واحدة.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في البيان عن تأويل ذلك، على تقارب معاني بعض ما قالوا فيه من بعض.
فقال بعضهم: قوله:" قل هو أذى"، قل هو قَذَر.
* ذكر من قال ذلك:
4235 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" قل هو أذى"، قال: أما"أذى" فقذرٌ.
4236 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" قل هو أذى"، قال:"قل هو أذى"، قال: قذرٌ.
* * *(4/374)
وقال آخرون: قل هو دمٌ.
* ذكر من قال ذلك:
4237 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ويسألونك عن المحيض قل هو أذى"، قال: الأذى الدم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" فاعتزلوا النساء في المحيض"، فاعتزلوا جماع النساء ونكاحهن في محيضهنّ، كما:-
4238 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:" فاعتزلوا النساء في المحيض"، يقول: اعتزلوا نكاحَ فُروجهنّ.
* * *
واختلف أهل العلم في الذي يجب على الرجل اعتزاله من الحائض.
فقال بعضهم: الواجبُ على الرجل، اعتزالُ جميع بدنها أن يباشره بشيء من بدنه.
* ذكر من قال ذلك:
4239 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا عوف، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما يحلُّ لي من امرأتي إذا كانت حائضًا؟ قال: الفراش واحد، واللحاف شتى. (1)
__________
(1) الأثر: 4239- في المطبوعة والمخطوطة: "اللحاف واحد والفراش شتى". وهو باطل المعنى، وسيأتي على الصواب من طريق آخر برقم: 4241.(4/375)
4240 - حدثني تميم بن المنتصر قال، أخبرنا يزيد قال، حدثنا محمد، عن الزهري، عن عروة، عن ندبة مولاة آل عباس قالت: بعثتني ميمونة ابنة الحارث - أو: حفصة ابنة عمر - إلى امرأة عبد الله بن عباس، وكانت بينهما قرابةٌ من قبل النساء، فوجدت فراشَها معتزلا فراشَه، فظنت أن ذلك عن الهجران، فسألتها عن اعتزال فراشِه فراشَها، فقالت: إنيّ طامث، وإذا طمثت اعتزل فراشي. فرجعتُ فأخبرتُ بذلك ميمونة - أو حفصة - فردَّتني إلى ابن عباس، تقول لك أمك: أرغبت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم! فوالله لقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ينام مع المرأة من نسائه وإنها لحائض، وما بينه وبينها إلا ثوبٌ ما يجاوز الركبتين. (1)
4241 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد قال: قلت لعبيدة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قال: الفراش واحد واللحاف شتى، فإن لم يجد إلا أن يردَّ عليها من ثوبه، ردَّ عليها منه.
* * *
__________
(1) الحديث: 4240- يزيد: هو ابن هرون. محمد: هو ابن إسحاق. ندبد مولاة آل عباس: هي مولاة ميمونة بنت الحارث أم المؤمنين، خالة ابن عباس. فلعلها نسبت هنا"مولاة آل عباس" للقرابة بين ابن عباس وميمونة. وهي ثقة، ذكرها ابن حبان في الثقات ص: 359، ولكنه وهم إذ ذكر أنه يروي عنها الزهري؛ والزهري روى عنها بالواسطة. وترجمها ابن سعد 8: 364. وذكرها ابن مندة وأبو نعيم في الصحابة.
واختلف في ضبط اسمها، فقيل بضم النون أو فتحها مع سكون الدال ثم فتح الباء الموحدة. وقيل بدية" بضم الباء الموحدة ثم فتح الدال ثم فتح الياء التحتية المشددة.
والحديث رواه أحمد في المسند 6: 332 (حلبي) عن يزيد بن هرون، بهذا الإسناد، نحوه، مع بعض اختصار. وهو في روايته عن ميمونة جزمًا، ليس فيه الشك بينها وبين حفصة. وهو الصواب ولعل الشك هنا من الطبري، أو من شيخه تميم بن المنتصر.
ثم إن ابن إسحاق خطأ هنا في جعل الحديث"عن الزهري، عن عروة". ولعل الخطأ من يزيد بن هرون. والصواب أنه"عن الزهري، عن حبيب مولى عروة، عن ندبة". وبذلك تضافرت الروايات في هذا الإسناد، كما سيأتي. ويؤيده أن ابن سعد ذكر في ترجمتها أنها تروي عن عروة، وروى بإسناده خبرًا عنها عن عروة بن الزبير.
و"حبيب مولى عروة": هو حبيب الأعور، مولى عروة بن الزبير. وهو تابعي ثقة، قال ابن سعد: "مات قديمًا في آخر سلطان بني أمية". وأخرج له مسلم في صحيحه.
والحديث رواه -على الصواب- البيهقي في السنن الكبرى 1: 313، من طريق بشر بن شعيب بن أبي حمزة، عن أبيه، عن الزهري، قال: "أخبرني حبيب مولى عروة بن الزبير، أن ندبة مولاة ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أخبرته أنها أرسلتها ميمونة إلى عبد الله بن عباس. . . "، فذكره مطولا.
ثم إن الحديث معروف من هذا الوجه على الصواب، مختصرًا بدون ذكر قصة ابن عباس.
فرواه أحمد في المسند 6: 332 (حلبي) ، عن حجاج وأبي كامل، عن الليث، عن ابن شهاب عن حبيب مولى عروة، ولم يذكر لفظه، وأحاله على الرواية السابقة. ثم رواه بعد ذلك، ص: 335- 336، عن حجاج وأبي كامل، بالإسناد نفسه. وذكر لفظه مختصرًا عن ميمونة، دون القصة.
وكذلك رواه أبو داود: 267، وابن حبان في صحيحه 2: 569 (مخطوطة الإحسان) . والبيهقي 1: 313 - كلهم من طريق الليث بن سعد، به. وكذلك رواه النسائي 1: 54- 55، 67، من طريق يونس والليث- كلاهما عن ابن شهاب، به مختصرًا.
فعن هذه الروايات كلها استيقنت أن رواية ابن إسحاق -هنا وعند أحمد-"عن الزهري، عن عروة" خطأ.(4/376)
واعتل قائلو هذه المقالة: بأنّ الله تعالى ذكره أمر باعتزال النساء في حال حيضهنّ، ولم يخصصن منهن شيئًا دون شيء، وذلك عامٌّ على جميع أجسادهنّ، واجبٌ اعتزالُ كل شيء من أبدانهن في حيضهنّ.
* * *
وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهن، موضع الأذى، وذلك موضعُ مخرج الدم.
* ذكر من قال ذلك:
4242 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني عيينة بن عبد الرحمن بن جوشن قال، حدثنا مروان الأصفر، عن مسروق بن الأجدع قال: قلت لعائشة: ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت: كل شيء إلا الجماع. (1)
__________
(1) الحديث: 4242- مروان الأصفر، أبو خلف: تابعي ثقة: و"الأصفر": بالفاء، ووقع في المطبوعة بالغين. وهو تحريف.
مسروق بن الأجدع الهمداني: تابعي كبير ثقة، من سادات التابعين وفقهائهم.
وهذا الحديث نقله ابن كثير 1: 510 عن هذا الموضع. وكذلك نقله السيوطي 1: 260، ولم ينسباه لغير الطبري.
وهو عندنا حديث مرفوع بالمعنى، وإن كان لفظه موقوفًا على عائشة. لأن الصحابي إذا حكى عما يحل ويحرم فالثقة به أن لا يحكي ذلك إلا عمن يؤخذ عنه الحلال والحرام، وهو معلم الخير، صلى الله عليه وسلم. وهذا عند الإطلاق، إلا أن تدل دلائل على أنه يقول ذلك اجتهادًا واستنباطًا من دلائل الكتاب والسنة. وانظر الأحاديث التالية لهذا.(4/377)
4243 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سعيد بن زريع قال، حدثنا سعيد = وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد = عن قتادة قال: ذكر لنا عن عائشة أنها قالت: وأين كان ذو الفراشَين وذو اللحافين؟! (1)
4244 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سالم بن أبي الجعد، عن مسروق قال: قلت لعائشة: ما يحرم على الرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قالت: فرجها. (2)
4245 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن كتاب أبي قلابة: أنّ مسروقًا ركب إلى عائشة فقال: السلام على النبي وعلى أهل بيته. فقالت عائشة: أبو عائشة! مرحبًا! فأذنوا له فدخل، فقال: إني أريد أن أسألك عن شيء وأنا أستحيي! فقالت: إنما أنا أمُّك، وأنت ابني! فقال: ما للرجل من امرأته وهي حائض؟ قالت له: كل شيء إلا فرجها. (3)
4246 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، حدثنا حجاج، عن ميمون بن مهران، عن عائشة قالت: له ما فوق الإزار. (4)
__________
(1) في المخطوطة: "وأينا كان. . . ".
(2) الحديث: 4244- سالم ابن أبي الجعد: تابعي ثقة معروف، أخرج له الأئمة الستة. وهذا الحديث في معنى الحديث السابق: 4242، من وجه آخر، وبلفظ آخر. وإسناده صحيح.
(3) الحديث: 4245- وهذا في معنى الحديثين السابقين، مع تفصيل في قصة السؤال والجواب. وإسناده صحيح أيضًا.
(4) الحديث: 4246- ابن أبي زائدة: هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، مضى في: 2338. حجاج: هو ابن أرطأة.
وهذا في معنى ما قبله.(4/378)
4247 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع: أن عائشة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان عليها إزار.
4248 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي معشر قال: سألتُ عائشة: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ فقالت: كل شيء إلا الفرج. (1)
4249 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن محمد بن عمرو، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث قال، قال ابن عباس: إذا جعلت الحائض على فرجها ثوبًا أو ما يكفُّ الأذى، فلا بأس أن يباشر جلدُها زوجَها. (2)
4250 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا يزيد، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه سئل: ما للرجل من امرأته إذا كانت حائضًا؟ قال: ما فوق الإزار.
4251 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هاشم بن القاسم قال، حدثنا الحكم بن فضيل، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: اتق من الدم مثل موضع النعل. (3)
__________
(1) الحديث: 4248- هكذا وقع هذا الإسناد هنا. وهو إسناد ناقص على اليقين. فإن"أبا معشر": هو زياد بن كليب التميمي الحنظلي، وهو يروي عن التابعين. وهو ثقة، ولكنه لم يدرك عائشة، فلا يمكن أن يقول: "سألت عائشة".
وصواب الإسناد، كما في المحلى لابن حزم 2: 183"روينا عن أيوب السختياني، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي، عن مسروق، قال: سألت عائشة: ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قالت: كل شيء إلا الفرج". فسقط من الإسناد رجلان: إبراهيم النخعي، ومسروق، وهو الذي سأل عائشة. وهكذا ذكره ابن حزم، فلم يذكر إسناده إلى أيوب.
وقد رواه الطحاوي في معاني الآثار 2: 22، بإسناده، من طريق عمرو بن خالد، عن عبيد الله -وهو ابن عمرو الرقى الجزري-"عن أيوب، عن أبي معشر، عن إبراهيم، عن مسروق، عن عائشة". ولم يذكر لفظه، إحالة على رواية أخرى قبله، بمعناه.
(2) الخبر: 4249 -هذا إسناد منقطع- محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي: تابعي ثقة معروف. ولكن روايته عن ابن عباس مرسلة، كما صرح بذلك ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 32/184.
(3) الخبر: 4251- الحكم بن فضيل، أبو محمد الواسطي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في الكبير 1/2/337، وابن أبي حاتم 1/2/126- 127، والتعجيل، والميزان، ولسان الميزان. وله ترجمة وافية في تاريخ بغداد 8: 221- 223. والبخاري لم يذكر فيه حرجًا.
والخبر رواه البيهقي في السنن الكبرى 1: 314، من طريق الحسن بن مكرم. عن أبي النضر هاشم بن القاسم، بهذا الإسناد.(4/379)
4252 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن عكرمة، عن أم سلمة قالت في مضاجعة الحائض: لا بأس بذلك إذا كان على فرجها خرقة. (1)
4253 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال: للرجل من امرأته كل شيء ما خلا الفرج - يعني وهي حائض.
4254 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن قال: يبيتان في لحاف واحد - يعني الحائض - إذا كان على الفرج ثوب.
4255 - حدثنا تميم قال، أخبرنا إسحاق، عن شريك، عن ليث قال: تذاكرنا عند مجاهد الرجل يلاعب امرأته وهي حائض، قال: اطعن بذكرك حيث شئت فيما بين الفخذين والأليتين والسرة، ما لم يكن في الدبر أو الحيض. (2)
4256 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن عامر قال: يباشر الرجل امرأته وهي حائض؟ قال: إذا كفَّت الأذى.
4257 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثني
__________
(1) الحديث: 4252 - هذا إسناد صحيح. وهو وإن كان موقوفًا على أم سلمة، فإن معناه ثابت عنها مرفوعًا أيضًا:
فروى البيهقي 1: 311، من طريق يزيد بن زريع، "حدثنا خالد، عن عكرمة، عن أم سلمة: أنها كانت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في لحاف، فأصابها الحيض، فقال لها: قومي فاتزري ثم عودي".
وثبت نحو معناه عن أم سلمة أيضًا، بأطول من هذا، من رواية أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم سلمة، مرفوعًا. رواه مسلم 1: 95، والبيهقي 1: 311، وذكر أنه أخرجه البخاري ومسلم.
(2) في المطبوعة: "حيثما شئت"، وأثبت ما في المخطوطة.(4/380)
عمران بن حدير قال، سمعت عكرمة يقول، كل شيء من الحائض لك حلال غير مجرى الدم.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة قائل هذه المقالة، قيامُ الحجة بالأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يباشر نساءه وهن حُيَّض، ولو كان الواجبُ اعتزالَ جميعهنّ، لما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما صحّ ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، علم أن مراد الله تعالى ذكره بقوله:" فاعتزلوا النساءَ في المحيض"، هو اعتزال بعض جسدها دون بعض. وإذا كان ذلك كذلك، وجب أن يكون ذلك هو الجماع المجمع على تحريمه على الزوج في قُبُلها، دون ما كان فيه اختلاف من جماعها في سائر بدنها.
* * *
وقال آخرون: بل الذي أمر الله تعالى ذكره باعتزاله منهنّ في حال حيضهن، ما بين السرّة إلى الركبة، وما فوق ذلك ودونه منها.
* ذكر من قال ذلك:
4258 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن شريح قال: له ما فوق السرة - وذكر الحائض.
4259 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا يزيد، عن سعيد بن جبير قال: سئل ابن عباس عن الحائض: ما لزوجها منها؟ فقال: ما فوق الإزار.
4260 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب وابن عون، عن محمد قال: قال شريح: له ما فوق سُرَّتها.
4261 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن واقد(4/381)
بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر قال: سئل سعيد بن المسيب: ما للرجل من الحائض؟ قال: ما فوق الإزار.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة، صحةُ الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما:-
4262 - حدثني به ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد قال، حدثنا سليمان الشيباني = وحدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص قال، حدثنا الشيباني = قال حدثنا عبد الله بن شداد بن الهاد قال، سمعت ميمونة تقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه وهي حائض، أمرها فأتزرت".
4263 - حدثنا المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني، عن عبد الله بن شداد، عن ميمونة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يباشرها وهي حائض فوق الإزار. (1)
4264 - حدثني سفيان بن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا، أمرها فأتزرت بإزار ثم يباشرها.
4265 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا المحاربي، عن الشيباني، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن عائشة قالت: كانت إحدانا إذا كانت حائضًا أمرَها النبي صلى الله عليه وسلم أن تأتزر، ثم يباشرها. (2)
__________
(1) الحديثان: 4262، 4263 - حفص: هو ابن غياث، الشيباني سليمان: هو أبو إسحاق الشيباني سليمان بن أبي سليمان. وسفيان في الحديث الثاني: هو الثوري.
والحديثان في معنى واحد. وقد ذكره ابن كثير 1: 511، بلفظ أولهما عن الصحيحين، وكذلك ذكره السيوطي 1: 259، وزاد نسبته لابن أبي شيبة. وأبي داود، والبيهقي. وانظر البخاري 1: 64، ومسلم 1: 95، والسنن الكبرى 1: 311.
(2) الحديثان: 4264، 4265- هما حديث واحد بإسنادين. وذكره السيوطي 1: 259، عن ابن أبي شيبة، والصحيحين، وأبي داود، وابن ماجه، بزيادة في آخره. وانظر البخاري 1: 63. ومسلم 1: 95، وأبا داود: 112، 113، والنسائي 1: 54، 67، والبيهقي 1: 310- 311.(4/382)
ونظائر ذلك من الأخبار التي يطول باستيعاب ذكر جميعها الكتاب (1)
قالوا: فما فعل النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فجائز، وهو مباشرة الحائض ما دون الإزار وفوقه، وذلك دون الركبة وفوق السرة، وما عدا ذلك من جسد الحائض فواجبٌ اعتزالُه، لعموم الآية.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إن للرجل من امرأته الحائض ما فوق المؤتَزَر ودونه، لما ذكرنا من العلة لهم. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. (3) فقرأه بعضهم:" حتى يطهرن" بضم"الهاء" وتخفيفها. وقرأه آخرون بتشديد"الهاء" وفتحها.
وأما الذين قرءوه بتخفيف"الهاء" وضمها، فإنهم وجهوا معناه إلى: ولا تقربوا النساء في حال حيضهنّ حتى ينقطع عنهن دم الحيض ويَطهُرن. وقال بهذا التأويل جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4266 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" ولا تقربوهن حتى يطهرن"، قال: انقطاع الدم.
__________
(1) في المخطوطة: "جميع ذكرها"، والصواب ما في المطبوعة.
(2) في المخطوطة إسقاط قوله: "لهم".
(3) في المطبوعة: "اختلف القراء"، وقد مضى مثل ذلك مرارًا، وتركناه في بعض المواضع كما هو في المطبوعة. ولكنا سنقيمه منذ الآن على المخطوطة دون الإشارة إليه بعد هذا الموضع إلى آخر الكتاب، إن شاء الله.(4/383)
4267 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان، - أو عثمان بن الأسود -:" ولا تقربوهن حتى يطهرن"، حتى ينقطع الدم عنهن.
4268 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله:" ولا تقربوهن حتى يطهرن"، قال: حتى ينقطع الدم. (1)
* * *
وأما الذين قرءوا ذلك بتشديد"الهاء" وفتحها، فإنهم عنوا به: حتى يغتسلن بالماء. وشددوا"الطاء" لأنهم قالوا: معنى الكلمة: حتى يتطهَّرْنَ، أدغمت"التاء" في"الطاء" لتقارب مخرجيهما.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ: (حَتَّى يَطَّهَّرْنَ) بتشديدها وفتحها، بمعنى: حتى يغتسلن - لإجماع الجميع على أن حرامًا على الرجل أن يقرَب امرأته بعد انقطاع دم حيضها حتى تطهر.
* * *
وإنما اختُلف في"التطهر" الذي عناه الله تعالى ذكره، فأحل له جماعها.
فقال بعضهم: هو الاغتسال بالماء، لا يحل لزوجها أن يقربها حتى تغسل جميع بدنها. (2)
وقال بعضهم: هو الوضوء للصلاة.
وقال آخرون: بل هو غسل الفرج، فإذا غسلت فرجها، فذلك تطهرها الذي يحلّ به لزوجها غشيانُها.
* * *
__________
(1) الأثر: 4268-"عبيد الله العتكي" هو عبيد الله بن عبد الله أبو المنيب العتكي، رأى أنسًا، وروى عن عكرمة وسعيد بن جبير وغيرهما من التابعين.
(2) في المطبوعة: "ولا يحل. . . " بزيادة الواو.(4/384)
فإذا كان إجماعٌ من الجميع أنها لا تحلُّ لزوجها بانقطاع الدم حتى تطَّهر، كان بيِّنًا أن أولى القراءتين بالصواب أنفاهما للَّبس عن فهم سامعها. وذلك هو الذي اخترنا، إذ كان في قراءة قارئها بتخفيف"الهاء" وضمها، ما لا يؤمن معه اللبس على سامعها من الخطأ في تأويلها، فيرى أن لزوج الحائض غشيانَها بعد انقطاع دم حيضها عنها، (1) وقبل اغتسالها وتطهُّرها.
* * *
فتأويل الآية إذًا: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى، فاعتزلوا جماع نسائكم في وقت حيضهنّ، ولا تقربوهن حتى يغتسلن فيتطهرن من حيضهن بعد انقطاعه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" فإذا تطهَّرن فأتوهن"، فإذا اغتسلن فتطهَّرن بالماء فجامعوهن.
* * *
فإن قال قائل: أففرض جماعهن حينئذ؟
قيل: لا.
فإن قال: فما معنى قوله إذًا:" فأتوهن"؟
قيل: ذلك إباحة ما كان منَع قبل ذلك من جماعهن، وإطلاقٌ لما كان حَظَر في حال الحيض، وذلك كقوله: (وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا) [سورة المائدة: 2] ، وقوله: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأَرْضِ) [سورة الجمعة: 10] ، وما أشبه ذلك.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" فإذا تطهرن".
فقال بعضهم: معنى ذلك، فإذا اغتسلن.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "أن للزوج غشيانها"، وأثبت ما في المخطوطة.(4/385)
4269 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاومة بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" فإذا تطهَّرن" يقول: فإذا طهُرت من الدم وتطهَّرت بالماء.
4270 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثني ابن مهدي ومؤمل قالا حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإذا تطهرن"، فإذا اغتسلن. (1)
4271 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة في قوله:" فإذا تطهرن"، يقول: اغتسلن.
4272 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان - أو عثمان بن الأسود:-" فإذا تطهرن"، إذا اغتسلن.
4273 - حدثنا عمران بن موسى، حدثنا عبد الوارث، حدثنا عامر، عن الحسن: في الحائض ترى الطهر، قال: لا يغشاها زوجُها حتى تغتسل وتحلَّ لها الصلاة. (2)
4275 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيره، عن إبراهيم: أنه كره أن يطأها حتى تغتسل - يعني المرأة إذا طهُرت.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا تطهَّرن للصلاة.
* ذكر من قال ذلك:
4276 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ليث، عن طاوس ومجاهد أنهما قالا إذا طهُرت المرأة من الدم فشاء زوجها أن يأمرَها
__________
(1) الأثر: 4270- كان في المطبوعة: "محمد بن مهدي"، وهو خطأ، وزيادة فاسدة والصواب من المخطوطة. و"ابن مهدي" هو عبد الرحمن بن مهدي. الإمام العلم، قال الشافعي: لا أعرف له نظيرًا في الدنيا. مات سنة 198 - مترجم في التهذيب وغيره.
(2) سقط من الترقيم: 4274(4/386)
بالوضوء قبل أن تغتسل - إذا أدركه الشَّبَق فليُصب.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بتأويل الآية، قولُ من قال: معنى قوله:" فإذا تطهَّرن"، فإذا اغتسلن، لإجماع الجميع على أنها لا تصير بالوضوء بالماء طاهرًا الطُّهرَ الذي يحل لها به الصلاة. وإن القولَ لا يخلو في ذلك من أحد أمرين:
= إما أن يكون معناه: فإذا تطهَّرن من النجاسة فأتوهن.
فإن كان ذلك معناه، فقد ينبغي أن يكون متى انقطع عنها الدم فجائزٌ لزوجها جماعُها، إذا لم تكن هنالك نجاسة ظاهرة. هذا، إن كان قوله:" فإذا تطهَّرن" جائزًا استعماله في التطهُّر من النجاسة، ولا أعلمه جائزًا إلا على استكراه الكلام.
= أو يكون معناه: فإذا تطهَّرن للصلاة. وفي إجماع الجميع من الحجة على أنه غير جائز لزوجها غشيانها بانقطاع دم حيضها، (1) إذا لم يكن هنالك نجاسة، دون التطهر بالماء إذا كانت واجدته = أدلُّ الدليل على أن معناه: فإذا تطهرن الطهرَ الذي يجزيهن به الصلاة.
وفي إجماع الجميع من الأمة على أن الصلاة لا تحل لها إلا بالاغتسال، أوضح الدلالة على صحة ما قلنا: من أن غشيانها حرام إلا بعد الاغتسال، وأن معنى قوله:" فإذا تطهرن"، فإذا اغتسلن فصرن طواهرَ الطهرَ الذي يجزيهنّ به الصلاة.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "في إجماع الجميع" بإسقاط الواو، والسياق يوجبها، وهذا سياقها؛"وفي إجماع الجميع. . . أدل الدليل. . . "(4/387)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله".
فقال بعضهم: معنى ذلك: فأتوا نساءكم إذا تطهَّرن من الوجه الذي نهيتُكم عن إتيانهن منه في حال حيضهن، وذلك: الفرجُ الذي أمر الله بترك جماعهن فيه في حال الحيض. (1)
* ذكر من قال ذلك:
4277 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق قال، حدثني أبان بن صالح، عن مجاهد قال، قال ابن عباس في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهُنَّ.
4278 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: في الفرج، لا تعدوه إلى غيره، فمن فعل شيئًا من ذلك فقد اعتدَى.
4279 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوا.
4280 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي، عن سعيد بن جبير أنه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس: أتاه رجلٌ فوقف على رأسه فقال: يا أبا العباس - أو: يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض؟ قال: بلى! فقرأ:" ويسألونك
__________
(1) "الإتيان": كناية عن اسم"الجماع" وسيأتي تفسير ذلك في ص: 398(4/388)
عن المحيض" حتى بلغ آخر الآية، فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، منْ ثَمَّ أمِرت أن تأتي. (1)
4281 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن عثمان، عن مجاهد قال: دبُر المرأة مثله من الرجل، ثم قرأ:" ويسألونك عن المحيض" إلى" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من حيث أمركم أن تعتزلوهن. (2)
4282 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: أمِروا أن يأتوهن من حيث نُهوا عنه.
4283 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا عبد الواحد قال، حدثنا خصيف قال، حدثني مجاهد:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، في الفرج، ولا تعْدوه.
4284 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: إذا تطهرن فأتوهن من حيث نُهي عنه في المحيض.
4285 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن سفيان - أو: عثمان بن الأسود-:" فأتوهن من حيث أمركم الله" باعتزالهنّ منه.
4286 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، أي: من الوجه الذي يأتي منه المحيض، طاهرًا غيرَ حائض، ولا تعدوا ذلك إلى غيره.
__________
(1) في المطبوعة: "ثم أمرت" بحذف"من"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة، ومما سيأتي رقم: 4325. بمعنى: هناك. وسيأتي الخبر بتمامه في رقم: 4325. وسنذكر فيه ترجمة رجاله.
(2) الأثر: 4281 - في المطبوعة: "عمرة عن مجاهد"، وهو خطأ، والصواب من المخطوطة. و"ابن أبي زائدة"، هو يحيى بن زكريا ابن أبي زائدة. و"عثمان"، هو عثمان بن الأسود مولى بني جمح، وقد سلفت روايته عن مجاهد، أقربها رقم: 2782.(4/389)
4287 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: طواهرَ من غير جماع ومن غير حيض، من الوجه الذي يأتي [منه] المحيض، ولا يتعدَّه إلى غيره = قال سعيد: ولا أعلمه إلا عن ابن عباس. (1)
4288 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله"، من حيث نُهِيتم عنه في المحيض = وعن أبيه، عن ليث، عن مجاهد في قوله:" فإذا تطهَّرن فأتوهن من حيث أمركم الله"، من حيث نُهيتهم عنه، واتقوا الأدبار.
4289 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت أبي، عن يزيد بن الوليد، عن إبراهيم في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: في الفرج.
* * *
وقال آخرون: معناها: فأتوهن من الوجه الذي أمركم الله فيه أن تأتوهن منه. وذلك الوجه، هو الطهر دون الحيض. فكان معنى قائل ذلك في الآية: فأتوهنّ من قُبْل طُهرهنّ لا من قُبْل حيضهن. (2)
* ذكر من قال ذلك:
4290 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
__________
(1) قوله: "طواهر" جمع امرأة"طاهر"، وليس في كتب اللغة بل فيه"طاهرات" ولكنه جمع قياسي، مثل حامل وحوامل، وسيأتي في رقم: 4295، 4296، وسيأتي جمعها على"طهر" رقم 4298، 4300. وفي المطبوعة: "ولا يتعدى إلى غيره" والصواب من المخطوطة.
(2) "قبل" (بضم فسكون) ، يقال: "كان ذلك في قبل الشتاء وقبل الصيف"، أي في أوله وعند إقباله. وفي الحديث: "طلقوا النساء لقبل عدتهن" - ويروى: "في قبل طهرهن" أي في إقباله وأوله، وحين يمكنها الدخول في العدة، والشروع فيها، فتكون لها محسوبة. وذلك في حالة الطهر. وكذلك قوله هنا: "من قبل الطهر"، أي: في حال الطهر.(4/390)
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يعني أن يأتيها طاهرًا غيرَ حائض.
4291 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن أبي رزين في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من قُبْل الطهر. (1)
4292 - حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي رزين بمثله.
4293 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن أبي رزين:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: ائتوهنّ من عند الطهر.
4294 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا علي بن هاشم، عن الزبرقان، عن أبي رزين:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من قُبْل الطهر، ولا تأتوهن من قُبْل الحيضة. (2)
4295 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد الله العتكي، عن عكرمة قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، يقول: إذا اغتسلن فأتوهن من حيث أمركم الله. يقول: طواهر غير حُيَّض. (3)
4296 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال يقول: طواهر غيرَ حُيَّض. (4)
4297 - حدثني موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
__________
(1) انظر ص 390، تعليق: 2.
(2) في المطبوعة: "الحيض" وأثبتنا ما في المخطوطة.
(3) انظر ما سلف رقم: 4287، والتعليق عليه.
(4) انظر ما سلف رقم: 4287، والتعليق عليه.(4/391)
أسباط، عن السدي قوله:" من حيث أمركم الله"، من الطهر.
4298 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سلمة بن نبيط، عن الضحاك:"فأتوهن"، طُهَّرًا غير حيَّض. (1)
4299 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: ائتوهن طاهرات غير حُيَّض.
4300 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا سلمة بن نبيط، عن الضحاك:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: طهَّرًا غير حيَّض في القُبُل. (2)
* * *
وقال آخرون: بلى معنى ذلك: فأتوا النساء من قِبل النكاح، لا من قِبل الفُجور.
* ذكر من قال ذلك:
4301 - حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا إسماعيل الأزرق، عن أبي عمر الأسدي، عن ابن الحنفية:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، قال: من قِبل الحلال، من قِبل التزويج.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك عندي قولُ من قال: معنى ذلك: فأتوهن من قُبْل طهرهن. وذلك أن كل أمر بمعنى، فنهيٌ عن خلافه وضده. وكذلك النهي عن الشيء أمرٌ بضده وخلافه. فلو كان معنى قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، فأتوهن من قِبل مخرج الدم الذي نهيتكم أن تأتوهن من قبله في حال حيضهن - لوجب أن يكون قوله:" ولا تقربوهن حتى يطهُرن"،
__________
(1) قوله"طهر"، جمع امرأة"طاهر"، وهو جمع قياسي لم تذكره المعاجم كالذي سلف"طواهر" و"فاعل" الصفة، إذا كانت فيه"تاء" ظاهرة، مثل"ضاربة" - أو مقدرة مثل حائض فقياسه: "فواعل"، و"فعل" (بضم الفاء وتشديد عينه وفتحها) .
(2) قوله"طهر"، جمع امرأة"طاهر"، وهو جمع قياسي لم تذكره المعاجم كالذي سلف"طواهر" و"فاعل" الصفة، إذا كانت فيه"تاء" ظاهرة، مثل"ضاربة" - أو مقدرة مثل حائض فقياسه: "فواعل"، و"فعل" (بضم الفاء وتشديد عينه وفتحها) .(4/392)
تأويله: ولا تقربوهن في مخرج الدم، دون ما عدا ذلك من أماكن جسدها، فيكون مطلقا في حال حيضها إتيانهن في أدبارهن.
وفي إجماع الجميع =: على أن الله تعالى ذكره لم يُطْلِق في حال الحيض من إتيانهن في أدبارهن شيئًا حرَّمه في حال الطُّهر، ولا حرِّم من ذلك في حال الطهر شيئًا أحله في حال الحيض = ما يُعلم به فسادُ هذا القول.
وبعد، فلو كان معنى ذلك على ما تأوَّله قائلو هذه المقالة، لوجب أن يكون الكلام: فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله = (1) حتى يكون معنى الكلام حينئذ على التأويل الذي تأوله، ويكون ذلك أمرًا بإتيانهن في فروجهن. لأنّ الكلام المعروفَ إذا أريد ذلك، أن يقال:" أتى فلان زَوجته من قِبَل فرجها" - ولا يقال: أتاها من فرجها - إلا أن يكون أتاها من قِبَل فرجها في مكان غير الفرج.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإنَّ ذلك وإنْ كان كذلك، فليس معنى الكلام: فأتوهن في فروجهن - وإنما معناه: فأتوهن من قِبَل قُبُلهن في فروجهن -، كما يقال:" أتيتُ هذا الأمرَ من مَأتاه".
قيل له: إن كان ذلك كذلك، فلا شك أن مأتى الأمر ووجهه غيره، وأن ذلك مطلبه. فإن كان ذلك على ما زعمتم، فقد يجب أن يكون معنى قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله"، غير الذي زعمتم أنه معناه بقولكم: ائتوهن من قبل مخرج الدم، ومن حيث أمِرتم باعتزالهن - ولكن الواجبُ أن يكون تأويلُه على ذلك: فأتوهن من قبل وُجوههنّ في أقبالهن، كما كان قول القائل:" ائت الأمر من مأتاه"، إنما معناه: اطلبه من مطلبه، ومطلبُ الأمر غيرُ الأمر المطلوب.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "من حيث أمركم الله"، وهو نص الآية، ولكنه أراد"في حيث"، كما يدل عليه سائر كلامه، فلذلك أثبتها على الصواب إن شاء الله.
وانظر ما يؤيد ذلك أيضًا في معاني القرآن للفراء 1: 143.(4/393)
فكذلك يجب أن يكون مأتى الفرج - الذي أمر الله في قولهم بإتيانه - غير الفرج. (1)
وإذا كان كذلك، وكان معنى الكلام عندهم: فأتوهن من قبل وجوههن في فروجهن - وجب أن يكون على قولهم محرَّمًا إتيانهن في فروجهن من قِبل أدبارهن. وذلك إن قالوه، خرج من قاله من قِيل أهل الإسلام، وخالف نص كتاب الله تعالى ذكره، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك أن الله يقول: (نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) ، وأذن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في إتيانهن في فروجهن من قبل أدبارهن.
فقد تبين إذًا إذْ كان الأمر على ما وصفنا، فسادُ تأويل من قال ذلك: فأتوهن في فروجهن حيث نهيتكم عن إتيانهنّ في حال حيضهن = وصحةُ القول الذي قلناه، وهو أن معناه: فأتوهن في فروجهنّ من الوجه الذي أذن الله لكم بإتيانهن، وذلك حال طهْرهن وتطهُّرهن، دون حال حيضهن.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" إن الله يحب التوابين"، المنيبين من الإدبار عن الله وعن طاعته، إليه وإلى طاعته. وقد بينا معنى"التوبة" قبل. (2)
* * *
واختلف في معنى قوله:" ويحب المتطهِّرين".
فقال بعضهم: هم المتطهِّرون بالماء.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المخطوطة: "فكذلك يجب مأتى الفرج"، وفي المطبوعة: "فكذلك يجب أن مأتى الفرج" والذي أثبته أشبه بالسياق وبالصواب.
(2) انظر ما سلف 1: 547/ 2: 72- 73/ 3: 81، 259- 261.(4/394)
4302 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا طلحة، عن عطاء قوله:" إن الله يحب التوابين"، قال: التوابين من الذنوب =" ويحب المتطهرين" = قال: المتطهرين بالماء للصلاة.
4303 - حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا طلحة، عن عطاء، مثله.
4304 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء:" إن الله يحب التوابين" من الذنوب، لم يصيبوها =" ويحب المتطهرين"، بالماء للصلوات. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:" إن الله يحب التوابين"، من الذنوب =" ويحب المتطهرين"، من أدبار النساء أن يأتوها.
* ذكر من قال ذلك:
4305 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت سليمان مولى أم علي قال، سمعت مجاهدًا يقول: من أتى امرأته في دبرها فليس من المتطهرين. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"ويحب المتطهرين"، من الذنوب أن يعودوا فيها بعد التوبة منها.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "للصلاة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 4305-"إبراهيم بن نافع" المخزومي المكي، روى عن ابن أبي نجيح، وكثير بن كثير، وعطاء بن أبي رباح، وعدة. روى عنه أبو عامر العقدي وأبو نعيم وغيرهما. كان حافظًا، وكا أوثق شيخ بمكة، وهو ثقة، وكان أحمد يطريه. و"سليمان مولى أم علي"، هو سليم المكي، أبو عبد الله، روى عن مجاهد. وعنه إبراهيم بن نافع وابن جريج وجماعة، صدوق من كبار أصحاب مجاهد. وكلاهما مترجم في التهذيب.(4/395)
4306 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:" يحب التوابين"، من الذنوب، لم يصيبوها =" ويحب المتطهرين"، من الذنوب، لا يعودون فيها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب قولُ من قال:" إنّ الله يحب التوابين من الذنوب، ويحب المتطهرين بالماء للصلاة". لأن ذلك هو الأغلب من ظاهر معانيه.
وذلك أن الله تعالى ذكره ذكر أمرَ المحيض، فنهاهم عن أمور كانوا يفعلونها في جاهليتهم: من تركهم مساكنة الحائض ومؤاكلتها ومشاربتها، وأشياء غير ذلك مما كان تعالى ذكره يكرهها من عباده. فلما استفتى أصحابُ رسولِ الله رسولَ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، (1) أوحى الله تعالى إليه في ذلك، فبيَّن لهم ما يكرهه مما يرضاه ويحبه، وأخبرهم أنه يحب من خلقه من أناب إلى رضاه ومحبته، تائبًا مما يكرهه.
وكان مما بيَّن لهم من ذلك، (2) أنه قد حرّم عليهم إتيان نسائهم وإن طهُرن من حيضهن حتى يغتسلن، ثم قال: ولا تقربوهن حتى يطهُرن، فإذا تطهَّرن فأتوهن، فإن الله يحب المتطهرين = يعني بذلك: المتطهرين من الجنابة والأحداث للصلاة، والمتطهرات بالماء - من الحيض والنفاس والجنابة والأحداث - من النساء.
* * *
وإنما قال:" ويحب المتطهرين" - ولم يقل" المتطهرات" - وإنما جرى قبل ذلك ذكرُ التطهر للنساء، لأن ذلك بذكر" المتطهرين" يجمع الرجال والنساء. ولو ذكر ذلك بذكر" المتطهرات"، لم يكن للرجال في ذلك حظ، وكان للنساء خاصة. فذكر الله تعالى ذكره بالذكر العام جميعَ عباده المكلفين، إذ كان قد
__________
(1) في المطبوعة: "أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك" بإسقاط"رسول الله" الثانية وأثبت الصواب من المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "مع ذلك"، والذي أثبته هو الصواب الحق.(4/396)
نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
تعبَّد جميعَهم بالتطهر بالماء، وإن اختلفت الأسباب التي توجب التطهر عليهم بالماء في بعض المعاني، واتفقت في بعض.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: نساؤكم مُزدَرَعُ أولادكم، فأتوا مُزدرعكم كيف شئتم، وأين شئتم.
* * *
وإنما عني بـ "الحرث" المزدَرَع، و"الحرث" هو الزرع، (1) ولكنهن لما كن من أسباب الحرث، جعلن"حرثًا"، إذ كان مفهومًا معنى الكلام.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4307 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي قال حدثنا ابن المبارك، عن يونس، عن عكرمة، عن ابن عباس:" فأتوا حرثكم"، قال: منبت الولد.
4308 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" نساؤكم حرث لكم"، أما"الحرث"، فهي مَزْرَعة يحرث فيها.
* * *
__________
(1) انظر معنى"الحرث" فيما سلف من هذا الجزء 4: 239، 240. هذا، وقد كان في المطبوعة: "وإنما عني بالحرث وهو الزرع المحترث والمزدرع"، وليست بشيء - وكان في المخطوطة مضطربًا، فلذلك اضطربت المطبوعة. كان هكذا: "وإنما عنى بالزرع، وهو الحرث المزرع والمزدرع"، وضرب على"بالزرع" وكتب"بالحرث" ثم وضع فوق"الحرث والمزدرع" ميمًا على كل كلمة من الكلمتين، يريد بذلك تقديم هذه على هذه، ولكن بقيت الجملة فاسدة أشد فساد، ولم يستطع الناسخ أو طابع المطبوعة أن يرده إلى سياق صحيح، فرددته إلى السياق الصحيح إن شاء الله.(4/397)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فانكحوا مزدرَع أولادكم من حيث شئتم من وجوه المأتى.
* * *
و"الإتيان" في هذا الموضع، كناية عن اسم الجماع. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى قوله:" أنى شئتم".
فقال بعضهم: معنى"أنَّى"، كيف.
* ذكر من قال ذلك:
4309 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن عطية قال، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، قال: يأتيها كيف شاء، ما لم يكن يأتيها في دبرها أو في الحيض.
4310 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قوله:" نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: ائتها أنى شئت، مقبلةً ومدبرةً، ما لم تأتها في الدُّبر والمحيض.
4311 - حدثنا علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يعني بالحرث الفرجَ. يقول: تأتيه كيف شئت، مستقبلهُ ومستدبرهُ (2) وعلى أيّ ذلك أردت، بعد أن لا تجاوز الفرج إلى غيره، وهو قوله:" فأتوهن من حيث أمركم الله".
__________
(1) انظر ما مضى قريبًا ص: 388 والتعليق: 1
(2) الأثر: 4311 - في سنن البيهقي 8: 196، وفيها وفي المطبوعة: "مستقبلة ومستدبرة". وأثبت ما في المخطوطة، فهو جيد.(4/398)
4312 - حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن عبد الكريم، عن عكرمة:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، قال: يأتيها كيف شاء، ما لم يعمل عمل قوم لوط.
4313 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا الحسن بن صالح، عن ليث، عن مجاهد:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: يأتيها كيف شاء، واتَّق الدبر والحيض.
4314 - حدثني عبيد الله بن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي قال، حدثني يزيد: أن ابن كعب كان يقول: إنما قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يقول: ائتها مضجعةً وقائمة ومنحرفةً ومقبلةً ومدبرةً كيف شئت، إذا كان في قُبُلها. (1)
__________
(1) الأثر: 4314- كان هذا الإسناد في المطبوعة: حدثني عبيد الله بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه قال، حدثني يزيد. . "، والصواب إسناد المخطوطة الذي أثبته كما سترى. ولكن يظهر أن الناسخ أو الطابع خلط بين هذا الإسناد الذي أثبتناه والإسناد الآخر الكثير الدوران في التفسير، وهو: "حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي عن أبيه، عن جده، عن ابن عباس" وقد مضى الكلام في هذا الإسناد برقم: 305.
أما إسنادنا هذا، فإن"عبيد الله بن سعد" فهو: عبيد الله بن سعد بن إبراهيم بن سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، أبو الفضل البغدادي" روى عن أبيه وعمه يعقوب بن إبراهيم وغيرهما، وعنه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهما. قال ابن أبي حاتم: "كتبت عنه مع أبي وهو صدوق" مات سنة 260.
أما عمه، فهو يعقوب بن إبراهيم بن سعد الزهري، أبو إسحاق المدني، نزيل بغداد. روى عن أبيه وشعبة، وابن أخي الزهري والليث. وعنه ابن أخيه عبيد الله بن سعد، وأحمد وإسحاق وابن معين. كان ثقة مأمونًا، كتب عنه الناس علما جليلا. مات سنة 208.
وأما أبوه، فهو إبراهيم بن سعد الزهري، وأبو إسحاق المدني، نزيل بغداد. روى عن أبيه وعن الزهري وهشام بن عروة ومحمد بن إسحاق وشعبة ويزيد بن الهاد. روى عنه ابناه يعقوب وسعد وأبو داود والطيالسي وغيرهم.
قال أحمد: ثقة، أحاديثه مستقيمة. مات سنة 183.
وأما"يزيد"، فهو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي. روى عن جماعة كثيرة، منهم محمد بن كعب القرظي، وروى عنه شيخه، يحيى بن سعد الأنصاري وإبراهيم بن سعد والليث بن سعد. ذكره ابن حبان في الثقات، وكان كثير الحديث. مات سنة 139. وأما"ابن كعب"، فهو"محمد بن كعب القرظي"، فهو تابعي، مضت ترجمته.
وسيأتي هذا الإسناد نفسه على الصواب، مع خطأ فيه برقم: 4321.(4/399)
4315 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن مرة الهمداني قال: سمعته يحدث أن رجلا من اليهود لقي رجلا من المسلمين فقال له: أيأتي أحدكم أهلهُ باركًا؟ قال: نعم. قال: فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فنزلت هذه الآية:" نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، يقول: كيف شاء، بعد أن يكون في الفرج.
4316 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إن شئت قائمًا أو قاعدًا أو على جنب، إذا كان يأتيها من الوجه الذي يأتي منه المحيضُ، ولا يتعدَّى ذلك إلى غيره.
4317 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، ائت حرثك كيف شئتَ من قُبُلها، ولا تأتيها في دبرها." أنى شئتم"، قال: كيف شئتم.
4318 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا عمرو بن الحارث، عن سعيد بن أبي هلال: أن عبد الله بن علي حدثه: أنه بلغه أن ناسًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلسوا يومًا ورجل من اليهود قريبٌ منهم، فجعل بعضهم يقول: إنيّ لآتي امرأتي وهي مضطجعة. ويقول الآخر: إني لآتيها وهي قائمة. ويقول الآخر: إني لآتيها على جنبها وباركةً. فقال اليهودي: ما أنتم إلا أمثال البهائم! ولكنا إنما نأتيها على هيئة واحدة! فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرثٌ لكم"، فهو القُبُل. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى:" أنى شئتم"، من حيث شئتم، وأي وجه أحببتم.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 4318- هو عبد الله بن علي بن السائب بن عبيد القرشي المطلبي، روى عن عثمان بن عفان، وحصين بن محصن الأنصاري وعمرو بن أحيحة بن الجلاح، وعنه سعيد بن أبي هلال. مترجم في التهذيب.(4/400)
4319 - حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك، عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأشهل، عن داود بن الحصين، عن عكرمة، عن ابن عباس: أنه كان يكره أن تُؤتى المرأة في دبرها، ويقول: إنما الحرث من القُبُل الذي يكون منه النسل والحيض = وينهى عن إتيان المرأة في دُبُرها ويقول: إنما نزلت هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يقول: من أيّ وجه شئتم. (1)
4320 - حدثنا ابن حميد قال حدثنا ابن واضح قال، حدثنا العتكي، عن عكرمة:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: ظهرها لبطنها غير مُعاجَزة - يعني الدبر. (2)
4321 - حدثنا عبيد الله بن سعد قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي،
__________
(1) الأثر: 4319 - مضى في رقم: 180"موسى بن سهل الرازي"، هكذا جاء في المطبوعة ولكنه في المخطوطة"سهل بن موسى الرازي"، فرجح أخي السيد أحمد أنه خطأ من الناسخ، وأنه لم يجد له ترجمة. ولكن أبا جعفر الطبري قد روى عنه في مواضع من تاريخه: "سهل بن موسى الرازي"، وهكذا هو في المخطوطة هناك، وجاء هنا على ذلك في المخطوطة والمطبوعة. فالصواب أن يكون في رقم: 180"سهل بن موسى الرازي"، كما في المخطوطة هناك.
و"سهل بن موسى الرازي"، لم يترجم بهذا الاسم في الكتب، ولكني رأيت الطبري يروي عنه في التاريخ 1: 169: "حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا ابن أبي فديك. . . "، فالذي في التاريخ يؤيد ما في التفسير. ثم روى عنه في التاريخ 2: 214"حدثنا سهل بن موسى الرازي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مغراء. . . "، فرأيت في ترجمة"عبد الرحمن بن مغراء" في التهذيب أنه يروي عنه"سهل بن زنجلة". و"سهل بن زنجلة" هو: سهل بن أبي سهل الرازي"، روى عن جماعة كثيرة منهم يحيى بن سعيد القطان وسفيان بن عيينة وعبد الرحمن ابن مغراء" وروى عنه ابن ماجه فأكثر، وأبو حاتم، وقد بغداد سنة 231. وترجم له الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد 9: 116- 118، ولم يذكروا تاريخ وفاته. فأخشى أن يكون"سهل بن أبي سهل الرازي"، هو"سهل بن موسى الرازي" نفسه - لم يعرفوا اسم أبيه"موسى"، وعرفه الطبري، لأنه من ناحية بلاده، وأرجو أن يأتي بعد في أسانيد أبي جعفر ما يكشف عن الحق في ذلك.
وأما"ابن أبي فديك"، هو: محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك الديلي مولاهم. مترجم في التهذيب، وذكره ابن حبان في الثقات. مات سنة 200.
(2) الأثر: 4320- هو الإسناد السالف رقم: 4295.(4/401)
عن يزيد، [عن الحارث بن كعب] ، عن محمد بن كعب، قال: إن ابن عباس كان يقول: اسق نباتك من حيث نباته. (1)
4322 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" فأتوا حرثكم أنّى شئتم"، يقول: من أين شئتم. ذكر لنا - والله أعلم - أن اليهود قالوا: إن العرب يأتون النساء من قِبَل إعجازهن، فإذا فعلوا ذلك، جاء الولد أحول، فأكذب الله أحدوثتهم فقال:" نساؤكم حرثٌ لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم".
4323 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال يقول: ائتوا النساء في [غير] أدبارهن على كل نحو = (2) قال ابن جريج: سمعت عطاء بن أبي رباح قال: تذاكرنا هذا عند ابن عباس، فقال ابن عباس: ائتوهن من حيث شئتم، مُقبلة ومدبرةً. فقال رجل: كأنَّ هذا حلالٌ! (3) فأنكر عطاء أن يكون هذا هكذا، وأنكره، كأنه إنما يريد الفرج، مقبلةً ومدبرة في الفرج.
* * *
وقال آخرون معنى قوله:" أنى شئتم"، متى شئتم.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 4321- قد سلف هذا الإسناد برقم: 4314، ولكن وقع في المخطوطة هنا زيادة عن الحارث بن كعب- فوضعناها بين قوسين. ولم أجد في الرواة من يسمى"الحارث بن كعب"، مع أنه تابعي قل أن يغفلوا مثله. فلذلك أخشى أن يكون خطأ أو سبق قلم من ناسخ، ولعله كان"عن يزيد بن الهاد، عن ابن كعب- وهو محمد بن كعب" فصحف الناسخ وحرف. وقد مضى الكلام في هذا الإسناد، فراجعه هناك. وقد رواه البيهقي في السنن 1: 196 من طريق"عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن محمد بن كعب، عن ابن عباس"، فهذا يؤيد ما رجحته من زيادة هذا الذي بين القوسين أو تصحيفه وتحريفه.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "ائتوا النساء في أدبارهن"، وهو لا يستقيم أبدًا، والزيادة بين القوسين لا بد منها للخروج من هذا الفساد. ومجاهد لا يقول بهذا، بل الثابت في الرواية عند إنكاره وإكفار فاعله (ابن كثير 1: 522) .
(3) في المطبوعة: "كان هذا حلالا"، وهو خطأ، صوابه في المخطوطة.(4/402)
4324 - حدثت عن حسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، يقول: مَتى شئتم.
4325 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا أبو صخر، عن أبي معاوية البجلي - وهو عمار الدُّهني -، عن سعيد بن جبير أنه قال: بينا أنا ومجاهد جالسان عند ابن عباس، أتاه رجلٌ فوقف على رأسه فقال: يا أبا العباس - أو: يا أبا الفضل - ألا تشفيني عن آية المحيض؟ (1) فقال: بلى! فقرأ:" ويسألونك عن المحيض" حتى بلغ آخر الآية، فقال ابن عباس: من حيث جاء الدم، من ثَمَّ أمرت أن تأتي. فقال له الرجل: يا أبا الفضل، كيف بالآية التي تتبعها:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"؟ فقال: إي! ويحك! وفي الدُّبُر من حَرْث!! لو كان ما تقول حقًّا، لكان المحيض منسوخًا! إذا اشتغل من ههنا، جئتَ من ههنا! ولكن: أنى شئتم من الليل والنهار. (2)
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أين شئتم، وحيث شئتم.
* ذكر من قال ذلك:
4326 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن عون، عن
__________
(1) في المطبوعة: "من آية المحيض"، والصواب من المخطوطة، ومما مضى رقم: 4280.
(2) الأثر: 4325 - سلف صدره في رقم: 4280، كما أشرنا إليه هناك، "أبو صخر" هو: حميد بن زياد الخراط المصري، مترجم في التهذيب، قال أحمد: "ليس به بأس". مات سنة 189. و"أبو معاوية البجلي"، قد صرح الطبري هنا أنه: عمار بن معاوية الدهني. ذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة 133، وكلاهما مترجم في التهذيب.
هذا وفي المطبوعة والمخطوطة: "إي ويحك"، (بكسر الهمزة وسكون الياء) بمعنى"نعم" حرف جواب، يكون لتصديق المخبر، ولإعلام المستخبر، ولوعد الطالب، فتقع بعد: "قام زيد -وهل قام زيد- واضرب زيدًا" ونحوهن، كما تقع"نعم" بعدهن. وزعم ابن الحاجب أنها إنما تقع بعد الاستفهام، ولا تقع عند الجميع إلا قبل القسم (شرح شواهد المغني لابن هشام) . وأنا أرجح أن تكون الكلمة محرفة، وصوابه"أنى ويحك" (بفتح الهمزة وتشديد النون وفتحها) : أي: أين ذهبت -أو: كيف قلت- ويحك؟(4/403)
نافع قال، كان ابن عمر إذا قرئ القرآن لم يتكلم. قال: فقرأت ذات يوم هذه الآية:" نساؤكم حرثٌ لكم، فأتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال: أتدري فيمن نزلت هذه الآية؟ قلت: لا! قال: نزلت في إتيان النساء في أدبارهن. (1)
4326 م - حدثني يعقوب، حدثنا ابن علية، حدثنا ابن عون، عن نافع، قال: قرأتُ ذاتَ يوم:" نساؤكم حرْثٌ لكم فائتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال ابن عمر: أتدري فيمَ نزلتْ
؟ قلتُ: لا! قال: نزلتْ في إتيان النساء في أدْبارهنّ) . (2)
4327 - حدثني إبراهيم بن عبد الله بن مسلم أبو مسلم قال، حدثنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا إسماعيل بن إبراهيم صاحب الكرابيس، عن ابن عون، عن نافع قال: كنت أمسك على ابن عُمر المصحف، إذ تلا هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال: أن يأتيها في دبرها. (3)
__________
(1) الحديث: 4326 - يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ. ابن علية: هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي.
وهذا الإسناد صحيح جدًا. وانظر التخريج في: 4327.
(2) الحديث: 4326 مكرر -هذا الحديث زدناه من ابن كثير 1: 516- 517، حيث نقله عن الطبري بهذا النص، إسنادًا ومتنًا. ويؤيد ثبوته في هذا الموضع، أن الحافظ ابن حجر ذكره في الفتح 8: 141، عن الطبري، حيث ذكر رواية من مسند إسحاق بن راهويه وتفسيره، ثم قال: "هكذا أورده ابن جرير، من طريق إسماعيل بن علية، عن ابن عون مثله، ثم أشار إلى الحديث التالي لهذا: 4327، فقال: "ومن طريق إسماعيل بن إبراهيم الكرابيسي، عن ابن عون، نحوه". وذكره الحافظ في التلخيص أيضًا، ص: 307، قال: "وكذا رواه الطبري، من طريق ابن علية، عن ابن عون". فثبت وجود هذا الحديث في تفسير الطبري، وتعين موضعه في هذا الموضع واضحًا. والحمد لله.
(3) الحديث: 4327 - أبو عمر الضرير: هو حفص بن عمر الأكبر، مضى في: 3562، ووقع هناك في المطبوعة"أبو عمرو"، وبينا أنه خطأ. وقد ثبت فيها هنا على الصواب.
إسماعيل بن إبراهيم صاحب الكرابيس: ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 1/1/342، فلم يذكر فيه حرجًا. وذكره ابن حبان في الثقات. وهو"صاحب الكرابيس" يعني الثياب. ولذلك يقال له"الكرابيسي" بالياء، نسبة إلى بيعها. ووقع في المطبوعة، (صاحب الكرابيسي) بلفظ النسبة مع كلمة"صاحب". وهو خطأ.
وهذه الأحاديث الثلاثة صحيحة ثابتة عن ابن عمر. وهي حديث واحد بأسانيد ثلاثة. وسيأتي أيضًا نحو معناها: 4331.
وقد روى البخاري 8: 140- 141 معناه عن نافع، عن ابن عمر، بثلاثة أسانيد. ولكنه كنى عن ذلك الفعل ولم يصرح بلفظه. وأطال الحافظ في الإشارة إلى كثير من أسانيده.
وذكره السيوطي 1: 265، ونسبه لمن ذكرنا.
ونقل الحافظ في الفتح 8: 141، عن ابن عبد البر، قال: "ورواية ابن عمر لهذا المعنى صحيحة مشهورة من رواية نافع عنه". ونحو هذا نقل السيوطي 1: 266 عن ابن عبد البر.(4/404)
4328 - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا عبد الملك بن مسلمة قال، حدثنا الدراوردي قال، قيل لزيد بن أسلم: إن محمد بن المنكدر ينهى عن إتيان النساء في أدبارهن. فقال زيد: أشهد على محمد لأخبرني أنه يفعله. (1)
4329 - حدثني عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك بن أنس أنه قيل له: يا أبا عبد الله، إن الناس يروون عن سالم:" كذب العبد، أو: العلجُ، على أبي"! فقال مالك: أشهد على يزيد بن رومان أنه أخبرني، عن سالم بن عبد الله، عن ابن عمر مثل ما قال نافع. فقيل له: فإنَّ الحارث بن يعقوب يروي عن أبي الحباب سعيد بن يسار: أنه سأل ابن عمر فقال له: يا أبا عبد الرحمن، إنا نشتري الجواري فنُحمِّض لهن؟ فقال: وما التحميض؟ قال: الدُّبُر. فقال ابن عمر: أفْ! أفْ! يفعل ذلك مؤمن! - أو قال: مسلم! - فقال مالك: أشهد على ربيعة لأخبرني عن أبي الحباب، عن ابن عمر، مثل ما قال نافع. (2)
__________
(1) الخبر: 4328 -عبد الملك بن مسلمة المصري: روى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم في كتاب فتوح مصر- كثيرًا. وهو ضعيف، ترجمه ابن أبي حاتم 2/2/371، وذكر أن أباه روى عنه، وأنه قال: "هو مضطرب الحديث، ليس بقوي"، وأنه حدثه بحديث موضوع، وأن أبا زرعة قال: "ليس بالقوي، هو منكر الحديث". وله ترجمة في الميزان ولسان الميزان.
(2) الخبر: 4329 -أبو زيد عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر المصري الفقيه: مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/274- 275، باسم"عبد الرحمن بن أبي الغمر"، دون ذكر اسم أبيه"أحمد". وهو من شيوخ البخاري، روى عنه خارج الصحيح.
عبد الرحمن بن القاسم بن خالد، الفقيه المصري، راوي الفقه عن مالك، ثقة مأمون، من أوثق أصحاب مالك.
وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 521- 522، عن هذا الموضع. ولكن وقع فيه خطأ في اسم ابن أبي الغمر، هكذا: "أبو زيد أحمد بن عبد الرحمن بن أحمد بن أبي الغمر".
ونقله الحافظ في الفتح 8: 142، والتلخيص، ص: 308، مختصرًا، ونسبه أيضًا للنسائي والطحاوي، وقال في الفتح: "وأخرجه الدارقطني، من طريق عبد الرحمن بن القاسم، عن مالك. وقال: هذا محفوظ عن مالك صحيح".
ونقله السيوطي 1: 266، مطولا، ونقل كلام الدارقطني.(4/405)
4330 - حدثني محمد بن إسحاق قال، أخبرنا عمرو بن طارق قال، أخبرنا يحيى بن أيوب، عن موسى بن أيوب الغافقي قال: قلت لأبي ماجد الزيادي: إنّ نافعًا يحدث عن ابن عمر في دُبر المرأة. فقال: كذب نافع! صحبت ابن عمر ونافعٌ مملوكٌ، فسمعته يقول: ما نظرت إلى فرج امرأتي منذ كذا وكذا. (1)
4331 - حدثني أبو قلابة قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثني أبي، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: في الدبر. (2)
__________
(1) الخبر: 4330 -عمرو بن طارق: هو عمرو بن الربيع بن طارق الهلالي المصري، وهو ثقة. نسب هنا إلى جده. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/233. يحيى بن أيوب: هو الغافقي المصري. مضى في: 3877.
موسى بن أيوب بن عامر الغافقي الهباري المصري: ثقة، روى عنه الليث بن سعد، وابن المبارك، ووثقه ابن معين.
أبو ماجد الزيادي: تابعي، ترجمه البخاري في الكنى، رقم: 688، وابن أبي حاتم 4/2/455 ورويا عنه هذا الخبر، بلفظين مختلفين، مخالفين لما هنا.
فقال البخاري: "أبو ماجد الزيادي، سمع ابن عمر، قال: ما نظرت إلى فرج امرأة منذ أسلمت. قاله يحيى بن سليمان، عن ابن وهب، سمع موسى بن أيوب، عن أبي ماجد".
وقال ابن أبي حاتم: "أبو ماجد الزيادي، سمع عبد الله بن عمرو، قال: ما نظرت إلى فرجي منذ أسلمت. روى عنه موسى بن أيوب الغافقي. سمعت أبي يقول ذلك".
والظاهر أن"عبد الله بن عمرو"، عند ابن أبي حاتم -تحريف ناسخ أو طابع. ولكن لا يزال الاختلاف قائمًا في المعنى بين هاتين الروايتين، وبينهما وبين رواية الطبري هذه. ولم أجد ما يرجح إحداها على غيرها.
(2) الخبر: 4331 -أبو قلابة، شيخ الطبري: هو الرقاشي الضرير الحافظ، واسمه: عبد الملك بن محمد بن عبد الله بن محمد، وهو ثقة، روى عنه الأئمة، منهم ابن خزيمة، وابن جرير، وأبو العباس الأصم. وقال أبو داود سليمان بن الأشعث: "رجل صدوق، أمين مأمون، كتبت عنه بالبصرة". وقال الطبري: "ما رأيت أحفظ منه". مترجم في التهذيب. ابن أبي حاتم 2/2/369- 370، وتاريخ بغداد 10: 425- 427، وتذكرة الحفاظ 2: 143- 144. عبد الصمد: هو ابن عبد الوارث.
وهذا الخبر رواه البخاري 8: 140- 141، عن إسحاق، هو ابن راهويه، عن عبد الصمد. ولكنه حذف المكان بعد حرف"في"، فلم يذكر لفظه. وذكر الحفاظ في الفتح أنه صريح في رواية الطبري هذه.
ونقله ابن كثير 1: 517، عن الطبري بإسناده. ونقله السيوطي 1: 265، ونسبه للبخاري وابن جرير.(4/406)
4332 - حدثني أبو مسلم قال، حدثنا أبو عمر الضرير قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا روح بن القاسم، عن قتادة قال: سئل أبو الدرداء عن إتيان النساء في أدبارهن، فقال: هل يفعل ذلك إلا كافر! قال روح: فشهدت ابن أبي مليكة يُسأل عن ذلك فقال: قد أردته من جارية لي البارحةَ فاعتاص عليّ، فاستعنت بدهن أو بشحم. قال: فقلت له، سبحان الله!! أخبرنا قتادة أنّ أبا الدرداء قال: هل يفعل ذلك إلا كافر! فقال: لعنك الله ولعن قتادة! فقلت: لا أحدث عنك شيئًا أبدًا! ثم ندمت بعد ذلك. (1)
* * *
قال أبو جعفر (2) واعتل قائلو هذه المقالة لقولهم، بما:-
4333 - حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، أخبرنا أبو بكر بن أبي أويس الأعشى، عن سليمان بن بلال، عن زيد بن أسلم، عن ابن عمر: أن رجلا أتى امرأته في دبرها فوجد في نفسه من ذلك، فأنزل الله:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم". (3)
__________
(1) الخبر: 4332 - هو في الحقيقة خبران، أولهما عن أبي الدرداء، وثانيهما أثر عن ابن أبي مليكة لا يصلح للاستدلال. فكلامنا عن خبر أبي الدرداء.
وقد رواه الطبري هنا بإسناده إلى قتادة، "قال: سئل أبو الدرداء. . . "، وهو منقطع. فقد رواه أحمد في المسند: 6968 م بإسناده إلى قتادة، قال: "وحدثني عقبة بن وساج، عن أبي الدرداء، قال: وهل يفعل ذلك إلا كافر"؟! . وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 199. وقد خرجناه في شرح المسند.
(2) من هنا ابتداء جزء من التقسيم القديم للتفسير فيما يظهر، فإنه قد كتب بعد ما سلف.
"يتلُوه: واعتل قائلو هذه المقالة
وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه كثيرًا"
ثم بدأ صفحة جديدة أولها:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
ربّ أعن يا كريم
(3) الحديث: 4333 - أبو بكر بن أبي أويس: هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله بن أويس المدني الأعشى، وهو ثقة.
سليمان بن بلال أبو أيوب المدني: ثقة معروف، أخرج له الأئمة الستة.
وهذا الحديث نقله ابن كثير 1: 517، من رواية النسائي، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، كمثل رواية الطبري وإسناده سواء. ونقله الحافظ في التلخيص: 307- 308، والسيوطي 1: 265- 266، ونسباه للنسائي والطبري فقط.(4/407)
4334 - حدثني يونس قال، أخبرني ابن نافع، عن هشام بن سعد، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار: أن رجلا أصاب امرأته في دبرها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنكر الناس ذلك وقالوا: أثْفَرها! فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم" الآية. (1)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ائتوا حرثكم كيف شئتم - إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا.
* ذكر من قال ذلك:
4335 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا الحسن بن صالح، عن ليث، عن عيسى بن سنان، عن سعيد بن المسيب:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا.
4336 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن زائدة بن عمير، عن ابن عباس قال: إن شئت فاعزل، وإن شئت فلا تعزل. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأما الذين قالوا: معنى قوله:" أنى شئتم"، كيف شئتم مقبلة ومدبرة في الفرْج والقُبُل، فإنهم قالوا: إن الآية إنما نزلت في استنكار قوم من اليهود، استنكروا إتيان النساء في أقبالهن من قِبل أدبارهن. قالوا: وفي ذلك دليل على صحة ما قلنا،
__________
(1) الحديث: 4334- هذا حديث مرسل، لأن عطاء بن يسار تابعي. وقوله"أثفرها": من"الثفر"، بفتح الثاء المثلثة والفاء، وهو ما يوضع للدابة تحت ذنبها يشد به السرج. شبه ذلك الفعل بوضع الثفر على دبر الدابة.
(2) الخبر: 4336- أبو إسحاق: هو السبيعي. زائدة بن عمير الطائي الكوفي: تابعي ثقة وثقه ابن معين وغيره. قال البخاري في الكبير 2/1/394: "سمع ابن عباس". وترجمه ابن أبي حاتم 1/2/612، وذكره ابن سعد في الطبقات 6: 218.(4/408)
من أن معنى ذلك على ما قلنا. واعتلوا لقيلهم ذلك بما:-
4337 - حدثني به أبو كريب قال، حدثنا المحاربي قال، حدثنا محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد قال: عرضت المصحف على ابن عباس ثلاث عَرَضات من فاتحته إلى خاتمته، أوقفه عند كل آية وأساله عنها، حتى انتهى إلى هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، فقال ابن عباس: إن هذا الحي من قريش كانوا يشرحون النساء بمكة، (1) ويتلذذون بهن مقبلاتٍ ومدبراتٍ. فلما قدموا المدينة تزوّجوا في الأنصار، فذهبوا ليفعلوا بهن كما كانوا يفعلون بالنساء بمكة، فأنكرن ذلك وقلن: هذا شيء لم نكن نُؤْتَى عليه! فانتشر الحديث حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إن شئت فمقبلة، وإن شئت فمدبرة، وإن شئت فباركة، وإنما يعني بذلك موضع الولد للحرث. يقول: ائت الحرث من حيث شئت.
4338- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير، عن محمد بن إسحاق بإسناده نحوه. (2)
4339 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن محمد بن المنكدر قال: سمعت جابرًا يقول: إن اليهود كانوا يقولون: إذا جامع الرجل أهله في فرجها من ورائها كان ولده أحول. فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم".
__________
(1) شرح الرجل امرأته شرحًا: إذا سلقها فوطئها نائمة على قفاها.
(2) الحديثان: 4337- 4338- هما حديث واحد، بإسنادين. وأبان بن صالح بن عمير بن عبيد: ثقة، وثقه ابن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم.
والحديث رواه أبو داود: 2164، والحاكم في المستدرك 2: 195، 279، والبيهقي 7: 195- 196، مطولا ومختصرًا، من طريق محمد بن إسحاق. وقال الحاكم في الموضع الأول: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم. ولم يخرجاه بهذه السياقة". ووافقه الذهبي.
ونقله ابن كثير 1: 516، عن رواية أبي داود. وكذلك الحافظ في التلخيص، ص: 308.
ونقله السيوطي 1: 263، وزاد نسبته لابن راهويه، والدارمي، وابن المنذر، والطبراني.(4/409)
4340- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا الثوري، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال: قالت اليهود: إذا أتى الرجل امرأته في قُبُلها من دُبُرها، وكان بينهما ولد، كان أحول. فأنزل الله تعالى ذكره:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم". (1)
4341 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن
__________
(1) الحديثان: 4339- 4340- هما حديث واحد، بإسنادين، ولفظين متقاربين. وهو حديث صحيح مشهور. رواه البخاري 8: 141- 143، من طريق سفيان، وهو الثوري، عن ابن المنكدر، عن جابر.
ونقله ابن كثير 1: 514، من رواية البخاري، ثم من رواية ابن أبي حاتم. وذكره السيوطي 1: 261، وزاد نسبته إلى أصحاب السنن الأربعة، والبيهقي، وغيرهم.
وهو في سنن البيهقي 1947-: 195، من ثلاثة طرق، عن ابن المنكدر، عن جابر. وذكره أنه رواه مسلم في صحيحه من تلك الطرق الثلاث.
وسيأتي بنحوه: 4346، من رواية شعبة، عن ابن المنكدر، عن جابر.
وانظر المنتقى: 3652، 3653.(4/410)
عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة زوح النبي صلى الله عليه وسلم قالت: تزوج رجل امرأةً فأراد أن يجبِّيَها، فأبت عليه، (1) وقالت: حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم! قالت أم سلمة: فذكرتْ ذلك لي، فذكرت أم سلمة ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أرسلي إليها. فلما جاءت قرأ عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم:" نساؤكم حرْث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، صِمامًا واحدًا، صِمامًا واحدًا. (2)
4342 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام، عن سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن ابن سابط، عن حفصة ابنة عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أم سلمة قالت: قدِم المهاجرون فتزوجوا في الأنصار، وكانوا يُجَبُّون، وكانت الأنصار لا تفعل ذلك، فقالت امرأة لزوجها: حتى آتي النبي صلى الله عليه وسلم فأسأله عن ذلك! فأتت النبيَّ صلى الله عليه وسلم فاستحيت أن تسأله، فسألتُ أنا، فدعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليها:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"،"صمامًا واحدًا، صمامًا واحدًا". (3)
4343 - حدثني أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة بنت عبد الرحمن، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (4)
4344 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن عبد الرحمن بن سابط، عن حفصة ابنة عبد الرحمن، عن أم سلمة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قوله:"
__________
(1) جبى الرجل أو المرأة يجبى تجبية: أن ينكب على وجهه باركًا، وهو السجود. شبه هذا بهيئة السجود.
(2) الحديث: 4341- عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري المكي: تابعي، ثقة حجة، كما قال ابن معين. و"خثيم": بضم الخاء المعجمة وفتح الثاء المثلثة، مصغرًا. ووقع في المطبوعة، هنا، وفي: 4344"جشم"، وهو تصحيف. عبد الرحمن بن سابط: تابعي معروف، مضت ترجمته: 599.
حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق: تابعية ثقة.
والحديث رواه أحمد في المسند 6: 305 (حلبي) ، عن عفان، عن وهيب، عن عبد الله بن عثمان ابن خثيم، بهذا الإسناد، نحوه، مطولا. ونقله ابن كثير 1: 515 عن رواية المسند. وواقع في مطبوعته تحريف وتصحيف.
ورواه البيهقي 7: 195، بنحوه مختصرًا، من طريق سفيان، ومن طريق روح بن القاسم - كلاهما عن عبد الله بن عثمان بن خثيم.
وذكره السيوطي 1: 262، مطولا. وزاد نسبته لابن أبي شيبة، والدارمي، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم.
وسيأتي عقب هذا، مطولا ومختصرًا: 4342- 4345.
الصمام ما أدخل في فم القارورة تسد به. فسمى الفرج به، لأنه موضع صمام، على التشبيه وحذف المضاف. ومعناه: في مسلك واحد.
(3) الحديث: 4342- سفيان: هو الثوري، روى الحديث عن عبد الله بن عثمان. ولكن وقع في المطبوعة"سفيان بن عبد الله بن عثمان"! وهو خطأ سخيف. ووقع في المخطوطة"عن ابن سليط" بدل"ابن سابط". وهو خطأ. والحديث مكرر ما قبله بنحوه.
(4) الحديث: 4343- أبو أحمد: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي. والحديث مكرر ما قبله.(4/411)
نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، قال: صمامًا واحدًا، صمامًا واحدًا". (1)
4345 - حدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال، حدثني وهيب قال، حدثني عبد الله بن عثمان، عن عبد الرحمن بن سابط قال: قلت لحفصة، إني أريد أن أسألك عن شيء، وأنا أستحيي منك أن أسألك؟ قالت: سل يا بنيّ عما بدا لك! قلت: أسألك عن غِشيان النساء في أدبارهن؟ قالت: حدثتني أم سلمة قالت: كانت الأنصار لا تُجَبِّي، وكان المهاجرون يُجَبُّون، فتزوج رجل من المهاجرين امرأة من الأنصار = ثم ذكر نحو حديث أبي كريب، عن معاوية بن هشام. (2)
4346 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثني وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن ابن المنكدر قال: سمعت جابر بن عبد الله يقول: إن اليهود كانوا يقولون: إذا أتى الرجل امرأته باركة جاء الولد أحول. فنزلت" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم". (3)
4347 - حدثني محمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي قال، حدثنا الحسن بن موسى قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هلكتُ!! قال: وما الذي أهلكك؟ قال: حوَّلتُ رحلي الليلة! قال: فلم يردّ
__________
(1) الحديث: 4344- هو مكرر ما قبله مختصرًا. وهكذا رواه الترمذي 4: 75، مختصرًا عن ابن أبي عمر عن سفيان، وهو الثوري به.
(2) الحديث: 4345- يعقوب بن إسحاق بن زيد الحضرمي، المقرئ النحوي ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه.
وهيب -بالتصغير-: هو ابن خالد بن عجلان وهو ثقة ثبت حجة.
والحديث مكرر: 4342، بنحوه حيث أحال الطبري لفظ هذا على لفظ ذلك.
(3) الحديث: 4346- هو مكرر: 4339، 4340. ووقع في المخطوطة"باركًا" بدل"باركة" وهو خطأ.(4/412)
عليه شيئًا، قال: فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"، أقبِل وأدبِر، واتق الدُّبر والحيْضة". (1)
4348 - حدثنا زكريا بن يحيى المصري قال، حدثنا أبو صالح الحراني قال، حدثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب: أن عامر بن يحيى أخبره، عن حنش الصنعاني، عن ابن عباس: أن ناسًا من حميرَ أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن أشياء، فقال رجل منهم: يا رسول الله، إنّي رجل أحب النساء، فكيف ترى في ذلك؟ فأنزل الله تعالى ذكره في"سورة البقرة" بيان ما سألوا عنه، وأنزل فيما سأل عنه الرجل:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنَّى شئتم"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ائتها مُقبلةً ومُدبرةً، إذا كان ذلك في الفرج". (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا قولُ من قال: معنى قوله" أنى شئتم"، من أيّ وجه شئتم. وذلك أن"أنَّى" في كلام العرب كلمة تدلّ إذا ابتدئ بها في الكلام - على المسألة عن الوجوه والمذاهب. فكأن القائل
__________
(1) الحديث: 4347- محمد بن أحمد بن عبد الله الطوسي: لم أعرفه ولا وجدت له ترجمة الحسن بن موسى الأشيب: ثقة حافظ متثبت، من شيوخ أحمد، يكثر الرواية عنه في المسند.
يعقوب القمي: مضت ترجمته في: 617. جعفر: هو ابن أبي مغيرة. مضى أيضًا في: 617. والحديث رواه أحمد في المسند: 2703 عن شيخه حسن بن موسى الأشيب بهذا الإسناد وقد خرجناه هناك. ونزيد أنه رواه أيضًا ابن حبان في صحيحه 6: 364- 365 (مخطوطة الإحسان) والبيهقي 7: 198.
(2) الحديث: 4348- زكريا بن يحيى بن صالح القضاعي المصري: ثقة من شيوخ مسلم في صحيحه.
أبو صالح الحراني: هو عبد الغفار بن داود بن مهران، وهو ثقة من شيوخ البخاري في صحيحه.
يزيد بن أبي حبيب المصري: ثقة أخرج له الجماعة، قال الليث بن سعد: "يزيد بن أبي حبيب سيدنا وعالمنا". وقال ابن سعد: "كان مفتي أهل مصر في زمانه، وكان حليما عاقلا". حنش الصنعاني: مضى في: 1914.
والحديث ذكره ابن كثير 1: 514- 515 من رواية ابن أبي حاتم في تفسيره، عن يونس عن ابن وهب عن ابن لهيعة. بهذا الإسناد. وذكره السيوطي 1: 262- 263، وزاد نسبته للطبراني والخرائطي. وروى أحمد في المسند: 2414- نحوه ولكن فيه أن السائلين كانوا من الأنصار. وإسناده ضعيف، من أجل رشدين بن سعد في إسناده.(4/413)
إذا قال لرجل:"أنى لك هذا المال"؟ يريد: من أيّ الوجوه لك. ولذلك يجيب المجيبُ فيه بأن يقول:"من كذا وكذا"، كما قال تعالى ذكره مخبرًا عن زكريا في مسألته مريم: (أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) [سورة آل عمران: 37] . وهي مقاربة"أين" و"كيف" في المعنى، ولذلك تداخلت معانيها، فأشكلت"أنَّى" على سامعيها ومتأوِّليها، (1) حتى تأوَّلها بعضهم بمعنى:"أين"، وبعضهم بمعنى"كيف"، وآخرون بمعنى:"متى" - وهي مخالفة جميع ذلك في معناها، وهن لها مخالفات.
وذلك أن"أين" إنما هي حرف استفهام عن الأماكن والمحال - وإنما يستدل على افتراق معاني هذه الحروف بافتراق الأجوبة عنها. ألا ترى أن سائلا لو سأل آخر فقال:"أين مالك"؟ لقال:"بمكان كذا"، ولو قال له:"أين أخوك"؟ لكان الجواب أن يقول:"ببلدة كذا أو بموضع كذا"، فيجيبه بالخبر عن محل ما سأله عن محله. فيعلم أن"أين" مسألة عن المحل.
ولو قال قائل لآخر:"كيف أنت"؟ لقال:"صالح، أو بخير، أو في عافية"، وأخبره عن حاله التي هو فيها، فيعلم حينئذ أن"كيف" مسألةٌ عن حال المسؤول عن حاله.
ولو قال له:"أنَّى يحيي الله هذا الميت؟ "، لكان الجواب أن يقال:"من وجه كذا ووجه كذا"، فيصف قولا نظيرَ ما وصف الله تعالى ذكره للذي قال: (أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا) [سورة البقرة: 259] فعلا (2) حين بعثه من بعد مماته.
__________
(1) في المخطوطة: "على سامعيها ومتاولها" بالجمع مرة والإفراد أخرى. وفي المطبوعة: "على سامعها ومتأولها" بالإفراد.
(2) قوله"فعلا" مفعول قوله: "نظير ما وصف الله. . . فعلا" يعني أن الله تعالى وصف بعد ذلك"فعلا" وهذا الفعل هو بعثه من بعد مماته، وذلك قول الله تعالى في عقب ذلك} :
فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ {(4/414)
وقد فرَّقت الشعراء بين ذلك في أشعارها، فقال الكميت بن زيد:
تَذَكَّر مِنْ أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ شُرْبَهُ ... يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ كَذِي الهَجْمَةِ الأبِلْ (1)
وقال أيضًا:
أَنَّى وَمِنْ أَيْنَ - آبَكَ - الطَّرَبُ ... مِنْ حَيْثُ لا صَبْوَةٌ وَلا رِيَبُ (2)
فيجاء بـ "أنى" للمسألة عن الوجه، وبـ "أين" للمسألة عن المكان، فكأنه قال: من أيّ وجه، ومن أي موضع راجعك الطرب؟
والذي يدل على فساد قول من تأول قول الله تعالى ذكره:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، كيف شئتم - أو تأوله بمعنى: حيث شئتم = أو بمعنى: متى شئتم = أو بمعنى: أين شئتم = أن قائلا لو قال لآخر:"أنى تأتي أهلك؟ "، لكان الجواب
__________
(1) اللسان (أبل) آمره يؤامره: شاوره. وقوله: "نفيسه" جعل النفس نفسين، لأن النفس تأمر. المرء بالشيء وتنهى عنه، وذلك في كل مكروه أو مخوف فجعلوا ما يأمره"نفسًا" وما ينهاه"نفسًا" وقد بينها الممزق العبدي في قوله: أَلاَ مَنْ لِعَيْنٍ قَدْ نَآهَا حَمِيمُهَا ... وَأَرَّقَنِي بَعْدَ المَنَامِ هُمُومُها
فَبَاتَتْ له نَفْسَانِ شَتَّى هُمُومُها ... فنَفْسٌ تُعَزِّيهَا ونفْسٌ تَلُومُها
و"الهجمة": القطعة الضخمة من الإبل من السبعين إلى المئة. ويقال: "رجل أبل" إذا كان حاذقا بمصلحة الإبل والقيام عليها. ولم أجد شعر الكميت، ولكني أرجح أن هذا البيت من أبيات في حمار وحش، قد أخذ أتنه (وهي إناثه) ليرد بها ماء، فوقف بها في موضع عين قديمة كان شرب منها، فهو متردد في موقفه، فشبهه يراعى الإبل الكثيرة، إذا كان خبيرًا برعيتها فوقف بها ينظر أين يسلك إلى الماء والمرعى.
(2) الهاشميات: 31. قوله: "آبك" معترضة بين كلامين كما تقول: "ويحك" بين كلامين وسياقه"أنى ومن أين الطرب"؟ و"آبك" بمعنى"ويلك" يقال لمن تنصحه ولا يقبل ثم يقع فيما حذرته منه، كأنه بمعنى: أبعدك الله! دعاء عليه؟ من ذلك قول رجل من بني عقيل: أَخَبَّرْتَنِي يَا قَلْبُ أَنَّكَ ذُو غَرًى ... بَليْلَي? فَذُقْ مَا كُنْتَ قبلُ تَقُولُ!
فآبَكَ! هلاَّ وَاللَّيَالِي بِغِرَّةٍ ... تُلِمُّ وَفِي الأَيَّامِ عَنْكَ غُفُولُ!!
بيد أن أبا جعفر فسر"آبك" بمعنى: "راجعك الطرب" من الأوبة، وهو وجه في التأويل، ولكن الأجود ما فسرت والشعر بعده دال على صواب ما ذهبت إليه.(4/415)
أن يقول:"من قُبُلها، أو: من دُبُرها"، كما أخبر الله تعالى ذكره عن مريم = إذْ سئلت: (أَنَّى لَكِ هَذَا) = أنها قالت: (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) .
وإذ كان ذلك هو الجواب، فمعلومٌ أن معنى قول الله تعالى ذكره:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، إنما هو: فأتوا حرثكم من حيثُ شئتم من وجوه المأتى - وأنّ ما عدا ذلك من التأويلات فليس للآية بتأويل.
وإذ كان ذلك هو الصحيح، فبيِّنٌ خطأ قول من زعم أن قوله:" فأتوا حرثكم أنى شئتم"، دليلٌ على إباحة إتيان النساء في الأدبار، لأن الدُّبر لا مُحْتَرَثَ فيه، (1) وإنما قال تعالى ذكره:" حرث لكم"، فأتوا الحرث من أيّ وجوهه شئتم. وأيُّ مُحْتَرَث في الدُبر فيقال: ائته من وجهه؟ وبيِّنٌ بما بينا، (2) صحةُ معنى ما روي عن جابر وابن عباس: من أن هذه الآية نزلت فيما كانت اليهود تقوله للمسلمين:"إذا أتَى الرجلُ المرأةَ من دُبرها في قُبُلها، جاء الولد أحول". (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك:
فقال بعضهم: معنى ذلك: قدموا لأنفسكم الخيرَ.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "لا يخترث فيه" وكلاهما قريب، والذي في المخطوطة جود.
(2) في المطبوعة: "وتبين بما بينا" والصواب من المخطوطة، وهو عطف على قوله آنفًا: "فبين خطأ من زعم".
(3) حجة أبي جعفر في هذا الفصل من أحسن البيان عن معاني القرآن وعن معاني ألفاظه وحروفه وهي دليل على أن معرفة العربية، وحذقها والتوغل في شعرها وبيانها وأساليبها أصل من الأصول، لا يحل لمن يتكلم في القرآن أن يتكلم فيه حتى يحسنه ويحذقه. ورحم الله ابن إدريس الشافعي حيث قال- فيما رواه الخطيب البغدادي عنه في كتاب"الفقيه والمتفقه".
"لا يحلُّ لأحدٍ أنْ يُفْتِي في دِينِ اللهِ إلّا رجلًا عارفًا بكتاب الله: بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله ومكيِّه ومدنيِّه، وما أريدَ به= ويكون بعد ذلك بصيرًا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناسخ والمنسوخ ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن= ويكون بصيرًا باللغة بصيرًا بالشعر، وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف = ويكون بعد هذا مشرفًا على اختلاف أهل الأمصار= وتكون له قريحةٌ بعد هذا. فإذا كانَ هكذا فله أنْ يتكلّم ويفتي في الحلال والحرام، وإذا لم يكنْ هكذا، فليس له أن يفتي".
فليت من يتكلم في القرآن والدين من أهل زماننا يتورع من مخافة ربه، ومن هول عذابه يوم يقوم الناس لرب العالمين.(4/416)
4349 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:" وقدموا لأنفسكم"، فالخيرَ.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وقدموا لأنفسكم ذكرَ الله عند الجماع وإتيان الحرث قبل إتيانه.
* ذكر من قال ذلك:
4350 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني محمد بن كثير، عن عبد الله بن واقد، عن عطاء - قال: أراه عن ابن عباس:-" وقدموا لأنفسكم"، قال: يقول:"بسم الله"، التسمية عند الجماع. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية ما روينا عن السدي، وهو أن قوله:" وقدموا لأنفسكم"، أمرٌ من الله تعالى ذكره عبادَه بتقديم الخير والصالح من الأعمال ليوم معادهم إلى ربهم، عُدّةً منهم ذلك لأنفسهم عند لقائه في موقف الحساب، فإنه قال تعالى ذكره: (وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) [سورة البقرة: 110 \ وسورة المزمل: 20] .
__________
(1) في المطبوعة: "قال: التسمية عند الجماع يقول: بسم الله" على التقديم والتأخير.(4/417)
وإنما قلنا: ذلك أولى بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره عقَّب قوله:" وقدموا لأنفسكم" بالأمر باتقائه في ركوب معاصيه. فكان الذي هو أولى بأن يكون قبلَ التهدُّد على المعصية - إذ كان التهدُّد على المعصية عامًّا - الأمرُ بالطاعة عامًّا. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: وما وجه الأمر بالطاعة بقوله:" وقدِّموا لأنفسكم"، من قوله:" نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم"؟
قيل: إن ذلك لم يقصد به ما توهمتَه: وإنما عنى به: وقدموا لأنفسكم من الخيرات التي ندبناكم إليها بقولنا:" يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خيرٍ فللوالدين والأقربين"، وما بعده من سائر ما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجيبوا عنه، مما ذكره الله تعالى ذكره في هذه الآيات. ثم قال تعالى ذكره: قد بيّنا لكم ما فيه رَشَدكم وهدايتكم إلى ما يُرضي ربكم عنكم، فقدِّموا لأنفسكم الخيرَ الذي أمركم به، واتخذوا عنده به عهدًا، لتجدوه لديه إذا لقيتموه في معادكم = واتقوه في معاصيه أن تقربوها، وفي حدوده أن تُضِيعوها، واعلموا أنكم لا محالة ملاقوه في معادكم، فَمُجازٍ المحسنَ منكم بإحسانه، والمسيء بإساءته. (2)
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "الذي هو أولى بأن يكون قبل التهدد عامًا" وفي المطبوعة: "التهديد"، وهي جملة غير مستقيمة، فحذفت"الذي" وزدت: "إذ كان التهدد على المعصية"، ليستقيم معنى الكلام وسياقه.
(2) في المطبوعة: "فمجازي" بالياء في آخره. والصواب ما أثبت.(4/418)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) }
قال أبو جعفر: وهذا تحذيرٌ من الله تعالى ذكره عبادَه: أن يأتوا شيئًا مما نهاهم عنه من معاصيه = وتخويفٌ لهم عقابَه عند لقائه، كما قد بيَّنا قبل = وأمرٌ لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أن يبشر من عباده، بالفوز يوم القيامة وبكرامة الآخرة وبالخلود في الجنة، من كان منهم محسنًا مؤمنًا بكتبه ورسله، وبلقائه، مصدِّقًا إيمانَه قولا بعمله ما أمره به ربُّه، وافترض عليه من فرائضه فيما ألزمه من حقوقه، وبتجنُّبه ما أمره بتجنُّبه من معاصيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم".
فقال بعضهم: معناه: ولا تجعلوه عِلَّة لأيمانكم، وذلك إذا سئل أحدكم الشيء من الخير والإصلاح بين الناس قال:"عليّ يمين بالله ألا أفعل ذلك" - أو"قد حلفت بالله أن لا أفعله"، فيعتلّ في تركه فعل الخير والإصلاح بين الناس بالحلف بالله.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر ما سلف، مقالة الطبري في"ملاقو ربهم" 2: 20- 22.(4/419)
4351 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:" ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الأمر الذي لا يصلح، ثم يعتلّ بيمينه، يقول الله:" أن تبرُّوا وتتقوا" هو خير له من أن يمضي على ما لا يصلح، وإن حلفت كفَّرت عن يمينك وفعلت الذي هو خيرٌ لك.
4352 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه مثله = إلا أنه قال: وإن حلفت فكفِّر عن يمينك، وافعل الذي هو خير.
4353 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا عبيد الله، عن إسرائيل، عن السدي، عمن حدثه، عن ابن عباس في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يكلم قرابته ولا يتصدق، أو أن يكون بينه وبين إنسان مغاضبة فيحلف لا يُصلح بينهما ويقول:"قد حلفت". قال: يكفّر عن يمينه:" ولا تجعلوا الله عُرضة لأيمانكم".
4354 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا تجعلوا الله عُرضةً لأيمانكم أن تبرُّوا وتتقوا"، يقول: لا تعتلُّوا بالله، أن يقول أحدكم إنه تألَّى أن لا يصل رَحمًا، (1) ولا يسعى في صلاح، ولا يتصدَّق من ماله. مهلا مهلا بارك الله فيكم، فإن هذا القرآن إنما جاء بترك أمر الشيطان، فلا تطيعوه، ولا تُنْفِذوا له أمرًا في شيء من نذروكم ولا أيمانكم.
4355 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن سعيد بن جبير:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف لا يصلح بين الناس ولا يبر، فإذا قيل له، قال:"قد حلفتُ".
__________
(1) تألى الرجل: أقسم بالله، ومثله"آل".(4/420)
4356 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، سألت عطاء عن قوله:" ولا تجعلوا الله عرضةً لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قال: الإنسان يحلف أن لا يصنع الخير، الأمرَ الحسن، يقول:"حلفت"! قال الله: افعل الذي هو خيرٌ وكفِّر عن يمينك، ولا تجعل الله عرضةً.
4357 - حدثت عن الحسين قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سليمان قال، سمعت الضحاك، يقول في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" الآية: هو الرجل يحرّم ما أحل الله له على نفسه، فيقول:"قد حلفت! فلا يصلح إلا أن أبرَّ يميني"، فأمرهم الله أن يكفّروا أيمانهم ويأتوا الحلال. (1)
4358 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، أما" عُرضة"، فيعرض بينك وبين الرجل الأمرُ، فتحلف بالله لا تكلمه ولا تصله. وأما" تبرُّوا"، فالرجل يحلف لا يبرُّ ذا رحمه فيقول:"قد حلفت! "، فأمر الله أن لا يعرض بيمينه بينه وبين ذي رحمه، وليبَرَّه، ولا يبالي بيمينه. وأما" تصلحوا"، فالرجل يصلح بين الاثنين فيعصيانه، فيحلف أن لا يصلح بينهما، فينبغي له أن يصلح ولا يبالي بيمينه. وهذا قبل أن تنزل الكفَّارات. (2)
4359 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: يحلف أن لا يتقي الله، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين، فلا يمنعه يمينُه.
* * *
__________
(1) الأثر: 4357- في المطبوعة: "حدثت عن عمار بن الحسن، قال سمعت أبا معاذ" وهو خطأ صرف والصواب من المخطوطة، وهو مع ذلك إسناد دائر في التفسير أقربه رقم: 4324. و"الحسين" هو"الحسين بن الفرج".
(2) انظر كلام أبي جعفر في هذا الأثر فيما بعد ص: 426.(4/421)
وقال آخرون: معنى ذلك: ولا تعترضوا بالحلف بالله في كلامكم فيما بينكم، فتجعلوا ذلك حجة لأنفسكم في ترك فعل الخير.
* ذكر من مال ذلك:
4360 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، يقول: لا تجعلني عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير، ولكن كفِّر عن يمينك واصنع الخير.
4361 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا".
4362 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف أن لا يبرّ قرابته، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين. يقول: فليفعل، وليكفِّر عن يمينه.
4363 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن محمد بن عبد الرحمن بن يزيد، عن إبراهيم النخعي في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قال: لا تحلف أن لا تتقي الله، ولا تحلف أن لا تبرَّ ولا تعمل خيرًا، ولا تحلف أن لا تصل، ولا تحلف أن لا تصلح بين الناس، ولا تحلف أن تقتل وتقطَع.
4364 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن داود، عن سعيد بن جبير = ومغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله(4/422)
عرضة" الآية، قالا هو الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يتقي، ولا يصلح بين الناس. وأمِر أن يتقي الله، ويصلحَ بين الناس، ويكفّر عن يمينه.
4365 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل = عن ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، فأمروا بالصلة والمعروف والإصلاح بين الناس. فإن حلف حالف أن لا يفعل ذلك فليفعله، وليدع يمينه. (1)
4366 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" الآية، قال: ذلك في الرجل يحلف أن لا يبر، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. فأمره الله أن يدع يمينه، ويصل رحمه، ويأمر بالمعروف، ويصلح بين الناس.
4367 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا محمد بن حرب قال، حدثنا ابن لهيعة، عن أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس"، قالت: لا تحلفوا بالله وإن بررتم.
4368 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج عن ابن جريج قال: حُدثت أن قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، الآية، نزلت في أبي بكر، في شأن مِسْطَح.
4369 - حدثنا هناد قال، حدثنا ابن فضيل، عن مغيرة، عن إبراهيم قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" الآية، قال: يحلف الرجل أن لا يأمر بالمعروف، ولا ينهى عن المنكر، ولا يصل رحمه.
__________
(1) الأثر: 4365- هو في المخطوطة إسناد واحد جاء هكذا: "حدثني محمد بن عمرو قال حدثنا أبو عاصم قال حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح. . . " والذي في المطبوعة هو الصحيح، وهما إسنادان دائران في التفسير. الأول منهما أقربه رقم: 4132 والثاني منهما أقربه رقم: 3872(4/423)
4370 - حدثني المثنى، حدثنا سويد، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: يحلف أن لا يتقي الله، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين اثنين. فلا يمنعه يمينه. (1)
4371 - حدثني ابن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبى سلمة، عن سعيد، عن مكحول أنه قال في قول الله تعالى ذكره:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم"، قال: هو أن يحلف الرجل أن لا يصنع خيرًا، ولا يصل رحمه، ولا يصلح بين الناس. نهاهم الله عن ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية، تأويلُ من قال: معنى ذلك:"لا تجعلوا الحلف بالله حجة لكم في ترك فعل الخير فيما بينكم وبينَ الله وبين الناس".
* * *
وذلك أن"العُرْضة"، في كلام العرب، القوة والشدة. يقال منه:"هذا الأمر عُرْضة لك" (2) يعني بذلك: قوة لك على أسبابك، ويقال:"فلانة عُرْضة للنكاح"، أي قوة، (3) ومنه قول كعب بن زهير في صفة نوق:
مِنْ كُلِّ نَضَّاحةِ الذِّفْرَى إذَا عَرِقَتْ، ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلامِ مَجْهُولُ (4)
يعني بـ "عرضتها": قوتها وشدتها.
* * *
__________
(1) الأثر: 4370- هذا الأثر ليس في المخطوطة في هذا المكان، وهو الصواب. وهو مكرر الذي مضى برقم: 4359- وفي المطبوعة هنا"فلا ينفعه يمينه" وهو خطأ ظاهر. وكأن أولى أن يحذف ولكني أبقيته للدلالة على اختلاف النسخ.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "عرضة له" وأثبت ما هو أولى بالصواب.
(3) أخشى أن يكون الصواب الجيد: "أي قرية".
(4) ديوانه: 9، وسيأتي في التفسير 5: 79/11: 108/27: 62 (بولاق) من قصيدته المشهورة. نضح الرجل بالعرق نضحا، فض به حتى سال سيلانًا. ونضاحة: شديدة النضح. والذفرى: الموضع الذي يعرق من البعير خلف الأذن، وهو من الناس والحيوان جميعا: العظم الشاخص خلف الأذن. وسيلان عرقها هناك، ممدوح في الإبل. والطامس: الدارس الذي أمحى أثره. والأعلام: أعلام الطريق، تبنى في جادة الطريق ليستدل بها عليه إذا ضل الضال. وأرض مجهولة: إذا كان لا أعلام فيها ولا جبال، فلا يهتدي فيها السائر. يقول: إذا نزلت هذه المجاهل، عرفت حينئذ قوتها وشدتها وصبرها على العطش والسير في الفلوات.(4/424)
فمعنى قوله تعالى ذكره:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" إذًا: لا تجعلوا الله قوة لأيمانكم في أن لا تبروا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس. ولكن إذا حلف أحدكم فرأى الذي هو خير مما حلف عليه من ترك البر والإصلاح بين الناس، فليحنث في يمينه، وليبرَّ، وليتق الله، وليصلح بين الناس، وليكفّر عن يمينه.
* * *
وترك ذكر"لا" من الكلام، لدلالة الكلام عليها، واكتفاءً بما ذُكر عما تُرِك، كما قال أمرؤ القيس:
فَقُلْتُ يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِدًا ... وَلَوْ قَطَّعُوا رَأْسِي لَدَيكَ وَأَوْصَالِي (1)
بمعنى: فقلت: يمين الله لا أبرح، فحذف"لا"، اكتفاء بدلالة الكلام عليها.
* * *
وأما قوله:" أن تبروا"، فإنه اختلف في تأويل"البر"، الذي عناه الله تعالى ذكره.
فقال بعضهم: هو فعل الخير كله. وقال آخرون: هو البر بذي رحمه، وقد ذكرت قائلي ذلك فيما مضى. (2)
* * *
وأولى ذلك بالصواب قول من قال:"عني به فعل الخير كله". وذلك أن أفعال الخير كلها من"البر"، ولم يخصص الله في قوله:" أن تبرُّوا" معنى دون معنى من معاني"البر"، فهو على عمومه، والبر بذوي القرابة أحد معاني"البر".
* * *
وأما قوله:" وتتقوا"، فإن معناه: أن تتقوا ربكم فتحذروه وتحذروا عقابه في
__________
(1) ديوانه: 141 وسيأتي في التفسير 13: 28 (بولاق) وهو من قصيدته التي لا تبارى وهي مشهورة وما قبل البيت وما بعده مشهور.
(2) انظر ما سلف في معاني"البر" 2: 8/ ثم 3: 336- 338، 556.(4/425)
فرائضه وحدوده أن تضيعوها أو تتعدَّوْها. وقد ذكرنا تأويل من تأوَّل ذلك أنه بمعنى"التقوى" قبل. (1)
* * *
وقال آخرون في تأويله بما:-
4372 - حدثني به محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:" أن تبروا وتتقوا" قال: كان الرجل يحلف على الشيء من البر والتقوى لا يفعله، فنهى الله عز وجل عن ذلك فقال:" ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس" الآية. قال: ويقال: لا يتق بعضكم بعضًا بي، تحلفون بي وأنتم كاذبون، ليصدقكم الناس وتصلحون بينهم، فذلك قوله:" أن تبروا وتتقوا"، الآية. (2)
* * *
وأما قوله:" وتصلحوا بين الناس"، فهو الإصلاح بينهم بالمعروف فيما لا مَأثَم فيه، وفيما يحبه الله دون ما يكرهه.
* * *
وأما الذي ذكرنا عن السدي: من أنّ هذه الآية نزلت قبل نزول كفارات الأيمان، (3) فقولٌ لا دلالة عليه من كتاب ولا سنة. والخبر عما كان، لا تدرك صحته إلا بخبر صادق، وإلا كان دعوى لا يتعذر مِثلها وخلافها على أحد. (4)
وغير محال أن تكون هذه الآية نزلت بعد بيان كفارات الأيمان في"سوره المائدة"، واكتفى بذكرها هناك عن إعادتها ههنا، إذ كان المخاطبون بهذه الآية قد علموا الواجبَ من الكفارات في الأيمان التي يحنث فيها الحالف.
* * *
__________
(1) انظر الآثار رقم: 4361، 4363، 4364.
(2) الأثر: 4372- هو الأثر السالف رقم: 4361 وتتمته.
(3) يعني الأثر السالف رقم: 4358.
(4) في المخطوطة"لا يبعد مثلها. . . " غير منقوطة كأنها"لا سعد"، والذي في المطبوعة أجود.(4/426)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله سميع" لما يقوله الحالفُ منكم بالله إذا حلف فقال:"والله لا أبر ولا أتقي ولا أصلح بين الناس"، ولغير ذلك من قيلكم وأيمانكم ="عليم" بما تقصدون وتبتغون بحلفكم ذلك، ألخير تريدون أم غيره؟ لأني علام الغيوب وما تضمره الصدور، لا تخفى عليّ خافية، ولا ينكتم عني أمر عَلَن فطهر، أو خَفي فبَطَن.
وهذا من الله تعالى ذكره تهدُّد ووعيدٌ. يقول تعالى ذكره: واتقون أيها الناس أن تظهروا بألسنتكم من القول، أو بأبدانكم من الفعل، ما نهيتكم عنه - أو تضمروا في أنفسكم وتعزموا بقلوبكم من الإرادات والنيات بفعل ما زجرتكم عنه، فتستحقوا بذلك مني العقوبة التي قد عرَّفتكموها، فإنّي مطَّلع على جميع ما تعلنونه أو تُسرُّونه.
* * *(4/427)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
القول في تأويل قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، وفي معنى"اللغو".
فقال بعضهم في معناه: لا يؤاخذكم الله بما سبقتكم به ألسنتكم من الأيمان على عجلة وسرعة، فيوجب عليكم به كفارة إذا لم تقصدوا الحلف واليمين. وذلك كقول القائل:"فعلت هذا والله، أو: أفعله والله، أو: لا أفعله والله"، على سبوق المتكلم بذلك لسانُه، بما وصل به كلامه من اليمين. (1)
__________
(1) قوله: "سبوق مصدر"سبق" لم يرد في كتب اللغة، ولكن أبا جعفر قد كرر استعماله. وانظر ما سلف في هذا الجزء 4: 287 والتعليق: 4، وما سيأتي: 456، تعليق: 4(4/427)
* ذكر من قال ذلك:
4373 - حدثني إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن عكرمة، عن ابن عباس:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هي"بلى والله"، و"لا والله".
4374 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن الزهري، عن القاسم، عن عائشة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله"، و"بلى والله".
4375 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، عن عائشة نحوه.
4376 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: سألت عائشة عن لغو اليمين، قالت: هو"لا والله" و"بلى والله"، ما يتراجع به الناس. (1)
4377 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع وعبدة وأبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله" و"بلى والله".
4378 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله" و"بلى والله"، يصل بها كلامه.
4379 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام بن سلم، عن عبد الملك، عن عطاء قال: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فقال لها: يا أم المؤمنين،
__________
(1) راجعه الكلام مراجعة، وتراجعا القول: هو معاودة الكلام وجوابه أو التلازم في الأمور، كقوله تعالى: {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} أي يتلاومون.(4/428)
قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"؟ قالت: هو"لا والله"، و"بلى والله"، ليس مما عقَّدتم الأيمان.
4380 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا ابن أبي ليلى، عن عطاء قال: أتيت عائشة مع عبيد بن عمير، فسألها عبيد عن قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فقالت عائشة: هو قول الرجل:"لا والله" و"بلى والله"، ما لم يعقد عليه قلبه.
4381 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء قال: انطلقت مع عبيد بن عمير إلى عائشة وهي مجاورة في ثَبِير، فسألها عبيد عن لغو اليمين، قالت:"لا والله" و"بلى والله".
4382 - حدثنا محمد بن موسى الحرشي قال، حدثنا حسان بن إبراهيم الكرماني قال، حدثنا إبراهيم الصائغ، عن عطاء في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: قالت عائشة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هو قول الرجل في بيته:"كلا والله" و"بلى والله". (1)
4383 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا
__________
(1) الأثر: 4382- محمد بن موسى بن نفيع الحرشي البصري روى عنه الترمذي والنسائي وقال النسائي"صالح" وذكره ابن حبان في الثقات، ووهاه أبو داود وضعفه. مات سنة 248. وكان في المطبوعة: "الحرسي" وهو تصحيف. وحسان بن إبراهيم الكرماني العنزي قاضي كرمان. روى عن سعيد بن مسروق وسفيان بن سعيد الثوري، وعنه حميد بن مسعدة وغيره. قال أحمد: "حديثه حديث أهل الصدق". وقال النسائي"ليس بالقوي" مات سنة 186. و"إبراهيم الصائغ" هو: إبراهيم بن ميمون الصائغ، روى عن عطاء وغيره. قال أبو حاتم: "لا بأس به، يكتب حديثه". قتله أبو مسلم الخراساني سنة 131 يعرندس، قال أبو داود: كان إذا رفع المطرقة فسمع النداء سيبها.
هذا وقد روى هذا الحديث أبو داود في سننه 3: 304 رقم: 3254 عن حميد بن مسعدة، عن حسان بن إبراهيم. . " ثم قال: "روى هذا الحديث داود بن أبي الفرات عن إبراهيم الصائغ موقوفا على عائشة وكذلك رواه الزهري وعبد الملك بن أبي سليمان ومالك بن مغول وكلهم عن عطاء عن عائشة موقوفا". ورواه مالك في الموطأ: 2: 477 عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة موقوفًا، كما سيأتي في روايات الطبري. ورواه البخاري موقوفًا أيضًا (11: 476 فتح الباري) واستقصى الحافظ القول فيه. وانظر سنن البيهقي 10: 48 وما بعدها.(4/429)
معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت: هم القوم يتدارءون في الأمر، فيقول هذا:"لا والله، وبلى والله، وكلا والله"، يتدارءون في الأمر، لا تعقد عليه قلوبهم. (1)
4384 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة عن الشعبي في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: قول الرجل:"لا والله، وبلى والله"، يصل به كلامه، ليس فيه كفارة.
4385 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا المغيرة، عن الشعبي قال: هو الرجل يقول:"لا والله، وبلى والله"، يصلُ حديثه.
4386 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا بشر بن المفضل قال، حدثنا ابن عون قال، سألت عامرًا عن قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو"لا والله، وبلى والله".
4387 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي = جميعًا، عن ابن عون، عن الشعبي مثله.
4388 - حدثني يعقوب بن إبراهيم وابن وكيع قالا حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب قال، قال أبو قلابة في:"لا والله، وبلى والله"، أرجو أن يكون لغة = وقال يعقوب في حديثه: أرجو أن يكون لغوًا = وقال ابن وكيع في حديثه: أرجو أن يكون لغة، ولم يشك. (2)
4389 - حدثنا أبو كريب وابن وكيع وهناد قالوا، حدثنا وكيع، عن إسماعيل بن أبي خالد، عن أبي صالح، قال: لا والله، وبلى والله.
__________
(1) تدارأ القوم في الأمر: اختلفوا فيه، فتخاصموا وتدافعوا وتراجعوا القول بينهم.
(2) يعني بقوله هنا: "لغة" أي لغة من لغات العرب، وأسلوبا من أساليبهم في القول كقولهم: "قالك الله""ويحك" لا يريدون الدعاء عليه، فهذا أيضًا لا يريد اليمين، إنما يريد التوثيق في كلامه.(4/430)
4390 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن مالك، عن عطاء، قال: سمعت عائشة تقول في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت:"لا والله، وبلى والله".
4391 - حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن مالك بن مغول، عن عطاء مثله.
4392 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم الأحول، عن عكرمة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو قول الناس:"لا والله، وبلى والله".
4393 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الشعبي وعكرمة قالا"لا والله وبلى والله".
4394 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن عيينة، عن عمرو، عن عطاء قال: دخلت مع عبيد بن عمير على عائشة فسألها، فقالت:"لا والله، وبلى والله".
4395 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا حفص، عن ابن أبي ليلى، وأشعث، عن عطاء، عن عائشة:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" قالت:"لا والله، وبلى والله".
4396 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي وجرير، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة قالت:"لا والله، وبلى والله".
4397 - حدثنا ابن وكيع وهناد قالا حدثنا يعلى، عن عبد الملك، عن عطاء قال: قالت عائشة في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قالت: هو قولك:"لا والله، وبلى والله"، ليس لها عَقد الأيمان.
4398 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن الشعبي قال: اللغو قول الرجل:"لا والله، وبلى والله"، يصل به كلامه، ما لم يشك شيئًا يعقِد عليه قلبه.
4399 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني عمرو، أن(4/431)
سعيد بن أبي هلال حدثه: أنه سمع عطاء بن أبي رباح يقول: سمعت عائشة تقول: لغو اليمين قول الرجل:"لا والله، وبلى والله"، فيما لم يعقد عليه قلبه.
4400 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال عمرو = وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي حسين النوفلي، عن عطاء، عن عائشة بذلك.
4401 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: الرجلان يتبايعان، فيقول أحدهما:"والله لا أبيعك بكذا وكذا"، ويقول الآخر:"والله لا أشتريه بكذا وكذا"، فهذا اللغو، لا يؤاخذ به.
* * *
وقال آخرون: بل اللغو في اليمين، اليمينُ التي يحلفُ بها الحالف وهو يرى أنه كما يحلف عليه، ثم يتبين غير ذلك، وأنه بخلاف الذي حلف عليه.
* ذكر من قال ذلك:
4402 - حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرني ابن نافع، عن أبي معشر، عن محمد بن قيس، عن أبي هريرة أنه كان يقول: لغو اليمين، حلف الإنسان على الشيء يظن أنه الذي حلف عليه، فإذا هو غير ذلك.
4403 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، واللغو: أن يحلف الرجل على الشيء يراه حقًا، وليس بحق.
4404 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، هذا في الرجل يحلف على أمرِ إضرارٍ أن يفعله فلا يفعله، (1) فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفّر عن يمينه ويأتي الذي هو خير. ومن اللغو أيضًا أن يحلف الرجل على أمر لا يألو فيه الصدق، وقد أخطأ في يمينه، (2) فهذا الذي عليه الكفارة ولا إثم عليه
__________
(1) في المخطوطة"إصرارًا" وفي الدر المنثور 1: 269"أو لا يفعله" وسيأتي برقم: 4463 مختصرًا.
(2) في الدر المنثور: "وقد أخطأ في ظنه"، وهي أشبه بالصواب والمخطوطة والمطبوعة مجتمعان على"في يمينه" وانظر تعليق الطبري فيما سيأتي على هذا الأثرن وقوله في تفسيره وبيانه: ص: 445 وما بعدها.(4/432)
4405 - حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا أبو داود قال، حدثنا هشام، عن قتادة، عن سليمان بن يسار في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: خطأ غير عَمد.
4406 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن عوف، عن الحسن في هذه الآية،" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو أن تحلف على الشيء، وأنت يُخيَّل إليك أنه كما حلفت، وليس كذلك. فلا يؤاخذه الله ولا كفارة، ولكن المؤاخذة والكفارة فيما حلف عليه على علم.
4407 - حدثنا هناد وابن وكيع قالا حدثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن قال: هو الرجل يحلف على اليمين، لا يرى إلا أنه كما حلف.
4408 - حدثنا سفيان قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن الحسن:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على اليمين يرى أنها كذلك، وليست كذلك.
4409 - حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الشي، وهو يرى أنه كذلك، فلا يكون كما قال، فلا كفارة عليه.
4410 - حدثنا هناد وأبو كريب وابن وكيع قالوا، حدثنا وكيع، عن سفيان = وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري =، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الشيء لا يرى إلا أنها كما حلف عليه، وليست كذلك.(4/433)
4411 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: من حلف بالله ولا يعلم إلا أنه صادق فيما حلف.
4412 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، حلِف الرجل على الشيء وهو لا يعلم إلا أنه على ما حلف عليه، فلا يكون كما حلف، كقوله:"إن هذا البيت لفلان"، وليس له = و"إن هذا الثوب لفلان"، وليس له.
4413 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه فيه صادق.
4414 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك. قال: فلا يؤاخذكم بذلك. قال: وكان يحبّ أن يُكفّر.
4415 - حدثنا موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا الجعفي، عن زائدة، عن منصور قال: قال إبراهيم:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فذلك اللغو، لا يؤاخذ به. (1)
4416 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور،
__________
(1) الأثر: 4415-"الجعفي" هو حسين بن علي بن الوليد الجعفي. قال أحمد: "ما رأيت أفضل من حسين وسعيد بن عامر". قال العجلي: "ثقة، وكان صالحًا لم أر رجلا قط أفضل منه، وكان صحيح الكتاب. يقال إنه لم يطأ أنثى قط، وكان جميلا. وكان زائدة يختلف إليه إلى منزله يحدثه، فكان أروى الناس عنه. وكان الثوري إذا رآه عانقه وقال: هذا راهب جعفي". مات سنة 203 (التهذيب) .(4/434)
عن إبراهيم نحوه = إلا أنه قال: إن حلفت على الشيء، وأنت ترى أنك صادق، وليس كذلك.
4417 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك أنه قال: اللغو، الرجل يحلف على الأيمان، وهو يرى أنه كما حلف. (1)
4418 - حدثني إسحاق بن [إبراهيم بن] حبيب بن الشهيد قال، (2) حدثنا عتاب بن بشير، عن خصيف، عن زياد قال: هو الذي يحلف على اليمين يرى أنه فيها صادق.
4419 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال، حدثنا بكير بن أبي السميط، عن قتادة في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الخطأ غير العمد، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كذلك.
4420 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، أخبرنا هشيم، عن منصور، ويونس، عن الحسن قال: اللغو، الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك، فليس عليه فيه كفارة.
4421 - حدثنا هناد وابن وكيع = قال هناد: حدثنا وكيع، وقال ابن وكيع: حدثني أبي = عن عمران بن حدير قال: سمعت زرارة بن أوفى قال: هو الرجل يحلف على اليمين لا يرى إلا أنها كما حلف.
4422 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عمر بن بشير قال: سئل عامر عن هذه الآية:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"،
__________
(1) في المطبوعة: "أبو إدريس"، والصواب من المخطوطة، وهو: عبد الله بن إدريس الأودي سلفت ترجمته فراجعه في الفهرست.
(2) الزيادة بين القوسين للبيان، واتفقت المخطوطة والمطبوعة على إسقاط"إبراهيم بن" ولكنه مضى دائما بتمامه، وأقربه رقم: 4373. فلذلك أتممته.(4/435)
قال: اللغو أن يحلف الرجل لا يألو عن الحق، فيكون غير ذلك. فذلك اللغو الذي لا يؤاخذ به. (1)
4423 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فاللغو اليمين الخطأ غير العمد، أن تحلف على الشيء وأنت ترى أنه كما حلفت عليه، ثم لا يكون كذلك. فهذا لا كفارة عليه ولا مأثم فيه.
4424 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، أما اللغو: فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنها كذلك، فلا تكون كذلك. فليس عليه كفارة.
4425 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اللغو اليمين الخطأ في غير عمد: أن يحلف على الشيء وهو يرى أنه كما حلف عليه. وهذا ما ليس عليه فيه كفارة.
4426 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن حصين، عن أبي مالك قال: أما اليمين التي لا يؤاخذ بها صاحبها، فالرجل يحلف على اليمين وهو يرى أنه فيها صادق، فذلك اللغو.
4427 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن أبي مالك مثله = إلا أنه قال: الرجل يحلف على الأمر يرى أنه كما حلف عليه، فلا يكون كذلك. فليس عليه فيه كفارة، وهو اللغو.
4428 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية بن صالح،
__________
(1) الأثر: 4422- عمر بن بشير الهمداني أبو هانئ روى عن الشعبي. روى عنه وكيع وأبو نعيم قال أحمد: "صالح الحديث" وقال ابن معين: "ضعيف" وقال أبو حاتم: "ليس بقوي يكتب حديثه". مترجم في الجرح والتعديل. و"عامر" هو عامر الشعبي مضى مرارًا.(4/436)
عن يحيى بن سعيد، وعن ابن أبي طلحة - كذا قال ابن أبي جعفر - (1) قالا من قال:"والله لقد فعلت كذا وكذا" وهو يظن أن قد فعله، ثم تبيَّن له أنه لم يفعله، فهذا لغو اليمين، وليس عليه فيه كفارة.
4429 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل، عن الحسن في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الخطأ غيرُ العمد، كقول الرجل:"والله إن هذا لكذا وكذا"، وهو يرى أنه صادق، ولا يكون كذلك = قال معمر: وقاله قتادة أيضًا.
4430 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو قال: سئل سعيد عن اللغو في اليمين، قال سعيد، وقال مكحول: الخطأ غيرُ العمد، ولكن الكفارة فيما عقدت قلوبكم.
4431 - حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو، عن سعيد بن عبد العزيز، عن مكحول أنه قال: اللغو الذي لا يؤاخذ الله به، أن يحلف الرجل على الشيء الذي يظن أنه فيه صادق، فإذا هو فيه غير ذلك، فليس عليه فيه كفارة، وقد عفا الله عنه.
4432 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: إذا حلف على اليمين وهو يرى أنه فيه صادق، وهو كاذب، (2) فلا يؤاخذ به، وإذا حلف على اليمين وهو يعلم أنه كاذب، فذاك، الذي يؤاخذ به.
* * *
وقال آخرون: بل اللغو من الأيمان التي يحلف بها صاحبها في حال الغضب،
__________
(1) هكذا جاء هذا الإسناد في المخطوطة والمطبوعة، ولم أستطع أن أتبين صوابه، فأبقيته كما هو حتى يتبين مما يأتي كيف كان صوابه. وأخشى أن يكون قد سقط بين الكلامين إسناد آخر.
(2) في المخطوطة: "أنه صادق" بحذف"فيه".(4/437)
على غير عقد قلب ولا عزم، ولكن وُصْلةً للكلام.
* ذكر من قال ذلك:
4433 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا مالك بن إسماعيل، عن خالد، عن عطاء، عن وَسيم، [عن طاوس] ، عن ابن عباس قال: لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان. (1)
4434 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو حمزة، عن عطاء، عن طاوس قال: كل يمين حلف عليها رجل وهو غضبان، فلا كفَّارة عليه فيها، قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم" (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 4433- مالك بن إسماعيل أبو غسان النهدي، روى عنه البخاري وهو متقن ثقة، مات سنة 219، مترجم في التهذيب. و"خالد" هو: خالد بن عبد الله بن عبد الرحمن الواسطي. قال البخاري في الكبير 2/1/147: "قال علي: سماع خالد عن عطاء بن السائب أخيرًا، وسماع حماد بن زيد من عطاء صحيح". مات سنة 182 ومترجم في التهذيب. و"عطاء" هو عطاء ابن السائب. و"وسيم" مترجم في الجرح والتعديل 4/2/46، والكبير للبخاري 4/2/181 وقال: "وسيم" عن طاوس عن ابن عباس، في يمين اللغو. قاله خالد بن عبد الله عن عطاء بن السائب". وفي المطبوعة: "رستم" وهو خطأ. وفي المطبوعة والمخطوطة إسقاط"عن طاوس" والصواب ما أثبته بين القوسين. كما نص عليه البخاري، وكما رواه البيهقي.
وهذا الخبر أشار إليه البخاري في الكبير كما نقلنا عنه. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 10: 49، من طريق سعيد بن منصور"عن خالد عن عطاء بن السائب، عن وسيم عن طاوس، عن ابن عباس". فالظاهر من هذا كله -ومما سيأتي- أنه سقط من نسخ الطبري هنا"عن طاوس" بين"وسيم" و"ابن عباس".
وذكره ابن كثير 1: 527، من تفسير ابن أبي حاتم بإسناده من طريق مسدد"حدثنا خالد حدثنا عطاء عن طاوس عن ابن عباس". فالظاهر أنه وقع سقط في مطبوعة ابن كثير، بحذف"عن وسيم" بين عطاء وطاوس.
وذكره أيضًا السيوطي 1: 269 ونسبه لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي"من طريق طاوس عن ابن عباس".
وهذا الخبر شاهد جيد للحديث المرفوع من حديث ابن عباس الآتي: 4435.
(2) الأثر: 4434-"أبو حمزة" هو: محمد بن ميمون المرزوي، أبو حمزة السكري مات سنة: 166.
وهذا الخبر من كلام طاوس يؤيد روايته السابقة عن ابن عباس. وهو شاهد آخر للحديث المرفوع التالي له.(4/438)
وعلة من قال هذه المقالة، ما:-
4435 - حدثني به أحمد بن منصور المروزي قال، حدثنا عمر بن يونس اليمامي قال، حدثنا سليمان بن أبي سليمان الزهري، عن يحيى بن أبي كثير، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمين في غضب". (1)
* * *
وقال آخرون: بل اللغو في اليمين: الحلفُ على فعل ما نهى الله عنه، وترك ما أمر الله بفعله.
* ذكر من قال ذلك:
4436 - حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن جبير قال: هو الذي يحلف على المعصية، فلا يفي ويكفِّر يمينه، قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم".
__________
(1) الحديث: 4435- هذا إسناد صحيح. أحمد بن منصور بن راشد، أبو صالح الحنظلي المرزوي شيخ الطبري: ثقة.
عمر بن يونس بن القاسم اليمامي: ثقة ثبت، وثقه أحمد وابن معين.
سليمان بن أبي سليمان الزهري اليمامي: ثقة ترجمه البخاري في الكبير 2/2/20، وذكر أنه روى عن يحيى بن أبي كثير وأنه سمع منه عمر بن يونس. ثم لم يذكر فيه حرجًا. وترجمه ابن أبي حاتم 2/1/122 بنحو ترجمة البخاري، ثم روى عن أبيه أبي حاتم أنه قال: "هو شيخ ضعيف". وذكره ابن حبان في الثقاتوقال: "ربما خالف". كما نقل عنه الحافظ في لسان الميزان 3: 95. وقد خلط بعضهم بينه وبين راو آخر ضعيف جدًا، هو"سليمان بن داود اليمامي" لأنه يكثر الرواية عن يحيى بن أبي كثير. ولكن هذا غير ذاك كما فرق بينهما البخاري وابن أبي حاتم وابن حبان وحقق ذلك الحافظ في لسان الميزان. ولكن كلام الحافظ يوهم أن البخاري ضعف الراوي هنا، لأنه زعم أن أبا حاتم تبع البخاري في ذلك. والبخاري لم يذكر جرحًا في الكبير ولا ترجمه في الصغير ولا ذكره في الضعفاء. فالحق أنه ثقة.
وهذا الحديث لم أجده في مكان آخر، إلا أنه ذكره الحافظ في الفتح 11: 490 ونسبه للطبراني في الأوسط، ثم قال: "وسنده ضعيف". ولم أجده في مجمع الزوائد. وإنما ضعفه الحافظ فيما أرى والله أعلم- بأنه ذهب إلى تضعيف سليمان بن أبي سليمان. وأنا أخالفه في ذلك، كما بينت من قبل.(4/439)
4437 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير قال: لغو اليمين: أنْ يحلِف الرجل على المعصية لله، لا يؤاخذه الله بإلغائها. (1)
4438 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن سعيد بن جبير بنحوه = وزاد فيه، قال: وعليه كفارة. (2)
4439 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى ويزيد بن هارون، عن داود، عن سعيد بنحوه.
4440 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سعيد بن جبير:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله أن يكفِّر عن يمينه، ويأتي الذي هو خير.
4441 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة = وحدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن شعبة = عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في هذه الآية:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها.
4442 - حدثنا الحسن بن الصباح البزار قال، حدثنا إسحاق، عن عيسى ابن بنت داود بن أبي هند قال، حدثنا خالد بن إلياس، عن أم أبيه: أنها حلفت أن لا تكلم ابنة ابنها - ابنة أبي الجهم - فأتت سعيد بن المسيب وأبا بكر وعروة بن الزبير فقالوا: لا يمين في معصية، ولا كفارة عليها. (3)
4443 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "بإيفائها" والصواب ما أثبت. وانظر ص: 441 تعليق: 1
(2) في المطبوعة: "وعليه كفارة" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الأثر: 4442- الحسن بن الصباح البزار الواسطي روى عنه البخاري وأبو داود والترمذي كان ثقة صاحب سنة، مات سنة 249. وخالد بن إلياس بن صخر أبو الهيثم العدوي قال أحمد: متروك الحديث. وقال ابن معين: ليس بشيء ولا يكتب حديثه.(4/440)
الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها إن تركها. قلت: فكيف يصنع؟ قال: يكفر عن يمينه ويترك المعصية.
4444 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو الرجل يحلف على الحرام، فلا يؤاخذه الله بتركه.
4445 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا داود، عن سعيد بن جبير قال في لغو اليمين قال: هي اليمين في المعصية، قال: أو لا تقرأ فتفهم؟ قال الله: (لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ) [سورة المائدة: 89] ، قال: فلا يؤاخذه بالإلغاء، ولكن يؤاخذه بالتمام عليها. (1) قال: وقال:" لا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم" إلى قوله:" فإنّ الله غفور حليم". (2)
4446 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن هشيم، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: الرجل يحلف على المعصية، فلا يؤاخذه الله بتركها، ويكفِّر.
4447 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن الشعبي، عن مسروق، في الرجل يحلف على المعصية، فقال: أيكفِّر خُطوات الشيطان؟ ليس عليه كفارة.
4448 - حدثني ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس مثل ذلك.
__________
(1) في المطبوعة: "بالإيفاء" وفي المخطوطة: "بالإيفاد" والصواب"بالإلغاء" ألغى الشيء: أبطله وأسقطه. وتم على الأمر تمامًا: استمر عليه وأنفذه.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "والله غفور حليم" سها الكاتب، وهذا صواب القراءة.(4/441)
4449 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن الشعبي، في الرجل يحلف على المعصية، قال: كفارتها أن يتوب منها.
4450 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة، عن الشعبي أنه كان يقول: يترك المعصية ولا يكفر، ولو أمرتُه بالكفارة لأمرته أن يَتِمّ على قوله.
4451 - حدثنا يحيى بن داود الواسطي قال، حدثنا أبو أسامة، عن مجالد، عن عامر، عن مسروق قال: كل يمين لا يحلّ لك أن تفي بها، فليس فيها كفارة.
* * *
وعلة من قال هذا القول من الأثر، ما:-
4452 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن الوليد بن كثير قال، حدثني عبد الرحمن بن الحارث، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن عبد الله بن عمرو، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من نذر فيما لا يملك فلا نذر له، ومن حلف على معصية لله فلا يمين له، ومن حلف على قطيعة رَحِمٍ فلا يمينَ له". (1)
4453 - حدثني علي بن سعيد الكندي قال، حدثنا علي بن مسهر، عن حارثة بن محمد، عن عمرة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من حلف على يمينِ قطيعةِ رحم أو معصية لله، فبِرُّه أن يحنَث بها ويرجع عن يمينه. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 4452- رواه الحاكم في المستدرك 4: 300 من طريق الحسن بن علي بن عفان العامري. والبيهقي في السنن الكبرى 10: 23 من طريق أحمد بن عبد الحميد الحارثي- كلاهما عن أبي أسامة، بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". وتعقبه الذهبي فقال: "عبد الرحمن: متروك" وقال أبو حاتم: "شيخ" و"عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة": ثقة كما مضى في: 3827.
ومعنى الحديث ثابت من أوجه كثيرة، مجموعًا ومفرقًا في المسند: 6732، 6780، 6781، 6932، 6990.
(2) الحديث: 4453- هذا حديث ضعيف جدًا.
علي بن مسهر القرشي الكوفي الحافظ: ثقة ثبت، ممن جمع الحديث والفقه أخرج له. الأئمة الستة.
حارثة بن محمد: هو حارثة بن أبي الرجال محمد بن عبد الرحمن يروي عن جدته أم أبيه عمرة بنت عبد الرحمن وهو ضعيف جدًا. قال البخاري في الكبير 2/1/87، والصغير: 174، والضعفاء: 11-"منكر الحديث" وقال أحمد: "ضعيف ليس بشيء". وقال البخاري في الصغير: "لم يعتد أحمد بحارثة بن أبي الرجال".
والحديث لم أجده في شيء من المراجع.(4/442)
وقال آخرون: اللغو من الأيمان: كل يمين وصَل الرجل بها كلامه، على غير قصدٍ منه إيجابَها على نفسه.
* ذكر من قال ذلك:
4454 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا هشام قال، حدثنا حماد، عن إبراهيم قال: لغو اليمين، أن يصل الرجل كلامه بالحلف:"والله ليأكلن، والله ليشربن" ونحو هذا، لا يتعمد به اليمين، ولا يريد به حلفًا. ليس عليه كفارة.
4455 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا ابن علية، عن هشام الدستوائي، عن حماد، عن إبراهيم: لغو اليمين، ما يصل به كلامه:"والله لتأكلن، والله لتشربن".
4456 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم، عن مجاهد:" لا يؤاخذكم الله باللغو في إيمانكم"، قال: هما الرجلان يتساومان بالشيء، فيقول أحدهما:"والله لا أشتريه منك بكذا"، ويقول الآخر:"والله لا أبيعك بكذا وكذا".
4457 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب: أن عروة حدثه: أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أيمان اللغو، ما كان في الهزل والمراء والخصومة، والحديث الذي لا يعتمد عليه القلب. (1)
* * *
__________
(1) أخشى أن يكون الصواب: "لا يعقد عليه. . . ".(4/443)
وعلة من قال هذا القول من الأثر، ما:-
4458 - حدثنا به محمد بن موسى الحرشي قال، حدثنا عبيد الله بن ميمون المرادي قال، حدثنا عوف الأعرابي، عن الحسن بن أبي الحسن قال: مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوم ينتضلون - يعني: يرمون - ومع النبي صلى الله عليه وسلم رجل من أصحابه، فرمى رجل من القوم فقال: أصبت والله، وأخطأت! فقال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم: حنث الرجل يا رسول الله! قال: كلا أيمان الرُّماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة. (1)
* * *
وقال آخرون: اللغو من الأيمان، ما كان من يمينٍ بمعنى الدعاء من الحالف على نفسه: إن لم يفعل كذا وكذا، أو بمعنى الشرك والكفر.
* ذكر من قال ذلك:
4459 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق، عن يحيى بن أيوب، عن محمد بن عجلان، عن زيد بن أسلم في قول الله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: هو كقول الرجل:"أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا - أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدًا"، فهو هذا، ولا يترك الله له مالا ولا ولدًا. يقول: لو يؤاخذكم الله بهذا لم يترك لكم شيئًا.
__________
(1) الحديث: 4458- محمد بن موسى بن نفيع الحرشي شيخ الطبري: ثقة ذكره ابن حبان في الثقات وقال النسائي: "صالح".
عبيد الله بن ميمون المرادي: لا أعرف من هو؟ ولم أجد له ترجمة. وفي ابن كثير - عن هذا الموضع: "عبد الله" بدل"عبيد الله" فلا أدري أيهما الصحيح. والحسن بن أبي الحسن: هو الحسن البصري.
وهذا الحديث نقله ابن كثير 1: 527 عن هذا الموضع. وقال: "هذا مرسل حسن، عن الحسن" ولعله أعجبه الجناس والسجع أما المرسل فإنه ضعيف، لجهالة الواسطة بعد التابعي كما هو معروف.
ونقله السيوطي أيضًا 1: 269 ولم ينسبه لغير الطبري.(4/444)
4460 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن عمرو بن الحارث، عن زيد بن أسلم بمثله.
4461 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال، حدثني يحيى بن أيوب، أن زيد بن أسلم كان يقول في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، مثل قول الرجل:"هو كافر، وهو مشرك". قال: لا يؤاخذه حتى يكون ذلك من قلبه.
4462 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اللغو في هذا: الحلف بالله ما كان بالألسن، فجعله لغوًا، وهو أن يقول:"هو كافر بالله، وهو إذًا يشرك بالله، وهو يدعو مع الله إلهًا"، فهذا اللغو الذي قال الله في"سورة البقرة".
* * *
وقال آخرون: اللغو في الأيمان: ما كانت فيه كفارة.
* ذكر من قال ذلك:
4463 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، فهذا في الرجل يحلف على أمر إضرار أن يفعله فلا يفعله، فيرى الذي هو خير منه، فأمره الله أن يكفر يمينه، ويأتي الذي هو خير. (1)
4464 - حدثني يحيى بن جعفر قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اليمين المكفرة.
* * *
وقال آخرون: اللغو من الأيمان: هو ما حنث فيه الحالف ناسيًا.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 4463- هو مختصر الأثر السالف رقم: 4404 وانظر التعليق هناك.(4/445)
4465 - حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا هشيم قال، أخبرني مغيرة، عن إبراهيم قال: هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه، يعني في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم".
* * *
قال أبو جعفر: و"اللغو" من الكلام في كلام العرب، كلّ كلام كان مذمومًا وسَقَطًا لا معنى له مهجورًا، (1) يقال منه:"لغا فلان في كلامه يلغُو لَغْوًا" إذا قال قبيحًا من الكلام، ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ) [سورة القصص: 55] ، وقوله: (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا) [سورة الفرقان: 72] . ومسموع من العرب:"لَغَيْتُ باسم فلان"، بمعنى أولعت بذكره بالقبيح. فمن قال:"لَغَيْت"، قال:"ألْغَى لَغًا"، وهي لغة لبعض العرب، ومنه قول الراجز: (2)
وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجيجٍ كُظَّم ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ (3)
فإذا كان"اللغو" ما وصفت، وكان الحالفُ بالله:"ما فعلت كذا" وقد فعل،"ولقد فعلتُ كذا" وما فعل - واصلا بذلك كلامه على سبيل سُبوق لسانه من غير تعمد إثم في يمينه، (4) ولكن لعادة قد جرت له عند عجلة الكلام = والقائلُ:"والله إنّ هذا لَفُلان" وهو يراه كما قال، أو:"والله ما هذا فلان! " وهو يراه ليس به = والقائلُ:"ليفعلنّ كذا والله - أو: لا يفعل كذا والله" على سبيل ما وصفنا من عجلة الكلام وسبوق اللسان للعادة، (5) على غير تعمد
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وفعلا" وهي كلمة محرفة بلا شك، والصواب فيما أرجح وسقطا" لم يجد الناسخ قراءتها فحرفها. و"السقط": الخطأ، وما تسقطه فلا تعتد به. وهجر يهجر هجرًا: إذا خلط في كلامه وهذي وأفحش. والكلام مهجور.
(2) هو رؤية بن العجاج.
(3) مضى تخريج هذا الرجز في 3: 488- 489.
(4) انظر التعليق على قوله"سبوق" فيما سلف من هذا الجزء: 287، تعليق: 4/ وص: 427
(5) انظر التعليق على قوله"سبوق" فيما سلف من هذا الجزء: 287، تعليق: 4/ وص: 427(4/446)
حلف على باطل = والقائل:"هو مشرك، أو هو يهودي أو نصراني، إن لم يفعل كذا - أو إن فعل كذا" من غير عزم على كفر أو يهودية أو نصرانية = (1) جميعهم قائلون هُجْرًا من القول وذميمًا من المنطق، (2) وحالفون من الأيمان بألسنتهم ما لم تتعمد فيه الإثمَ قلوبهم = (3) كان معلومًا أنهم لُغاةٌ في أيمانهم، لا تلزمهم كفارة في العاجل، ولا عقوبة في الآجل، لإخبار الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذ عبادَه، بما لغوا من أيمانهم، وأنّ الذي هو مؤاخذهم به، ما تعمدت فيه الإثمَ قلوبُهم.
وإذ كان ذلك كذلك = وكان صحيحًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من حلف على يمين فرأى غيرَها خيرًا منها، فليأت الذي هو خير، وليكفر عن يمينه"، فأوجب الكفارة بإتيان الحالف ما حلف أن لا يأتيه، مع وجوب إتيان الذي هو خير من الذي حلف عليه أن لا يأتيه، وكانت الغرامةُ في المال - أو إلزام الجزاء من المجزيِّ أبْدالَ الجازين = (4) لا شك عقوبةً كبعض العقوبات التي جعلها الله تعالى ذكره نكالا لخلقه فيما تعدَّوا من حدوده، وإن كان
__________
(1) سياق هذه الجمل التي وضعت قبلها الخطوط: فإذا كان اللغو ما وصفت، وكان الحالف. . . والقائل. . . والقائل. . . والقائل. . . جميعهم قائلون. . . "
(2) الهجر من الكلام (بضم الهاء وسكون الجيم) : القول السيء القبيح والتخليط والفحش.
(3) قوله: "كان معلومًا. . . " جواب قوله: "وإذا كان اللغو ما وصفت وكان الحالف بالله. . . " وقوله: "لغاة" جمع"لاغ" مثل"قاض وقضاة".
(4) في المطبوعة: "أبدان الجارين" وفي المخطوطة"أبدان الجازين" زكأن الصواب ما أثبت فإنه يعني بهذا، ما فرضه الله تعالى في قوله في سورة المائدة: 95
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ}
وقد فسر الطبري الجزاء هناك (7: 28) فقال: "وعليه كفارة بدل". فقوله هنا: "المجزي" يعني الصيد المقتول الذي يكون جزاؤه مثله من النعم، وقوله"من المجزي" يعني"بدلا منه". والأبدال هنا هي الكفارات. والجازي: المكفر عن قتله الصيد بمثله من النعم.(4/447)
يجمع جميعها أنها تمحيص وكفارات لمن عوقب بها فيما عوقبوا عليه = (1) كان بينًا أنّ من ألزم الكفارة في عاجل دنياه فيما حلف به من الأيمان فحنِث فيه، وإن كانت كفارة لذنبه، فقد واخذه الله بها بإلزامه إياه الكفارة منها، وإن كان ما عجَّل من عقوبته إياه على ذلك، مُسْقطًا عنه عقوبته في آجله. وإذ كان تعالى ذكره قد واخذه بها، فغيرُ جائز لقائل أن يقول وقد وأخذه بها: هي من اللغو الذي لا يؤاخذ به قائله.
فإذ كان ذلك غيرَ جائز، فبيِّنٌ فساد القول الذي روي عن سعيد بن جبير أنه قال:"اللغو الحلف على المعصية"، لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن على الحالف على معصية الله كفارة بحِنْثه في يمينه. وفي إيجاب سعيدٍ عليه الكفارة، دليلٌ واضح على أن صاحبها بها مؤاخذ، لما وصفنا من أن من لزمه الكفارة في يمينه، فليس ممن لم يؤاخذ بها.
فإذا كان"اللغو" هو ما وصفنا = مما أخبرنا الله تعالى ذكره أنه غير مؤاخذنا به - وكلُّ يمين لزمت صاحبَها بحنثه فيها الكفارةُ في العاجل، أو أوعد الله تعالى ذكره صاحبها العقوبةَ عليها في الآجل، وإن كان وَضَع عنه كفارتها في العاجل - فهي مما كسبته قلوب الحالفين، وتعمدت فيه الإثم نفوس المقسمين. وما عدا ذلك فهو"اللغو"، وقد بينا وجوهه = (2) فتأويل الكلام إذًا: لا تجعلوا الله أيها المؤمنون قوةً لأيمانكم، (3) وحجة لأنفسكم في إقسامكم، في أن لا تبرُّوا ولا تتقوا ولا تصلحوا بين الناس، فإن الله لا يؤاخذكم بما لَغَتْه ألسنتكم من أيمانكم فنطقت به من قبيح
__________
(1) سياق هذه الجملة: "وإذ كان ذلك كذلك، وكان صحيحًا عن رسول الله. . . وكانت الغرامة في المال. . . كان بينًا أن. . . "
(2) سياق هذه الجملة: فإذ كان اللغو هو ما وصفنا. . . وكل يمين لزمت صاحبها بحنثه. . . فهي مما كسبته قلوب الحالفين. . . فتأويل الكلام إذا. . . "
(3) في المطبوعة: "عرضة لأيمانكم" والصواب ما أثبت من المخطوطة.(4/448)
الأيمان وذميمها، على غير تعمُّدكم الإثم، وقصدِكم بعزائم صدوركم إلى إيجاب عَقْد الأيمان التي حلفتم بها، ولكنه إنما يؤاخذكم بما تعمدتم فيه عقد اليمين وإيجابها على أنفسكم، وعزمتم على الإتمان على ما حلفتم عليه بقصدٍ منكم وإرادة، (1) فيلزمكم حينئذ إمّا كفارة في العاجل، وإمّا عقوبة في الآجل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في المعنى الذي أوعد الله تعالى ذكره بقوله:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" عبادَه أنه مؤاخذهم به، (2) بعد إجماع جميعهم على أن معنى قوله:" بما كسبت قلوبكم"، ما تعمدت. (3)
فقال بعضهم: المعنى الذي أوعد الله عبادَه مؤاخذتهم به: هو حلف الحالف منهم على كذب وباطل.
* ذكر من قال ذلك:
4466 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم قال: إذا حلف الرجل على اليمين وهو يرى أنه صادق وهو كاذب، فلا يؤاخذ بها. وإذا حلف وهو يعلم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به.
__________
(1) "الإتمام على ما حلفتم" يعني الاستمرار عليه وإمضاءه. وقد سلف آنفًا في كلامه"التمام عليها" ص 441 و"تم على قوله" في الأثر: 4450 ولكنه استعمل هنا"الإتمام" من"أتم على الأمر" وليست في كتب اللغة ولكنها جائزة في العربية، صحيحة في قياسها.
(2) "عباده" مفعول: "أوعد الله تعالى. . . "
(3) انظر تفسير"الكسب" فيما سلف 2: 273-274/ ثم 3: 100، 101، 128، 129.(4/449)
4467 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن زائدة، عن منصور قال: قال إبراهيم:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، قال: أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب، فذاك الذي يؤاخذ به.
4468 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن إبراهيم:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، أن تحلف وأنت كاذب.
4469 - حدثني المثنى قال، [حدثنا عبد الله بن صالح] حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: (وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأيْمَانَ) [سورة المائدة: 89] ، وذلك اليمين الصبر الكاذبة، يحلف بها الرجل على ظلم أو قطيعة، فتلك لا كفارة لها إلا أن يترك ذلك الظلم، أو يرد ذلك المال إلى أهله، وهو قوله تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) إلى قوله: (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [سورة آل عمران: 77] . (1)
4470 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، ما عَقَدتْ عليه.
4471 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
4472 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبد الملك، عن عطاء قال:
__________
(1) الأثر: 4469- الآية التي في صدر هذا الأثر، هي آية المائدة وأخشى أن يكون الصواب ما تن فيه من آية البقرة ولكن المطبوعة والمخطوطة اتفقتا جميعا على ذلك. بيد أني أرجح ما قلت، لأن أبا جعفر روى في تفسير آية المائدة (7: 11 بولاق) عن"المثنى قال حدثنا عبد الله بن صالح. . . " إلى آخر إسناده إلى ابن عباس ثم ذكر آية المائدة ولم يأت فيها بنص هذا الأثر. وقد أسقط في المخطوطة والمطبوعة ما وضعته بين القوسين، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 4463.
وقوله: "اليمين الصبر" الأجود أن تكون"يمين الصبر" بحذف التعريف، وإن كانت هذه جائزة حسنة. ويمين الصبر: هي اليمين التي يمسكك الحاكم عليها حتى تحلف وإن حلف إنسان بغير إحلافن لم تكن"يمين صبر".(4/450)
لا تؤاخذ حتى تُصْعِد للأمر، (1) ثم تحلف عليه بالله الذي لا إله إلا هو، فتعقد عليه يمينك.
* * *
= قال أبو جعفر: والواجب على هذا التأويل أن يكون قوله تعالى ذكره:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، في الآخرة بها بما شاء من العقوبات - وأن تكون الكفارة إنما تلزم الحالف في الأيمان التي هي لغو. وكذلك روي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أنه كان لا يرى الكفارة إلا في الأيمان التي تكون لغوًا، فأما ما كسبته القلوب وعقدت فيه على الإثم، فلم يكن يوجبُ فيه الكفارة. وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك فيما مضى قبل. (2)
وإذ كان ذلك تأويلَ الآية عندهم، فالواجب على مذهبهم أن يكون معنى الآية في سورة المائدة: (3) لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم، فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم - ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان، (4) واحفظوا أيمانكم.
وبنحو ما ذكرناه عن ابن عباس من القول في ذلك، كان سعيد بن جبير والضحاك بن مزاحم وجماعة أخر غيرهم يقولون، وقد ذكرنا الرواية عنهم بذلك آنفًا. (5)
* * *
(6)
__________
(1) في المطبوعة: "تقصد لأمر" والإصعاد: الإقبال على الشيء والتوجه له، ومنه قول حسان بن ثابت في خيل: [يُبَارِينَ الأَْعِنَّةَ مُصْعِدَاتٍ ... عَلَى أَكتَافِهَا الأَسَلُ الظَّمَاءُ]
يعني مقبلات متوجهات نحوكم.
(2) انظر ما سلف الأثر رقم: 4404.
(3) سورة المائدة: 89.
(4) في المخطوطة والمطبوعة"ولكن يؤاخذكم بما عقدتم واحفظوا" فأثبت الكلمة التي أغفلها الناسخ من الآية. ويعني الطبري أن قوله تعالى: "ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان" من المقدم الذي يراد به التأخير، ولذلك ساق الآية بنصها إلا هذه الجملة، فأخرها إلى مكانها على معنى تأويلهم هذا.
(5) هي الآثار السالفة من: 4436.
وإلى هذا الموضع انتهى تقسيم قديم للنسخة التي نقلت عنها مخطوطتنا وجاء فيها ما نصه.
"يتلوه: وَقال آخَرُونَ: المَعْنَى الذِي أَوْعَدَ اللهُ عِبَادَهُ المُؤَاخذةَ.
وَصَلى اللهُ عَلَى مُحَمَّدٍ النَّبِي وَآلِهِ كَثِيرًا * * *
على الأصل المنقول منه
بَلَغْتُ بِالسمَاعِ مِنْ أوله بِقرَاءَتي عَلَى القَاضِي أبي الحَسَن الخِصيبي، عنْْ أبي محمد الفرغَاني، عَنْ أبي جعفر الطبريّ - وَأخِي عليّ حرسه الله، ومحمد بن علي ألا. . . ونَصر بن الحسين الطبري ومحمد بن محمد بن أحمد بن عيسى السعدي- في شعبام سنة ثمان وَأَربع مئة".
(6) أوله في المخطوطة:
"بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرحِيمِ
رَبّ يَسِّرْ"(4/451)
وقال آخرون: المعنى الذي أوعد الله تعالى عبادَه المؤاخذةَ بهذه الآية، (1) هو حلف الحالف على باطل يعلمه باطلا. وفي ذلك أوجب الله عندهم الكفارة، دون اللغو الذي يحلف به الحالف وهو مخطئ في حلفه، يحسب أن الذي حلف عليه كما حلف، وليس ذلك كذلك.
* ذكر من قال ذلك:
4473 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، يقول: بما تعمدت قلوبكم، وما تعمدت فيه المأثم، فهذا عليك فيه الكفارة.
4473 م - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله سواء.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "المؤاخذة به بهذه الآية" والذي في المخطوطة أجود.(4/452)
وكأنَّ قائلي هذه المقالة، وجَّهوا تأويل مؤاخذة الله عبدَه على ما كسبه قلبه من الأيمان الفاجرة، إلى أنها مؤاخذةٌ منه له بها بإلزامه الكفارة فيه. وقال بنحو قول قتادة جماعة أخر، في إيجاب الكفارة على الحالف اليمينَ الفاجرةَ، منهم عطاءٌ والحكم.
4474 - حدثنا أبو كريب ويعقوب قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا حجاج، عن عطاء والحكم، أنهما كانا يقولان فيمن حلف كاذبًا متعمدًا: يكفِّر.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك معنيان: أحدهما مؤاخذ به العبد في حال الدنيا بإلزام الله إياه الكفارةَ منه، والآخر منهما مؤاخذٌ به في الآخرة إلا أن يعفو.
* ذكر من قال ذلك:
4475 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم" أمَّا،" ما كسبت قلوبكم" فما عقدت قلوبكم، فالرجل يحلف على اليمين يعلم أنها كاذبة - إرادةَ أن يقضي أمرَه. والأيمان ثلاثة:"اللغو، والعمد، والغَموس". والرجل يحلف على اليمين وهو يريد أن يفعل، ثم يرى خيرًا من ذلك، فهذه اليمين التي قال الله تعالى ذكره:" ولكن يؤاخذكم بما عقَّدتم الأيمان"، فهذه لها كفارة.
* * *
وكأنَّ قائل هذه المقالة، وجَّه تأويل قوله:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، إلى غير ما وجَّه إليه تأويل قوله:" ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان"، وجعل قوله:" بما كسبت قلوبكم"، الغموسَ من الأيمان التي يحلف بها الحالف على علم منه بأنه في حلفه بها مبطل - وقوله:" بما عقدتم الأيمان"، اليمينَ التي يستأنف فيها الحِنث أو البرَّ، وهو في حال حلفه بها عازم على أن يبرَّ فيها.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك: هو اعتقاد الشرك بالله والكفر.
* ذكر من قال ذلك:(4/453)
4476 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا إسماعيل بن مرزوق قال، حدثني يحيى بن أيوب، عن محمد - يعني ابن عجلان -: أن زيد بن أسلم كان يقول في قول الله تعالى ذكره:" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، مثل قول الرجل:"هو كافر، هو مشرك"، قال: لا يؤاخذه الله حتى يكون ذلك من قلبه. (1)
4477 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم"، قال: اللغو في هذا، الحلف بالله ما كان بالألسن، فجعله لغوًا، وهو أن يقول:"هو كافر بالله، وهو إذًا يشرك بالله، وهو يدعو مع الله إلهًا"، فهذا اللغو الذي قال الله تعالى في"سورة البقرة":" ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم"، قال: بما كان في قلوبكم صدقًا، واخذك به. فإن لم يكن في قلبك صدقًا لم يؤاخذك به، وإن أثمتَ. (2)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن يقال: إن الله تعالى ذكره أوعد عباده أن يؤاخذهم بما كسبت قلوبهم من الأيمان، فالذي تكسبه قلوبهم من الأيمان هو ما قصدته وعزمت عليه على علم ومعرفة منها بما تقصده وتريده، وذلك يكون منها على وجهين:
أحدهما: على وجه العزم على ما يكون به العازم عليه في حال عزمه بالعزم عليه آثمًا، وبفعله مستحقًا المؤاخذةَ من الله عليها. وذلك كالحالف على الشيء الذي لم يفعله أنه قد فعله، وعلى الشيء الذي قد فعله أنه لم يفعله، قاصدًا قِيلَ الكذب، (3) وذاكرًا أنه قد فعل ما حلف
__________
(1) الأثر: 4476- هو الأثر السالف رقم: 4461.
(2) الأثر: 4477- هو تمام الأثر السالف رقم: 4462.
(3) في المخطوطة"أصل الكذب" خطأ من ناسخ لم يحسن قراءة الأصل، وفي المطبوعة: "القيل الكذب" والصواب الجيد ما أثبت.(4/454)
عليه أنه لم يفعله، أو أنه لم يفعل ما حلف عليه أنه قد فعل. فيكون الحالف بذلك - إن كان من أهل الإيمان بالله وبرسوله - في مشيئة الله يوم القيامة، إن شاء واخذه به في الآخرة، وإن شاء عفا عنه بتفضله، ولا كفارة عليه فيها في العاجل، لأنها ليست من الأيمان التي يحنث فيها. وإنما تجب الكفارة في الأيمان بالحنث فيها. والحالف الكاذب في يمينه، ليست يمينه مما يُتْبَدَأ فيه الحنث، فتلزم فيه الكفارة. (1)
والوجه الآخر منهما: على وجه العزم على إيجاب عقد اليمين في حال عزمه على ذلك. فذلك مما لا يؤاخذ به صاحبه حتى يحنث فيه بعد حلفه. فإذا حنِث فيه بعد حلفه، كان مؤاخذا بما كان اكتسبه قلبه - من الحلف بالله على إثم وكذِب - في العاجل بالكفارة التي جعلها الله كفارةً لذنبه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله غفورٌ" لعباده فيما لَغَوْا من أيمانهم التي أخبر الله تعالى ذكره أنه لا يؤاخذهم بها، ولو شاء وَاخذهم بها = ولما واخذهم به فكفَّروها في عاجل الدنيا بالتكفير فيه، (2) ولو شاء واخذهم في آجل الآخرة بالعقوبة عليه، فساتر عليهم فيها، (3) وصافح لهم بعفوه عن العقوبة فيها، وغير ذلك من ذنوبهم ="حليمٌ" في تركه معاجلة أهل معصيته العقوبةَ على معاصيهم.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وإنما الكفارة تجب" ولكن المخطوطة قد وضعت بين الكلمتين علامة هكذا"~" هي التي تدل على تقديم آخر الكلمتين على الأولى.
(2) في المطبوعة"ولما واخذهم بها" والصواب من المخطوطة. والسياق. "والله غفور لعباده فيما لغوا من أيمانهم. . ولما واخذهم به.
(3) قوله: "فساتر" عطف عليه قوله: "والله غفور".(4/455)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226)
القول في تأويل قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" للذين يؤلون"، للذين يقسمون أليَّة،"والألية" الحلف، كما:-
4478 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا مسلمة بن علقمة قال، حدثنا داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب في قوله:" للذين يؤلون"، يحلفون.
* * *
يقال:"آلى فلان يُؤْلي إيلاء وأليَّة"، كما قال الشاعر:
كَفَيْنَا مَنْ تَغَيَّبَ في تُرَابٍ ... وَأَحْنَثْنَا أَليَّةَ مُقْسِمِينَا (1)
ويقال:"أَلْوة وأُلْوة"، كما قال الراجز:
* يَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَةٌ مَا أُلْوَتِي * (2)
وقد حكي عنهم أيضًا أنهم يقولون:"إلوة" مكسورة الألف.
* * *
"والتربص": النظر والتوقف.
* * *
ومعنى الكلام: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربص أربعة أشهر، فترك ذكر"أن يعتزلوا"، اكتفاء بدلالة ما ظهر من الكلام عليه.
* * *
واختلف أهل التأويل في صفة اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته.
__________
(1) لم أجد البيت ولم أعرف قائله. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "من تراب" وصواب معناه يقتضي ما أثبت.
(2) لم أجد هذا الرجز. وفي المطبوعة: "ما ألوى" والصواب من المخطوطة.(4/456)
فقال بعضهم: اليمين التي يكون بها الرجل موليًا من امرأته: أن يحلف عليها في - حال غضب على وجه الضِّرار - أن لا يجامعها في فرجها، (1) فأما إن حلف على غير وجه الإضرار، وعلى غير غضب، فليس هو موليًا منها.
* ذكر من قال ذلك:
4479 - حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن حريث بن عميرة، عن أم عطية قالت، قال جبير: أرضعي ابن أخي مع ابنك! فقالت: ما أستطيع أن أرضع اثنين! فحلف أن لا يقرَبها حتى تفطِمه. فلما فطمته مرّ به على المجلس، فقال له القوم: حسنًا ما غَذَوْتموه! قال جبير: إنيّ حلفت ألا أقربها حتى تفطمه! فقال له القوم: هذا إيلاءٌ!! فأتى عليًا فاستفتاه، فقال: إن كنتَ فعلت ذلك غضبًا فلا تصلح لك امرأتك، وإلا فهي امرأتك. (2)
4480 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سماك، أنه سمع عطية بن جبير قال: توفيت أمُّ صبيٍّ نسيبةٌ لي،
__________
(1) في المطبوعة: "على وجه الإضرار لها". والضرار: إلحاق الضرر بها، وفي الموضع التالي: "الإضرار" في المطبوعة والمخطوطة.
(2) الآثار: 4479- 4485- خبر سماك ذكره البخاري في الكبير 4/1/12"عطية بن جبير العنزي قاله شعبة عن سماك. وقال سفيان عن سماك عن أبي عطية بن جبير. وقال أبو الأحوص عن حريث بن عميرة عن أم عطية: أن جبيرا حلف فأتى عليًا". وفي الجرح والتعديل 1/2/262: "حريث بن عميرة روى عن أم عطية. روى عنه سماك بن حرب في رواية أبي الأحوص عن سماك عنه. وروى إبراهيم بن طهمان عن سماك عن حريث عن عطية بن جبير عن أبيه قال: قلت لعلي - سمعت أبي يقول ذلك". وذكره ابن أبي حاتم أيضًا في الجرح والتعديل 3/1381- 382: "عطية بن جبير العنزي" واختلف فيه الرواة من سماك بن حرب. فقال شعبة عن سماك عن عطية بن جبير، قال قلت لعلي رضي الله عنه. وروى أبو الأحوص عن سماك عن حريث بن عمير عن عطية عن علي. وروى حماد بن سلمة عن سماك، عن أم عطية عن علي. وروى سفيان الثوري عن سماك عن أبي عطية بن جبير، عن علي - سمعت أبي يقول بعض ذلك وبعضه من قبلي"
ورواه البيهقي في السنن 7: 381- 382 من طريق داود بن أبي هند عن سماك عن رجل من بني عجل، عن أبي عطية أنه تزوج امرأة أخيه وهي ترضع بابن أخيه" ورواه من طريق عبيد الله بن معاذ، عن أبيه عن شعبة عن سماك عن عطية بن جبير قال: كانت أمي ترضع صبيًا. . . "(4/457)
فكانت امرأة أبي تُرضعه، فحلف أن لا يقربها حتى تفطمه. فلما مضت أربعة أشهر قيل له: قد بانت منك! - وأحسب، شك أبو جعفر، قال -: فأتى عليًا يستفتيه فقال: إن كنت قلت ذلك غضبًا فلا امرأة لك، وإلا فهي امرأتك.
4481 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، أخبرني سماك قال، سمعت عطية بن جبير - يذكر نحوه عن علي.
4482 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب بن عبد المجيد قال، حدثنا داود، عن سماك، عن رجل من بني عجل، عن أبي عطية: أنه توفي أخوه وترك ابنًا له صغيرًا، فقال أبو عطية لامرأته: أرضعيه! فقالت: إنى أخشى أن تُغِيلهما، (1) فحلف أن لا يقربها حتى تفطمهما، ففعل حتى فطمتهما. فخرج ابن أخي أبي عطية إلى المجلس، فقالوا: لَحُسْنَ ما غذا أبو عطية ابن أخيه! (2) قال: كلا! زعمت أم عطية أنيّ أغيلهما، فحلفتُ أن لا أقربها حتى تفطمهما. فقالوا له: قد حرُمت عليك امرأتك! فذكرت ذلك لعلي رضي الله عنه، فقال علي: إنما أردتَ الخيرَ، وإنما الإيلاء في الغضب.
4483 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن سماك، عن أبي عطية: أن أخاه توفي - فذكر نحوه.
4484 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، أخبرنا داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب: أن رجلا هلك أخوه فقال لامرأته: أرضعي
__________
(1) أغالت المرأة ولدها، وأغال فلان ولده: إذ غشى أمه وهو ترضعه. واسم لبنها ذاك"الغيل" كانوا يقولون: إذا شربه الولد ضوى واعتل منه، واسم الفعل"الغيلة" (بكسر الغين) وفي سني البيهقي: "إني أخشى أن تغتاله" وهي اشتقاق منها، لم يرد في كتب اللغة.
(2) في المطبوعة: "غذي" وما في المخطوطة أجود وقوله: "لحسن" أصلها"حسن" فعل (بفتح الحاء وضم السين) فنقل إلى معنى المدح فخففت السين وسكنت ونقلت حركتها إلى الحاء قال سهم بن حنظلة الغنوي: لم يمْنِعْ النَّاسُ مِنِّي مَا أَرَدْتُ وَمَا ... أُعْطِيهِمُ مَا أَرَادُوا حُسْنَ ذَا أَدَبَا
فهي بمنزلة"نعم وبئس".(4/458)
ابن أخي. فقالت: أخاف أن تقع عليّ! فحلف أن لا يمسَّها حتى تفطِم. فأمسك عنها، حتى إذا فطمته أخرج الغلامَ إلى قومه، فقالوا: لقد أحسنت غذاءه! فذكر لهم شأنه، فذكروا امرأته، قال: فذهب إلى علي - فاستحلفه بالله:"ما أردت بذلك؟ "، يعني إيلاءً، قال: فردَّها عليه.
4485 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، (1) حدثنا المحاربي، عن أشعث بن سوار، عن سماك، عن عطية بن أبي عطية قال، توفي أخ لي وترك يتيما له رضيعًا، وكنت رجلا معسرًا، لم يكن بيدي ما أسترضع له. قال: فقالت لي امرأتي، وكان لي منها ابن ترضعه - إن كفيتني نفسَك كفيتكهما! فقلت: وكيف أكفيك نفسي؟ قالت: لا تقربني. فقلت: والله لا أقربك حتى تفطميهما. قال: ففطمتهما وخرجا على القوم، فقالوا: ما نراك إلا قد أحسنت ولايتهما! قال: فقصصت عليهم القصة، فقالوا: ما نراك إلا آليت منها وبانت منك! قال: فأتيت عليًا فقصصت عليه القصة، فقال: إنما الإيلاء ما أريد به الإيلاء.
4486 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن بكر البرساني قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب.
4487 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب.
4488 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا ابن وكيع، عن أبي فزارة، عن يزيد بن الأصم، عن ابن عباس قال: لا إيلاء إلا بغضب. (2)
__________
(1) هكذا في المخطوطة والمطبوعة. وأظن الصواب"محمد بن عبد الأعلى الصنعاني" شيخ الطبري. ولم أجد في شيوخه: "علي بن عبد الأعلى". وانظر ما سيأتي رقم: 4669.
(2) الأثر: 4488-"عبد الرحمن" هو عبد الرحمن بن مهدي. "أبو وكيع" هو: الجراح ابن مليح الرؤاسي. قال أبو داود: ثقة. وقال النسائي: ليس به بأس. وسئل الدارقطني عنه فقال: ليس بشيء هو كثير الوهم. قيل: يعتبر به؟ قال: لا. وفي المخطوطة والمطبوعة: "ابن وكيع" وهو خطأ. وانظر المحل لابن حزم 10: 45 و"أبو فزارة" هو: راشد بن كيسان العبسي. قال ابن معين: ثقة. وقال ابن حبان: مستقيم الحديث إذا كان فوقه ودونه ثقة. وله عند مسلم حديث واحد.(4/459)
4489 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن سماك بن حرب، عن أبي عطية، عن عليّ قال: لا إيلاء إلا بغضب. (1)
4490 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، أن عليا قال: إذا قال الرجل لامرأته وهي تُرضع:"والله لا قرَبتُك حتى تفطمي ولدي"، يريد به صلاحَ ولده، قال: ليس عليه إيلاء.
4491 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن منصور السلولي، عن محمد بن مسلم الطائفي، عن عمرو بن دينار، عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى عليّ فقال: إني قلت لامرأتي لا أقرَبُها سنتين. قال: قد آليت منها. قال: إنما قلت لأنها ترضع! قال: فلا إذًا.
4492 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن داود بن أبي هند، عن سماك بن حرب، عن أبي عطية، عن علي أنه كان يقول: إنما الإيلاء ما كان في غضب، يقول الرجل:"والله لا أقربك، والله لا أمسُّك! ". فأما ما كان في إصلاح من أمر الرضاع وغيره، فإنه لا يكون إيلاء، ولا تَبِين منه. (2)
4493 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن - يعني ابن مهدي - قال، حدثنا حماد بن زيد، عن حفص، عن الحسن: أنه سئل عنها فقال: لا والله، ما هو بإيلاء.
__________
(1) الأثر: 4489- مختصر رقم: 4482 من طريق آخر، وانظر التعليق السالف على الأثر رقم: 4479.
(2) الأثر: 4492- طريق آخر لحديث أبي عطية السالف رقم: 4482 وانظر التعليق على الأثر: 4479.(4/460)
4494 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا بشر بن منصور، عن ابن جريج، عن عطاء قال: إذا حلف من أجل الرَّضاع فليس بإيلاء.
4495 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال: سألت ابن شهاب عن الرجل يقول: والله لا أقرب امرأتي حتى تفطم ولدي! قال: لا أعلم الإيلاء يكون إلا بحلف بالله، فيما يريد المرء أن يضارَّ به امرأتَه من اعتزالها، ولا نعلم فريضةَ الإيلاء إلا على أولئك، فلا ترى أنّ هذا الذي أقسم بالاعتزال لامرأته حتى تفطم ولده، أقسم إلا على أمر يتحرَّى به فيه الخير، فلا نرى وَجبَ على هذا ما وجب على المولي الذي يُولِي في الغضب.
* * *
وقال آخرون: سواءٌ إذا حلف الرجل على امرأته أن لا يجامعها في فرجها، كان حلفه في غضب أو غير غضب، كلّ ذلك إيلاء.
* ذكر من قال ذلك:
4496 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم - في رجل قال لامرأته:"إن غَشِيتُك حتى تفطمي ولدَك فأنت طالق"، فتركها أربعة أشهر. قال: هو إيلاء.
4497 - حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي قال: كل شيء يحول بينه وبين غشيانها، فتركها حتى تمضي أربعة أشهر، فهو داخلٌ عليه.
4498 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، حدثنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن القعقاع قال: سألت الحسن عن رجل ترضع امرأته صبيًا، فحلف أن لا يطأها حتى تفطم ولدها، فقال: ما أرى هذا بغضب، وإنما الإيلاء في الغضب = قال: وقال ابن سيرين: ما أدري ما هذا(4/461)
الذي يحدِّثون؟! إنما قال الله:" للذين يؤلون من نسائهم" إلى" فإن الله سميع عليم"، إذا مضت أربعة أشهر، فليخطبها إن رغب فيها. (1)
4499 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم - في رجل حلفَ أن لا يكلم امرأته - قال: كانوا يرون الإيلاء في الجماع.
4500 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، قال: كل يمين منعت جماعًا حتى تمضي أربعه أشهر، فهي إيلاء.
4501 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت إسماعيل وأشعث، عن الشعبي مثله.
4502 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم والشعبي قالا كل يمين منعت جماعًا فهي إيلاء.
* * *
وقال آخرون: كل يمين حلف بها الرجل في مَسَاءة امرأته، فهي إيلاء منه منها، على الجماع حلف أو غيره، في رضًا حلف أو سخط.
* ذكر من قال ذلك:
4503 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن خصيف، عن الشعبي قال: كل يمين حالت بين الرجل وبين امرأته فهي إيلاء، إذا قال:"والله لأغضبنَّك، والله لأسوأنَّك، والله لأضربنَّك"، وأشباه هذا.
__________
(1) الأثر: 4489- حبان بن موسى بن سوار السلمي، أبو محمد المرزوي روى عن ابن المبارك وأبي حمزة السكري وغيرهما، وعنه البخاري ومسلم. ذكره ابن حبان في الثقات، مات سنة 233. مترجم في التهذيب. وفي المخطوطة والمطبوعة: "حسان بن موسى" وقد مضى على الصواب في رقم: 2914 وسيأتي على الصواب في رقم: 4528. و"أبو عوانة" هو: الوضاح بن عبد الله اليشكري ثقة. وسئل ابن المبارك: من أروى الناس -أو أصح الناس- حديثًا عن مغيرة؟ قال: أبو عوانة. مترجم في التهذيب.(4/462)
4504 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثني أبي وشعيب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب، عن ابن أبي ذئب العامريّ: أن رجلا من أهله قال لامرأته:"إن كلمتك سنة فأنت طالق"، واستفتى القاسم وسالمًا فقالا إن كلمتها قبل سنة فهي طالق، وإن لم تكلمها فهي طالقٌ إذا مضت أربعة أشهر.
4505 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان قال، سمعت حمادًا قال، قلت لإبراهيم: الإيلاء: أن يحلفَ أن لا يجامعها ولا يكلمها ولا يجمع رأسه برأسها، أو ليغضبنَّها، أو ليحرِمنَّها، أو ليسوأنَّها؟ قال: نعم.
4506 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة قال: سألت الحكم عن رجل قال لامرأته:"والله لأغيظنك"! فتركها أربعة أشهر، قال: هو إيلاء.
4507 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، سمعت شعبة قال: سألت، الحكم فذكر مثله.
4508 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثنا يونس قال، قال ابن شهاب، حدثني سعيد بن المسيب: (1) أنه إن حلف رجل أن لا يكلم امرأته يومًا أو شهرًا، قال: فإنا نرى ذلك يكون إيلاءً. وقال: إلا أن يكون حلف أن لا يكلمها، فكان يمسُّها فلا نرى ذلك يكون من الإيلاء. والفَيْءُ، أن يفيء إلى امرأته فيكلمها أو يمسها. فمن فعل ذلك، قبل أن تمضي الأربعة أشهر، (2) فقد فاء. ومن فاء بعد أربعة أشهر وهي في عِدَّتها، فقد فاء وملك امرأته، غير أنه مضت لها تطليقة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "حدثني سعيد بن المسيب أنه قال إن حلف. . . " والصواب من المخطوطة بحذف"قال".
(2) في المطبوعة: "الأربعة الأشهر" والذي في المخطوطة صواب في العربية لا بأس به.(4/463)
قال أبو جعفر: وعلة من قال:"إنما الإيلاء في الغضب والضَرار": أنّ الله تعالى ذكره إنما جعل الأجلَ الذي أجَّل في الإيلاء مخرجًا للمرأة من عَضْل الرجل وضراره إياها، (1) فيما لها عليه من حُسن الصحبة والعِشرة بالمعروف. وإذا لم يكن الرجل لها عاضلا ولا مُضارًا بيمينه وحلفه على ترك جماعها، بل كان طالبًا بذلك رضاها، وقاضيًا بذلك حاجتها، لم يكن بيمينه تلك مُوليًا، لأنه لا معنى هنالك لَحِق المرأةَ به من قِبَل بعلها مساءةٌ وسوء عشرة، (2) فيجعل الأجل - الذي جُعل للمولي - لها مخرجًا منه. (3)
* * *
وأما علة من قال:"الإيلاء في حال الغضب والرضا سواء"، عموم الآية، وأن الله تعالى ذكره لم يخصص من قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر" بعضًا دون بعض، بل عمّ به كلَّ مُولٍ ومُقسِم. فكل مقسِم على امرأته أن لا يغشاها مدةً هي أكثر من الأجل الذي جَعل الله له تربُّصه، فمُولٍ من امرأته عند بعضهم. وعند بعضهم: هو مُولٍ، وإن كانت مدة يمينه الأجل الذي جُعل له تربُّصه.
* * *
وأما علة من قال بقول الشعبي والقاسم وسالم: أن الله تعالى ذكره جعل الأجل الذي حدَّه للمُولي مخرجًا للمرأة مِن سوء عشرتها بعلها إياها وضراره بها. وليست اليمين عليها بأن لا يجامعها ولا يقرَبها، بأولى بأن تكون من معاني سوء العشرة والضِّرار، من الحلف عليها أن لا يكلمها أو يسوءَها أو يغيظها. لأن كل ذلك ضررٌ عليها وسوء عشرة لها.
* * *
__________
(1) العضل من الزوج لامرأته: أن يضارها ولا يحسن عشرتها، فهو لا يعاملها معاملة الأزواج ولا يتركها تتصرف في نفسها.
(2) في المطبوعة: "يلحق المرأة" والصواب من المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "الذي جعل المولى" وصواب السياق يقتضي ما أثبت. والضمير في"منه" راجع إلى"لا معنى هنالك".(4/464)
قال أبو جعفر: وأولى التأويلات التي ذكرناها في ذلك بالصواب، قولُ من قال: كل يمين منَعت المقسم الجماعَ أكثر من المدة التي جعل الله للمولي تربُّصَها، قائلا في غضب كان ذلك أو رضًا. وذلك للعلة التي ذكرناها قبل لقائلي ذلك.
وقد أتينا على فساد قول من خالف ذلك في كتابنا (كتاب اللطيف) بما فيه الكفاية، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فإن رجعوا إلى ترك ما حلَفوا عليه أن يفعلوه بهن من ترك جماعهن، فجامعوهن وحنِثوا في أيمانهم ="فإن الله غفورٌ"، لما كان منهم من الكذب في أيمانهم بأن لا يأتوهن ثم أتوهُن، ولما سلف منهم إليهن، (1) من اليمين على ما لم يكن لهم أن يحلفوا عليه فحلفوا عليه ="رحيم" بهم وبغيرهم من عباده المؤمنين.
* * *
وأصل"الفيء"، الرجوع من حال إلى حال، ومنه قوله تعالى ذكره: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) إلى قوله (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [سورة الحجرات: 9] ، يعني: حتى ترجع إلى أمر الله. ومنه قول الشاعر: (2)
فَفاءَتْ وَلَمْ تَقْضِ الَّذِي أَقْبَلَتْ لَهُ ... وَمِنْ حَاجَةِ الإنْسَانِ مَا لَيْسَ قَاضِيَا (3)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وبما سلف" والسياق يتطلب ما أثبت.
(2) هو سحيم عبد بني الحسحاس.
(3) ديوانه: 19 وحماسة ابن الشجري: 160 وغيرهما من قصيدته الغراء العجيبة وقد مضى منها بيت فيما سلف 1: 106ن 447. والضمير في قوله: "ففاءت" إلى صاحبته التي ذكرها وذكر ما بينه وبينها. ورواية الطبري وابن الشجري أحب إي من رواية الديوان: "ولم تقض الذي هو أهله". يقول: عادت إلى أهلها وقد أضاعت ما كانت مزمعة أن تفعله، أنساها حبه وغزله ما كانت نوته وإرادته. فيعزيها بأن المرء ربما طلب قضاء شيء ويشاء الله غيره فإذا هو لا يقتضيه.(4/465)
يقال منه:"فاء فلان يفيء فَيْئة" - مثل"الجيئة" و"فَيْأ". و"الفَيْئة" المرة. (1) فأما في الظلّ فإنه يقال:"فاء الظلّ يفيء فُيُوءًا وفَيْأ"، وقد يقال:"فيوءًا" أيضًا في المعنى الأول، (2) لأن"الفيء" في كل الأشياء بمعنى الرجوع.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل، غير أنهم اختلفوا فيما يكون به المولي فائيًا.
فقال بعضهم: لا يكون فائيًا إلا بالجماع.
* ذكر من قال ذلك:
4509 - حدثنا علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الفيء الجماع.
4510 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: الفيء الجماع. (3)
4511 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس مثله.
4512 - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم، عن ابن عباس مثله.
__________
(1) يريد أنه بناء المرة الواحدة إلا أنه وضع موضع المصدر مثل: "الرجفة والرحمة" والاسم من ذلك"الفيئة والجئة" (بكسر الفاء والجيم منهما) .
(2) أكثر كتب اللغة تجعل"الفيوء" مصدرًا في المعنى الأول ولا تجعله مصدرًا في معنى الظل. وما قاله الطبري حسن وثيق.
(3) الأثر: 4510- يزيد بن زياد بن أبي الجعد الأشجعي الغطفاني مولى لهم، روى عن الحكم بن عتيبة وعاصم الجحدري وعمه عبيد بن أبي الجعد، وأخيه سلمة بن زياد وغيرهم. وعنه وكيع وابن نمير وأبو نعيم وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات. وكان في المطبوعة"يزيد بن أبي زياد عن أبي الجعد" والصواب من المخطوطة.(4/466)
4513 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق قال: الفيءُ الجماع.
4514 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن حصين، عن الشعبي، عن مسروق مثله.
4515 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل قال: كان عامر لا يرى الفيء إلا الجماع.
4516 - حدثنا تميم بن المنتصر قال: أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا إسماعيل، عن عامر بمثله.
4517 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير قال: الفيء الجماع.
4518 - حدثنا أبو عبد الله النشائي قال، حدثنا إسحاق الأزرق، عن سفيان، عن علي بن بذيمة، عن سعيد بن جبير مثله. (1)
4519 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن سعيد بن جبير قال: الفيءُ الجماع، لا عذرَ له إلا أن يجامع وإن كان في سجن أو سفر - سعيدٌ القائل.
4520 - حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن جبير أنه قال: لا عذرَ له حتى يغشى.
4521 - حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن حماد وإياس، عن الشعبي = قال أحدهما: عن مسروق = قال: الفيء الجماع = وقال الآخر: عن الشعبي: الفيء الجماع.
__________
(1) الأثر: 4518-"أبو عبد الله النشائي" هو محمد بن حرب بن حرمان النشائي، ويقال النشاستجي، أبو عبد الله الواسطي. روى عن إسماعيل بن علية ومحمد بن يزيد الواسطي وإسحاق بن يوسف الأزرق وغيرهم. مات سنة 255. مترجم في التهذيب.(4/467)
4522 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب - في رجل آلى من امرأته، ثم شغله مرض - قال: لا عذر له حتى يغشى.
4523 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن سعيد بن جبير - في الرجل يولي من امرأته قبل أن يدخل بها أو بعد ما دخل بها، فيعرض له عارضٌ يحبسه، أو لا يجد ما يَسُوق: أنه إذا مضت أربعة أشهر، أنها أحق بنفسها.
4524 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الحكم والشعبي قالا إذا آلى الرجل من امرأته، ثم أراد أن يفيء، فلا فيء إلا الجماع.
* * *
وقال آخرون:"الفيء": المراجعة باللسان أو القلب في حال العذر، وفي غير حال العذر الجماع.
* ذكر من قال ذلك:
4525 - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة أنهما قالا إذا كان له عذرٌ فأشهد، فذاك له = يعني في رجل آلى من امرأته فشغله مرضٌ أو طريق، فأشهد على مراجعة امرأته.
4526 - حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن صاحب له، عن الحكم قال: تذاكرنا أنا والنخعي ذاك، (1) فقال النخعي: إذا كان له عذر فأشهد، فقد فاء. وقلت أنا: لا عذر له حتى يغشى. فانطلقنا إلى أبي وائل، فقال: إني أرجو إذا كان له عذر فأشهد، جاز. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "ذلك" وأثبت ما في المخطوطة وهما سواء.
(2) الأثر: 4526-"أبو وائل" وهو شقيق بن سلمة الأسدي الكوفي أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يره. وروى عن أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومعاذ وغيرهم من الصحابة والتابعين.
قال الأعمش قال لي أبو وائل: يا سليمان لو رأيتني ونحن هراب من خالد بن الوليد فوقعت من البعير فكادت تندق عنقي! فلو مت يومئذ كانت النار! قال: وكنت يومئذ ابن إحدى عشرة سنة. ومات بعد الجماجم سنة 83. مترجم في التهذيب.(4/468)
4527 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: إنْ آلى، ثم مرض أو سُجن أو سافر فراجع، فإنّ له عذرًا أن لا يجامع = قال: وسمعت الزهري يقول مثل ذلك.
4528 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم - في النفساء يُولي منها زوجها - قال: هذه في مُحارِب، سئل عنها أصحاب عبد الله فقالوا: إذا لم يستطع كفَّر عن يمينه، وأشهد على الفيء. (1)
4529 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن أبي الشعثاء قال: نزل به ضيفٌ فآلى من امرأته فنفست، (2) فأراد أن يفيء، فلم يستطع أن يقرَبها من أجل نفاسها، فأتى علقمة فذكر ذلك له، فقال: أليس قد فئتَ بقلبك ورَضيت؟ قال: بلى! قال: فقد فئت! هي امرأتك!
4530 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الأعمش، عن إبراهيم: أن رجلا آلى من امرأته فولدت قبل أن تمضي أربعة أشهر، أراد الفيئة فلم يستطع من أجل الدم حتى مضت أربعة أشهر، فسأل عنها علقمة بن قيس فقال: أليس قد راجعتها في نفسك؟ قال: بلى! قال: فهي امرأتك.
4531 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، أخبرنا عامر،
__________
(1) الأثر: 4528- انظر"حبان بن موسى" فيما سلف الأثر رقم: 4498. وقوله: "هذه في محارب" يعني قبيلة محارب الذين منهم أبو الشعثاء المحاربي: "سليم بن أسود بن حنظلة المحاربي" سيظهر في الآثار التالية، ولا سيما الأثر رقم: 4535 فقد ذكر صاحب الإيلاء هناك.
(2) نفست المرأة (بالبناء للمجهول) ونفست (بفتح فكسر) نفسًا (بفتحتين) ونفاسًا: ولدت. وأصله من"النفس" (بفتح فسكون) وهو: الدم وسميت بذلك لما يكون مع الولد وبعده من الدم.(4/469)
عن الحسن قال: إذا آلى من امرأته ثم لم يقدر أن يغشاها من عذر، قال: يُشهد أنه قد فاء، وهي امرأته.
4532 - حدثنا عمران قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا عامر، عن حماد، عن إبراهيم، عن علقمة بمثله.
4533 - حدثنا ابن بشار = قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنى أبي، عن قتادة، عن عكرمة قال: وحدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عكرمة قال: إذا آلى من امرأته فجهد أن يغشاها فلم يستطع، فله أن يُشهد على رَجْعتها.
4534 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة: أنهما سئلا عن رجل آلى من امرأته، فشغله أمر، فأشهد على مراجعة امرأته، قالا إذا كان له عذرٌ فذاك له.
4535 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم قال: انطلقت أنا وإبراهيم إلى أبي الشعثاء، فحدَّث أن رجلا من بني سعد بن همّام آلى من امرأته فنُفِست، فلم يستطع أن يقرَبها، فسأل الأسود - أو بعض أصحاب عبد الله - فقال: إذا أشهد فهي امرأته.
4536 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن حماد، عن إبراهيم أنه قال: إن كان له عذرٌ فأشهد، فذلك له - يعني المُولي من امرأته.
4537 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يحدث عن أبي الشعثاء، عن علقمة وأصحاب عبد الله أنهم قالوا - في الرجل إذا آلى من امرأته فنُفِست - قالوا: إذا أشهد فهي امرأته.
4538 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد قال:(4/470)
إذا آلى الرجل من امرأته ثم فاء، فليشهد على فَيْئه. وإذا آلى الرجل من امرأته وهو في أرض غير الأرض التي فيها امرأته، فليشهد على فيئه. فإن أشهدَ وهو لا يعلم أن ذلك لا يجزيه من وقوعه عليها، فمضت أربعة أشهر قبل أن يجامعها، فهي امرأته. وإن علم أنه لا فيء إلا في الجماع في هذا الباب، ففاء وأشهد على فيئه ولم يقع عليها حتى مضت أربعة أشهر، فقد بانتْ منه.
4539 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس قال: قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب: أنه إذا آلى الرجل من امرأته، قال: فإن كان به مرضٌ ولا يستطيع أن يمسَّها، أو كان مسافرًا فحبس، قال: فإذا فاء وكفَّر عن يمينه، فأشهد على فيئه قبل أن تمضي أربعة أشهر، فلا نراه إلا قد صلح له أن يُمسك امرأته، ولم يذهب من طلاقها شيء. قال، وقال ابن شهاب - في رجل يُولي من امرأته، ولم يبق لها عليه إلا تطليقة، فيريد أن يفيء في آخر ذلك وهو مريض أو مسافر، أو هي مريضة أو طامث أو غائبة لا يقدر على أن يبلغها، حتى تمضي أربعة أشهر - أله في شيء من ذلك رخصة، أن يكفر عن يمينه ولم يقدر على أن يطأ امرأته؟ قال: نرى، والله أعلم، إن فاء قبل الأربعة الأشهر فهي امرأته، بعد أن يشهد على ذلك، ويكفِّر عن يمينه، وإن لم يبلغها ذلك من فيئته، فإنه قد فاء قبل أن يكون طلاقًا.
4540 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: الفيء الجماع. فإن هو لم يقدر على المجامعة وكانت به علة مرض أو كان غائبًا أو كان محرمًا أو شيء له فيه عذر، ففاء بلسانه وأشهد على الرضا، فإنّ ذلك له فيءٌ إن شاء الله.
* * *
وقال آخرون:"الفيء" المراجعة باللسان بكلّ حال.
* ذكر من قال ذلك:(4/471)
4541 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا الضحاك بن مخلد، عن سفيان، عن منصور وحماد، عن إبراهيم قال: الفيء أن يفيء بلسانه.
4542 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن زياد الأعلم، عن الحسن قال: الفيء الإشهاد. (1)
4543 - حدثنا المثنى قال، حدثني الحجاج قال، حدثنا حماد، عن زياد الأعلم، عن الحسن مثله.
4544 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة، قال: إن فاء في نفسه أجزأه، يقول: قد فاء.
4545 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن إسماعيل بن رجاء قال: ذكروا الإيلاء عند إبراهيم فقال: أرأيت إن لم ينتشر ذكره؟ إذا أشهدَ فهي امرأته.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اختلف المختلفون في تأويل"الفيء" على قدر اختلافهم في معنى اليمين التي تكون"إيلاءً".
فمن كان من قوله: إن الرجل لا يكون موليًا من امرأته الإيلاءَ الذي ذكره الله في كتابه إلا بالحلف عليها أن لا يجامعها، جعل الفيءَ الرجوعَ إلى فعل ما حلف عليه أن لا يفعله من جماعها، وذلك الجماعُ في الفرج إذا قدر على ذلك وأمكنه = وإذا لم يقدر عليه ولم يمكنه، فإحداثَ النية أن يفعله إذا قدر عليه وأمكنه، (2)
__________
(1) الأثر: 4542-"زياد الأعلم" هو زياد بن حسان بن قرة الباهلي روى عن أنس والحسن وابن سيرين. وعنه عون والحمادان. وسعيد بن أبي عروبة وغيرهم. وقال أحمد: "ثقة ثقة" قال أبو حاتم: "هو من قدماء أصحاب الحسن". وقال الدارقطني: "هو قليل الحديث". مترجم في التهذيب.
(2) في المطبوعة: "بإحداث النية" وهو خطأ صرف صوابه من المخطوطة. وقوله"فإحداث" منصوب عطفًا على قوله: "جعل الفيء الرجوع. . . " بمعنى أنه إذا لم يقد عليه ولم يمكنه، جعل الفيء إحداث النية.(4/472)
وإبداء ما نوى من ذلك بلسانه ليعلمه المسلمون، (1) في قول من قال ذلك.
* * *
وأما قولُ من رأى أنّ الفيء هو الجماع دون غيره، فإنه لم يجعل العائقَ له عذرًا، ولم يجعل له مخرجًا من يمينه غيرَ الرجوع إلى ما حلف على تركه، وهو الجماع.
* * *
وأما من كان من قوله أنه قد يكون موليًا منها بالحلف على ترك كلامها، أو على أن يسوءَها أو يغيظها أو ما أشبه ذلك من الأيمان، فإن الفيء عنده الرجوعُ إلى ترك ما حلف عليه أن يفعله - مما فيه من مساءتها - بالعزم على الرجوع عنه، وإبداء ذلك بلسانه، (2) في كل حال عزم فيها على الفيء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصحة في ذلك عندنا، قولُ من قال:"الفيء هو الجماع"، لأن الرجل لا يكون موليًا عندنا من امرأته إلا بالحلف على ترك جماعها المدةَ التي ذكرنا، للعلل التي وصفنا قبلُ. فإذ كان ذلك هو الإيلاء، (3) فالفيء الذي يبطل حكم الإيلاء عنه، لا شك أنه غير جائز أن يكون إلا ما كان للذي آلى عليه خلافًا. (4) لأنه لما جعل حكمه إن لم يفئ إلى ما آلى على تركه، الحكمَ الذي بينه الله لهم في كتابه، كان الفيء إلى ذلك، معلومٌ أنه فعلُ ما آلى على تركه إن أطاقه، (5) وذلك هو الجماع. غير أنه إذا حيل بينه وبين الفيء - الذي
__________
(1) في المطبوعة: "وأبدى" وهو خطأ مخل بالكلام، لم يحسن قراءة الخط القديم، وهو"وابدا" وظنه فعلا كالذي سبقه قوله: "وإبداء" منصوب عطفًا على قوله: "فإحداث" كما بينته في التعليق الآنف.
(2) في المطبوعة: "وأبدى ذلك بلسانه" خطأ فاسد، وانظر التعليق السالف. وقوله: "وإبداء مرفوع معطوف على"الرجوع" في قوله: "فإن الفيء عنده الرجوع. . . "
(3) في المطبوعة: "فإذا كان ذلك" خطأ وضعف والصواب الجيد من المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "إلا ما كان الذي آلى. . . " وهو فساد والصواب من المخطوطة وقوله: "خلافًا" أي مخالفًا، كما سلف مئات من المرات.
(5) في المطبوعة: "معلومًا أنه. . . " والذي في المخطوطة جيد صحيح.(4/473)
هو جماعٌ - (1) بعذر، فغير جائز أن يكون تاركًا جماعها على الحقيقة (2) . لأن المرء إنما يكون تاركًا = ما له إلى فعله وتركه سبيل. فأما من لم يكن له إلى فعل أمر سبيل، فغير كائنٍ تاركَهُ.
وإذ كان ذلك كذلك، فإحداث العزم في نفسه على جماعها، مجزئ عنه في حال العذر، حتى يجد السبيل إلى جماعها. وإن أبدى ذلك بلسانه وأشهدَ على نفسه في تلك الحال بالأوبة والفيء، كان أعجبَ إليّ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) }
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى ذلك:"فإن الله غفورٌ" لكم فيما اجترمتم بفيئكم إليهنّ، من الحِنْث في اليمين التي حلفتم عليهن بالله أن لا تَغْشَوْهنّ ="رحيم" بكم في تخفيفه عنكم كفَّارةَ أيمانكم التي حلفتم عليهن، ثم حنِثتم فيه.
* ذكر من قال ذلك:
4546 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن:" فإن فاءوا فإن الله غفور رحيمٌ"، قال: لا كفارة عليه.
4547 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن قال: إذا فاء فلا كفَّارة عليه.
4548 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "هو الجماع" والصواب من المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "فغير جائز تاركًا جماعها" ثم غير في المطبوعة إلى: "فغير كائن تاركًا جماعها" والجيد الذي يدل عليه السياق، زيادة"أن يكون" كما فعلت. وإن كان آخر كلام أبي جعفر قد حسن هذا التغيير الذي جاء في المطبوعة.(4/474)
أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: كانوا يرون في قول الله:" فإن فاءوا فإنّ الله غفور رحيم": أن كفارته فيؤه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الذي ذكرنا هو التأويل الواجبُ على قول من زعم أنّ كل حانث في يمين هو في المُقام عليها حَرِجٌ، (2) فلا كفارة عليه في حنثه فيها، وأن كفارته الحنث فيها.
* * *
وأما على قول من أوجب على الحانث في كل يمين حلف بها [كفارة] ، (3) برًّا كان الحنِث فيها أو غير بِرّ، فإن تأويله:"فإن الله غفور" للمُولين من نسائهم فيما حنِثوا فيه من إيلائهم، فإن فاؤوا فكفّروا أيمانهم، بما ألزم الله الحانثين في أيمانهم من الكفارة ="رحيم" بهم، بإسقاطه عنهم العقوبة في العاجل والآجل على ذلك، بتكفيره إياه بما فرض عليهم من الجزاء والكفارة، وبما جعل لهم من المَهَل الأشهرَ الأربعة، (4) فلم يجعل فيها للمرأة التي آلى منها زوجها ما جعل لها بعد الأشهر الأربعة، كما:-
4549 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، حدثنا يحيى بن بشر، أنه سمع عكرمة يقول:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم * وإن عزموا الطلاق" - قال: وتلك رحمة الله! مَلَّكه أمرَها الأربعة الأشهر إلا من معذرة. لأن الله قال: (وَاللاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ) [سورة النساء: 34] . (5)
* * *
* ذكر بعض من قال: إذا فاء المولي فعليه الكفارة.
__________
(1) الأثر: 4548-"حبان بن موسى" سلف في هذا الإسناد برقم: 4528، وانظر أيضًا رقم: 4498 والتعليق عليه، وقد كان في المطبوعة والمخطوطة هنا: "حماد بن موسى" وهو خطأ وتحريف. وانظر ما سيأتي رقم: 4549.
(2) "حرج": آثم. وقد أسلفنا قول أهل اللغة في هذا الحرف، في الجزء 2: 423 تعليق: 1، ثم في هذا الجزء 4: 224، تعليق: 1
(3) الزيادة بين القوسين لا بد منها، ويدل عليها سياق التفسير الآتي.
(4) المهل (بفتح فسكون، وبفتحتين) مصدر"مهلته" وهي كأمهلته: أي أنظرته ولم أعاجله.
(5) الأثر: 4549- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 4548. و"يحيى بن بشر الخراساني أبو وهب روى عن عكرمة وروى عنه ابن المبارك. قال ابن المبارك: "إذا حدثك يحيى ابن بشر عن إنسان فلا تبالي أن لا تسمعه منه". مترجم في الكبير 4/2/263 والجرح والتعديل 4/12/13. وقد سلف في إسناد الطبري رقم: 3619، 3652 ويأتي في رقم: 4749.(4/475)
4550 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر"، وهو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربَّص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفَّر يمينه بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام.
4551 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال: حدثني يونس قال، حدثني ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب بنحوه.
4552 - حدثنا المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا حماد بن سلمة، عن حماد، عن إبراهيم قال: إذا آلى فغشيها قبل الأربعة الأشهر، كفَّر عن يمينه.
4553 - حدثني المثنى قال، حدثنا حبان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم - في النُّفَساء يولي منها زوجها - قال: هذه في مُحارب، سئل عنها أصحاب عبد الله، فقالوا: إذا لم يستطع كفر عن يمينه وأشهد على الفيء. (1)
4554 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: إن فاء فيها كفَّر يمينه، وهي امرأته.
4555 - حدثت عن عمار، عن ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
4556 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيم
__________
(1) الأثر: 4553- انظر الأثر السالف 4528، ثم الآثار التي تليه والتعليق عليها.(4/476)
وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
في الإيلاء قال: يوقَف قبل أن تمضي الأربعة الأشهر، فإن راجعها فهي امرأته، وعليه يمين: يكفِّرها إذا حنِث.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا التأويل الثاني هو الصحيح عندنا في ذلك، لما قد بينا من العلل في كتابنا (كتاب الأيمان) ، من أن الحنث موجبٌ الكفارةَ في كل ما ابتدئ فيه الحنث من الأيمان بعد الحلف، على معصية كانت اليمين أو على طاعة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى قول الله تعالى ذكره:" وإن عزموا الطلاق".
فقال بعضهم: معنى ذلك: للذين يؤلون أن يعتزلوا من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهر، فإن فاؤوا فرجعوا إلى ما أوجب الله لهنّ من العِشرة بالمعروف في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم تربُّصهم عنهن وعن جماعهن، وعشرتهن في ذلك بالواجب"فإن الله لهم غفور رحيم". وإن تركوا الفيء إليهن، (1) في الأشهر الأربعة التي جعل الله لهم التربص فيهنّ حتى ينقضين، طُلِّق منهم نساؤهم اللاتي آلوا منهن بمضيهن. (2) ومضيُّهن عند قائلي ذلك: هو الدلالة على عزم المولي على طلاق امرأته التي إلى منها.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فإن تركوا الفيء لليمين. . . " وهو خطأ غريب فاسد، لم يحسنوا قراءة ما في المخطوطة.
(2) الضمير في قوله: "بمضيهن" إلى الأشهر الأربعة.(4/477)
ثم اختلف متأوِّلو هذا التأويل بينهم في الطلاق الذي يلحقها بمضيّ الأشهر الأربعة.
فقال بعضهم: هو تطليقة بائنة.
* ذكر من قال ذلك:
4557 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا محمد بن بشر، عن سعيد، عن قتادة، عن خِلاس أو الحسن، عن علي قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة. (1)
4558 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة: أن عليًا وابن مسعود كانا يجعلانها تطليقة، إذا مضت أربعة أشهر فهي أحق بنفسها = قال قتادة: وقولُ عليّ وعبد الله أعجبُ إليّ في الإيلاء. (2)
4559 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أنّ عليًا قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر بانت بتطليقة.
4560 - حدثنا ابن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا معمر، عن عطاء الخراساني، عن أبي سلمة: أن عثمان بن عفان وزيد بن ثابت كانا يقولان: إذا مضت الأربعة الأشهر، فهي واحدة بائنة.
__________
(1) الأثر: 4557-"أبو هشام" هو محمد بن يزيد بن محمد بن كثير العجلي أبو هشام الرفاعي قاضي بغداد يتكلمون فيه. مترجم في التهذيب. ومحمد بن بشر بن الفرافصة بن المختار العبدي روى عن هشام بن عروة وعبيد الله بن عمر العمري وسعيد بن أبي عروبة. مترجم في التهذيب. و"خلاس" بكسر الخاء وفتح اللام المخففة هو: خلاس بن عمر الهجري البصري. روى عن علي وعمار بن ياسر وعائشة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. وعنه قتادة وعوف الأعرابي وداود بن أبي هند. وهو ثقة. مترجم في التهذيب.
(2) أقوال الصحابة والتابعين في الإيلاء تجدها مستوفاة في نصب الراية 3: 241- 243، والمحلى لابن حزم 10: 42- 49 وسنن البيهقي 7: 376- 382 وفتح الباري 9: 375- 379 وابن كثير والدر المنثور في تفسير الآية. هذا ولم يستوف أحد ذكر هذه الآثار كما استوفاها أبو جعفر رحمه الله.(4/478)
4561 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرنا عطاء الخراساني قال: سمعني أبو سلمة بن عبد الرحمن أسأل ابن المسيب عن الإيلاء، فمررت به فقال: ما قال لك ابن المسيب؟ فحدثته بقوله، فقال: أفلا أخبرك ما كان عثمان بن عفان وزيد بن ثابت يقولان؟ قلت: بلى! قال: كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة، وهي أحق بنفسها.
4562 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد، عن الأوزاعي، عن عطاء الخراساني قال، حدثنا أبو سلمة بن عبد الرحمن: أن عثمان بن عفان قال: إذا مضت أربعة أشهر من يوم آلى، فتطليقة بائنة.
4563 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن معمر = أو حُدثت عنه = عن عطاء الخراساني، عن أبي سلمة، عن عثمان وزيد: أنهما كانا يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.
4564 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا سفيان بن عيينة، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: آلى عبد الله بن أنيس من امرأته، فمكثت ستة أشهر، فأتى ابن مسعود فسأله، فقال: أعلمها أنها قد مُلِّكت أمرَها. فأتاها فأخبرها، وأصْدقها رطلا من وَرِقٍ.
4565 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن إبراهيم، عن عبد الله: أنه كان يقول في الإيلاء: إذا مضت الأربعة الأشهر، فهي تطليقة بائنة.
4566 - حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، عن عبد الله مثل ذلك.
4567 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: آلى عبد الله بن أنيس من امرأته، قال: فخرج فغاب عنها ستة أشهر، ثم جاء فدخل عليها، فقيل: إنها قد بانت منك! فأتى عبد الله، فذكر(4/479)
ذلك له، فقال له عبد الله: قد بانت منك، فَأتها فأعلمها واخطبها إلى نفسها. (1) فأتاها فأعلمها أنها قد بانت منه، وخطبها إلى نفسها، وأصدقها رِطلا من وَرِق. (2)
4568 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، عن عطاء قال، حدثنا داود، عن عامر، عن ابن مسعود أنه قال، في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.
4569 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثني عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عامر: أن رجلا من بني هلال يقال له فلان ابن أنيس = أو: عبد الله بن أنيس = أراد من أهله ما يريد الرجلُ من أهله، فأبت، فحلف أن لا يقرَبها. فطرأ على الناس بعثٌ من الغد، فخرج فغاب ستة أشهر ثم قدم، فأتى أهله ما يرى أن عليه بأسًا! فخرج إلى القوم فحدثهم بسَخَطه على أهله حيث خرج، وبرضاه عنهم حين قدم. فقال القوم: فإنها قد حرُمت عليك! فأتى ابن مسعود فسأله عن ذلك، فقال ابن مسعود: أما علمت أنها حرُمت عليك؟ قال لا! قال: فانطلق فاستأذن عليها، فإنها ستنكر ذلك، ثم أخبرها أنّ يمينك التي كنت حلفتَ عليها صارت طلاقًا، وأخبرها أنها واحدة، وأنها أملك بنفسها، فإن شاءت خطبتها فكانت عندك على ثنتين، وإلا فهي أملكُ بنفسها.
4570 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن علي بن بذيمة، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله قال، في الإيلاء إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، وتعتدّ ثلاثة قروء. (3)
4571 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) في المطبوعة: "وأعلمها واخطبها" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الورق (بفتح الواو، وكسر الراء، أو سكونها- وبكسر الواو وسكون الراء) : هي الفضة والدراهم المضروبة.
(3) "أبو عبيدة" هو أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود، ويقال اسمه"عامر بن عبد الله" ويقال اسمه كنيته. روى عن أبيه ولم يسمع منه. مترجم في التهذيب وغيره.(4/480)
عن منصور والأعمش ومغيرة، عن إبراهيم: أن عبد الله بن أنيس آلى من امرأته، فمضت أربعةُ أشهر، ثم جامعها وهو ناسٍ، فأتى علقمة، فذهب به إلى عبد الله، فقال عبد الله: بانت منك فاخطبها إلى نفسها، فأصدقها رطلا من فضة.
4572 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب= عن أبي قلابة: أن النعمان بن بشير آلى من امرأته، فضرب ابنُ مسعود فخذَه وقال: إذا مضت أربعة أشهر فاعترفْ بتطليقة. (1)
4573 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود، عن عامر: أن ابن مسعود قال في المُولي: إذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ فقد بانت منه امرأته بواحدة وهو خاطب.
4574 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: عَزْم الطلاق انقضاء الأربعة الأشهر.
4575- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.
4576- حدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن عطاء، عن ابن عباس: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة. (2)
4577- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد بن مخلد، عن جعفر بن برقان، عن
__________
(1) اعترف بالشيء: أقر به.
(2) في المطبوعة: "حدثنا محمد بن جعفر" أول الإسناد أسقط منه"حدثنا محمد بن المثنى قال" وصوابه من المخطوطة، وهو بين من الإسناد قبله.(4/481)
عبد الأعلى بن ميمون بن مهران، عن عكرمة أنه قال: إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة= فذكر ذلك عن ابن عباس. (1)
4578 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم، عن يزيد بن زياد بن أبي الجعد، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال، عزيمة الطلاق انقضاء الأربعة. (2)
4579- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، مثله.
4580- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل قال، حدثنا الأعمش، عن حبيب، عن سعيد بن جبير: أن أمير مكة سأله عن المُولي، فقال: كان ابن عمر يقول: إذا مضت أربعة أشهر مُلِّكت أمرها= وكان ابن عباس يقول ذلك.
4581- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حفص، عن الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.
4582- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا حفص، عن حجاج، عن سالم المكي، عن ابن الحنفية، مثله.
4583 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبى وشعيب، عن الليث، عن يزيد بن أبي حبيب عن أبان بن صالح، عن ابن شهاب:
__________
(1) الأثر: 4577-"خالد بن مخلد القطواني". أبو الهيثم البجلي. روى عنه البخاري ومسلم وأبو كريب قال ابن معين: لا بأس بهن مات سنة 213. مترجم في التهذيب. و"جعفر بن برقان الكلابي". روى عن يزيد الأصم والزهري وعطاء وميمون بن مهران وعبد الأعلى بن ميمون وهو ثقة: وكان أميًا لا يقرأ ولا يكتب ولكن كانت له رواية وفقه وفتوى مات سنة 150. مترجم في التهذيب. و"عبد الأعلى بن ميمون" سمع أباه وعكرمة وعطاء، وسمع منه جعفر بن برقان مترجم في الجرح والتعديل 3/1/27.
(2) الأثر: 4578- في المطبوعة والمخطوطة"يزيد بن زياد عن أبي الجعد" وقد سلف مثل هذا الخطأ وصححناه فهو"يزيد بن زياد بن أبي الجعد" فيما سلف رقم: 510: 0(4/482)
أن قبيصة بن ذؤيب قال في الإيلاء: هي تطليقة بائنة وتأتنف العدة (1) وهي أملكُ بأمرها.
4584 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن شريح: أنه أتاه رجل فقال: إني آليت من امرأتي فمضت أربعة أشهر قبل أن أفيء؟ فقال شريح:" وإذ عزموا الطلاقَ فإن الله سميع عليم"- لم يزده عليها. فأتى مسروقًا فذكر ذلك له، فقال: يرحم الله أبا أمية لو أنا قلنا مثل ما قال لم يفرِّج أحد عنه! وإنما أتاه ليفرِّج عنه! ثم قال: هي تطليقة بائنة، وأنت خاطبٌ من الخطَّاب.
4585- حدثنا ابن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة أنه سمع الشعبي، يحدث: أنه شهد شُرَيحًا - وسأله رجل عن الإيلاء - فقال:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر" الآية قال: فقمت من عنده، فأتيتُ مسروقًا، فقلت: يا أبا عائشة= وأخبرته بقول شريح، فقال: يرحم الله أبا أمية، لو أن الناس كلهم قالوا مثل هذا، منْ كان يفرج عنا مثل هذا! ثم قال: إذا مضت أربعة أشهر فهي واحدة بائنة.
4586 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم قال، قرأت في كتاب أبي قلابة عند أيوب: سألت سالم بن عبد الله وأبا سلمة بن عبد الرحمن فقالا إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقه بائنة.
8587 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا أبو داود، عن جرير بن حازم، عن قيس بن سعد، عن عطاء قال، إذا مضت أربعة أشهر، فهي تطليقة بائنة، ويخطبها في العِدَّة.
4588- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا معتمر، عن أبيه-
__________
(1) ائتنف الأمر ائتنافًا واستأنفه: أخذ أوله وابتدأه أو استقبله. من"الأنف" (بفتح فسكون) وأنف كل شيء أوله.(4/483)
في الرجل يقول لامرأته:"والله لا يجمع رأسي ورأسك شيء أبدًا! "، ويحلف أن لا يقربها أبدًا= فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ، كانت تطليقة بائنة، وهو خاطب- قول علي وابن مسعود وابن عباس والحسن.
4589 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن: أنه سئل عن رجل قال لامرأته:"إن قرَبتُك فأنت طالق ثلاثًا"، قال، فإذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، وسقط ذلك.
4590 - حدثنا سوّار قال، حدثنا بشر بن المفضل= وحدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع = جميعًا، عن يزيد بن إبراهيم، قال، سمعت الحسن ومحمدًا في الإيلاء، قالا إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت بتطليقة بائنة، وهو خاطب من الخطاب.
4591- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد قال، كنا نتحدث في الأليَّة أنها إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة.
4592 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن إبراهيم في الإيلاء قال: إن مضت= يعني: أربعة أشهر= بانت منه.
4593 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن النخعي قال: إن قرَبها قبل الأربعة الأشهر فقد بانت منه بثلاث، وإن تركها حتى تمضي الأربعة الأشهر بانت منه بالإيلاء = في رجل قال لامرأته:"أنت طالق ثلاثًا إن قربتك سنة".
4594 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة قال: أعتم عبيد الله بن زياد عند هندٍ في ليلة أم عثمان ابنة عمر بن عبيد الله، فلما أتاها أمرت جواريها، فأغلقنَ الأبواب دونه، فحلف أن لا يأتيها(4/484)
حتى تأتيه، فقيل له: إن مضت أربعة أشهر ذهبتْ منك. (1)
4595 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عوف قال: بلغني أن الرجل إذا آلى من امرأته فمضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة، ويخطبها إن شاء.
4596 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر"- في الذي يُقسم، وإن مضت الأربعة الأشهر فقد حرُمت عليه، فتعتدُّ عدّة المطلقة وهو أحد الخطاب.
4597 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب قال، إذا مضت الأربعة الأشهر فهي تطليقة بائنة. (2)
4598 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإنّ فاءوا فإنّ الله غفورٌ رحيم"- وهذا في الرجل يولي من امرأته ويقول:"والله لا يجتمع رأسي ورأسك، ولا أقربك، ولا أغشاك! "، فكان أهل الجاهلية يعدُّونه طلاقًا، فحدّ الله لهما أربعة أشهر، فإن فاء فيها كفر يمينه وهي امرأته، وإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ فهي تطليقة بائنة، وهي أحق بنفسها، وهو أحد الخطاب.
4599- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، مثله.
__________
(1) الأثر: 4594-"هند" هي: هند بنت أسماء بن خارجة الفزاري و"أم عثمان بنت عمر بن عبيد الله بن معمر التيمي" وهما زوجتاه. وقوله: "أعتم" أي تأخر وأبطأ في الليل وقد مرت قطعة منه، والعتمة: ظلام الليل.
(2) الأثر: 4597- انظر الأثر السالف رقم: 4583.(4/485)
4600- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر"، قال: كان ابن مسعود وعمر بن الخطاب يقولان: إذا مضت أربعة أشهر فهي طالق بائنة، وهي أحقُّ بنفسها.
4601 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو وهب، عن جويبر، عن الضحاك:" للذين يؤلون" الآية، هو الذي يحلف أن لا يقرب امرأته، فإن مضت أربعة أشهر ولم يفئ ولم يطلِّق، بانت منه بالإيلاء. فإن رجعت إليه فمهرٌ جديد، ونكاح ببيِّنة، ورضًا من الوليّ. (1)
* * *
وقال آخرون: بل الذي يلحقها بمضي الأربعة الأشهر: تطليقةٌ، يملك فيها الزوجُ الرحعةَ.
* ذكر من قال ذلك:
4602 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام قالا إذا آلى الرجل من امرأته فمضت أربعة أشهر، فواحدة وهو أملك برجعتها. (2)
4603 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن إدريس، عن مالك، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب قال، إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة يملك الرَّجعة. (3)
4604 - حدثنا أبو هشام قال: حدثنا ابن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن مكحول قال، إذا مضت أربعة اشهر فهي تطليقة، يملك الرجعة.
__________
(1) في المطبوعة: "ورضا من المولى" وهو خطأ والصواب من المخطوطة.
(2) الأثر: 4602- في الموطأ: 557، بغير هذا اللفظ وفي المطبوعة: "لرجعتها" والصواب من المخطوطة.
(3) الأثر 4603- لم أجده بلفظه في الموطأ، وكأنه مختصر الذي سلف.(4/486)
4605 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن قال، هي واحدة وهو أحق بها= يعني إذا مضت الأربعة الأشهر= وكان الزهري يفتي بقول أبي بكر هذا.
4606 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني يونس قال، قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب أنه قال: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر قبل أن يفيء فهي تطليقة وهو أملك بها ما كانت في عِدَّتها.
4607 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا أبو يونس القوي قال، قال لي سعيد بن المسيب: ممن أنت؟ قال: قلت من أهل العراق! قال، لعلك ممن يقول:"إذا مضت أربعة أشهر فقد بانت! "، لا! ولو مضت أربع سنين. (1)
4608 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا حجاج بن رِشْدين قال: حدثنا عبد الحبار بن عمر، عن ربيعة: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة، وتستقبل عِدَّتها، وزوجها أحق برجعتها. (2)
4609 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، كان ابن شبرمة يقول: إذا مضت أربعة أشهر فله الرجعة = ويخاصِم بالقرآن، ويتأوَّل
__________
(1) الأثر: 4607-"أبو القوي" هو: الحسن بن يزيد بن فروخ الضمري ويقال العجلي. سكن الكوفة. قال ابن معين: "هو الذي يقال له الطواف". وسمي"القوي" لقوته على العبادة قال وكيع: "بكى حتى عمى وصلى حتى حدب وطاف حتى أقعد" وثقه ابن معين والنسائي. مترجم في التهذيب.
(2) الأثر: 4608-"حجاج بن رشدين بن سعد المصري". روى عن أبيه وحيوة بن شريح وعنه محمد بن عبد الله بن عبد الحكم. قال ابن أبي حاتم: سألت أي عنه: "لا علم لي به، لم أكتب عن أحد عنه". وذكره ابن حبان في الثقات وضعفه ابن عدي مات سنة 211. مترجم في لسان الميزان والجرح والتعديل 1/2160. و"عبد الجبار بن عمر الأيلي" سمع الزهري وبيعة وعطاء الخراساني وأبا الزناد؟ روى عنه ابن وهب وسعيد بن أبي مريم. سئل يحيى بن معين عنه فقال: ضعيف ليس بشيء". وقال أبو زرعة: "ضعيف الحديث ليس بقوي" مترجم في الجرح والتعديل 3/1/31- 32.(4/487)
هذه الآية: (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ) [سورة البقرة: 228] ، ثم نزع: (1) " للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر فإذ فاءوا فإن الله غفور رحيم وإن عزَموا الطلاق فإن الله سميع عليم"
4610 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، قال أبو عمر: ونحن في ذلك = يعني في الإيلاء = على قول أصحابنا الزهريّ ومكحول أنها تطليقة - يعني مضيّ الأربعة الأشهر - وهو أملك بها في عدتها. (2)
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:" للذين يؤلون من نسائهم" إلى قوله:" فإنّ الله سميع عليم"="للذين يؤلون" على الاعتزال من نسائهم، تنظُّرُ أربعة أشهر بأمره وأمرها="فإن فاؤوا" بعد انقضاء الأشهر الأربعة إليهنّ، فرجعوا إلى عشرتهن بالمعروف، وترك هجرانهن، وأتوْا إلى غشيانهن وجماعهن="فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق" فأحدثوا لهن طلاقًا بعد الأشهر الأربعة="فإن الله سميع" لطلاقهم إياهن="عليم" بما فعلوا بهن من إحسان وإساءة.
وقال متأوِّلو هذا التأويل: مضي الأشهر الأربعة يوجب للمراة المطالبةَ على زوجها المُولي منها، بالفيء أو الطلاق، ويجب على السلطان أن يقف الزوج على ذلك، فإن فاء أو طلَّق، وإلا طلَّق عليه السلطان.
* ذكر من قال ذلك:
4611 - حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، أخبرنا المثنى بن الصباح، عن عمرو بن شعيب عن سعيد بن المسيب: أن عمر قال في
__________
(1) نزع بالآية والشعر، وانتزع بهما: تمثل. ويقال أيضًا للرجل إذا استنبط معنى آية من كتاب الله: "قد انتزع معنى جيدًا- ونزعه": أي استخرجه.
(2) الأثر: 4610-"الوليد بن مسلم القرشي" الدمشقي عالم الشام. قال أحمد: "ما رأيت أعقل منه. وقال مروان بن محمد: "إذا كتبت حديث الأوزاعي عن الوليد فلا تبالي من فاتك، وقال: "كان الوليد عالما بحديث الأوزاعي". مات بعد انصرافه من الحج سنة 194. "أبو عمرو" هو الإمام الجليل أبو عمرو الأوزاعي"عبد الرحمن بن عمرو بن يحمد" الفقيه المشهور.(4/488)
الإيلاء: لا شيء عليه حتى يُوقَف، فيطلق أو يمسك. (1)
4612- حدثني عبد الله بن أحمد بن شَبَّويه قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب، عن المثنى، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب، عن عمر بن الخطاب، مثله. (2)
4613- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا غندر قال، حدثنا شعبة، عن سماك قال، سمعت سعيد بن جبير يحدّث عن عمر بن الخطاب: أنه قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر لم يجعله شيئًا.
4614 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن عيينة، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عن علي: أنه كان يقف المولي بعد الأربعة الأشهر حتى يفيء أو يطلق.
4615 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن الشيباني، عن الشعبي، عن عمرو بن سلمة، عن علي: قال في الإيلاء: يُوقَف.
4616- حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي: أنه كان يَقِفُه.
4617- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن الشيباني، عن بكير بن الأخنس، عن مجاهد، عن ابن أبي ليلى، عن علي: أنه كان يوقفه. (3)
4618- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان بن الحكم، عن على قال: يُوَقف المُولي عند انقضاء الأربعة
__________
(1) الأثر: 4611-"هو المثنى بن الصباح اليماني". أصله من أبناء اليمن بفارس روى عن طاوس ومجاهد وعطاء بن أبي رباح وعمرو بن شعيب. قال يحيى بن سعيد وذكر عنده: "لم نتركه من أجل عمرو بن الشعيب ولكن كان منه اختلاط في عطاء". وقال أحمد: "لا يساوي حديثه شيئًا، مضطرب الحديث" وضعفه ابن معين وغيره. مات سنة 149.
(2) الأثر: 4612-"عبد الله بن أحمد بن شبويه" سلف في رقم: 1909.
(3) الأثر: 4617- في المخطوطة: "عن ابن أبي ليلى في الإيلاء قال، يوقف" ليس فيه"عن علي: أنه كان يوقفه".(4/489)
الأشهر حتى يفيء أو يطلق= قال أبو كريب، قال ابن إدريس: وهو قول أهل المدينة.
4619 - حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن فضيل، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان، عن علي مثله.
4620 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، عن مروان بن الحكم، عن علي قال، المُولي إمَّا أن يفيء، وإما أن يطلّق.
4621 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت، عن طاوس، أن عثمان كان يقف المولي بقول أهل المدينة.
4622- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر، عن حبيب بن أبي ثابت قال، لقيت طاوسًا فسألته، فقال: كان عثمان يأخذ بقول أهل المدينة.
4623 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن أبي الدرداء أنه قال: ليس له أجل وهي معصية، يوقف في الإيلاء، فإما أن يمسك، وإما أن يطلق.
4624- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا همام، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب أن أبا الدرداء: قال في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر فانه يوقف، إما أن يفيء، وإما أن يطلق.
4625 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، أن أبا الدرداء كان يقول: هي معصية، ولا تحرم عليه امرأته بعد الأربعة الأشهر، ويجعل عليها العدّة بعد الأربعة الأشهر.
4626 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة أن أبا الدرداء وسعيد بن المسيب قالا يوقف عند انقضاء الأربعة(4/490)
الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق، ولا يزال مقيما على معصية حتى يفيء أو يطلق.
4627 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة أن أبا الدرداء وعائشة قالا يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.
4628 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الدرداء وسعيد بن المسيب، نحوه.
4629 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، قال، (1) حدثنا الحسن، عن ابن أبى مليكة قال، قالت عائشة: يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. قال: قلت: أنتَ سمعتها؟ قال: لا تُبَكِّتْني. (2)
4630- حدثنا إبراهيم بن مسلم بن عبد الله قال، حدثنا عمران بن ميسرة قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حسن بن الفرات بإسناده عن عائشة، مثله. (3)
4631- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبد الجبار بن الورد، عن ابن أبي مليكه، عن عائشة، مثله.
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "أبو إدريس" وهو خطأ ورواية أبي كريب عن ابن إدريس كثيرة دائرة في التفسير أقربها آنفًا رقم: 4609، وقد مضت ترجمته.
(2) التبكيت: استقبال الرجل بما يكره. والتبكيت أيضًا: التقريع والتوبيخ.
(3) الأثر: 4629- 4630-"أبو مسلم": إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الكجي. أو الكشي مضى في رقم: 3562، 4327. وكان في المطبوعة هنا: "إبراهيم بن مسلم بن عبد الله" وهم الناسخ فحذف الكنية"أبو مسلم" وأقحم"بن مسلم" بينه وبين أبيه. و"عمران بن ميسرة المنقري". روى عن عبد الله بن إدريس. وعنه البخاري وأبو داود وأبو زرعة وأبو حاتم وأبو مسلم الكجي: وثقه الدارقطني. مات سنة 213. مترجم في التهذيب. و"الحسن بن الفرات بن أبي عبد الرحمن التميمي الفزاز" وهو المذكور في الإسناد السالف: 4629. روى عن أبي معشر وابن أبي مليكة وأبيه فرات. وعنه ابنه زياد وعبد الله بن إدريس ووكيع وأبو نعيم وغيرهم. وثقه ابن معين وابن حبان وأبو حاتم. مترجم في التهذيب والجرح والتعديل 1/2/32.(4/491)
4632 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة أنها قالت: إذا آلى الرجل أن لا يمسَّ امرأته، فمضت أربعة أشهر، فإما أن يمسكها كما أمره الله، وإما أن يطلقها لا يوجب عليه الذي صَنع طلاقًا ولا غيره. (1)
4633 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني يونس بن يزيد وناجية بن بكر وابن أبي الزناد، عن أبي الزناد قال، أخبرني القاسم بن محمد: أنّ خالد ابن العاص المخزومي كانت عنده ابنة أبي سعيد بن هشام، وكان يحلف فيها مرارًا كثيرة أن لا يقربها الزمانَ الطويلَ قال، فسمعت عائشة تقول له: ألا تتقي الله يا ابن العاص في ابنة أبي سعيد؟ أما تخْرج؛ أما تقرأ هذه الآية التي في"سورة البقرة"؟ قال: فكأنها تؤثِّمه، ولا ترى أنه فارق أهله. (2)
4634 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المولي: لا يحلّ له إلا ما أحل الله له: إما أن يفيء، وإما أن يطلق.
4635 - حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا عيد الله بن نمير قال، أخبرنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، نحوه. (3)
4636 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال، لا يجوز للمُولي أن لا يفعل ما أمره الله، يقول:
__________
(1) الأثر: 4632-"عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب" أحد الفقهاء السبعة. روى عن القاسم بن محمد بن أبي بكر وابنه عبد الرحمن بن القاسم. كان في المطبوعة والمخطوطة"عبد الله بن عمر" وانظر سنن البيهقي 8: 378.
(2) الأثر: 4633-"يونس بن يزيد بن أبي النجاد الأيلي". روى عن الزهري ونافع وهشام بن عروة. وعنه الليث والأوزاعي وابن المبارك وابن وهب، ثقة. مات بصعيد مصر سنة 159. مترجم في التهذيب. "وأما" ناجية بن بكر" فلم أجد من يسمى بهذا الإسم من الرواة ولكن ابن وهب يروى عن"بكر بن مضر المصري" فأخشى أن يكون في الكلام زيادة وتصحيف. والله أعلم. وفي المطبوعة والمخطوطة: "يا ابن أبي العاص" والصواب ما أثبت. وانظر نسب قريش: 312.
(3) الأثر: 4635- في المخطوطة: "عن عبد الله عن نافع" في هذا الموضع وحده.(4/492)
يبيِّن رجعتها، أو يطلق عند انقضاء الأربعة الأشهر - يبين رجعتها، أو يطلق = قال أبو كريب. قال ابن إدريس وزاد فيه. وراجعته فيه، فقال قولا معناه: إن له الرجعة.
4637 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا شعبة، عن سماك، عن سعيد بن جبير أن عمر قال نحوا من قول ابن عمر.
4638 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جرير بن حازم قال، أخبرنا نافع أن ابن عمر قال في الإيلاء: يوقف عند الأربعة الأشهر.
4639 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال: إذا آلى الرجل أن لا يمس امرأته فمضت أربعة أشهر، فإما أن يمسكها كما أمره الله، وإما أن يطلقها ولا يوجب عليه الذي صنعَ طلاقًا ولا غيره.
4640 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن سعيد بن جبير قال، سألت ابن عمر عن الإيلاء فقال: الأمراء يقضون بذلك.
4641 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر قال، يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة. فإما أن يطلِّق، وإما أن يفيء.
4642 - حدثنا عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن عمر، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه قال، سألت اثني عشر رجلا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن الرجل يولي من امرأته، فكلهم يقول: ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف، فإن فاء وإلا طلق.
4643 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب، قال حدثنا داود،(4/493)
عن سعيد بن المسيب - في الرجل يولي من امرأته- قال: كان لا يرى أن تدخل عليه فرقه حتى يطلق. (1)
4644 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن سعيد بن المسيب: في الإيلاء: إذا مضت أربعة أشهر: إنما جعله الله وقتًا لا يحل له أن يجاوزَ حتى يفيء أو يطلِّق، فإن جاوز فقد عصى الله لا تحرُمُ عليه امرأته.
4645 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن فضيل، عن داود بن أبي هند، عن سعيد بن المسيب قال، إذا مضت أربعة أشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلِّق.
4646 - حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتاده، عن ابن المسيب: في الإيلاء: يوقف عند انقضاء الأربعة الأشهر، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق.
4647- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن معمر= أو حدثته عنه= (2) عن عطاء الخراساني قال، سألت ابن المسيب عن الإيلاء، فقال: يُوقف.
4648 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عطاء الخراساني، عن ابن المسيب= وعن ابن طاوس، عن أبيه، قالا يوقف المولي بعد انقضاء الأربعة، فإما أن يفيء، وإما أن يطلق. (3) .
__________
(1) قوله: "فرقه" هكذا في المخطوطة وفي المطبوعة: "فرقة" والأرجح أنها مصحفة عن كلمة معناها: بيته، أو غرفته.
(2) في المطبوعة: "حدثته" وما أثبت من المخطوطة.
(3) عند هذا الموضع، انتهى تقسيم من تقاسيم النسخة التي نقت عنها نسختنا ويلي ذلك الأثر ما نصه:
"وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم كثيرًا * * *
على الأصل
بلغت بالقراءة من أوله سماعًا من القاضي أبي الحسن الخصيب بن عبد الله عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري. وسمع معي أخي عليٌّ حرسه الله وأحمد بن عمر بن مديدة الجهاري، ونصر بن الحسين الطبريّ ومحمد بن عليّ الأموي. وكتب محمد بن عيسى السعدي في شعبان من سنة ثمان وأربعمائة- والقاضي يقابلني بكتابه"(4/494)
4649 - (1) حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال، حدثني مالك بن أنس، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام مثل ذلك= يعني مثل قول عمر بن الخطاب في الإيلاء: لا شيء عليه، حتى يوقف، فيطلق، أو يمسك. (2)
4650 - حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه قال في الإيلاء: يوقف.
4651 - حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح= وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح= عن مجاهد في قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر"، قال إذا مضى أربعة أشهر أخذ فيوقف حتى يراجع أهله، أو يطلِّق.
4652 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب، عن سليمان بن يسار: أن مروان وَقفه بعد ستة أشهر.
4653 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود،
__________
(1) أول التقسيم ما نصه:
"بسم الله الرحمن الرحيم"
(2) الأثر: 4649- هذا إسناد آخر للأثر: 4602 فيما سلف وأما خير عمر فهو الذي مضى برقم: 4611.(4/495)
عن عمر بن عبد العزيز في الإيلاء قال، يوقف عند الأربعة الأشهر حتى يفيء، أو يطلق.
4654 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر"، هو الرجل يحلف لامرأته بالله لا ينكحها، فيتربص أربعة أشهر، فإن هو نكحها كفر عن يمينه، فإن مضت أربعة أشهر قبل أن ينكحها أجبره السلطان إما أن يفيء فيراجع، وإما أن يعزم فيطلق، كما قال الله سبحانه.
4655 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" للذين يؤلون من نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاؤوا "الآية، قال: كان علي وابن عباس يقولان: إذا آلى الرجل من امرأته فمضت الأربعة الأشهر فإنه يوقف فيقال له: أمسكتَ أو طلَّقت، فإن أمسك فهي امرأته، وإن طلق فهي طالق.
4656 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" للذين يؤلون من نسائهم" قال: هو الرجل يحلف أن لا يصيب امرأته كذا وكذا، فجعل الله له أربعة أشهر يتربص بها. وقال: قول الله تعالى ذكره:" تربص أربعة أشهر"، يتربص بها=" فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم" فإذا رفعته إلى الإمام ضرب له أجلَ أربعةِ أشهر، (1) فإن فاء وإلا طَلَّق عليه، فإن لم ترفعه فإنما هو حقٌّ لها تركته.
4657- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب، عن مالك قال، لا يقع على المولي طلاق حتى يوقف، ولا يكون موليًا حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر، فإذا حلف على أربعة أشهر فلا إيلاء عليه، لأنه يوقف عند الأربعة الأشهر، وقد سقطت عنه اليمين، فذهب الإيلاء
__________
(1) في المطبوعة: "أجلا أربعة أشهر" وأثبت ما في المخطوطة.(4/496)
(1)
4658 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، عن ابن زيد قال، قال ابن عمر: حتى يرفع إلى السلطان، وكان أبي يقول ذلك ويقول: لا والله وإن مضت أربعُ سنين حتى يوقَف.
4659 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا فطر قال، قال محمد بن كعب القرظي وأنا معه: لو أن رجلا آلى من امرأته أربعَ سنين لم نُبِنْها منه حتى نجمع بينهما، (2) فإن فاء فاء، وإن عزم الطلاق عزم.
4660 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبد العزيز الماجشون، عن داود بن الحصين قال، سمعت القاسم بن محمد يقول: يوقف إذا مضت الأربعة.
* * *
وقال آخرون: ليس الإيلاء بشيء.
* ذكر من قال ذلك:
4661 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا ابن علية، عن عمرو بن دينار قال، سألت ابن المسيَّب عن الإيلاء فقال: ليس بشيء.
4662 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثني جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال، سألت ابن عمر عن رجل آلى من امرأته، فمضتْ أربعة أشهر فلم يفئ إليها، فتلا هذه الآية:" للذين يؤلون من نسائهم تربُّص أربعة أشهر" الآية.
4663 - حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا مسعر،
__________
(1) الأثر: 4657- لم أجد نصه في الموطأ ومعناه فيه (الموطأ: 556- 558) .
(2) في المطبوعة: "لم نكبها منه" كأنه من"الإكنان" تصحيف ناسخ والصواب من المخطوطة.(4/497)
عن حبيب بن أبي ثابت قال، أرسلت إلى عطاء أسأله عن المولي، فقال: لا علم لي به.
* * *
وقال آخرون من أهل هذه المقالة: بل معنى قوله:"وإن عزموا الطلاق": وإن امتنعوا من الفيئة، بعد استيقاف الإمام إيّاهم على الفيء أو الطلاق.
* ذكر من قال ذلك:
4664 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإن فاء جعلها امرأته، وإن لم يفئ جعلها تطليقة بائنة.
4665 - حدثنا أبو هشام قال، حدثنا وكيع، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، يوقف المولي عند انقضاء الأربعة، فإن لم يفئ فهي تطليقة بائنة.
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه هذه الأقوال بما دلّ عليه ظاهر كتاب الله تعالى ذكره، قولُ عمر بن الخطاب وعثمان وعلي رضي الله عنهم ومن قال بقولهم في الطلاق= أن قوله:" فإن فاءوا فإنّ الله غفور رحيم وإن عزموا الطلاق فإنّ الله سميع عليم" إنما معناه: فإن فاءوا بعد وَقف الإمام إياهم من بعد انقضاء الأشهر الأربعة، فرجعوا إلى أداء حق الله عليهم لنسائهم اللائي آلوا منهن، فإن الله لهم غفور رحيم="وإن عزموا الطلاق" فطلَّقوهن="فإن الله سميع"، لطلاقهم إذا طلَّقوا="عليم" بما أتوا إليهن.
وإنما قلنا ذلك أشبه بتأويل الآية، لأن الله تعالى ذكره ذكر حين قال:" وإن عزموا الطلاق"،"فإن الله سميع عليم" (1) ومعلوم أنّ انقضاء الأشهر الأربعة غير مسموع، وإنما هو معلوم، فلو كان"عزم الطلاق" انقضاء الأشهر الأربعة لم تكن الآية مختومة بذكر الله الخبر عن الله تعالى ذكره أنه"سميع عليم"،
__________
(1) فصلنا بين شطري الآية لأن ذلك مراد الطبري. يعني أن الله تعالى حين قال"وإن عزموا الطلاق"- ختم الآية بقوله: "فإن الله سميع عليم".(4/498)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
كما أنه لم يختم الآية التي ذكر فيها الفيء إلى طاعته = في مراجعة المولي زوجته التي آلى منها، وأداء حقها إليها = بذكر الخبر عن أنه"شديد العقاب"، إذْ لم يكن موضعَ وعيد على معصية، ولكنه ختم ذلك بذكر الخبر عن وصفه نفسه تعالى ذكره بأنه"غفور رحيم"، إذْ كان موضعَ وَعد المنيب على إنابته إلى طاعته، فكذلك ختم الآية التي فيها ذكر القول، والكلام بصفة نفسه بأنه للكلام"سميع" وبالفعل"عليم"، فقال تعالى ذكره: وإن عزم المؤلون على نسائهم على طلاق من آلوا منه من نسائهم="فإن الله سميع" لطلاقهم إيّاهن إن طلقوهن="عليم" بما أتوا إليهنّ، مما يحل لهم، ويحرُم عليهم. (1) .
وقد استقصينا البيان عن الدلالة على صحة هذا القول في كتابنا (كتاب اللطيف من البيان عن أحكام شرائع الدين) ، فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"والمطلقات" اللواتي طُلِّقن بعد ابتناء أزواجهن بهنّ، وإفضائهم إليهن، إذا كن ذوات حيض وطهر-"يتربصن بأنفسهن" عن نكاح الأزواج ="ثلاثةَ قُرُوْءٍ".
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل"القرء" الذي عناه الله بقوله:" يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء"
__________
(1) هذا فقه أبي جعفر لمعاني كتاب ربه، وتجويده لدلائل البلاغة والبيان في كتاب لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فيه البرهان لمن طلب الحق من وجوهه بالورع والصبر والبصر ومعرفة ما توجبه الألفاظ من المعاني.(4/499)
فقال بعضهم: هو الحيض.
* ذكر من قال ذلك:
4666 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" قال: حِيَضٍ. (1)
4667 - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ثلاثة قروء" أي ثلاث حِيَض. يقول: تعتدّ ثلاث حِيَض.
4668 - حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة في قوله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" يقول: حمل عدة المطلقات ثلاث حيض، ثم نُسخ منها المطلقة التي طُلِّقت قبل أن يدخل بها زوجها، واللائي يَئِسْن من المحيض، واللائي لم يحضن، والحامل.
4669 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك قال، القروءُ الحِيَض. (2)
4670 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" قال: ثلاث حيض.
4671 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عمرو بن دينار: الأقراءُ الحيَض عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) الحيضة (بكسر الحاء) الاسم من الحيض والحال التي تلزمها الحائض من التجنب والتحيض والجمع"حيض" (بكر الحاء وفتح الياء) وأما"الحيضة" المرة الواحدة من الحيض، جمعها"حيضات" (بفتح وسكون) .
(2) الأثر: 4669- في المطبوعة والمخطوطة: "علي بن عبد الأعلى" وانظر ما سلف رقم: 4485، وأخشى أن يكون الصواب"محمد بن عبد الأعلى" وقد سلف مرارًا.(4/500)
4672 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن رجل سمع عكرمة قال: الأقراءُ الحِيَض، وليس بالطهر، قال تعالى:" فطلِّقوهن لعدتهن"، ولم يقل:"لقروئهن".
4673 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" قالا ثلاث حيض.
4674 - حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" أما ثلاثة قروء: فثلاث حيض.
4675 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن إبراهيم النخعي: أنه رُفِع إلى عمر، فقال لعبد الله بن مسعود: لتقولنَّ فيها. فقال: أنت أحق أن تقول! قال: لتقولن. قال: أقول: إن زوجها أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. قال، ذاك رأيي وافقتَ ما في نفسي! فقضى بذلك عُمر. (1)
4676- حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، عن قتادة، أن عمر بن الخطاب قال لابن مسعود، فذكر نحوه.
4677 - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، أن عمر بن الخطاب وابن مسعود قالا زُوجُها أحق بها ما لم تغتسل= أو قالا تحلَّ لها الصلاة. (2)
4678 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 4675- قال السيوطي أخرجه عبد الرزاق وعبد بن حميد. ورواه البيهقي في السنن 7: 417 مطولا بغير هذا اللفظ، من طريق"الثوري عن منصور عن إبراهيم عن علقمة: أن امرأة جاءت إلى عمر رضي الله عنه فقالت. . " وانظر المحلى 10: 258، وسيأتي من طرق أخرى.
(2) يعني: ما لم تحل لها الصلاة.(4/501)
سعيد بن أبي عروبة= قال، حدثنا مطر، أن الحسن حدثهم: أن رجلا طلق امرأته، ووكَّل بذلك رجلا من أهله= أو إنسانًا من أهله= فغفل ذلك الذي وكله بذلك حتى دخلت امرأته في الحيضة الثالثة، وقرَّبت ماءها لتغتسل، فانطلق الذي وُكِّل بذلك إلى الزوج، فأقبل الزوج وهي تريد الغُسل، فقال: يا فلانة، قالت: ما تشاء؟ قال: إني قد راجعتك! قالت: والله ما لك ذلك! قال: بلى والله! قال: فارتفعا إلى أبي موسى الأشعري، فأخذ يمينها بالله الذي لا إله إلا هو: إن كنت لقد اغتسلت حين ناداك. قالت: لا والله، ما كنت فعلت، ولقد قربت مائي لأغتسل. فردها على زوجها، وقال: أنتَ أحقُّ بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
4679- حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن مطر، عن الحسن، عن أبي موسى الأشعري بنحوه.
4680 - حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يونس، عن الحسن قال، قال عمر: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
4681 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا أبو هلال، عن قتادة، عن يونس بن جبير: أن عمر بن الخطاب طلق امرأته، فأرادت أن تغتسل من الحيضة الثالثة، فقال عمر بن الخطاب: امرأتي ورب الكعبة! فراجعها= قال ابن بشار: فذكرت هذا الحديث لعبد الرحمن بن مهدي، فقال: سمعتُ هذا الحديث من أبي هلال، عن قتاده، وأبو هلال لا يحتمل هذا. (1)
4682 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) الأثر: 4681-"أبو الوليد": هو هشام بن عبد الملك الباهل البصري أبو الوليد الطيالسي الحافظ الحجة، كان ثقة ثبتا حجة من عقلاء الناس توفي سنة 227، وولد سنة 133"وأبو هلال" هو: محمد بن سليم أبو هلال الراسبي لبصري روى عنه عبد الرحمن بن مهدي. قال أحمد: "يحتمل في حديثه إلا أنه يخالف في قتادة وهو مضطرب الحديث". مات سنة 167.(4/502)
عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة قال: كنا عند عمر بن الخطاب، فجاءت امرأة فقالت: إن زوجي طلقني واحدة أو ثنتين، فجاء وقد وضعت مائي، وأغلقت بابي، ونزعت ثيابي. فقال عمر لعبد الله: ما ترى؟ قال: أراها امرأته ما دون أن تحل لها الصلاة. قال عمر: وأنا أرى ذلك. (1)
4683 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود: أنه قال- في رجل طلق امرأته ثم تركها حتى دخلت في الحيضة الثالثة، فأرادت أن تغتسل، ووضعت ماءها لتغتسل، فراجعها-: فأجازه عمر وعبد الله بن مسعود.
4684- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن الأسود، بمثله= إلا أنه قال: ووضعت الماء للغسل، فراجعها، فسأل عبد الله وعمر، فقال: هو أحق بها ما لم تغتسل.
4685 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، قال: كان عمر وعبد الله يقولان: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة يملك الرجعة، فهو أحق بها ما لم تغتسل من حيضتها الثالثة.
4686 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا المغيرة، عن إبراهيم أن عمر بن الخطاب كان يقول: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين، فهو أحق برجعتها، وبينهما الميراث ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
4687 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن الحسن: أن رجلا طلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم وكلَّ بها بعض أهله، فغفل الإنسان حتى دخلت مغتسلها، وقرَّبت غسلها. فأتاه فآذنه، فجاء فقال: إني قد راجعتك! فقالت: كلا والله! قال: بلى والله! قالت: كلا والله! قال: بلى
__________
(1) الأثر: 4682- هو أحد أسانيد الأثر السالف رقم: 4675، وكذلك الآثار التي تليه.(4/503)
والله! قال: فتخالفا، فارتفعا إلى الأشعريّ، واستحلفها بالله لقد كنتِ اغتسلت وحلَّت لك الصلاة. فأبت أن تحلف، فردَّها عليه. (1)
4688 - حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، حدثنا سعيد، عن أبي معشر، عن النخعي، أنّ عمر استشار ابن مسعود في الذي طلق امرأته تطليقة أو ثنتين، فحاضت الحيضة الثالثة، فقال ابن مسعود: أراه أحق بها ما لم تغتسل، فقال عمر: وافقت الذي في نفسي. فردّها على زوجها.
4689 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا النعمان بن راشد، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن عليا كان يقول: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة. (2)
4690 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: إذا انقطع الدم فلا رجعة.
4691 - حدثنا أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم قال، إذا طلق الرجل امرأته وهي طاهر اعتدت ثلاث حيض سوى الحيضة التي طهُرت منها.
4692- حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن مطر، عن عمرو بن شعيب، أن عمر سأل أبا موسى عنها- وكان بلغه قضاؤه فيها- فقال أبو موسى: قضيتُ أن زوجها أحقُّ بها ما لم تغتسل.
فقال عمر: لو قضيت غير هذا لأوجعت لك رأسك.
4693 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب: أن علي بن أبي طالب قال - في
__________
(1) الأثر: 4687- طريق آخر للأثر السالف رقم: 4678.
(2) الأثر: 46890-"النعمان بن راشد الجزري" روى عن الزهري قال أحمد: مضطرب الحديث روى أحاديث مناكير. وقال ابن معين: ضعيف مضطرب الحديث، وقال مرة: ثقة وقال البخاري وأبو حاتم: في حديثه وهم كثير وهو في الأصل صدوق.(4/504)
الرجل يتزوَّج المرأة فيطلقها تطليقة أو ثنتين- قال، لزوجها الرجعة عليها، حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة.
4694 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن رفيع، عن أبي عبيدة بن عبد الله قال، أرسل عثمان إلى أبي يسأله عنها، فقال أبي: وكيف يفتى منافق؟ فقال عثمان: أعيذُك بالله أن تكون منافقًا، ونعوذ بالله أن نسمِّيك منافقًا، ونعيذك بالله أن يَكون مثلُ هذا كان في الإسلام، ثم تموت ولم تبيِّنه! قال: فإني أرى أنه أحق بها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة وتحلَّ لها الصلاة. قال: فلا أعلم عثمان إلا أخذ بذلك. (1)
4695 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة= قال، وأخبرنا معمر، عن قتادة= قالا راجع رجل امرأته حين وضعت ثيابها تريدُ الاغتسال فقال: قد راجعتك. فقالت: كلا! فاغتسلت. ثم خاصمها إلى الأشعري، فردَّها عليه.
4696 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن رفيع، عن معبد الجهني قال، إذا غسلت المطلقة فرجها من الحيضة الثالثة بانت منه وحلَّت للأزواج. (2)
__________
(1) الأثر: 4694- زيد بن رفيع الجزري، روى عن أبي عبيدة بن عبد الله بن مسعود وروى عنه معمر، وزيد بن أبي أنيسة. كان فقيها فاضلا ورعًا. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أحمد: ثقة ما به بأس. قيل لأحمد: سمع من أبي عبيدة؟ قال: نعم. وضعفه الدارقطني وقال النسائي: ليس بالقوي مترجم في الجرح والتعديل 1/2/563 ولسان الميزان. و"أبو عبيدة بن عبد الله بن مسعود في شأن المصاحف. وفي المخطوطة: "عن أبي عبيدة عن عبد الله" وهو خطأ محض.
وهذا الأث رواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 417 مختصرًا وفيه خطأ في ضبط لفظ"أبي" وضعت على الياء شدة، وهو خطأ.
(2) الأثر: 4696-"معبد الجهني" يقال: "معبد بن عبد الله بن عكيم" ويقال: "معبد بن عبد الله بن عويم" ويقال: "معبد بن خالد" وهو من التابعين روى عنه الحسن وقتادة وزيد بن رفيع ومالك بن دينار وعوف الأعرابي. كان رأسا في القدر، قدم المدينة فأفسد بها ناسًا.
حديثه صالح، ومذهبه رديء. وكان الحسن يقول: إياكم ومعبد فإنه ضال مضل- يعني كلامه في القدر. وقال ابن معين ثقة. وقال أبو حاتم: كان صدوقًا في الحديث. مترجم في التهذيب.(4/505)
4697- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن حماد، عن إبراهيم: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يحلّ لزوجها الرجعةُ عليها حتى تغتسل من الحيضة الثالثة، ويحلّ لها الصوم.
4698- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هو أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة.
4699- حدثنا محمد بن يحيى. قال: حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن علي، مثله. (1)
* * *
وقال آخرون: بل"القرء" الذي أمر الله تعالى ذكره المطلقات أن يعتددن به: الطهر.
* ذكره من قال ذلك:
4700 - حدثنا عبد الحميد بن بيان قال، أخبرنا سفيان، عن الزهري، عن عمرة، عن عائشة. قالت: الأقراء الأطهار.
4701- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عبد الله بن عمر، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه. عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها كانت تقول: الأقراء الأطهار.
__________
(1) الأثر: 4699-"درست" (بضم الدال والراء وسكون السين) . ترجمه البخاري في الكبير 1/2/231 قال: "درست قال ابن عيينة: سمعت سعيد بن أبي عروبة يقول: حدثنا درست عن الزهري- وكان درست قدم علينا من البصرة كيس حافظ". وترجمه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 1/2/438: "درست: روى عن الزهري روى عنه ابن أبي عروبة قدم عليهم البصرة. سمعت أبي يقول ذلك". وهو غير"درست بن حمزة البصري" و"درست بن زياد الرقاشي البصري". وكان في المطبوعة: "درسب" بالباء وهو خطأ وفي المخطوطة غير منقوط- وسيأتي مثل هذا الإسناد برقم: 4725.(4/506)
4702 - حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عمرة وعروة، عن عائشة قالت: إذا دحلت المطلقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلت للأزواج= قال الزهري: قالت عمرة: كانت عائشة تقول: القرء: الطُّهر، وليس بالحيضة.
4703 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، مثل قول زيد وعائشة.
4704 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب عن نافع، عن ابن عمر، مثل قول زيد.
4705 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار أن زيد بن ثابت قال: إذا دخلت المطلَّقة في الحيضة الثالثة فقد بانت من زوجها وحلَّت للأزواج= قال معمر: وكان الزهري يفتي بقول زيد.
4706- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: بلغني أن عائشة قالت: إنما الأقراء: الأطهار.
4707- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب، عن زيد بن ثابت قال، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.
4708 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن ابن المسيب: في رجل طلق امرأته واحدة أو ثنتين قال- قال زيد بن ثابت: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها = وزاد ابن أبي عدي قال: قال علي بن أبي طالب: هو أحق بها ما لم تغتسل.
4709- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن سعيد،(4/507)
عن قتادة، عن ابن المسيب، عن زيد وعلي، بمثله.
4710- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي الزناد، عن سليمان بن يسار عن زيد بن ثابت قال، إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا ميراثَ لها.
4711 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية = وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب= قالا جميعً، حدثنا أيوب، عن نافع، عن سليمان بن يسار: أن الأحوص -رجل من أشراف أهل الشام- طلق امرأته تطليقة أو ثنتين، فمات وهي في الحيضة الثالثة، فرُفعت إلى معاوية، فلم يوجد عنده فيها علم. فسأل عنها فضالة بن عبيد ومَنْ هناك من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يوجد عندهم فيها علم، فبعث معاوية راكبًا إلى زيد بن ثابت، فقال: لا ترثه، ولو ماتت لم يرثها. فكان ابن عمر يرى ذلك. (1)
4712 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سليمان بن يسار أن رجلا يقال له الأحوص من أهل الشام طلق امرأته تطليقة، فمات وقد دخلت في الحيضة الثالثة، فرفع إلى معاوية، فلم يدر ما يقول، فكتب فيها إلى زيد بن ثابت، فكتب إليه زيد:"إذا دخلت المطلقة في الحيضة الثالثة فلا ميراث بينهما".
4713 - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد،
__________
(1) الأثر: 4711- 4713- رواه الشافعي في الأم 5: 192 من طريق مالك عن نافع وزيد بن أسلم عن سليمان بن يسار" وأخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7: 415 من طريق آخر مختصرًا. و"الأحوص" هو: الأحوص بن حكيم بن عمير (وهو عمرو) بن الأسود العنسي الهمداني. رأى أنسًا عبد الله بن بسر"وروى أبيه وطاووس وغيرهما وقال البخاري: "سمع أنسا" وروى عنه سفيان وروى عنه سفيان بن عيينة وهو صدوق حديثه ليس بالقوي". وكان الأحوص رجلا عابدًا مجتهدًا، وولى عمل حمص. قال عبد الرحمن بن الحكم: "كان صاحب شرطة ومن بعض المسودة" وقال ابن حميد: "قدم الأحوص الري مع المهدي وكان قدومه سنة 168". مترجم في التهذيب وتاريخ ابن عساكر 2: 332- 333.(4/508)
عن أيوب، عن نافع، عن سليمان بن يسار، أن رجلا يقال له الأحوص، فذكر نحوه عن معاوية وزيد.
4714- حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن أيوب، عن نافع قال، قال ابن عمر: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها.
4715- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر أنه قال في المطلقة: إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت.
4716 - حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عمر بن محمد، أن نافعًا أخبره، عن عبد الله بن عمر وزيد بن ثابت أنهما كانا يقولان: إذا دخلت المرأة في الدم من الحيضة الثالثة، فإنها لا ترثه ولا يرثها، وقد برئت منه وبرئ منها. (1)
4717- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا يحيى بن سعيد قال، بلغني، عن زيد بن ثابت قال: إذا طلقت المرأة، فدخلت في الحيضة الثالثة أنه ليس بينهما ميراث ولا رجعة.
4718 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد، يقول: سمعت سالم بن عبد الله يقول مثل قول زيد بن ثابت.
4719 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، وسمعت يحيى يقول: بلغني عن أبان بن عثمان أنه كان يقول ذلك.
__________
(1) الأثر: 4716- عمر بن محمد بن زيد بن عبد الله بن عمر بن الخطاب روى عن أبيه وجده وعم أبيه سالم، وعن نافع مولى ابن عمر وغيرهم. وكان في المخطوطة مضطرب الاسم ولكنه يقرأ كما هو في المطبوعة وهو الصواب. وفي المخطوطة أيضًا"وقد ترث منه ويرث منها" والصواب في المطبوعة والسنن الكبرى للبيهقي.(4/509)
4720- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن زيد بن ثابت، مثل ذلك. (1)
4721- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، حدثنا شعبة، عن عبد ربه بن سعيد، عن نافع: أن معاوية بعث إلى زيد بن ثابت، فكتب إليه زيد:"إذا دخلت في الحيضة الثالثة فقد بانت"، وكان ابن عمر يقوله.
4722 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سليمان وزيد بن ثابت أنهما قالا إذا حاضت الحيضة الثالثة فلا رجعة، ولا ميراث.
4723- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا هشام بن حسان، عن قيس بن سعد، عن بكير بن عبد الله بن الأشج، عن زيد بن ثابت قال، إذا طلق الرجل امرأته، فرأت الدم في الحيضة الثالثة، فقد انقضت عدتها.
4724- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة عن موسى بن شداد، عن عمر بن ثابت الأنصاري قال، كان زيد بن ثابت يقول: إذا حاضت المطلقة الثالثة قبل أن يراجعها زوجها فلا يملك رَجعتها. (2)
4725 - حدثنا محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى، عن سعيد، عن دُرُسْت، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، أن عائشة وزيد بن ثابت قالا
__________
(1) الأثر: 4720- في المطبوعة: "حدثنا محمد بن بشار قال حدثنا عبد الوهاب وأثبت ما في المخطوطة، وهو سبق قلم من ناسخ آخر.
(2) الأثر: 4724-"موسى بن شداد" ترجمه البخاري في الكبير 41/286 وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 4/1/146 وقال: "روى عن عمرو بن ثابت. روى عنه مغيرة بن مقسم الضبي+ سمعت أبي يقول ذلك". ولم يزد البخاري شيئًا. وأما"عمر بن ثابت الأنصاري" فهو مترجم في التهذيب روى عن أبي أيوب الأنصاري وبعض الصحابة. والظاهر أن ما في الطبري هو الصواب وأن ما جاء في التاريخ الكبير والجرح والتعديل"عمرو بن ثابت" فهو خطأ فلم أجد"عمرو بن ثابت" أنصاريًا ومن هذه الطبقة.(4/510)
إذا دخلت في الحيضة الثالثة فلا رجعة له عليها. (1)
* * *
قال أبو جعفر:"والقروء" في كلام العرب: جمع"قُرْء"، (2) وقد تجمعه العرب"أقراء" يقال في"فعل" منه:"أقرأت المراة"- إذا صارت ذات حيض وطُهر-" فهي تقرئ إقراء". وأصل"القُرء" في كلام العرب: الوقتُ لمجيء الشيء المعتاد مجيئه لوقت معلوم، ولإدبار الشيء المعتاد إدبارُه لوقت معلوم. ولذلك قالت العرب:"قرأت حاجةُ فلان عندي"، بمعنى: دنا قضاؤها، وحَان وقت قضائها (3) "واقرأ النجم" إذا جاء وقت أفوله،"وأقرأ" إذا جاء وقت طلوعه، كما قال الشاعر:
إذَا مَا الثُّرَيَّا وَقَدْ أقْرَأَتْ ... أَحَسَّ السِّمَا كَانِ مِنْها أُفُولا (4)
وقيل:"أقرأت الريح"، إذا هبت لوقتها، كما قال الهذلي: (5)
شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ ... إِذَا هَبَّتْ لِقَارِئِهَا الرِّيَاحُ (6)
بمعنى: هبت لوقتها وحين هُبوبها. ولذلك سمى بعض العرب وقت مجيء الحيض"قُرءًا"، إذا كان دمًا يعتاد ظهوره من فرج المرأة في وقت، وكمونُه في آخر، فسمي وقت مجيئه"قُرءًا"، كما سمَّى الذين سمَّوا وقت مجيء الريح لوقتها"قُرءًا".
__________
(1) الأثر: 4725- سلف هذا الإسناد برقم 4699- وترجمه"درست" وكان في المطبوعة هنا أيضًا "درسب" بالباء وهو خطأ كما أسلفنا والإسناد في المخطوطة هكذا: ". . . حدثنا عبد الأعلى عن سعيد بن المسيب أن عائشة. . . " أسقط من الإسناد ما هو ثابت في المطبوعة وهو الصواب.
(2) في المطبوعة: "والقرء في كلام العرب جمعه قروء" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "وجاء وقت قضائها" والذي أثبته ما في المخطوطة.
(4) لم أجد هذا البيت وهو متعلق ببيت بعده فيما أرجح فتركت شرحه حتى أعثر على تمام معناه.
(5) هو مالك بن الحارث أحد بني كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل.
(6) ديوان الهذليين 3: 83 وشيء الشيء يشنأه شناءة: كرهه. والعقر: اسم مكان و"خليل" الذي نسب إليه هو جد جرير بن عبد الله البجلي.(4/511)
4726 - ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت أبي حُبّيْش: دعي الصلاة أيام أقرائك. (1)
بمعنى: دعي الصلاة أيام إقبال حيضك.
وسمى آخرون من العرب وقت مجيء الطهر"قُرءًا"، إذْ كان وقت مجيئه وقتًا لإدبار الدم دم الحيض، وإقبال الطهر المعتاد مجيئُه لوقت معلوم. فقال في ذلك الأعشى ميمون بن قيس:
وَفيِ كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمُ غَزْوَةٍ ... تَشُدُّ لأقْصَاهَا عَزِيمَ عَزَائِكَا (2) مُوَرِّثَةٍ مَالا وَفِي الذِّكْرِ رِفْعةً ... لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءٍ نِسَائِكَا (3)
فجعل"القُرء": وقت الطهر.
* * *
قال أبو جعفر: ولما وصفنا من معنى:"القُرء" أشكل تأويل قول الله:" والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء" على أهل التأويل.
__________
(1) الأثر: 4726- ساقه بغير إسناد وحديث فاطمة بنت أبي حبيش: ثابت من طرق قال ابن كثير في تفسير 1: 534 وذكر هذا الحديث"رواه أبو دواد والنسائي من طريق المنذرين المغير، عن عروة بن الزبير عن فاطمة بنت أبي حبيش: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها: "دعى الصلاة أيام أقرائك". ثم قال: "ولكن المنذر هذا مجهول ليس بمشهور وذكره ابن حبان في الثقات" وكذلك قال ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل 4/1/242. وانظر سنن أبي داود 1: 114- 117 تفصيل ذلك.
وانظر البخاري (فتح الباري 1: 348- وما بعده من أبواب الحيض) ومسلم 4: 16- 21 وفاطمة بنت أبي حبيش بن المطلب بن أسد بن عبد العزى بن قصي القرشية.
(2) ديوانه: 67، ومجاز القرآن لأبي عبيدة 1: 74 وغيرهما كثير. يمدح هوذة بن على الحنفي، وقد ذكر فيها من فضائل هوذة ومآثره ما ذكر. جشم الأمر يجشمه جثما وجشامة: تكلفه على جهد ومشقة وركب أجسمه والعزيم والعزيمة والعزم: الجد وعقد القلب على أمر أنك فاعله. والعزاء: حسن الصبر عن فقد ما يفقد الإنسان. يقول لهوذة: كم من لذة طيبة صبرت النفس عنها في سبيل تشييد ملكك بالغزو المتصل عامًا بعد عام.
(3) قوله: "مورثة" صفة لقوله: "غزوة" يقول: تعزيت عن كل متاع فهجرت نساءك في وقت طهرهن فلم تقربهن، وآثرت عليهن الغزو، فكانت غزواتك غني في المال، ورفعة في الذكر، وبعدًا في الصيت.(4/512)
فرأى بعضهم أن الذي أمِرت به المرأة المطلقة ذات الأقراء من الأقراء، أقراء الحيض، وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه- فأوجب عليها تربُّص ثلاث حيَض بنفسها عن خطبة الأزواج.
* * *
ورأى آخرون: أنّ الذي أمرت به من ذلك، إنما هو أقراءُ الطهر- وذلك وقت مجيئه لعادته التي تجيء فيه- فأوجب عليها تربُّص ثلاث أطهار.
* * *
فإذْ كان معنى"القُرء" ما وصفنا لما بيَّنا، وكان الله تعالى ذكره قد أمرَ المريدَ طلاقَ امرأته أن لا يطلقها إلا طاهرًا غير مُجامعة، وحرَّم عليه طلاقها حائضًا= كان اللازمُ المطلقةَ المدخولَ بها إذا كانت ذات أقراء (1) تربُّص أوقات محدودة المبلغ بنفسها عقيب طلاق زوجها إياها، أن تنظرَ إلى ثلاثة قروء بين طهريْ كل قرءٍ منهنّ قرءٌ، هو خلاف ما احتسبته لنفسها قروءًا تتربصهن. (2) فإذا انقضين، فقد حلت للأزواج، وانقضت عدّتها، وذلك أنها إذا فعلت ذلك، فقد دخلت في عداد من تربَّصُ من المطلقات بنفسها ثلاثةَ قروء، بين طُهريْ كل قرءٍ منهن قرءٌ له مخالفٌ. وإذا فعلت ذلك، كانت مؤدية ما ألزمها ربها تعالى ذكره بظاهر تنزيله.
فقد تبيَّن إذًا -إذ كان الأمر على ما وصفنا- أنّ القرءَ الثالثَ من أقرائها على ما بينا، الطهرُ الثالث= وأنّ بانقضائه ومجيء قرء الحيض الذي يتلوه، انقضاءُ عدّتها.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "وكان اللازم. . . " و"الواو" هنا مفسدة للمعنى لأن الطبري يريد أن يقول إن"القرء" من الألفاظ ذوات المعنى المشترك. فهو يدل على وقت مجيء الطهر وعلى وقت مجيء الحيض. ولما كان الله تعالى قد أمر الرجل أن يطلق امرأته في طهر لم يجامعها فيه، وحرم عليه طلاقها حائضًا كان اللازم المطلقة أن تنظر إلى ثلاثة قروء. . . "
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "وهو خلاف. . . " والصواب إسقاط"واو" العطف يعني: أن هذا القرء الذي بين الطهرين خلاف ما احتسبته لنفسها قروءًا تتربصهن. وذلك لأن لفظ"قرء" مشترك المعنى بين الحيض والطهر. وفي المخطوطة والمطبوعة: "فتربصهن" وهو تصحيف والصواب ما أثبت. وسيأتي هذا المعنى واضحا فما يلي من عبارته.(4/513)
فإن ظن ذو غباء (1) أنَّا إذْ كنا قد نسمِّي وقت مجيء الطهر"قُرءًا"، ووقت مجيء الحيض"قرءًا"، أنه يلزمنا أن نجعل عدة المرأة منقضية بانقضاء الطهر الثاني، إذ كان الطهرُ الذي طلقها فيه، والحيضة التي بعده، والطهر الذي يتلوها،"أقراءً" كلها (2) فقد ظن جهلا.
وذلك أن الحكم عندنا- في كل ما أنزله الله في كتابه- على ما احتمله ظاهرُ التنزيل، ما لم يبيّن الله تعالى ذكره لعباده، أنّ مراده منه الخصوص، إما بتنزيل في كتابه، أو على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. فإذا خصّ منه البعض، كان الذي خصَّ من ذلك غيرَ داخل في الجملة التي أوجب الحكم بها، وكان سائرها على عمومها، كما قد بيَّنا في كتابنا: (كتاب لطيف القول من البيان عن أصول الأحكام) وغيره من كتبنا.
فـ "الأقراء" التي هي أقراءُ الحيض بين طُهريْ أقراء الطهر، غير محتسبة من أقراء المتربِّصة بنفسها بعد الطلاق، لإجماع الجميع من أهل الإسلام: أن"الأقراء" التي أوجبَ الله عليها تربَّصُهن، ثلاثة قروء، بين كل قرء منهن أوقات مخالفاتُ المعنى لأقرائها التي تربَّصُهن، وإذْ كن مستحقات عندنا اسم"أقراء"، فإن ذلك من إجماع الجميع لم يُجِزْ لها التربّص إلا على ما وصفنا قبل.
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دليل واضح على خطأ قول من قال:"إن امرأة المُولي التي آلى منها، تحل للأزواج بانقضاء الأشهر الأربعة، إذا كانت قد حاضت ثلاث حيضٍ في الأشهر الأربعة". لأن الله تعالى ذكره إنما أوجبَ عليها العدّة بعد عزم المُولي على طلاقها، وإيقاع الطلاق بها بقوله:" وإن عزموا الطلاق فإن الله سميع عليم والمطلقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء"، فأوجب تعالى
__________
(1) في المطبوعة: "ذو غباوة" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) يعني: أن طهر التطليق قرء، والحيضة قرء، والطهر الثاني قرء، فهي ثلاثة قروء تتربصها المطلقة.(4/514)
ذكره على المرأة إذا صارت مطلقة- تربُّص ثَلاثة قروء فمعلوم أنها لم تكن مطلقة يوم آلى منها زوجها، لإجماع الجميع على أنّ الإيلاء ليس بطلاق موجب على المولى منها العِدّة.
وإذ كان ذلك كذلك، فالعدة إنما تلزمها بعد الطلاق، والطلاق إنما يلحقها بما قد بيناه قبل.
* * *
قال أبو جعفر: وأما معنى قوله:" والمطلقات" فإنه: والمخلَّياتُ السبيل، غير ممنوعات بأزواج ولا مخطوبات، وقول القائل:"فلانة مطلقه" إنما هو"مفعَّلة" من قول القائل:"طلَّق الرجل زوجته فهي مطلَّقة". وأما قولهم:"هي طالق"، فمن قولهم:"طلَّقها زوجها فطّلُقت هي، وهي تطلُق طلاقًا، وهي طالق". وقد حكي عن بعض أحياء العرب أنها تقول:"طَلَقت المرأة". (1) وإنما قيل ذلك لها، إذا خلاها زوجها، كما يقال للنعجة المهملة بغير راع ولا كالئ، إذا خرجت وحدها من أهلها للرعي مُخلاةً سبيلها:"هي طالق"، فمثلت المرأة المخلاة سبيلها بها، وسُميت بما سُميت به النعجة التي وصفنا أمرها. وأما قولهم:"طُلِقت المرأة"، فمعنى غير هذا، إنما يقال في هذا إذا نُفِست. (2) هذا من"الطَّلْق"، والأول من"الطلاق".
* * *
وقد بينا أن"التربُّص" إنما هو التوقف عن النكاح، وحبسُ النفس عنه في غير هذا الموضع. (3)
* * *
__________
(1) "طلق" هنا بفتح الطاء واللام أما التي سبقت قبلها بفتح الطاء وضم اللام مثل"كرم".
(2) نفست المرأة (بضم فكسر) ونفست (بفتح فكسر) : ولدت فهي نفساء. والطلق: طلق المخاض عند الولادة وهو الوجع والفعل منه بالبناء للمجهول بضم الطاء وكسر اللام.
(3) انظر ما سلف في معنى"التربص" من هذا الجزء 4: 456.(4/515)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: تأويله:"ولا يحلّ"، لهن يعني للمطلقات="أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، من الحيض إذا طُلِّقن، حرّم عليهن أن يكتمن أزواجهن الذين طلَّقوهن، في الطلاق الذي عليهم لهنّ فيه رجعة يبتغين بذلك إبطال حقوقهم من الرجعة عليهن. (1)
* ذكر من قال ذلك:
4727 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال، قال الله تعالى ذكره:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء" إلى قوله:" وللرجال عليهنّ درجة والله عزيز حكيم" قال: بلغنا أنّ"ما خلق في أرحامهن" الحمل، وبلغنا أن الحيضة، فلا يحل لهنّ أن يكتمن ذلك، لتنقضي العدة ولا يملك الرجعة إذا كانت له
4728 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: الحيض
4729 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: أكبرُ ذلك الحيض. (2)
__________
(1) في المخطوطة: "حقوقهن" والصواب ما في المطبوعة.
(2) الأثر: 4729- في الدر المنثور 1: 276 بنصه هنا ثم قال: "وفي لفظ: أكثر ما عنى به الحيض" وسيأتي كذلك برقم: 4733، ولكن المخطوطة تخالفهن جميعًا ففيها، "إذا كثر ذلك الحيض" وكلها قريب في معناه بعضه من بعض.(4/516)
4730 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرّفًا، عن الحكم قال، قال إبراهيم في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ" قال: الحيض
4731 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا خالد الحذاء، عن عكرمة في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: الحيض= ثم قال خالد: الدم.
* * *
وقال آخرون: هو الحيض، غير أن الذي حرّم الله تعالى ذكره عليها كتمانَه فيما خلق في رحمها من ذلك، هو أن تقول لزوجها المطلِّق وقد أراد رجعتها قبل الحيضة الثالثة:" قد حضتُ الحيضةَ الثالثة" كاذبةً لتبطل حقه بقيلها الباطلَ في ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
4732 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبيدة بن معتِّب، عن إبراهيم في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: الحيض، المرأةُ تعتد قُرْأين، ثم يريد زوجها أن يراجعها، فتقول: قد حضتُ الثالثة" (1)
4733 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: أكثر ما عني به الحيض. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 4732- في المخطوطة"عبده بن مغيب" غير منقوطة وفي المطبوعة: "بن مغيث" خطأ. وعبيدة بن معتب الضبي روى عن إبراهيم النخعي واالشعبي وعاصم بن بهدلة وغيرهم. روى عنه شعبة والثوري ووكيع وهشيم وعلي بن مسهر وغيرهم. وكان سيء الحفظ ضريرًا متروك الحديث. وقال ابن حبان: "اختلط بأخرة فبطل الاحتجاج به".
(2) الأثر: 4733- انظر التعليق على الأثر السالف رقم: 4729.(4/517)
وقال آخرون: بل المعنى الذي نُهِيتْ عن كتمانه زوجَها المطلِّقَ: الحبلُ والحيضُ جميعًا.
* ذكر من قال ذلك:
4734 - حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا الأشعث، عن نافع، عن ابن عمر:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، من الحيض والحمل، لا يحل لها إن كانت حائضًا أن تكتُم حيضها، ولا يحل لها إن كانت حاملا أن تكتُم حملها.
4735 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت مطرِّفًا، عن الحكم، عن مجاهد في قوله:" ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، قال: الحمل والحيض= قال أبو كريب: قال ابن إدريس: هذا أوَّل حديث سمعته من مطرِّف.
4736 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن مطرف، عن الحكم، عن مجاهد، مثله= إلا أنه قال: الحبل.
4737 - حدثنا إسماعيل بن موسى الفزاري قال، حدثنا أبو إسحاق الفزاري، عن ليث، عن مجاهد في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: من الحيض والولد
4738 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد الزنجي، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" ولا يحلّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، قال: من الحيض والولد
4739 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: لا يحلّ للمطلَّقة أن تقول:"إني حائض"،(4/518)
وليست بحائض= ولا تقول:"إني حبلى" وليست بحبلى= ولا تقول:"لستُ بحبلى"، وهي حُبلى.
4740 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
4741 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحجاج، عن مجاهد قال، الحيض والحبل= قال، تفسيره أن لا تقول:"إني حائض"، وليست بحائض="ولا لست بحائض"، وهي حائض=: ولا" أني حبلى"، وليست بحبلى= ولا"لست بحبلى"، وهي حبلى.
4742 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحجاج، عن القاسم بن نافع، عن مجاهد نحو هذا التفسير في هذه الآية. (1)
4743 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد، مثله= وزاد فيه: قال: وذلك كله في بُغض المرأة زوجها وحبِّه
4744 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" يقول: لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الحيض والحبل، لا يحلّ لها أن تقول:"إني قد حضت" ولم تحض= ولا يحلّ أن تقول:"إني لم أحض"، وقد حاضت= ولا يحل لها أن تقول:"إني حبلى" وليست بحبلى= ولا أن تقول:"لست بحبلى"، وهي حبلى
4745 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" الآية قال، لا يكتمن الحيض
__________
(1) الأثر: 4742-"القاسم بن نافع بن أبي بزة" وهو القاسم بن أبي بزة" روى عن أبي الطفيل وأبي معبد ومجاهد وسعيد بن جبير روى عنه عمرو بن دينار وعبد الملك بن أبي سلمان وابن جريج، وابن أبي ليلى وحجاج بن أرطأة. مترجم في الجرح والتعديل 3/2/122.(4/519)
ولا الولد، ولا يحل لها أن تكتمه وهو لا يعلم متى تحلّ، لئلا يرتجعها- تُضارُّة (1)
4746 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" ولا يحل لهن أن يتكتمن ما خلق الله في أرحامهن" يعني الولد قال: الحيضُ والولدُ هو الذي ائتُمِن عليه النساء.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك الحبل.
ثم اختلف قائلو ذلك في السبب الذي من أجله نُهِيتْ عن كتمان ذلك الرجلَ، (2) فقال بعضهم: نهيت عن ذلك لئلا تبطل حقَّ الزوج من الرجعة، إذا أراد رجعتها قبل وضعها وحملها.
* ذكر من قال ذلك:
4747 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن قباث بن رزين، عن علي بن رباح أنه حدثه: أن عمر بن الخطاب قال لرجل: اتل هذه الآية فتلا. فقال: إن فلانة ممن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ = وكانت طُلِّقت وهي حبلى، فكتمت حتى وضعت (3)
__________
(1) في المطبوعة: "مضارة" والصواب من المخطوطة أي: تفعل ذلك تضاره بذلك.
(2) قوله: "الرجل" منصوب بالمصدر وهو قوله: "كتمان ذلك" مفعول به.
(3) الأثر: 4747- قباث بن رزين بن حميد بن صالح اللخمي أبو هاشم المصري روى عن عم أبيه سلمة وعلي بن رباح وعكرمة وروى عنه ابن المبارك وابن لهيعة وابن وهب. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال أبو حاتم: لا بأس بحديثه. وقد ذكرت له قصة في التهذيب: أن ملك الروم أمره أن يناظر البطريق. فقال للبطرك. كيف أنت؟ وكيف ولدك؟ فقال البطارقة: ما أجهلك! تزعم أن للبطرك ولدًا وقد نزهه الله عن ذلك! قال: فقلت لهم: تنزهون البطرك عن الولد، ولا تنزهون الله تعالى -وهو خالق الخلق أجمعين- عن الولد! قال: فنخر البطرك نخرة عظيمة وقال: أخرج هذا هذه الساعة عن بلدك لئلا يفسد عليك دينك، فأطلقه. قال ابن حجر"وقد وقع شبيه هذه القصة للقاضي أبي بكر الباقلاني: لما توجه بالرسالة إلى ملك الروم وظهر من هذا أنه مسبوق بهذا الإلزام. والله أعلم". وتوفي قباث سنة 156.
و"علي بن رباح بن قصير اللخمي روى عن عمرو بن العاص وسراقة بن مالك ومعاوية بن أبي سفيان وأبي قتادة الأنصاري وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة. وفد على معاوية وذكره ابن سعد في الطبقة الثانية من أهل مصر. وقال: كان ثقة. وغزا إفريقية وذهبت عينه يوم ذي الصواري في البحر مع ابن أبي سرح سنة 34 ولد سنة عشرة من الهجرة ومات سنة 114.(4/520)
4748 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقة أو تطليقتين وهي حامل، فهو أحق برجعتها ما لم تضع حملها، وهو قوله:" ولا يحل لهنّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إنْ كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر"
4749 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن بشر أنه سمع عكرمة يقول: الطلاق مرّتان بينهما رجعة، فإن بدا له أن يطلِّقها بعد هاتين فهي ثالثة، وإن طلقها ثلاثًا فقد حرمت عليه حتى تنكح زوجًا غيره. إنما اللاتي ذكرن في القرآن:" ولا يحلُّ لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهنّ إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحقُّ بردهنَّ"، هي التي طلقت واحدة أو ثنتين، ثم كتمتْ حملها لكي تنجو من زوجها، فأما إذا بتَّ الثلاثَ التطليقات، فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجًا غيره. (1)
* * *
وقال آخرون: السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك أنهن في الجاهلية كنّ يكتمنَه أزواجهن، خوف مراجعتهم إياهُنّ، حتى يتزوجن غيرهم، فيُلحق نسب الحمل- الذي هو من الزوج المطلِّق- بمن تزوجته. فحرم الله ذلك عليهن. (2)
* ذكر من قال ذلك:
4750 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا سويد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: كانت المرأة إذا طُلِّقت كتمت ما في بطنها وحملها لتذهب بالولد إلى غير أبيه، فكره الله ذلك لهنّ.
__________
(1) الأثر: 4749- يحيى بن بشر الخراساني سلفت ترجمته في الأثر: 4549.
(2) في المطبوعة: "فيلحق بسببه الحمل. . . " وهو خطأ فاسد صوابه من المخطوطة.(4/521)
4751 - حدثني محمد بن يحيى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن" قال: علم الله أنّ منهن كواتم يكتمن الولد. وكان أهل الجاهلية كان الرجل يطلّق امرأته وهي حامل، (1) فتكتم الولد وتذهبُ به إلى غيره، وتكتُم مخافة الرجعة، فنهى الله عن ذلك، وقدَّم فيه. (2)
4752 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:" ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر منها
* * *
وقال آخرون: بل السبب الذي من أجله نُهين عن كتمان ذلك، هو أنّ الرجل كان إذا أراد طلاق امرأته سألها هل بها حملٌ؟ كيلا يطلقها، وهي حامل منه (3) للضرر الذي يلحقُه وولدَه في فراقها إن فارقها، فأمِرن بالصدق في ذلك ونُهين عن الكذب.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) قوله: "وكان أهل الجاهلية كان الرجل. . " عربي فصيح جيد، ليس بخطأ وحذف خبر كان الأولى لاستغنائه بما بعده عنه. وانظر مثله فيما سيأتي في الأثر: 4781 عن قتادة أيضًا بهذا الإسناد.
(2) الأثر: 4751- سلف هذا الإسناد مرارا وأقر به رقم: 4676، 4677، 4679ن 4692، 4713، 4714ن 4725 وغيرها. ولا بد من بيان رجاله"محمد بن يحيى بن أبي حزم القطعي" أبو عبد الله البصري. روى عن عمه حزم بن مهران وعبد الأعلى بن عبد الأعلى وعبد الصمد بن عبد الوارث وغيرهم. روى عنه مسلم وأبو داود والترمذي والبخاري في غير الجامع. قال أبو حاتم: صالح الحديث صدوق. مات سنة 253. و"عبد الأعلى بن عبد الأعلى بن محمد القرشي السامي البصري" يلقب أبا همام، فكان يغضب منه روى عن داود بن أبي هند وسعيد الجريري وسعيد بن أبي عروبة وحميد الطويل وخالد الحذاء وغيرهم. وروى عنه إسحاق بن راهويه وعلي بن المديني ومحمد بن بشار بندار ونصر بن الجهضمي وغيرهم. قال ابن معين: ثقة. وكان متقنًا للحديث قدريًا غير داعية إليه. مات سنة 198.
* وقوله: "وقدم فيه" أي أمر فيه بما أمر.
(3) في المطبوعة: "لكيلا" وأثبت ما في المخطوطة.(4/522)
4753 - حدثني موسى قال، حدثنا أسباط، عن السدي: (1) " ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن"، فالرجل يريد أن يطلق امرأته فيسألها: هل بك حمل؟ فتكتمه إرادةَ أن تفارقه، فيطلقها وقد كتمته حتى تضع. وإذا علم بذلك فإنها تردّ إليه، عقوبةً لما كتمته، وزوجها أحق برجعتها صاغرةً.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: الذي نُهيت المرأة المطلَّقة عن كتمانه زوجها المطلِّقَها تطليقة أو تطليقتين مما خلق الله في رحمها- الحيضُ والحبَل. لأنه لا خلاف بين الجميع أنّ العِدّة تنقضي بوضع الولد الذي خلق الله في رحمها، كما تنقضي بالدم إذا رأته بعد الطهر الثالث، في قول من قال:"القُرء" الطهر، وفي قول من قال: هو الحيض، إذا انقطع من الحيضة الثالثة، فتطهرت بالاغتسال. (2)
فإذا كان ذلك كذلك= وكان الله تعالى ذكره إنما حرَّم عليهن كتمانَ المطلِّق الذي وصفنا أمره، ما يكونُ بكتمانهن إياه بُطُول حقه الذي جعله الله له بعد الطلاق عليهن إلى انقضاء عِدَدهن، (3) وكان ذلك الحق يبطل بوضعهن ما في بطونهن إن كن حواملَ، وبانقضاء الأمراء الثلاثة إن كن غير حوامل= (4) علم أنهن
__________
(1) الأثر: 4753- كان في المطبوعة والمخطوطة: "حدثني موسى قال حدثنا أسباط" بإسقاط"قال حدثنا عمرو" وهو خطأ صرف. هو إسناد دائر دورانًا في التفسير أقربه رقم: 4674.
(2) في المطبوعة: "تطهرت للاغتسال" وهو معرق في الخطأ والصواب من المخطوطة.
(3) قوله: "ما يكون بكتمانهن. . " هذه الجملة مفعول به منصوب بالمصدر"كتمان" وقوله: "بطول" مصدر"بطل الشيء يبطل بطولا وبطلانًا" وقد سلف ذلك فيما مضى 2: 426 ثم 3: 205 تعليق: 6 وهذا الجزء 4: 146.
(4) قوله: "علم" جواب قوله آنفًا: "وإذ كان ذلك كذلك. . " وما بينهما معطوف بعضه على بعض.(4/523)
منَهيَّات عن كتمان أزواجهن المطلِّقِيهنَّ من كل واحد منهما، (1) - أعني من الحيض والحبل - مثل الذي هنَّ مَنْهيَّاتٌ عنه من الآخر، وأن لا معنى لخصوص مَنْ خصّ بأن المراد بالآية من ذلك أحدهما دون الآخر، إذ كانا جميعًا مما خلق الله في أرحامهن، وأنّ في كل واحدة منهما من معنى بُطول حق الزوج بانتهائه إلى غاية، مثل ما في الآخر.
ويُسأل من خصّ ذلك- فجعله لأحد المعنيين دون الآخر- عن البرهان على صحة دعواه من أصْل أو حجة يجب التسليم لها، ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
وأما الذي قاله السدي (2) من أنه معنيٌّ به نهي النساء كتمانَ أزواجهن الحبلَ عند إرادتهم طلاقهن، فقولٌ لما يدل عليه ظاهر التنزيل مخالف، وذلك أن الله تعالى ذكره قال:" والمطلَّقات يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلقَ الله في أرحامهن"، بمعنى: ولا يحل أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن من الثلاثة القروء، إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر.
وذلك أنّ الله تعالى ذكره ذكر تحريم ذلك عليهن، بعد وصفه إياهن بما وَصفهن به، من فراق أزواجهن بالطلاق، وإعلامهن ما يلزمهن من التربُّص، معرِّفًا لهن بذلك ما يحرُم عليهن وما يحلّ، وما يلزمُهن من العِدَّة ويجبُ عليهن فيها. فكان مما عرّفهن: أنّ من الواجب عليهن أن لا يكتمن أزواجَهن الحيض والحبَل= الذي يكون بوضع هذا وانقضاء هذا إلى نهاية محدودة انقطاعُ حقوق أزواجهن= ضرارًا منهنّ لهم، فكان نهيُه عما نهاهن عنه من ذلك، بأن يكون من صفة ما يليه
__________
(1) في المطبوعة: "أزواجهن المطلقين" تحريف لكلام أبي جعفر. والهاء والنون مفعول اسم فاعل: "المطلق" وهذا جار في كلام أبي جعفر مرارًا كثيرة، وجار أيضًا من الطابعين تحريف ذلك إلى ما ألفوا من سقم العبارة. وقد مضى منذ أسطر قليلة قوله: "زوجها المطلقها".
(2) هو الأثر السالف رقم: 4753.(4/524)
قبله ويتلوه بعده، أولى من أن يكون من صفة ما لم يَجْرِ له ذِكر قبله.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: ما معنى قوله:" إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر"؟ أوَ يحل لهن كتمان ذلك أزواجهنً إنْ كن لا يؤمنَّ بالله ولا باليوم الآخر حتى خصّ النهيُ عن ذلك المؤمنات بالله واليوم الآخر؟
قيل: معنى ذلك على غير ما ذهبت إليه، وإنما معناه: أن كتمان المراة المطلَّقة زوجَها المطلَّقَها ما خلق الله تعالى في رحمها من حيض وولد في أيام عدتها من طلاقه ضرارًا له، (1) ليس من فعل من يؤمن بالله واليوم الآخر ولا من أخلاقه، وإنما ذلك من فعل من لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر وأخلاقِهنَّ من النساء الكوافر= فلا تتخلَّقن أيتها المؤمنات بأخلاقهنّ، فإنّ ذلك لا يحل لكنّ إن كنتن تؤمنّ بالله واليوم الآخر وكنتن من المسلمات= (2) لا أنّ المؤمنات هن المخصوصات بتحريم ذلك عليهن دون الكوافر، بل الواجب على كل من لزمته فرائضُ الله من النساء اللواتي لهن أقراء- إذا طلِّقت بعد الدخول بها في عدتها- أن لا تكتم زوجها ما خلق الله في رحمها من الحيض والحبَل.
* * *
__________
(1) قوله: "زوجها المطلقها" زوجها منصوب مفعول به للمصدر"كتمان" وقوله: المطلقها منصوب صفة لقوله: "زوجها" و"الهاء والألف" مفعول به، كما سلف في التعليقة الآنفة.
(2) قوله: "لا أن المؤمنات. . . " من سياق الجملة الأولى: ". . . وإنما معناه أن كتمان المرأة المطلقة. . . لا ان المؤمنات".(4/525)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحًا} "
قال أبو جعفر:"والبعولة" جمع"بعل"، وهو الزوج للمرأة، ومنه قول جرير:
أَعِدُّوا مَعَ الحَلْيِ المَلابَ فَإنَّمَا ... جَرِيرٌ لَكُمْ بَعْلٌ وَأَنْتُمْ حَلائِلُهْ (1)
وقد يجمع"البعل""البعولة، والبعول"، كما يجمع"الفحل""والفحول والفحولة"، و"الذكر""الذكور والذكورة". وكذلك ما كان على مثال"فعول" من الجمع، فإن العرب كثيرًا ما تدخل فيه"الهاء"، فإما ما كان منها على مثال"فِعال"، فقليل في كلامهم دخول"الهاء" فيه، وقد حكى عنهم."العِظامُ والعِظامة"، (2) ومنه قول الزاجر: (3)
* ثُمَّ دَفَنْتَ الْفَرْثَ وَالعِظَامهْ * (4)
__________
(1) ديوانه: 482 والنقائض: 650 وطبقات فحول الشعراء: 347. من نقيضة عجيبة كان من أمرها أن الحجاج قال لهما: ائتياني في لباس آبائكما في الجاهلية. فجاء الفرزدق قد لبس الخز والديباج وقعد في قبة. وشاور جرير دهاة قومه بني يربوع فقالوا: ما لباس آبائنا إلا الحديد! فلبس جرير درعًا وتقلد سيفًا، وأخذ رمحًا وركب فرسًا وأقبل في أربعين فارسًا من قومه. فلما رأى الفرزدق قال: لَبِسْتُ سِلاَحِي والفَرَزْدَقُ لُعْبِةً ... عَلَيْهِ وِشَاحًا كُرَّجٍ وَجَلاَجِلُهْ
أَعِدُّوا مَعَ الحَلْيِ. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
والكرج: الخيال الذي يلعب به المخنثون كأنه"خيال الظل" فيما أظن. والجلاجل: الأجراس ويروى: "أعدوا مع الخز" وهو الحرير. والملاب: طيب من الزعفران تتخلق به العروس في زينتها لجلوها. والحلائل جمع حليلة. وهي الزوجة. ولشد ما سخر جرير من ابن عمه!!
(2) انظر سيبويه 2: 177.
(3) لم أعرف قائله.
(4) الجمهرة 3: 121 واللسان (عظم) و (هذم) والرجز يخالف رواية الطبري وهو: وَيْلٌ لِبُعْرَانِ أبِي نَعَامَةْ ... مِنْكَ وَمِنْ شَفْرَتكَ الهُذَامَةْ
إِذَا ابْتَرَكْتَ فَحَفَرْتَ قَامَهْ ... ثُمَّ نَثَرْتَ الفَرْثَ وَالعِظَامَهْ
ورواية البيت الأول في اللسان (هذم) : "بني نعامه" وفي الجمهرة"بني ثمامه". ورواية البيت الأخير في الجمهرة: "ثم أكلت اللحم والعظامة". قوله: "الهذامة". تهذم اللحم: أي تسرع في قطعه. وابترك: جثا وألقى بركه على الأرض. وأظنه يصف أسدًا أو ذئبًا.(4/526)
وقد قيل:"الحجارة والحِجار" و"المِهارة والمِهار" و"الذِكّارة والذِكّار"، للذكور.
* * *
وأما تأويل الكلام، فإنه: وأزواج المطلقات = اللاتي فرضنا عليهن أن يتربَّصن بأنفسهن ثلاثه قروء، وحرَّمنا عليهنَّ أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن= أحق وأولى بردهن إلى أنفسهم (1) في حال تربصهن إلى الأقراء الثلاثة، وأيام الحيل، وارتجاعهن إلى حبالهم (2) = منهم بأنفسهن أن يمنعهن من أنفسهن ذلك (3) كما:-
4754 - حدثي المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا"، يقول: إذ طلق الرجل امرأته تطليقة أو ثنتين، وهي حامل فهو أحق برجعتها ما لم تضع.
4755 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سفيان، عن منصور، عن إبراهيم:" وبعولتهن أحق بردهن" قال: في العدة
4756 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري، قالا قال الله تعالى
__________
(1) في المخطوطة: "إلى أنفسهن" وهو خطأ في المعنى.
(2) في المخطوطة: "إلى حبالهن" وهو خطأ أيضًا في المعنى. والحبال جمع حبل: وهو المواصلة وهو العهد أيضًا. يعني بذلك إمساكهن: وهو من الحبل الذي هو الرباط.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "أن يمنعهن" وهو خطأ ثالث في المعنى. والصواب ما أثبت وقوله: "منهن بأنفسهن. . " سياقه: "أحق وأولى بردهن. . . منهن بأنفسهن. . . ".(4/527)
ذكره:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كنّ يؤمنَّ بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك إن أرادوا إصلاحًا"، وذلك أنّ الرجل كان إذا طلَّق امرأته كان أحقَّ برجعتها وإن طلاقها ثلاثًا، فنسخ ذلك فقال: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ) الآية.
4757 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك" في عدتهن. (1)
4758 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
4759 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال، في العدة
4760 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك"، أي في القروء في الثلاث حيض، (2) أو ثلاثة أشهر، أو كانت حاملا فإذا طلَّقها زوجها واحدة أو اثنتين رَاجعها إن شاء ما كانت في عدتها
4761 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:" وبعولتهن أحق بردهنّ في ذلك" قال: كانت المرأة تكتم حملها حتى تجعله لرجل آخر، (3) فنهاهنّ الله عن ذلك وقال:" وبعولتهنّ أحق بردهن في ذلك"، قال قتادة: أحق برجعتهن في العدة.
__________
(1) الأثر: 4757- في المخطوطة والمطبوعة: "حدثنا موسى بن عمرو" وهو خطأ صرف والصواب"محمد بن عمرو". وهو إسناد يدور دورانًا في التفسير أقربه رقم: 4739.
(2) في المطبوعة: "في القروء الثلاث حيض" بحذف"في" الثانية.
(3) يعني في الجاهلية كما مضى في الآثار السالفة قبل.(4/528)
4762 - حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" وبعولتهن أحقُّ بردهن في ذلك"، يقول: في العدة ما لم يطلقها ثلاثًا.
4763 - حدثني موسى قال، حدثني عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك"، يقول: أحق برجعتها صاغرة عقوبة لما كتمت زوجها من الحمل (1)
4764 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" وبعولتهن أحق بردهن"، أحقّ برجعتهنّ، ما لم تنقض العِدّة.
4765 - حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:" وبعولتهنّ أحق بردهنّ في ذلك"، قال: ما كانت في العدة إذا أراد المراجعة
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: (2) فما لزوج- طلق واحدة أو اثنتين بعد الإفضاء إليها- عليها رجعة في أقرائها الثلاثة، إلا أن يكون مريدًا بالرجعة إصلاح أمرها وأمره؟
قيل: أما فيما بينه وبين الله تعالى فغير جائز = إذا أراد ضرارها بالرجعة، لا إصلاح أمرها وأمره = مراجعتُها. (3)
وأما في الحكم فإنه مقضيٌّ له عليها بالرجعة، نظيرُ ما حكمنا عليه ببطول رَجعته عليها لو كتمته حملها الذي خلقه الله في رحمها أو حيضها حتى انقضت عدتها ضرارًا منها له، وقد نهى الله عن كتمانه ذلك، (4) فكان سواءً في الحكم = في بطول
__________
(1) الأثر: 4763- انظر الأثر السالف رقم 4753.
(2) في المخطوطة: "فما لزوج واحدة" سقط من الناسخ"طلق" بين الكلمتين.
(3) في المطبوعة: "بمراجعتها" وهو فاسد فسادا عظيما. والسياق: ". . . فغير جائز. . . مراجعتها" وما بينهما فصل، كعادة أبي جعفر.
(4) قوله: "كتمانه" الضمير راجع إلى الزوج أي: نهى الله ان تكتم المرأة زوجها ذلك.(4/529)
رَجعة زوجها عليها، وقد أثمت في كتمانها إياه ما كتمته من ذلك حتى انقضت عدتها= (1) هي والتي أطاعت الله بتركها كتمانَ ذلك منه، وإن اختلفا في طاعة الله في ذلك ومعصيته، فكذلك المراجع زوجتَه المطلقة واحدة أو ثنتين بعد الإفضاء إليها وهما حُرَّان= (2) وإن أراد ضرار المُراجعة برجعته- فمحكوم له بالرجعة، وإن كان آثمًا بريائه في فعله، (3) ومقدِمًا على ما لم يُبحه الله له، والله وليّ مجازاته فيما أتى من ذلك. فأما العباد فإنهم غيرُ جائز لهم الحوْلُ بينه وبين امرأته التي راجعها بحكم الله تعالى ذكره له بأنها حينئذ زوجتُه، فإن حاول ضرارها بعد المراجعة بغير الحقّ الذي جعله الله له، أخِذ لها الحقوق التي ألزم الله تعالى ذكره الأزواج للزوجات (4) حتى يعود ضررُ ما أراد من ذلك عليه دونها.
* * *
قال أبو جعفر: وفي قوله:" وبعولتهن أحق بردهن في ذلك"، أبين الدلالة على صحة قول من قال: إنّ المولي إذا عزم الطلاق فطلق امرأته التي آلى منها، أنّ له عليها الرّجعة في طلاقه ذلك= (5) وعلى فساد قول من قال: إن مضي الأشهر الأربعة عزُم الطلاق، وأنه تطليقه بائنة، لأن الله تعالى ذكره إنما أعلم عباده ما يلزمُهم إذا آلوا من نسائهم، وما يلزم النساء من الأحكام في هذه الآية بإيلاء الرجال وطلاقهم، إذا عزموا ذلك وتركوا الفيء.
* * *
__________
(1) سياق عبارته: "فكان سواء في الحكم. . . هي والتي أطاعت الله. . " وما بينهما فصل للبيان.
(2) قوله: "وهما حران" لأن طلاق العبد ثنتين ثم تحرم عليه، ليس كالحر ثلاثًا.
(3) في المخطوطة"آثما بربه" غير منقوطة كأنها"بربه" ولكن لم أجد في كتب اللغة"أثم بربه" وإن كنت أخشى أن تكون صوابًا له وجه لم أتحققه. وفي المطبوعة"برأيه" كأنهم استنكروا ما استنكرناه، فظنوا فيه تصحيفًا أو تحريفًا فقرأوه كذلك. ولكن أجود قراءاته أن تكون ما أثبت لأن فعل المراجع وهو يضمر الضرار رياء لا شك فيه.
(4) في المطبوعة: "أخذ لها الحقوق" والصواب من المخطوطة وقوله: "أخذ" مبني للمجهول ومعناها: طولب وأمسك حتى يعطيها حقوقها.
(5) السياق: "وفي قوله. . . أبين الدلالة على صحة قول من قال. . وعلى فساد قول من قال. . "(4/530)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: ولهنّ من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن مثل الذي عليهنّ لهم من الطاعة فيما أوجب الله تعالى ذكره له عليها.
* ذكر من قال ذلك:
4766 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو عاصم، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف"، قال: إذا أطعن الله وأطعن أزواجهن، فعليه أن يُحسن صحبتها، ويكف عنها أذاه، ويُنفق عليها من سَعَته.
4767 - حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" ولهنّ مثل الذي عليهن بالمعروف"، قال: يتقون الله فيهن، كما عليهن أن يتقين الله فيهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولهنّ على أزواجهن من التَّصنُّع والمواتاة، مثل الذي عليهن لهم في ذلك. (1)
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) التصنع: التزين. تصنعت المرأة وصنعت نفسها: إذا تزينت زينتها بالتجمل والعلاج. ومن جيد ما جاء في معنى"صنع نفسه" ما أنشده عمر بن عبد العزيز: إنِّي لأَمْنَحُ مَنْ يُوَاصِلُنيِ ... مِنِّي صَفَاءً لَيْسَ بالمَذْقِ
وَإذَا أَخٌ لي حَالَ عَنْ خُلُقٍ ... دَاوَيْتُ مِنْهُ ذَاكَ بالرِّفْقِ
وَالمَرْءُ يَصْنَعُ نَفْسَهُ وَمَتَى ... مَا تَبْلُهُ يَنزِعْ إلى العِرْقَ
أما"المؤاتاة" فهي: حسن المطاوعة يقال: "آتيته على ذلك الأمر مؤاتاة" إذا وافقته وطاوعته والعامة تقول: "واتيته" مواتاه وهل لغة ما، جعلوها واوًا على تخفيف الهمزة.(4/531)
4768 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بشير بن سلمان، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: إني أحبُّ أن أتزين للمرأة، كما أحب أن تتزين لي; لأن الله تعالى ذكره يقول:" ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف" (1)
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بتأويل الآية عندي: وللمطلقات واحدة أو ثنتين -بعد الإفضاء إليهن- على بعولتهن أن لا يراجعوهنّ في أقرائهن الثلاثة (2) إذا أرادوا رجْعتهن فيهن، إلا أن يريدوا إصلاح أمرهن وأمرهم، وأن لا يراجعوهن ضرارًا (3) = كما عليهن لهم إذا أرادوا رجعتهنّ فيهنّ، أن لا يكتمنَ ما خلق
__________
(1) الأثر: 4768- بشير بن سلمان الكندي أبو إسماعيل الكوفي روى عن مجاهد وعكرمة وأبي حازم الأشجعي وسيار أبي الحكم والقاسم بن صفوان سمع منه وكيع وأبو نعيم وابنه الحكم والسفيانان وابن المبارك وغيرهم. وهو ثقة صالح الحديث قليله. مترجم في التهذيب والكبير 2/199، والجرح والتعديل 1/1374. وكان في المطبوعة: "بشر بن سلمان" وهو خطأ.
(2) في المطبوعة: "أن لا يراجعوهن ضرارا" زاد"ضرارا" هنا وهي مفسدة للكلام وليست في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فلا يراجعوهن ضرارا" وهو تبديل ألجأهم إليه الفساد السابق في الجملة السالفة. والصواب من المخطوطة.(4/532)
الله في أرحامهنّ من الولد ودم الحيض ضرارًا منهن لهم لِيَفُتْنهم بأنفسهنّ، (1)
ذلك أن الله تعالى ذكره نهى المطلقات عن كتمان أزواجهنّ في أقرائهنَّ ما خلق الله في أرحامهنّ، إن كن يؤمنَّ بالله واليوم الآخر، وجعل أزواجهن أحق بردّهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا، فحرَّم الله على كل واحد منهما مضارَّة صاحبه، وعرّف كلّ واحد منهما ما له وما عليه من ذلك، ثم عقب ذلك بقوله:" ولهن مثلُ الذي عليهن بالمعروف" فبيِّنٌ أن الذي على كل واحد منهما لصاحبه من ترك مضارته، مثل الذي له على صاحبه من ذلك.
فهذا التأويل هو أشبه بدلالة ظاهر التنزيل من غيره.
وقد يحتمل أن يكون كل ما على كل واحد منهما لصاحبه داخلا في ذلك، وإن كانت الآية نزلت فيما وصفنا، لأن الله تعالى ذكره قد جعل لكل واحد منهما على الآخر حقًا، فلكل واحد منهما على الآخر من أداء حقه إليه مثل الذي عليه له، فيدخل حينئذ في الآية ما قاله الضحاك وابن عباس وغير ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: معنى"الدرجة" التي جعل الله للرجال على النساء، الفضلُ الذي فضّلهم الله عليهن في الميراث والجهاد وما أشبه ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
4769 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" وللرجال عليهن درجة" قال: فَضْل ما فضله الله به عليها من الجهاد، وفَضْل ميراثه، على ميراثه، وكل ما فضِّل به عليها.
__________
(1) في المطبوعة: "لتيقنهن" وهو خطأ موغل في الفساد واللغو. وفي المخطوطة: "لتنفهم" مختلطة الأحرف والتقط، كأن الناسخ لما أراد أن يكتب"ليسبقهم" ثم استدرك وخط على السين ليجعلها"ليفتنهم" والصواب ما أثبت. وقد جاء هذا اللفظ في حديث فاطمة بنت قيس أخت الضحاك بن قيس وكانت عند أبي عمرو بن حفص بن المغيرة فطلقها تطليقتين ثم بعث إليها من اليمين بالتطليقة الثالثة، فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستفتيه فقال لها: "ليست له فيك ردة وعليك العدة" وأمرها أن تنتقل إلى ابن أم مكتوم ثم قال لها: "فإذا حللت فلا تفوتيني بنفسك" قالت: فوالله ما أظن رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ يريدني إلا لنفسه، فلما حللت خطبني على أسامة بن زيد فزوجنيه" (مسند أحمد 6: 414) .
ومعنى: "فاته بنفسه" سبقه إلى حيث لا يبلغه ولم يقدر عليه وفات يده، ولو كانت"ليسبقنهم بأنفسهن" لكانت صوابًا وهي مثلها في المعنى.(4/533)
4770 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
4771 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر: عن قتادة:" وللرجال عليهن درجة"، قال: للرجال درجةٌ في الفضل على النساء
* * *
وقال آخرون: بل تلك الدرجة: الإمْرة والطاعة.
* ذكر من قال ذلك:
4772 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن زيد بن أسلم في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: إمارةٌ.
4773 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: طاعةٌ. قال: يطعن الأزواجَ الرجال، وليس الرجال يطيعونهن
4774 - حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا أزهر، عن ابن عون، عن محمد في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: لا أعلم إلا أن لهن مثل الذي عليهن، إذا عرفن تلك الدرجة (1)
* * *
وقال آخرون: تلك الدرجة له عليها بما ساق إليها من الصداق، وإنها إذا قذفته حُدَّت، وإذا قذفها لاعنَ.
* ذكر من قال ذلك:
4775 - حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبيدة، عن الشعبي في قوله:" وللرجال عليهن درجة"، قال: بما أعطاها من صَداقها، وأنه إذا قذفها
__________
(1) الأثر: 4774-"أزهر" هو أزهر بن سعد السمان أبو بكر الباهلي البصري روى عن سليمان التيمي وابن عون وهشام الدستوائي وروى عنه ابن المبارك وهو أكبر منه، وعلي بن المديني وعمرو بن علي الفلاس وبندار. قال ابن سعد: ثقة. ومات سنة 203.(4/534)
لاعَنها، وإذا قذفته جُلدت وأُقِرَّتْ عنده.
* * *
وقال آخرون: تلك الدرجة التي له عليها، إفضاله عليها، وأداء حقها إليها، وصفحه عن الواجب لهُ عليها أو عن بعضه.
* ذكر من قال ذلك:
4776 - حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن بشير بن سلمان، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: ما أحب أن استنظف جميع حقي عليها، لأن الله تعالى ذكره يقول:" وللرجال عليهن درجة" (1)
* * *
وقال آخرون: بل تلك الدرجة التي له عليها أن جعل له لحية وحرمها ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
4777 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي قال، حدثنا عبيد بن الصباح قال، حدثنا حميد قال،" وللرجال عليهن درجة" قال: لحية. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية ما قاله ابن عباس، وهو أن"الدرجة" التي ذكر الله تعالى ذكره في هذا الموضع، الصفحُ من الرجل لامرأته عن بعض الواجب عليها، وإغضاؤه لها عنه، وأداء كل الواجب لها عليه.
وذلك أن الله تعالى ذكره قال:" وللرجال عليهن درجة" عَقيب قوله:" ولهن
__________
(1) الأثر: 4776- في المطبوعة"بشر بن سلمان" والصواب"بشير" كما سلف في التعليق على الأثر رقم: 4768 آنفًا.
استنظف الشيء: إذا استوفاه واستوعبه وأخذه كله. وفي الحديث: "وتكون فتنة تستنظف العرب" أي تستوعبهم هلاكًا. اللهم قنا عذابك ونجنا من كل فتنة مهلكة.
(2) الأثر: 4777-"عبيد بن الصباح الخراز" روى عن عيسى بن طهمان وموسى بن علي بن رباح وفضيل بن مرزوق وعمرو بن أبي المقدام وعبد الله بن الممل. روى عنه موسى بن عبد الرحمن المسروقي وأحمد بن يحيى الصوفي. قال أبو حاتم. ضعيف الحديث. وذكره ابن حبان في الثقات. مترجم في الجرح والتعديل 2/2/408، ولسان الميزان 4: 119.
أما"حميد" فلم أعرف من هو، حميد كثير لم أجد فيمن يسمى"حميدًا" روية عبيد بن الصباح عنه. وربما كان"فضيل بن مرزوق" فإن"حميد" في المخطوطة مضطربة الكتبة كأن الناسخ لم يكن يحسن يقرأ من الأصل الذي نقل عنه، ولكني أستبعد ذلك. هذا وقد نقل هذا الأثر القرطبي في تفسيره 3: 125: "وهذا إن صح عنه، فهو ضعيف لا يقتضيه لفظ الآية ولا معناها" ثم قال: "طُوبَى لعبدٍ أمْسَك عمّا لا يعلمُ وخُصوصًا في كِتَاب الله تعالى"
ونعم ما قال ابن العربي ولعله يعظ بعض أهل زماننا.(4/535)
مثلُ الذي عليهن بالمعروف"، فأخبر تعالى ذكره أن على الرجل من ترك ضرارها في مراجعته إياها في أقرائها الثلاثة وفي غير ذلك من أمورها وحُقوقها، مثل الذي له عليها من ترك ضراره في كتمانها إياه ما خلق الله في أرحامهنّ وغير ذلك من حقوقه.
ثم ندب الرجال إلى الأخذ عليهن بالفضل إذا تركن أداءَ بعض ما أوجب الله لهم عليهن، فقال تعالى ذكره:" وللرجال عليهن درجة"بتفضّلهم عليهن، وصفحهم لهن عن بعض الواجب لهم عليهن، وهذا هو المعنى الذي قصده ابن عباس بقوله:"ما أحب أن أستنظف جميع حقي عليها" لأن الله تعالى ذكره يقول:" وللرجال عليهن درجة".
* * *
ومعنى"الدرجة"، الرتبة والمنزلة.
* * *
وهذا القول من الله تعالى ذكره، وإن كان ظاهرُه ظاهر الخبر، فمعناه معنى ندب الرجال إلى الأخذ على النساء بالفضل، ليكون لهم عليهن فضل درَجة. (1)
* * *
__________
(1) من حق أبي جعفر رضي الله عنه أن أقف بقارئ كتابه على مثل هذا الوضع من تفسيره. لأقول مرة أخرى: إنه كان مفسرا إماما سبق قفات السابقين. لم يلحقه لاحق في البصر بمعاني كتاب ربه، وفي الحرص على بيان معانيه، وفي الدقة البالغة في ضبط روابط الآيات بعضها ببعض. ومن شاء أن يعرف فضل هذا الإمام وتحققه بمعرفة أسرار هذا الكتاب فليقرأ ما كتبه المفسرون بعده في تفسير هذه الجملة من الآية فهو واجد في المقارنة بين الكلامين ما يعينه على إدراك حقيقة مذهب أبي جعفر في التفسير، وما يدله على صدق ما قلت، من أن الرجل قد نهج للمفسرين نهجًا قل من تبعه فيه، أو أطاق أن يسير فيه على آثاره. ولم يكتب أبو جعفر ما كتب على سبيل الموعظة كما يفعل أصحاب الرقائق والمتصوفة وأشباههم، بل كتب بالبرهان والحجة والملزمة واستخرج ذلك من سياق الآيات المتتابعة من أول آية الإيلاء-"للذين يلون من نسائهم"- وما تبعها من بيان طلاق المولى، وكيف يفعل الرجل المطلق وكيف تفعل المرأة المطلقة، وما أمرت به من ترك كتمان ما خلق الله في رحمها وائتمانها على هذا السر المضمر في أحشائها وما للرجال من الحق في ردهن مصلحين غير مضارين وتعادل حقوق الرجل على المرأة وحقوق المرأة على الرجل ثم أتبع ذلك بندب الرجال إلى فضيلة من فضائل الرجولة لا ينال المرء قبلها إلا بالعزم والتسامي وهو أن يتغاضى عن بعض حقوقه لامرأته فإذا فعل ذلك فقد بلغ من مكارم الأخلاق منزلة تجعل له درجة على امرأته.
ومن أجل هذا الربط الدقيق بين معاني هذا الكتاب البليغ جعل أبو بكر هذه الجملة حثًا وندبًا للرجال على السمو إلى الفضل، لا خبرًا عن فضل قد جعله الله مكتوبا لهم، أحسنوا فيما أمرهم به أم أساءوا.
وأبو جعفر رضي الله عنه لم يغفل قط عن هذا الترابط الدقيق بين معاني الكتاب، سواء كان ذلك في آيات الأحكام أو آيات القصص أو غيرها من نصوص هذا الكتاب. فهو يأخذ المعنى في أول الآية من الآيات ثم يسير معه كلمة كلمة وحرفًا حرفصا ثم جملة جملة غير تارك لشيء منه أو متجاوز عن معنى يدل عليه سياقها. وليس هذا فحسب بل هو لا ينسى أبدًا أن هذا الكتاب قد جاء ليعلم الناس ويخرجهم من الظلمات إلى النور وأنه جاء ليؤدبهم بأدب رب العالمين فيربط بين هذا الأدب الذي دل عليه التنزيل وبينته سنة رسول الله ويخرج من ذلك بمثل هذا الفهم الدقيق لمعاني كتاب الله مؤيدًا بالحجة والبرهان.
وأحب أن أقول إن التخلق بآداب كتاب الله يهدي إلى التفسير الصحيح كما تهدي إليه المعرفة بلغة العربن وبناسخ القرآن ومنسوخه وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فالأخلاق أداة من أدوات العلم كسائر الأدوات. ولولا ما كان عليه هذا الإمام من عظيم الخلق ونبيل الأدب لما وقف وحده بين سائر المفسرين عند هذه الآية، يستخرج منها هذا المعنى النبيل العظيم الذي أدب الله به المطلقين وحثهم عليه وعرفهم به فضل ما بين اقتضاء الحقوق الواجبة والعفو عن هذه الحقوق، لمن وضعها الله تحت يده، فملكه طلاقها وفراقها، ولم يملكها من ذلك مثل الذي ملكه. فاللهم اغفر لنا واهدنا وفقهنا في ديننا وعلمنا من ذلك ما لم نكن نعلم، إنك أنت السميع العليم.(4/536)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله عزيز" في انتقامه ممن خالف أمره، وتعدَّى حدوده، فأتى النساء في المحيض، وجعل الله عُرضة لأيمانه أن يبرَّ ويتقي، ويصلح بين الناس، وعضَل امرأته بإيلائه، وضَارَّها في مراجعته بعد طلاقه، ولمن كتم من النساء ما خلق الله في أرحامهن أزواجهن، ونكحن في عددهن، وتركنَ التربُّص بأنفسهن إلى الوقت الذي حده الله لهن، وركبن غير ذلك من(4/537)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)
معاصيه="حكيم" فيما دبَّر في خلقه، وفيما حكم وقضَى بينهم من أحكامه، كما:
4778 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" والله عزيز حكيم"، يقول: عزيز في نقمته، حكيم في أمره.
* * *
وإنما توعَّد الله تعالى ذكره بهذا القول عباده، لتقديمه قبل ذلك بيان ما حرَّم عليهم أو نهاهم عنه، من ابتداء قوله:" ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمنَّ" إلى قوله:" وللرجال عليهن درجة" ثم أتبع ذلك بالوعيد ليزدجر أولو النُّهى، وليذكر أولو الحجى، فيتقوا عقابه، ويحذروا عذابه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم: هو دلالة على عدد الطلاق الذي يكون للرجل فيه الرجعة على زوجته، والعدد الذي تبين به زوجته منه.
* * *
* ذكر من قال إن هذه الآية أنزلت لأن أهل الجاهلية وأهل الإسلام قبل نزولها لم يكن لطلاقهم نهاية تبين بالانتهاء إليها امرأته منه ما راجعها في عدتها منه، فجعل الله تعالى ذكره لذلك حدًّا، حرَّم بانتهاء الطلاق إليه على الرجل
__________
(1) ومرة أخرى فلينظر الناظر كيف يكون ربط معاني الآيات بعضها ببعض وأنه برهان على أن هذا المفسر الإمام يربط معاني هذه الآيات الطوال جميعًا من أول الآية: 221 إلى الآية: 228.(4/538)
امرأتَه المطلقة، إلا بعد زوج، وجعلها حينئذ أملك بنفسها منه. (1)
* * *
* (2) ذكر الأخبار الواردة بما قلنا في ذلك:
4779 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: كان الرجل يطلق ما شاء ثم إن راجع امرأته قبل أن تنقضي عدتها كانت امرأته، فغضب رجل من الأنصار على امرأته، فقال لها: لا أقربُك ولا تحلّين مني. قالت له: كيف؟ قال: أطلِّقك، حتى إذا دنا أجلك راجعتك، ثم أطلقك، فإذا دنا أجلك راجعتك. قال: فشكت ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى ذكره:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف"الآية.
4780 - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام، عن أبيه، قال رجل لامرأته على عهد النبي صلى الله عليه وسلم: لا أؤيك، ولا أدَعك
__________
(1) عند هذا الموضع انتهى التقسيم القديم في النسخة التي نقلت عنها نسختنا العتيقة ويلي هذا ما نصه:
"وصلى الله على سيدنا محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرًا
على الأصل
بلغ السماعُ من أوله لمحمد وعلى ابني أحمد بن عيسى السعدي وأحمد بن عمر الجهاري (؟؟) ونصر بن الحسين الطبري، ومحمد بن علي الأبهري بقراءة محمد بن أحمد بن عيسى على الإمام أبي الحسن الخصيبي وهو ينظر في كتابه، عن أبي محمد الفرغاني عن أبي جعفر الخصيبي في شعبان سنة ثمان وأربعمئة"
(2) ابتداء هذا التقسيم:
"بسم الله الرحمن الرحيم
ربّ يَسِّرْ"(4/539)
تحلّين. فقالت له: كيف تصنع؟ قال: أطلقك، فإذا دنا مُضِىُّ عدتك راجعتُك، فمتى تحلّين؟ فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، فاستقبله الناس جديدًا، من كان طلق ومن لم يكن طلق. (1)
4781 - حدثنا محمد بن يحيى قال، أخبرنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان أهل الجاهلية كان الرجل يطلِّق الثلاث والعشر وأكثر من ذلك، ثم يراجعُ ما كانت في العِّدة، فجعل الله حد الطلاق ثلاث تطليقات. (2)
4782 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، كان أهل الجاهلية يطلِّق أحدهم امرأته ثم يراجعها، لا حَّد في ذلك، هي امرأته ما راجعها في عدتها، (3) فجعل الله حد ذلك يصير إلى ثلاثة قروء، وجعل حدَّ الطلاق ثلاث تطليقات.
4783 - حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" الطلاق مرتان"، قال كان الطلاق- قبل أن يجعل الله الطلاق ثلاثًا- ليس له أمد يطلق الرجل امرأته مائة، ثم إن أراد أن يراجعها قبل أن تحلّ، كان ذلك له، وطلق رجلٌ امرأته، حتى إذا كادت أن تحلّ ارتجعها، ثم استأنفَ بها طلاقًا بعد ذلك ليضارّها بتركها، حتى إذا كان قبل انقضاء عدتها راجعها. وصنع ذلك مرارًا، فلما علم الله ذلك منه، جعل الطلاق ثلاثًا، مرتين، ثم بعد المرتين إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان.
4784 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، أما قوله:
__________
(1) الحديثان: 4779، 4780- هما في معنى واحد بإسنادين إلى هشام بن عروة وهما مرسلان لأن عروة بن الزبير تابعي. وقد ثبت الحديث وصح موصولا كما سنذكر إن شاء الله.
وجرير- في الإسناد الأول: هو ابن عبد الحميد الضبي. وابن إدريس- في الإسناد الثاني: هو عبد الله بن إدريس الأودي.
والحديث رواه الترمذي 2: 219 عن أبي كريب محمد بن العلاء -شيخ الطبري في الإسناد الثاني- بهذا الإسناد. ولم يذكر لفظه أحاله على الرواية الموصولة، كما سيأتي.
ورواه أيضًا -بنحوه- مالك في الموطأ ص: 588 عن هشام بن عروة عن أبيه. مرسلا وكذلك رواه الشافعي عن مالك. (مسند الشافعي بترتيب الشيخ عابد السندي 2: 34) .
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 333 من طريق الشافعي عن مالك.
ورواه عبد بن حميد في تفسيره عن جعفر بن عون عن هشام مرسلا. كما نقله عنه ابن كثير 1: 537- 538 وكذلك رواه البيهقي 7: 444 من طريق أبي أحمد محمد بن عبد الواب. عن جعفر ابن عون.
وكذلك رواه ابن أبي حاتم -في تفسيره- عن هارون بن إسحاق عن عبدة بن سليمان عن هشام ابن عروة عن أبيه مرسلا. نقله عنه ابن كثير 1: 537.
وأما الرواية الموصولة: فإنه رواه الترمذي 2: 218- 219 عن قتيبة بن سعيد عن يعلى بن ابن شيب عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة -بنحوه- مرفوعًا متصلا.
ورواه الحاكم 2: 279- 280 من طريق يعقوب بن حميد بن كاسب عن يعلى بن شيب به، نحوه وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد. ولم يتكلم أحد في يعقوب بن حميد بحجة". وتعقبه الذهبي فقال: "قد ضعفه غير واحد"! وهذا عجب من الحافظ الذهبي كأن الحديث انفرد بوصله يعقوب هذ، حتى يقرر الخلاف بين توثيقه وتضعيفه، وأمامه في الترمذي رواية قتيبة عن يعلى!!
ورواه أيضًا البيهقي 7: 333 من طريق يعقوب بن حميد عن يعلى به. ثم قال: ورواه أيضًا قتيبة بن سعيد والحميدى عن يعلى بن شبيب وكذلك قال محمد بن إسحاق بن يسار بمعناه وروى نزول الآية فيه- عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة".
ورواية ابن إسحاق -التي أشار إليها البيهقي- ذكرها ابن كثير 1: 538 من رواية ابن مردويه من طريق سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة".
وذكر ابن كثير أيضًا -قبل ذلك بأسطر- أنه رواه ابن مردويه"من طريق محمد بن سليمان عن يعلى بن شبيب مولى الزبير، عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة. فذكره بنحوه ما تقدم". يريد رواية عبد بن حميد عن جعفر بن عون.
فهذان ثقتان روياه عن هشام بن عروة مرفوعًا والرفع زيادة تقبل من الثقة كما هو معروف. ولا يعل المرفوع بالموقوف بل يكون الموقوف ميدا للمرفوع ومؤكدًا لصحته.
فيعلى بن شبيب الأسدي مولى آل الزبير: ثقة: ذكره ابن حبان في الثقات. وترجمه البخاري في الكبير 20 / 40 / 20 / 418 - 419 وابن أبي حاتم في 4/2/301- فلم يذكرا فيه جرحا. وقد رواه الأسدي. الملقب"لوين".
ومحمد بن إسحاق بن يسار: ثقة لا حجة لمن تكلم فيه.
(2) قوله: "كان أهل الجاهلية، كان الرجل. . . " قد مضى برقم: 4751 في حديث قتادة أيضًا بنفس هذا الإسناد -مثل هذا التعبير العربي الفصيح، كما أشرنا إليه في التعليق ص: 522
(3) في المخطوطة: "ما داحقها في عدتها" تصحيف فيما أظن ولكن كيف يجيء مثل هذا التصحيف من كاتب!!(4/540)
" الطلاق مرتان"، فهو الميقات الذي يكون عليها فيه الرجعة.
4785 - حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة في قوله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" قال: إذا أراد الرجل أن يطلق امرأته فيطلقها تطليقتين، فإن أراد أن يراجعها كانت له عليها رجعة، فإن شاء طلقها أخرى، فلم تحلّ له حتى تنكح زوجًا غيره.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية على هذا الخبر الذي ذكرنا عدد الطلاق الذي لكم أيها الناس فيه على أزواجكم الرجعة= إذا كن مدخولا بهن= تطليقتان. ثم الواجب على من راجع منكم بعد التطليقتين، إمساكٌ بمعروف، أو تسريح بإحسان، لأنه لا رجعة له بعد التطليقتين إن سرحها فطلقها الثالثة.
* * *
وقال آخرون إنما أنزلت هذه الآية على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم تعريفًا من الله تعالى ذكره عبادَه سنة طلاقهم نساءهم إذا أرادوا طلاقهن- لا دلالةً على العدد الذي تبين به المرأة من زوجها. (1)
* ذكر من قال ذلك:
4786 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن أبي الأحوص، عن عبد الله في قوله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" قال: يطلقها بعد ما تطهر من قبل جماع، ثم يدعها حتى تطهر مرة أخرى، ثم يطلقها إن شاء، ثم إن أراد أن يراجعها راجعها، ثم إن شاء طلقها، وإلا تركها حتى تتم ثلاث حيض وتبينُ منه به. (2)
4787 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله
__________
(1) في المطبوعة: "لا دلالة على القدر" تصحيف وتحريف، والصواب من المخطوطة.
(2) الأثر: 4786 -أخرجه النسائي في السنن 6: 140 بغير هذا اللفظ وكذلك البيهقي في السنن 7: 332 وابن ماجه 1: 651.(4/542)
بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئًا.
4788 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، قال: يطلق الرجل امرأته طاهرًا من غير جماع، فإذا حاضت ثم طهرت فقد تم القرء، ثم يطلق الثانية كما يطلق الأولى، إن أحب أن يفعل، (1) فإذا طلق الثانية ثم حاضت الحيضة الثانية فهما تطليقتان وقرءان، (2) ثم قال الله تعالى ذكره في الثالثة:" إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان"، فيطلقها في ذلك القرء كله إن شاء حين تجمع عليها ثيابها. (3)
4789 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه- إلا أنه قال: فحاضت الحيضة الثانية، كما طلق الأولى، فهذان تطليقتان وقرءان، ثمّ قال: الثالثة- وسائرُ الحديث مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبى عاصم.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل الآية على قول هؤلاء: سنة الطلاق التي سننتها وأبحتها لكم إن أردتم طلاقَ نسائكم، أن تطلقوهن ثنتين في كل طهر واحدة، ثمّ الواجب بعد ذلك عليكم: إما أن تمسكوهنّ بمعروف، أو تسرحوهن بإحسان.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "فإن أحب أن يفعل" بزيادة الفاء وهو لا يستقيم.
(2) قوله: /"وقرءان" هو مثنى"قرء".
(3) في المخطوطة"تجمع عليه" وهو خطأ. يقال: جمعت علي ثيابي إذ لبست الثياب التي تبرز بها إلى الناس من إزار ورداء وعمامة. وجمعت المرأة ثيابها: لبست الدرع والملحقة والخمار. وكني بقوله: "جمعت عليها ثيابها" عن غسلها من حيضتها ولبسها ثيابها في طهر.(4/543)
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بظاهر التنزيل ما قاله عروة وقتادة ومن قال مثل قولهما من أن الآية إنما هي دليل على عدد الطلاق الذي يكون به التحريم، وبُطولُ الرجعة فيه، والذي يكون فيه الرجعة منه. وذلك أن الله تعالى ذكره قال في الآية التي تتلوها: (فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) ، فعرَّف عباده القدرَ الذي به تحرُم المرأة على زوجها إلا بعد زوجٍ- ولم يبين فيها الوقتَ الذي يجوز الطلاق فيه، والوقتَ الذي لا يجوز ذلك فيه، فيكون موجَّهًا تأويلُ الآية إلى ما روي عن ابن مسعود ومجاهد ومن قال بمثل قولهما فيه.
* * *
وأما قوله:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، فإنّ في تأويله وفيما عُني به اختلافًا بين أهل التأويل.
فقال بعضهم: عنى الله تعالى ذكره بذلك الدلالة على اللازم للأزواج المطلقات اثنتين (1) بعد مراجعتهم إياهن من التطليقة الثانية- من عشرتهن بالمعروف، أو فراقهن بطلاق. (2)
* ذكر من قال ذلك:
4790 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء:"الطلاق مرتان"، قال: يقول عند الثالثة: إما أن يمسك بمعروف، وإما أن يسرح بإحسان. وغيره قالها (3) قال: وقال مجاهد: الرجل أملك بامرأته في تطليقتين من غيره، فإذا تكلم الثالثة فليست منه بسبيل، وتعتدّ لغيره.
__________
(1) في المخطوطة: "اللازم للأزواج المطلقات اثنتين" وفي المطبوعة: "اللازم للأزواج المطلقات" والذي أثبته أجود العبارات الثلاث.
(2) في المخطوطة: "أو بفراقهن" بزيادة"باء" لا محل لها هنا.
(3) في المطبوعة: "وغيرها قالها" والصواب من المخطوطة - ويعني: وغيره قال هذه المقالة، ثم ذكر مقالة مجاهد في تأويل الآية. هذا ما رأيت إلا أن يكون في الكلام تصحيف.(4/544)
4791 - حدثني أبو السائب قال، حدثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال، أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: يا رسول الله أرأيت قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" فأين الثالثة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إمساكٌ بمعروف، أو تسريحٌ بإحسان" هي الثالثة".
4792 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن بن مهدي، قالا حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين قال، جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله،"الطلاق مرتان"، فأين الثالثة؟ قال:"إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان".
4793 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن إسماعيل، عن أبي رزين قال، قال رجل: يا رسول الله، يقول الله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف" فأين الثالثة؟ قال:"التسريح بإحسان". (1)
__________
(1) الأحاديث: 4791- 4793 كلها حديث واحد بأسانيد ثلاثة. وهو حديث مرسل ضعيف كما سنذكر إن شاء الله.
* سفيان في الإسناد الثاني: هو الثوري كما في الإسناد الثالث.
* إسماعيل بن سميع -بضم السين مصغرًا- الحنفي: ثقة مأمون كما قال ابن معين. ومن تكلم فيه فإنما تكلم من أجل أنه كان يرى رأي الخوارج.
* أبو رزين -بفتح الراء وكسر الزاي: هو الأسدي أسد خزيمة واسمه"مسعود" وهو تابعي كوفي ثقة. وبعضهم يقول: "مسعود بن مالك" فيشتبه براو آخر اسمه"مسعود بن مالك بن معبد" مولى سعيد بن جبير وهو متأخر عن أبي رزين. وقد حققنا ذلك مفصلا في المسند: 3551، 7432م، وفي الاستدراك فيه: 707.
* و"أبو رزين الأسدي" هذا تابعي كما قلنا. وهو غير"أبي رزين العقيلي" ذاك صحابي اسمه"لقيط بن عامر" مضت ترجمته: 3223.
* والإسناد: 4793- هو في تفسير عبد الرزاق ص: 28- 29. وفيه: "أسمع الله يقول" بدل"يقول الله" وكذلك هو في المصنف لعبد الرزاق ج 3 ص 301.
* والحديث ذكره ابن كثير 1: 538- 539 من رواية بن أبي حاتم. وعبد بن حميد وسعيد ابن منصور وابن مردويه- بأسانيدهم، كلهم عن أبي رزين بنحوه مرسلا. وكذلك رواه البيهقي 7: 340 بإسناده من رواية سعيد بن منصور.
* وهم الحافظ ابن كثير -رحمه الله- وهمًا شديدًا إذ نسب هذا الحديث المرسل لرواية المسند فقال: "ورواه الإمام أحمد أيضًا".
* والحديث ذكره السيوطي 1: 277 وزاد نسبته لوكيع. وأبي داود في ناسخه وابن المنذر والنحاس.
* وسيقول أبو جعفر بعد قليل مشيرا إلى هذا الحديث: "فإن اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره". وهذا ذهاب منه إلى الاحتجاج بالحديث المرسل. وهو مذهب يختاره بعض اهل العلم.
* وقد رددت على أبي جعفر -رحمه الله- في كتاب نظام الطلاق في الإسلام في الفقرة: 29 بعد أن ذكرت كلامه- فقلت: "ونعم إن الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره وعلى العين والرأس ما ورد عنه عليه الصلاة والسلام إذا كان صحيحًا ثابتًا. ولكن خبر أبي رزين هذا غير صحيح فإنه مرسل غير موصول. لأن أبا رزين الأسدي تابعي وليس صحابيًا. والمرسل لا حجة فيه، لأنه عن راو مجهول ثم إنه خبر باطل المعنى جدًا. وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفسر الطلقة الثالثة بهذا، وهي ثابتة في الآية التي بعدهافي سياق الكلام: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره) . وإلا كانت طلقة رابعة. وهو خلاف المعلوم من الدين بالضرورة".(4/545)
4794 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن مجاهد:" أو تسريح بإحسان" قال في الثالثة.
4795 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة قال: كان الطلاق ليس له وقت حتى أنزل الله:" الطلاق مرتان" قال: الثالثة:" إمساكٌ بمعروف أو تسريحٌ بإحسان".
* * *
وقال آخرون منهم: بل عنى الله بذلك الدلالة على ما يلزمهم لهن بعد التطليقة الثانية من مراجعة بمعروف أو تسريح بإحسان، بترك رجعتهن حتى تنقضي عدتهن، فيصرن أملك لأنفسهن. وأنكروا قول الأولين الذين قالوا: إنه دليل على التطليقة الثالثة.
* ذكر من قال ذلك:
4796 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي في قوله: ذلك:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، إذا طلق واحدة أو اثنتين، إما أن يمسك ="ويمسك": يراجع = بمعروف، وإما سكت عنها(4/546)
حتى تنقضي عدتها فتكون أحق بنفسها.
4797 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:" أو تسريح بإحسان" والتسريحُ: أن يدعها حتى تمضي عدتها. (1)
4798 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" الطلاق مرّتان فإمساك بمعروف أو تصريح بإحسان"، قال: يعني تطليقتين بينهما مراجعة، فأمر أن يمسك أو يسرّح بإحسان. قال: فإن هو طلقها ثالثة فلا تحل له حتى تنكح زوجًا غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وكأن قائلي هذا القول الذي ذكرناه عن السدي والضحاك ذهبوا إلى أنّ معنى الكلام: الطلاق مرتان، فإمساك في كل واحدةٍ منهما لهن بمعروف، أو تسريحٌ لهن بإحسان.
وهذا مذهب مما يحتمله ظاهرُ التنزيل، لولا الخبرُ الذي ذكرته عن النبي صلى الله عليه وسلم، الذي رواه إسماعيل بن سميع، عن أبي رزين، فإنّ اتباع الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بنا من غيره.
فإذْ كان ذلك هو الواجب، فبيِّنٌ أن تأويلَ الآية: الطلاقُ الذي لأزواج النساء على نسائهم فيه الرجعة، مرتان. ثم الأمرُ بعد ذلك إذا راجعوهن في الثانية، إما إمساكٌ بمعروف، وإما تسريح منهم لهن بإحسان بالتطليقة الثالثة حتى تبينَ منهم، فيبطل ما كان لهم عليهنّ من الرجعة، ويصرن أملك بأنفسهن منهن. (2)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: وما ذلك الإمساك الذي هو بمعروف؟ قيل: هو ما:-
__________
(1) الأثر: 4797-"علي بن عبد الأعلى" لم أجد في شيوخ الطبري من يسمى"علي ابن عبد الأعى" وسيأتي في الأثر: 4799"علي بن عبد الأعلى المحاربي" ورقم: 4804. والذي يكثر الرواية عنه في التفسير هو"محمد بن عبد الأعلى الصنعاني فلا أدري ما الصواب.
(2) في المطبوعة: "أملك لأنفسهن" وأثبت ما في المخطوطة.(4/547)
4799 - حدثنا به علي بن عبد الأعلى المحاربي قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" فإمساك بمعروف"، قال: المعروف: أن يحسن صحبتها. (1)
4800 - حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فإمساك بمعروف"، قال: ليتق الله في التطليقة الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها.
* * *
فإن قال: فما التسريح بإحسان؟
قيل: هو ما:-
4801 - حدثني به المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" أو تسريح بإحسان"، قيل: يسرحها، ولا يظلمها من حقها شيئًا. (2)
4802 - حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان"، قال: هو الميثاق الغليظ. (3)
4803 - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" أو تسريح بإحسان" قال: الإحسان: أن يوفيها حقها، فلا يؤذيها، ولا يشتمها.
4804 - حدثنا علي بن عبد الأعلى قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن جويبر، عن الضحاك:" أو تسريحٌ بإحسان"، قال: التسريح بإحسان:
__________
(1) الأثر: 4799- انظر التعليق السالف على الأثر رقم: 4797.
(2) الأثر: 4800، 4801- هما بعض الأثر السالف رقم: 4787. وفي المطبوعة والمخطوطة في رقم: 4801"قيل: يسرحها. . . " والصواب ما أثبت.
(3) سيأتي تفسير"الميثاق الغليظ" بعد قليل في رقم: 4805.(4/548)
أن يدعها حتى تمضي عِدَّتها، ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلَّقها. فذلك التسريح بإحسان، والمتعة على قَدْر الميسرة.
4805 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس في قوله:" وأخذن منكم ميثاقًا غليظًا"قال قوله:" فإمساك بمعروف أو تسريحٌ بإحسان".
* * *
فإن قال: فما الرافع للإمساك والتسريح؟
قيل: محذوف اكتُفي بدلالة ما ظهر من الكلام من ذكره، ومعناه: الطلاق مرتان، فالأمر الواجبُ حينئذ به إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. وقد بينا ذلك مفسرًا في قوله: (فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) [سورة البقرة: 178] فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلا أَنْ يَخَافَا أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئا"، ولا يحل لكم أيها الرجال، أن تأخذوا من نسائكم، إذا أنتم أردتم طلاقهن- لطلاقكم وفراقكم إياهن (2) شيئا مما أعطيتموهن من الصداق، وسقتم إليهن، بل الواجب عليكم تسريحهن بإحسان، وذلك إيفاؤهن حقوقهن من الصداق والمتعة وغير ذلك مما يجب لهن عليكم"إلا أن يخافا إلا يقيما حدود الله".
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 3: 372.
(2) في المطبوعة: "بطلاقكم" بالباء والصواب من المخطوطة.(4/549)
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأه بعضهم:"إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، وذلك قراءة معظم أهل الحجاز والبصرة بمعنى إلا أن يخاف الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله، وقد ذكر أن ذلك في قراءة أبي بن كعب: (إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله) .
4806- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر قال، أخبرني ثور، عن ميمون بن مهران قال: في حرف أبي بن كعب أن الفداء تطليقة. قال: فذكرت ذلك لأيوب، فأتينا رجلا عنده مصحف قديم لأبي خرج من ثقة، فقرأناه فإذا فيه: (إلا أن يظنا ألا يقيما حدود الله، فإن ظنا ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به لا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره) .
* * *
والعرب قد تضع"الظن" موضع"الخوف"،"والخوف" موضع"الظن" في كلامها، لتقارب معنييهما، (1) كما قال الشاعر: (2)
أتاني كلام عن نصيب يقوله ... وما خفت يا سلام أنك عائبي (3)
بمعنى: ما ظننت.
* * *
__________
(1) هذا بيان فلما تصيبه في كتب اللغة وانظر معاني القرآن للفراء 1: 145- 146 ففيه بيان أوفى.
(2) هو أبو الغول الطهوي وهو شاعر إسلامي كان في الدولة المروانية.
(3) البيت في نوادر أبي زيد: 46 ومعاني القرآن للفراء 1: 146 وسيأتي في التفسير 5: 40 (بولاق) ولم أجد خبر"نصيب" و"سلام" وربما كان نصيب هذا هو أبو الحجناء نصيب الأسود مولى عبد العزيز بن مروان. فإن أبا الغول، كما أسلفت شاعر إسلامي كان في الدولة المروانية وهجا حمادا (الأغاني 5: 162) وقال له أيضًا فيما روى أبو زيد في نوادره ص: 46.
ولقد ملأت على نصيب جلده بمساءة إن الصديق يعاتب(4/550)
وقرأه آخرون من أهل المدينة والكوفة: (إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله) .
فأما قارئ ذلك كذلك من أهل الكوفة، (1) فإنه ذكر عنه أنه قرأه كذلك (2) اعتبارا منه بقراءة ابن مسعود، وذكر أنه في قراءة ابن مسعود: (إلا أن تخافوا ألا يقيما حدود الله) . وقراءة ذلك كذلك، اعتبارا بقراءة ابن مسعود التي ذكرت عنه، خطأ وذلك أن ابن مسعود إن كان قرأه كما ذكر عنه، فإنما أعمل الخوف في"أن" وحدها، وذلك غير مدفوعة صحته، كما قال الشاعر: (3)
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ... تروي عظامي بعد موتي عروقها (4) ولا تدفنني بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها (5)
فأما قارئه:" إلا أن يخافا" بذلك المعنى، فقد أعمل في متروكة تسميته، (6) وفي"أن"- فأعمله في ثلاثة أشياء: المتروك الذي هو اسم ما لم يسم فاعله، وفي"أن" التي تنوب عن شيئين، (7) ولا تقول العرب في كلامها:" ظنا أن يقوما".
ولكن قراءة ذلك كذلك صحيحة، على غير الوجه الذي قرأه من ذكرنا قراءته كذلك، اعتبارا بقراءة عبد الله الذي وصفنا، ولكن على أن يكون مرادا به إذا
__________
(1) هو الإمام الكوفي الحبر حمزة بن حبيب الزياتأحد القراء السبعة.
(2) الذي ذكر هذا هو الفراء في معاني القرآن 1: 146 ولكن عبارة الفراء تدل على أنه ظن ذلك واستخرجه لا أن حمزة قرأها كذلك يقينا غير شك. ونص الفراء: "وأما ما قال فإنه إن كان أراد اعتبار قراءة عبد الله فلم تصبه- والله أعلم". فإن يكن الطبري أخذه عن الفراء فهذا كلام الفراء وإن اخذه من غيره فهو ثقة فيما ينقل.
(3) هو أبو محجن الثقفي.
(4) ديوانه: 23 ومعاني القرآن للفراء 1: 146 والخزانة 3: 550 وغيرها كثير وخبر أبي محجن في الخمر وحبها مشهور.
(5) هذا البيت شاهد للنحاة على تخفيف"أن" لوقوعها بعد الخوف بمعنى العلم واليقين واسمها ضمير شأن محذوف، أو ضمير متكلم وجملة"لا أذوقها" في محل رفع، خبرها.
(6) يعني أن الفعل قد عمل في نائب الفاعل وفي جملة"أن المخففة من"أن" كما سيظهر من بيان كلامه. وقد بين ذلك أيضًا الفراء في معاني القرآن 1: 146- 147.
(7) يعني بقوله: "أن التي تنوب عن شيئين" أنها في موضع المفعولين، تسد مسدهما.(4/551)
قرئ كذلك: إلا أن يخاف بأن لا يقيما حدود الله- أو على أن لا يقيما حدود الله، فيكون العامل في"أن" غير"الخوف"، ويكون"الخوف"، عاملا فيما لم يسم فاعله. (1) وذلك هو الصواب عندنا من القراءة (2) لدلالة ما بعده على صحته، وهو قوله:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله"، فكان بينا أن الأول بمعنى: إلا أن تخافوا أن لا يقيما حدود الله.
* * *
فإن قال قائل: وأية حال الحال التي يخاف عليهما أن لا يقيما حدود الله، حتى يجوز للرجل أن يأخذ حينئذ منها ما آتاها؟
قيل: حال نشوزها وإظهارها له بغضته، حتى يخاف عليها ترك طاعة الله فيما لزمها لزوجها من الحق، ويخاف على زوجها - بتقصيرها في أداء حقوقه التي ألزمها الله له - تركه أداء الواجب لها عليه. فذلك حين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله فيطيعاه فيما ألزم كل واحد منهما لصاحبه، والحال التي أباح النبي صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس بن شماس أخذ ما كان آتى زوجته إذ نشزت عليه، بغضا منها له، كما:-
4807 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، قرأت على فضيل، عن أبي حريز أنه سأل عكرمة، هل كان للخلع أصل؟ قال: كان ابن عباس يقول: إن أول خلع كان في الإسلام، أخت عبد الله بن أبي، أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدا! إني رفعت جانب الخباء، فرأيته أقبل في عدة، فإذا هو أشدهم سوادا، وأقصرهم قامة، وأقبحهم وجها! قال زوجها: يا رسول الله، إني أعطيتها أفضل مالي! حديقة، فإن ردت على حديقتي! قال:"ما تقولين؟ " قالت: نعم،
__________
(1) هذا كله قد بينه الفراء في معاني القرآن 1: 146- 147 كما أسلفنا.
(2) في المطبوعة: "في القراءة" والأجود ما في المخطوطة.(4/552)
وإن شاء زدته! قال: ففرق بينهما. (1)
4808 - حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا أبو عمرو السدوسي، عن عبد الله- يعني ابن أبي بكر-، عن عمرة عن عائشة: أن حبيبة بنت سهل كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، (2) فضربها فكسر نغضها، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الصبح، فاشتكته، فدعا رسول الله ثابتا، فقال: خذ بعض مالها وفارقها. قال: ويصلح ذاك يا رسول الله؟ قال: نعم. قال، فإني أصدقتها حديقتين، وهما بيدها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"خذهما وفارقها. ففعل. (3)
__________
(1) الحديث: 4807- المعتمر بن سليمان بن طرخان التيمي: ثقة روى عنه الأئمة: ابن مهدي وعبد الرزاق وأحمد وإسحاق وغيرهم.
فضيل- بالتصغير: هو ابن ميسرة الأزدي العقيلي وهو ثقة وثقه ابن معين وغيره.
أبو حريز: هو عبد الله بن الحيسين الأزدي البصري، قاضي سجستان وهو مختلف فيه، والحق أنه ثقة وثقه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما.
و"أبو حريز": بفتح الحاء المهملة وكسر الراء وآخره زاي معجمة. ووقع في المطبوعة وابن كثير وفتح الباري"أبو جرير" وهو تصحيف ووقع في الإصابة"ابن جرير" وهو خطأ إلى خطأ.
وهذا الحديث صحيح الإسناد. وقد نقله ابن كثير 1: 542 عن هذا الموضع. وذكره السيوطي 1: 280- 281 ولم ينسباه لغير الطبري ونقله الحافظ في الفتح 9: 351 قال: "وفي رواية معتمر بن سليمان. . . " فذكر نحوه مع شيء من الاختلاف في اللفظ. فدل على أنه نقله من رواية أخرى. ولكنه لم يبين من خرجه كعادته. سها رحمه الله. وأشار إليه في الإصابة 8: 40 في السطر 3 وما بعده. منسوبا للطبري فقط.
وقد ثبت نحو معناه من حديث ابن عباس. رواه البخاري 9: 349- 352. بأسانيد. ونقله ابن كثير عن روايات البخاري 1: 541- 542 ثم قال: "وهذا الحديث من أفراد البخاري من هذا الوجه". ثم نقل نحوه من رواية الإمام أبي عبد الله بن بطة بإسناده عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس. ثم ذكر أنه رواه ابن مردويه في تفسيره، وابن ماجه ثم قال: "وهو إسناد جيد مستقيم". ورواية ابن ماجه - هي في السنن برقم: 2056.
وقوله: "أخت عبد الله بن أبي": هي جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول رأس المنافقين. وهي أخت عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول الصحابي الجليل. نسبت هي وأخوها إلى جدهما اختصارا. وهذا هو الصحيح الذي رجحه الحافظ وغيره.
ولم يذكر في هذه الرواية -في الطبري- اسم زوجها الذي اختلعت منه، وهو ثابت بن قيس بن شماس كما دلت على ذلك الروايات الأخر. وقد ولدت لزوجها ثابت هذا ابنه محمد بن ثابت وهو مترجم في الإصابة 6: 152 وابن سعد 5: 58- 59. وقد جزم بأن أمه هي جميلة بنت عبد الله ابن أبي". وقد أبت أمه أن ترضعه بما أبغضت أباه فجاء به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"فبزق في فيه وحنكه وسماه محمدا. وقال: اختلف به فإن الله رازقه. فأتيته اليوم الأول والثاني والثالث فإذا امرأة من العرب تسأل عن ثابت بن قيس فقلت: ما تريدين منه؟ أنا ثابت. فقالت: أريت في منامي كأني أرضع ابنا له يقال له: محمد فقال: فأنا ثابت وهذا ابني محمد. قال: وإذا درعها يعتصر من لبنها". رواه الحاكم في المستدرك 2: 210- 211 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي وهو إسناد صحيح متصل لأن السياق يدل على أن محمدا هذا سمعه من أبيه وحدث به عنه. وقد ذكره الحافظ في ترجمته في الإصابة، بنحو من هذا.
وهو ييد أن المختلعة من ثابت هي جميلة هذه.
ووقع في المطبوعة: "فلتردد على حديقتي". والصواب ما أثبتنا: "فإن ردت علي حديقتي". صححناه من المخطوطة وابن كثير والسيوطي. وجواب الشرط محذوف كما هو ظاهر. وهذا فصيح كثير في كلام البلغاء.
وانظر: 4810.
(2) في المطبوعة: "بنت سهل" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) الحديث: 4808- أبو عامر: هو العقدي. عبد الملك بن عمرو.
أبو عمرو السدوسي: هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام المدني وهو ثقة. قال أبو سلمة التبوذكي: "ما رأيت كتابا أصح من كتابه". وذكره ابن حبان في الثقات. ولم يعرفه ابن معين حق معرفته كما حكى عنه ابن أبي حاتم وضعفه النسائي. ولكن ترجمه البخاري في الكبير 2/1/438 فلم يذكر فيه حرجا. وهذا كاف في توثيقه خصوصا وقد أخرج له مسلم في صحيحه.
ولم يجزم البخاري بأن سعيد بن سلمة هو أبو عمرو راوي هذا الحديث، فقال: "وقال أبو عامر: حدثنا أبو عمرو السدوسي المدني. فلا أدري هو هذا أم غيره؟ ".
وترجم في التهذيب في الأسماء 4: 41- 42 وفي الكنى 12: 181- 182 وأثبت الحافظ بالدلائل القوية أنهما راو واحد كما سيتبين من التخريج إن شاء الله.
عبد الله: هو ابن أبي بكر بن عمرو بن حزم.
والحديث رواه أبو داود: 2228 عن محمد بن معمر -شيخ الطبري فيه- بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير 1: 541 عن أبي داود والطبري. ثم قال: "وأبو عمرو السدوسي: هو سعيد بن سلمة بن أبي الحسام".
وذكره الحافظ في التهذيب 4: 41- 42 موجزا من رواية أبي داود ثم قال: "وروى هذا الحديث أحمد بن محمد بن شعيب الرجالي عن محمد بن معمر عن أبي عامر العقدي عن سعيد بن سلمة عن عبد الله بن أبي بكر بإسناده. فدلت هذه الرواية على أن أبا عمرو المذكور في رواية أبي داود-: هو سعيد بن سلمة". ثم قال: "وسيأتي في الكنى ما يقرر أنهما واحد" ثم قال في"الكنى" من التهذيب 12: 181- 182: "روى أبو محمد بن صاعد في الجزء الخامس من حديثه. حدثنا محمد ابن معمر القيسي حدثنا أبو عامر العقدي حدثنا أبو عمرو السدوسي هو سعيد بن سلمة. حدثنا هشام بن علي السيرافي بالبصرة حدثنا عبد الله بن رجاء حدثنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام حدثني عبد الله بن أبي بكر- فذكر ذلك الحديث بعينه. فتعين أن أبا عمرو المديني السدوسي المذكور هو سعيد بن سلمة".
ورواه أيضًا البيهقي 7: 315 من طريق هشام بن علي، عن عبد الله بن رجاء: "أخبرنا سعيد بن سلمة بن أبي الحسام حدثنا عبد الله بن أبي بكر. . . " فذكره بزيادة في آخره.
وهذه الطريق مثل الطريق التي حكاها الحافظ آنفًا عن أبي محمد بن صاعد وهي تيد ما قاله وقلناه.
وذكره السيوطي 1: 280، وزاد نسبته لعبد الرزاق ولم أجده في التفسير ولا في المنصف لعبد الرزاق ولعله خفي على موضعه في واحد منهما.
قوله"فكسر نغصها"- النغص، بضم النون وسكون الغين المعجمة وآخره ضاد معجمة: العظم الرقيق على طرف الكتف. وهذا هو الصواب في هذا الحرف هنا. وثبت في المطبوعة"بعضها" وكذلك في النسخ المطبوعة من سنن أبي داود إلا في نسخة بهامش طبعة الهند ذكرت على الصواب. وهو الصحيح الثابت في مخطوطة الشيخ عابد السندي واضحة مضبوطة لا تحتمل تصحيفا. وييد ذلك ويقويه: أن رواية البيهقي"فكسر يدها" وأما كلمة"بعضها"- فإنها قلقة في هذا الموضع غير مستساغة.
وانظر الحديث التالي لهذا.(4/553)
4809 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا روح قال، حدثنا مالك، عن يحيى، عن عمرة أنها أخبرته عن حبيبة بنت سهل الأنصارية: أنها كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآها عند بابه بالغلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذه؟ قالت: أنا حبيبة بنت سهل، لا أنا ولا ثابت بن قيس!! = لزوجها= فلما جاء ثابت قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: وهذه حبيبة بنت سهل تذكر ما شاء الله أن تذكر! . فقالت حبيبة: يا رسول الله، كل ما أعطانيه عندي. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ منها. فأخذ منها، وجلست في بيتها. (1)
__________
(1) الحديث: 4809- ابن بشار: هو محمد بن بشار شيخ الطبري وأصحاب الكتب الستة مضت ترجمته في: 304 ووقع في المطبوعة"أبو يسار"!! وهو تصحيف قبيح. صحح من المخطوطة. روح: هو ابن عبادة.
يحيى- شيخ مالك: هو الأنصاري. النجاري مضت ترجمته: 2154 ووقع هناك في ترجمته"البخاري" وهو خطأ مطبعي. ومضى على الصواب في: 3395. وهو"يحيى بن سعيد بن قيس بن عمرو بن سهل بن ثعلبة". فتكون"بيبة بنت سهل بن ثعلبة" صاحبة الحديث والقصة- عمة جده"قيس بن عمرو".
والحديث في الموطأ ص: 564. ورواه الشافعي عن مالك في الأم 5: 101، 179.
ورواه أحمد في المسند 6: 433- 434 (حلبي) عن عبد الرحمن بن مهدي عن مالك. ورواه أبو داود 2227، عغن القعنبي عن مالك ورواه النسائي 2: 104 من طريق ابن القاسم عن مالك ورواه ابن حبان في صحيحه 6: 436- 437 (من مخطوطة الإحسان) من طريق أبي مصعب أحمد بن أبي بكر، عن مالك ورواه البيهقي 7: 312- 313 من طريق أبي داود.
ورواه عبد الرزاق في المصنف (مخطوط مصور) ج 4 في الورقة: 17 عن ابن جريج عن يحيى بن سعيد به.
ورواه الشافعي في الأم -في الموضعين عقب روايته عن مالك- عن سفيان بن عيينة عن يحيى ابن سعيد.
ورواه ابن سعد في الطبقات 8: 326 في ترجمة"حبيبة"- عن يزيد بن هرون عن يحيى بن سعيد عن عمرة: "أن حبيبة بنت سهل. . . " فذكره مرسلا.
ثم رواه عن عارم بن الفضل عن حماد بن زيد عن يحيى بن سعيد -فذكره معضلا حذف منه التابعية والصحابية وقد تبين من الروايات السابقة أن هذا والذي قبله متصلان على ما في ظاهرهما من الانقطاع. وذكره متصلا ابن كثير 1: 541 والسيوطي 1: 280.(4/555)
4810 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسن بن واقد، عن ثابت، عن عبد الله بن رباح، عن جميلة بنت أبي ابن سلول، أنها كانت عند ثابت بن قيس فنشزت عليه، فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"يا جميلة، ما كرهت من ثابت؟ قالت: والله ما كرهت منه دينا ولا خلقا، إلا أني كرهت دمامته! فقال لها: أتردين الحديقة" قالت: نعم! فردت الحديقة وفرق بينهما. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وقد ذكر أن هذه الآية نزلت في شأنهما- أعني في شأن ثابت بن قيس وزوجته هذه.
__________
(1) الحديث: 4810- يحيى بن واضح: هو أبو تميلة مضت ترجمته في: 392.
الحسين بن واقد المروزي قاضي مرو: ثقة وثقه ابن معين وأثنى عليه أحمد. وقال فيه ابن المبارك: "ومن لنا مثل الحسين". ووقع في المطبوعة"الحسن" وهو خطأ بين. ثابت: هو البناني.
عبد الله بن رباح الأنصاري: تابعي ثقة، وثقه ابن سعد والنسائي وغيرهما وقال ابن خراش: "وهو رجل جليل".
وهذا الإسناد صحيح. ولم أجده إلا عند الطبري هنا وعند ابن عبد البر في الاستيعاب فرواه ابن عبد البر ص: 732- 733 عن عبد الوارث بن سفيان عن قاسم بن أصبغ عن أحمد بن زهير عن محمد بن حميد الرازي -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد.
وقد تبين من هذه الأحاديث الأربعة: 4807- 4810 ومن غيرها من الروايات الصحيحة -الاختلاف فيمن اختلعت من ثابت بن قيس بن شماس: أهي جميلة بنت عبد الله بن أبي سلول أم حبيبة بنت سهل؟ فالراجح أنهما كلتاهما اختلعتا منه. وهو الذي رجحه الحافظ في الفتح 9: 350 وارتضاه. قال: "والذي يظهر أنهما قصتان وقعتا لامرأتين. لشهرة الخبرين وصحة الطريقين واختلاف السياقين".
وانظر الإصابة 8: 39- 40، 42، 49.(4/556)
4811 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، نزلت هذه الآية في ثابت بن قيس وفي حبيبة قال، وكانت اشتكته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: تردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم! فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: ويطيب لي ذلك؟ قال:"نعم"، قال ثابت: قد فعلت فنزلت:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها".
* * *
وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في معنى"الخوف" منهما أن لا يقيما حدود الله.
فقال بعضهم: ذلك هو أن يظهر من المرأة سوء الخلق والعشرة لزوجها، فإذا ظهر ذلك منها له، حل له أن يأخذ ما أعطته من فدية على فراقها.
* ذكر من قال ذلك:
4812 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، إلا أن يكون النشوز وسوء الخلق من قبلها، فتدعوك إلى أن تفتدي منك، فلا جناح عليك فيما افتدت به.
4813 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، قال ابن جريح: أخبرني هشام بن عروة أن عروة كان يقول: لا يحل الفداء حتى يكون الفساد من قبلها، ولم يكن يقول:"لا يحل له"، حتى تقول:"لا أبر لك قسما، ولا اغتسل لك من جنابة".
4814 - حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن جريج قال،(4/557)
أخبرني عمرو بن دينار قال، قال جابر بن زيد: إذا كان الشر من قبلها حل الفداء. (1)
4815- حدثنا الربيع بن سليمان قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني ابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة أن أباه كان يقول إذا كان سوء الخلق وسوء العشرة من قبل المرأة فذاك يحل خلعها.
4816 - حدثني علي بن سهل قال، حدثنا محمد بن كثير، عن حماد، عن هشام، عن أبيه أنه قال: لا يصلح الخلع، حتى يكون الفساد من قبل المرأة.
4817 - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد قال، حدثنا محمد بن يزيد، عن إسماعيل، عن عامر في امرأة قالت لزوجها: لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة! قال: ما هذا- وحرك يده-"لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا"!! إذا كرهت المرأة زوجها فليأخذه وليتركها.
4818 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد بن جبير أنه قال في المختلعة: يعظها، فإن انتهت وإلا هجرها، فإن انتهت وإلا ضربها، فإن انتهت وإلا رفع أمرها إلى السلطان، فيبعث حكما من أهله وحكما من أهلها، فيقول الحكم الذي من أهلها: تفعل بها كذا وتفعل بها كذا! ويقول الحكم الذي من أهله: تفعل به كذا وتفعل به كذا. فأيهما كان أظلم رده السلطان وأخذ فوق يده، وإن كانت ناشزا أمره أن يخلع.
4819 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" الطلاق مرتان فإمساك بمعروف" إلى قوله:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به". قال: إذا كانت المرأة راضية مغتبطة مطيعة، فلا يحل له أن يضربها، حتى تفتدي منه. فإن أخذ منها شيئا على ذلك، فما أحذ منها فهو حرام، وإذا كان النشوز والبغض والظلم من قبلها، فقد حل له أن يأخذ منها ما افتدت به.
__________
(1) في المطبوعة: "إذا كان النشز" كأنه ظنه مصدر"نشز" ولكن المصدر"نشوز" لا غير وهذا وهم من الطابع. أما المخطوطة ففيها ما أثبته وهو الصواب المحض.(4/558)
4820 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري في قوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، قال: لا يحل للرجل أن يخلع امرأته إلا أن تؤتى ذلك منها، (1) فأما أن يكون يضارها حتى تختلع، فإن ذلك لا يصلح، ولكن إذا نشزت فأظهرت له البغضاء، وأساءت عشرته، فقد حل له خلعها.
4821 - حدثنا يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، قال: الصداق" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله" - وحدود الله أن تكون المرأة ناشزة، فإن الله أمر الزوج أن يعظها بكتاب الله، فإن قبلت وإلا هجرها، والهجران أن لا يجامعها ولا يضاجعها على فراش واحد، ويوليها ظهره ولا يكلمها، فإن أبت غلظ عليها القول بالشتيمة لترجع إلى طاعته، (2) فإن أبت فالضرب ضرب غير مبرح، فإن أبت إلا جماحا فقد حل له منها الفدية.
* * *
وقال آخرون: بل"الخوف" من ذلك: أن لا تبر له قسما، ولا تطيع له أمرا، وتقول: لا أغتسل لك من جنابة، ولا أطيع لك أمرا فحينئذ يحل له عندهم أخذ ما آتاها على فراقه إياها.
* ذكر من قال ذلك:
4822 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه قال، قال الحسن: إذا قالت:"لا أغتسل لك من جنابة، ولا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا"، فحينئذ حل الخلع.
4823 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن قال، إذا قالت المرأة لزوجها: لا أبر لك قسما، ولا أطيع
__________
(1) في المطبوعة: إلا أن يرى ذلك" وهي لا شيء. وفي المخطوطة: "إلا أن لك لوني" غير منقوطة وهذا صواب قراءتها إن شاء الله.
(2) في المطبوعة: "غلظ عليها" والجيد من المخطوطة ما أثبته.(4/559)
لك أمرا، ولا أغتسل لك من جنابة، ولا أقيم حدا من حدود الله"، فقد حل له مالها.
4824 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن محمد بن سالم قال، سألت الشعبي، قلت: متى يحل للرجل أن يأخذ من مال امرأته؟ قال: إذا أظهرت بغضه وقالت:"لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا".
4825 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي أنه كان يعجب من قول من يقول: لا تحل الفدية حتى تقول:"لا أغتسل لك من جنابة". وقال: إن الزاني يزني ثم يغتسل! .
4826 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم في الناشز قال، إن المرأة ربما عصت زوجها، ثم أطاعته، ولكن إذا عصته فلم تبر قسمه، فعند ذلك تحل الفدية.
4827 - حدثني موسى قال، (1) حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، لا يحل له أن يأخذ من مهرها شيئا=" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، فإذا لم يقيما حدود الله، فقد حل له الفداء، وذلك أن تقول:"والله لا أبر لك قسما، ولا أطيع لك أمرا، ولا أكرم لك نفسا، ولا أغتسل لك من جنابة"، فهو حدود الله، فإذا قالت المرأة ذلك فقد حل الفداء للزوج أن يأخذه ويطلقها.
4828 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام قال، حدثنا عنبسة، عن علي بن بذيمة، عن مقسم في قوله: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يفحشن) [سورة النساء: 19] ، في قراءة ابن مسعود، قال إذا عصتك وآذتك، فقد حل لك ما أخذت منها. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "حدثني يونس" وهو خطأ محض والصواب من المخطوطة وهو مع ذلك إسناد دائر في التفسير لا يختلف عليه.
(2) الأثر: 4828- سيأتي هذا الأثر بنصه وإسناده في تفسير سورة النساء 4: 212 (بولاق) وقد كان في المخطوطة والمطبوعة هنا". . . ببعض ما آتيتموهن يقول إلا أن يفحش" وزيادة"يقول" من النساخ والصواب من ذلك الموضع من تفسير آية النساء. وسيأتي هناك: "إذ عضلتك وآذتك" والصواب ما هنا.(4/560)
4829 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد في قوله:" ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا"، قال: الخلع، قال: ولا يحل له إلا أن تقول المرأة:" لا أبر قسمه ولا أطيع أمره"، فيقبله خيفة أن يسيء إليها إن أمسكها، ويتعدى الحق. (1)
* * *
وقال آخرون: بل" الخوف" من ذلك أن تبتدئ له بلسانها قولا أنها له كارهة. (2)
* ذكر من قال ذلك:
4830 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، قال: حدثنا أبي وشعيب بن الليث، عن الليث، عن أيوب بن موسى، عن عطاء بن أبي رباح، قال: يحل الخلع أن تقول المرأة لزوجها:" إني لأكرهك، وما أحبك، ولقد خشيت أن أنام في جنبك ولا أؤدي حقك" - وتطيب نفسا بالخلع. (3)
* * *
وقال آخرون: بل الذي يبيح له أخذ الفدية، أن يكون خوف أن لا يقيما حدود الله منهما جميعا لكراهة كل واحد منهما صحبة الآخر.
* ذكر من قال ذلك:
4831 - حدثنا حميد بن مسعدة قال: حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا داود، عن عامر = حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن داود، قال: قال
__________
(1) في المطبوعة: "أو يتعدى الحق" والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "أن تبتذله بلسانها" جعل مكان"تبتدئ له""تبتذله" كأن الناسخ أدمج الكلمتين وأخرج منهما كلمة واحدة. وفي المخطوطة: "سرى" غير منقوطة ولو قرئت: "تنبري" لكان صوابا أيضًا.
(3) في المطبوعة: "وتطيب نفسك" خطأ صرف والصواب من المخطوطة. ويعني أن تقول المرأة ذلك للرجل ثم تطيب هي نفسا بالخلع.(4/561)
عامر =: أحل له مالها بنشوزه ونشوزها.
4832 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: قال ابن جريج، قال طاوس: يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره، ولم يكن يقول قول السفهاء:" لا أبر لك قسما"، ولكن يحل له الفداء ما قال الله تعالى ذكره:" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله"، فيما افترض لكل واحد منهما على صاحبه في العشرة والصحبة.
4833 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول:" إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله" قال: فيما افترض الله عليهما في العشرة والصحبة.
4834 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني ابن شهاب، قال: أخبرني سعيد بن المسيب، قال: لا يحل الخلع حتى يخافا أن لا يقيما حدود الله في العشرة التي بينهما.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة قول من قال: لا يحل للرجل أخذ الفدية من امرأته على فراقه إياها، حتى يكون خوف معصية الله من كل واحد منهما على نفسه - في تفريطه في الواجب عليه لصاحبه - منهما جميعا، على ما ذكرناه عن طاوس والحسن، ومن قال في ذلك قولهما; لأن الله تعالى ذكره إنما أباح للزوج أخذ الفدية من امرأته، عند خوف المسلمين عليهما أن لا يقيما حدود الله.
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت فالواجب أن يكون حراما على الرجل قبول الفدية منها إذا كان النشوز منها دونه، حتى يكون منه من الكراهة لها مثل الذي يكون منها؟ (1)
__________
(1) في المطبوعة: "منها له" بزيادة"له" وأثبت ما في المخطوطة.(4/562)
قيل له: إن الأمر في ذلك بخلاف ما ظننت، وذلك أن في نشوزها عليه داعية له إلى التقصير في واجبها ومجازاتها بسوء فعلها به، وذلك هو المعنى الذي يوجب للمسلمين الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله. فأما إذا كان التفريط من كل واحد منهما في واجب حق صاحبه قد وجد وسوء الصحبة والعشرة قد ظهر للمسلمين، فليس هناك للخوف موضع، إذ كان المخوف قد وجد. وإنما يخاف وقوع الشيء قبل حدوثه، فأما بعد حدوثه فلا وجه للخوف منه ولا الزيادة في مكروهه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله تعالى:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله" - التي إذا خيف من الزوج والمرأة أن لا يقيماها، حلت له الفدية من أجل الخوف عليهما تضييعها. (2) فقال بعضهم: هو استخفاف المرأة بحق زوجها وسوء طاعتها إياه، وأذاها له بالكلام.
* ذكر من قال ذلك:
4835 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: هو تركها إقامة حدود الله، واستخفافها بحق
__________
(1) هذا من الفهم والبصر بطبائع البشر، قد علم الله أبا جعفر كيف يقول في تفسير الكتاب وكيف ينتزع الحجة على الصواب من كل وجه يكون البيان عنه دقيقا عسيرا على من لم يوقفه الله لفهمه وإدراكه.
(2) في المطبوعة: "بصنيعها" وهو كلام فاسد بلا معنى مفهوم. وكان في المخطوطة"بصنيعها" غير منقوطة فقرأها من قرأها بلا روية. وقوله"تضييعها" مفعول به للمصدر وهو"الخوف" والمعنى من أجل الخوف عليهما أن يضيعا حدود الله.(4/563)
زوجها، (1) وسوء خلقها، فتقول له:" والله لا أبر لك قسما، ولا أطأ لك مضجعا، ولا أطيع لك أمرا"، فإن فعلت ذلك فقد حل له منها الفدية.
4836 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبى بن أبي زائدة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في قوله:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: إذا قالت:" لا اغتسل لك من جنابة"، حل له أن يأخذ منها. (2)
4837 - حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: حدثنا يونس، عن الزهري قال: يحل الخلع حين يخافا أن لا يقيما حدود الله، وأداء حدود الله في العشرة التي بينهما.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فإن خفتم أن لا يطيعا الله.
* ذكر من قال ذلك:
4838 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن عامر:" فإن خفتم ألا يقيما حدود الله" قال: أن لا يطيعا الله.
4839 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الحدود: الطاعة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك: فإن خفتم ألا يقيما حدود الله ما
__________
(1) في المطبوعة: "واستخفافها. . ز" بزيادة"الواو" والصواب من المخطوطة وهو تفسير لقوله: "تركها إقامة حدود الله" كأن عاد فقال: "وتركها إقامة حدود الله استخفافها. . . "
(2) الأثر: 4831-"يزيد بن إبراهيم التستري" أبو سعيد البصري التميمي روى عن الحسن وابن سيرين. وابن أبي مليكة وعطاء وقتادة وغيرهم. وروى عنه وكيع وبهز بن أسد وعبد الرحمن ابن مهدي وأبو داود الطيالسي وغيرهم وهو ثقة ثبت من أوسط أصحاب الحسن وابن سيرين. مات سنة 161.(4/564)
أوجب الله عليهما من الفرائض، (1) فيما ألزم كل واحد منهما من الحق لصاحبه، من العشرة بالمعروف، والصحبة بالجميل، فلا جناح عليهما فيما افتدت به.
وقد يدخل في ذلك ما رويناه عن ابن عباس والشعبي، وما رويناه عن الحسن والزهري، لأن من الواجب للزوج على المرأة - إطاعته فيما أوجب الله طاعته فيه، (2) وأن لا تؤذيه بقول، (3) ولا تؤذيه بقول (4) ، تمتنع عليه إذا دعاها لحاجته، فإذا خالفت ما أمرها الله به من ذلك كانت قد ضيعت حدود الله التي أمرها بإقامتها. (5)
* * *
وأما معنى" إقامة حدود الله"، فإنه العمل بها، والمخالفة عليها، وترك تضييعها- وقد بينا ذلك فيما مضى قبل من كتابنا هذا بما يدل على صحته. (6)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
قال أبو جعفر: يعني قوله تعالى ذكره بذلك: فإن خفتم أيها المؤمنون ألا يقيم الزوجان ما حد الله لكل واحد منهما على صاحبه من حق، وألزمه له من فرض، وخشيتم عليهما تضييع فرض الله وتعدي حدوده في ذلك فلا جناح حينئذ عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، ولا حرج عليهما= فيما أعطت هذه على
__________
(1) في المطبوعة: "فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله ما اوجب" بزيادة"حدود الله" بين شقي الكلام والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: ". . . على المرأة إطاعته" وهو تغيير لا موجب له، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: " وأن لا تؤذيه بقول"، بزيادة" أن"ليستقيم لهم ما درجوا عليه من العبارة. وأبو جعفر يحسن أن يبين عن نفسه.
(4) الأثر 5919 "محمد بن محمد العطار "، لعله محمد بن محمد بن عمر بن الحكم يعرف بابن العطار ترجم له الخطيب في تاريخه 3: 203، 204 مات سنة 268. هذا إذا لم يكن في اسمه تحريف ويكون هو " محمد بن مخلد العطار " مترجم في تاريخ بغداد 3: 30. و"أحمد" هو: أحمد بن إسحاق الأهوازي شيخ الطبري، مضت ترجمته في رقم: 177، 1841 أو لعله أحمد بن يوسف التغلبي، كما سيأتي في رقم: 5954 وهو الأرجح عندي. "وأبو وائل" هو " أبو وائل القاص المرادي الصنعاني اليماني" روى عن هانئ مولى عثمان. مترجم في الكبير 4 / 2 452. ويقال هو نفسه " عبد الله بن بحير الصنعاني القاص"، روى عن هانئ أيضًا مترجم في ابن أبي حاتم 2 / 2 / 15، والتهذيب. وهذا الأثر في الدر المنثور 1: 323.
(5) في المطبوعة: ". . . أمرها بإدامتها" ثم"أما معنى إدامة حدود الله" وهو خطأ ظاهر في هذا الموضع.
(6) انظر ما سلف في تفسير"إقامة الصلاة" 1: 241، و"حدود الله" 3: 546، 547(4/565)
فراق زوجها إياها (1) ولا على هذا فيما أخذ منها من الجعل والعوض عليه. (2)
* * *
فإن قال قائل: وهل كانت المرأة حرجة لو كان الضرار من الرجل بها فيما افتدت به نفسها، (3) فيكون"لا جناح عليهما" فيما أعطته من الفدية على فراقها (4) إذا كان النشوز من قبلها. (5)
قيل: لو علمت في حال ضراره بها ليأخذ منها ما آتاها أن ضراره ذلك إنما هو ليأخذ منها ما حرم الله عليه أخذه على الوجه الذي نهاه الله عن أخذه منها، ثم قدرت أن تمتنع من إعطائه بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا حق عليها في ذهاب حق لها - لما حل لها إعطاؤه ذلك، إلا على وجه طيب النفس منها بإعطائه إياه على ما يحل له أخذه منها. لأنها متى أعطته ما لا يحل له أخذه منها، وهي قادرة على منعه ذلك بما لا ضرر عليها في نفس، ولا دين، ولا في حق لها تخاف ذهابه، فقد شاركته في الإثم بإعطائه ما لا يحل له أخذه منها على الوجه الذي أعطته
__________
(1) في المخطوطة: "على موافق زوجها إياها" كلمة غير منقوطة ولا مقروءة كأنها كانت"على مفارقة" ثم أفسدها ناسخ. والذي في المطبوعة جيد أيضًا.
(2) انظر ما سلف في تفسير"الجناح" بالإثم والحرج 3: 230، 231/ وهذا الجزء 4: 162، 163
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "حتى افتدت" وهو لا يستقيم والذي يدل عليه سياق الآية وسياق الكلام أن تكون"فيما افتدت". كما أثبت وسياق الكلام: "وهل كانت المرأة حرجة. . . فيما افتدت به نفسها""لو كان الضرار من الرجل بها".
وأما قوله: "حرجة" فهي: آثمة. وقد مضى آنفًا ما علقته على استعمال أبي جعفر والباقلاني هذه الصفة وأنها صواب وإن عدها أهل اللغة خطأ انظر ما سلف 2: 423 تعليق: 1/ ثم هذا الجزء 4: 224 تعليق 1/ ثم أيضًا ص: 475 تعليق 2/ ثم ما سيأتي في هذه الصفحة والصفحات التالية.
(4) في المطبوعة: "فيكون لا جناح عليها" بإفراد الضمير في"عليها" وهو خطأ مفسد لمعنى الكلام كما سيتبين ذلك في شرح السؤال في التعليق التالي. والصواب من المخطوطة.
(5) رحم الله أبا جعفر: لشد ما وثق بتتبع كان قارئ لكل ما يقول حتى إنه ليغمض أحيانا إغماضا يشق على المرء إذا لم يتتبع آثاره في النظر والتفكير. وهذا الاعتراض الذي ساقه في صيغة سؤال محتاج إلى بيان يكشف عن معناه وعن معنى جوابه إن شاء الله.
فهذا السؤال مبني على سؤال آخر وهو: كيف قيل: "لا جناح عليهما" بالتثنية و"الجناح" على الرجل وحده في أخذه شيئا مما آتى امرأته من مهر أو صداق. "فهذا الجناح" هو إتيانه ما حرم الله عليه إتيانه من الأخذ فكيف جمع بينهما في وضع"الجناح" والجناح على أحدهما دون الآخر؟
ولا يجوز ان يجمع بينهما في وضع"الجناح" وإسقاطه حتى يكون على المرأة"جناح" في الإعطاء كجناح الرجل في الأخذ. فإذا صح أنه محرم على المرأة إعطاء زوجها في حال من الأحوال صح عندئذ أن يجمع بينهما في وضع"الجناح" فيقال: "فلا جناح عليهما" في الأخذ والإعطاء.
فمن أجل ذلك سأل هذا السائل عن المرأة إذا أعطت زوجها من مالها في الحال التي يكون ضرار الرجل فيها داعية إلى"الإعطاء" أتكون آثمة بإعطائها ما أعطت أم غير آثمة؟ فإذا صح أنها آثمة بالإعطاء في حال ضرار الرجل بها، جاز عندئذ أن يجمع بينهما فيقال في حال نشوزها: "لا جناح عليهما" في الأخذ والإعطاء. * * *
هذا ولم أجد أحدا تناول هذا السؤال بالتفصيل والبيان كما تناوله أبو جعفر. وقد سأل مثل هذا السؤال أو قريبا منه الفراء في معاني القرآن 1: 147 وأجاب عنه بجواب سيرده الطبري فيما بعد. وتناوله الشافعي مختصرا من وجه آخر في الأم 5: 179 ولكن جوابه عنه غير واضح ولا محكم أما الطبري فقد انفرد بها الاستقصاء الدقيق لوجوه الفدية وإثم الرجل في الأخذ وإثم المرأة في الإعطاء.(4/566)
عليه. فلذلك وضع عنها الجناح إذا كان النشوز من قبلها، (1) وأعطته ما أعطته من الفدية بطيب نفس، ابتغاء منها بذلك سلامتها وسلامة صاحبها من الوزر والمأثم.
وهي= إذا أعطته على هذا الوجه= باستحقاق الأجر والثواب من الله تعالى= أولى إن شاء الله من الجناح والحرج، (2) ولذلك قال تعالى ذكره:" فلا جناح عليهما" فوضع الحرج عنها فيما أعطته على هذا الوجه من الفدية على فراقه إياها، وعنه فيما قبض منها إذ كانت معطية على المعنى الذي وصفنا، وكان قابضا منها ما أعطته من غير ضرار، بل طلب السلامة لنفسه ولها في أديانهما وحذار الأوزار والمأثم. (3)
وقد يتجه قوله:" فلا جناح عليهما" وجها آخر من التأويل وهو أنها لو بذلت ما بذلت من الفدية على غير الوجه الذي أذن نبي الله صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت بن قيس بن شماس= وذلك لكراهتها أخلاق زوجها، أو دمامة خلقه، وما أشبه ذلك من الأمور التي يكرهها الناس بعضهم من بعض- ولكن على الانصراف
__________
(1) في المطبوعة: "فكذلك وضع الجناح" وهو خطأ والصواب من المخطوطة.
(2) سياق عبارته"وهي. . . باستحقاق الأجر. . . أولى من الجناح والحرج".
(3) في المخطوطة: "طلب السلامة لنفسه ولها في أورالها" غير معجمة ولا بينة المعنى وتركت ما في المطبوعة لأنه مطابق للسياق.(4/567)
منها بوجهها إلى آخر غيره على وجه الفساد وما لا يحل لها- كان حراما عليها أن تعطي على مسألتها إياه فراقها على ذلك الوجه شيئا، لأن مسألتها إياه الفرقة على ذلك الوجه معصية منها. (1) وتلك هي المختلعة - إن خولعت على ذلك الوجه - التي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سماها"منافقة"، كما:
4840 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني المعتمر بن سليمان، عن ليث، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"أيما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير بأس، حرم الله عليها رائحة الجنة". (2)
وقال:"المختلعات هن المنافقات"
4841 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا مزاحم بن دواد بن علية، عن أبيه، عن ليث بن أبي سليم، عن أبي الخطاب عن أبي زرعة، عن أبي إدريس، عن ثوبان مولى رسول الله، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: والمختلعات هن المنافقات" (3)
4842 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا حفص بن بشر، قال: حدثنا قيس بن الربيع، عن أشعث بن سوار، عن الحسن، عن ثابت بن يزيد، عن عقبة
__________
(1) في المطبوعة: "معصية منها لله" بالزيادة وأثبت ما في المخطوطة.
(2) الحديث: 4840- ليث: هو ابن أبي سليم. أبو إدريس: هو الخولاني عائذ الله ابن عبد الله ثقة من كبار التابعين القدماء الفقهاء. وليث لم يسمع هذا الحديث منه، كما يظهر من الإسناد التالي لهذا بينهما روايان.
والحديث في حقيقته حديثان وسيأتي تخريج كل منهما.
(3) الحديث: 4841- مزاحم بن ذواد بن علبة: حسن الحديث على الأقل. بل هو ثقة. قال أبو حاتم: "يكتب حديثه ولا يحتج به" وقال النسائي: "لا بأس به" وترجمه البخاري في الكبير 4/2/23 فلم يذكر فيه جرحا.
أبوه"ذاود بن علبة": مضت ترجمته في شرح: 851.
أبو الخطاب: ترجمه ابن أبي حاتم 4/2/365 وسأل أباه عنه، فقال: "هو مجهول". وسأل أبو زرعة فقال: "لا أعرفه" وذكره البخاري في الكنى رقم: 220 ولم يذكر فيه جرحا فهو حسن الحديث على الأقل.
أبو زرعة: رجح الحافظ في التهذيب في ترجمة أبي الخطاب 12: 86- 87 أنه"أبو زرعة بن عمرو بن جرير" التابعي الثقة- تبعا لابن مندة وابن عبد البر وذكر أنهما تبعا في ذلك ابن أبي حاتم إذ قال في ترجمة أبي الخطاب أنه"روى عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير". وحقا قد قال ذلك ابن أبي حاتم ولكن سها الحافظ عن أنه تراجع عن ذلك في ترجمة"أبي زرعة" فقط دون نسب 4/2/374 فذكر أنه روى عن أبي إدريس عن ثوبان وانه روى عنه أبو الخطاب. وذكر أنه سأل أباه: "من أبو زرعة هذا؟ فقال: مجهول" وقد ذكره البخاري في الكنى رقم: 283 ولم يذكر فيه جرحا أيضًا.
والحديث رواه الترمذي 2: 216- 217 عن أبي كريب شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد.
ثم قال: "هذاحديث غريب من هذا الوجه. وليس إسناده بالقوي".
وانظر الحديثين الآتيين: 4843، 4844.(4/568)
بن عامر الجهني، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن المختلعات المنتزعات هن المنافقات. (1)
4843 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب= وحدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية = قالا جميعا: حدثنا أيوب، عن أبي قلابة، عمن حدثه، عن ثوبان:
__________
(1) الحديث: 4842- حفص بن بشر: لم أجد له ترجمة إلا في ابن أبي حاتم 1/2/170 قال: "روى عن يعقوب القمي روى عنه أبو كريب". ولم يذكر فيه جرحا.
قيس بن الربيع الأسدي الكوفي: مختلف فيه، ورجحنا توثيقه في المسند: 661، 7115. وقد وثقه الثوري وشعبة وغيرهما. الحسن: هو البصري.
ثابت بن يزيد: هكذا هو هنا وفي ابن كثير نقلا عن الطبري. ولم أستطع أن أجزم بشيء فيه، فليس في رجال الكتب الستة من يسمى بهذا في هذه الطبقة طبقة التابعين الذين يروى عنهم مثل الحسن البصري.
وهناك"ثابت بن يزيد الخولاني": ترجمه البخاري في الكبير 1/2/172 وابن أبي حاتم 1/1/459- 460. وهو يروي عن ابن عمر وقال بعضهم"عن ابن عمه عن ابن عمر". وهو الصحيح فهذا متأخر قليلا. ومن المحتمل أن يكون هو الذي هنا. فقد ترجمه الحافظ في لسان الميزان 2: 80 ووصفه بأنه"المصري" وذكر أنه روى عن أبي هريرة وعن ابن عباس. وأنه ذكره ابن حبان في الثقات. ومن المعروف أن عقبة بن عامر ولى إمرة مصر سنة 44- 47 من قبل معاوية وعاش بها إلى أن مات ودفن بالمقطم رضي الله عنه وأرخ موته سنة 58. فهو مقارب لوفاة أبي هريرة وابن عباس.
وهناك آخر لم يذكر نسبه. ترجم باسم"ثابت الطائفي"- عند البخاري 1/2/165 وابن أبي حاتم 1/1/461. وذكر كلاهما أنه"رأى جابر بن عبد الله أتى عقبة بن عامر" فسأله عن حديث.
والحديث نقله ابن كثير 1: 540 عن الطبري، ولم ينسبه لغيره. وقال: "غريب من هذا الوجه ضعيف". وذكره السيوطي أيضًا 1: 283 ولم ينسبه لغير الطبري.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ج5 ص5، وقال: "رواه الطبراني. وفيه قيس بن الربيع وثقه الثوري وشعبة وفيه ضعف. وبقية رجاله رجال الصحيح". هكذا قال! ولا أدري أخطأ هو أم صواب؟ فإن كان إسناد الطبراني فوق قيس بن الربيع كإسناد الطبري- كان خطأ غريبا. فإن ثابت ابن يزيد لم نعرف من هو كما ترى! وليس في رجال الصحيح بهذا الاسم إلا"ثابت بن يزيد الأحول" روى له أصحاب الكتب الستة، ولكنه متأخر جدا عن هذه الطبقة، مات سنة 169. أي بعد عقبة بن عامر بأكثر من مائة سنة وعشر سنين وبعد الحسن البصري بنحو ستين سنة.
وقوله" المنتزعات": الظاهر أن معناها معنى"المختلعات": كأنها تنتزع نفسها من عقد الزواج ومن سلطان الزوج عليها. وهذا الحرف ثابت هكذا في جميع المراجع لهذا الحديث، إلا مخطوطة الطبري ففيها"المتبرعات"! ولا معنى لها في هذا السياق، فهي تصحيف.
وهناك حديث في هذا المعنى فيه حرف قريب من هذا: رواه أبو نعيم في الحلية 8: 375- 376، من طريق محمد بن هارون الحضرمي -أبي حامد- عن الحسين بن علي بن الأسود العجلي عن وكيع عن الثوري عن الأعمش عن أبي وائل عن عبد الله -هو ابن مسعود- مرفوعا: "المختلعات والمتبرجات هن المنافقات". فهذا الحرف"المتبرجات" لعله محرف عن"المنتزعات" فإني لا أثق بتصحيح طبعة كتاب الحلية. وقد وقع في إسناد الحديث نفسه فيها خطأ آخر، ثبت فيه"حدثنا فليح" بدل"حدثنا وكيع"! في حين أن كلام أبي نعيم عقبه يدل على الصواب، إذ قال: "غريب من حديث الأعمش والثوري، تفرد به وكيع".
وهذا الحديث نفسه -أعني حديث ابن مسعود- رواه الخطيب في تاريخ بغداد 3: 358 في ترجمة"أبي حامد محمد بن هارون" -من طريق الدارقطني عن محمد بن هارون عن حسين بن علي بن الأسود، عن وكيع -بهذا الإسناد مرفوعا: "المختلعات هن المنافقات". بدون ذكر"المتبرجات" وقال الخطيب: "قال لي الحسن: قال الدارقطني: ما حدث به غير أبي حامد".
وأصح من هذه الروايات كلها ما رواه أحمد في المسند: 9347 (2: 414 حلبي) من حديث الحسن عن أبي هريره. مرفوعا: "المختلعات والمنتزعات هن المنافقات". وهو حديث صحيح بينا صحته وفصلنا القول في تخريجه في المسند في شرح الحديث: 7138ج 12ص 114- 116.(4/569)
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أيما امرأة سألت زوجها طلاقا من غير بأس، فحرام عليها رائحة الجنة. (1)
4844 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد،
__________
(1) الحديث: 4843- هذا الإسناد فيه مجهول وقد تبين من الإسناد التالي أنه"أبو أسماء الرحبي". وهكذا رواه أحمد في المسند 5: 277 (حلبي) عن ابن عليه، بهذا الإسناد وكذلك رواه الترمذي 2: 217 عن محمد بن بشار عن عبد الوهاب الثقفي، به. وهو الطريق الأول للطبري هنا في هذا الإسناد. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن".(4/570)
عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أبي أسماء الرحبي، عن ثوبان، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه. (1)
* * *
فإذا كان من وجوه افتداء المرأة نفسها من زوجها ما تكون به حرجة، وعليها في افتدائها نفسها على ذلك الحرج والجناح= وكان من وجوهه ما يكون الحرج والجناح فيه على الرجل دون المرأة ومنه ما يكون عليهما ومنه ما لا يكون عليهما فيه حرج ولا جناح= قيل في الوجه: الذي لا حرج عليهما فيه لا جناح، (2) إذ كان فيما حاولا وقصدا من افتراقهما بالجعل الذي بذلته المرأة لزوجها=:"لا جناح عليهما فيما افتدت به" من الوجه الذي أبيح لهما، وذلك، أن يخافا أن لا يقيما حدود الله بمقام كل واحد منهما على صاحبه.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل العربية أن في ذلك وجهين: (3)
__________
(1) الحديث: 4844- هذا إسناد صحيح. أبو أسماء الرحبي: هو عمرو بن مرثد الدمشقي وهو تابعي ثقة.
* والحديث رواه أحمد في المسند 5: 283 (حلبي) عن عبد الرحمن -وهو ابن مهدي- عن حماد بن زيد.
* ورواه أبو داود: 2226 عن سليمان بن حرب وابن ماجه: 2055، من طريق محمد بن الفضل والحاكم 2: 200 من طريق سليمان بن حرب والبيهقي 7: 316 عن الحاكم من طريق ابن حرب- كلهم عن حماد بن زيد بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
* ورواه البيهقي أيضًا 7: 316 من طريق موسى بن إسماعيل التبوذكي عن وهيب عن أيوب به. وهذا أيضًا إسناد صحيح.
* وذكره الحافظ في الفتح 9: 354 وقال: "رواه أصحاب السنن وصححه ابن خزيمة وابن حبان".
* وأشار إليه الترمذي عقب الإسناد السابق الذي فيه المبهم فقال: "ويروى هذا الحديث عن أيوب عن أبي قلابة، عن أبي أسماء عن ثوبان".
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "لا جناح" بغير واو العطف والصواب ما أثبت.
(3) الذي زعم ذلك هو الفراء في معاني القرآن 1: 147- 148. والذي ساقه الطبري مختصر مقاله الفراء.(4/571)
أحدهما أن يكون مرادا به: فلا جناح على الرجل فيما افتدت به المرأة دون المرأة، وإن كانا قد ذكرا جميعا كما قال في"سورة الرحمن": (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) [سورة الرحمن: 22] وهما من الملح لا من العذب، قال: ومثله. (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا) [سورة الكهف: 61] ، وإنما الناسي صاحب موسى وحده. قال: ومثله في الكلام أن تقول:"عندي دابتان أركبهما وأستقي عليهما" وإنما تركب إحداهما. وتستقي على الأخرى، (1) وهذا من سعة العربية التي يحتج بسعتها في الكلام.
قالوا: والوجه الآخر أن يشتركا جميعا في أن لا يكون عليهما جناح، إذ كانت تعطي ما قد نفي عن الزوج فيه الإثم. اشتركت فيه، (2) لأنها إذا أعطت ما يطرح فيه المأثم، احتاجت إلى مثل ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فلم يصب الصواب في واحد من الوجهين، ولا في احتجاجه فيما احتج به من قوله: (3) (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ) .
فأما قوله:" فلا جناح عليهما" فقد بينا وجه صوابه، وسنبين وجه قوله:" يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان"في موضعه إذا أتينا عليه إن شاء الله تعالى. وإنما خطأنا قوله ذلك، لأن الله تعالى ذكره قد أخبر عن وضعه الحرج عن الزوجين إذا افتدت المرأة من زوجها على ما أذن، وأخبر عن البحرين أن منهما يخرج اللؤلؤ والمرجان، فأضاف إلى اثنين. فلو جاز لقائل أن يقول:"إنما أريد به الخبر عن أحدهما، فيما لم يكن مستحيلا أن يكون عنهما"، جاز في كل خبر كان عن اثنين - غير مستحيلة صحته أن يكون عنهما - أن يقال:"إنما هو خبر عن أحدهما".
__________
(1) في المطبوعة: "وأسقى. . . وتسقى" والصواب من المخطوطة ومعاني القرآن للفراء.
(2) في معاني القرآن: "أشركت فيه" بالبناء للمجهول، وهي أجود.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "احتج به قوله" والصواب زيادة"من".(4/572)
وذلك قلب المفهوم من كلام الناس والمعروف من استعمالهم في مخاطباتهم، وغير جائز حمل كتاب الله تعالى ووحيه جل ذكره على الشواذ من الكلام وله في المفهوم الجاري بين الناس وجه صحيح موجود.
* * *
قال أبو جعفر: ثم أختلف أهل التأويل في تأويل قوله:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به" أمعني به: أنهما موضوع عنهما الجناح في كل ما افتدت به المرأة نفسها من شيء أم في بعضه؟
فقال بعضهم: عنى بذلك:"فلا جناح عليهما فيما افتدت به" من صداقها الذي كان آتاها زوجها الذي تختلع منه. واحتجوا في قولهم ذلك بأن آخر الآية مردود على أولها، وأن معنى الكلام: ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله، فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به مما آتيتموهن. قالوا: فالذي أحله الله لهما من ذلك -عند الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله- هو الذي كان حظر عليهما قبل حال الخوف عليهما من ذلك. واحتجوا في ذلك بقصة ثابت بن قيس بن شماس، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما أمر امرأته إذ نشزت عليه، أن ترد ما كان ثابت أصدقها، وأنها عرضت الزيادة فلم يقبلها النبي صلى الله عليه وسلم.
* ذكر من قال ذلك:
4845 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع أنه كان يقول: لا يصلح له أن يأخذ منها أكثر مما ساق إليها، ويقول: إن الله يقول:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به" منه، يقول: من المهر - وكذلك كان يقرؤها:"فيما افتدت به منه". (1)
__________
(1) الأثر: 4845- سيأتي نقض الطبري لما قاله الربيع وزيادته في الآية ما ليس منها في ص582، 583.(4/573)
4846 - حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: سمعت عمرو بن شعيب وعطاء بن أبي رباح والزهري يقولون في الناشز: لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها.
4847 - حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا الوليد، حدثنا أبو عمرو، عن عطاء، قال: الناشز لا يأخذ منها إلا ما ساق إليها.
4848 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء أنه كره أن يأخذ في الخلع أكثر مما أعطاها.
4849 - حدثني زكريا بن يحيى بن أبي زائدة، قال: حدثنا ابن إدريس، عن أشعث، عن الشعبي، قال: كان يكره أن يأخذ الرجل من المختلعة فوق ما أعطاها، وكان يرى أن يأخذ دون ذلك.(4/574)
4850 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي حصين، عن الشعبي، قال: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
4851 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: اخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي أنه كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها - يعني المختلعة.
4852 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب، قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا عن الحكم بن عتيبة، قال: كان علي رضي الله عنه يقول: لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها.
4853 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن الحكم أنه قال في المختلعة: أحب إلي أن لا يزداد.
4854 - حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد، عن حميد أن الحسن كان يكره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
4855 - حدثنا محمد بن يحيى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن مطر أنه سأل الحسن - أو أن الحسن سئل - عن رجل تزوج امرأة على مائتي درهم، فأراد أن يخلعها، هل له أن يأخذ أربعمائة؟ فقال: لا والله، ذاك أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها! .
4856 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: كان الحسن يقول: لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها = قال معمر: وبلغني عن علي أنه كان يرى أن لا يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
4857 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الكريم الجزري، عن ابن المسيب، قال: ما أحب أن يأخذ منها كل ما أعطاها حتى يدع لها منه ما يعيشها.
4858 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرازق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس أن أباه كان يقول في المفتدية: لا يحل له أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها.
4859 - حدثنا الحسن، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: لا يحل للرجل أن يأخذ من امرأته أكثر مما أعطاها.
* * *
وقال آخرون: بل عنى بذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من قليل ما تملكه وكثيره. واحتجوا لقولهم ذلك بعموم الآية، وأنه غير جائزة إحالة ظاهر عام - إلى باطن خاص إلا بحجة يجب التسليم لها. (1) قالوا: ولا حجة يجب التسليم لها بأن الآية مراد بها بعض الفدية. دون بعض من أصل أو قياس، فهي على ظاهرها وعمومها.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "غير جائز إحالة. . . " بدلوه ليطابق ما درجوا عليه. والصواب من المخطوطة.(4/575)
4860 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب عن كثير مولى سمرة: أن عمر أتي بامرأة ناشز، فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ثلاثا، ثم دعا بها فقال: كيف وجدت؟ قالت: ما وجدت راحة منذ كنت عنده إلا هذه الليالي التي حبستني! فقال لزوجها: اخلعها ولو من قرطها. (1)
4861 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن أيوب، عن كثير مولى سمرة، قال: أخذ عمر بن الخطاب امرأة ناشزا فوعظها، فلم تقبل بخير، فحبسها في بيت كثير الزبل ثلاثة أيام = وذكر نحو حديث ابن علية.
4862 - حدثنا ابن بشار ومحمد بن يحيى، قالا حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن حميد بن عبد الرحمن: أن امرأة أتت عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فشكت زوجها، فقال: إنها ناشز؟ فأباتها في بيت الزبل، فلما أصبح قال لها: كيف وجدت مكانك! قالت: ما كنت عنده ليلة أقر لعيني من هذه الليلة! فقال: خذ ولو عقاصها. (2)
__________
(1) الأثر: 4860- البيهقي 7: 315، والمحلى 10: 240. وقوله: "ولو من قرطها" أي: ولو لم يكن لها مال غير قرطها فخذه واخلعها.
(2) الأثر: 4862-"حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري" روى عن أبيه وعمر وعثمان وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم. روى عنه ابنه عبد الرحمن والزهري وقتادة وغيرهم. وقيل: "إنه لم ير عمر ولم يسمع منه شيئا" وموته يدل على ذلك، ولعله قد سمع من عثمان لأنه كان خاله. وكان ثقة كثير الحديث. توفي سنة 95 وهو ابن ثلاث وسبعين سنة". وقال ابن سعد: "سمعت من يقول إنه توفي سنة 105". قال ابن حجر: "وهو قول الفلاس وأحمد بن حنبل وأبي إسحاق الحربي" ثم قال: "وإن صح ذلك على تقدير صحة ما ذكر من سنه فروايته عن عمر منقطعة قطعا، وكذا عن عثمان وأبيه والله أعلم".
والعقاص: خيط تشد به المرأة أطراف ذوائبها. من"عقصت المرأة شعرها": إذا ضفرته. والضفيرة هي العقيصة. و"العقاص" أيضًا: المداري (جمع) - أو: المدري (مفرد) والمدري: شيء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المشط، وأطول منه، يسرح به الشعر المتبلد. يستعمله من لم يكن له مشط. وقد جاء في شعر امرئ القيس: غدائره مستشزرات إلى العلى ... تضل العقاص في مثنى ومرسل
ويروى"يضل العقاص" على معنى إفراده. وانظر التعليق على الأثر رقم: 4871.(4/576)
4863 - حدثنا نصر بن علي، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن مولاة لصفية اختلعت من زوجها بكل شيء تملكه إلا من ثيابها، فلم يعب ذلك ابن عمر. (1)
4864 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا معتمر، قال: سمعت عبيد الله يحدث، عن نافع، قال: ذكر لابن عمر مولاة له اختلعت من زوجها بكل مال لها، فلم يعب ذلك عليها ولم ينكره.
4865 - حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: حدثنا هشيم، عن حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب: أنه كان لا يرى بأسا أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها. ثم تلا هذه الآية:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به".
4866 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال في الخلع: خذ ما دون عقاص شعرها، وإن كانت المرأة لتفتدي ببعض مالها. (2)
4867 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا
__________
(1) الأثر: 4863- الموطأ: 565 والمحلى 10: 240 والبيهقي 7: 315 وما سيأتي رقم: 4874 وغيرها.
(2) الآثار: 4866- 4869- هذا الأثر ذكره ابن الأثير في النهاية بلفظ آخر، قال: "وفي حديث النخعي: الخلع تطليقه بائنة وهو ما دون عقاص الرأس. يريد: أن المختلعة كان له أن يأخذ ما دون شعرها من جميع ملكها". هكذا في النهاية وفي نقل لسان العرب عنه"ما دون شعرها". وتفسير"العقاص" هنا بأنه"الشعر" غريب جدا لا أدري هل يجوز أن يخلط عالم جليل كابن الأثير هذا الخلط! فيكون معنى قول إبراهيم النخعي الآتي في الآثار التالية: "خذ منها ولو عقاصها" -أي: خذ منها ولو شعرها!! ولعل في الكلام سقطا فيكون: "أن يأخذ ما دون رباط شعرها" ولكن نقل صاحب اللسان نص ما في النهاية شبهة في ترجيح هذا الرأي. وكأن ابن الأثير غفل عن معنى"دون" في هذا الموضع فزل عالم. وقوله: "ما دون عقاص شعرها" معناه: ما هو أقل من العقاص أو أنقص منه. وانظر الأثر الآتي رقم: 4870 ففي لفظه شفاء هذا المعنى إن شاء الله.(4/577)
معمر، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخلع ما دون عقاص الرأس. (1)
4868 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم أنه قال في المختلعة: خذ منها ولو عقاصها.
4869 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا مغيرة، عن إبراهيم، قال: الخلع بما دون عقاص الرأس، وقد تفتدي المرأة ببعض مالها.
4870 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن عبد الله بن محمد بن عقيل: أن الربيع ابنة معوذ بن عفراء حدثته قالت: كأن لي زوج يقل علي الخير إذا حضرني، ويحرمني إذا غاب. قالت: فكانت مني زلة يوما، فقلت: أختلع منك بكل شيء أملكه! قال: نعم! قال: ففعلت قالت: فخاصم عمي معاذ بن عفراء إلى عثمان بن عفان، فأجاز الخلع وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه- أو قالت: ما دون عقاص الرأس. (2)
4871 - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا الحسن بن يحيى، عن الضحاك، عن ابن عباس، قال: لا بأس بما خلعها به من قليل أو كثير، ولو عقصها. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "بما دون" فأثبت ما في المخطوطة.
(2) الأثر: 4870- رواه البيهقي في السنن 7: 315 بغير هذا اللفظ من طريق يزيد ابن زريع عن روح عن عبد الله بن محمد بن عقيل. و"عبد الله بن محمد بن عقيل بن أبي طالب" روى عن أبيه وخاله محمد بن الحنفية وابن عمر وأنس وجابر والربيع بنت معوذ وغيرهم من الصحابة. ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من أهل المدينة وقال: "كان منكر الحديث لا يحتجون بحديثه، وكان كثير العلم". وقال يعقوب: "صدوق وفي حديثه ضعف شديد جدا". مات سنة 145 و"الربيع" (بضم الراء وفتح الباء، وكسر الياء المشددة) على وزن التصغير.
(3) قوله: "ولو عقصها". في المخطوطة كسرة تحت العين، كأنه بكسر العين وسكون القاف وكأنه واحد"العقاص" ولم أجد ذلك في مكان وهو قريب على غرابته. ولكني ضبطته بضمتين، على أنه جمع"عقاص".(4/578)
4872 - حدثني المثنى، قال: حدثنا حبان بن موسى، قال: أخبرنا ابن المبارك، قال: أخبرنا حجاج، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: إن شاء أخذ منها أكثر مما أعطاها.
4873 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: أخبرني عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة يقول: قال ابن عباس: ليأخذ منها حتى قرطها- يعني في الخلع.
4874 - حدثني المثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد الله، قال: أخبرنا مالك بن أنس، عن نافع، عن مولاة لصفية ابنة أبي عبيد: أنها اختلعت من زوجها بكل شيء لها، فلم ينكر ذلك عبد الله بن عمر. (1)
4875 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، قال: أخبرنا حميد، عن رجاء بن حيوة، عن قبيصة بن ذؤيب أنه تلا هذه الآية:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به" قال: يأخذ أكثر مما أعطاها. (2)
4876 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا يزيد وسهل بن يوسف وابن أبي عدي، عن حميد، قال: قلت لرجاء بن حيوه: إن الحسن يقول في المختلعة: لا يأخذ أكثر مما أعطاها، ويتأول:" ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا" قال رجاء: فإن قبيصة بن ذؤيب كان يرخص أن يأخذ أكثر مما أعطاها، ويتأول:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به"
* * *
وقال آخرون: هذه الآية منسوخة بقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) [سورة النساء: 20]
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الأثر: 4874- في الموطأ: 565 وانظر التعليق على الأثر: 4863.
(2) الأثر: 4875- انظر الأثر السالف رقم: 4865.(4/579)
4877 - حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا عبد الصمد بن عبد الوارث، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء قال: سألت بكرا عن المختلعة أيأخذ منها شيئا؟ قال لا! وقرأ:" وأخذن منكم ميثاقا غليظا".
4878 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا عقبة بن أبي الصهباء، قال: سألت بكر بن عبد الله عن رجل تريد امرأته منه الخلع، قال: لا يحل له أن يأخذ منها شيئا. قلت: يقول الله تعالى ذكره في كتابه:" فلا جناح عليهما فيما افتدت به"؟ قال: هذه نسخت. قلت: فإني حفظت؟ قال: حفظت في"سورة النساء" (1) قول الله تعالى ذكره: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [النساء: 20] (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: إذا خيف من الرجل والمرأة أن لا يقيما حدود الله - على سبيل ما قدمنا البيان عنه- فلا حرج
__________
(1) في الناسخ والمنسوخ وفي القرطبي"فأين جعلت" وهي أشبه بالصواب وكذلك ينبغي أن تكون الأخرى"جعلت" فيكون نصهما: "فأين جعلت؟ قال: جعلت في سورة النساء".
(2) الأثران: 4877، 4878- في الناسخ والمنسوخ لأبي جعفر النحاس: 68 وأحكام القرآن للجصاص 1: 392 والقرطبي 3: 139 وسيأتي أول الأثرين في تفسير سورة النساء 4: 216 (بولاق) . وفي إسناده هنا"عقبة بن أبي المهنا" وهو تصحيف. و"عقبة بن أبي الصهباء أبو خريم" ترجم له في الجرح والتعديل 3/ 1/312 وميزان الاعتدال 2: 205. قال ابن أبي حاتم: "بصري: روى عن سالم ونافع. روى عنه زيد بن حباب وأبو الوليد وأبو سلمة. سمعت أبي يقول ذلك. قال أبو محمد: روى عن العلاء بن بدر. روى عنه معتمر بن سليمان وأبو داود الطيالسي وأبو عمر الحوضي. أخبرنا عبد الرحمن قال: ذكره أبي عن إسحاق بن منصور عن يحيى ابن معين قال: عقبة بن أبي الصهباء ثقة. أخبرنا عبد الرحمن قال: سألت أبي عن عقبة بن أبي الصهباء قال: محله الصدق فهو أوثق من عقبة الأحم". وزاد في ميزان الاعتدال أنه: "باهلي" مولى لباهلة ونقل عن أحمد بن حنبل أنه صالح الحديث. هذا ولم أجد كما ترى، وهو ما جاء في التاريخ الكبير، في كتاب الكنى: 44 وفي الجرح والتعديل 4/2/394: "أبو الصهباء البصري. روى عن بكر بن عبد الله. روى عنه معن بن عيسى. سمعت أبي يقول ذلك" قاله ابن أبي حاتم.(4/580)
عليهما فيما افتدت به المرأة نفسها من زوجها، من قليل ما تملكه وكثيره مما يجوز للمسلمين أن يملكوه، وإن أتى ذلك على جميع ملكها. لأن الله تعالى ذكره لم يخص ما أباح لهما من ذلك على حد لا يجاوز، بل أطلق ذلك في كل ما افتدت به. غير أني أختار للرجل = استحبابا لا تحتيما (1) إذا تبين من امرأته أن افتداءها منه لغير معصية لله، (2) بل خوفا منها على دينها= أن يفارقها بغير فدية ولا جعل. فإن شحت نفسه بذلك، (3) فلا يبلغ بما يأخذ منها جميع ما آتاها.
* * *
فأما ما قاله بكر بن عبد الله، من أن هذا الحكم في جميع الآية منسوخ بقوله: (وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا) فقول لا معنى له، فنتشاغل بالإبانة عن خطئه لمعنيين: أحدهما: إجماع الجميع من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المسلمين، على تخطئته وإجازة أخذ الفدية من المفتدية نفسها لزوجها، وفي ذلك الكفاية عن الاستشهاد على خطئه بغيره.
والآخر: أن الآية التي في"سورة النساء" إنما حرم الله فيها على زوج المرأة أن يأخذ منها شيئا مما آتاها، (4) بأن أراد الرجل استبدال زوج بزوج من غير أن يكون هنالك خوف من المسلمين عليهما مقام أحدهما على صاحبه أن لا يقيما حدود الله، (5) ولا نشوز من المرأة على الرجل. وإذا كان الأمر كذلك، فقد ثبت أن أخذ الزوج من امرأته مالا على وجه الإكراه لها والإضرار بها حتى تعطيه شيئا
__________
(1) في المخطوطة: "لا تحريما" ليست بشيء وما في المطبوعة هو الصواب. والتحتيم: الإيجاب حتم عليه الأمر حتما: أوجبه.
(2) في المطبوعة: "لغير معصية الله" والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة: "سحت" مهملة وشح بالشيء يشح فهو شحيح: ضن وبخل.
(4) في المطبوعة: "بأن أراد الرجل" وفي المخطوطة: "فإن أراد" والصواب ما أثبت.
(5) في المطبوعة: "بمقام أحدهما على صاحبه" صواب جيد. وقوله: "ولا نشوز" معطوف على قوله: "خوف".(4/581)
من مالها على فراقها حرام، (1) ولو كان ذلك حبة فضة فصاعدا. (2)
وأما الآية التي في"سورة البقرة" فإنها إنما دلت على إباحة الله تعالى ذكره له أخذ الفدية منها في حال الخوف عليهما أن لا يقيما حدود الله بنشوز المرأة، وطلبها فراق الرجل، ورغبته فيها. فالأمر الذي أذن به للزوج في أخذ الفدية من المرأة في"سورة البقرة" (3) ضد الأمر الذي نهى من أجله عن أخذ الفدية في"سورة النساء"، كما الحظر في"سورة النساء"، غير الإطلاق والإباحة في"سورة البقرة". (4) فإنما يجوز في الحكمين أن يقال أحدهما ناسخ (5) إذا اتفقت معاني المحكوم فيه، ثم خولف بين الأحكام فيه باختلاف الأوقات والأزمنة.
وأما اختلاف الأحكام باختلاف معاني المحكوم فيه في حال واحدة ووقت واحد، فذلك هو الحكمة البالغة، والمفهوم في العقل والفطرة، وهو من الناسخ والمنسوخ بمعزل.
* * *
وأما الذي قاله الربيع بن أنس (6) من أن معنى الآية: فلا جناح عليهما فيما افتدت به منه - يعني بذلك: مما آتيتموهن - فنظير قول بكر في دعواه نسخ
__________
(1) في المطبوعة: "فقد بينا أن أخذ الزوج. . . " وهو خطأ محض والسياق يقتضي غيره ثم إنه لم يذكر شيئا من ذلك فيما سلف. أما في المخطوطة: "فقد سا" والألف الأخيرة قصيرة عن أشباهها. وأحب أن أثبت هنا أن ناسخ المخطوطة قد عجل في الصفحات السابقة والصفحات التالية عجلة شديدة حتى تبين ذلك في خطه تبينا ظاهرا. ولذلك كثر الخطأ والاشتباه فيما يكتب.
(2) الحبة: ميزان من موازينهم. هو: زنة حبة شعير متوسطة لم تقشر وقد قطع من طرفيها ما امتد (رسالة النقود للمقريزي: 3) .
(3) في المخطوطة: "أذن به للزوج أخذ الفدية" بحذف"في" والإذن هنا الإباحة.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "غير الطلاق والإباحة" والصواب ما أثبت ولم أجد"الطلاق" مصدرا بمعنى الإباحة. وكأن الناسخ ظن أن أبا جعفر يريد أن آية سورة البقرة فيها ذكر لفظ"الطلاق" وأما التي في سورة النساء فليس فيها لفظ"الطلاق" فيكون ذلك غريبا جدا، ولطيفا أيضًا!! ومراد الطبري أن الذي في سورة البقرة هو نشوز المرأة والذي في سورة النساء هو ضرار الرجل، والذي في البقرة إباحة وإطلاق، والذي في النساء حظر ومنع.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "فإنما يجوز" والفاء هنا لا معنى لها، بل هي اختلال. وقد أسلفنا ما في كتابة الناسخ هنا من عجلة وسهو شديد.
(6) انظر الأثر السالف رقم: 4845.(4/582)
قوله: " فلا جناح عليهما فيما افتدت به" بقوله:" وآتيتم إحداهن قنطارا فلا تأخذوا منه شيئا" لادعائه في كتاب الله ما ليس موجودا في مصاحف المسلمين رسمه.
ويقال لمن قال بقوله: قد قال من قد علمت من أئمة الدين: إنما معنى ذلك: فلا جناح عليهما فيما افتدت به من ملكها= فهل من حجة تبين بها منهم غير الدعوى؟ (1) فقد احتجوا بظاهر التنزيل، وادعيت فيه خصوصا! ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. وقد بينا الأدلة بالشواهد على صحة قول من قال: للزوج أن يأخذ منها كل ما أعطته المفتدية، التي أباح الله لها الافتداء - في كتابنا (كتاب اللطيف) فكرهنا إعادته في هذا الموضع.
* * *
(2)
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: تلك معالم فصوله، بين ما أحل لكم، وما حرم عليكم أيها الناس، قلا تعتدوا ما أحل لكم من الأمور التي بينها وفصلها لكم من الحلال، إلى ما حرم عليكم، فتجاوزوا طاعته إلى معصيته.
__________
(1) في المطبوعة"تبين تهافتهم" من قولهم"بين الشيء يبين" بتشديد الياء. ومعنى الجملة لا يتفق في سياق هذا الكلام. وفي المخطوطة"تبين بها منهم" غير منقوطة فقرأتها على أصح وجوه المعنى الذي يوافق السياق. وبان منهم يبين: افترق وامتاز. يقول: فهل من حجة تجعل بينك وبينهم فرقا غير الدعوى؟ فهم يحتجون بأن هذا ظاهر الآية، وأنت تدعى أن في الآية خصوصا! فأية حجة في هذا تجعل لك ميزة عليهم؟
(2) مما يدل على ان الناسخ في هذا المكان كان عجلا غير متأن كما أسلفنا من شواهد خطه، من كثرة الخطأ في نقله، أنه كتب نص الآية هنا"تلك حدود الله فلا تقربوها"!!(4/583)
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:" تلك حدود الله فلا تعتدوها"، هذه الأشياء التي بينت لكم في هذه الآيات التي مضت: من نكاح المشركات الوثنيات، وإنكاح المشركين المسلمات، وإتيان النساء في المحيض، وما قد بين في الآيات الماضية قبل قوله:" تلك حدود الله"، مما أحل لعباده وحرم عليهم، وما أمر ونهى.
ثم قال لهم تعالى ذكره: هذه الأشياء -التي بينت لكم حلالها من حرامها-"حدودي"= يعني به: معالم فصول ما بين طاعتي ومعصيتي=، فلا تعتدوها= يقول: فلا تتحاوزوا ما أحللته لكم إلى ما حرمته عليكم، وما أمرتكم به إلى ما نهيتكم عنه، ولا طاعتي إلى معصيتي، (1) فإن من تعدى ذلك = يعني من تخطاه وتجاوزه = إلى ما حرمت عليه أو نهيته، فإنه هو الظالم- وهو الذي فعل ما ليس له فعله، ووضع الشيء في غير موضعه. وقد دللنا فيما مضى على معنى"الظلم" وأصله بشواهده الدالة على معناه، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل وإن خالفت ألفاظ تأويلهم ألفاظ تأويلنا، غير أن معنى ما قالوا في ذلك [يؤول] إلى معنى ما قلنا فيه. (3)
* ذكر من قال ذلك:
4879 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" تلك حدود الله فلا تعتدوها" يعني بالحدود: الطاعة.
4880 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:" تلك حدود الله فلا تعتدوها" يقول: من
__________
(1) انظر معنى"الخدود""والتعدي والعدوان" في فهرس اللغة من الأجزاء السالفة.
(2) انظر ما سلف 1: 523-524/2: 101- 102، 369، 519.
(3) في المطبوعة: ". . . ما قالوا في ذلك إلى معنى. . . " وأثبت الزيادة بين القوسين لأن موضعها في المخطوطة بياض فرجحت أن تكون الكلمة الناقصة هي هي، كما أثبتها.(4/584)
فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
طلق لغير العدة فقد اعتدى وظلم نفسه،"ومن يتعد حدود الله، فأولئك هم الظالمون".
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الذي ذكر عن الضحاك لا معنى له في هذا الموضع، لأنه لم يجر للطلاق في العدة ذكر، فيقال:"تلك حدود الله"، وإنما جرى ذكر العدد الذي يكون للمطلق فيه الرجعة، والذي لا يكون له فيه الرجعة دون ذكر البيان عن الطلاق للعدة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيما دل عليه هذا القول من الله تعالى ذكره.
فقال بعضهم: دل على أنه إن طلق الرجل امرأته التطليقة الثالثة= بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما:" الطلاق مرتان"= فإن امرأته تلك لا تحل له بعد التطليقة الثالثة حتى تنكح زوجا غيره- يعني به غير المطلق.
* ذكر من قال ذلك:
4881 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، قال: جعل الله الطلاق ثلاثا، فإذا طلقها واحدة فهو أحق بها ما لم تنقض العدة، وعدتها ثلاث حيض، فإن انقضت العدة قبل أن يكون راجعها، فقد بانت منه بواحدة، وصارت أحق بنفسها، وصار خاطبا من الخطاب، فكان الرجل إذا أراد طلاق أهله نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة في قبل عدتها عند شاهدي عدل، (1) فإن بدا له مراجعتها راجعها ما كانت في عدتها،
__________
(1) "قبل عدتها" (بضم فسكون) أي: في إقبال عدتها وأولها وعند الشروع فيها.(4/585)
وإن تركها حتى تنقضي عدتها فقد بانت منه بواحدة، وإن بدا له طلاقها بعد الواحدة وهي في عدتها نظر حيضتها، حتى إذا طهرت طلقها تطليقة أخرى في قبل عدتها، فإن بدا له مراجعتها راجعها، فكانت عنده على واحدة، وإن بدا له طلاقها طلقها الثالثة عند طهرها، فهذه الثالثة التي قال الله تعالى ذكره:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" (1)
4882 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" يقول: إن طلقها ثلاثا، فلا تحل حتى تنكح زوجا غيره.
4883 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين فله الرجعة ما لم تنقض العدة، قال: والثالثة قوله:" فإن طلقها" -يعني بالثالثة- فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره.
4884 - حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا جويبر، عن الضحاك، بنحوه.
4885 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فإن طلقها" - بعد التطليقتين-"فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، وهذه الثالثة
* * *
وقال آخرون: بل دل هذا القول على ما يلزم مسرح امرأته بإحسان بعد التطليقتين اللتين قال الله تعالى ذكره فيهما:" الطلاق مرتان" قالوا: وإنما بين
__________
(1) هكذا في المخطوطة معنى الآية لا نصها ولكنه في المطبوعة: "فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" أثبت نص الآية. تصرف لغير حكمة بينة.(4/586)
الله تعالى ذكره بهذا القول عن حكم قوله:" أو تسريح بإحسان" وأعلم أنه إن سرح الرجل امرأته بعد التطليقتين، فلا تحل له المسرحة كذلك إلا بعد زوج.
* ذكر من قال ذلك:
4886 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" قال: عاد إلى قوله:" فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".
4887 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: والذي قاله مجاهد في ذلك عندنا أولى بالصواب، للذي ذكرنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخبر الذي رويناه عنه أنه قال- أو سئل فقيل: هذا قول الله تعالى ذكره:" الطلاق مرتان" فأين الثالثة؟ قال:"فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان". (1) فأخبر صلى الله عليه وسلم، أن الثالثة إنما هي قوله:" أو تسريح بإحسان" فإذ كان التسريح بالإحسان هو الثالثة، فمعلوم أن قوله:" فإن طلقها فلا تحل لا من بعد حتى تنكح زوجا غيره" من الدلالة على التطليقة الثالثة بمعزل، وأنه إنما هو بيان عن الذي يحل للمسرح بالإحسان إن سرح زوجته بعد التطليقتين، والذي يحرم عليه منها، والحال التي يجوز له نكاحها فيها= (2) وإعلام عباده أن بعد التسريح على ما وصفت لا رجعة للرجل على امرأته. (3)
* * *
(4)
__________
(1) يعني الأخبار السالفة: 4791- 4793.
(2) قوله: "وإعلام" معطوف على قوله: "إنما هو بيان. . . وإعلام" وقوله: "عباده" منصوب بالمصدر"إعلام" مفعول به.
(3) إلى هنا انتهى التقسيم القديم الذي نسخت منه نسختنا، وبعده ما نصه:
"وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وصحبه وسلم كثيرا"
ومن عجلة الناسخ أغفل أن ينقل ما كان ينقله في المواضع السالفة من سماع النسخة.
(4) يبدأ صدر التقسيم بقوله:
"بسم الله الرحمن الرحيم"(4/587)
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فأي النكاحين عنى الله بقوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" النكاح الذي هو جماع أم النكاح الذي هو عقد تزويج؟
قيل: كلاهما، وذلك أن المرأة إن نكحت رجلا نكاح تزويج، ثم لم يطأها في ذلك النكاح ناكحها (1) ولم يجامعها حتى يطلقها لم تحل للأول، وكذلك إن وطئها واطئ بغير نكاح، لم تحل للأول بإجماع الأمة جميعا. (2) فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن تأويل قوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره" نكاحا صحيحا، ثم يجامعها فيه، ثم يطلقها.
فإن قال: فإن ذكر الجماع غير موجود في كتاب الله تعالى ذكره، فما الدلالة على أن معناه ما قلت؟
قيل: الدلالة على ذلك إجماع الأمة جميعا على أن ذلك معناه. وبعد، فإن الله تعالى ذكره قال:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، فلو نكحت زوجا غيره بعقب الطلاق قبل انقضاء عدتها، كان لا شك أنها ناكحة نكاحا بغير المعنى الذي أباح الله تعالى ذكره لها ذلك به، وإن لم يكن ذكر العدة مقرونا بقوله:" فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، لدلالته على أن ذلك كذلك بقوله:" والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء". وكذلك قوله:" فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره"، وإن لم يكن
__________
(1) في المطبوعة: "وذلك أن المرأة إذا نكحت زوجا" لا أدري لم وضع الطابع"إذا" مكان"وإن" و"زوجا" مكان"رجلا"!!
(2) في المطبوعة: "لإجماع الأمة" وهو ضعيف لا خير فيه.(4/588)
مقرونا به ذكر الجماع والمباشرة والإفضاء فقد دل على أن ذلك كذلك بوحيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وبيانه ذلك على لسانه لعباده.
* * *
* ذكر الأخبار المروية بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
4888 - حدثني عبيد الله بن إسماعيل الهباري، وسفيان بن وكيع، وأبو هشام الرفاعي، قالوا: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن الأسود، عن عائشة، قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته فتزوجت رجلا غيره فدخل بها ثم طلقها قبل أن يواقعها، أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا تحل لزجها الأول حتى يذوق الآخر عسيلتها وتذوق عسيلته". (1)
__________
(1) الحديث: 4888- هذا الحديث والاحاديث بعده إلى: 4897 هي عشرة أسانيد لحديث عائشة في وجوب الدخول بالمطلقة ثلاثا حتى تحل لزوجها الأول، وهذا أمر مجمع عليه ثبت بالدلائل المتواترة. ويجب أن يكون الزوج الثاني راغبا في المرأة قاصدا لدوام عشرتها، مما هو القصد الصحيح للزواج. أما إذا تزوجها ودخل بها قاصدا تحليلها للزوج الأول أو كان ذلك مفهوما من واقع الحال- فإن هذا هو المحلل الذي لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولعن المحلل له. وكان نكاح هذا الثاني باطلا لا تحل به المعاشرة.
ثم روى أبو جعفر -بعد هذه العشرة- حديثين لأبي هريرة وحديثا لأنس وحديثا لعبيد الله ابن عباس، وثلاثة أحاديث لابن عمر. فهي سبعة عشر حديثا. سنوجز ما استطعنا في تخريجها إن شاء الله.
عبيد الله بن إسماعيل الهباري- شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 2890 باسم"عبيد" دون إضافة. وكذلك مضى باسم"عبيد" في: 3185، 3325. وهو هو ففي التهذيب 7: 59"ويقال أن اسمه عبيد الله وعبيد: لقب".
أبو هاشم الرفاعي- شيخ الطبري: هو محمد بن يزيد بن محمد بن كثير قاضي بغداد تكلم فيه بعضهم، والراجح توثيقه وقد روى عنه مسلم في صحيحه. مضى له ذكر في: 3286.
إبراهيم: هو ابن يزيد بن الأسود النخعي. والأسود: هو ابن يزيد بن قيس النخعي خال إبراهيم.
والحديث رواه أحمد في المسند 6: 42 (حلبي) عن أبي معاوية عن الأعمش بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير 1: 549 عن رواية الطبري ثم قال: "وكذا رواه أبو داود عن مسدد والنسائي عن أبي كريب كلاهما عن أبي معاوية".
وذكره السيوطي 1: 284 وزاد نسبته لابن أبي شيبة وابن ماجه.
قوله: "حتى يذوق الآخر عسيلتها. . . " قال ابن الأثير: "شبه لذة الجماع بذوق العسل، فاستعار لها ذوقا. وإنما أنث لأنه أراد قطعة من العسل. وقيل: على إعطائها معنى النطفة. وقيل: العسل في الأصل يذكر ويؤنث فمن صغره مؤنثا قال: عسيلة. . . وإنما صغره إشارة إلى القدر القليل الذي يحصل به الحل".(4/589)
4889 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد بن نصر، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه. (1)
4890 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا ابن عيينة، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة، قال: سمعتها تقول: جاءت امرأة رفاعة القرظي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: كنت عند رفاعة فطلقني، فبت طلاقي، فتزوجت عبد الرحمن بن الزبير، وإنما معه مثل هدبة الثوب، فقال لها: تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك". (2)
4891 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عائشة، نحوه.
4892 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: ثنى عروة بن الزبير، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن امرأة رفاعة القرظي جاءت رسول الله
__________
(1) الحديث: 4889- رواه مسلم 1: 407 بنحوه من طريق أبي أسامة عن هشام ابن عروة عن أبيه. ورواه أحمد في المسند 6: 229 (حلبي) عن أبي معاوية عن هشام. ورواه مسلم أيضًا من طريق ابن فضيل ومن طريق أبي معاوية كلاهما عن هشام.
* ونقله ابن كثير 1: 549 عن صحيح مسلم، وذكر أن البخاري رواه من طريق أبي معاوية.
* ثم قال: وهكذا رواه ابن جرير من طريق عبد الله بن المبارك عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة مرفوعا بنحوه أو مثله. وهذا إسناد جيد".
(2) الحديث: 4890- رواه أحمد في المسند 6: 37- 38 (حلبي) عن سفيان بن عيينة بهذا الإسناد. وزاد في آخره كلام خالد بن سعيد بن العاص بنحو ما سيأتي في: 4893.
"عبد الرحمن بن الزبير"-بفتح الزاي وكسر الباء- هو القرظي المدني، صحابي معروف.
وقد ذكره السيوطي 1: 283: 284 ونسبه أيضًا للشافعي وعبد الرزاق وابن أبي شيبة والصحيحين والترمذي زوالنسائي. وابن ماجه والبيهقي.
وقوله: "وإنما معه مثل هدبة الثوب" -"كلمة"وإنما" رسمت في المطبوعة حرفين"وإن ما" والصواب الموافق لسائر الروايات هو ما أثبتنا.(4/590)
صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله، فذكر مثله. (1)
4893 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: أن رفاعة القرظي طلق امرأته، فبت طلاقها، فتزوجها بعد عبد الرحمن بن الزبير، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا نبي الله - إنها كانت عند رفاعة، فطلقها آخر ثلاث تطليقات- فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنه والله ما معه يا رسول الله إلا مثل الهدبة!! فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال لها: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة! لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك. قالت: وأبو بكر جالس عند النبي صلى الله عليه وسلم وخالد بن سعيد بن العاص بباب الحجرة لم يؤذن له، فطفق خالد ينادي يا أبا بكر يقول: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تجهر به عند رسول الله صلى الله عليه وسلم!. (2)
4894 - حدثنا محمد بن يزيد الأدمي، قال: حدثنا يحيى بن سليم، عن عبيد الله، عن القاسم، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق الأول". (3)
__________
(1) الحديثان: 4891، 4892- هما تكرار للحديث قبلهما بإسنادين آخرين عن الزهري.
* ولم يذكر الطبري هنا لفظ هاتين الروايتين. وقد رواه مسلم 1: 407 من طريق ابن وهب عن يونس عن الزهري. وساق لفظه كاملا.
(2) الحديث: 4893- هو في كتاب (المصنف) لعبد الرزاق (مخطوط مصور عندنا) 3: 305 عن معمر وابن جريج -معا عن ابن شهاب.
ورواه أحمد في المسند 6: 226 (حلبي) عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري. ورواه أحمد أيضًا 6: 34 عن عبد الأعلى عن معمر.
ورواه مسلم: 1: 407 عن عبد بن حميد، عن عبد الرزاق عن معمر. ولم يذكر لفظه كاملا إحالة على روايته قبلها.
ونقله ابن كثير 1: 549- 550 من رواية أحمد عن عبد الأعلى. ثم نسبه لأصحاب الكتب الستة إلا أبا داود.
وانظر تخريج: 4890 فهو في معنى هذا.
(3) الحديث: 4894- محمد بن يزيد الأدمي الخراز البغدادي المقابري. المعروف بالأحمر: ثقة وثقه الدارقطني وغيره. وقال السراج: "كان زاهدا من خيار المسلمين". وفي المطبوعة"الأودي" بدل"الأدمي" وهو تحريف صححناه من المخطوطة ومراجع الترجمة. مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 4/1129- 130 وفي التهذيب: "ويقال إنهما اثنان" يعني أن"الأحمر" غير"الأدمي" وعلى ذلك جرى الخطيب في تاريخ بغداد جعلهما ترجمتين 3: 374 برقم: 1488، و 377 برقم: 1491 والراجح أنهما ترجمتان لشخص واحد.
يحيى بن سليم -بضم السين- القرشي الطائفي: ثقة وثقه ابن معين وغيره. وقال الشافعي: "كنا نعده من الأبدال". أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص العمري. القاسم: هو ابن محمد بن أبي بكر الصديق. عائشة عمته.(4/591)
4896 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عبيد الله، قال: سمعت القاسم يحدث عن عائشة، قال: قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا حتى يذوق من عسيلتها ما ذاق صاحبه". (1)
4896 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: حدثنا القاسم، عن عائشة، أن رجلا طلق امرأته ثلاثا، فتزوجت زوجا، فطلقها قبل أن يمسها، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتحل للأول؟ قال: لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول". (2)
4897 - حدثنا سفيان بن وكيع، قال: حدثنا موسى بن عيسى الليثي، عن زائدة، عن علي بن زيد، عن أم محمد، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره، فيذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه". (3)
__________
(1) الحديث: 4895- هذا والذي قبله مختصران من الحديث الذي بعدهما.
(2) الحديث: 4896 -يحيى- في هذا الإسناد-: هو ابن سعيد القطان الإمام.
* وهذا الحديث مطول الحديثين قبله.
* وقد رواه أحمد في المسند 6: 193 (حلبي) عن يحيى -وهو القطان- بهذا الإسناد.
* ونقله ابن كثير 1: 548- 549 عن هذا الموضع من الطبري. ثم قال: "أخرجه البخاري ومسلم والنسائي من طرق عن عبيد الله بن عمر العمري عن القاسم بن أبي بكر عن عمته عائشة- به".
* ونقله السيوطي 1: 284 وزاد نسبته للبيهقي.
(3) الحديث: 4897- موسى بن عيسى الليثي القارئ الكوفي ثقة أخرج له مسلم في الصحيح.
زائدة: هو ابن قدامة الثقفي، وهو ثقة حافظ مأمون صاحب سنة.
علي بن زيد: هو ابن جدعان وهو ثقة رجحنا توثيقه في شرح المسند: 783.
أم محمد: اسمها"أمية بنت عبد الله" وقيل"أمينة". وهي امرأة والد علي بن زيد بن جدعان. قال الحافظ في التهذيب 12: 402"ووقع في بعض النسخ من الترمذي: عن علي بن زيد بن جدعان عن أمه. وهو غلط فقد روى علي بن زيد عن امرأة أبيه أم محمد- عدة أحاديث". أقول: هو ربيبها فلا بأس أن يطلق عليها أنها أمه توسعا.
وهي تابعية عرف اسمها وكنيتها فهذا كاف في الحكم بتوثيقها. خصوصا مع قول الذهبي في الميزان 3: 395. عند ذكره النسوة المجهولات قال: "وما علمت في النساء من اتهمت ولا من تركوها".
والحديث رواه أحمد في المسند 6: 96 (حلبي) عن عفان عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد به. نحوه. وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم وهو أصح من إسناد الطبري.
ورواه أبو داود والطيالسي في مسنده: 1560 مختصرا عن حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عمته عن عائشة ولعل قوله"عن عمته" تساهل أيضًا إن لم يكن تحريفا من ناسخ أو طابع.
ومعناه ثابت عن عائشة بالروايات الصحاح السابقة وغيرها. وأشار إليه ابن كثير 1: 549 من رواية الطبري هذه. وكان أجدر به -كعادته- أن يذكره من رواية أحمد وإسنادها أصح.(4/592)
4898 - حدثني العباس بن أبي طالب، قال: أخبرنا سعيد بن حفص الطلحي، قال: أخبرنا شيبان، عن يحيى، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:" حتى يذوق عسيلتها". (1)
4899 - حدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني، قال: حدثني أبي، قال: حدثنا شيبان، قال: حدثنا يحيى بن أبي كثير، عن أبي الحارث الغفاري، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في المرأة يطلقها زوجها ثلاثا، فتتزوج زوجا غيره، فيطلقها قبل أن يدخل بها، فيريد الأول أن يراجعها، قال:"لا حتى يذوق عسيلتها". (2)
__________
(1) الحديث: 4898- العباس بن أبي طالب شيخ الطبري مضت ترجمته في: 880 سعد بن حفص الطلي المعروف بالضخم مولى آل طلحة: ثقة من شيوخ البخاري ووقع في المطبوعة"سعيد" وهو خطأ.
شيبان: هو ابن عبد الرحمن أبو معاوية النحوي. مضت ترجمته في: 2340.
والحديث مختصر من الذي بعده. وسيأتي تمام الكلام فيه.
(2) الحديث: 48990 أبو الحارث الغفاري: ترجمه البخاري في الكنى برقم: 177 قال: "أبو الحارث سمع أبا هريرة. قال سعيد بن حفص [كذا وصوابه: سعد] : حدثنا شيبان عن يحيى عن أبي الحارث عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حتى تذوق العسيلة. وقال وكيع: عن علي بن المبارك عن يحيى عن أبي يحيى [كذا وصوابه: عن أبي الحارث] . الغفاري عن أبي هريرة قوله" يريد أنه في رواية شيبان مرفوع وفي رواية علي ابن المبارك موقوف.
وترجمه ابن أبي حاتم 4/2/358 قال: "أبو الحارث الغفاري سمع أبا هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: لا حتى تذوق العسيلة. روى علي بن المبارك. عن يحيى بن أبي كثير عنه سمعت أبي يقول ذلك".
فرواية ابن المبارك عند أبي حاتم مرفوعة. ولا ينافي ذلك رواية البخاري وقفها. فإن الرفع زيادة ثقةن والراوي قد ينشط فيرفع الحديث وقد يقتصر فيرويه موقوفا.
وترجمه الحافظ في لسان الميزان وزاد أن الطحاوي روى له حديثا آخر موقوفا على أبي هريرة من رواية حرب بن شداد عن يحيى ثم قال: "وذكره الحاكم أبو أحمد في الكنى فيمن لا يعرف اسمه وساق حديث العسيلة من طريق البخاري في التاريخ عن سعيد بن حفص عن شيبان به ولم يذكر فيه جرحا".
وهذا الحديث ذكره ابن كثير 1: 548 من روايتي الطبري هاتين. ثم قال: "وأبو الحارث غير معروف". والتعقيب عليه: أن البخاري وأبا حاتم عرفاه، ولم يذكرا فيه جرحا فهو ثقة فضلا عن انه تابعي، وهم على الثقة حتى يستبين جرح واضح.
وذكره السيوطي 1: 284 ونسبه لابن أبي شيبة وابن جرير فقط. وأشار إليه الترمذي 2: 185 في قوله"وفي الباب". فقال شارحه المباركفوري: "وأما حديث أبي هريرة فأخرجه الطبراني وابن أبي شيبة". وانا أرجح أن قوله"الطبراني" لأنه لو كان عند الطبراني لذكره الهيثمي في مجمع الزوائد ولم يفعل. وكذلك السيوطي لم ينسبه للطبراني بل نسبه للطبري.
وقوله: "يطلقها زوجها ثلاثا": كلمة"ثلاثا" ليست في المخطوطة. وهي ثابتة في ابن كثير والسيوطي فإثباتها أجود وأوثق.(4/593)
4900 - حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطي، قال: حدثنا هشام بن عبد الملك، قال: حدثنا محمد بن دينار، قال: حدثنا يحيى بن يزيد الهنائي، عن أنس بن مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل طلق امرأته ثلاثا، فتزوجها آخر فطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الأول؟ قال:"لا حتى يذوق عسيلتها وتذوق عسيلته". (1)
__________
(1) الحديث: 4900- محمد بن إبراهيم الأنماطي شيخ الطبري: هو الملقب بمربع صاحب يحيى بن معين، وتلميذ الإمام أحمد بن حنبل. ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/187 وقال: "بغدادي من الحفاظ" وترجمه الخطيب في تاريخ بغداد 1: 388- 389 ترجمه جيدة وقال: "كان أحد الحفاظ الفهماء" وذكر أن يحيى بن معين هو الذي لقبه"بمربع"- في نفر من أصحابه: "وهلاء كبار أصحابه وحفاظ الحديث". وترجمه القاضي ابن أبي يعلى في طبقات الحنابلة 1: 266- 267 ترجمة مختصرة من تاريخ شيخه الخطيب. وفي التهذيب 9: 11 ترجمة شيخ من هذه الطبقة قد يشتبه بهذا وهو"محمد بن إبراهيم الأسباطي" فهذا كوفي نزل مصر، وهو غير ذاك. وترجمه ابن أبي حاتم أيضًا 3/2/186.
هشام بن عبد الملك: هو أبو الوليد الطيالسي الحافظ مضى في: 28.
محمد بن دينار الطاحي أبو بكر بن أبي الفرات: تكلم فيه بعضهم والحق أنه ثقة قال ابن معين: "ليس به بأس" وقال أبو زرعة: "صدوق". وترجمه البخاري في الكبير 11/77 فلم يذكر فيه جرحا.
يحيى بن يزيد الهنائي البصري: تابعي ثقة ذكره ابن حبان في الثقات وترجمه البخاري في الكبير 4/2/310 فلم يذكر فيه جرحا. وروى عنه شعبة وهو لا يروي إلا عن ثقة. وأخرج له مسلم في صحيحه.
و"الهنائي" بضم الهاء وتخفيف النون، نسبة إلى هناءة بن مالك بن فهم من الأزد قاله ابن الأثير في اللباب.
والحديث رواه أحمد في المسند: 14069 (3: 284 حلبي) عن عفان عن محمد بن دينار بهذا الإسناد، نحوه مطولا قليلا.
ورواه البيهقي 7: 375- 376 من طريق يحيى بن حماد عن محمد بن دينار به.
ونقله ابن كثير 1: 548 عن رواية المسند ثم أشار إلى هذه الرواية عند الطبري. وذكره السيوطي 1: 284 منسوبا لهؤلاء.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 340 ونسبه لأحمد والبزار وأبي يعلى والطبراني في الأوسط. وقال: "ورجاله رجال الصحيح. خلا محمد بن دينار الطاحي وقد وثقه أبو حاتم وأبو زرعة وابن حبان. وفيه كلام لا يضر".(4/594)
4901 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، ويعقوب بن ماهان، قالا حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن أبي إسحاق، عن سليمان بن يسار، عن عبيد الله بن العباس: أن الغميصاء- أو: الرميصاء- جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تشكو زوجها، وتزعم أنه لا يصل إليها، قال: فما كان إلا يسيرا حتى جاء زوجها، فزعم أنها كاذبة، ولكنها تريد أن ترجع إلى زوجها الأول، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليس لك حتى يذوق عسيلتك رجل غيره". (1)
__________
(1) الحديث: 4901- يعقوب بن إبراهيم شيخ الطبري: هو الدورقي الحافظ مضى مرارا ويعقوب بن ماهان شيخه أيضًا: هو البغدادي البناء وهو ثقة، قال حجاج بن الشاعر: "ليس ببغداد مثل يعقوب بن ماهان".
والحديث رواه أحمد في المسند: 1837. وهو حديث صحيح، فصلنا القول فيه هناك، وفي الاستدراك في المسند، رقم: 1448. (ج8 ص312- 313 بشرحنا) .
وذكره السيوطي 1: 284 منسوبا لأحمد والنسائي فقط. ولكنه فيه"عن عبد الله بن عباس". وهو عندي- خطأ ناسخ أو طابع كما وقع في مطبوعة النسائي.(4/595)
4902 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن علقمة بن مرثد، عن سالم بن رزين الأحمري، عن سالم بن عبد الله، عن سعيد بن المسيب، عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم في رجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها ألبتة، فتتزوج زوجا آخر، فيطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى الأول؟ قال:"لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها".
4903 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن رزين الأحمري، عن ابن عمر، عن النبي أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا، فيتزوجها رجل، فأغلق الباب، فطلقها قبل أن يدخل بها، أترجع إلى زوجها الآخر؟ قال:"لا حتى يذوق عسيلتها".
4904 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن سليمان بن رزين، عن ابن عمر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب عن رجل طلق امرأته، فتزوجت بعده، ثم طلقها أو مات عنها، أيتزوجها الأول؟ قال: لا حتى تذوق عسيلته. (1)
* * *
__________
(1) الأحاديث: 4902- 4904 هي حديث واحد بثلاثة أسانيد واسانيده كلها ضعاف. وقد فصلت القول فيه في شرح المسند: 4776، 4777، 5277، 5278، 5571.
* وقد ذكر البخاري الخلاف فيه، في الكبير 2/214 في ترجمة"سليمان بن رزين". ثم قال: قال إبراهيم بن المنذر: حدثنا أنس بن عياض سمع موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: لو فعله أحد وعمر حي، لرجمهما. قال أبو عبد الله [هو البخاري نفسه] : وهذا أشهر ولا تقوم الحجة بسالم بن رزين ولا برزين لأنه لا يدري سماعه من سالم ولا من ابن عمر".
* وخبر ابن عمر هذا -الموقوف- رواه أيضًا عبد الرزاق في المصنف (3: 305 مخطوط مصور) : "عن ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر قال: لو أن رجلا طلق امرأته ثلاثا ثم نكحها رجل بعده، ثم طلقها قبل أن يجامعها ثم نكحها زوجها الأول- فيفعل ذلك وعمر حي إذن لرجمهما".(4/596)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" فإن طلقها" فإن طلق المرأة- التي بانت من زوجها بآخر التطليقات الثلاث بعد ما نكحها مطلقها الثاني-، (1) زوجها الذي نكحها بعد بينونتها من الأول=" فلا جناح عليهما" يقول تعالى ذكره: فلا حرج على المرأة التي طلقها هذا الثاني من بعد بينونتها من الأول، وبعد نكاحه إياها-، (2) وعلى الزوج الأول الذي كانت حرمت عليه ببينونتها منه بآخر التطليقات= أن يتراجعا بنكاح جديد. كما:
4905 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس:" فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله" (3) يقول: إذا تزوجت بعد الأول، فدخل الآخر بها، فلا حرج على الأول أن يتزوجها إذا طلق الآخر أو مات عنها، فقد حلت له.
4906 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثنا هشام، قال: أخبرنا
__________
(1) قوله: "زوجها" فاعل قوله في صدر الكلام: "فإن طلق المرأة. . " وسياق جملته: "فإن طلق المرأة. . . زوجها الذي نكحها. . . " وما بينهما فصل طويل في صفة"المرأة".
(2) قوله"على الزوج. . . " معطوف على قوله: "على المرأة" وسياق جملته: "فلا حرج على المرأة. . . وعلى الزوج. . . أن يتراجعا". وهكذا اضطررت للمخالفة بين أنواع الفواصل حتى يتيسر للقارئ وصل الكلام بعضه ببعض.
(3) في المخطوطة قطع الآية عند قوله: "أن يتراجعا" ومضى في الكلام.(4/597)
جويبر، عن الضحاك، قال: إذا طلق واحدة أو ثنتين، فله الرجعة ما لم تنقض العدة. قال: والثالثة قوله:" فإن طلقها" يعني الثالثة فلا رجعة له عليها حتى تنكح زوجا غيره، فيدخل بها،"فإن طلقها"= هذا الأخير بعد ما يدخل بها،"فلا جناح عليهما أن يتراجعا" = يعنى الأول ="إن ظنا أن يقيما حدود الله".
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود الله" فإن معناه: إن رجوا مطمعا أن يقيما حدود الله. وإقامتهما حدود الله: العمل بها، وحدود الله: ما أمرهما به، وأوجب بكل واحد منهما على صاحبه، وألزم كل واحد منهما بسبب النكاح الذي يكون بينهما. وقد بينا معنى"الحدود"، ومعنى"إقامة" ذلك، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وكان مجاهد يقول في تأويل قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود الله" ما:-
4907 - حدثني به محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" إن ظنا أن يقيما حدود الله" إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة. (2)
4908 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقد وجه بعض أهل التأويل قوله" إن ظنا" إلى أنه بمعنى: إن أيقنا. (3) وذلك ما لا وجه له، لأن أحدا لا يعلم ما هو كائن إلا الله تعالى
__________
(1) انظر تفسير"الحدود" فيما سلف من هذا الجزء 4: 584 ومعنى"إقامة الحدود والصلاة" فيما سلف 1: 241 وهذا الجزء 4: 564، 565.
(2) الدلسة: (بضم فسكون) الظلام ومثله"الدلس" (بفتحتين) ومن مجازها: دالس يدالس مدالسة: أي خادع وغدر لأنه يخفي عليك الشيء، كأنه يأتيك به في الظلام ولم أجد من استعمل"الدلسة" مجازا في المخادعة والغش إلا في هذا الأثر. وهو عربي عتيق فصيح.
(3) هو أبو عبيدة في مجاز القرآن 1: 74.(4/598)
ذكره. فإذ كان ذلك كذلك، فما المعنى الذي به يوقن الرجل والمرأة أنهما إذا تراجعا أقاما حدود الله؟ ولكن معنى ذلك كما قال تعالى ذكره:" إن ظنا" بمعنى طمعا بذلك ورجوا
* * *
"وأن" التي في قوله:" أن يقيما"، في موضع نصب بـ "ظنا"، و"أن" التي في" أن يتراجعا" جعلها بعض أهل العربية في موضع نصب بفقد الخافض، (1) لأن معنى الكلام: فلا جناح عليهما في أن يتراجعا- فلما حذفت"في" التي كانت تخفضها نصبها، فكأنه قال: فلا جناح عليهما تراجعهما.
وكان بعضهم يقول: (2) موضعه خفض، وإن لم يكن معها خافضها، وإن كان محذوفا فمعروف موضعه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:" وتلك حدود الله" هذه الأمور التي بينها لعباده في الطلاق والرجعة والفدية والعدة والإيلاء وغير ذلك مما يبينه لهم في هذه الآيات="حدود الله"- معالم فصول حلاله وحرامه، وطاعته ومعصيته=" يبينها"= يفصلها، فيميز بينها، ويعرفهم أحكامها لقوم يعلمونها إذا بينها الله لهم، فيعرفون أنها من عند الله، فيصدقون بها، ويعملون بما أودعهم الله من علمه، دون الذين قد طبع الله على قلوبهم، وقضى عليهم أنهم لا يؤمنون بها، ولا يصدقون
__________
(1) يعني بهذا الفراء في معاني القرآن 1: 148.
(2) هو الكسائي فيما نقله الفراء في كتابه 1: 148 أيضًا.(4/599)
بأنها من عند الله، فهم يجهلون أنها من الله، وأنها تنزيل من حكيم حميد. ولذلك خص القوم الذي يعلمون بالبيان دون الذين يجهلون، إذ كان الذين يجهلون أنها من عنده قد آيس نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم من تصديق كثير منهم بها، وإن كان بينها لهم من وجه الحجة عليهم ولزوم العمل لهم بها، وإنما أخرجها من أن تكون بيانا لهم من وجه تركهم الإقرار والتصديق به.
* * *(4/600)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"وإذا طلقتم"، أيها الرجال نساءكم ="فبلغن أجلهن"، يعني: ميقاتهن الذي وقته لهن، من انقضاء الأقراء الثلاثة، إن كانت من أهل القرء، (1) وانقضاء الأشهر، إن كانت من أهل الشهور="فأمسكوهن"، يقول: فراجعوهن إن أردتم رجعتهن في الطلقة التي فيها رجعة: وذلك إما في التطليقة الواحدة أو التطليقتين، كما قال تعالى ذكره: (الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) .
=وأما قوله:"بمعروف"، فإنه عنى: بما أذن به من الرجعة، من الإشهاد على الرجعة قبل انقضاء العدة، دون الرجعة بالوطء والجماع. لأن ذلك إنما يجوز للرجل بعد الرجعة، وعلى الصحبة مع ذلك والعشرة بما أمر الله به وبينه لكم أيها الناس ="أو سرحوهن بمعروف"، يقول: أو خلوهن يقضين تمام عدتهن وينقضي بقية أجلهن الذي أجلته لهن لعددهن، بمعروف. يقول: بإيفائهن تمام حقوقهن عليكم، (2) على ما ألزمتكم لهن من مهر ومتعة ونفقة وغير ذلك من حقوقهن قبلكم ="ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا" = يقول: ولا تراجعوهن،
__________
(1) في المطبوعة: "من أهل الأقراء"، وهي صواب، ولكن لا أدري لم غير ما في المخطوطة.
(2) في المخطوطة: "بإنفاقهن"، وهو فساد من الناسخ العجل، كما أسلفت.(5/7)
إن راجعتموهن في عددهن، مضارة لهن، لتطولوا عليهن مدة انقضاء عددهن، أو لتأخذوا منهن بعض ما آتيتموهن بطلبهن الخلع منكم، لمضارتكم إياهن، بإمساككم إياهن، ومراجعتكموهن ضرارا واعتداء.
وقوله:"لتعتدوا"، يقول: لتظلموهن بمجاوزتكم في أمرهن حدودي التي بينتها لكم.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4909- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق:"ولا تمسكوهن ضرارا"، قال: يطلقها، حتى إذا كادت تنقضي راجعها، ثم يطلقها، فيدعها، حتى إذا كادت تنقضي عدتها راجعها، ولا يريد إمساكها: فذلك الذي يضار ويتخذ آيات الله هزوا.
4910- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي رجاء قال: سئل الحسن عن قوله تعالى:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: كان الرجل يطلق المرأة ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، يضارها، فنهاهم الله عن ذلك.
4911- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف"، قال: نهى الله عن الضرار ="ضرارا"، أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها عند آخر يوم يبقى من الأجل، حتى يفي لها تسعة أشهر، ليضارها به.
4912- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه= إلا أنه قال: نهى عن الضرار، والضرار في الطلاق(5/8)
أن يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها= وسائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو.
4913- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، كان الرجل يطلق امرأته ثم يراجعها قيل انقضاء عدتها، ثم يطلقها. يفعل ذلك يضارها ويعضلها، فأنزل الله هذه الآية. (1)
4914- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: كان الرجل يطلق امرأته تطليقة واحدة، ثم يدعها، حتى إذا ما تكاد تخلو عدتها راجعها، ثم يطلقها، حتى إذا ما كاد تخلو عدتها راجعها. (2) ولا حاجة له فيها، إنما يريد أن يضارها بذلك. فنهى الله عن ذلك وتقدم فيه، (3) وقال:"ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه".
4915- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، فإذا طلق الرجل المرأة وبلغت أجلها، فليراجعها بمعروف أو ليسرحها بإحسان، ولا يحل له أن يراجعها ضرارا، وليست له فيها رغبة، إلا أن يضارها.
4916- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: هو في الرجل
__________
(1) عضل المرأة يعضلها: لم يحسن عشرتها، ليضطرها بذلك إلى الافتداء منه بمهرها الذي أمهرها.
(2) خلا الشيء يخلو خلوا: مضى وانقضى.
(3) قوله: "تقدم فيه"، أي أمرهم بأمره فيه ونهاهم عن فعله، وزجرهم.(5/9)
يحلف بطلاق امرأته، فإذا بقي من عدتها شيء راجعها، يضارها بذلك ويطول عليها، فنهاهم الله عن ذلك.
4917- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا إسماعيل بن أبي أويس، عن مالك بن أنس، عن ثور بن زيد الديلي: أن رجلا كان يطلق امرأته ثم يراجعها، ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها، كيما يطول عليها بذلك العدة ليضارها، فأنزل الله تعالى ذكره:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه"، يعظم ذلك. (1)
4918- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان الباهلي قال: سمعت الضحاك يقول في قوله:"ولا تمسكوهن ضرارا"، هو الرجل يطلق امرأته واحدة ثم يراجعها، ثم يطلقها ثم يراجعها، ثم يطلقها، ليضارها بذلك، لتختلع منه.
4920- حدثنا موسى قال حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزوا"، قال: نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار (2) طلق امرأته حتى إذا انقضت عدتها إلا يومين أو ثلاثة، راجعها، (3) ثم طلقها، ففعل ذلك بها حتى مضت لها تسعة أشهر، مضارَّةً يضارُّها، فأنزل الله تعالى ذكره:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا".
4921- حدثني العباس بن الوليد قال، أخبرني أبي قال، سمعت عبد العزيز
__________
(1) الأثر: 4917- الموطأ: 588، بلفظه، إلا قوله: "يعظم ذلك" فإنها فيه"يعظهم الله بذلك". وفي المطبوعة: "ليعظم ذلك".
(2) في المطبوعة: "ثابت بن بشار"، والصواب من المخطوطة، والدر المنثور 1: 285، وأسد الغابة، وذكر الخبر، ونسبه إلى الطبري وابن المنذر.
(3) في المطبوعة: "أو ثلاثا" والصواب من المخطوطة.(5/10)
يسأل عن طلاق الضرار فقال: يطلق ثم يراجع، ثم يطلق ثم يراجع، فهذا الضرار الذي قال الله:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا".
4922- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية:"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا"، قال: الرجل يطلق امرأته تطليقة، ثم يتركها حتى تحيض ثلاث حيض، ثم يراجعها، ثم يطلقها تطليقة، ثم يمسك عنها حتى تحيض ثلاث حيض، ثم يراجعها="لتعتدوا"، قال: لا يطاول عليهن.
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"التسريح"، من"سرح القوم"، وهو ما أطلق من نَعَمهم للرعي. يقال للمواشي المرسلة للرعي "هذا سرْح القوم" يراد به مواشيهم المرسلة للرعي. ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) [سورة النحل: 5، 6] يعني بقوله:"حين تسرحون"، حين ترسلونها للرعي. فقيل للمرأة إذا خلاها زوجها فأبانها منه: سرحها، تمثيلا لذلك ب"تسريح" المسرح ماشيته للرعي، وتشبيها به. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومن يراجع امرأته = بعد طلاقه إياها في الطلاق الذي له فيه عليها الرجعة = ضرارا بها ليعتدي حد الله في أمرها،
__________
(1) هذا دليل آخر على أن الطبري كان أحيانا يرجئ تفسير كلمة أو ينساها، لرغبته في الاختصار وإلا فقد مضى"التسريح" آنفًا في الآية: 229، ولم يبينه هناك.(5/11)
فقد ظلم نفسه، يعني: فأكسبها بذلك إثما، وأوجب لها من الله عقوبة بذلك.
* * *
وقد بينا معنى"الظلم" فيما مضى، وأنه وضع الشيء في غير موضعه، وفعل ما ليس للفاعل فعله. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولا تتخذوا أعلام الله وفصوله بين حلاله وحرامه، وأمره ونهيه، في وحيه وتنزيله = استهزاء ولعبا، فإنه قد بين لكم في تنزيله وآي كتابه، ما لكم من الرجعة على نسائكم، في الطلاق الذي جعل لكم عليهن فيه الرجعة، وما ليس لكم منها، وما الوجه الجائز لكم منها، وما الذي لا يجوز، وما الطلاق الذي لكم عليهن فيه الرجعة، وما ليس لكم ذلك فيه، وكيف وجوه ذلك، رحمة منه بكم ونعمة منه عليكم، ليجعل بذلك لبعضكم = من مكروه، إن كان فيه من صاحبه ما يؤذيه = المخرج والمخلص بالطلاق والفراق، (2) وجعل ما جعل لكم عليهن من الرجعة سبيلا لكم إلى الوصول إلى ما نازعه إليه ودعاه إليه هواه، بعد فراقه إياهن منهن، لتدركوا بذلك قضاء أوطاركم منهن، إنعاما منه بذلك عليكم، لا لتتخذوا ما بينت لكم من ذلك في آي كتابي وتنزيلي -تفضلا مني ببيانه عليكم
__________
(1) انظر مراجع"الظلم" فيما سلف 4: 584، تعليق رقم: 2
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "ليجعل بذلك لبعضكم من مكروه إن كان فيه من صاحبه مما هو فيه المخرج. . . "، وهي جملة لا تكاد تستقيم، وأظن أن الناسخ العجل في هذا القسم من الكتاب، قد عجل كعادته، فنقل"ما يؤذيه""مما هو فيه" جعل"الياء" هاء، وشبك الذال في الياء وجعلها فاء. وسياق الجملة: "ليجعل بذلك لبعضكم المخرج والمخلص. . . من مكروه إن كان -فيه من صاحبه ما يؤذيه"_ أي: في هذا المكروه من صاحبه أذى له، وجملة"فيه من صاحبه ما يؤذيه"، صفة لقوله: "مكروه".(5/12)
وإنعاما ورحمة مني بكم- لعبا وسخريا.
* * *
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال، أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4923- حدثني عبد الله بن أحمد بن شبويه قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أيوب بن سليمان قال، حدثنا أبو بكر بن أبي أويس، عن سليمان بن بلال، عن محمد بن أبي عتيق وموسى بن عقبة، عن ابن شهاب، عن سليمان بن أرقم: أن الحسن حدثهم: أن الناس كانوا على عهد رسول الله صلي الله عليه وسلم، يطلق الرجل أو يعتق فيقال: ما صنعت؟ فيقول: إنما كنت لاعبا! قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: من طلق لاعبا أو أعتق لاعبا فقد جاز عليه = قال الحسن: وفيه نزلت:"ولا تتخذوا آيات الله هزوا". (1) .
4924- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
__________
(1) الحديث: 4923- عبد الله بن أحمد بن شبويه: مضى في: 1909- أبوه"أحمد بن محمد بن ثابت بن عثمان الخزاعي، أبو الحسن بن شبويه": ثقة، روى عنه ابن معين -وهو من أقرانه- وأبو زرعة وأبو داود، وغيرهم. أيوب بن سليمان بن بلال التيمي: ثقة من شيوخ البخاري. يروى عن أبيه بواسطة ابن أبي أويس. أبو بكر بن أبي أويس: هو عبد الحميد بن عبد الله بن عبد الله المدني الأعشى، مضى في: 4333. سليمان بن بلال: مضى في 41، 4333. محمد بن أبي عتيق: هو محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، نسب إلى"أبي عتيق" كنية جده"محمد بن عبد الرحمن". وهو ثقة، أخرج له البخاري في صحيحه. سليمان بن أرقم، أبو معاذ البصري: ضعيف جدا، قال البخاري: "تركوه". وقال ابن معين: "ليس يسوى فلسا، وليس بشيء". وقال أبو زرعة: "ضعيف الحديث، ذاهب الحديث". وهو من تلاميذ الزهري، ولكن الزهري يروى عنه أحيانا، كما في هذا الإسناد. وهذا الحديث ضعيف، لإرساله، إلى ضعف راويه سليمان بن أرقم. وقد جاء هذا الحديث المرسل بإسناد أجود من هذا -على إرساله-: فرواه ابن أبي حاتم، عن عصام بن رواد، عن آدم بن أبي إياس، عن المبارك بن فضالة، عن الحسن. ذكره ابن كثير 1: 555. ثم أشار إلى إسناد الطبري هنا. وذكره السيوطي 1: 286، وزاد نسبته لابن أبي شيبة.(5/13)
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تتخذوا آيات الله هزوا"، قال: كان الرجل يطلق امرأته فيقول: إنما طلقت لاعبا! فنهوا عن ذلك، فقال تعالى ذكره:"ولا تتخذوا آيات الله هزوا".
4925- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسحاق بن منصور، عن عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن عبد الرحمن، عن أبي العلاء، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي موسى: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم غضب على الأشعريين -فأتاه أبو موسى فقال: يا رسول الله، غضبت على الأشعريين! فقال: يقول أحدكم:"قد طلقت، قد راجعت"!! ليس هذا طلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل عدتها.
4926- حدثنا أبو زيد، عن ابن شبة قال، حدثنا أبو غسان النهدي قال، حدثنا عبد السلام بن حرب، عن يزيد بن أبي خالد -يعني الدالاني- عن أبي العلاء الأودي، عن حميد بن عبد الرحمن، عن أبي موسى الأشعري، عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال:" لم يقول أحدكم لامرأته: قد طلقتك، قد راجعتك"؟ ليس هذا بطلاق المسلمين، طلقوا المرأة في قبل طهرها. (1)
* * *
__________
(1) الحديثان: 4925، 4926- إسحاق بن منصور السلولي- في الإسناد الأول: ثقة، أخرج له الأئمة الستة.
و"أبو زيد عن ابن شبة" -في الإسناد الثاني: لم أجد في هذه الطبقة من يعرف بأبي زيد، ولا في التي فوقها من يعرف بابن شبة. والظاهر أنه شيخ واحد، محرف عن"أبي زيد عمر بن شبة". أبو غسان النهدي: هو مالك بن إسماعيل بن درهم، مضى في: 2989.
يزيد بن عبد الرحمن - في الإسناد الأول: هو"يزيد أبو خالد الدالاني". في الإسناد الثاني. مضت ترجمته في: 875. ووقع في الإسناد الثاني -هنا-"عن يزيد بن أبي خالد"، وزيادة"بن" خطأ.
أبو العلاء الأودي: هو داود بن عبد الله الأودي الزعافري. وهو ثقة، وثقه أحمد، وابن معين، وغيرهما. وأخطأ من خلط بينه وبين"داود بن يزيد الأودي، عم ابن إدريس". "الزعافري": نسبة إلى"الزعافر"، وهم بطن من"أود".
حميد بن عبد الرحمن الحميري البصري: تابعي ثقة، أخرج له الأئمة الستة.
والحديث رواه أيضًا البيهقي 7: 323، من طريق العباس بن محمد الدوري، عن مالك بن إسماعيل، وهو أبو غسان النهدي، عن عبد السلام بن حرب، به. وآخره عنده: "طلقوا المرأة في قبل طهرها". وقوله في الإسناد الثاني: "أنه قال: لم يقول أحدكم لامرأته" - في المطبوعة"لهم" بدل"لم". والظاهر أنها خطأ، فصححناه من رواية البيهقي.
وإسنادا الطبري هذان صحيحان. وكذلك إسناد البيهقي. ونقله ابن كثير 1: 554، عن إسناد الطبري الأول، ثم أشار إلى الثاني. ونقله السيوطي 1: 285 - 286، ونسبة لابن ماجه، وابن جرير، والبيهقي. ثم نقله بنحوه 6: 230، ونسبه لعبد بن حميد، وابن مردويه.
ورواية ابن ماجه ليست بهذا اللفظ، ولا من هذا الوجه. فرواه ابن ماجه: 2017، عن محمد بن بشار، عن مؤمل بن إسماعيل، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي بردة، عن أبي موسى، مرفوعا: "ما بال أقوام يلعبون بحدود الله؟ يقول أحدهم: قد طلقتك، قد راجعتك، قد طلقتك!! " وقال البوصيري في زوائده: "إسناده حسن، مؤمل بن إسماعيل اختلف فيه، فقيل: ثقة. وقيل: كثير الخطأ، وقيل: منكر الحديث".
وقد أخطأ البوصيري من وجهين. فإن مؤمل بن إسماعيل ثقة، كما بينا في: 2057. ثم هو لم ينفرد بروايته حتى يعل به.
فقد رواه البيهقي 7: 322، من طريق موسى بن مسعود النهدي، عن سفيان، وهو الثوري، بهذا الإسناد. ثم رواه أيضًا من طريق مؤمل بن إسماعيل، عن الثوري. وموسى بن مسعود: ثقة، كما بينا في: 280، 1693.(5/14)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واذكروا نعمة الله عليكم بالإسلام، الذي أنعم عليكم به فهداكم له، وسائر نعمه التي خصكم بها دون غيركم من سائر خلقه، فاشكروه على ذلك بطاعته فيما أمركم به ونهاكم عنه، واذكروا أيضا مع ذلك ما أنزل عليكم من كتابه، وذلك: القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلي الله عليه وسلم، (1) واذكروا ذلك فاعملوا به، واحفظوا حدوده فيه = و"الحكمة"، يعني: وما أنزل عليكم من الحكمة، وهي السنن التي علمكموها رسول الله صلي الله عليه وسلم وسنها لكم.
__________
(1) في المطبوعة: "من كتابه ذلك القرآن"، وهو سهو من الكاتب والصواب من المخطوطة.(5/15)
وقد ذكرت اختلاف المختلفين في معنى"الحكمة" فيما مضى قبل في قوله: (وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (1) [سورة البقرة: 129] ، فأغنى عن إعادته في هذا الموضع. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يعظكم به"، يعظكم بالكتاب الذي أنزل عليكم = والهاء التي في قوله:"به"، عائدة على الكتاب.
"واتقوا الله"، يقول: وخافوا الله = فيما أمركم به وفيما نهاكم عنه في كتابه الذي أنزله عليكم، وفيما أنزله فبينه على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم لكم = أن تضيعوه وتتعدوا حدوده، فتستوجبوا ما لا قبل لكم به من أليم عقابه ونكال عذابه.
وقوله:"واعلموا أن الله بكل شيء عليم"، يقول: واعلموا أيها الناس أن ربكم = الذي حد لكم هذه الحدود، وشرع لكم هذه الشرائع، وفرض عليكم هذه الفرائض، في كتابه وفي تنزيله على رسوله محمد صلي الله عليه وسلم= بكل ما أنتم عاملوه- من خير وشر، وحسن وسيئ، وطاعة ومعصية، عالم لا يخفى عليه من ظاهر ذلك وخفيه وسره وجهره، شيء، وهو مجازيكم بالإحسان إحسانا، وبالسيئ سيئا، إلا أن يعفو ويصفح، فلا تتعرضوا لعقابه وتظلموا أنفسكم. (3)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ويعلمكم الكتاب"، وصوابها هنا ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 3: 87، 88.
(3) في المطبوعة: "ولا تظلموا أنفسكم"، والصواب من المخطوطة بحذف"لا".(5/16)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ}
قال أبو جعفر: ذكر أن هذه الآية نزلت في رجل كانت له أخت كان زوجها من ابن عم لها فطلقها، وتركها فلم يراجعها حتى انقضت عدتها، ثم خطبها منه، فأبى أن يزوجها إياه ومنعها منه، وهي فيه راغبة.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الرجل الذي كان فعل ذلك، فنزلت فيه هذه الآية. فقال بعضهم كان ذلك الرجل:"معقل بن يسار المزني".
* ذكر من قال ذلك:
4927- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة عن الحسن، عن معقل بن يسار قال: كانت أخته تحت رجل فطلقها، ثم خلا عنها، (1) حتى إذا انقضت عدتها خطبها، فحمي معقل من ذلك، أَنَفًا، (2) وقال: خلا عنها وهو يقدر عليها!! (3) فحال بينه وبينها، فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف". (4)
__________
(1) خلا عن الشيء: تركه. وهذا الفعل الثلاثي قلما تصيبه واضحا في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق. وقد جاء في ثنايا العبارة في مادة (خلا) من لسان العرب، وأتى به واضحا الشيرازي في معيار اللغة. والرواية الآتية تدل على صحة معناه كذلك. وهكذا جاء في مخطوطة الطبري ومطبوعته"خلا" ثلاثيا في الموضعين، وجاء في رواية البخاري التي سنذكرها بعد"خَلَّى عَنْها" في الموضعين، وهي بمعناها.
(2) قال ابن حجر في الفتح: "حمى - بكسر ثانية، وأنفًا، بفتح الهمزة والنون، أي ترك الفعل غيظا وترفعا" وحمى: أخذته الحمية، وهي الأنفة والغيرة.
(3) خلا عن الشيء: تركه. وهذا الفعل الثلاثي قلما تصيبه واضحا في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق. وقد جاء في ثنايا العبارة في مادة (خلا) من لسان العرب، وأتى به واضحا الشيرازي في معيار اللغة. والرواية الآتية تدل على صحة معناه كذلك. وهكذا جاء في مخطوطة الطبري ومطبوعته"خلا" ثلاثيا في الموضعين، وجاء في رواية البخاري التي سنذكرها بعد"خلى عنها" في الموضعين، وهي بمعناها.
(4) الأثر: 4927- أخرجه البخاري بروايته عن محمد بن المثنى، عن عبد الأعلى (الفتح 9: 425-426) ، وفي رواية البخاري زيادة: "فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه. فترك الحمية واستقاد لأمر الله". وستأتي في مرسل قتادة الآتي برقم: 4930، وسأشرحها في التعليق هناك.(5/17)
4928- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن الفضل بن دلهم، عن الحسن، عن معقل بن يسار: أن أخته طلقها زوجها، فأراد أن يراجعها، فمنعها معقل، فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" إلى آخر الآية. (1)
4929- حدثنا محمد بن عبد الله المخزومي قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا عباد بن راشد قال، حدثنا الحسن قال، حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت تخطب وأمنعها الناس، حتى خطب إلي ابن عم لي فأنكحتها، فاصطحبا ما شاء الله، ثم إنه طلقها طلاقا له رجعة، ثم تركها حتى انقضت عدتها، ثم خطبت إلي، فأتاني يخطبها مع الخطاب، فقلت له: خطبت إلي فمنعتها الناس، فآثرتك بها، ثم طلقت طلاقا لك فيه رجعة، فلما خُطبت إلي آتيتني تخطبها مع الخطاب! والله لا أنكحكها أبدا! قال: ففي نزلت هذه الآية:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، قال: فكفرت عن يميني، وأنكحتها إياه. (2)
4930- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا
__________
(1) الأثر: 4928- أخرجه الحاكم في المستدرك 2: 280 وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد. ولم يخرجاه"، وعقب عليه الذهبي فقال: "الفضل، ضعفه ابن معين، وقواه غيره". بيد أن ابن أبي حاتم ذكر في ترجمته في الجرح والتعديل 3/2/61: "سئل يحيى بن معين عن الفضل بن دلهم فقال: حديثه صالح" وانظر الاختلاف في أمر الفضل في ترجمته في التهذيب.
(2) الأثر: 4929-"محمد بن عبد الله بن المبارك القرشي المخرمي" (بضم الميم وفتح الخاء وتشديد الراء المكسورة، نسبة إلى"المخرم"، وهي محلة كانت ببغداد، بين الرصافة ونهر المعلى. توفي ببغداد سنة 260، قال النسائي: "كان أحد الثقات، ما رأينا بالعراق مثله". وقال الدارقطني: "ثقة جليل متقن". وقد مضت رواية الطبري عنه رقم: 3730. وكان في المطبوعة: "المخزومي".
وهذا الأثر، أخرجه البخاري بروايته عن عبيد الله بن سعيد، عن أبي عامر العقدي، ولم يذكر إلا صدر الخبر، ليثبت به تحديث الحسن عن معقل لقوله: "حدثني معقل بن يسار" (فتح الباري 8: 143) . وأخرجه أبو داود، بروايته عن محمد بن المثنى، عن أبي عامر العقدي، وهو مختصر.(5/18)
تراضوا بينهم بالمعروف"، ذكر لنا أن رجلا طلق امرأته تطليقة، ثم خلا عنها حتى انقضت عدتها، ثم قرب بعد ذلك يخطبها = والمرأة أخت معقل بن يسار= فأنف من ذلك معقل بن يسار، وقال: خلا عنها وهي في عدتها، ولو شاء راجعها، ثم يريد أن يراجعها وقد بانت منه! فأبى عليها أن يزوجها إياه. وذكر لنا أن نبي لله، لما نزلت هذه الآية، دعاه فتلاها عليه، فترك الحمية واستقاد لأمر الله. (1)
4931- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن يونس، عن الحسن قوله تعالى:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن"، إلى آخر الآية، قال: نزلت هذه الآية في معقل بن يسار. قال الحسن: حدثني معقل بن يسار أنها نزلت فيه، قال: زوجت أختا لي من رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء يخطبها، فقلت له: زوجتك وفرشتك أختي وأكرمتك، ثم طلقتها، ثم جئت تخطبها! لا تعود إليك أبدا! قال: وكان رجل صدق لا بأس به، وكانت المرأة تحب أن ترجع إليه، قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف".
قال، فقلت: الآن أفعل يا رسول الله! فزوجها منه. (2)
__________
(1) الأثر: 4930- هو إسناد الطبري الدائر في التفسير، من تفسير قتادة، بيد أنه من معنى رواية قتادة عن الحسن، رقم: 4927، وفي آخر الزيادة التي أشرنا إليه في رواية البخاري للأثر السالف. و"الحمية" الأنفة والغضب. واستفاد للشيء، أذعن وأطاع، من"قاد الدابة يقودها". أي ألقى بقيادة غير جامح ولا معاند.
(2) الأثر: 4931- أخرجه البخاري. قال: "حدثنا أحمد بن أبي عمر، قال حدثنا أبي، قال حدثني إبراهيم، عن يونس" و"أحمد بن أبي عمر" هو: أحمد بن حفص بن عبد الله بن راشد. و"إبراهيم" هو: "إبراهيم بن طهمان، و"يونس" هو: يونس بن عبيد (الفتح 9: 160) وقد استقصى الكلام فيه الحافظ ابن حجر، ثم ذكره في (الفتح 8: 143) ، وأخرجه الحاكم في المستدرك 2: 174، والبيهقي في السنن 7: 138، كلاهما من طريق أحمد بن حفص بمثل رواية البخاري، وهي مثل رواية الطبري، وإن كان فيها خلاف في بعض اللفظ، كما أشار إليه الحافظ في الفتح، وذكر ما فيه من الروايات. وها هنا خلاف لم يذكره الحافظ في قوله: "فرشتك أختي"، فهكذا هو في المخطوطة والمطبوعة، وفي المستدرك والذهبي جميعا، وفي سائر الروايات"أفرشتك"، وهما صواب في العربية جميعا. من قولهم: "فرشت فلانا بساطا واْفرشته إياه": إذا بسطته له. وفرش له أخته وأفرشها له: جعلها له فراشا. والفراش كناية عن المرأة.(5/19)
4932- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا أبو بكر الهذلي، عن بكر بن عبد الله المزني قال: كانت أخت معقل بن يسار تحت رجل فطلقها، فخطب إليه فمنعها أخوها، (1) فنزلت:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن" إلى آخر الآية.
4933- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" الآية، قال: نزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها وأبينت منه، فنكحها آخر، فعضلها أخوها معقل بن يسار، يضارها خيفة أن ترجع إلى زوجها الأول = قال ابن جريج، وقال عكرمة: نزلت في معقل بن يسار. قال ابن جريج: أخته جمل ابنة يسار، كانت تحت أبي البداح، (2) طلقها، فانقضت عدتها، فخطبها، فعضلها معقل بن يسار.
4934- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، نزلت في امرأة من مزينة طلقها زوجها، فعضلها أخوها أن ترجع إلى زوجها الأول = وهو معقل بن يسار أخوها.
__________
(1) في المخطوطة: "إخوتها"، والذي في المطبوعة أحرى بالصواب، لمشاكلته سائر الروايات.
(2) في المطبوعة: "جميل" بوزن التصغير، كما قال ابن حجر في الفتح والإصابة (9: 160) والذي في المخطوطة مضبوط بالقلم"جمل" بضم الجيم. وقد ذكرها فيه أيضًا وفي الإصابة (بضم أوله وسكون الميم) . وقال ابن حجر أنه وقع في تفسير الطبري"جميل"، ولكن هذه المخطوطة شاهدة على اختلاف نسخ الطبري. واختلف في اسمها واسم"أبي البداح" اختلاف طويل، فراجعه في فتح الباري 9: 160، والإصابة. وسيأتي في رقم: 4936 أن اسمها"فاطمة".(5/20)
4935- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله = إلا أنه لم يقل فيه:"وهو معقل بن يسار".
4936- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق الهمداني: أن فاطمة بنت يسار طلقها زوجها، ثم بدا له فخطبها، فأبى معقل، فقال: زوجناك فطلقتها وفعلت! فأنزل الله تعالى ذكره:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن". (1)
4937- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن وقتادة في قوله:"فلا تعضلوهن"، قال: نزلت في معقل بن يسار، كانت أخته تحت رجل فطلقها، حتى إذا انقضت عدتها جاء فخطبها، فعضلها معقل فأبى أن ينكحها إياه، فنزلت فيها هذه الآية، يعني به الأولياء، يقول:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن".
4938- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن رجل، عن معقل بن يسار قال: كانت أختي عند رجل فطلقها تطليقة بائنة، فخطبها، فأبيت أن أزوجها منه، فأنزل الله تعالى ذكره:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن"، الآية.
* * *
وقال آخرون كان الرجل:"جابر بن عبد الله الأنصاري".
* ذكر من قال ذلك:
4939- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، قال: نزلت في جابر بن عبد الله
__________
(1) الأثر: 4936-"أبو إسحاق الهمداني"، هو"أبو إسحاق السبيعي، عمرو بن عبد الله بن عبيد، من سبيع، والسبيع من همدان" روى عن علي والمغيرة بن شعبة، ومات سنة 126.(5/21)
الأنصاري، وكانت له ابنة عم فطلقها زوجها تطليقة، فانقضت عدتها، ثم رجع يريد رجعتها. فأما جابر فقال: طلقت ابنة عمنا، ثم تريد أن تنكحها الثانية! وكانت المرأة تريد زوجها، قد راضته. فنزلت هذه الآية.
* * *
وقال آخرون: نزلت هذه الآية دلالة على نهي الرجل مضارة وليَّته من النساء، يعضلها عن النكاح.
* ذكر من قال ذلك:
4940- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" فهذا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين، فتنقضي عدتها، ثم يبدو له في تزويجها وأن يراجعها، وتريد المرأة فيمنعها أولياؤها من ذلك، فنهى الله سبحانه أن يمنعوها.
4941- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، كان الرجل يطلق امرأته تبين منه وينقضي أجلها، (1) ويريد أن يراجعها وترضى بذلك، فيأبى أهلها، قال الله تعالى ذكره:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف".
4942- حدثني المثنى قال، حدثنا حبان بن موسى قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن منصور، عن أبي الضحى، عن مسروق في قوله:"فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" قال: كان الرجل يطلق امرأته ثم يبدو له أن يتزوجها، فيأبى أولياء المرأة أن يزوجوها، فقال الله تعالى ذكره:"فلا
__________
(1) في المطبوعة: "تبين منه" بغير فاء، والصواب من المخطوطة.(5/22)
تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف".
4943- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن أصحابه، عن إبراهيم في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن"، قال: المرأة تكون عند الرجل فيطلقها، ثم يريد أن يعود إليها، فلا يعضلها وليها أن ينكحها إياه.
4944- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب: قال الله تعالى ذكره:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن" الآية، فإذا طلق الرجل المرأة وهو وليها، فانقضت عدتها، فليس له أن يعضلها حتى يرثها، ويمنعها أن تستعف بزوج.
4945- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ قال، أخبرنا عبيد بن سلمان قال، سمعت الضحاك يقول في قوله:"وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن"، هو الرجل يطلق امرأته تطليقة، ثم يسكت عنها فيكون خاطبا من الخطاب، فقال الله لأولياء المرأة:"لا تعضلوهن"، يقول: لا تمنعوهن أن يرجعن إلى أزواجهن بنكاح جديد ="إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، = إذا رضيت المرأة وأرادت أن تراجع زوجها بنكاح جديد.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في هذه الآية أن يقال: إن الله تعالى ذكره أنزلها دلالة على تحريمه على أولياء النساء مضارة من كانوا له أولياء من النساء، بعضلهن عمن أردن نكاحه من أزواج كانوا لهن، فبن منهن بما تبين به المرأة من زوجها من طلاق أو فسخ نكاح. وقد يجوز أن تكون نزلت في أمر معقل بن يسار وأمر أخته، أو في أمر جابر بن عبد الله وأمر ابنة عمه. وأي ذلك كان، فالآية دالة على ما ذكرت.
* * *(5/23)
ويعني بقوله تعالى:"فلا تعضلوهن"، لا تضيقوا عليهن بمنعكم إياهن أيها الأولياء من مراجعة أزواجهن بنكاح جديد، تبتغون بذلك مضارتهن.
* * *
يقال منه:"عضل فلان فلانة عن الأزواج يعضلها عضلا"، وقد ذكر لنا أن حيا من أحياء العرب من لغتها:"عضل يعضل". فمن كان من لغته"عضل"، فإنه إن صار إلى"يفعَل"، قال:"يعضَل" بفتح"الضاد". والقراءة على ضم"الضاد" دون كسرها، والضم من لغة من قال"عضل". (1)
* * *
وأصل"العضل"، الضيق، ومنه قول عمر رحمة الله عليه:"وقد أعضل بي أهل العراق، لا يرضون عن وال، ولا يرضى عنهم وال"، (2) يعني بذلك حملوني على أمر ضيق شديد لا أطيق القيام به.
ومنه أيضا"الداء العضال" وهو الداء الذي لا يطاق علاجه، لضيقه عن العلاج، وتجاوزه حد الأدواء التي يكون لها علاج، ومنه قول ذي الرمة:
ولم أقذف لمؤمنة حصان ... بإذن الله موجبة عضالا (3)
__________
(1) هذا البيان لا تجده في كتب اللغة، وليس فيها ما رواه عن لغة هذا الحي من العرب. وقوله"عضل يعضل" بكسر الضاد الأولى وفتح الثانية، مضبوط بالقلم في المخطوطة، كما ضبطت سائر الأفعال.
(2) روى الزمخشري وصاحب اللسان في مادة (عضل) : "أعضل بي أهل الكوفة، ما يرضون بأمير ولا يرضى عنهم أمير" ثم قال الزمخشري: "وروى: غلبني أهل الكوفة، أستعمل عليهم المؤمن فيضعف، وأستعمل عليهم الفاجر فيفجر! "
(3) ديوانه 441- من أبيات وصف بها صنعة شعره فقال:
وشعر قد أرقت له غريب ... أجنبه المساند والمحالا
غرائب قد عرفن بكل أفق ... من الآفاق تفتعل افتعالا
فبت أقيمه، وأقد منه ... قوافي لا أعد لها مثالا
غرائب قد عرفن بكل أفق ... من الآفاق تفتعل افتعالا
فلم أقذف. . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وهذا البيت الأخير، يعرض فيه بأئمة الهجاء في عصره، جرير والفرزدق والأخطل وسائر من تراموا بالسباب. والحصان: العفيفة الطاهرة. والموجبة: أي التي توجب حد القذف، أو توجب النار، أعاذنا الله منها! والعضال: التي لا مخرج منها ولا علاج لها. وسياق البيت: ولم أقذف موجبة عضالا -لمؤمنة حصان. . . يعني: لم أرم الكلمة الشائنة والسباب الفاحش، أبغي به أمرأة عفيفة قد برأها الله مما يقال. ورواية الديوان"بحمد الله"، وهي أجود. هذا والبيت في المخطوطة فاسد: "لرمته حصال"!!(5/24)
ومنه قيل:"عضل الفضاء بالجيش لكثرتم"، إذا ضاق عنهم من كثرتهم. وقيل:"عضلت المرأة"، إذا نشب الولد في رحمها فضاق عليه الخروج منها، ومنه قول أوس بن حجر:
وليس أخوك الدائم العهد بالذي يذمك إن ولى ويرضيك مقبلا (1) ولكنه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا
* * *
و"أن" التي في قوله:"أن ينكحن"، في موضع نصب قوله:"تعضلوهن".
ومعنى قوله:"إذا تراضوا بينهم بالمعروف"، إذا تراضى الأزواج والنساء بما يحل، ويجوز أن يكون عوضا من أبضاعهن من المهور، (2) ونكاح جديد مستأنف، كما:-
4946- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن عمير بن عبد الله، عن عبد الملك بن المغيرة، عن عبد الرحمن بن البيلماني، قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: أنكحوا الأيامى. فقال رجل: يا رسول الله، ما العلائق بينهم؟ قال:"ما تراضى عليه أهلوهم". (3)
__________
(1) ديوانه، القصيدة: 31. وهما بيتان قد كشفا عن سرائر الناس بلا مداجاة. فقلما تظفر بذلك.
(2) الأبضاع جمع بضع (بضم فسكون) : وهو الفرج، والجماع، وعقد النكاح، والمهر، والمراد الأول.
(3) الحديث: 4946- عبد الرحمن: هو ابن مهدي. سفيان: هو الثوري. عمير بن عبد الله بن بشر الخثعمي: ثقة، وثقه ابن نمير وغيره. عبد الملك بن المغيرة الطائفي: تابعي ثقة، وهو يروي هنا عن تابعي آخر. عبد الرحمن بن البيلماني، مولى عمر: تابعي ثقة، تكلم فيه بعض العلماء، والحق أن ما أنكر من حديثه إنما جاء مما رواه عنه ابنه محمد. وأما هو فثقة. وهذا الحديث ضعيف، لأنه مرسل. وقد رواه البيهقي 7: 239، من طريق قيس بن الربيع، عن عمير بن عبد الله، بهذا الإسناد. ثم رواه من طريق حفص بن غياث وأبي معاوية، عن حجاج بن أرطاة، عن عبد الملك بن المغيرة الطائفي، ثم قال: "هذا منقطع".(5/25)
4947- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن الحارث قال، حدثنا محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عمر، عن النبي صلي الله عليه وسلم، بنحو منه. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية الدلالة الواضحة على صحة قول من قال:"لا نكاح إلا بولي من العصبة". وذلك أن الله تعالى ذكره منع الولي من عضل المرأة إن أرادت النكاح ونهاه عن ذلك. فلو كان للمرأة إنكاح نفسها بغير إنكاح وليها إياها، أو كان لها تولية من أرادت توليته في إنكاحها -لم يكن لنهي وليها عن عضلها معنى مفهوم، إذ كان لا سبيل له إلى عضلها. وذلك أنها إن كانت متى أردات النكاح جاز لها إنكاح نفسها، أو إنكاح من توكله إنكاحها، (2)
__________
(1) الحديث: 4947- هو تكرار للحديث قبله، ولكنه في هذا متصل، بذكر"ابن عمر" فيه. وهو ضعيف أيضًا. بل هو أشد ضعفا من ذاك المرسل. محمد بن الحارث بن زياد بن الربيع الحارثي: ثقة، متكلم فيه. وقد فصلنا القول في ترجيحه، في شرح المسند: 5371.
محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني: ضعيف جدا، والبلاء في أحاديث أبيه، ثم في أحاديث محمد ابن الحارث الحارثي -إنما هو من ناحيته. روى عن أبيه أحاديث مناكير لا أصل لها، أو مراسيل لا أصل لوصلها، وروى عنه محمد الحارثي - فتكلم في كل منهما من أجله. وقد فصلنا القول في تضعيفه، في شرح المسند: 4910.
وهذا الحديث رواه البيهقي 7: 239، من طريق بندار، وهو محمد بن بشار، شيخ الطبري هنا - بهذا الإسناد. ثم رواه من طريق أبي عبد الرحمن الحضرمي صالح بن عبد الجبار، عن محمد بن عبد الرحمن بن البيلماني، عن أبيه، عن ابن عباس! ثم نقل عن أبي أحمد بن عدي، قال: محمد ابن عبد الرحمن بن البيلماني ضعيف. ومحمد بن الحارث ضعيف. والضعف على حديثهما بين".
ونقله السيوطي 1: 287، من حديث ابن عمر، ونسبه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن مردويه. ثم سكت عن ضعفه.
(2) في المطبوعة: "من توكله إنكاحها" بإسقاط الباء، وأثبت ما في المخطوطة.(5/26)
فلا عضل هنالك لها من أحد فينهى عاضلها عن عضلها. وفي فساد القول بأن لا معنى لنهي الله عما نهى عنه، صحة القول بأن لولي المرأة في تزويجها حقا لا يصح عقده إلا به. وهو المعنى الذي أمر الله به الولي:= من تزويجها إذا خطبها خاطبها ورضيت به، وكان رضى عند أوليائها، جائزا في حكم المسلمين لمثلها أن تنكح مثله= ونهاه عن خلافه: من عضلها، ومنعها عما أرادت من ذلك، وتراضت هي والخاطب به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله ذلك، ما ذكر في هذه الآية: من نهي أولياء المرأة عن عضلها عن النكاح، يقول: فهذا الذي نهيتكم عنه من عضلهن عن النكاح، عظة مني من كان منكم أيها الناس يؤمن بالله واليوم الآخر- يعني يصدق بالله، فيوحده، ويقر بربوبيته، (1) "واليوم الآخر" يقول: ومن يؤمن باليوم الآخر، فيصدق بالبعث للجزاء والثواب والعقاب، (2) ليتقي الله في نفسه، فلا يظلمها بضرار وليته ومنعها من نكاح من رضيته لنفسها، ممن أذنت لها في نكاحه.
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"ذلك يوعظ به"، وهو
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"الإيمان" في مادة (أمن) من فهارس اللغة في الأجزاء الماضية.
(2) انظر ما سلف في تفسير"اليوم الآخر" 1: 271 / 2: 148.(5/27)
خطاب لجميع، وقد قال من قبل:"فلا تعضلوهن"؟ وإذا جاز أن يقال في خطاب الجميع"ذلك"، أفيجوز أن تقول لجماعة من الناس وأنت تخاطبهم:"أيها القوم، هذا غلامك، وهذا خادمك"، وأنت تريد: هذا خادمكم، وهذا غلامكم؟
قيل: لا إن ذلك غير جائز مع الأسماء الموضوعات، (1) لأن ما أضيف له الأسماء غيرها، (2) فلا يفهم سامع سمع قول قائل لجماعة:"أيها القوم، هذا غلامك"، أنه عنى بذلك هذا غلامكم - إلا على استخطاء الناطق في منطقه ذلك. فإن طلب لمنطقه ذلك وجها في الصواب، (3) صرف كلامه ذلك إلى أنه انصرف عن خطاب القوم بما أراد خطابهم به، إلى خطاب رجل واحد منهم أو من غيرهم، وترك مجاوزة القوم بما أراد مجاوزتهم به من الكلام. (4) وليس ذلك كذلك في"ذلك" لكثرة جري ذلك على ألسن العرب في منطقها وكلامها، حتى صارت"الكاف" -التي هي كناية اسم المخاطب فيها- كهيئة حرف من حروف الكلمة التي هي متصلة. وصارت الكلمة بها كقول القائل:"هذا"، كأنها ليس معها اسم مخاطب. (5) فمن قال:"ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر"، أقر"الكاف" من"ذلك" موحدة مفتوحة في خطاب الواحدة من النساء، والواحد من الرجال، والتحدثنية، والجمع. ومن قال:"ذلكم يوعظ به"، كسر"الكاف" في خطاب الواحدة من النساء، وفتح في خطاب الواحد من الرجال، فقال في خطاب الاثنين
__________
(1) "الأسماء الموضوعات"، كأن"الاسم الموضوع"، هو"الاسم المتمكن، أو المعرب"، ضريع"الاسم غير المتمكن، أو المبني".
(2) قوله: "غيرها"، أي غير الأسماء.
(3) في المطبوعة: "وجها فالصواب"، وهي خطأ محض، والصواب من المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "مجاوزة القوم. . . مجاوزتهم" بالجيم والزاي في الموضعين، وهو كلام غير بصير. والصواب ما في المخطوطة وما يقتضيه السياق.
(5) يعني أنها صارت بمنزلة"هذا" في جريها كأنها كلمة واحدة، وهي مركبة من"الهاء" و"ذا"، الذي هو اسم إشارة.(5/28)
منهم: (1) "ذلكما"، وفي خطاب الجمع"ذلكم".
وقد قيل: إن قوله:"ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله"، خطاب للنبي صلي الله عليه وسلم، ولذلك وحد (2) ثم رجع إلى خطاب المؤمنين بقوله:"من كان منكم يؤمن بالله". وإذا وجه التأويل إلى هذا الوجه، لم يكن فيه مؤونة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله"ذلكم" نكاحهن أزواجهن، ومراجعة أزواجهن إياهن، (3) بما أباح لهن من نكاح ومهر جديد="أزكى لكم"، أيها الأولياء والأزواج والزوجات.
* * *
ويعني بقوله:"أزكى لكم"، أفضل وخير عند الله من فرقتهن أزواجهن. وقد دللنا فيما مضى على معنى"الزكاة"، فأغنى ذلك عن إعادته. (4)
* * *
وأما قوله:"وأطهر"، فإنه يعني بذلك: أطهر لقلوبكم وقلوبهن وقلوب أزواجهن من الريبة. وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما - أعني الزوج والمرأة - علاقة حب، لم يؤمن أن يتجاوزا ذلك إلى غير ما أحله الله لهما،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "فقال في خطاب. . . " بالفاء، وهو لا يستقيم.
(2) في المطبوعة"ولذلك وجه"، وهو كلام مسلوب المعنى، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "نكاح أزواجهن لهن"، وفي المخطوطة: "نكاحهن أزواجهن لهن"، والذي في المطبوعة وجه من التصحيح لما في المخطوطة، ولكني رأيت أن للتصحيح وجها آخر، هو حذف"لهن". وذلك لأنه أراد بقوله: "نكاحهن أزواجهن"، ما جاء في الآية: "أن ينكحن أزواجهن" بإسناد"النكاح" إلى النساء، فلذلك آثرت هذا التصحيح، ولئلا يكون في الكلام تكرير لقوله بعد"ومراجعة أزواجهن إياهن".
(4) انظر ما سلف 1: 573-574 /2: 297 / 3: 88.(5/29)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
ولم يؤمن من أوليائهما أن يسبق إلى قلوبهم منهما ما لعلهما أن يكونا منه بريئين. فأمر الله تعالى ذكره الأولياء -إذا أراد الأزواج التراجع بعد البينونة، بنكاح مستأنف، في الحال التي أذن الله لهما بالتراجع (1) = أن لا يعضل وليته عما أرادت من ذلك، وأن يزوجها. لأن ذلك أفضل لجميعهم، وأطهر لقلوبهم مما يخاف سبوقه إليها من المعاني المكروهة. (2)
ثم أخبر تعالى ذكره عباده أنه يعلم من سرائرهم وخفيات أمورهم ما لا يعلمه بعضهم من بعض، ودلهم بقوله لهم ذلك في هذا الموضع، أنه إنما أمر أولياء النساء بإنكاح من كانوا أولياءه من النساء إذا تراضت المرأة والزوج الخاطب بينهم بالمعروف، ونهاهم عن عضلهن عن ذلك= لما علم مما في قلب الخاطب والمخطوب من غلبة الهوى والميل من كل واحد منهما إلى صاحبه بالمودة والمحبة، فقال لهم تعالى ذكره: افعلوا ما أمرتكم به، إن كنتم تؤمنون بي، وبثوابي وبعقابي في معادكم في الآخرة، فإني أعلم من قلب الخاطب والمخطوبة ما لا تعلمونه من الهوى والمحبة. وفعلكم ذلك أفضل لكم عند الله ولهم، وأزكى وأطهر لقلوبكم وقلوبهن في العاجل. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والنساء اللواتي بن من أزواجهن،
__________
(1) في المطبوعة: "أذن الله لهما"، والمخطوطة ليس فيها زيادة"الله".
(2) "سبوق" مصدر"سبق"، لم يرد في كتب اللغة، ولكن الطيري يكثر استعماله كما أشرنا إليه آنفًا في الجزء 4: 287، 288 / ثم: 427 / ثم: 446، والتعليقات عليها.
(3) هذا كلام حبر رباني حكيم، قد فقهه الله في أمور دينه، وآتاه الحكمة في أمور دنياه، وعلمه من تأويل كتابه، فحمل الأمانة وأداها، ونصح للناس فعلمهم وفطنهم، ولم يشغله في تفسير كتاب ربه نحو ولا لغة ولا فقه ولا أصول -كما اصطلحوا عليه- عن كشف المعاني للناس مخاطبا بها قلوبهم وعقولهم، ليبين لهم ما أنزل الله على نبيه، بالعهد الذي أخذه الله على العلماء. فرحم الله أبا جعفر، وغفر الله للمفسرين من بعده. وقلما تصيب مثل ما كتب في كتاب من كتب التفسير.(5/30)
ولهن أولاد قد ولدنهم من أزواجهن قبل بينونتهن منهم بطلاق، أو ولدنهم منهم، (1) بعد فراقهم إياهن، من وطء كان منهم لهن قبل البينونة ="يرضعن أولادهن"، يعني بذلك: أنهن أحق برضاعهم من غيرهم.
وليس ذلك بإيجاب من الله تعالى ذكره عليهن رضاعهم، إذا كان المولود له ولد، (2) حيا موسرا. لأن الله تعالى ذكره قال في"سورة النساء القصرى" (3) (وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [سورة الطلاق: 6] ، فأخبر تعالى ذكره: (4) أن الوالدة والمولود له إن تعاسرا في الأجرة التي ترضع بها المرأة ولدها، أن أخرى سواها ترضعه، فلم يوجب عليها فرضا رضاع ولدها. فكان معلوما بذلك أن قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين"، دلالة على مبلغ غاية الرضاع التي متى اختلف الوالدان في رضاع المولود بعده، جعل حدا يفصل به بينهما، لا دلالة على أن فرضا على الوالدات رضاع أولادهن.
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"حولين"، فإنه يعني به سنتين، كما:-
4948- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، سنتين.
__________
(1) في المطبوعة: "أو أولدنهم"، وهو خطأ فاحش. والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة"والدا"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) هي"سورة الطلاق"، السورة الخامسة والستون من كتاب الله. وسموها"القصرى" لتسميتهم السورة الرابعة من القرآن: "سورة النساء الطولى"، للفرق بينهما.
(4) في المطبوعة: "وأخبر تعالى أن الوالدة. . . "، والزيادة من المخطوطة. وفيهما جميعا"وأخبر" بالواو، والسياق يقتضي الفاء كما أثبتها.(5/31)
4949- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
وأصل"الحول" من قول القائل:"حال هذا الشيء"، إذا انتقل. ومنه قيل:"تحول فلان من مكان كذا"، إذا انتقل عنه.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما معنى ذكر"كاملين" في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، بعد قوله:"يرضعن حولين"، وفي ذكر"الحولين" مستغنى عن ذكر"الكاملين"، (1) إذ كان غير مشكل على سامع سمع قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين" ما يراد به؟ فما الوجه الذي من أجله زيد ذكر كاملين؟.
قيل: إن العرب قد تقول:"أقام فلان بمكان كذا حولين، أو يومين، أو شهرين"، وإنما أقام به يوما وبعض آخر، أو شهرا وبعض آخر، أو حولا وبعض آخر، فقيل:"حولين كاملين" ليعرف سامعو ذلك أن الذي أريد به حولان تامان، (2) لا حول وبعض آخر. (3) وذلك كما قال الله تعالى ذكره: (وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ) [سورة البقرة: 203] . ومعلوم أن المتعجل إنما يتعجل في يوم ونصف، وكذلك ذلك في اليوم الثالث من أيام التشريق، (4) وأنه ليس منه شيء تام، ولكن العرب تفعل ذلك في الأوقات خاصة فتقول:"اليوم يومان منذ لم أره"،
__________
(1) في المطبوعة: "وفي ذكر الحولين" بإسقاط"الهاء" الضمير.
(2) في المطبوعة: "ليعرف سامع ذلك"، بالإفراد، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) انظر ما سلف في تفسير قوله تعالى: "ولتكملوا العدة" 3: 476، 477 / ثم تفسير قوله تعالى: "تلك عشرة كاملة" في الجزء 4: 108، 109.
(4) في المخطوطة والمطبوعة: "فكذلك ذلك" بالفاء وهو خطأ مخل، والصواب ما أثبت. وفي معاني القرآن للفراء 1: 119: "وكذلك هو في اليوم. . . ". نص كلامه. ويعني أن اليوم الثالث من أيام التشريق هو أيضًا يوم غير تام. وانظر التعليق التالي ص: 33 رقم: 2 والمراجع فيه.(5/32)
وإنما تعني بذلك يوما وبعض آخر. وقد توقع الفعل الذي تفعله في الساعة أو اللحظة، على العام والزمان واليوم، فتقول:"زرته عام كذا - (1) وقتل فلان فلانا زمان صفين"، وإنما تفعل ذلك، لأنها لا تقصد بذلك الخبر عن عدد الأيام والسنين، وإنما تعني بذلك الأخبار عن الوقت الذي كان فيه المخبر عنه، فجاز أن ينطق"بالحولين"، و"اليومين"، على ما وصفت قبل. لأن معنى الكلام في ذلك: فعلته إذ ذاك، وفي ذلك الوقت. (2)
فكذلك قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، لما جاز الرضاع في الحولين وليسا بالحولين (3) = (4) وكان الكلام لو أطلق في ذلك، بغير تضمين الحولين بالكمال، (5) وقيل:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين"، محتملا أن يكون معنيا به حول وبعض آخر= نفي اللبس عن سامعيه بقوله: (6) "كاملين" أن يكون مرادا به حول وبعض آخر، وأبين بقوله:"كاملين" عن وقت تمام حد الرضاع، وأنه تمام الحولين بانقضائهما، دون انقضاء أحدهما وبعض الآخر.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذي دلت عليه هذه الآية، من مبلغ غاية رضاع المولودين: أهو حد لكل مولود، أو هو حد لبعض دون بعض؟
__________
(1) في المطبوعة: "رزقه عام كذا"، وهو كلام لا خير فيه، والصواب من المخطوطة، وإن كانت غير منقوطة، وحروفها بسيطة القلم.
(2) سلف هذا بغير هذا اللفظ في الجزء 4: 120، 121 وكثير من لفظه هنا في معاني القرآن للفراء 1: 119 - 120، ومن الموضعين صححنا ما صححناه آنفًا.
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "لما كان الرضاع. . . " وهو تصحيف مخل جدا، والسياق يقتضي قراءته كما أثبت، حتى يستقيم المعنى.
(4) في المطبوعة والمخطوطة: "فكان" بالفاء، والصواب بالواو، عطفا على قوله: "لما جاز. . . "
(5) في المطبوعة: "تضمين الحولين بالكمال"، وفي المخطوطة: "تضمين" بغير نقط، والميم كأنها هاء قصيرة، ورجحت أن ذلك من عجلة الناسخ، وأن صوابها"تبيين"، لقوله بعد قليل: "وأبين بقوله: كاملين. . . "، لأن البيان هو التفسير، ومن الصفة تفسير وبيان.
(6) سياق العبارة: "لما جاز الرضاع. . . وكان الكلام لو أطلق. . . نفى اللبس، جواب"لما".(5/33)
فقال بعضهم: هو حد لبعض دون بعض.
* ذكر من قال ذلك:
4950- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، في التي تضع لستة أشهر: أنها ترضع حولين كاملين، وإذا وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين لتمام ثلاثين شهرا، وإذا وضعت لتسعة أشهر أرضعت واحدا وعشرين شهرا.
4951- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، بمثله، ولم يرفعه إلى ابن عباس.
4952- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن أبي عبيد، قال: رفع إلى عثمان امرأة ولدت لستة أشهر، فقال: إنها رفعت [إلي امرأة] ، لا أراها إلا قد جاءت بشر -أو نحو هذا- ولدت لستة أشهر! فقال ابن عباس: إذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. قال: وتلا ابن عباس: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) [سورة الأحقاف: 15] ، فإذا أتمت الرضاع كان الحمل لستة أشهر. فخلى عثمان سبيلها. (1)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك حد رضاع كل مولود اختلف والداه في رضاعه، (2)
__________
(1) الخبر: 4952- أبو عبيد: هو سعد بن عبيد، "مولى عبد الحمن بن أزهر"، ويقال له أيضًا: "مولى عبد الرحمن بن عوف". قال البخاري في الكبير 2 / 2 / 61: "لأنهما ابنا عم". وقال في صحيحه 4: 209"قال ابن عيينة: من قال مولى ابن أزهر، فقد أصاب، ومن قال مولى عبد الرحمن بن عوف، فقد أصاب". وهو تابعي ثقة قديم، من فقهاء أهل المدينة، روى عن عمر، وعثمان، وعلي، وغيرهم.
ووقع في المطبوعة: "عن أبي عبيدة"، وهو خطأ، صححناه من كتاب المصنف لعبد الرزاق ج4 ورقة 97، وفيه: "عن أبي عبيد، مولى عبد الحمن بن عوف".
ونقله السيوطي 6: 40، ونسبه لعبد الرزاق، وعبد بن حميد، فقط. وكان في المخطوطة والمطبوعة: "إنها رفعت لا أراها"، وفي مصنف عبد الرزاق: "رفعت إلى امرأة، لا أراه إلا قال: وقد جاءت بشر".
(2) في المخطوطة: "وإذا اختلف وأن لإرضاع"، وما بينها بياض كلمتين أو ثلاث. وفي المطبوعة: "إذا اختلف والداه وأن لا رضاع"، وزدت أنا"في رضاعه"، استظهارا من ترجمة الأخبار التي رويت عنهم آنفًا ص: 34، 35، ومن بيان أبي جعفر الآتي بعد سطرين أو ثلاثة.(5/34)
فأراد أحدهما البلوغ إليه، والآخر التقصير عنه.
* ذكر من قال ذلك:
4953- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، فجعل الله سبحانه الرضاع حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة، ثم قال:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"، إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
4954- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، قال: إن أرادت أمه أن تقصر عن حولين كان عليها حقا أن تبلغه -لا أن تزيد عليه إلا أن يشاء. (1)
4955- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران (2)
= وحدثني علي بن سهل قال، حدثنا زيد بن أبي الزرقاء= جميعا، عن الثوري في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، والتمام الحولان. قال: فإذا أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض المرأة فليس له ذلك. وإذا قالت المرأة:"أنا أفطمه قبل الحولين"، وقال الأب:"لا"، فليس لها أن تفطمه حتى يرضى الأب، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور".
* * *
وقال آخرون: بل دل الله تعالى ذكره بقوله:"والوالدات يرضعن أولادهن
__________
(1) في المطبوعة: "إلا أن تشاء"، والصواب ما أثبت من المخطوطة. أي: إلا أن يشاء الزوج، ويوافقها على ما تريد من الزيادة.
(2) هو"مهران بن أبي عمر العطار، أبو عبد الله الرازي". قال أبو حاتم ثقة صالح الحديث. وروى له ابن عدي أحاديث من رواية محمد بن حميد عنه، ثم قال: "وكل هذه الأحاديث عن مهران إلا القليل، يرويه عن مهران محمد بن حميد، وابن حميد له شغل في نفسه مما رواه عن الناس! ومهران خير منه". وقال الساجي: "في حديثه اضطراب، وهو من أكثر أصحاب الثوري رواية عنه". وقال العقيلي: "روي عن الثوري أحاديث لا يتابع عليها". وقال ابن حبان: "أسلم على يد الثوري، وله صنف (الجامع الصغير) ". التهذيب.(5/35)
حولين كاملين"، على أن لا رضاع بعد الحولين، فإن الرضاع إنما هو كان في الحولين.
* ذكر من قال ذلك:
4956- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، أخبرنا ابن أبي ذئب قال، حدثنا الزهري، عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا إن الله تعالى ذكره يقول:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، ولا نرى رضاعا بعد الحولين يحرم شيئا (1)
4957- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن يونس بن يزيد، عن الزهري، قال: كان ابن عمر وابن عباس يقولان: لا رضاع بعد الحولين.
4958- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن الشيباني، عن أبي الضحى، عن أبي عبد الرحمن، عن عبد الله قال: ما كان من رضاع بعد سنتين أو في الحولين بعد الفطام فلا رضاع.
4959- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد، وعبد الرحمن قالا حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة، أنه رأى امرأة ترضع بعد حولين فقال: لا ترضعيه.
4960- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن الشيباني قال: سمعت الشعبي يقول: ما كان من وجور أو سعوط أو رضاع في الحولين فإنه يحرم، وما كان بعد الحولين لم يحرم شيئا. (2)
__________
(1) الوجور (بفتح الواو) : الدواء يدخل في الفم. والسعوط"بفتح السين) : الدواء يدخل في الأنف.
(2) الوجور (بفتح الواو) : الدواء يدخل في الفم. والسعوط (بفتح السين) : الدواء يدخل في الأنف.(5/36)
4961- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن المغيرة، عن إبراهيم: أنه كان يحدث عن عبد الله، أنه قال: لا رضاع بعد فصال، أو بعد حولين.
4962- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حسن بن عطية قال، حدثنا إسرائيل، عن عبد الأعلى، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ليس يحرم من الرضاع بعد التمام، إنما يحرم ما أنبت اللحم وأنشأ العظم (1)
4963- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن عمرو بن دينار: أن ابن عباس قال: لا رضاع بعد فصال السنتين.
4964- حدثنا هلال بن العلاء الرقي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبيد الله، عن زيد، عن عمرو بن مرة، عن أبي الضحى قال: سمعت ابن عباس يقول:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، قال: لا رضاع إلا في هذين الحولين. (2)
* * *
وقال آخرون: بل كان قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"،
__________
(1) الأثر: 4962-"الحسن بن عطية بن نجيح القرشي أبو علي البزار" روىعن الحسن وعلي ابني صالح، ويعقوب القمي، وحمزة الزيات، وإسرائيل بن يونس وطبقتهم. وعنه البخاري في التايخ، وعبد الأعلى بن واصل، وأبو كريب، وأبو زرعة، وأبو حاتم، صدوق. مات سنة 211.
(2) الأثر: 4964- هلال بن العلاء بن هلال بن عمرو الباهلي، أبو عمرو الرقى". قال أبو حاتم: "صدوق" وقال النسائي: "صالح"، وقال في موضع آخر: "ليس به بأس، روى أحاديث منكرة عن أبيه، فلا أدري: الريب منه أو من أبيه". وذكره ابن حبان في الثقات. ولد سنة 184، ومات سنة 280. والعلاء بن هلال" أبوه، روى عن عبد الله بن عمرو الرقى، وخلف بن خليفة ومعتمر بن سليمان وجماعة. قال أبو حاتم: "منكر الحديث ضعيف الحديث". وذكره ابن حبان في الضعفاء وقال: "يقلب الأسانيد ويغير الأسماء، فلا يجوز الاحتجاج به" ولد سنة 150، ومات سنة 215. و"عبيد الله"، هو: عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الأسدي الرقى. روى عن عبد الملك بن عمير، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وابن أبي أنيسة وغيرهم. قال أبو حاتم: "صالح الحديث ثقة صدوق، لا أعرف له حديثا منكرا". ولد سنة 101 ومات سنة 180. و"زيد" هو: زيد بن أبي أنيسة الجزري الرهاوي، قال ابن سعيد"كان يسكن الرها، ومات بها". كان ثقة كثير الحديث، فقيها، راوية للعلم. مات سنة 125، وهو ابن ست وثلاثين سنة.(5/37)
دلالة من الله تعالى ذكره عباده، (1) على أن فرضا على والدات المولودين أن يرضعنهم حولين كاملين، ثم خفف تعالى ذكره ذلك بقوله:"لمن أراد أن يتم الرضاعة"، فجعل الخيار في ذلك إلى الآباء والأمهات، إذا أرادوا الإتمام أكملوا حولين، وإن أرادوا قبل ذلك فطم المولود، كان ذلك إليهم على النظر منهم للمولود (2)
* ذكر من قال ذلك:
4965- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" ثم أنزل الله اليسر والتخفيف بعد ذلك، فقال تعالى ذكره:"لمن أراد أن يتم الرضاعة".
4966- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، يعني المطلقات، يرضعن أودهن حولين كاملين. ثم أنزل الرخصة والتخفيف بعد ذلك، فقال:"لمن أراد أن يتم الرضاعة".
* * *
* ذكر من قال: إن"الوالدات"، اللواتي ذكرهن الله في هذا الموضع: البائنات من أزوجهن، على ما وصفنا قبل. (3)
4967- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" إلى"إذا سلمتم ما أتيتم بالمعروف"، أما"الوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، فالرجل يطلق امرأته وله منها ولد، وأنها ترضع له ولده بما يرضع له غيرها.
4968- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك،
__________
(1) قوله: "عباده" منصوب مفعول به للمصدر"دلالة".
(2) النظر: اختيار أحسن الأمور له، في الرعاية والحفظ والكلاءة، وطلب المصلحة.
(3) انظر ما سلف في أول تفسير الآية ص: 30، 31.(5/38)
عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا.
4969- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، القول الذي رواه علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، ووافقه على القول به عطاء والثوري= والقول الذي روي عن عبد الله بن مسعود وابن عباس وابن عمر: وهو أنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في رضاع المولود إذا اختلف والداه في رضاعه، (1) وأن لا رضاع بعد الحولين يحرم شيئا، وأنه معني به كل مولود، لستة أشهر كان ولاده أو لسبعة أو لتسعة. (2)
* * *
فأما قولنا:"إنه دلالة على الغاية التي ينتهي إليها في الرضاع عند اختلاف الوالدين فيه"، فلأن الله تعالى ذكره لما حد في ذلك حدا، كان غير جائز أن يكون ما وراء حده موافقا في الحكم ما دونه. لأن ذلك لو كان كذلك، لم يكن للحد معنى معقول. وإذا كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي هو دون الحولين من الأجل، لما كان وقت رضاع، كان ما وراءه غير وقت له، وأنه وقت لترك الرضاع= وأن تمام الرضاع لما كان تمام الحولين، وكان التام من الأشياء لا معنى إلى الزيادة (3)
__________
(1) في المخطوطة: "وإذا اختلف وأن لا رضاع"، وما بينهما بياض كلمتين أو ثلاث. وفي المطبوعة: "إذا اختلف والداه وأن لا رضاع"، وزدت أنا"في رضاعه"، استظهارا من ترجمة الأخبار التي رويت عنهم آنفًا ص: 34، 35، ومن بيان أبي جعفر الآتي بعد سطرين أو ثلاثة.
(2) ولدت المرأة تلد ولادا وولادة - بكسر الواو فيهما، بمعنى.
(3) في المطبوعة: "وكان التمام من الأشياء لا معنى للزيادة فيه"، وهو كلام لا محصول له. وفي المخطوطة: "ولما كان التمام من الأشيا لا معنى للزيادة فيه" مع بياض بين الكلمتين، وهذا دليل على أن الناسخ ظن أن في الكلام سقطا، ولكن الحقيقة أن فيه تحريفا، قرأ"التام""التمام"، وقد أثبتنا الصواب الذي لا صواب غيره.(5/39)
فيه، كان لا معنى للزيادة في الرضاع على الحولين = وأن ما دون الحولين من الرضاع لما كان محرما، كان ما وراءه غير محرم.
وإنما قلنا:"هو دلالة على أنه معني به كل مولود، لأي وقت كان ولاده، لستة أشهر أو سبعة أو تسعة"، لأن الله تعالى ذكره عم بقوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين"، ولم يخصص به بعض المولودين دون بعض.
وقد دللنا على فساد القول بالخصوص بغير بيان الله تعالى ذكره ذلك في كتابه، أو على لسان رسول الله صلي الله عليه وسلم- في كتابنا (كتاب البيان عن أصول الأحكام) ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن الله تعالى ذكره: قد بين ذلك بقوله: (وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) [سورة الأحقاف: 15] ، فجعل ذلك حدا للمعنيين كليهما، فغير جائز أن يكون حمل ورضاع أكثر من الحد الذي حده الله تعالى ذكره. فما نقص من مدة الحمل عن تسعة أشهر، فهو مزيد في مدة الرضاع، وما زيد في مدة الحمل، نقص من مدة الرضاع. وغير جائز أن يجاوز بهما كليهما مدة ثلاثين شهرا، كما حده الله تعالى ذكره.
قيل له: فقد يجب أن يكون مدة الحمل -على هذه المقالة- إن بلغت حولين كاملين، ألا يرضع المولود إلا ستة أشهر، وإن بلغت أربع سنين، أن يبطل الرضاع فلا ترضع، لأن الحمل قد استغرق الثلاثين شهرا وجاوز غايته = (1) أو يزعم قائل هذه المقالة: أن مدة الحمل لن تجاوز تسعة أشهر، فيخرج من قول جميع الحجة، ويكابر الموجود والمشاهد، وكفى بهما حجة على خطأ دعواه إن ادعى ذلك. فإلى أي الأمرين لجأ قائل هذه المقالة، وضح لذوي الفهم فساد قوله.
* * *
__________
(1) عطف على قوله: "فقد يجب أن تكون مدة الحمل". . . "أو يزعم. . . "(5/40)
فإن قال لنا قائل: فما معنى قوله -إن كان الأمر على ما وصفت-:"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"، وقد ذكرت آنفا أنه غير جائز أن يكون ما جاوز حد الله تعالى ذكره، نظير ما دون حده في الحكم؟ وقد قلت: إن الحمل والفصال قد يجاوزان ثلاثين شهرا؟
قيل: إن الله تعالى ذكره لم يجعل قوله:"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا" حدا تعبد عباده بأن لا يجاوزه، كما جعل قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، حدا لرضاع المولود الثابت الرضاع، (1) وتعبد العباد بحمل والديه عند اختلافهما فيه، وإرادة أحدهما الضرار به. وذلك أن الأمر من الله تعالى ذكره إنما يكون فيما يكون للعباد السبيل إلى طاعته بفعله والمعصية بتركه. (2) فأما ما لم يكن لهم إلى فعله ولا إلى تركه سبيل، فذلك مما لا يجوز الأمر به ولا النهي عنه ولا التعبد به.
فإذ كان ذلك كذلك، وكان الحمل مما لا سبيل للنساء إلى تقصير مدته ولا إلى إطالتها، فيضعنه متى شئن، ويتركن وضعه إذا شئن= كان معلوما أن قوله:"وحمله وفصاله ثلاثون شهرا"، إنما هو خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خلقه من حملته وولدته وفصلته في ثلاثين شهرا= لا أمر بأن لا يتجاوز في مدة حمله وفصاله ثلاثون شهرا، لما وصفنا. وكذلك قال ربنا تعالى ذكره في كتابه: (وَوَصَّيْنَا الإنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا) (3) [سورة الأحقاف: 15] .
__________
(1) في المطبوعة: "لرضاع المولود التام الرضاع"، وهو أيضًا كلام بلا معنى مفهوم، غيروا ما في المخطوطة كما أثبتناه، ظنا منهم بأنه هو غير مفهوم!! وعنى بقوله: "الثابت الرضاع"، أي الذي ثبت له أنه"يرضع"، كما سيتبين من سياق كلامه بعد.
(2) أي: وإلى المعصية بتركه.
(3) هنا آخر التقسيم القديم الذي نقلت عنه نسختنا. ونص ما بعده: "وصلى الله على محمد النبي وآله وصحبه وسلم كثيرا"(5/41)
(1) فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ وصف أن من خلقه من حملته أمه ووضعته وفصلته في ثلاثين شهرا، فواجب أن يكون جميع خلقه ذلك صفتهم= وأن ذلك دلالة على أن حمل كل عباده وفصاله ثلاثون شهرا= (2) فقد يجب أن يكون كل عباده صفتهم أن يقولوا إذا بلغوا أشدهم وبلغوا أربعين سنة: (رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ) [سورة الأحقاف: 15] ، على ما وصف الله به الذي وصف في هذه الآية. (3)
وفي وجودنا من يستحكم كفره بالله، (4) وكفرانه نعم ربه عليه، وجرأته على والديه بالقتل والشتم وضروب المكاره، عند استكماله الأربعين من سنيه وبلوغه أشده= (5) ما يعلم أنه لم يعن الله بهذه الآية صفة جميع عباده، بل يعلم أنه إنما وصف بها بعضا منهم دون بعض، وذلك ما لا ينكره ولا يدفعه أحد. لأن من يولد من الناس لسبعة أشهر، (6) أكثر ممن يولد لأربع سنين ولسنتين؛ كما أن من يولد لتسعة أشهر، أكثر ممن يولد لستة أشهر ولسبعة أشهر.
* * *
قال أبو جعفر: واختلفت القرأة في قراءة ذلك، فقرأ عامة أهل المدينة
__________
(1) أول التقسيم القديم، ونص ما قبله:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب أعن يا كريم"
(2) قوله: "فقد يجب" جواب قوله: "فإن ظن ذو غباء. . . ".
(3) يعني أن آية سورة الأحقاف معنى بها خاص من الناس دون عام، كما يدل على ذلك ظاهر تلاوتها.
(4) وجد الشيء يجده وجودا. وقوله: "من يستحكم" مفعول به للمصدر.
(5) السياق: "في وجودنا من يستحكم كفره بالله. . . ما يعلم. . . "، مبتدأ مؤخر.
(6) في المطبوعة والمخطوطة: "لتسعة أشهر"، والصواب، أثبت كما يدل عليه سياق الحجة.(5/42)
والعراق والشام:"لم أراد أن يتم الرضاعة" ب"الياء" في"يتم" ونصب"الرضاعة"- بمعنى: لمن أراد من الآباء والأمهات أن يتم رضاع ولده.
وقرأه بعض أهل الحجاز:"لمن أراد أن تتم الرضاعة" ب"التاء" في"تتم"، ورفع"الرضاعة" بصفتها. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة في ذلك عندنا، قراءة من قرأ ب"الياء" في"يتم" ونصب"الرضاعة". لأن الله تعالى ذكره قال:"والوالدات يرضعن أولادهن"، فكذلك هن يتممنها إذا أردن هن والمولود له إتمامها= وأنها القراءة (2) التي جاء بها النقل المستفيض الذي ثبتت به الحجة، دون القراءة الأخرى.
* * *
وقد حكي في الرضاعة سماعا من العرب كسر"الراء" التي فيها. فإن تكن صحيحة، (3) فهي نظيرة"الوكالة والوكالة" و"الدلالة والدلالة"، و"مهرت الشيء مهارة ومهارة"- فيجوز حينئذ"الرضاع" و"الرضاع"، كما قيل:"الحصاد، والحصاد". وأما القراءة فبالفتح لا غير.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وعلى المولود له"، وعلى آباء الصبيان للمراضع="رزقهن"، يعني: رزق والدتهن.
* * *
__________
(1) يعني بقوله: "بصفتها"، أي بالفعل اللازم الذي هو صفة لها فتقول: رضاعة تامة.
(2) "وأنها القراءة. . . " معطوف على قوله: "لأن الله تعالى ذكره قال. . "
(3) في المطبوعة والمخطوطة: "وإن تكن. . . "، والجيد هنا الفاء.(5/43)
ويعني ب"الرزق": ما يقوتهن من طعام، وما لا بد لهن من غذاء ومطعم.
* * *
و"كسوتهن"، ويعني: ب"الكسوة": الملبس.
* * *
ويعني بقوله:"بالمعروف"، بما يجب لمثلها على مثله، إذ كان الله تعالى ذكره قد علم تفاوت أحوال خلقه بالغنى والفقر، وأن منهم الموسع والمقتر وبين ذلك. فأمر كلا أن ينفق على من لزمته نفقته من زوجته وولده على قدر ميسرته، كما قال تعالى ذكره: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا) [سورة الطلاق: 7] ، وكما: -
4970- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، قال: إذا طلق الرجل امرأته وهي ترضع له ولدا، فتراضيا على أن ترضع حولين كاملين، فعلى الوالد رزق المرضع والكسوة بالمعروف على قدر الميسرة، لا نكلف نفسا إلا وسعها.
4971- حدثني علي بن سهل الرملي قال حدثنا زيد= وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= عن سفيان قوله:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، والتمام الحولان"، وعلى المولود له"= على الأب طعامها وكسوتها بالمعروف (1)
4972- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف"، قال: على الأب.
* * *
__________
(1) الأثر: 4971 - انظر إسناد الأثر السالف: 4955، والآتي: 4973.(5/44)
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلا وُسْعَهَا} (1)
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تحمل نفس من الأمور إلا ما لا يضيق عليها، ولا يتعذر عليها وجوده إذا أرادت. وإنما عنى الله تعالى ذكره بذلك: لا يوجب الله على الرجال من نفقة من أرضع أولادهم من نسائهم البائنات منهم، إلا ما أطاقوه ووجدوا إليه السبيل، كما قال تعالى ذكره: (لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ) [سورة الطلاق: 7] ، كما: -
4973- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد = جميعا، عن سفيان:"لا تكلف نفس إلا وسعها"، إلا ما أطاقت. (2)
* * *
"والوسع""الفعل" من قول القائل:"وسعني هذا الأمر فهو يسعني سعة"- ويقال:"هذا الذي أعطيتك وسعي"، أي: ما يتسع لي أن أعطيك، فلا يضيق علي إعطاؤكه= و"أعطيتك من جهدي"، إذا أعطيته ما يجهدك فيضيق عليك إعطاؤه.
* * *
فمعنى قوله:"لا تكلف نفس إلا وسعها"، هو ما وصفت: من أنها لا تكلف إلا ما يتسع لها بذل ما كلفت بذله، فلا يضيق عليها ولا يجهدها= لا ما ظنه جهلة أهل القدر من أن معناه: لا تكلف نفس إلا ما قد أعطيت عليه القدرة من الطاعات. لأن ذلك لو كان كما زعمت، لكان قوله تعالى ذكره: (انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الأمْثَالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلا) [سورة الإسراء: 48 وسورة الفرقان: 9] ، = إذا كان دالا على أنهم غير مستطيعي السبيل إلى ما كلفوه= واجبا أن يكون القوم في حال واحدة، قد أعطوا الاستطاعة على
__________
(1) في المخطوطة: "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها"، عجل الناسخ فأخطأ التلاوة.
(2) الأثر: 4973- انظر إسناد الأثرين السالفين: 4955، 4971.(5/45)
ما منعوها عليه. وذلك من قائله إن قاله، إحالة في كلامه، ودعوى باطل لا يخيل بطوله. (1) وإذ كان بينا فساد هذا القول، فمعلوم أن الذي أخبر تعالى ذكره أنه كلف النفوس من وسعها، غير الذي أخبر أنه كلفها مما لا تستطيع إليه السبيل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز والكوفة والشام:"لا تضار والدة بولدها" بفتح"الراء"، بتأويل: لا تضارَرْ (2) = على وجه النهي، وموضعه إذا قرئ كذلك - جزم، غير أنه حرك، إذ ترك التضعيف بأخف الحركات، وهو الفتح. ولو حرك إلى الكسر كان جائزا، إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه. وإن شئت فلأن الجزم إذا حرك حرك إلى الكسر. (3)
* * *
__________
(1) قوله: "دعوى باطل" هي هنا بالإضافة، لا صفة لدعوى. ويقال في غير هذا: "دعوى باطل وباطلة" على الوصف. و"البطول" مصدر"بطل" كما أسلفنا في الجزء 4: 523، تعليق: 3 و"أخال الشيء يخيل": اشتبه، يقال: "هذا الأمر لا يخيل على أحد" أي: لا يشكل. و"هو شيء مخيل"، أي: مشكل.
(2) في المخطوطة: "لا تضارن" بالنون في آخره، وهو خطأ.
(3) هكذا جاءت هذه الفقرة في المخطوطة والمطبوعة. وهي فاسدة كلها بلا شك، ومناقضة لما سيأتي في كلام الطبري في ص: 51 إلى ص: 52 ولست أرتاب في أن الكلام قد سقط منه شيء، تخطاه ناسخ قديم، فاضطرب ما أراد الطبري أن يقوله، ثم ما قاله بعد، اضطرابا شديدا. والذي استظهرته من قراءة كلامه من أول تفسير الآية إلى آخرها في ص: 54، يوجب أن يكون سياق كلامه هنا هكذا:
"اختلفت القَرَأَة في قراءة ذلك. فقرأه عامة قرأة أهل الحجاز والكوفة والشام: "لا تضار والدة بولدها"، بفتح"الراء"، على ما لم يسم فاعله، بتأويل: لا تضارر، على وجه النهي. وموضعه إذا قرئ كذلك جزم، غير أنه حرك - إذ ترك التضعيف بحركة الراء الأولى.
وزعم بعض من قرأه كذلك، أن قراءة من قرأ: "لا تضار" بفتح"الراء" على ما سمي فاعله، بتأويل: لا تضارر، على وجه النهي. وموضعه إذا قرئ كذلك جزم، غير أنه حرك -إذ ترك التضعيف- بأخف الحركات، وهو الفتح. ولو حرك إلى الكسر كان جائزا، إتباعا لحركة لام الفعل حركة عينه. وإن شئت، فلأن الجزم إذا حرك، حرك إلى الكسر. وهذا خطأ في التأويل".
ولعل بعض النساخ القدماء، سقط من نسخه شيء ثم جاء آخر، فلم يستطع أن يفهم ما كتبه، ولا أن يعرف موضع السقط فيه، فتصرف في كتابته على هذا الوجه الذي ثبت في مخطوطتنا وفي جميع المطبوع. وهو خطأ لا ريب فيه. وتناقض ظاهر، لا يقع في مثله أبو جعفر، فضلا عما فيه من الاختلال الشديد. وسأبين في التعليقات التالية ما يربط الكلام الآتي بهذه الجملة التي استظهرتها.(5/46)
وقرأ ذلك بعض أهل الحجاز وبعض أهل البصرة:"لا تضار والدة بولدها"، رفع. (1) ومن قرأه كذلك لم يحتمل قراءته معنى النهي، ولكنها تكون [على معنى] الخبر، (2) عطفا بقوله:"لا تضار" على قوله:"لا تكلف نفس إلا وسعها". (3)
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أن معنى من رفع:"لا تضار والدة بولدها"، هكذا في الحكم: - أنه لا تضار والدة بولدها- أي: ما ينبغي أن تضار. فلما حذفت"ينبغي"، وصار"تضار" في وضعه، صار على لفظه، واستشهد لذلك بقول الشاعر: (4)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: مكان"رفع"، "فعل"، وهو تحريف لا شك فيه، كما يدل عليه السالف والآتي. وكما تدل عليه القراءة. وفي المخطوطة قبله: "لا تضارر".
(2) في المطبوعة: "ولكنها تكون بالخبر عطفا"، وكان في المخطوطة: "ولكنها تكون الخبر عطفا" بغير باء الجر. والسياق يدل على ضرورة ما أثبت من الزيادة بين القوسين.
(3) في المخطوطة: "لا تكلف نفسا"، كما وقع في الآية في ص: 45 تعليق: 1.
(4) لأبي اللحام التغلبي، وهو سريع بن عمرو (وعمرو هو اللحام) بن الحارث بن مالك بن ثعلبة بن بكر بن حبيب ويقال اسمه"حريث". وهو جاهلي، النقائض: 458، وشرح المفضليات: 434، والخزانة 3: 613 - 615. وفي سيبويه 1: 431، ونسبه الشنتمري لعبد الرحمن بن أم الحكم، ولم أجد نسبته إليه في مكان آخر. ولأبي اللحام شعر في ديوان عمرو بن كلثوم.(5/47)
على الحكم المأتي يوما إذا قضى قضيته، أن لا يجور ويقصد (1)
فزعم أنه رفع"يقصد" بمعنى"ينبغي". والمحكي عن العرب سماعا غير الذي قال. وذلك أنه روي عنهم سماعا:"فتصنع ماذا"، إذا أرادوا أن يقولوا:"فتريد أن تصنع ماذا"، فينصبونه بنية"أن. وإذا لم ينووا"أن" ولم يريدوها، قالوا:"فتريد ماذا"، فيرفعون"تريد"، لأن لا جالب ل"أن" قبله، كما كان له جالب قبل"تصنع". فلو كان معنى قوله"لا تضار" إذا قرئ رفعا بمعنى:"ينبغي أن لا تضار" أو"ما ينبغي أن تضار"، ثم حذف"ينبغي" و"أن"، وأقيم"تضار" مقام"ينبغي"، لكان الواجب أن يقرأ- إذا قرئ بذلك المعنى- نصبا لا رفعا، ليعلم بنصبه المتروك قبله المعني المراد، كما فعل بقوله:"فتصنع ماذا"، ولكن معنى ذلك ما قلنا إذا رفع على العطف على"تكلف": (2) ليست تكلف نفس إلا وسعها، وليست تضار والدة بولدها. يعني بذلك أنه ليس ذلك في دين الله وحكمه وأخلاق المسلمين.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القرأتين بالصواب في ذلك قراءة من قرأ بالنصب، لأنه نهي من الله تعالى ذكره كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه له، حرام عليهما ذلك بإجماع المسلمين. فلو كان ذلك خبرا، لكان حراما عليهما ضرارهما به كذلك. (3)
* * *
__________
(1) سيبويه 1: 431 الخزانة 3: 613 - 615، وشرح شواهد المغني: 263. وقال صاحب الخزانة: "البيت من قصيدة عدتها تسعة عشر بيتا لأبي اللحام التغلبي أو ردها أبو عمرو الشيباني في أشعار تغلب له، وانتخبها أبو تمام، فأورد منها خمسة أبيات في مختار شعر القبائل، وهذا أولها: عمرت وأطولت التفكر خاليا ... وساءلت حتى كاد عمري ينفد
(2) في المطبوعة: "لا تكلف" بزيادة"لا" وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المخطوطة والمطبوعة: "لكان حرام" بالرفع، والأجود ما أثبت.(5/48)
وبما قلنا في ذلك -من أن ذلك بمعنى النهي- تأوله أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
4974- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لا تضار والدة بولدها"، لا تأبى أن ترضعه ليشق ذلك على أبيه، ولا يضار الوالد بولده، فيمنع أمه أن ترضعه ليحزنها.
4975- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
4976- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده"، قال: نهى الله تعالى عن الضرار وقدم فيه، فنهى الله أن يضار الوالد فينتزع الولد من أمه، إذا كانت راضية بما كان مسترضعا به غيرها= ونهيت الوالدة أن تقذف الولد إلى أبيه ضرارا.
4977- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، ترمي به إلى أبيه ضرارا،"ولا مولود له بولده"، يقول: ولا الوالد، فينتزعه منها ضرارا، إذا رضيت من أجر الرضاع ما رضي به غيرها، فهي أحق به إذا رضيت بذلك.
4978- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن يونس، عن الحسن:"لا تضار والدة بولدها"، قال: ذلك إذا طلقها، فليس له أن يضارها فينتزع الولد منها، إذا رضيت منه بمثل ما يرضى به غيرها= وليس لها أن تضاره فتكلفه ما لا يطيق، إذا كان إنسانا مسكينا، فتقذف إليه ولده.
4979- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"لا تضار والدة بولدها"، لا تضار أم بولدها ولا أب بولده. يقول: لا تضار أم بولدها فتقذفه إليه إذا كان الأب حيا، أو إلى عصبته(5/49)
إذا كان الأب ميتا. ولا يضار الأب المرأة إذا أحبت أن ترضع ولدها ولا ينتزعه. (1)
4980- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا تضار والدة بولدها"، يقول لا ينزع الرجل ولده من امرأته فيعطيه غيرها بمثل الأجر الذي تقبله هي به= ولا تضار والدة بولدها، فتطرح الأم إليه ولده، تقول:"لا أليه ساعة" تضيعه، (2) ولكن عليها من الحق أن ترضعه حتى يطلب مرضعا.
4981- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب- وسئل عن قول الله تعالى ذكره"والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين" إلى"لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده"، قال ابن شهاب: والوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر، وليس للوالدة أن تضار بولدها فتأبى رضاعه، مضارة وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها من الأجر. وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته مضارا لها، وهي تقبل من الأجر ما يعطاه غيرها.
4982- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد جميعا، عن سفيان في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، لا ترم بولدها إلى الأب إذا فارقها، تضاره بذلك="ولا مولود له بولده"، ولا ينزع الأب منها ولدها، يضارها بذلك.
4983- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:" لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده"، قال: لا ينزعه منها وهي تحب أن ترضعه فيضارها، ولا تطرحه عليه وهو لا يجد من ترضعه، ولا يجد ما يسترضعه به.
4984- حدثنا عمرو بن علي الباهلي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثني
__________
(1) في المطبوعة: "ولا ينتزعه"، وهما سواء، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "يقول لا إليه ساعة تضعه"، وهو في المخطوطة غير منقوط، ورأيت الصواب أن تكون هكذا قراءة الجملة، مع جعل"تضعه""تضيعه"، أي تضيعه بتركها إياه.(5/50)
ابن جريج، عن عطاء في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، قال: لا تدعنه ورضاعه، من شنآنها مضارة لأبيه، (1) ولا يمنعها الذي عنده مضارة لها.
* * *
وقال بعضهم:"الوالدة" التي نهى الرجل عن مضارتها: ظئر الصبي. (2)
ذكر من قال ذلك:
4985- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا هارون النحوي قال، حدثنا الزبير بن الخريت، عن عكرمة في قوله:"لا تضار والدة بولدها"، قال: هي الظئر. (3)
* * *
فمعنى الكلام: لا يضارر والد مولود والدته بمولوده منها، ولا والدة مولود والده بمولودها منه. ثم ترك ذكر الفاعل في"يضار"، فقيل: لا تضارر والدة بولدها ولا مولود له بولده، (4) كما يقال إذا نهي عن إكرام رجل بعينه فيما لم يسم فاعله، ولم يقصد بالنهي عن إكرامه قصد شخص بعينه:"لا يكرم عمرو، ولا يجلس إلى أخيه"، ثم ترك التضعيف فقيل:"لا تضار" فحركت الراء الثانية التي كانت مجزومة- لو أظهر التضعيف- بحركة الراء الأولى. (5)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة"من شأنها"، والصواب ما أثبت، والشنآن: البغض والكره.
(2) الظئر: العاطفة على ولد غير ولدها، المرضعة له.
(3) الأثر: 4985-"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي"، روى عنه البخاري، وأبو داود، ويحيى بن معين، وأبو زرعة، وأبو حاتم، وغيرهم، ثقة صدوق. مات سنة 222. و"هرون النحوي" و"هرون الأعور" هو: هرون بن موسى الأزدي العتكي - النحوي الأعور صاحب القراءات، كان ثقة مأمونا. و"الزبير بن الخريت" (بكسر الخاء وتشديد الراء المكسورة) . ثقة. وكان في المطبوعة والمخطوطة: "الزبير بن الحارث"، هو خطأ صرف.
(4) في المطبوعة: "لا تضار والدة. . . " كنص الآية، ولكنه أراد التضعيف هنا، كما يظهر من السياق، والصواب من المخطوطة.
(5) من هذا الموضع أخذت ما زدته هناك ص: 46، 47 تعليق: 3 في التعليق على الجملة المضطربة التي بينت اضطرابها.(5/51)
وقد زعم بعض أهل العربية أنها إنما حركت إلى الفتح في هذا الموضع، لأنه آخر الحركات. (1) وليس للذي قال من ذلك معنى. لأن ذلك إنما كان جائزا أن يكون كذلك، لو كان معنى الكلام: لا تضارر والدة بولدها، (2) وكان المنهي عن الضرار هي الوالدة. على أن معنى الكلام لو كان كذلك، لكان الكسر في"تضار" أفصح من الفتح، والقراءة به كانت أصوب من القراءة بالفتح، كما أن:"مد بالثوب" أفصح من"مد به". (3) وفي إجماع القرأة على قراءة:"لا تضار" بالفتح دون الكسر، دليل واضح على إغفال من حكيت قوله من أهل العربية في ذلك. (4)
فإن كان قائل ذلك قاله توهما منه أنه معنى ذلك: لا تضارر والدة، (5) وأن"الوالدة" مرفوعة بفعلها، وأن"الراء" الأولى حظها الكسر، فقد أغفل تأويل الكلام، (6) وخالف قول جميع من حكينا قوله من أهل التأويل. وذلك أن الله تعالى ذكره تقدم إلى كل أحد (7) من أبوي المولود بالنهي عن ضرار صاحبه بمولودهما= لا أنه نهى كل واحد منهما عن أن يضار المولود. وكيف يجوز أن ينهاه عن مضارة الصبي،
__________
(1) في المطبوعة: "لأنه أحد الحركات"، وهو كلام لا معنى له، والصواب ما أثبت، وقد مضى في مكان ما من التفسير مثل هذا الخطأ، ولم أستطع أن أعثر عليه بعد. وقوله: "آخر الحركات" معناه: أخفها. فالضم أثقل الحركات، ثم الكسر، ثم الفتح أخفها وآخرها. وأما السكون فلا يعد في الحركات. وهذا الذي قاله الطبري هنا دليل قاطع على فساد الجملة التي كانت في ص: 46، 47 (تعليق: 3) وأنه لا يجعل علة الفتح في معنى النهي: "أنه حرك إذ ترك التضعيف بأخف الحركات، وهو الفتح"، ودليل على أن الصواب ما استظهرته في التعليق. وسيظهر ذلك بينا في رده الذي يأتي بعقب هذه الجملة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "لا تضارن"، وهو كلام لا معنى له. والصواب ما أثبت (بضم التاء وكسر الراء الأولى، وسكون الأخيرة) ،
(3) انظر شرح الشافية 2: 243.
(4) إغفاله: دخوله في الغفلة، كما أسلفنا في 1: 151، تعليق: 1، وكذلك معنى قوله في الموضع الثاني"أغفل"، أي: دخل في الغفلة.
(5) في المطبوعة: "لا تضار" براء مشددة، والصواب من المخطوطة. وقوله"مرفوعة بفعلها"، أي أنه فعل لازم، مثل"قاتل الرجل".
(6) إغفاله: دخوله في الغفلة، كما أسلفنا في 1: 151، تعليق: 1، وكذلك معنى قوله في الموضع الثاني"أغفل"، أي: دخل في الغفلة.
(7) في المطبوعة: "كل واحد"، وهما قريبين. وقوله: تقدم إلى كذا بكذا، أي أمر بأمر أو نهي.(5/52)
والصبي في حال ما هو رضيع - غير جائز أن يكون منه ضرار لأحد؟ فلو كان ذلك معناه، لكل التنزيل: لا تضر والدة بولدها. (1)
* * *
وقد زعم آخرون من أهل العربية أن الكسر في"تضار" جائز. (2) والكسر في ذلك عندي في هذا الموضع غير جائز، (3) لأنه إذا كسر تغير معناه عن معنى: لا تضارَرْ "- (4) الذي هو في مذهب ما لم يسم فاعله- إلى معنى"لاتضارر"، (5) الذي هو في مذهب ما قد سمي فاعله. (6)
* * *
قال أبو جعفر: فإذ كان الله تعالى ذكره قد نهى كل واحد من أبوي المولود عن مضارة صاحبه بسبب ولدهما، فحق على إمام المسلمين= إذا أراد الرجل نزع ولده من أمه بعد بينونتها منه، وهي تحضنه وتكلفه وترضعه، بما يحضنه به غيرها ويكلفه به ويرضعه من الأجرة= (7) أن يأخذ الوالد بتسليم ولدها، ما دام محتاجا الصبي، إليها في ذلك بالأجرة التي يعطاها غيرها وحق عليه= إذا كان الصبي لا يقبل ثدي غير
__________
(1) في المخطوطة: "لا تضار" كنص الآية، وهي خطأ بلا شك.
(2) هو الفراء في معاني القرآن 1: 149، وعنى الفراء برأيه هذا أنه لما سكنت الراء الأولى لإدغامهما في الثانية الساكنة، التقى ساكنان، فكسر، لأن الكسر هو الأصل في التقاء الساكنين هذا ما أجازه.
(3) في المطبوعة: "والكسر في ذلك عندي غير جائز في هذا الموضع" وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "لا تضار"، والصواب التضعيف هنا للبيان، كما في المخطوطة.
(5) في المخطوطة والمطبوعة: "لا تضار" والصواب ما أثبت للعلة في التعليق السالف.
(6) هذه الفقرة من كلام أبي جعفر في رد من قال بالكسر، تدل دلالة واضحة أيضًا على فساد الجملة الأولى التي صححناها في ص: 46، 47 تعليق: 3، وهي تبين لك عن صواب ما استظهرت أنه أصل كلام الطبري.
(7) في المخطوطة والمطبوعة: "وترضعه"، والصواب بالياء كما أثبت. وسياق الجملة: "فحق على إمام المسلمين. . . أن يأخذ الوالد" وما بينهما فصل للحال. وقوله: "ما دام محتاجا الصبي" حال أخرى معترضة. وسياق الكلام"بتسليم ولدها. . . إليها في ذلك".(5/53)
والدته، أو كان المولود له لا يجد من يرضع ولده وإن كان يقبل ثدي غير أمه، أو كان معدما لا يجد ما يستأجر به مرضعا، ولا يجد ما يتبرع عليه برضاع مولوده. (1) = أن يأخذ والدته البائنة من والده برضاعه وحضانته. (2) لأن الله تعالى ذكره إن حرم على كل واحد من أبويه ضرار صاحبه بسببه، (3) فالإضرار به أحرى أن يكون محرما، مع ما في الإضرار به من مضارة صاحبه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في"الوارث" الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، وأي وارث هو: ووارث من هو؟
فقال بعضهم: هو وارث الصبي. وقالوا: معنى الآية: وعلى وارث الصبي إذا كان [أبوه] ميتا، (4) مثل الذي كان على أبيه في حياته.
* ذكر من قال ذلك:
4986- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قالا حدثنا سعيد، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث الولد.
4987- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ما يتبرع عليه"، وهو خطأ فاسد، لأنه يريد أنه لم يجد من يتفضل عليه ويتطوع برضاع مولوده. وسياق هذه الجملة أيضًا: "وحق عليه. . . أن يأخذ والدته"، كما في الفقرة السالفة.
(2) في المخطوطة: "أن يأخذ بوالدته الثانية من والدته البائنة من والده"، وقد أصابت المطبوعة الصواب، فحذفت"الثانية من والدته"، فهو تصحيف وتكرار.
(3) في المطبوعة: "لأن الله تعالى ذكره حرم" بإسقاط"إن"، والواجب إثباتها كما جاءت في المخطوطة.
(4) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، وإلا اختل الكلام، ويدل على وجودها ما بعده.(5/54)
السدي:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث الولد.
4988- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى وارث الصبي مثل ما على أبيه.
* * *
ثم اختلف قائلو هذه المقالة في وارث المولود، الذي ألزمه الله تعالى مثل الذي وصف. فقال بعضهم: هم وارث الصبي من قبل أبيه من عصبته، كائنا من كان، أخا كان، أو عما، أو ابن عم، أو ابن أخ.
* ذكر من قال ذلك:
4989 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج: أن عمرو بن شعيب أخبره: أن سعيد بن المسيب أخبره: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه= قال: في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال (1) = وقف بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه، مثل العاقلة. (2)
4990- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة: أن الحسن كان يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على العصبة.
4991- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الله بن إدريس وأبو عاصم
__________
(1) هذه الجملة بين الخطين، من كلام عمرو بن شعيب. بمعنى أن سعيد بن المسيب أخبره في قوله تعالى: "وعلى الوارث مثل ذلك"، أن عمر بن الخطاب حبس. وهذا بين من سياق التحديث.
(2) الأثر: 4989- في المخطوطة"قال: وقف بني عم منفوس بني عمه كلالة بالنفقة". وأما الذي في المطبوعة، فكأنه من نص الدر المنثور 1: 288، اجتلبه المصحح من هناك، وهذا نص الدر والمطبوعة: "حبس بني عم على منفوس كلالة بالنفقة عليه"، وقد رأيت أن أقرأها كما أثبتها وكما في المحلى بهذا الإسناد 10: 102. والمخطوطة - كما قلت مرارا مضطربة في هذا القسم منها لعجلة الكاتب، كما ظهر في كثرة التصحيحات السالفة. وانظر الأثر رقم: 4991 والتعليق عليه. يقال: هو ابن عمه كلالة (بالنصب) ، وابن عم كلالة (بالإضافة) . أي من بني العم الأباعد، وهم العصبة وإن بعدوا. والعاقلة: هم عصبة الرجل وقرابته من قبل الأب الذين يعطون دية القتل.(5/55)
قالا حدثنا ابن جريج، عن عمرو بن شعيب، عن سعيد بن المسيب قال: وقف عمر ابن عم على منفوس كلالة برضاعه. (1)
4992- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس: أن الحسن كان يقول: إذا توفي الرجل وامرأته حامل، فنفقتها من نصيبها، ونفقة ولدها من نصيبه من ماله إن كان له، فإن لم يكن له مال فنفقته على عصبته.
قال: وكان يتأول قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على الرجال.
4993- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن قال: على العصبة الرجال، دون النساء.
4994- حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام عن ابن سيرين: أتي عبد الله بن عتبة مع اليتيم وليه، ومع اليتيم من يتكلم في نفقته، فقال لولي اليتيم: لو لم يكن له مال لقضيت عليك بنفقته، لأن الله تعالى يقول:" وعلى الوارث مثل ذلك". (2)
4995- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن محمد بن سيرين قال: أُتي عبد الله بن عتبة في رضاع صبي، فجعل رضاعه في ماله، وقال لوليه: لو لم يكن له مال جعلنا رضاعه في مالك، ألا تراه يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"؟ (3)
4996- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث ما على الأب، إذا لم يكن للصبي مال. وإذا كان له ابن عم أو عصبة ترثه، فعليه النفقة.
__________
(1) الأثر: 4991- انظر الأثر السالف: 4989، وفي المطبوعة هنا"ابن عم على منفوس" بزيادة"على"، وأثبت ما في المخطوطة وانظر سنن البيهقي 7: 478 - 479، والمحلى 10: 102.
(2) الأثران: 4994، 4995- انظر الأثر التالي رقم: 5004. والذي في المخطوطة في الأثر الأول: "أن أبا عبد الله" بياض بين الكلمتين، وغير منقوط، وفي المطبوعة: "أنه أتى عبد الله"، وظني أن الناسخ قد كرر، وأن الصواب ما أثبت، كما في الأثر الذي يليه.
(3) الأثران: 4994، 4995- انظر الأثر التالي رقم: 5004. والذي في المخطوطة في الأثر الأول: "أن أبا عبد الله" بياض بين الكلمتين، وغير منقوط، وفي المطبوعة: "أنه أتى عبد الله"، وظني أن الناسخ قد كرر، وأن الصواب ما أثبت، كما في الأثر الذي يليه.(5/56)
4997- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الولي من كان.
4998- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن أبي بشر ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
4999- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5000- حدثنا عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا يعقوب- يعني ابن القاسم- عن عطاء وقتادة- في يتيم ليس له شيء، أيجبر أولياؤه على نفقته؟ قالا نعم، ينفق عليه حتى يدرك. (1)
5001- حدثت عن يعلى بن عبيد، عن جويبر، عن الضحاك قال: إن مات أبو الصبي وللصبي مال، أخذ رضاعه من المال. وإن لم يكن له مال، أخذ من العصبة. فإن لم يكن للعصبة مال، أجبرت عليه أمه.
* * *
وقال آخرون منهم: بل ذلك على وارث المولود من كان، من الرجال والنساء.
* ذكر من قال ذلك:
5002- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة أنه كان يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على وارث المولود ما كان على
__________
(1) الأثر: 5000- عبد الله بن محمد بن يزيد أبو محمد الحنفي المروزي صاحب عبدان. سكن بغداد. قال الخطيب: "كان ثقة"، وتوفى سنة 275 مترجم في تاريخ بغداد 10: 85 و"عبدان"، لقب"عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد الأزدي، روى عنه البخاري. مات سنة 220. مترجم في التهذيب. وانظر الأثر الآتي برقم: 5009.(5/57)
الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا مال له، على الرجال والنساء على قدر ما يرثون.
5003 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أغرم ثلاثة، كلهم يرث الصبي، أجر رضاعه.
5004- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين: أن عبد الله بن عتبة جعل نفقة صبي من ماله، وقال لوارثه: أما إنه لو لم يكن له مال أخذناك بنفقته، ألا ترى أنه يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك". (1)
* * *
وقال آخرون منهم: هو من ورثته، من كان منهم ذا رحم محرم للمولود، فأما من كان ذا رحم منه وليس بمحرم، كابن العم والمولى ومن أشبههما، فليس من عناه الله بقوله:"وعلى الوارث مثل ذلك". والذين قالوا هذه المقالة: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد.
* * *
وقالت فرقةأخرى: بل الذي عنى الله تعالى ذكره بقوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، المولود نفسه.
ذكر من قال ذلك:
5005- حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال، أخبرنا حيوة بن شريح قال، أخبرنا جعفر بن ربيعة. أن بشير بن نصر المزني - وكان قاضيا قبل ابن حجيرة في زمان عبد العزيز- كان يقول:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الوارث هو الصبي. (2)
__________
(1) الأثر: 5004- بإسناده في المحلى 10: 103، وانظر الأثرين السالفين: 4994، 4995.
(2) الأثر: 5005-"أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري" مضت ترجمته بتفصيل في رقم: 2377. وكان في المطبوعة هنا"حدثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد" كما كان هناك أيضًا، والصواب هنا من المخطوطة. وجعفر بن ربيعة بن شرحبيل بن حسنة الكندي أبو شرحبيل المصري. قال أحمد: "كان شيخا من أصحاب الحديث ثقة". توفي سنة 136. مترجم في التهذيب. و"بشير ابن النضر المزني" مترجم في كتاب القضاة للكندي: 313 - 314 توفى سنة 69، وكان في المطبوعة والمخطوطة"بشر بن نصر"، وهو خطأ، وقد روى هذا الأثر بإسناده قال: "حدثنا محمد بن يوسف، قال حدثني محمد بن ربيع الجيزي، قال حدثني أبي، قال حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد. . . ". و"ابن حجيرة" هو: "عبد الرحمن بن حجيرة الخولاني"، مترجم في كتاب القضاة: 314 - 320، توفى سنة 83، وكان فقيها من أفقه الناس.(5/58)
5006- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا عبد الله بن يزيد المقري قال، أخبرنا حيوة. قال، أخبرنا جعفر بن ربيعة، عن قبيصة بن ذؤيب:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: هو الصبي.
5007- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حيوة بن شريح قال، أخبرني جعفر بن ربيعة: أن قبيصة بن ذؤيب كان يقول: الوارث هو الصبي= يعني قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك". (1)
5008- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: يعني بالوارث: الولد الذي يرضع.
* * *
قال أبو جعفر: وتأويل ذلك على ما تأوله هؤلاء: وعلى الوارث المولود، مثل ما كان على المولود له.
* * *
وقال آخرون: بل هو الباقي من والدي المولود، بعد وفاة الآخر منهما.
ذكر من قال ذلك:
5009- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، أخبرنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، سمعت سفيان يقول في
__________
(1) الأثران: 5006، 5007 - انظر المحلى 10: 103، وروايته هناك: "رضاع الصبي".(5/59)
صبي له عم وأم وهي ترضعه، قال: يكون رضاعه بينهما، ويرفع عن العم بقدر ما ترث الأم، لأن الأم تجبر على النفقة على ولدها. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مِثْلُ ذَلِكَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"مثل ذلك".
فقال بعضهم: تأويله: وعلى الوارث للصبي بعد وفاة أبويه، (2) مثل الذي كان على والده من أجر رضاعه ونفقته، إذا لم يكن للمولود مال.
ذكر من قال ذلك:
5010- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث رضاع الصبي.
5011- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن منصور، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أجر الرضاع.
5012- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع.
5013- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أجر الرضاع.
__________
(1) الأثر: 5009- انظر إسناد الأثر السالف رقم: 5000، وفي المطبوعة: "ويدفع عن العم"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "على الوارث للصبي"، وأثبت ما في المخطوطة.(5/60)
5014- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد بن سيرين، عن عبد الله بن عتبة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع.
5015- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن أيوب، عن محمد، عن عبد الله بن عتبة في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: النفقة بالمعروف.
5016- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث ما على الأب من الرضاع، إذا لم يكن للصبي مال.
5017- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن مغيرة، عن إبراهيم قال: الرضاع والنفقة.
5018- حدثني أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع.
5019- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن عطاء بن السائب، عن الشعبي، قال: الرضاع.
5020- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا أبو عوانة، عن مطرف، عن الشعبي:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أجر الرضاع.
5021- حدثنا عمرو قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن إبراهيم، والشعبي مثله.
5022- حدثنا أبو كريب وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الله بن إدريس(5/61)
قال، سمعت هشاما (1) عن الحسن في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: الرضاع.
5023- حدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن هشام وأشعث، عن الحسن مثله.
5024- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن يونس، عن الحسن:"وعلى الوارث مثل ذلك"، يقول في النفقة على الوارث، إذا لم يكن له مال.
5025- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد مثله.
5026- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: النفقة بالمعروف.
5027- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وعلى الوارث مثل ذلك"، على الولي كفله ورضاعه، إن لم يكن للمولود مال.
5028- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى الوارث من كان، مثل ما وصف من الرضاع= قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد: مثل ذلك في الرضاعة= قال:" وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى الوارث أيضا كفله ورضاعه، إن لم يكن له مال، وأن لا يضار أمه.
5029- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن
__________
(1) في المطبوعة: "سمعت وهشاما عن الحسن"، كأنه سقطا اسم راو عطف عليه قوله"وهشاما" وكأنه صوابه"سمعت أشعث وهشاما"، كما سيأتي في الأثر التالي.(5/62)
ابن جريح، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: نفقته حتى يفطم، إن كان أبوه لم يترك له مالا.
5030- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: وعلى وارث الولد ما كان على الوالد من أجر الرضاع، إذا كان الولد لا مال له.
5031- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على وارث الصبي مثل ما على أبيه، إذا كان قد هلك أبوه ولم يكن له مال، (1) فإن على الوارث أجر الرضاع.
5032- حدثنا ابن حميد، قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: إذا مات وليس له مال، كان على الوارث رضاع الصبي.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى الوارث مثل ذلك: أن لا يضار.
ذكر من قال ذلك:
5033- حدثنا عمرو بن علي ومحمد بن بشار قالا حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا حماد بن زيد، عن علي بن الحكم، عن الضحاك بن مزاحم:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أن لا يضار.
5034- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم الأحول، عن الشعبي في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: لا يضار، ولا غرم عليه.
5035- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن مجاهد في قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، أن لا يضار.
__________
(1) في المطبوعة: "إذ كان قد هلك"، والصواب من المخطوطة.(5/63)
5036- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب:"والوالدات يرضعن أولادهن حولين"، قال: الوالدات أحق برضاع أولادهن ما قبلن رضاعهن بما يعطى غيرهن من الأجر. وليس لوالدة أن تضار بولدها، فتأبى رضاعه مضارة، وهي تعطى عليه ما يعطى غيرها. وليس للمولود له أن ينزع ولده من والدته ضرارا لها، وهي تقبل من الأجر ما يعطي غيرها=" وعلى الوارث مثل ذلك"، مثل الذي على الوالد في ذلك.
5037- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثنا علي قال: حدثنا زيد، عن سفيان:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: أن لا يضار، وعليه مثل ما على الأب من النفقة والكسوة.
* * *
وقال آخرون: بل تأويل ذلك: وعلى وارث المولود، (1) مثل الذي كان على المولود له، من رزق والدته وكسوتها بالمعروف.
ذكر من قال ذلك:
5038- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على الوارث عند الموت، مثل ما على الأب للمرضع من النفقة والكسوة= قال: ويعني بالوارث: الولد الذي يرضع: أن يؤخذ من ماله- إن كان له مال- أجر ما أرضعته أمه.
فإن لم يكن للمولود مال ولا لعصبته، فليس لأمه أجر، وتجبر على أن ترضع ولدها بغير أجر.
5039- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) في المطبوعة: "وعلى الوارث المولود"، وأثبت ما في المخطوطة.(5/64)
السدي:"وعلى الوارث مثل ذلك"، قال: على وارث الولد، مثل ما على الوالد من النفقة والكسوة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: وعلى الوارث مثل ما ذكره الله تعالى ذكره.
ذكر من قال ذلك:
5040- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: قوله تعالى ذكره:"وعلى الوارث مثل ذلك"؟ قال: مثل ما ذكره الله تعالى ذكره.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك": أن يكون المعني بالوارث ما قاله قبيصة بن ذؤيب والضحاك بن مزاحم؛ ومن ذكرنا قوله آنفا: (1) من أنه معني بالوارث: المولود= وفي قوله:"مثل ذلك"، أن يكون معنيا به: مثل الذي كان على والده من رزق والدته وكسوتها بالمعروف، إن كانت من أهل الحاجة، ومن هي ذات زمانة وعاهة، (2) ومن لا احتراف فيها، ولا زوج لها تستغني به، وإن كانت من أهل الغنى والصحة، فمثل الذي كان على والده لها من أجر رضاعه.
وإنما قلنا: هذا التأويل أولى بالصواب مما عداه من سائر التأويلات التي ذكرناها، لأنه غير جائز أن يقال في تأويل كتاب الله تعالى ذكره قول إلا بحجة واضحة، على ما قد بينا في أول كتابنا هذا. (3) وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله:"وعلى الوارث مثل ذلك"، محتملا ظاهره: وعلى وارث الصبي المولود مثل الذي كان على المولود له= ومحتملا وعلى وارث المولود له مثل الذي كان
__________
(1) انظر الآثار السالفة: 5005 - 5008.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: "وهي ذات زمانة"، والسياق يقتضي ما أثبت. والاحتراف الاكتساب يقال: هو يحرف لعياله ويحترف، أي يكتسب.
(3) يعني ما سلف في 1: 73 - 93، ثم ذكر ذلك في مواضع أخرى تجدها في الفهارس.(5/65)
عليه في حياته من ترك ضرار الوالدة ومن نفقة المولود، وغير ذلك من التأويلات، على نحو ما قد قدمنا ذكرها= (1) وكان الجميع (2) من الحجة قد أجمعوا على أن من ورثة المولود من لا شيء عليه من نفقته وأجر رضاعه= (3) وصح بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته، غير آبائه وأمهاته وأجداده وجداته من قبل أبيه أو أمه، في حكمه، (4) في أنهم لا يلزمهم له نفقة ولا أجر رضاع، إذ كان مولى النعمة من ورثته، وهو ممن لا يلزمه له نفقة ولا أجر رضاع. فوجب بإجماعهم على ذلك أن حكم سائر ورثته غير من استثني- حكمه. (5)
وكان إذا بطل أن يكون معنى ذلك ما وصفنا- من أنه معني به ورثة المولود- فبطول القول الآخر= وهو أنه معني به ورثة المولود له سوى المولود= أحرى. لأن الذي هو أقرب بالمولود قرابة ممن هو أبعد منه (6) - إذا لم يصح وجوب نفقته وأجر رضاعه عليه- فالذي هو أبعد منه قرابة، أحرى أن لا يصح وجوب ذلك عليه.
وأما الذي قلنا من وجوب رزق الوالدة وكسوتها بالمعروف على ولدها -إذا كانت الوالدة بالصفة التي وصفنا -على مثل الذي كان يجب لها من ذلك على المولود له، فما لا خلاف فيه من أهل العلم جميعا. فصح ما قلنا في الآية من التأويل بالنقل المستفيض وراثة عمن لا يجوز خلافه. وما عدا ذلك من التأويلات، فمتنازع فيه، وقد دللنا على فساده.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "قدمنا ذكره" وأثبت ما في المخطوطة.
(2) قوله: "وكان الجميع" معطوف على قوله. وإذ كان ذلك كذلك، وكان قوله. . . "
(3) سياق هذه الجملة من أولها: "وإذ كان ذلك كذلك. . .، وكان قوله. . .، محتملا. . . " ومحتملا. . . " وكان الجميع من الحجة. . . صح بذلك من الدلالة. . . "، وكان في المطبوعة: "وصح" بالواو، والسياق يقتضي حذفها، لأنها جواب"إذ".
(4) السياق: "صح بذلك من الدلالة على أن سائر ورثته. . . في حكمه".
(5) السياق: "أن حكم سائر ورثته. . . حكمه" خبر"أن"، يعني أن حكمهما واحد.
(6) في المخطوطة: "الذي هو أقرب بالمولود قربه ممن هو أبعد منه"، والذي في المطبوعة أصح وأجود.(5/66)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن أرادا"، إن أراد والد المولود ووالدته="فصالا"، يعني: فصال ولدهما من اللبن.
* * *
ويعني ب"الفصال": الفطام، وهو مصدر من قول القائل:"فاصلت فلانا أفاصله مفاصلة وفصالا"، إذا فارقه من خلطة كانت بينهما. فكذلك"فصال الفطيم"، إنما هو منعه اللبن، وقطعه شربه، وفراقه ثدي أمه إلا الاغتذاء بالأقوات التي يغتذي بها البالغ من الرجال.
* * *
وبما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
5041- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"فإن أرادا فصالا"، يقول: إن أرادا أن يفطماه قبل الحولين.
5042- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثنا معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فإن أرادا فصالا"، فإن أرادا أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
5043- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما"، قال: الفطام.
* * *
وأما قوله:"عن تراض منهما وتشاور"، فإنه يعني بذلك: عن تراض من والدي المولود وتشاور منهما.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الوقت الذي أسقط الله الجناح عنهما، إن فطماه(5/67)
عن تراض منهما وتشاور، وأي الأوقات الذي عناه الله تعالى ذكره بقوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور".
فقال بعضهم: عنى بذلك، فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور، فلا جناح عليهما.
ذكر من قال ذلك:
5044- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، يقول: إذا أرادا أن يفطماه قبل الحولين فتراضيا بذلك، فليفطماه.
5045- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة: إذا أرادت الوالدة أن تفصل ولدها قبل الحولين، فكان ذلك عن تراض منهما وتشاور، فلا بأس به.
5046- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، قال: التشاور فيما دون الحولين، ليس لها أن تفطمه إلا أن يرضى، وليس له أن يفطمه إلا أن ترضى.
5047- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد قال: التشاور ما دون الحولين،"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور" دون الحولين"فلا جناح عليهما"، فإن لم يجتمعا، فليس لها أن تفطمه دون الحولين.
5048- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان عن ليث، عن مجاهد قال: التشاور ما دون الحولين، ليس لها حتى يجتمعا.
5049- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني الليث قال، أخبرنا عقيل، عن ابن شهاب:"فإن أرادا فصالا"، يفصلان ولدهما="عن تراض منهما وتشاور"، دون الحولين الكاملين="فلا جناح عليهما".(5/68)
5050- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان قال: التشاور ما دون الحولين، إذا اصطلحا دون ذلك، وذلك قوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور". فإن قالت المرأة:"أنا أفطمه قبل الحولين"، وقال الأب:"لا"، فليس لها أن تفطمه قبل الحولين. وإن لم ترض الأم، فليس له ذلك، حتى يجتمعا. فإن اجتمعا قبل الحولين فطماه، وإذا اختلفا لم يفطماه قبل الحولين. وذلك قوله:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما".
5051- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"، قال: قبل السنتين="فلا جناح عليهما".
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"، في أي وقت أرادا ذلك، قبل الحولين أرادا أم بعد ذلك. (1)
ذكر من قال ذلك:
5052- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما"، أن يفطماه قبل الحولين وبعده.
* * *
وأما قوله:"عن تراض منهما وتشاور"، فإنه يعني: عن تراض منهما وتشاور فيما فيه مصلحة المولود لفطمه، كما: -
5053- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور"،
__________
(1) في المطبوعة: "قبل الحولين أرادا ذلك أم بعد الحولين"، ورددتها إلى المخطوطة.(5/69)
قال: غير مسيئين في ظلم أنفسهما ولا إلى صبيهما (1) ="فلا جناح عليهما".
5054- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب تأويل من قال:"فإن أرادا فصالا في الحولين عن تراض منهما وتشاور"، لأن تمام الحولين غاية لتمام الرضاع وانقضائه، ولا تشاور بعد انقضائه، وإنما التشاور والتراضي قبل انقضاء نهايته.
فإن ظن ذو غفلة أن للتشاور بعد انقضاء الحولين معنى صحيحا= إذ كان من الصبيان من تكون به علة يحتاج من أجلها إلى تركه والاغتذاء بلبن أمه= فإن ذلك إذا كان كذلك، فإنما هو علاج، كالعلاج بشرب بعض الأدوية، لا رضاع. فأما الرضاع الذي يكون في الفصال منه قبل انقضاء آخره تراض وتشاور من والدي الطفل الذي أسقط الله تعالى ذكره لفطمهما إياه الجناح عنهما، قبل انقضاء آخر مدته، فإنما حده الحد الذي حده الله تعالى ذكره بقوله: (2) "والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة"، على ما قد أتينا على البيان عنه فيما مضى قبل. (3)
* * *
وأما الجناح، فالحرج، (4) كما: -
__________
(1) في المخطوطة: "غير في ظلم أنفسهما" بياض بين الكلمتين، والذي أتمه مصحح المطبوعة لا بأس به، ولم أجد الأثر في مكان آخر.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "فإنما الحد الذي حده الله تعالى. . . "، وهو كلام غير مستقيم ألبتة، والصواب زيادة ما أثبته، فيكون سياقه: "وأما الرضاع. . . فإنما حده الحد الذي حده الله تعالى. . . ".
(3) انظر ما سلف في هذا الجزء 5: 39 وما قبلها وما بعدها.
(4) انظر ما سلف في تفسير"الجناح" 3: 230، 231/ و 4: 162، 163، 565.(5/70)
5055- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"فلا جناح عليهما"، فلا حرج عليهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك، وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم مراضع غير أمهاتهم= إذا أبت أمهاتهم أن يرضعنهم بالذي يرضعنهم به غيرهن من الأجر، أو من خيفة ضيعة منكم على أولادكم بانقطاع ألبان أمهاتهم، أو غير ذلك من الأسباب = فلا حرج عليكم في استرضاعهن، إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف.
* * *
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
5056- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"، خيفة الضيعة على الصبي،"فلا جناح عليكم".
5057- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
5058- حدثني عبد الله بن محمد الحنفي قال، حدثنا عبد الله بن عثمان قال، أخبرنا ابن المبارك قال، أخبرنا أبو بشر ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.(5/71)
5059- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"، إن قالت المرأة:"لا طاقة لي به فقد ذهب لبني" فتُسترْضَع له أخرى.
5060- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك قال: ليس للمرأة أن تترك ولدها بعد أن يصطلحا على أن ترضع، ويسلمان، ويجبران على ذلك. قال: فإن تعاسروا عند طلاق أو موت في الرضاع، فإنه يعرض على الصبي المراضع. فإن قبل مرضعا جاز ذلك وأرضعته، (1) وإن لم يقبل مرضعا فعلى أمه أن ترضعه بالأجر إن كان له مال أو لعصبته. فإن لم يكن له مال ولا لعصبته، أكرهت على رضاعه.
5061- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم"، إذا أبت الأم أن ترضعه، فلا جناح على الأب أن يسترضع له غيرها.
5062- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، قال: إذا رضيت الوالدة أن تسترضع ولدها، ورضي الأب أن يسترضع ولده، فليس عليهما جناح.
* * *
واختلفوا في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف".
فقال بعضهم: معناه: إذا سلمتم لأمهاتهم ما فارقتموهن عليه من الأجرة على رضاعهن، بحساب ما استحقته إلى انقطاع لبنها= أو الحال التي عذر أبو الصبي بطلب مرضع لولده غير أمه، واسترضاعه له.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "صار ذلك"، وفي المخطوطة"حار" غير منقوطة، والذي أثبته هو صواب قراءتها.(5/72)
5063- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، قال: حساب ما أرضع به الصبي.
5064- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، حساب ما يرضع به الصبي.
5065- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، إن قالت - يعني الأم -:"لا طاقة لي به، فقد ذهب لبني"، فتسترضع له أخرى، وليسلم لها أجرها بقدر ما أرضعت.
5066- حدثني المثنى قال، حدثني سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت -يعني لعطاء-:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"؟ قال: أمه وغيرها="فلا جناح عليكم إذا سلمتم"، قال: إذا سلمت لها أجرها="ما آتيتم"، قال: ما أعطيتم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: إذا سلمتم للاسترضاع، عن مشورة منكم ومن أمهات أولادكم الذين تسترضعون لهم، وتراض منكم ومنهن باسترضاعهم. (1)
ذكر من قال ذلك:
5067- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم.
5068- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، أخبرني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب: لا جناح عليهما أن يسترضعا أولادهما- يعني أبوي المولود- إذا سلما ولم يتضارا.
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "ومنهم"، والصواب ما أثبت.(5/73)
5069- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، يقول: إذا كان ذلك عن مشورة ورضا منهم.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف إلى التي استرضعتموها بعد إباء أم المرضع، من الأجرة، بالمعروف.
ذكر من قال ذلك:
5070- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد =جميعا، عن سفيان في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف"، قال: إذا سلمتم إلى هذه التي تستأجرون أجرها بالمعروف- يعني: إلى من استرضع للمولود، إذا أبت الأم رضاعه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، قول من قال:"تأويله: وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم إلى تمام رضاعهن، ولم تتفقوا أنتم ووالدتهم على فصالهم، (1) ولم تروا ذلك من صلاحهم، فلا جناح عليكم أن تسترضعوهم ظؤورة، إن امتنعت أمهاتهم من رضاعهم لعلة بهن أو لغير علة (2) إذا سلمتم إلى أمهاتهم وإلى المسترضعة الآخرة حقوقهن التي آتيتموهن بالمعروف.
يعني بذلك المعنى: الذي أوجبه الله لهن عليكم، وهو أن يوفيهن أجورهن على ما فارقهن عليه، في حال الاسترضاع،، ووقت عقد الإجارة.
وهذا هو المعنى الذي قاله ابن جريج، ووافقه على بعضه مجاهد والسدي ومن قال بقولهم في ذلك.
__________
(1) في المطبوعة: "أنتم ووالدتهم"، وهو خطأ.
(2) الظؤورة جمع ظئر (بكسر فسكون) : وهي المرضعة غير ولدها. والظؤورة مثل البعولة، جمع"بعل"، أو هما اسم جمع، كما يقول سيبويه.(5/74)
وإنما قضينا لهذا التأويل أنه أولى بتأويل الآية من غيره، لأن الله تعالى ذكره ذكر قبل قوله:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم"، أمر فصالهم، وبين الحكم في فطامهم قبل تمام الحولين الكاملين فقال:"فإن أرادا فصالا عن تراض منهما"، في الحولين الكاملين"فلا جناح عليهما". فالذي هو أولى بحكم الآية- إذ كان قد بين فيها وجه الفصال قبل الحولين- أن يكون الذي يتلو ذلك حكم ترك الفصال وإتمام الرضاع إلى غاية نهايته= وأن يكون- إذ كان قد بين حكم الأم إذا هي اختارت الرضاع بما يرضع به غيرها من الأجرة- أن يكون الذي يتلو ذلك من الحكم، بيان حكمها وحكم الولد إذا هي امتنعت من رضاعه، كما كان ذلك كذلك في غير هذا الموضع من كتاب الله تعالى، وذلك في قوله: (فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى) [سورة الطلاق: 6] . فأتبع ذكر بيان رضا الوالدات برضاع أولادهن، ذكر بيان امتناعهن من رضاعهن، فكذلك ذلك في قوله:"وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم".
وإنما اخترنا في قوله:"إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف" - ما اخترنا من التأويل، لأن الله تعالى ذكره فرض على أبي المولود تسليم حق والدته إليها مما آتاها من الأجرة على رضاعها له بعد بينونتها منه، كما فرض عليه ذلك لمن استأجره لذلك ممن ليس من مولده بسبيل، وأمره بإيتاء كل واحدة منهما حقها بالمعروف على رضاع ولده. فلم يكن قوله:"إذا سلمتم" بأن يكون معنيا به: إذا سلمتم إلى أمهات أولادكم الذين يرضعون حقوقهن، بأولى منه بأن يكون معنيا به: إذا سلمتم ذلك إلى المراضع سواهن= ولا الغرائب من المولود، بأولى أن يكن معنيات بذلك من الأمهات (1) إذ كان الله تعالى ذكره قد أوجب على أبي المولود لكل من
__________
(1) هذه الجملة بين الخطين، معطوفة على الجملة الأولى، فيكون سياق معناها: ولم يكن الغرائب من المولود بأولى أن يكن معنيات بذلك من الأمهات.(5/75)
استأجره لرضاع ولده، من تسليم أجرتها إليها مثل الذي أوجب عليه من ذلك للأخرى. فلم يكن لنا أن نحيل ظاهر تنزيل إلى باطن، (1) ولا نقل عام إلى خاص، إلا بحجة يجب التسليم لها- فصح بذلك ما قلنا.
* * *
قال أبو جعفر: وأما معنى قوله:"بالمعروف"، فإن معناه: بالإجمال والإحسان، وترك البخس والظلم فيما وجب للمراضع. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"واتقوا الله"، وخافوا الله فيما فرض لبعضكم على بعض من الحقوق، وفيما ألزم نساءكم لرجالكم ورجالكم لنسائكم، وفيما أوجب عليكم لأولادكم، فاحذروه أن تخالفوه فتعتدوا - في ذلك وفي غيره من فرائضه وحقوقه - حدوده، (3) فتستوجبوا بذلك عقوبته="واعلموا أن الله بما تعملون" من الأعمال، أيها الناس، سرها وعلانيتها، وخفيها وظاهرها، وخيرها وشرها="بصير"، يراه ويعلمه، فلا يخفى عليه شيء، ولا يتغيب عنه منه شيء، (4) فهو يحصي ذلك كله عليكم، حتى يجازيكم بخير ذلك وشره.
* * *
ومعنى"بصير"، ذو إبصار، وهو في معنى"مبصر". (5)
* * *
__________
(1) سلف مرارا ذكر"الظاهر" و"الباطن" فاطلبه في فهرس المصطلحات.
(2) انظر ما سلف في بيان"المعروف" 3: 371 / ثم في الجزء 4: 549 / 5: 7، 44 وبيانه عن معنى"المعروف" هنا أوضح وأشمل.
(3) في المطبوعة: "وحدوده" بزيادة واو مفسدة للكلام، فمعنى الكلام: فتعتدوا في ذلك حدوده.
(4) في المطبوعة: "لا يغيب"، وأثبت ما في المخطوطة، وهما سواء.
(5) انظر ما سلف في تأويل"بصير" 2: 140، 376، 506، وغيرها من المواضع في فهرس اللغة، وفهرس مباحث العربية.(5/76)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: والذين يتوفون منكم، من الرجال، أيها الناس، فيموتون، ويذرون أزواجا، يتربص أزواجهن بأنفسهن. (1)
* * *
فإن قال قائل: فأين الخبر عن"الذين يتوفون"؟
قيل: متروك، لأنه لم يقصد قصد الخبر عنهم، وإنما قصد قصد الخبر عن الواجب على المعتدات من العدة في وفاة أزواجهن، فصرف الخبر عن الذين ابتدأ بذكرهم من الأموات، إلى الخبر عن أزواجهم والواجب عليهن من العدة، إذ كان معروفا مفهوما معنى ما أريد بالكلام. وهو نظير قول القائل في الكلام: (2) "بعض جبتك متخرقة"، (3) في ترك الخبر عما ابتدئ به الكلام، إلى الخبر عن بعض أسبابه. وكذلك الأزواج اللواتي عليهن التربص، لما كان إنما ألزمهن التربص بأسباب أزواجهن، صرف الكلام عن خبر من ابتدئ بذكره، إلى الخبر عمن قصد قصد الخبر عنه، كما قال الشاعر: (4)
لعلي إن مالت بي الرٌيح ميلة ... على ابن أبي ذبان أن يتندما (5)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "يتربصن"، وهو في المخطوطة غير منقوط، والذي أثبته هو الصواب.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "هو نظير" بإسقاط الواو، والواجب إثباتها.
(3) يعني أن حق الكلام كان أن يقول: "بعض جبنك متخرق"، بالتذكير خبرا عن"بعض"، فصرفه إلى"جبتك".
(4) هو ثابت قطنة العتكي، واسمه" ثابت بن كعب". . ذهبت عينه في الحرب، فكان يحشوها بقطنة، وهو شاعر فارسي من شعراء خراسان في عهد الدولة الأموية، قال فيه حاجب الفيل: لا يعرف الناس منه غير قطنته ... وما سواها من الأنساب مجهول
(5) تاريخ الطبري 8: 160، ومعاني القرآن للفراء 1: 150، والصاحبي: 185، وهو من قصيدة له يرثى بها يزيد بن المهلب، لما قتل في سنة 102 في خروجه على يزيد بن عبد الملك بن مروان، وهو"ابن أبي ذبان". و"أبو ذبان" كنية أبيه عبد الملك بن مروان، لأنهم زعموا أنه كان أبخر، فإذا دنت الذبان من فيه، ماتت لشدة بخره. ورواية الطبري في التاريخ: "فعلى"، ويقول قبله: أرقت ولم تأرق معي أم خالد ... وقد أرقت عيناي حولا مجرما
على هالك هد العشيرة فقده، ... دعته المنايا فاستجاب وسلما
على ملك، يا صاح، بالعقر جبنت ... كتائبه، واستورد الموت معلما
أصيب ولم أشهد، ولو كنت شاهدا ... تسليت أن لم يجمع الحي مأتما
وفي غير الأيام يا هند، فاعلمي، ... لطالب وتر نظرة إن تلوما
فعلي، إن مالت. . . . . . . . . . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
وكان في المطبوعة والمخطوطة: "ابن أبي زبان" وهو خطأ كما ترى.(5/77)
فقال"لعلي"، ثم قال:"أن يتندما"، لأن معنى الكلام: لعل ابن أبي ذبان أن يتندم، (1) إن مالت بي الريح ميلة عليه= فرجع بالخبر إلى الذي أراد به، وإن كان قد ابتدأ بذكر غيره. ومنه قول الشاعر:
ألم تعلموا أن ابن قيس وقتله ... بغير دم، دار المذلة حلت (2)
فألغى"ابن قيس" وقد ابتدأ بذكره، وأخبر عن قتله أنه ذل. (3)
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية أن خبر"الذين يتوفون" متروك، وأن معنى الكلام: والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا، ينبغي لهن أن يتربصن بعد موتهم. وزعم أنه لم يذكر"موتهم"، كما يحذف بعض الكلام- وأن"يتربصن" رفع، إذ وقع موقع"ينبغي"، و"ينبغي" رفع. وقد دللنا على فساد قول من قال في رفع"يتربصن"
__________
(1) في والمخطوطة والمطبوعة: "ابن أبي زبان" وهو خطأ.
(2) لم أعرف قائله، والبيت في معاني القرآن للفراء 1: 150، والصاحبي: 185، وروايتهما بني أسد إن ابن قيس وقتله
(3) هذا الذي سلف أكثره نص الفراء في معاني القرآن 1: 150-151، وفي معاني القرآن"فألقى ابن قيس"، والصواب ما في الطبري.(5/78)
بوقوعه موقع"ينبغي" فيما مضى، فأغنى عن إعادته. (1)
* * *
وقال آخر منهم: (2) إنما لم يذكر"الذين" بشيء، لأنه صار الذين في خبرهم مثل تأويل الجزاء:"من يلقك منا تصب خيرا"= الذي يلقاك منا تصيب خيرا. (3) قال: ولا يجوز هذا إلا على معنى الجزاء.
* * *
قال أبو جعفر: وفي البيتين اللذين ذكرناهما الدلالة الواضحة على القول في ذلك بخلاف ما قالا. (4)
* * *
قال أبوجعفر: وأما قوله:"يتربصن بأنفسهن"، فإنه يعني به: يحتبسن بأنفسهن (5) معتدات عن الأزواج، والطيب، والزينة، والنقلة عن المسكن الذي كن يسكنه في حياة أزواجهن- أربعة أشهر وعشرا، إلا أن يكن حوامل، فيكون عليهن من التربص كذلك إلى حين وضع حملهن. فإذا وضعن حملهن، انقضت عددهن حينئذ.
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
فقال بعضهم مثل ما قلنا فيه:
5071- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها، إلا أن تكون حاملا فعدتها أن تضع ما في بطنها.
__________
(1) انظر ما سلف في الجزء 5: 47، 48.
(2) في المطبوعة: "وقال آخرون منهم"، والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "من يلقك منا يصيب خيرا"، ثم"يصيب خيرا"، والصواب ما أثبته"تصب" في الجملة الأولى مجزومة، وبالتاء في أوله، ثم"تصيب" بالتاء في الثانية.
(4) في المطبوعة: "الدلالة الواضحة" وأثبت ما في المخطوطة.
(5) انظر فيما سلف تفسير"التربص" 4: 456، 515.(5/79)
5072- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب في قول الله: (1) "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، قال ابن شهاب: جعل الله هذه العدة للمتوفى عنها زوجها، فإن كانت حاملا فيحلها من عدتها أن تضع حملها، وإن استأخر فوق الأربعة الأشهر والعشرة فما استأخر، لا يحلها إلا أن تضع حملها.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما قلنا: عنى ب"التربص" ما وصفنا، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلي الله عليه وسلم بما: -
5073- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وأبو أسامة، عن شعبة= وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة=، عن حميد بن نافع قال: سمعت زينب ابنة أم سلمة تحدث= قال أبو كريب: قال أبو أسامة: عن أم سلمة= أن امرأة توفى عنها زوجها واشتكت عينها، فأتت النبي صلي الله عليه وسلم تستفتيه في الكحل، فقال: لقد كانت إحداكن تكون في الجاهلية في شر أحلاسها، (2) فتمكث في بيتها حولا إذا توفي عنها زوجها، فيمر عليها الكلب فترميه بالبعرة! أفلا أربعة أشهر وعشرا"! (3)
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "عن قول الله"، والصواب ما أثبته.
(2) الأحلاس جمع حلس: وهو كساء رقيق يكون تحت البرذعة، وكل ما يبسط تحت حر المتاع ليقيه فهو حلس. وعنى به هنا: المرذول من ثيابها.
(3) الحديث 5073-"حميد بن نافع الأنصاري المدني": تابعي ثقة. روى عن أبي أيوب، وعبد الله بن عمر، وروى عن زينب بنت أم سلمة. وهو والد"أفلح بن حميد". ويقال له"حميد صفيراء". ففرق البخاري في الكبير 1 / 2 / 345 بين"حميد صفيراء، والد أفلح"، الراوي عن أبي أيوب وابن عمر، وبين"حميد" الراوي عن زينب، جعلهما اثنين تبعا لشيخه علي بن المديني، وروى هو عن شعبة أنهما واحد. وهو الصحيح الذي جزم به الإمام أحمد. فقد روى في المسند 6: 325 - 326 (حلبي) حديث حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة، عن أم حبيبة أم المؤمنين، ثم قال عقب الحديث"حميد بن نافع: أبو أفلح، وهو حميد صفيراء"، وهو الذي اقتصر عليه ابن سعد 5: 224، وابن أبي حاتم 1 / 2 / 229-230. و"صفيراء": لقب حميد. وهكذا رسم على الصواب في المسند، والتهذيب في ترجمة"أفلح"، والبخاري في ترجمة"حميد". ورسم في التهذيب في ترجمة"حميد": "صفير"، وهو تصحيف. ووقع في التهذيب أيضًا في ترجمة"حميد" أنه يروي عن"عبد الله بن عمرو" -وهو خطأ، صوابه - كما قلنا-"عبد الله بن عمر". والحديث سيأتي: 5079، بإسناد آخر، من حديث أم سلمة وحدها. وسيأتي بأسانيد أخر، في بعضها: "عن أم سلمة وأم حبيبة" وفي سائرها: "عن أم سلمة أو أم حبيبة" 5076- 5078، 5080. وسنذكرها في مواضعها، إن شاء الله. أما من الوجه الذي هنا -رواية شعبة عن حميد-: فرواه الطيالسي: 1596، عن شعبة، بهذا الإسناد، نحوه. وكذلك رواه أحمد في المسند 6: 291-292 (حلبي) ، عن يحيى بن سعيد -وهو القطان- ثم رواه 6: 311، عن محمد بن جعفر، وعن حجاج -وهو ابن محمد المصيصي- ثلاثتهم عن شعبة، به، نحوه. ورواه البخاري 9: 432، و 10: 131، مطولا ومختصرا، من طريقين عن شعبة. وكذلك رواه مسلم 1: 434، من طريق محمد بن جعفر، عن شعبة. وكذلك رواه ابن الجارود في المنتقى، ص: 353-354، من طريق يحيى وهو القطان، عن شعبة. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 7: 439، من طريق الطيالسي ويحيى بن أبي بكير - كلاهما عن شعبة. ورواه مالك في الموطأ، ص: 596 - 598، عن عبد الله بن أبي بكر بن حزم، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أم سلمة، عن أمها -ثالث احاديث ثلاثة حدثت زينب بها حميد بن نافع- بمعناه ومن طريق مالك هذه، رواه الأئمة: فرواه عبد الرزاق في المصنف 4: 66-67 (مخطوط مصور) والبخاري 9: 427-428، ومسلم 1: 433 - 434، وأبو داود: 2299، والترمذي 2: 220، والنسائي 2: 114، وابن حبان في صحيحه (2: 91-92 مخطوطة التقاسيم، و 6: 457-458 مخطوطة الإحسان) . وهو في المنتقى للمجد بن تيمية، برقم: 3811.(5/80)
5074- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال، سمعت نافعا، عن صفية ابنة أبي عبيد: أنها سمعت حفصة ابنة عمر زوج النبي صلي الله عليه وسلم تحدث، عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاث، إلا على زوج، فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرا"= قال يحيى: والإحداد عندنا أن لا تطيب ولا تلبس ثوبا مصبوغا بورس ولا زعفران، (1) ولا تكتحل، ولا تزين. (2)
__________
(1) الورس: نبت أصفر، يتخذ منه صبغ أصفر تصبغ به الثياب، ومنه ما يكون للزينة، كالزعفران.
(2) الحديثان: 5074، 5075 - هما حديث واحد، مطول ومختصر، بإسنادين. عبد الوهاب في الإسناد الأول: هو ابن عبد المجيد الثقفي. ويزيد -في الإسناد الثاني: هو ابن هرون. يحيى بن سعيد- في الإسنادين: هو الأنصاري. ونافع: هو مولى ابن عمر. صفية بنت أبي عبيد بن مسعود، الثقفية: وهي تابعية ثقة، من فضليات النساء، وذكرها بعضهم في الصحابة، ولا يصح، وهي زوج عبد الله بن عمر. وهي أخت المختار بن أبي عبيد الثقفي الكذاب. وشتان بين الأخوين. ووقع في ترجمتها في التهذيب 12: 430 أنه يروي عنها"نافع مولى ابن عباس". وهو سهو أو خطأ ناسخ. بل الذي يروي عنها هو"نافع مولى ابن عمر". ولها ترجمة في ابن سعد 8: 346 - 347، والإصابة 8: 131. والحديث رواه مسلم 1: 435، من طريق عبد الوهاب، عن يحيى. وهو الطريق الأول هنا. ولم يذكر لفظه كله. وكذلك رواه البيهقي 7: 438، من طريق عبد الوهاب، وذكر لفظه. ورواه أحمد في المسند 6: 286، عن يزيد بن هارون، وهو الطريق الثاني هنا.(5/81)
5075- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا يحيى، عن نافع، عن صفية ابنة أبي عبيد، عن حفصة ابنة عمر: أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث، إلا على زوج.
5076- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول، أخبرني حميد بن نافع: أن زينب ابنة أم سلمة أخبرته، عن أم سلمة -أو أم حبيبة- زوج النبي صلي الله عليه وسلم: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم، فذكرت أن ابنتها توفي عنها زوجها، وأنها قد خافت على عينها= فزعم حميد عن زينب: أن رسول الله صلي الله عليه وسلم قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشر. (1) .
__________
(1) الحديث: 5076- هو الحديث الماضي: 5073، إلا أنه هنا"عن أم سلمة أو أم حبيبة"، على الشك. وكذلك في الإسناد بعده: 5077، وسيأتي في الإسناد: 5080، أنه"عن أم سلمة وأم حبيبة" معا، دون شك فيه.
أما روايته بالشك، بحرف"أو" - فلم أجدها قط. وأخشى أن يكون تحريفا من الناسخين. نعم روى الدارمي 2: 167، قصة أخرى لأم حبيبة، في آخرها حديث"لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد فوق ثلاثة. . . " إلخ - رواه عن هاشم بن القاسم، عن شعبة، عن حميد بن نافع، عن زينب بنت أبي سلمة، عن أم حبيبة. ثم رواه عقبه، بالإسناد نفسه إلى زينب"تحدث عن أمها، أو امرأة من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، نحوه". ولكنه حديث آخر غير هذا الحديث، ولعل زينب شكت أيضًا في الرواية التي هنا، كما شكت في الرواية التي عند الدارمي.
وكذلك رواه مسلم 1: 434، عن ابن المثنى، عن ابن جعفر، عن شعبة، - في قصة أم حبيبة فقط، ثم قال حميد: "وحدثتنيه زينب عن أمها، وعن زينب زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أو عن امرأة عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم".
ثم روي عن عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن شعبة: "عن حميد بن نافع بالحديثين جميعا، حديث أم سلمة في الكحل، وحديث أم سلمة وأخرى من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم. غير أنه لم تسمها زينب - نحو حديث محمد بن جعفر". وأيا ما كان، فإن هذا الشك لا يؤثر في صحة الحديث. والروايات الثابتة تدل على أنها روته عن أمها وأم حبيبة، كما سيأتي.(5/82)
5077- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع: أنه سمع زينب ابنة أم سلمة، تحدث عن أم حبيبة أو أم سلمة أنها ذكرت: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم قد توفي عنها زوجها، وقد اشتكت عينها، وهي تريد أن تكحل عينها، فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة بعد الحول، وإنما هي أربعة أشهر وعشر= قال ابن بشار، قال يزيد، قال يحيى: فسألت حميدا عن رميها بالبعرة، قال: كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها، عمدت إلى شر بيتها فقعدت فيه حولا فإذا مرت بها سنة ألقت بعرة وراءها. (1)
5078- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا شعبة، عن يحيى، عن حميد بن نافع بهذا الإسناد مثله (2)
__________
(1) الحديث: 5077- هو الحديث السابق أيضًا، بإسناد آخر. ووقع في المطبوعة هنا"أو أم سلمة" على الشك، كالرواية السابقة. ولكني أوقن -هنا- أنه خطأ من ابن بشار، شيخ الطبري.
فالحديث رواه مسلم 1: 434، عن أبي بكر بن أبي شيبة، وعمرو الناقد -كلاهما عن يزيد بن هارون. بهذا الإسناد. وفيه: "أنه سمع زينب بنت أبي سلمة تحدث عن أم سلمة وأم حبيبة، تذكران: أن امرأة. . . "- إلخ. فهذا صريح في الرواية عنهما معا، لا رواية عن إحداهما. وكذلك رواه ابن ماجه: 2084، عن أبي بكر بن أبي شيبة، عن يزيد بن هارون، نحو رواية مسلم. ويؤيده: أن النسائي رواه 2: 115، من طريق حماد، عن يحيى الأنصاري، عن حميد، عن زينب: "أن امرأة سألت أم سلمة وأم حبيبة. . . فقالتا: أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. . "
(2) الحديث: 5078- هو تكرار للحديث قبله، لم يذكر لفظه، وهو من رواية يزيد بن هارون، عن شعبة، عن يحيى الأنصاري، عن حميد.
وأنا أخشى أن يكون في الإسناد تحريف من الناسخين، وأن يكون صوابه: "حدثنا شعبة، ويحيى". لأن الإسناد قبله، هو من رواية يزيد بن هارون عن يحيى مباشرة. فقد تكون الفائدة في تكرار هذا الإسناد: أن يكون ابن بشار سمعه من يزيد مرتين: مرة عن يحيى وحده، ومرة عن يحيى وشعبة. وإذا كان ما ثبت في المطبوعة صحيحا، كان ابن بشار سمعه هكذا، ويكون من المزيد في متصل الأسانيد.(5/83)
5079- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا ابن عيينة، عن أيوب بن موسى ويحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أم سلمة: أن امرأة أتت النبي صلي الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي مات زوجها فاشتكت عينها، أفتكتحل؟ (1) فقال، قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول، وإنما هي الآن أربعة أشهر وعشر! = قال، قلت: وما"ترمي بالبعرة على رأس الحول"؟ قال: كان نساء الجاهلية إذا مات زوج إحداهن، لبست أطمار ثيابها، (2) وجلست في أخس بيوتها، فإذا حال عليها الحول أخذت بعرة فدحرجتها على ظهر حمار وقالت: قد حللت! (3)
5080- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أحمد بن يونس قال، حدثنا زهير بن معاوية قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن حميد بن نافع، عن زينب ابنة أم سلمة، عن أمها أم سلمة وأم حبيبة زوجي النبي صلي الله عليه وسلم: أن امرأة من قريش جاءت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم فقالت: إن ابنتي توفي عنها زوجها، وقد خفت على عينها، وهي تريد الكحل؟ قال: قد كانت إحداكن ترمي بالبعرة على رأس الحول! وإنما هي أربعة أشهر وعشر! = قال حميد: فقلت لزينب: وما رأس الحول؟ قالت زينب: كانت المرأة في الجاهلية إذا هلك زوجها، عمدت إلى أشر بيت لها
__________
(1) في المخطوطة: "أفتكحل".
(2) الأطمار جمع طمر (بكسر فسكون) : وهو الثوب الخلق، والكساء البالي.
(3) الحديث: 5079- أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد بن العاص بن سعيد بن العاص: قرشي مكي ثقة حافظ فقيه. مذكور في نسب قريس للمصعب، ص: 183.
وهذا الحديث تكرار للحديث: 5073، بأنه عن أم سلمة وحدها - كما قلنا هناك.
وقد رواه النسائي 2: 115 - من طريق الليث بن سعد، عن أيوب بن موسى. ثم من طريق سفيان ابن عيينة، عن يحيى الأنصاري، به، نحوه، مطولا، ومختصرا.(5/84)
فجلست فيه، (1) حتى إذا مرت بها سنة خرجت، ثم رمت ببعرة وراءها. (2)
5081- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن معمر، عن الزهري، عن عروة عن عائشة: أنها كانت تفتي المتوفى عنها زوجها، أن تحد على زوجها حتى تنقضي عدتها، ولا تلبس ثوبا مصبوغا ولا معصفرا، ولا تكتحل بالإثمد، ولا بكحل فيه طيب وإن وجعت عينها، ولكن تكتحل بالصبر وما بدا لها من الأكحال سوى الإثمد مما ليس فيه طيب، ولا تلبس حليا، وتلبس البياض ولا تلبس السواد. (3)
5082- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر في المتوفى عنها زوجها: لا تكتحل، ولا تطيب، ولا تبيت عن بيتها، ولا تلبس ثوبا مصبوغا، إلا ثوب عصب تجلبب به. (4)
__________
(1) قوله: "أشر" على وزن"أفعل"، هكذا جاء هنا. وقال أهل اللغة: إنه لغة قليلة أو رديئة. وقد جاء في كثير من أمثالهم وكلامهم"أشر" و"شرى"، كأفضل وفضلى. ومنه قول امرأة من العرب: "أعيذك بالله من نفس حرى، وعين شرى" أي خبيثة، وفي المثل: "شراهن مراهن". وفي خبر العبادي قيل له: "أي حماريك أشر؟ " قال: "هذا ثم هذا".
(2) الحديث: 5080- أحمد بن يونس: هو أحمد بن عبد الله بن يونس، مضى في: 2144. وهذا الحديث تكرار -في المعنى- للحديث: 5073، وللأحاديث: 5076-5079. وقد رواه هنا أحمد بن يونس عن زهير بن معاوية عن يحيى الأنصاري، وذكر فيه أنه"عن أم سلمة وأم حبيبة" معا.
ولكن رواه النسائي 2: 115 -بنحوه- من طريق ابن أعين، وهو الحسن بن محمد بن أعين، عن زهير بن معاوية، بهذا الإسناد، من حديث"أم سلمة"، ولم يذكر فيه أم حبيبة.
(3) الخبر: 5081- هذا أثر من فتوى عائشة وكلامها. ولكن تدل على صحة فتواها الأحاديث الصحاح. وهذا إسناده إليها صحيح. ولم أجده في شيء من المراجع غير هذا الموضع.
المعصفر: هو الثوب المصبوغ بالعصفر. والإثمد: هو الكحل، أو حجر يتخذ منه الكحل، وهو أسود إلى الحمرة. والصبر (بفتح الصاد وكسر الباء) : عصارة شجر، وهو مر، يتخذ منه الدواء.
(4) قوله: "تبيت عن بيتها" أي تبيت بعيدة عن بيتها وتنتقل إلى غيره. والعصب: برود من اليمن، يعصب غزلها -أي يجمع ويشد- ثم يصبغ وينسج، فيأتي موشيا، لبقاء ما عصب منه أبيض لم يأخذه صبغ. تجلببت المرأة: لبست جلبابها، وهو ملاءتها التي تشتمل بها.(5/85)
5083- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال: بلغني عن ابن عباس قال: تنهى المتوفى عنها زوجها أن تزين وتطيب.
5084- حدثنا نصر بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: إن المتوفى عنها زوجها لا تلبس ثوبا مصبوغا، ولا تمس طيبا، ولا تكتحل، ولا تمتشط= وكان لا يرى بأسا أن تلبس البرد.
* * *
وقال آخرون: إنما أمرت المتوفى عنها زوجها أن تربص بنفسها عن الأزواج خاصة، فأما عن الطيب والزينة والمبيت عن المنزل، فلم تنه عن ذلك، ولم تؤمر بالتربص بنفسها عنه.
* ذكر من قال ذلك:
5085- حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن: أنه كان يرخص في التزين والتصنع، ولا يرى الإحداد شيئا. (1)
5086- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، لم يقل تعتد في بيتها، تعتد حيث شاءت.
5087- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا إسماعيل قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء قال، قال ابن عباس: إنما قال الله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، ولم يقل تعتد في بيتها، فلتعتد حيث شاءت.
* * *
واعتل قائلو هذه المقالة بأن الله تعالى ذكره، إنما أمر المتوفى عنها بالتربص عن النكاح، وجعلوا حكم الآية على الخصوص= وبما: -
__________
(1) تصنعت المرأة تصنعا: تزينت وتجملت وعالجت وجهها وغيره حتى يحسن.(5/86)
5088- حدثني به محمد بن إبراهيم السلمي قال، حدثنا أبو عاصم، وحدثني محمد بن معمر البحراني قال، حدثنا أبو عامر = قالا جميعا، حدثنا محمد بن طلحة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد بن الهاد، عن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر قال لي رسول الله صلي الله عليه وسلم: تسلبي ثلاثا، ثم اصنعي ما شئت. (1)
__________
(1) الحديث: 5088- محمد بن إبراهيم بن صدران الأزدي السلمي: ثقة، وثقه أبو داود وغيره. وقد ينسب إلى جده، ولذلك ترجمه ابن أبي حاتم 3 / 2 / 190 في اسم"محمد بن صدران". "السلمي": هكذا ثبت هنا، وكذلك في التقريب، وضبطه بفتح السين، وكذلك ثبت في نسخة بهامش التهذيب، وفي التهذيب والخلاصة"السليمي"، ونص صاحب الخلاصة على أنه بإثبات الياء. ولكني لا أطمئن إلى ضبطه.
وشيخه أبو عاصم: هو النبيل، الضحاك بن مخلد.
وأبو عامر -في الإسناد الثاني: هو العقدي، عبد الملك بن عمرو.
محمد بن طلحة بن مصرف -بفتح الصاد وتشديد الراء المكسورة- اليامي: ثقة، أخرج له الشيخان. وبعضهم تكلم فيه بما لا يجرحه.
عبد الله بن شداد بن الهاد: نسب أبوه إلى جده، فهو"شداد بن أسامة بن عمرو"، و"عمرو": هو الهاد. قال ابن سعد: "وإنما سمي الهادي، لأنه كان توقد ناره ليلا للأضياف، ولمن سلك الطريق". وعبد الله بن شداد: من كبار التابعين القدماء الثقات، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى ذكره بعضهم في الصحابة. وله ترجمتان في ابن سعد 5: 43-44، و 6: 86-87، وفي الإصابة 5: 60-61، 145. وأمه"سلمى بنت عميس"، أخت أسماء بنت عميس، فهو يروي هذا الحديث عن خالته.
وأسماء بنت عميس: صحابية جليلة. وهي أخت ميمونة بنت الحارث -أم المؤمنين- لأمها. تزوجت أسماء جعفر بن أبي طالب، فقتل عنها، ثم تزوجت أبا بكر الصديق، ثم علي بن أبي طالب. وولدت لهم جميعا. وهي أم محمد بن أبي بكر الصديق.
والحديث رواه ابن سعد في الطبقات 8: 206، في ترجمة أسماء -رواه عن عفان بن مسلم، وإسحاق بن منصور، كلاهما عن محمد بن طلحة. ووقع فيه "تسلمى" بالميم بدل الباء. وأنا أرجح أنه خطأ من الناسخين لا من الرواة، وسيأتي أن هذا الخطأ وقع لابن حبان، لكن من الرواة.
ورواه أحمد في المسند، بمعناه، 6: 369، 438، عن يزيد بن هارون، عن أبي كامل ويزيد بن هارون وعفان - ثلاثتهم عن محمد بن طلحة.
ورواه الطحاوي في معاني الآثار 2: 44 بخمسة أسانيد إلى محمد بن طلحة.
ورواه البيهقي 7: 438، من طريق مالك بن إسماعيل، عن محمد بن طلحة، بهذا الإسناد. ثم قال: "لم يثبت سماع عبد الله من أسماء، وقد قيل فيه: عن أسماء. فهو مرسل. ومحمد بن طلحة ليس بالقوى"!! وهو تعليل ضئيل متهافت. تعقبه فيه ابن التركماني في الجوهر النقي.
ورواه ابن حزم في المحلى 10: 280، من وجهين آخرين، عن عبد الله بن شداد، مرسلا، ورده بعلة الإرسال. ولكن ثبت وصله عن غير روايته.
وذكره المجد في المنتقى: 3819، 3820، من روايتي المسند. ولم ينسبه إلى غيره.
ولم يرو في واحد من الكتب الستة، على اليقين من ذلك. فهو من الزوائد عليها. ولكني لم أجده في مجمع الزوائد، بعد طول البحث، في أقرب المظان من أبوابه وأبعدها.
وذكره الحافظ في الفتح 9: 429، ووصفه بأنه"قوي الإسناد". وقال: "أخرجه أحمد، وصححه ابن حبان". ونسبه أيضًا للطحاوي. ثم قال: "قال شيخنا في شرح الترمذي: ظاهره أنه لا يجب الإحداد على المتوفى عنها بعد اليوم الثالث، لأن أسماء بنت عميس كانت زوج جعفر بن أبي طالب بالاتفاق، وهي والدة أولاده: عبد الله، ومحمد، وعون، وغيرهم. قال: بل ظاهر النهي أن الإحداد لا يجوز". وأجاب بأن هذا الحديث شاذ مخالف للأحاديث الصحيحة، وقد أجمعوا على خلافه، ثم ذهب يجمع بينه وبين الأحاديث التي يعارضها، بآراء بعضها قد يقبل، وبعضها فيه تكلف غير مستساغ. وأجود ما قال العلماء في ذلك -عندنا- ما ذهب إليه الطبري هنا في الفقرة الثالثة بعد الحديث: 5090. وقريب منه ما قال المجد بن تيمية في المنتقى: "وهو متأول على المبالغة في الإحداد والجلوس للتعزية".
وقال الحافظ، في آخر كلامه، في شأن رواية ابن حبان: "وأغرب ابن حبان، فساق الحديث بلفظ: تسملي، بالميم بدل الموحدة! وفسره بأنه أمرها بالتسليم لأمر الله!! ولا مفهوم لتقييدها بالثلاث، بل الحكمة فيه كون القلق يكون في ابتداء الأمر أشد، فلذلك قيدها بالثلاث! هذا معنى كلامه، فصحف الكلمة وتكلف لتأويلها! وقد وقع في رواية البيهقي وغيره: فأمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتسلب ثلاثا. فتبين خطؤه".
تسلبت المرأة: لبست السلاب (بكسر السين) : وهي ثياب الحداد السود، تلبسها في المأتم.(5/87)
5089- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم وابن الصلت، عن محمد بن طلحة، عن الحكم بن عتيبة، عن عبد الله بن شداد، عن أسماء عن النبي صلي الله عليه وسلم بمثله.
* * *
قالوا: فقد بين هذا الخبر عن النبي صلي الله عليه وسلم: أن لا إحداد على المتوفى عنها زوحها، وأن القول في تأويل قوله:"يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، إنما هو يتربصن بأنفسهن عن الأزواج دون غيره.
* * *
قال أبو جعفر: وأما الذين أوجبوا الإحداد على المتوفى عنها زوجها، وترك النقلة عن منزلها الذي كانت تسكنه يوم توفي عنها زوجها، فإنهم اعتلوا بظاهر(5/88)
التنزيل، وقالوا: أمر الله المتوفى عنها أن تربص بنفسها أربعة أشهر وعشرا، فلم يأمرها بالتربص بشيء مسمى في التنزيل بعينه، بل عم بذلك معاني التربص. قالوا: فالواجب عليها أن تربص بنفسها عن كل شيء، إلا ما أطلقته لها حجة يجب التسليم لها. قالوا: فالتربص عن الطيب والزينة والنقلة، مما هو داخل في عموم الآية، كما التربص عن الأزواج داخل فيها. قالوا: وقد صح عن رسول الله صلي الله عليه وسلم الخبر بالذي قلنا في الزينة والطيب، أما في النقلة فإن: -
5090- أبا كريب حدثنا قال، حدثنا يونس بن محمد، عن فليح بن سليمان، عن سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة، عن عمته، عن الفريعة ابنة مالك، أخت أبي سعيد الخدري، قالت: قتل زوجي وأنا في دار، فاستأذنت رسول الله صلي الله عليه وسلم في النقلة، فأذن لي. ثم ناداني بعد أن توليت، فرجعت إليه، فقال: يا فريعة، حتى يبلغ الكتاب أجله. (1)
* * *
__________
(1) الحديث 5090- يونس بن محمد بن مسلم، الحافظ البغدادي المؤدب: ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
فليح -بالتصغير- بن سليمان بن أبي المغيرة المدني: ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. تكلم فيه ابن معين وغيره. والراجح توثيقه. وقال الحاكم: "اتفاق الشيخين عليه يقوي أمره". و"فليح" لقب غلب عليه، واسمه"عبد الملك".
سعد بن إسحاق بن كعب بن عجرة: ثقة لا يختلف فيه، كما قال ابن عبد البر. وهو تابعي روى عن أنس بن مالك.
وتكلم فيه ابن حزم في المحلى بما لا يضره، زعم أنه"غير مشهور الحال"، ومرة أنه"مضطرب في اسمه، غير مشهور الحال"، ومرة أنه"غير مشهور العدالة"! انظر المحلى 3: 273، و 4: 138، و 10: 302.
وفي المطبوعة هنا"سعيد" بدل"سعد". وهو خطأ قديم، وقع في الموطأ، ص: 591. وليس اختلاف رواية، ولا خطأ من مالك. إنما هو من يحيى بن يحيى راوي الموطأ، ومن رواة آخرين تبعوه. قال ابن عبد البر في التقصي، رقم: 123 هكذا قال يحيى: سعيد بن إسحاق، وتابعه بعضهم. وأكثر الرواة يقولون فيه: سعد بن إسحاق. وهو الأشهر، وكذا قال شعبة وغيره".
وعلى الصواب"سعد"- رواه الشافعي في الرسالة والأم عن مالك. وكذلك رواه عنه سويد بن سعد، في روايته الموطأ. وكذلك رواه عنه محمد بن الحسن في الموطأ.
عمة سعد بن إسحاق: هي"زينب بنت كعب بن عجرة الأنصارية"، وهي تابعية ثقة. بل ذكرها بعضهم في الصحابة. انظر الإصابة 8: 97-98، وابن سعد 8: 352.
ووقع هنا في المطبوعة"عن عمته الفريعة"، بحذف"عن" بعد كلمة"عمته". وهو خطأ ناسخ أو طابع. فإن زينب عمة سعد هي زوجة أبي سعيد الخدري، وأما الفريعة فإنها أخت أبي سعيد، كما في نص الحديث.
و"الفريعة بنت مالك بن سنان": صحابية قديمة معروفة، شهدت بيعة الرضوان. رضي الله عنها. وهذا الحديث هنا مختصر. وقد جاء بأسانيد صحاح، من رواية سعد بن إسحاق، عن عمته، عن الفريعة -مختصرا ومطولا. ويكفي أن نذكر مواضع روايته، فيما وصل إلينا:
فرواه مالك في الموطأ، مطولا، ص: 591، عن"سعد بن إسحاق". وذكر فيه خطأ باسم"سعيد"، كما بينا من قبل.
ورواه الشافعي في الرسالة: 1214 (بتحقيقنا) ، وفي الأم 5: 208-209، ومحمد بن الحسن في موطئه، ص: 268، وسويد بن سعيد في موطئه، ص: 123-124 (مخطوط مصور) - كلهم عن مالك، عن سعد بن إسحاق.
ورواه الدارمي 2: 168، وابن سعد 8: 268، وأبو داود: 2300، والترمذي 2: 224-225، والبيهقي 7: 434، وابن حبان في صحيحه 6: 447-448 (من مخطوطة الإحسان) ، وابن حزم في المحلى 10: 301- كلهم من طريق مالك، به.
ورواه الطيالسي: 1664، وعبد الرزاق في المصنف 4: 60-61 (مخطوط مصور) ، وأحمد في المسند 6: 370، 420-421 (حلبي) ، وابن سعد 8: 267-268، والترمذي 2: 225، والنسائي 2: 113، وابن ماجه: 2031، وابن الجارود، ص: 349-350، وابن حبان 6: 449، والحاكم 2: 208، والبيهقي 7: 434-435، بأسانيد كثيرة، مطولا ومختصرا، من طريق سعد بن إسحاق، عن عمته، عن الفريعة. وصححه الترمذي، ومحمد بن يحيى الذهلي، فيما حكاه عنه الحاكم، والذهبي. وذكره السيوطي 1: 289-290 نسبه إلى كثير ممن أشرنا إليهم.(5/89)
قالوا: فبين رسول الله صلي الله عليه وسلم صحة ما قلنا في معنى تربص المتوفى عنها زوجها، [وبطل] ما خالفه. (1) قالوا: وأما ما روي عن ابن عباس: فإنه لا معنى له، بخروجه عن ظاهر التنزيل والثابت من الخبر عن الرسول صلي الله عليه وسلم.
قالوا: وأما الخبر الذي روي عن أسماء ابنة عميس، عن رسول الله صلي الله عليه وسلم من أمره إياها بالتسلب ثلاثا، ثم أن تصنع ما بدا لها - فإنه غير دال
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها لسياق الكلام. والمطبوعة والمخطوطة سواء في نصهما هنا.(5/90)
على أن لا حداد على المرأة، (1) بل إنما دل على أمر النبي صلي الله عليه وسلم إياها بالتسلب ثلاثا، ثم العمل بما بدا لها من لبس ما شاءت من الثياب مما يجوز للمعتدة لبسه، مما لم يكن زينة ولا مطيبا، (2) لأنه قد يكون من الثياب ما ليس بزينة ولا ثياب تسلب، وذلك كالذي أذن صلي الله عليه وسلم للمتوفى عنها أن تلبس من ثياب العصب وبرود اليمن، فإن ذلك لا من ثياب زينة ولا من ثياب تسلب. وكذلك كل ثوب لم يدخل عليه صبغ بعد نسجه مما يصبغه الناس لتزيينه، فإن لها لبسه، لأنها تلبسه غير متزينة الزينة التي يعرفها الناس.
* * *
قال أبوجعفر: فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، ولم يقل: وعشرة؟ وإذ كان التنزيل كذلك: أفبالليالي تعتد المتوفى عنها العشر، أم بالأيام؟
قيل: بل تعتد بالأيام بلياليها.
فإن قال: فإذ كان ذلك كذلك، فكيف قيل:"وعشرا"؟ ولم يقل: وعشرة؟ والعشر بغير"الهاء" من عدد الليالي دون الأيام؟ فإن أجاز ذلك المعنى فيه ما قلت، (3) فهل تجيز:"عندي عشر"، وأنت تريد عشرة من رجال ونساء؟
قلت: ذلك جائز في عدد الليالي والأيام، وغير جائز مثله في عدد بني آدم من الرجال النساء. وذلك أن العرب في الأيام والليالي خاصة، إذا أبهمت العدد، غلبت فيه الليالي، حتى إنهم فيما روي لنا عنهم ليقولون:"صمنا عشرا من شهر رمضان"، لتغليبهم الليالي على الأيام. وذلك أن العدد عندهم قد جرى في ذلك بالليالي دون الأيام. فإذا أظهروا مع العدد مفسره، (4)
أسقطوا من عدد المؤنث"الهاء"،
__________
(1) في المطبوعة: "أن لا إحداد"، وهما سواء. "حدت المرأة تحد حدا وحدادا" و"أحدت تحد إحدادا". لبست الحداد (بكسر الحاء) ، وهو ثياب المأتم السود. "الحداد" اسم ومصدر.
(2) في المطبوعة: "ولا تطيبا". والصواب ما أثبته من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فإن أجاز ذلك المغني"، والصواب ما أثبت من المخطوطة.
(4) المفسر: هو المميز. والتفسير: التمييز، انظر ما سلف 2: 338 تعليق: 1 / م 3: 90 تعليق: 1(5/91)
وأثبتوها في عدد المذكر، كما قال تعالى ذكره: (سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) [سورة الحاقة: 7] ، فأسقط"الهاء" من"سبع" وأثبتها في"الثمانية".
وأما بنو آدم، فإن من شأن العرب إذا اجتمعت الرجال والنساء، ثم أبهمت عددها: أن تخرجه على عدد الذكران دون الإناث. وذلك أن الذكران من بني آدم موسوم واحدهم وجمعه بغير سمة إناثهم، وليس كذلك سائر الأشياء غيرهم. وذلك أن الذكور من غيرهم ربما وسم بسمة الأنثى، كما قيل للذكر والأنثى"شاة"، وقيل للذكور والإناث من البقر:"بقر"، وليس كذلك في بني آدم. (1)
* * *
فإن قال: فما معنى زيادة هذه العشرة الأيام على الأشهر؟
قيل: قد قيل في ذلك، فيما: -
5091- حدثنا به ابن وكيع قال، حدثنا أبي قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا"، قال: قلت: لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة؟ قال: لأنه ينفخ فيه الروح في العشر.
5092- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني أبو عاصم، عن سعيد، عن قتادة قال: سألت سعيد بن المسيب: ما بال العشر؟ قال: فيه ينفخ الروح.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 151-152، فهذا من كلامه بغير لفظه.(5/92)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: (1) فإذا بلغن الأجل الذي أبيح لهن فيه ما كان حظر عليهن في عددهن من وفاة أزواجهن- وذلك بعد انقضاء عدهن، ومضي الأشهر الأربعة والأيام العشرة="فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، يقول: فلا حرج عليكم أيها الأولياء -أولياء المرأة- فيما فعل المتوفى عنهن حينئذ في أنفسهن، من تطيب وتزين ونقله من المسكن الذي كن يعتددن فيه، ونكاح من يجوز لهن نكاحه="بالمعروف"، يعني بذلك: على ما أذن الله لهن فيه وأباحه لهن. (2) .
* * *
وقد قيل: إنما عنى بذلك النكاح خاصة. وقيل إن معنى قوله:"بالمعروف" إنما هو النكاح الحلال.
* ذكر من قال ذلك:
5093- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: الحلال الطيب.
5094- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد:"فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: المعروف النكاح الحلال الطيب.
5095- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، قال ابن
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "يعني تعالى ذكره بقوله"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) انظر ما سلف في تفسير"المعروف" 5: 76 والمراجع هناك في التعليق.(5/93)
جريج، قال مجاهد: قوله:"فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: هو النكاح الحلال الطيب.
5096- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: هو النكاح.
5097- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب:"فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف"، قال: في نكاح من هويته، إذا كان معروفا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"والله بما تعملون"، أيها الأولياء، في أمر من أنتم وليه من نسائكم، من عضلهن وإنكاحهن ممن أردن نكاحه بالمعروف، ولغير ذلك من أموركم وأمورهم، ="خبير"، يعني ذو خبرة وعلم، لا يخفى عليه منه شيء. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة"هويته" بالجمع والنون، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف في معنى"خيبر" في فهارس اللغة، ومباحث العربية. * * *
وقد انتهى هنا التقسيم القديم للنسخة التي نقلت عنها مخطوطتنا، وفيها ما نصه:
"وصلى الله على محمد النبي وعلى آله وسلم كثيرا
على الأصل بلغت القراءة والسماع من أوله بقراءة محمد بن أحمد بن عيسى السعدي، لأخيه علي وأحمد بن عمر الجهاري (؟ ؟) ونصر بن الحسين الطبري، على القاضي أبي الحسن الخصيبي، عن أبي محمد الفرغاني، عن أبي جعفر الطبري، وقابل به بكتاب القاضي الخصيبي، فصحت، وذلك في شعبان سنة ثمان وأربعمائة".(5/94)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
(1)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا جناح عليكم، أيها الرجال، فيما عرضتم به من خطبة النساء، للنساء المعتدات من وفاة أزواجهن في عددهن، ولم تصرحوا بعقد نكاح.
والتعريض الذي أبيح في ذلك، هو ما: -
5098- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: التعريض أن يقول:"إني أريد التزويج"، و"إني لأحب امرأة من أمرها وأمرها"، يعرض لها بالقول بالمعروف.
5099- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس:"لا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال:"إني أريد أن أتزوج".
5100- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد: عن ابن عباس قال: التعريض ما لم ينصب للخطبة، (2)
__________
(1) هذا نص أول التقسيم القديم:
"بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر".
(2) نصب الشيء ينصب نصبا: إذا قصده وتجرد له.(5/95)
= قال مجاهد: قال رجل لامرأة في جنازة زوجها: لا تسبقيني بنفسك! قالت: قد سبقت!
5101- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: في هذه الآية:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: التعريض، ما لم ينصب للخطبة.
5102- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس:"فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: التعريض أن يقول للمرأة في عدتها:"إني لا أريد أن أتزوج غيرك إن شاء الله"، و"لوددت أني وجدت امرأة صالحة"، ولا ينصب لها ما دامت في عدتها.
5103- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، يقول: يعرض لها في عدتها، يقول لها:"إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك، ولوددت أن الله قد هيأ بيني وبينك"، ونحو هذا من الكلام، فلا حرج.
5104- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم العسقلاني قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: هو أن يقول لها في عدتها:"إني أريد التزويج، ووددت أن الله رزقني امرأة"، ونحو هذا، ولا ينصب للخطبة.
5105- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ابن عون، عن محمد، عن عبيدة في هذه الآية، قال: يذكرها إلى وليها، يقول:"لا تسبقني بها".
5106- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد(5/96)
في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: يقول:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير".
5107- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد أنه كره أن يقول:"لا تسبقيني بنفسك".
5108- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قل: هو قول الرجل للمرأة:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير".
5109- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: يعرض للمرأة في عدتها فيقول: والله إنك لجميلة، وإن النساء لمن حاجتي، وإنك إلى خير إن شاء الله".
5110- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير قال: هو قول الرجل:"إني أريد أن أتزوج، وإني إن تزوجت أحسنت إلى امرأتي"، هذا التعريض.
5111- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا شعبة، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: يقول:"لأعطينك، لأحسنن إليك، لأفعلن بك كذا وكذا. (1)
5012- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، سمعت يحيى بن سعيد قال، أخبرني عبد الرحمن بن القاسم في قوله:"فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: قول الرجل للمرأة في عدتها يعرض بالخطبة:"والله إني فيك
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة"لأحسن إليك"، والصواب ما أثبت.(5/97)
لراغب، وإني عليك لحريص"، ونحو هذا.
5113- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم بن محمد يقول:"فيما عرضتم به من خطبة النساء"، هو قول الرجل للمرأة:"إنك لجميلة، وإنك لنافقة، وإنك إلى خير".
5114- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: كيف يقول الخاطب؟ قال: يعرض تعريضا، ولا يبوح بشيء. يقول:"إن إلي حاجة، وأبشري، وأنت بحمد الله نافقة"، ولا يبوح بشيء. قال عطاء: وتقول هي:"قد أسمع ما تقول"، ولا تعده شيئا، ولا تقول:"لعل ذاك".
5115- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن يحيى بن سعيد قال: حدثني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم يقول في المرأة يتوفى عنها زوجها، والرجل يريد خطبتها ويريد كلامها، ما الذي يجمل به من القول؟ قال يقول:"إني فيك لراغب، وإني عليك لحريص، وإني بك لمعجب"، وأشباه هذا من القول.
5116- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، عن إبراهيم في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: لا بأس بالهدية في تعريض النكاح.
5117- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا مغيرة قال: كان إبراهيم لا يرى بأسا أن يهدى لها في العدة، إذا كانت من شأنه. (1)
5118- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر،
__________
(1) قوله: "من شأنه"، أي من حاجته وإرادته وقصده. يقال: شأن شأنه، أي قصد قصده.(5/98)
عن عامر في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال يقول:"إنك لنافقة، وإنك لمعجبة، وإنك لجميلة" (1) وإن قضى الله شيئا كان".
5119- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: كان إبراهيم النخعي يقول:"إنك لمعجبة، وإني فيك لراغب".
5120- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، وأخبرني - يعني شبيبا- عن سعيد، عن شعبة، عن منصور، عن الشعبي أنه قال في هذه الآية:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: لا تأخذ ميثاقها ألا تنكح غيرك. (2)
5121- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: كان أبي يقول: كل شيء كان، دون أن يعزما عقدة النكاح، فهو كما قال الله تعالى ذكره:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء".
5122- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال حدثنا زيد =جميعا، عن سفيان قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، والتعريض فيما سمعنا أن يقول الرجل وهي في عدتها:"إنك لجميلة، إنك إلى خير، إنك لنافقة، إنك لتعجبيني"، ونحو هذا، فهذا التعريض.
5123- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عبد الرحمن بن سليمان، عن خالته سكينة ابنة حنظلة بن عبد الله بن حنظلة قالت: دخل علي أبو جعفر محمد بن علي وأنا في عدتي، فقال: يا ابنة حنظلة،
__________
(1) في المخطوطة: "وإنك لمعجبة، لجميلة"، وهما سواء.
(2) في المطبوعة: "لا يأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيره"، وأثبت ما في المخطوطة.(5/99)
أنا من علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحق جدي علي، وقدمي في الإسلام. فقلت: غفر الله لك يا أبا جعفر، أتخطبني في عدتي، وأنت يؤخذ عنك! فقال: أو قد فعلت! إنما أخبرك بقرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضعي! قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة، وكانت عتد ابن عمها أبي سلمة، فتوفي عنها، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده، حتى أثر الحصير في يده من شده تحامله على يده، فما كانت تلك خطبة. (1)
5124- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: لا جناح على من عرض لهن بالخطبة قبل أن يحللن، إذا كنوا في أنفسهن من ذلك. (2)
5125- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: أخبرني مالك، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أييه أنه كان يقول في قول الله تعالى ذكره:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء": أن يقول الرجل للمرأة وهي في عدة من وفاه زوجها:"إنك علي لكريمة، وإني فيك لراغب، وإن الله سائق إليك خيرا ورزقا"، ونحو هذا من الكلام.
* * *
__________
(1) الأثر: 5123- عبد الرحمن بن سليمان بن عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة بن أبي عامر الراهب" يعرف بابن الغسيل، وهو جد أبيه، حنظلة الذي غسلته الملائكة يوم أحد. وقال ابن معين: "ليس به بأس"، كان يخطئ ويهم، قال أحمد: صالح. مات سنة 171. مترجم في التهذيب. و"أبو جعفر محمد بن علي" هو محمد الباقر بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وابنه جعفر الصادق، وكان من فقهاء المدينة، وسيد بني هاشم في زمانه، جمع العلم والفقه والشرف والديانة والثقة والسؤدد وكان يصلح للخلافة، وهو أحد الاثنى عشر الذين تعتقد الرافضة عصمتهم - ولا عصمة إلا لنبي! توفى سنة 114. مترجم في التهذيب، وتاريخ الإسلام للذهبي 4: 299. ولم أجد هذا الخبر إلا في البغوي بهامش تفسير ابن كثير 1: 567.
(2) كن الشيء في صدره وأكنه واكتنه: أخفاه وستره.(5/100)
قال أبو جعفر: واختلف أهل العربية في معنى"الخطبة".
فقال بعضهم:"الخطبة" الذكر، و"الخطبة": التشهد. (1)
وكأن قائل هذا القول، تأول الكلام: ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من ذكر النساء عندهن. (2) وقد زعم صاحب هذا القول أنه قال:"لا تواعدوهن سرا"، لأنه لما قال:"ولا جناح عليكم"، كأنه قال: اذكروهن، ولكن لا تواعدوهن سرا.
* * *
وقال آخرون منهم:"خطبه، خطبة وخطبا". (3) قال: وقول الله تعالى ذكره: (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ) [سورة طه: 95] ، يقال إنه من هذا. قال: وأما"الخطبة" فهو المخطوب [به] ، من قولهم: (4) "خطب على المنبر واختطب".
* * *
قال أبو جعفر:"والخطبة" عندي هي"الفعلة"من قول القائل:"خطبت فلانة" ك"الجلسة"، من قوله:"جلس" أو"القعدة" من قوله"قعد". (5)
__________
(1) هذا قول الأخفش، وانظر تفسير البغوي 1: 567.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "عندهم" وهو لا يستقيم، والصواب ما أثبت، وانظر أيضًا تفسير البغوي 1: 567.
(3) في المطبوعة: "وقال آخرون منهم: الخطبة أخطب خطبه وخطبا"، وهو كلام فاسد التركيب، فيه زيادة من ناسخ. وفي المخطوطة: "وقال آخرون منهم: "الخطبة وخطبه وخطبا"، وهو فاسد أيضًا، والصواب ما أثبت. فإن يكن في كلام الطبري نقص أو خرم، فهو تفسير هذه الكلمة، وقد أبان عنها صاحب أساس البلاغة فقال: "فلان يخطب عمل كذا: يطلبه. وقد أخطبك الصيد فارمه - أي أكثبك وأمكنك. وأخطبك الأمر، وهو أمر مخطب: ومعناه: أطلبك- من"طلبت إليه حاجة فأطلبني". وما خطبك: ما شأنك الذي تخطبه. ومنه: هذا خطب يسير، وخطب جليل. وهو يقاسي خطوب الدهر". فقد أبان ما نقلته عن الزمخشري أنه أراد أن يقول: خطب الأمر يخطبه خطبة وخطبا، أي طلبه. ولم يستوف أبو جعفر تفسير هذه الكلمة في"سورة طه" الآية: 95، فأثبت تفسيره هنالك.
(4) هذه الزيادة بين القوسين لا بد منها، يعني: الكلام المخطوب به.
(5) يعني أنه مصدر، وانظر ما سلف في وزن"فعلة" في فهارس مباحث العربية في الأجزاء السالفة، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 152، وتفسير أبي حيان 2: 221.(5/101)
ومعنى قولهم:"خطب فلان فلانة"، سألها خطبه إليها في نفسها، وذلك حاجته، من قولهم:"ما خطبك"؟ بمعنى: ما حاجتك، وما أمرك؟
* * *
وأما"التعريض"، فهو ما كان من لحن الكلام الذي يفهم به السامع الفهم ما يفهم بصريحه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، أو أخفيتم في أنفسكم، فأسررتموه، من خطبتهن، وعزم نكاحهن وهن في عددهن، فلا جناح عليكم أيضا في ذلك، إذا لم تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله.
* * *
يقال منه:"أكن فلان هذا الأمر في نفسه، فهو يكنه إكنانا"، و"كنه"، إذا ستره،"يكنه كنا وكنونا"، و"جلس في الكن" ولم يسمع"كننته في نفسي"، (2) وإنما يقال:"كننته في البيت أو في الأرض"، إذا خبأته فيه، ومنه قوله تعالى ذكره: (كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ) [سورة الصافات: 49] ، أي مخبوء، ومنه قول الشاعر: (3)
ثلاث من ثلاث قداميات ... من اللائي تكن من الصقيع (4)
__________
(1) لحن الكلام: هو الإيماء في الكلام دون التصريح، وعبارة الطبري في تفسير هذه الكلمة، عبارة جيدة. ليس لها شبيه في كتب اللغة في شرح هذا الحرف.
(2) ذكر أصحاب اللغة أن ذلك قيل، واستشهدوا بقول أبي قطيفة: قد يكتم الناس أسرارا فأعلمها ... وما ينالون حتى الموت مكنوني
(3) لم أستطع أن أعرف قائله.
(4) معاني الفراء 1: 152، واللسان (كنن) . قداميات جمع قدامى، والقدامى واحد. وجمع، وهو هنا واحد. والقدامى والقوادم في الطير: عشر ريشات في كل جناح. وقوله: "ثلاث من ثلاث قداميات"، كأنه يريد أنه اختار من قوادم ثلاث من الطير، ثلاث ريشات من ريشه، وكأنه يريد ذلك لأسهمه، يريش الأسهم بها. والصقيع: الذي يسقط بالليل، شبيه بالثلج.(5/102)
و"تكن" بالتاء، وهو أجود، و"يكن". (1) ويقال:"أكنته ثيابه من البرد""وأكنه البيت من الريح".
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
5126- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أو أكنتم في أنفسكم"، قال: الإكنان: ذكر خطبتها في نفسه، لا يبديه لها. هذا كله حل معروف.
5127- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد مثله.
5128- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: أن يدخل فيسلم ويهدي إن شاء، ولا يتكلم بشيء.
5129- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم: أنه سمع القاسم بن محمد يقول، فذكر نحوه.
5130- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: جعلت في نفسك نكاحها وأضمرت ذلك.
__________
(1) في المطبوعة: "بالتاء هو أجود"، وزيادة الواو من المخطوطة. هذه الجملة غير بينة المعنى عندي، وكأن صوابها"وتكن بالتاء المضمومة، وهو أجود وتكن". ويعني أن الأول من"أكن يكن"، وأن الأخرى من"كن يكن". كما هو ظاهر من استدلاله هذا. وقد عقب الفراء على هذا البيت بقوله: "وبعضهم يرويه"تكن" من"أكننت". فهذا يرجح ما ذهبت إليه.(5/103)
5131- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"أوأكننتم في أنفسكم"، أن يسر في نفسه أن يتزوجها.
5132- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا هوذة قال، حدثنا عوف، عن الحسن في قوله:"أو أكننتم في أنفسكم"، قال: أسررتم.
* * *
قال أبو جعفر: وفي إباحة الله تعالى ذكره ما أباح من التعريض بنكاح المعتدة لها في حال عدتها وحظره التصريح، (1) ما أبان عن افتراق حكم التعريض في كل معاني الكلام وحكم التصريح، منه. وإذا كان ذلك كذلك، تبين أن التعريض بالقذف غير التصريح به، وأن الحد بالتعريض بالقذف لو كان واجبا وجوبه بالتصريح به، لوجب من الجناح بالتعريض بالخطبة في العدة، نظير الذي يجب بعزم عقدة النكاح فيها. وفي تفريق الله تعالى ذكره بين حكميها في ذلك، الدلالة الواضحة على افتراق أحكام ذلك في القذف.
* * *
القول في تأويل قوله: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: علم الله أنكم ستذكرون المعتدات في عددهن بالخطبة في أنفسكم وبألسنتكم، كما: -
5133- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن:"علم الله أنكم ستذكرونهن"، قال: الخطبة.
__________
(1) قوله: "لها" متعلق بقوله: "التعريض"، أي: التعريض لها، وسياق هذه الجملة والتي تليها: "وفي إباحة الله تعالى ذكره. . . ما أبان عن افتراق حكم التعريض". وقوله: "منه" في الجملة التالية، أي: افتراق حكم التعريض من حكم التصريح.(5/104)
5134- حدثني أبو السائب سلم بن جنادة قال، حدثنا ابن إدريس، عن ليث، عن مجاهد في قوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، قال: ذكرك إياها في نفسك. قال: فهو قول الله:"علم الله أنكم ستذكرونهن".
5135- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في قوله:"علم الله أنكم ستذكرونهن"، قال: هي الخطبة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكِنْ لا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"السر" الذي نهى الله تعالى عباده عن مواعدة المعتدات به.
فقال بعضهم: هو الزنا.
* ذكر من قال ذلك:
5136- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا همام، عن صالح الدهان، عن جابر بن زيد:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: الزنا. (1)
5137- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، عن أبيه، عن أبي مجلز قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا.
5138- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا سليمان التيمي، عن أبي مجلز مثله.
5139- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان،
__________
(1) الأثر: 5136-"صالح الدهان"، هو صالح بن إبراهيم الدهان الجهني، أبو نوح. وهو ثقة. ترجم في الجرح والتعديل 2 / 1 / 393، وانظر التهذيب 4: 388. وجابر بن زيد الأزدي أبو الشعثاء. مترجم في التهذيب، وروي عن ابن عباس وابن عمر وابن الزبير. مات سنة 93.(5/105)
عن سليمان التيمي، عن أبي مجلز مثله.
5140- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن أبي مجلز:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا= قيل لسفيان التيمي: ذكره؟ قال: نعم.
5141- حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر، عن أبيه، عن رجل، عن الحسن في المواعدة مثل قولة أبي مجلز.
5142- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال: الزنا.
5143- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى قال، حدثنا أشعث وعمران، عن الحسن مثله.
5144- حدثنا ابن بشار قال حدثنا، عبد الرحمن ويحيى قالا حدثنا سفيان، عن السدي قال: سمعت إبراهيم يقول:"لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا.
5145- حدثنا أحمد بن حازم قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن السدي، عن إبراهيم مثله.
5146- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا.
5147- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الزنا.
5148- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن قتادة، عن الحسن في قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" قال: الفاحشة.
5149- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك= وحدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد بن هارون قال، أخبرنا جويبر عن الضحاك:"لا تواعدوهن سرا"، قال: السر: الزنا.(5/106)
5150- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لا تواعدوهن سرا"، قال: فذلك السر: الريبة. (1) كان الرجل يدخل من أجل الريبة وهو يعرض بالنكاح، فنهى الله عن ذلك إلا من قال معروفا.
5151- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا منصور، عن الحسن وجويبر، عن الضحاك وسليمان التيمي، عن أبي مجلز أنهم قالوا: الزنا.
5152- حدثنا عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، للفحش والخضع من القول. (2)
5153- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن الحسن:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: هو الفاحشة.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك لا تأخذوا ميثاقهن وعهودهن في عددهن أن لا ينكحن غيركم.
* ذكر من قال ذلك:
5154- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"لا تواعدوهن سرا"، يقول: لا تقل لها:"إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري"، ونحو هذا.
5155- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير في قوله:"لا تواعدوهن سرا"، قال:
__________
(1) في المطبوعة: "الزنية" في هذا الموضع والذي يليه، والصواب من المخطوطة. والريبة (بكسر الراء) : الشك والظنة والتهمة، وهو كناية عن كل أمر قبيح يرتاب فيه وفي صاحبه.
(2) الخضع (بفتح فسكون) مصدر خضع الرجل: ألان الكلام للمرأة: وقد ضبط في المخطوطة بضم الخاء، ولم أجده. و"خضع" من باب"نفع"، نص على ذلك صاحب معيار اللغة. وفي حديث عمر أن رجلا في زمانه مر برجل وامرأة قد خضعا بينهما حديثا فضربه حتى شجه، فرفع إلى عمر فأهدره" أي: لينا بينهما الحديث، وتكلما بما يطمع كلا منهما في الآخر. وسيأتي"خضع القول" أيضًا في تفسيره 22: 3 (بولاق) ، وسيأتي أيضًا في الأثر رقم: 5162.(5/107)
لا يقاضها على كذا وكذا أن لا تتزوج غيره. (1)
5156- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن إسرائيل، عن جابر، عن عامر. ومجاهد وعكرمة قالوا: لا يأخذ ميثاقها في عدتها، أن لا تتزوج غيره.
5157- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور قال: ذكر في عن الشعبي أنه قال في هذه الآية:"لا تواعدوهن سرا"، قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك.
5158- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن الشعبي:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: لا يأخذ ميثاقها في أن لا تتزوج غيره.
5159- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي قال: سمعته يقول في قوله:"لا تواعدوهن سرا"، قال: لا تأخذ ميثاقها أن لا تنكح غيرك، ولا يوجب العقدة حتى تنقضي العدة. (2)
5160- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن الشعبي:"لا تواعدوهن سرا"، قال: لا يأخذ عليها ميثاقا أن لا تتزوج غيره.
5161- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولكن لا تواعدهن سرا"، يقول:"أمسكي علي نفسك، فأنا أتزوج"= ويأخذ عليها عهدا="لا تنكحي غيري". (3)
__________
(1) في المطبوعة: "لا يقاصها"، وهو كذلك في المخطوطة غير منقوط، وصواب قراءته ما أثبت. قاضاه على الأمر: فصل فيه وأبرمه وحتمه وفرغ منه. وفي كتاب صلح الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد. . . " وهو شبيه بالمعاهدة.
(2) في المطبوعة: "ويأخذ عليها عهدا أن لا تنكحي". . . "بزيادة"أن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب الجيد.
(3) في المطبوعة: "ويأخذ عليها عهدا أن لا تنكحي". . . . "بزيادة"أن"، وأثبت ما في المخطوطة، فهو الصواب الجيد.(5/108)
5162- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: هذا في الرجل يأخذ عهد المرأة وهي في عدتها أن لا تتزوج غيره، فنهى الله عن ذلك وقدم فيه، وأحل الخطبة والقول بالمعروف، ونهى عن الفاحشة والخضع من القول. (1)
5163- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: إن تواعدها سرا على كذا وكذا،"على أن لا تنكحي غيري".
5164- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لا تواعدوهن سرا"، قال: موعدة السر أن يأخذ عليها عهدا وميثاقا أن تحبس نفسها عليه، ولا تنكح غيره.
5165- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أن يقول لها الرجل:"لا تسبقيني بنفسك".
* ذكر من قال ذلك:
5166 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: قول الرجل للمرأة:"لا تفوتيني بنفسك، فإني ناكحك"، هذا لا يحل.
5167- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد قال: هو قول الرجل للمرأة:"لا تفوتيني".
5168- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن ليث، عن مجاهد:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، قال: المواعدة أن يقول:"لا تفوتيني بنفسك".
__________
(1) انظر التعليق على الأثر السالف: 5152.(5/109)
5169- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، أن يقول:"لا تفوتيني بنفسك".
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: ولا تنكحوهن في عدتهن سرا.
* ذكر من قال ذلك:
5170- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" يقول: لا تنكحوهن سرا، ثم تمسكها، حتى إذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها.
5171- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكن تواعدوهن سرا"، قال: كان أبي يقول: لا تواعدوهن سرا، ثم تمسكها، وقد ملكت عقدة نكاحها، فإذا حلت أظهرت ذلك وأدخلتها.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بالصواب في تأويل ذلك، تأويل من قال:"السر"، في هذا الموضع، الزنا. وذلك أن العرب تسمي الجماع وغشيان الرجل المرأة"سرا"، لأن ذلك مما يكون بين الرجال والنساء في خفاء غير ظاهر مطلع عليه، فيسمى لخفائه"سرا"، من ذلك قوله رؤبة بن العجاج:
فعف عن أسرارها بعد العسق ... ولم يضعها بين فرك وعشق (1)
يعني بذلك: عف عن غشيانها بعد طول ملازمته ذلك، ومنه قول الحطيئة:
__________
(1) ديوانه: 104، واللسان (عسق) (عشق) (فرك) (سرر) ، وفي اللسان في بعض مواده"إسرارها" بالكسر، وهو خطأ، وفي بعضها"الغسق"، وهو خطأ أيضًا. والأسرار جمع سر. والعسق، مصدر"عسق به يعسق": لزمه وأولع به. والفرك (بكسر الفاء وسكون الراء) بغضة الرجل امرأته، أو بغضة امرأته له. وامرأة فارك وفروك، تكره زوجها. ورجل مفرك (بتشديد الراء) . لا يحظى عند النساء. والعشق (بكسر فسكون) والعشق (بفتحتين) مصدر"عشق يعشق". والضمير في قوله: "فعف"، عائد إلى حمار الوحش الذي يصفه ويصف أتنه. والضمير في"أسرارها" عائد إلى الأتن.(5/110)
ويحرم سر جارتهم عليهم ... ويأكل جارهم أنف القصاع (1)
وكذلك يقال لكل ما أخفاه المرء في نفسه:"سرا". ويقال:"هو في سر قومه"، يعني: في خيارهم وشرفهم.
فلما كان"السر" إنما يوجه في كلامها إلى أحد هذه الأوجه الثلاثة، وكان معلوما أن أحدهن غير معني به قوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا"، وهو السر الذي هو معنى الخيار والشرف= فلم يبق إلا الوجهان الآخران، وهو"السر" الذي بمعنى ما أخفته نفس المواعد بين المتواعدين، (2) "والسر" الذي بمعنى الغشيان والجماع.
فلما لم يبق غيرهما، وكانت الدلالة واضحة على أن أحدهما غير معني به، صح أن الآخر هو المعني به.
* * *
فإن قال [قائل] : (3) فما الدلالة على أن مواعدة القول سرا، غير معني به= على ما قال من قال إن معنى ذلك: أخذ الرجل ميثاق المرأة أن لا تنكح غيره، أو على ما قال من قال: قول الرجل لها:"لا تسبقيني بنفسك"؟
قيل: لأن"السر" إذا كان بالمعنى الذي تأوله قائلو ذلك، فلن يخلو ذلك"السر" من أن يكون هو مواعدة الرجل المرأة ومسألته إياها أن لا تنكح غيره= أو
__________
(1) ديوانه: 93، واللسان (أنف) يمدح بني رياح وبني كليب من بني يربوع. أنف كل شيء: طرفه وأوله. والقصاع جمع قصعة: وهي الجفنة الضخمة. يذكر عفتهم وحفاظهم وامتناعهم من انتهاك حرمة الجارة، واقتراف الإثم في حقها، ويصف كرمهم وإيثارهم جارهم بالطعام على أنفسهم، فلا يتقدمونه إلى الطعام حتى يأخذ منه ما يشتهي وما يكفيه. وقبل البيت: فليس الجار جار بني رياح ... بمقصى في المحل ولا مضاع
هم صنعوا لجارهم، وليست ... يد الخرقاء مثل يد الصناع
(2) في المطبوعة: "نفس المواعدين المتواعدين"، والصواب من المخطوطة.
(3) هذه الزيادة استظهرتها من مئات أشباهها مضت.(5/111)
يكون هو النكاح الذي سألها أن تجيبه إليه، بعد انقضاء عدتها، وبعد عقده له، دون الناس غيره. فإن كان"السر" الذي نهى الله الرجل أن يواعد المعتدات، هو أخذ العهد عليهن أن لا ينكحن غيره، فقد بطل أن يكون"السر" معناه: ما أخفى من الأمور في النفوس، أو نطق به فلم يطلع عليه، وصارت العلانية من الأمر سرا. وذلك خلاف المعقول في لغة من نزل القرآن بلسانه.
إلا أن يقول قائل هذه المقالة: إنما نهى الله الرجال عن مواعدتهن ذلك سرا بينهم وبينهن، لا أن نفس الكلام بذلك - وإن كان قد أعلن- سر.
فيقال له إن قال ذلك: فقد يجب أن تكون جائزة مواعدتهن النكاح والخطبة صريحا علانية، إذ كان المنهي عنه من المواعدة، إنما هو ما كان منها سرا.
فإن قال: إن ذلك كذلك، خرج من قول جميع الأمة. على أن ذلك ليس من قيل أحد ممن تأول الآية أن"السر" ها هنا بمعنى المعاهدة أن لا تنكح غير المعاهد.
وإن قال: ذلك غير جائز.
قيل له: فقد بطل أن يكون معنى ذلك: إسرار الرجل إلى المرأة بالمواعدة. لأن معنى ذلك، لو كان كذلك، لم يحرم عليه مواعدتها مجاهرة وعلانية. وفي كون ذلك عليه محرما سرا وعلانية، ما أبان أن معنى"السر" في هذا الموضع، غير معنى إسرار الرجل إلى المرأة بالمعاهدة أن لا تنكح غيره إذا انقضت عدتها= أو يكون، إذا بطل هذا الوجه، معنى ذلك: الخطبة والنكاح الذي وعدت المرأة الرجل أن لا تعدوه إلى غيره. فذلك إذا كان، فإنما يكون بولي وشهود علانية غير سر. وكيف يجوز أن يسمى سرا، وهو علانية لا يجوز إسراره؟
وفي بطول هذه الأوجه أن يكون تأويلا لقوله:"ولكن لا تواعدوهن سرا" بما عليه دللنا من الأدلة، وضوح صحة تأويل ذلك أنه بمعنى الغشيان والجماع.
وإذ كان ذلك صحيحا، فتأويل الآية: ولا جناح عليكم، أيها الناس، فيما(5/112)
عرضتم به للمعتدات من وفاه أزوجهن، من خطبة النساء، وذلك حاجتكم إليهن، فلم تصرحوا لهن بالنكاح والحاجة إليهن، إذا أكننتم في أنفسكم، فأسررتم حاجتكم إليهن وخطبتكم إياهن في أنفسكم، ما دمن في عددهن؛ علم الله أنكم ستذكرون خطبتهن وهن في عددهن، فأباح لكم التعريض بذلك لهن، وأسقط الحرج عما أضمرته نفوسكم -حكم منه (1) ولكن حرم عليكم أن تواعدوهن جماعا في عددهن، بأن يقول أحدكم لإحداهن في عدتها:"قد تزوجتك في نفسي، وإنما أنتظر أنقضاء عدتك"، فيسألها بذلك القول إمكانه من نفسها الجماع والمباضعة، فحرم الله تعالى ذكره ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله: {إِلا أَنْ تَقُولُوا قَوْلا مَعْرُوفًا}
قال أبو جعفر: ثم قال تعالى ذكره:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، فاستثنى القول المعروف مما نهي عنه، من مواعدة الرجل المرأة السر، وهو من غير جنسه، ولكنه من الاستثناء الذي قد ذكرت قبل: أن يأتي بمعنى خلاف الذي قبله في الصفة خاصة، وتكون"إلا" فيه بمعنى"لكن"، (2) فقوله:"إلا أن تقولوا قولا معروفا" منه- ومعناه: ولكن قولوا قولا معروفا. فأباح الله تعالى ذكره أن يقول لها المعروف من القول في عدتها، وذلك هو ما أذن له بقوله:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء"، كما: -
5172- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن مسلم البطين، عن سعيد بن جبير:"إلا أن تقولوا
__________
(1) في المطبوعة: "حلما منه" وأثبت صوب ما في المخطوطة.
(2) انظر ما سلف 2: 263-265 / ثم 3: 204 - 206.(5/113)
قولا معروفا"، قال: يقول: إني فيك لراغب، وإني لأرجو أن نجتمع.
5173- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"إلا أنه تقولوا قولا معروفا"، قال: هو قوله:"إن رأيت أن لا تسبقيني بنفسك".
5174- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن ليث، عن مجاهد:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال: يعني التعريض.
5175- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال: يعني التعريض.
5176- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا جناح عليكم فيما عرضتم به خطبة النساء" إلى"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: هو الرجل يدخل على المرأة وهي في عدتها فيقول:"والله إنكم لأكفاء كرام، وإنكم لرغبة، (1) وإنك لتعجبيني، وإن يقدر شيء يكن". فهذا القول المعروف.
5177- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران، وحدثني علي قال، حدثنا زيد- قالا جميعا، قال سفيان:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال يقول:"إني فيك لراغب، وإني أرجو إن شاء الله أن نجتمع".
5178- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال يقول:"إن لك عندي كذا، ولك عندي كذا، وأنا معطيك كذا وكذا". قال: هذا كله وما كان قبل أن يعقد عقدة النكاح،
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "لرعة"، وهي في المخطوطة غير منقوطة، وقرأتها كذلك - لأنه أوفق، ولأني لم أجد لقوله"رعة" معنى. وسمى المرأة"رغبة"، كما يسميها"هوى" بالمصدر، أي: يرغب فيك. ومنه الرغيبة: وهو الشيء المرغوب فيه.(5/114)
فهذا كله نسخه قوله:"ولا تعزموا وعقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله".
5179- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، أخبرنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك:"إلا أن تقولوا قولا معروفا"، قال: المرأة تطلق أو يموت عنها زوجها، فيأتيها الرجل فيقول:"احبسي علي نفسك، فإن لي بك رغبة، فتقول:"وأنا مثل ذلك"، فتتوق نفسه لها. (1) فذلك القول المعروف.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولا تعزموا عقدة النكاح"، ولا تصححوا عقدة النكاح في عدة المرأة المعتدة، فتوجبوها بينكم وبينهن، وتعقدوها قبل انقضاء العدة ="حتى يبلغ الكتاب أجله"، يعني: يبلغن أجل الكتاب الذي بينه الله تعالى ذكره بقوله: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، فجعل بلوغ الأجل للكتاب، والمعنى للمتناكحين، أن لا ينكح الرجل المرأة المعتدة، فيعزم عقدة النكاح عليها حتى تنقضي عدتها، فيبلغ الأجل الذي أجله الله في كتابه لانقضائها، كما: -
5180- حدثنا محمد بن بشار وعمرو بن علي قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، وحدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق، عن الثوري، عن ليث، عن مجاهد:"حتى يبلغ الكتاب أجلا"، قال: حتى تنقضي العدة.
5181- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن
__________
(1) في المخطوطة: "فتؤتي نفسه لها"، ولم أجدها في مكان آخر، والذي في المطبوعة لا بأس به، وهو قريب الدلالة على المعنى.(5/115)
السدي قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنضي أربعة أشهر وعشر.
5182- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنقضي العدة.
5183- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
5184- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: تنقضي العدة.
5185- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن ابن عباس قوله:"ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنقضي العدة.
5186- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: لا يتزوجها حتى يخلو أجلها. (1)
5187- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو قتيبة قال، حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن الشعبي في قوله:"ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: مخافة أن تتزوج المرأة قبل انقضاء العدة. (2)
5188- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله"، حتى تنقضي العدة.
5189- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا مهران= وحدثني علي قال، حدثنا زيد= جميعا، عن سفيان قوله:"حتى يبلغ الكتاب أجله"، قال: حتى تنقضي العدة.
* * *
__________
(1) خلا الشيء يخلو خلوا: مضى وانقضى.
(2) الأثر: 5187-"أبو قتيبة"، هو: سلم بن قتيبة الشعيري، أبو قتيبة الخراساني. "ثقة، ليس به بأس، يكتب حديثه"، مات سنة 201. مترجم في التهذيب.(5/116)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واعلموا، أيها الناس، أن الله يعلم ما في أنفسكم من هواهن ونكاحهن وغير ذلك من أموركم، فاحذروه. يقول: فاحذروا الله واتقوه في أنفسكم أن تأتوا شيئا مما نهاكم عنه، من عزم عقدة نكاحهن، أو مواعدتهن السر في عددهن، وغير ذلك مما نهاكم عنه في شأنهن في حال ما هن معتدات، وفي غير ذلك="واعلموا أن الله غفور"، (1) يعني أنه ذو ستر لذنوب عباده وتغطية عليها، فيما تكنه نفوس الرجال من خطبة المعتدات، وذكرهم إياهن في حال عددهن، وفي غير ذلك من خطاياهم= وقوله:"حليم"، يعني أنه ذو أناة لا يعجل على عباده بعقوبتهم على ذنوبهم.
* * *
القول في تأويل قوله: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"لا جناح عليكم"، لا حرج عليكم إن طلقتم النساء. (2)
يقول: لا حرج عليكم في طلاقكم نساءكم وأزواجكم،
__________
(1) انظر"غفور" فيما سلف، في فهارس اللغة في الأجزاء السالفة.
(2) انظر تفسير"الجناح" فيما سلف 3: 230، 231 / ثم 4: 162، 566 / ثم 5: 71(5/117)
="ما لم تماسوهن"، (1) يعني بذلك: ما لم تجامعوهن.
* * *
"والمماسة"، في هذا الموضع، كناية عن اسم الجماع، كما: -
5190- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع= وحدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر= قالا جميعا، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير قال، قال ابن عباس: المس الجماع، ولكن الله يكني ما يشاء بما شاء. (2)
5191- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: المس: النكاح.
* * *
قال أبو جعفر: وقد اختلف القرأة في قراءة ذلك. (3) فقرأته عامة قرأة أهل الحجاز والبصرة:"ما لم تمسوهن"، بفتح"التاء" من"تمسوهن"، بغير"ألف"، من قولك: مسسته أمسه مسا ومسيسا ومسيسى" مقصور مشدد غير مجرى. وكأنهم اختاروا قراءة ذلك، إلحاقا منهم له بالقراءة المجتمع عليها في قوله: (وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ) [سورة آل عمران: 47، سورة مريم: 20] .
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"ما لم تماسوهن"، بضم"التاء والألف" بعد"الميم"، إلحاقا منهم ذلك بالقراءة المجمع عليها في قوله: (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) [سورة المجادلة: 3] ، وجعلوا ذلك بمعنى فعل كل واحد من الرجل والمرأة بصاحبه من قولك:"ماسست الشيء أمماسه مماسة ومساسا. (4)
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة، نص الآية"تمسوهن"، وفي التفسير"تماسوهن"، وهذا دليل على أنها كانت قراءة الطبري في أصله، أما قراءة كاتب النسخة المخطوطة، وقراءتنا في مصحفنا هذا، فهي"تمسوهن"، وسيذكر الطبري القراءتين.
(2) في المطبوعة: "ما يشاء بما شاء"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "وقد اختلفت القراء"، وأثبت ما في المخطوطة. والقَرَأَة (بفتحات) جمع قارئ.
(4) ليس في المطبوعة: "أماسه" وزدتها في المخطوطة.(5/118)
* * *
قال أبو جعفر: والذي نرى في ذلك، أنهما قراءتان صحيحتا المعنى، متفقا التأويل، وإن كان في إحداهما زيادة معنى، غير موجبة اختلافا في الحكم والمفهوم.
وذلك أنه لا يجهل ذو فهم إذا قيل له:"مسست زوجتي"، أن الممسوسة قد لاقى من بدنها بدن الماس، ما لاقاه مثله من بدن الماس. فكل واحد منهما = وإن أفرد الخبر عنه بأنه الذي ماس صاحبه= (1) معقول بذلك الخبر نفسه أن صاحبه المسوس قد ماسه. (2) فلا وجه للحكم لإحدى القراءتين= مع اتفاق معانيهما، وكثرة القرأة بكل واحدة منهما= (3) بأنها أولى بالصواب من الأخرى، بل الواجب أن يكون القارئ، بأيتهما قرأ، مصيب الحق في قراءته.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، المطلقات قبل الإفضاء إليهن في نكاح قد سمي لهن فيه الصداق. وإنما قلنا أن ذلك كذلك، لأن كل منكوحة فإنما هي إحدى اثنتين: إما مسمى لها الصداق، أو غير مسمى لها ذلك. فعلمنا بالذي يتلو ذلك من قوله تعالى ذكره، أن المعنية بقوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن"، إنما هي المسمى لها. لأن المعنية بذلك، لو كانت غير المفروض لها الصداق، لما كان لقوله:"أو تفرضوا لهن فريضة"، معنى معقول. إذ كان لا معنى لقول قائل:"لا جناح عليكم إذا طلقتم النساء ما لم تفرضوا لهن فريضة في نكاح لم تماسوهن فيه، أو ما لم تفرضوا لهن فريضة". فإذا كان لا معنى لذلك، فمعلوم أن الصحيح من التأويل في ذلك: لا جناح عليكم إن طلقتم المفروض لهن من نسائكم الصداق قبل أن تماسوهن، وغير المفروض لهن قبل الفرض.
* * *
__________
(1) في المخطوطة والمطبوعة: "ماس صاحبه"، والأجود أن يقول: "مس صاحبه".
(2) في المخطوطة: "فذلك الخبر نفسه"، وفي المطبوعة: "كذلك الخبر. . . "، وكلتاهما فاسدة مسلوبة المعنى.
(3) في المطبوعة: "وكثرة القراءة"، وهو فاسد، والقَرَأَة جمع قارئ كما سلف.(5/119)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أو تفرضوا لهن"، أو توجبوا لهن. وبقوله:"فريضة"، صداقا واجبا. كما: -
5192- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"أو تفرضوا لهن فريضة"، قال: الفريضة: الصداق.
* * *
وأصل"الفرض": الواجب، (1) كما قال الشاعر:
كانت فريضة ما أتيت كما ... كان الزناء فريضة الرجم (2)
يعني: كما كان الرجم الواجب من حد الزنا. ولذلك قيل:"فرض السلطان لفلان ألفين"، (3) يعني بذلك: أوجب له ذلك، ورزقه من الديوان. (4)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ومتعوهن"، وأعطوهن ما يتمتعن به من أموالكم، (5) على أقداركم ومنازلكم من الغنى والإقتار.
* * *
__________
(1) انظر معنى"الفرض" فيما سلف 4: 121
(2) البيت للنابغة الجعدي، وقد سلف تخريجه وتفسيره في الجزء 3: 311، 312 / وفي الجزء 4: 287.
(3) في المطبوعة: ". . . لفلان ألفين" بإسقاط"في"، والصواب من المخطوطة.
(4) رزق الأمير جنده: أعطاهم الرزق، وهو العطاء الذي فرضه لهم. والديوان: الدفتر الذي يكتب فيه أسماء الجيش وأهل العطاء، وأول من دون الدواوين عمر رضي الله عنه
(5) انظر معنى"المتاع" فيما سلف 1: 539، 540 / 3: 53 -55.(5/120)
ثم اختلف أهل التأويل في مبلغ ما أمر الله به الرجال من ذلك.
فقال بعضهم: أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، (1) ودونه الكسوة.
* ذكر من قال ذلك:
5193- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة.
5194- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا سفيان، عن إسماعيل بن أمية، عن عكرمة، عن ابن عباس بنحوه.
5195- حدثنا أحمد قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن داود، عن الشعبي قوله:"ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"، قلت له: ما أوسط متعة المطلقة؟ قال: خمارها ودرعها وجلبابها وملحفتها.
5196- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:"ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، فهذا الرجل يتزوج المرأة ولم يسم لها صداقا، ثم يطلقها من قبل أن ينكحها، فأمر الله سبحانه أن يمتعها على قدر عسره ويسره. فإن كان موسرا متعها بخادم أو شبه ذلك، وإن كان معسرا متعها بثلاثة أثواب أو نحو ذلك.
5197- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي في قوله:"ومتعوهن على الموسر قدر وعلى المقتر قدره"، قال: قلت للشعبي: ما وسط ذلك؟ قال: كسوتها في بيتها، ودرعها وخمارها وملحفتها وجلبابها.
قال الشعبي: فكان شريح يمتع بخمسمئة.
__________
(1) الورق (بفتح فكسر) : الدراهم المضروبة. والورق (بفتحتين) : المال الناطق من الإبل والغنم.(5/121)
5198- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر: أن شريحا كان يمتع بخمسمئة، قلت لعامر: ما وسط ذلك؟ قال: ثيابها في بيتها، درع وخمار وملحفة وجلباب.
5199- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عمار الشعبي أنه قال: وسط من المتعة ثياب المرأة في بيتها، درع وخمار وملحفة وجلباب.
5200- حدثنا عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا داود، عن الشعبي: أن شريحا متع بخمسمئة. وقال الشعبي: وسط من المتعة، درع وخمار وجلباب وملحفة.
5201- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدر وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، قال: هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمى لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف ولا صداق لها. قال: أدنى ذلك ثلاثة أثواب، درع وخمار، وجلباب وإزار.
5202- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن" حتى بلغ:"حقا على المحسنين"، فهذا في الرجل يتزوج المرأة ولا يسمى لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف، ولا فريضة لها. وكان يقال: إذا كان واجدا فلا بد من مئزر وجلباب ودرع وخمار. (1)
5203- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن صالح بن صالح، قال: سئل عامر: بكم يمتع الرجل امرأته؟ قال: على قدر ماله.
__________
(1) الواجد: القادر، الذي يجد ما يقضي به دينه أو ما شابه ذلك.(5/122)
5204- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم قال: سمعت حميد بن عبد الرحمن بن عوف يحدث عن أمه قالت: كأني أنظر إلى جارية سوداء، حممها عبد الرحمن أم أبي سلمة حين طلقها. (1)
قيل لشعبة: ما"حممها"؟ قال. متعها. (2)
5205- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن سعد بن إبراهيم، عن حميد بن عبد الرحمن بن عوف، عن أمه، بنحوه، عن عبد الرحمن بن عوف.
5206- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن ابن سيرين قال، كان يمتع بالخادم، أو بالنفقة أو الكسوة. قال: ومتع الحسن بن علي - أحسبه قال: بعشرة آلاف.
5207- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن سعد بن إبراهيم: أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته فمتعها بالخادم.
5208- حدثت عن عبد الله بن يزيد المقري، عن سعيد بن أبي أيوب قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب: أنه كان يقول في متعة المطلقة: أعلاه الخادم، وأدناه الكسوة والنفقة. ويرى أن ذلك على ما قال الله تعالى ذكره:
__________
(1) في المطبوعة: "عبد الرحمن بن أم سلمة" وهو خلط فاحش، والصواب ما أثبته من المخطوطة. وأبو سلمة هو عبد الله الأصغر بن عبد الرحمن بن عوف، وأمه تماضر ابنة الأصبغ بن عمرو الكلبية، وهي أول كلبية نكحها قرشي. وإخوة أبي سلمة لأمه تماضر: أحيح وخالد ومريم، بنو خالد بن عقبة بن أبي معيط، خلف عليها بعد عبد الرحمن بن عوف.
وكانت العرب تسمي المتعة: التحميم. وعدي "حممها" إلى مفعولين؛ لأنه في معنى أعطاها إياها.
(2) الأثر: 5204- سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري، رأى ابن عمر، وروى عن أبيه وعميه حميد وأبي سلمة. مات سنة 127، مترجم في التهذيب. وأم حميد بن عبد الرحمن هي: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط الأموية أخت عثمان بن عفان لأمه، أسلمت قديما، وبايعت، وحبست عن الهجرة إلى أن هاجرت سنة سبع في الهدنة. ولدت لعبد الرحمن بن عوف حميد بن عبد الرحمن وإبراهيم بن عبد الرحمن، ورويا عنها. مترجمة في التهذيب وغيره.(5/123)
"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"
* * *
وقال آخرون: مبلغ ذلك - إذا اختلف الزوج والمرأة فيه - قدر نصف صداق مثل تلك المرأة المنكوحة بغير صداق مسمى في عقده. وذلك قول أبي حنيفة وأصحابه.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك ما قال ابن عباس ومن قال بقوله: من أن الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره، كما قال الله تعالى ذكره:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"، لا على قدر المرأة. ولو كان ذلك واجبا للمرأة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه، لم يكن لقيله تعالى ذكره:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره"، معنى مفهوم= ولكان الكلام: ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن.
وفي إعلام الله تعالى ذكره عباده أن ذلك على قدر الرجل في عسره ويسره، لا على قدرها وقدر نصف صداق مثلها، ما يبين عن صحة ما قلنا، وفساد ما خالفه. وذلك أن المرأة قد يكون صداق مثها المال العظيم، والرجل في حال طلاقه إياها مقتر لا يملك شيئا، فإن قضي عليه بقدر نصف صداق مثلها، ألزم ما يعجز عنه بعض من قد وسع عليه، فكيف المقدور عليه؟ (1) وإذا فعل ذلك به، كان الحاكم بذلك عليه قد تعدى حكم قول الله تعالى ذكره:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" -ولكن ذلك على قدر عسر الرجل ويسره، لا يجاوز بذلك خادم أو قيمتها، إن كان الزوج موسعا. وإن كان مقترا، فأطاق أدنى ما يكون كسوه لها، وذلك ثلاثة أثواب ونحو ذلك، قضي عليه بذلك. وإن كان عاجزا عن ذلك، فعلى قدر طاقته. وذلك على قدر اجتهاد الإمام العادل عند الخصومة إليه فيه.
* * *
__________
(1) المقدور عليه: المضيق عليه رزقه. قدر عليه رزقه (بالبناء للمجهول) : ضيق.(5/124)
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله."ومتعوهن"، هل هو على الوجوب، أو على الندب؟
فقال بعضهم: هو على الوجوب، يقضى بالمتعة في مال المطلق، كما يقضى عليه بسائر الديون الواجبة عليه لغيره. وقالوا: ذلك واجب عليه لكل مطلقة، كائنة من كانت من نسائه.
* ذكر من قال ذلك:
5209- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان الحسن وأبو العالية يقولان: لكل مطلقة متاع، دخل بها أو لم يدخل بها، وإن كان قد فرض لها.
5210- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس: أن الحسن كان يقول: لكل مطلقة متاع، وللتي طلقها قبل أن يدخل بها ولم يفرض لها.
5211- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن سعيد عن جبير في هذه الآية: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة: 241] ، قال: كل مطلقة متاع بالمعروف حقا على المتقين.
5212- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب قال، سمعت سعيد بن جبير يقول: لكل مطلقة متاع.
5213- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: كان أبو العالية يقول: لكل مطلقة متعة. وكان الحسن يقول: لكل مطلقة متعة.
5214- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا أبو عامر قال، حدثنا قرة قال، سئل الحسن، عن رجل طلق امرأته قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها: هل لها متاع؟ قال الحسن: نعم والله! فقيل للسائل= وهو أبو بكر الهذلي= أو ما تقرأ(5/125)
هذه الآية: (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) ؟ قال: نعم والله!
* * *
وقال آخرون: المتعة للمطلقة على زوجها المطلقها واجبة، ولكنها واجبة لكل مطلقة سوى المطلقة المفروض لها الصداق. فأما المطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل الدخول بها، فإنها لا متعة لها، وإنما لها نصف الصداق المسمى.
* ذكر من قال ذلك:
5215- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبيد الله، عن نافع: أن ابن عمر كان يقول: لكل مطلقة متعة، إلا التي طلقها ولم يدخل بها، وقد فرض لها، فلها نصف الصداق، ولا متعة لها.
5216- حدثنا تميم بن المنتصر قال، أخبرنا عبد الله بن نمير، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر بنحوه.
5217- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب- في الذي يطلق امرأته وقد فرض لها- أنه قال في المتاع: قد كان لها المتاع في الآية التي في"الأحزاب"، (1) فلما نزلت الآية التي في"البقرة"، جعل لها النصف من صداقها إذا سمى، ولا متاع لها، وإذا لم يسم فلها المتاع.
5218- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي وعبد الأعلى، عن سعيد، عن قتادة، عن سعيد نحوه.
5219- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: كان سعيد بن المسيب يقول: إذا لم يدخل بها جعل لها في"سورة
__________
(1) ستأتي آية"سورة الأحزاب" بعد قليل في الأثر رقم 5220.(5/126)
الأحزاب" المتاع، ثم أنزلت الآية التي في"سورة البقرة": (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ) ، فنسخت هذه الآية ما كان قبلها، إذا كان لم يدخل بها، وكان قد سمى لها صداقا، فجعل لها النصف ولا متاع لها.
5220- حدثنا ابن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب قال: نسخت هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ) [سورة الأحزاب: 49] الآية التي في"البقرة".
5221- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن حميد، عن مجاهد قال: لكل مطلقة متعة، إلا التي فارقها وقد فرض لها من قبل أن يدخل بها.
5222- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد- في التي يفارقها زوجها قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها، قال: ليس لها متعة.
5223- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن نافع قال: إذا تزوج الرجل المرأة وقد فرض لها، ثم طلقها قبل أن يدخل بها، فلها نصف الصداق، ولا متاع لها. وإذا لم يفرض لها، فإنما لها المتاع.
5224- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، سئل ابن أبي نجيح وأنا أسمع: عن الرجل يتزاوج ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، وقد فرض لها، هل لها متاع؟ قال: كان عطاء يقول: لا متاع لها.(5/127)
5225- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن أيوب، عن نافع، عن ابن عمر- في التي فرض لها ولم يدخل بها، قال: إن طلقت، فلها نصف الصداق ولا متعة لها.
5226- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم: أن شريحا كان يقول -في الرجل إذا طلق امرأته قبل أن يدخل بها، وقد سمى لها صداقا- قال: لها في النصف متاع.
5227- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن، عن شعبة، عن الحكم، عن إبراهيم، عن شريح قال: لها في النصف متاع.
* * *
وقال آخرون: المتعة حق لكل مطلقة، غير أن منها ما يقضى به على المطلق، ومنها ما لا يقضى به عليه، ويلزمه فيما بينه وبين الله إعطاؤه.
* ذكر من قال ذلك:
5228- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرازق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: متعتان، إحداهما يقضى بها السلطان، والأخرى حق على المتقين: من طلق قبل أن يفرض ويدخل، فإنه يؤخذ بالمتعة، فإنه لا صداق عليه. ومن طلق بعد ما يدخل أو يفرض، فالمتعة حق.
5229- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب، قال الله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين"، فإذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها، ثم طلقها من قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها، فليس عليه إلا متاع بالمعروف، يفرض لها السلطان بقدر، وليس عليها عدة. وقال الله تعالى ذكره:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، فإذا طلق الرجل المرأة(5/128)
وقد فرض لها ولم يمسسها، فلها نصف صداقها، ولا عدة عليها.
5230- حدثني محمد بن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال، أخبرنا زهير، عن معمر، عن الزهري أنه قال: متعتان يقضى بإحداهما السلطان، ولا يقضى بالأخرى: فالمتعة التي يقضي بها السلطان حقا على المحسنين، والمتعة التي لا يقضي بها السلطان حقا على المتقين. (1)
* * *
وقال آخرون: لا يقضي الحاكم ولا السلطان بشيء من ذلك على المطلق، وإنما ذلك من الله تعالى ذكره ندب وإرشاد إلى أن تمتع المطلقة.
* ذكر من قال ذلك:
5231- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن الحكم: أن رجلا طلق امرأته، فخاصمته إلى شريح، فقرأ الآية: (وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) [سورة البقرة: 241] ، قال: إن كنت من المتقين، فعليك المتعة. ولم يقض لها. قال شعبة: وجدته مكتوبا عندي عن أبي الضحى.
5223- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد قال: كان شريح يقول في متاع المطلقة، لا تأب أن تكون من المحسنين، لا تأب أن تكون من المتقين.
5233- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق أن شريحا قال للذي قد دخل بها: إن كنت من المتقين فمتع.
* * *
قال أبو جعفر: وكأن قائلي هذا القول ذهبوا في تركهم إيجاب المتعة فرضا
__________
(1) الأثر: 5230- عمرو بن أبي سلمة التنيسي أبو حفص الدمشقي، مترجم في التهذيب و"زهير"، هو: زهير بن محمد التميمي، مترجم في التهذيب. قال أحمد في عمرو بن أبي سلمة: "روى عن زهير أحاديث بواطيل، كأنه سمعها من صدقة بن عبد الله، فغلظ فقلبها عن زهير". وكلاهما متكلم فيه.(5/129)
للمطلقات، إلى أن قول الله تعالى ذكره:"حقا على المحسنين"، وقوله:"حقا على المتقين"، دلالة على أنها لو كانت واجبة وجوب الحقوق اللازمة الأموال بكل حال، لم يخصص المتقون والمحسنون بأنها حق عليهم دون غيرهم، بل كان يكون ذلك معموما به كل أحد من الناس.
وأما موجبوها على كل أحد سوى المطلقة المفروض لها الصداق، فإنهم اعتلوا بأن الله تعالى ذكره لما قال:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، كان ذلك دليلا على أن لك مطلقة متاعا سوى من استحدثناه الله تعالى ذكره في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. فلما قال:"وإذ طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، كان في ذلك دليل عندهم على أن حقها النصف مما فرض لها، لأن المتعة جعلها الله في الآية التي قبلها عندهم، لغير المفروض لها. فكان معلوما عندهم بخصوص الله بالمتعة غير المفروض لها، أن حكمها غير حكم التي لم يفرض لها إذا طلقها قبل المسيس، (1) فيما لها على الزوج من الحقوق.
* * *
قال أبو جعفر: والذي هو أولى بالصواب من القول في ذلك عندي، قول من قال:"لكل مطلقة متعة"، لأن الله تعالى ذكره قال:"وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين"، فجعل الله تعالى ذكره ذلك لكل مطلقة، ولم يخصص منهن بعضا دون بعض. فليس لأحد إحالة ظاهر تنزيل عام، إلى باطن خاص، إلا بحجة يجب التسليم لها. (2)
* * *
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد خص المطلقة قبل المسيس، إذا كان
__________
(1) المسيس: المس، مصدر"مس"، كما سلف آنفًا ص: 118.
(2) عند هذا الموضع، انتهى التقسيم القديم الذي نقلت عنه مخطوطتنا، وفيها بعد هذا ما نصه:
"وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم كثيرا"
ثم يبدأ بعده.
"بسم الله الرحمن الرحيم".(5/130)
مفروضا لها، بقوله: (1) "وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم"، إذ لم يجعل لها غير النصف من الفريضة؟ (2)
قيل: إن الله تعالى ذكره إذا دل على وجوب شيء في بعض تنزيله، ففي دلالته على وجوبه في الموضع الذي دل عليه، الكفاية عن تكريره، حتى يدل على بطول فرضه. وقد دل بقوله،"وللمطلقات متاع بالمعروف"، على وجوب المتعة لكل مطلقة، فلا حاجة بالعباد إلى تكرير ذلك في كل آية وسورة. وليس في دلالته على أن للمطلقة قبل المسيس المفروض لها الصداق نصف ما فرض لها، دلالة على بطول المتعة عنه. لأنه غير مستحيل في الكلام لو قيل:"وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن (3) وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم" والمتعة. (4) فلما لم يكن ذلك محالا في الكلام، كان معلوما أن نصف الفريضة إذا وجب لها، لم يكن في وجوبه لها نفي عن حقها من المتعة، ولما لم يكن اجتماعهما للمطلقة محالا.= وكان الله تعالى ذكره قد دل على وجوب ذلك لها، وإن كانت الدلالة على وجوب أحدهما في آية غير الآية التي فيها الدلالة على وجوب الأخرى = ثبت وصح وجوبهما لها.
هذا، إذا لم يكن على أن للمطلقة المفروض لها الصداق إذا طلقت قبل
__________
(1) في المطبوعة: "قد خصص المطلقة. . . " وأثبت الصواب من المخطوطة.
(2) في المخطوطة والمطبوعة: "غير النصف الفريضة"، والصواب زيادة"من"، أو تكون"غير نصف الفريضة"، بحذف الألف واللام من"النصف".
(3) في المخطوطة: "تماسوهن"، وقد أشرنا آنفًا ص: 118، تعليق: 1 إلى أنها هي قراءة أبي جعفر، وأنها كانت مثبتة هكذا في أصله.
(4) يعني: بعطف"والمتعة" على قوله: "فنصف ما فرضتم".(5/131)
المسيس، (1) دلالة غير قول الله تعالى ذكره:"وللمطلقات متاع بالمعروف"، فكيف وفي قول الله تعالى ذكره:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن"، الدلالة الواضحة على أن المفروض لها إذا طلقت قبل المسيس، لها من المتعة مثل الذي لغير المفروض لها منها؟ وذلك أن الله تعالى ذكره لما قال:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة،" كان معلوما بذلك أنه قد دل به على حكم طلاق صنفين من طلاق النساء: أحدهما المفروض له، والآخر غير المفروض له. وذلك أنه لما قال:"أو تفرضوا لهن فريضة"، علم أن الصنف الآخر هو المفروض له، وأنها المطلقة المفروض لها قبل المسيس. لأنه قال:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم يمسوهن،" ثم قال تعالى ذكره:"ومتعوهن"، فأوجب المتعة للصنفين منهن جميعا، المفروض لهن، وغير المفروض لهن. فمن ادعى أن ذلك لأحد الصنفين، سئل البرهان على دعواه من أصل أو نظير، ثم عكس عليه القول في ذلك. فلن يقول في شيء منه قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وأرى أن المتعة للمرأة حق واجب، إذا طلقت، على زوجها المطلقها، على ما بينا آنفا - يؤخذ بها الزوج كما يؤخذ بصداقها، لا يبرئه منها إلا أداؤه إليها أو إلى من يقوم مقامها في قبضها منه، أو ببراءة تكون منها له. وأرى أن سبيلها سبيل صداقها وسائر ديونها قبله، يحبس بها إن طلقها فيها، (2) إذا لم يكن له شيء ظاهر يباع عليه، إذا امتنع من إعطائها ذلك.
وإنما قلنا ذلك، لأن الله تعالى ذكره قال:"ومتعوهن،" فأمر الرجال أن يمتعوهن، وأمره فرض، إلا أن يبين تعالى ذكره أنه عنى به الندب والإرشاد، لما
__________
(1) في المطبوعة: "للمطلقة المفروض الصداق" بإسقاط"لها"، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "يحبس لها"، وأثبت ما في المخطوطة.(5/132)
قد بينا في كتابنا المسمى (بلطيف البيان عن أصول الأحكام) ، لقوله:"وللمطلقات متاع بالمعروف". ولا خلاف بين جميع أهل التأويل أن معنى ذلك: وللمطلقات على أزواجهن متاع بالمعروف. وإذا كان ذلك كذلك، فلن يبرأ الزوج مما لها عليه إلا بما وصفنا قبل، من أداء أو إبراء على ما قد بينا.
* * *
فإن ظن ذو غباء أن الله تعالى ذكره إذ قال:"حقا على المحسنين" و"حقا على المتقين"، أنها غير واجبة، لأنها لو كانت واجبة لكانت على المحسن وغير المحسن، والمتقي وغير المتقي= فإن الله تعالى ذكره قد أمر جميع خلقه بأن يكونوا من المحسنين ومن المتقين، وما وجب من حق على أهل الإحسان والتقى، فهو على غيرهم أوجب، ولهم ألزم.
وبعد، فإن في إجماع الحجة على أن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس واجبة بقوله:"ومتعوهن"، وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس بقول الله تعالى ذكره (1) فيما أوجب لهما من
__________
(1) في المطبوعة والمخطوطة: "وجوب نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس، قال الله تعالى ذكره فيما أوجب لها من ذلك. . . ". وقد وقفت طويلا على هذه العبارة، فلم يخلص لها معنى عندي، ولم أستحل أن أدعها بغير بيان فسادها، وإثبات صحة ما رأيته. ومراد الطبري في سياق هذا الاحتجاج الأخير الذي بدأه في هذه الفقرة، أن يتمم حجته في رد قول من ظن أن المتعة غير واجبة، لقوله تعالى: "حقا على المحسنين" و"حقا على المتقين"، فقال: إن قول الله تعالى"ومتعوهن" قد أوجبت المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس، -كما أوجب قوله تعالى"فنصف ما فرضتم"، نصف الصداق للمطلقة المفروض لها قبل المسيس- وهي الآية التي لم يذكر فيها: "حقا على المحسنين" ولا"حقا على المتقين". ففي إجماع الحجة على وجوب ذلك لهما، الدليل الواضح على أن قوله تعالى: "وللمطلقات متاع بالمعروف"، يوجب المتعة لكل مطلقة-"وإن كان قال: حقا على المتقين" بعقب هذه الآية. ثم بين هذه الحجة في الفقرة التالية بيانا شافيا، فقال إن إجماعهم على إيجاب المتعة للمطلقة غير المفروض لها بقوله: "ومتعوهن" مع تعقيب ذلك بقوله في الآية: "حقا على المحسنين" دليل على أن ذلك كذلك في قوله: "وللمطلقات متاع بالمعروف"، مع تعقيب ذلك بقوله: "حقا على المتقين"، فالمتعة واجبة لكل مطلقة، كما وجبت في الآية الأخرى. من أجل هذا السياق الذي بينته، رأيت أن نص المخطوطة والمطبوعة فاسد غير دال على معنى، فاقتضى ذلك أن أجعل"قال الله تعالى ذكره" -"بقول الله تعالى ذكره"، وأن أزيد بعدها: "فنصف ما فرضتم"، وأن أجعل"فيما أوجب لها"-"فيما أوجب لهما" على التثنية. هذا ما رجح عندي وثبت وصح، والحمد لله أولا وآخرا، وكأنه الصواب في أصل الطبري إن شاء الله.(5/133)
ذلك = (1) الدليل الواضح أن ذلك حق واجب لكل مطلقة بقوله:"وللمطلقات متاع بالمعروف"، وإن كان قال:"حقا على المتقين".
ومن أنكر ما قلنا في ذلك، سئل عن المتعة للمطلقة غير المفروض لها قبل المسيس. فإن أنكر وجوب ذلك خرج من قول جميع الحجة، (2) ونوظر مناظرتنا المنكرين في عشرين دينارا زكاة، والدافعين زكاة العروض إذا كانت للتجارة، وما أشبه ذلك. (3) فإن أوجب ذلك لها، سئل الفرق بين وجوب ذلك لها، والوجوب لكل مطلقة، وقد شرط فيما جعل لها من ذلك بأنه حق على المحسنين، كما شرط فيما جعل للآخر بأنه حق على المتقين. فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
قال أبو جعفر: واجمع الجميع على أن المطلقة غير المفروض لها قبل المسيس، لا شيء لها على زوجها المطلقها غير المتعة.
* ذكر بعض من قال ذلك من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم:
5234- حدثنا أبو كريب ويونس بن عبد الأعلى قالا حدثنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال: إذا طلق الرجل امرأته قبل أن يفرض لها وقبل أن يدخل بها، فليس لها إلا المتاع.
5235- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن يونس قال، قال الحسن: إن طلق الرجل امرأته ولم يدخل بها ولم يفرض لها، فليس لها إلا المتاع.
__________
(1) قوله: "الدليل الواضح" اسم"إن" في قوله في أول الفقرة: "فإن في إجماع الحجة. . . "
(2) في المخطوطة: "فإن أنكر وجوب من قول جميع الحجة"، وهو خطأ بين، وفي المطبوعة: "وجوبه" ورجحت ما أثبت.
(3) يعني بذلك ما كان في إجماع كإجماعهم على وجوب الزكاة في عشرين دينارا، ووجوب زكاة العروض إذا كانت للتجارة، فيجادل في أمر المتعة، بما يجادل به المنكر والدافع لوجوب الزكاة فيهما.(5/134)
5236- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، أخبرنا أيوب، عن نافع قال: إذا تزوج الرجل المرأة ثم طلقها ولم يفرض لها، فإنما لها المتاع.
5237- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: إذا تزوج الرجل المرأة ولم يفرض لها، ثم طلقها قبل أن يمسها وقبل أن يفرض لها، فليس لها عليه إلا المتاع بالمعروف.
5238- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة،" قال: ليس لها صداق إلا متاع بالمعروف.
5239- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه- إلا أنه قال: ولا متاع إلا بالمعروف.
5240- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"لا جناح عليكم إذ طلقتم النساء ما لم تمسوهن" إلى:"ومتعوهن" قال: هذا الرجل توهب له فيطلقها قبل أن يدخل بها، فإنما عليه المتعة.
5241- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال في هذه الآية: هو الرجل يتزوج المرأة ولا يسمي لها صداقا، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها، فلها متاع بالمعروف، ولا فريضة لها.
5242- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
5243- حدثنا عن الحسين بن الفرج قال، سمعت أبا معاذ يقول، [حدثنا عبيد بن سليمان قال] ، سمعت الضحاك يقول في قوله:"ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة"، هذا رجل وهبت له امرأته، فطلقها من قبل أن يمسها، فلها المتعة ولا فريضة لها، وليست عليها عدة.
* * *(5/135)
قال أبو جعفر: وأما"الموسع"، فهو الذي قد صار من عيشه إلى سعة وغنى، يقال منه:"أوسع فلان فهو يوسع إيساعا وهو موسع".
* * *
وأما"المقتر"، فهو المقل من المال، يقال:"قد أقتر فهو يقتر إقتارا، وهو مقتر".
* * *
واختلف القرأة في قراءة"القدر". (1)
فقرأه بعضهم:"على الموسع قدره وعلى المقتر قدره". بتحريك"الدال" إلى الفتح من"القدر"، توجيها منهم ذلك إلى الاسم من"التقدير"، الذي هو من قول القائل:"قدر فلان هذا الأمر".
* * *
وقرأ آخرون بتسكين"الدال" منه، توجيها منهم ذلك إلى المصدر من ذلك، كما قال الشاعر. (2)
وما صب رجلي في حديد مجاشع ... مع القدر، إلا حاجة لي أريدها (3)
* * *
والقول في ذلك عندي أنهما جميعا قراءتان قد جاءت بهما الأمة، ولا تحيل القراءة بإحداهما معنى في الأخرى، بل هما متفقتا المعنى. فبأي- القراءتين قرأ القارئ ذلك، فهو للصواب مصيب.
وإنما يجوز اختيار بعض القراءات على بعض لبينونة المختارة على غيرها بزيادة
__________
(1) في المطبوعة: "واختلف القراء"، وأثبت ما في المخطوطة، والمطبوعة تغير نص المخطوطة حيثما ذكر"القَرَأَة" إلى"القراء"، فلن نشير إليه بعد هذا الوضع.
(2) هو الفرزدق فيما يقال.
(3) ديوانه: 215 نقلا عن اللسان (صبب) ، وهو في اللسان أيضًا في (قدر) ، ومقاييس اللغة 5: 62، والأساس (صبب) ، وإصلاح المنطق: 109، وتهذيب إصلاح المنطق 1: 168 وقال أبو محمد: "ذكر يعقوب أن هذا البيت للفرزدق، ولم أجده في شعره ولا في أخباره". وكأن البيت ليس للفرزدق، لذكره"حديد مجاشع"، وهو جده. وجرير كان يعيره بأنه"ابن القين"، فأنا أستبعد أن يذكر الفرزدق في شعره"حديد مجاشع". وقال التبريزي في شرح البيت: "يقول: كان حبسي قدره الله علي، وكان لي فيه حاجة، ولم يكن لي منه بد". وهو معنى غير بين. ويقال: صب القيد في رجله، أي قيد.(5/136)