2056- حدثنا ابن سنان القزاز قال، حدثنا عبيد الله بن عبد المجيد أبو علي الحنفي قال، حدثنا إبراهيم بن نافع قال، سمعت كثير بن كثير يحدث، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: جاء -يعني إبراهيم- فوجد إسماعيل يصلح نبلا من وراء زمزم. قال إبراهيم: يا إسماعيل، إن الله ربك قد أمرني أن أبني له بيتا. فقال له إسماعيل: فأطع ربك فيما أمرك. فقال له إبراهيم: قد أمرك أن تعينني عليه. قال: إذا أفعل. قال: فقام معه، فجعل إبراهيم يبنيه، وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فلما ارتفع البنيان، وضعف الشيخ عن رفع الحجارة، قام على حجر، فهو مقام إبراهيم، فجعل يناوله ويقولان:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". (1)
* * *
وقال آخرون: بل الذي رفع قواعد البيت إبراهيم وحده، وإسماعيل يومئذ طفل صغير.
ذكر من قال ذلك:
2057- حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى، قالا حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن حارثة بن مضرب، عن علي قال: لما أمر إبراهيم ببناء البيت، خرج معه إسماعيل وهاجر. قال: فلما قدم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة، فيه مثل الرأس، فكلمه فقال: يا إبراهيم، ابن على
__________
(1) الحديث: 2056- ابن سنان القزاز: هو محمد بن سنان. وقد مضت ترجمته في: 157. ووقع في المطبوعة هنا"ابن بشار"! وهو تصحيف.
وهذا الحديث أيضًا جزء من حديث مطول، رواه البخاري 6: 290 (فتح) ، عن عبد الله بن محمد، عن أبي عامر العقدي عبد الملك بن عمرو، عن إبراهيم بن نافع، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير أيضًا 1: 322-323، عن رواية البخاري.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 551-552، مختصرا، عن أبي العباس الأصم محمد بن يعقوب، عن محمد بن سنان القزاز -شيخ الطبري هنا- بهذا الإسناد. وصححه على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، فلم ينبه إلى خطأ الحاكم في استدراكه، إذ رواه البخاري. وقد نبه على ذلك ابن كثير، واستعجب أن يستدركه الحاكم، وهو في صحيح البخاري!(3/68)
ظلي - أو على قدري - ولا تزد ولا تنقص. فلما بنى [خرج] وخلف إسماعيل وهاجر، (1) فقالت هاجر: يا إبراهيم، إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله. قالت: انطلق فإنه لا يضيعنا. قال: فعطش إسماعيل عطشا شديدا قال، فصعدت هاجر الصفا، فنظرت فلم تر شيئا. ثم أتت المروة، فنظرت فلم تر شيئا، ثم رجعت إلى الصفا فنظرت، فلم تر شيئا. حتى فعلت ذلك سبع مرات. فقالت: يا إسماعيل، مت حيث لا أراك. فأتته وهو يفحص برجله من العطش. (2) فناداها جبريل فقال لها: من أنت؟ فقالت: أنا هاجر، أم ولد إبراهيم. قال: إلى من وكلكما؟ قالت: وكلنا إلى الله. قال: وكلكما إلى كاف! قال: ففحص [الغلام] الأرض بإصبعه، (3) فنبعت زمزم، فجعلت تحبس الماء. فقال: دعيه فإنها رَوَاء. (4)
2058- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن خالد بن عرعرة: أن رجلا قام إلى علي فقال: ألا تخبرني عن البيت؟
__________
(1) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري 1: 129، وتفسير ابن كثير 1: 324.
(2) فحصت الدجاجة وغيرها برجلها في التراب: بحثته وأزالت التراب عن حفرة.
(3) الزيادة بين القوسين من تاريخ الطبري 1: 129، وليست في ابن كثير.
(4) الحديث: 2057- مؤمل- بوزن: محمد -: هو ابن إسماعيل العدوي، وهو ثقة. بينا توثيقه في شرح المسند: 2173.
سفيان: هو الثوري. وأبو إسحاق: هو السبيعي.
حارثة ابن مضرب العبدي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/87، وابن أبي حاتم 1/2/255.
و"مضرب": بضم الميم وفتح الضاد المعجمة وكسر الراء المشددة وآخره باء موحدة. ووقع في المطبوعة"مصرف"، وهو تصحيف.
والخبر رواه الطبري في التاريخ أيضًا 1: 129، بهذا الإسناد.
ونقله ابن كثير في التفسير 1: 324، عن الطبري. ثم قال: "ففي هذا السياق أنه بنى البيت قبل أن يفارقهما. وقد يحتمل -إن كان محفوظا- أن يكون أولا وضع له حوطا وتجميرا، لا أنه بناه إلى أعلاه. حتى كبر إسماعيل، فبنياه معا، كما قال الله تعالى".
وقوله: "فإنها رواء" (بفتح الراء والواو) . يقال ماء روى (بفتح الراء وكسر الواو وتشديد الياء) وروى (بكسر ففتح) ورواء: كثير عذب مرو لا ينقطع.(3/69)
أهو أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: لا ولكن هو أول بيت وضع فيه البركة، (1) مقام إبراهيم، ومن دخله كان آمنا، وإن شئت أنبأتك كيف بني: إن الله أوحى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض. قال: فضاق إبراهيم بذلك ذرعا، فأرسل الله السكينة -وهى ريح خجوج، ولها رأسان (2) - فأتبع أحدهما صاحبه حتى انتهت إلى مكة، فتطوت على موضع البيت كتطوي الحجفة، (3) وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة. فبنى إبراهيم وبقي حجر، فذهب الغلام يبغي شيئا، فقال إبراهيم: لا ابغني حجرا كما آمرك. (4) قال: فانطلق الغلام يلتمس له حجرا، فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه، فقال: يا أبت، من أتاك بهذا الحجر؟ قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك، جاء به جبريل من السماء. فأتماه. (5)
2059- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا سعيد، عن سماك قال: سمعت خالد بن عرعرة يحدث عن علي بنحوه.
2060- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة وحماد بن سلمة وأبو الأحوص كلهم، عن سماك، عن خالد بن عرعرة، عن علي، بنحوه.
* * *
قال أبو جعفر: فمن قال: رفع القواعد إبراهيم وإسماعيل، أو قال: رفعها إبراهيم وكان
__________
(1) في المطبوعة وفي التاريخ، وابن كثير: "وضع في البركة". وفي المستدرك الحاكم 1: 293، والدر المنثور، "وضع للناس فيه البركة والهدى"، فصححتها من هناك.
(2) انظر ما سلف قريبا: 66 تعليق رقم: 1.
(3) تطوت: استدارت. تطوت الحية: تحوت والتف بعضها على بعض واستدارت كالطوق. والحجفة: الترس من الجلود يطارق بعضه على بعض، ليس فيه خشب. وفي رواية الطبري في التاريخ"كتطوي الحية"، وكذلك في المستدرك"كتطوق الحية"، وجاء في ابن كثير"الجحفة" وهو خطأ.
(4) في التاريخ: "لا أبغي حجرا. . . "، وهو خطأ، وفي ابن كثير: "فقال إبراهيم: ابغي حجرا كما آمرك"، وهو خطأ أيضًا. يقال: ابغني كذا وكذا، وابغ لي كذا وكذا: أي اطلبه لي والتمسه. بغى فلان فلانا شيئا: التمسه له.
(5) الأخبار: 2058-2060، هي خبر واحد بثلاثة أسانيد.
وشيخ الطبري في الإسناد الأول"هناد": هو ابن السري بن مصعب الدارمي التميمي، وهو ثقة. من شيوخ البخاري ومسلم وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/248، والصغير: 245، وابن أبي حاتم 4/2/119-120.
وقع في المطبوعة"عباد"، وهو تحريف، تصويبه، من التاريخ للطبري 1: 128-129، حيث روى هذا الخبر بهذا الإسناد الأول"حدثنا هناد بن السري". وكذلك نقله ابن كثير 1: 224، عن الطبري.
أبو الأحوص: هو سلام بن سليم الحنفي الحافظ الثقة.
سماك - بكسر السين وتخفيف الميم: هو ابن حرب بن أوس البكري، وهو تابعي ثقة، روى له مسلم ووثقه أحمد وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/174، وابن أبي حاتم 2/1/279-280.
خالد بن عرعرة التيمي: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 2/1/149، وقال: "سمع عليا". وابن أبي حاتم 1/2/343، ولم يذكرا فيه جرحا، وذكره ابن حبان في الثقات.
و"سعيد" -في الإسناد الثاني-: أنا أرجح أنه محرف عن"شعبة"، فهو الذي يروي عن سماك ابن حرب، وهو الذي يطلقه"محمد بن جعفر غندر"، إذ هو شيخه الذي لزمه وجالسه نحوا من عشرين سنة. و"أبو داود" في الإسناد الثالث: هو الطيالسي.
والخبر رواه أيضًا الأزرقي في تاريخ مكة 1: 24-25، من طريق عبد الرحمن بن عبد الله، مولى بني هاشم، عن حماد -وهو ابن سلمة- عن سماك بن حرب، عن خالد بن عرعرة.
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 292-293، من طريق إسرائيل، عن خالد بن حرب، عن خالد بن عرعرة. قال: "صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي 1: 126، ونسبه لهؤلاء ولغيرهم.(3/70)
إسماعيل يناوله الحجارة، فالصواب في قوله أن يكون المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل. ويكون الكلام حينئذ:"وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل" يقولان:"ربنا تقبل منا". وقد كان يحتمل، على هذا التأويل، أن يكون المضمر من القول لإسماعيل خاصة دون إبراهيم، ولإبراهيم خاصة دون إسماعيل، لولا ما عليه عامة أهل التأويل من أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل جميعا.
وأما على التأويل الذي روي عن علي:- أن إبراهيم هو الذي رفع القواعد دون إسماعيل - فلا يجوز أن يكون المضمر من القول عند ذلك إلا لإسماعيل خاصة.
* * *
والصواب من القول عندنا في ذلك: أن المضمر من القول لإبراهيم وإسماعيل، وأن قواعد البيت رفعها إبراهيم وإسماعيل جميعا. وذلك أن إبراهيم وإسماعيل، إن كانا هما بنياهما ورفعاها فهو ما قلنا. وإن كان إبراهيم تفرد ببنائها، وكان إسماعيل يناوله، فهما أيضا رفعاها، لأن رفعها كان بهما: من أحدهما البناء، ومن الآخر نقل الحجارة إليها ومعونة وضع الأحجار مواضعها. ولا تمتنع العرب من نسبة البناء إلى من كان بسببه البناء ومعونته.
وإنما قلنا ما قلنا من ذلك، لإجماع جميع أهل التأويل على أن إسماعيل معني بالخبر الذي أخبر الله عنه وعن أبيه، أنهما كانا يقولانه، وذلك قولهما:"ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم". فمعلوم أن إسماعيل لم يكن ليقول ذلك، إلا وهو: إما رجل كامل، وإما غلام قد فهم مواضع الضر من النفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه. وإذا كان -في حال بناء أبيه، ما أمره الله ببنائه ورفعه قواعد بيت الله (1) - كذلك، فمعلوم أنه لم يكن تاركا معونة أبيه، إما على البناء، وإما على نقل الحجارة. وأي ذلك كان منه، فقد دخل في معنى من رفع قواعد البيت، وثبت أن القول المضمر خبر عنه وعن والده إبراهيم عليهما السلام.
* * *
فتأويل الكلام: وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل يقولان: ربنا تقبل منا عملنا، وطاعتنا إياك، وعبادتنا لك، في انتهائنا إلى أمرك الذي أمرتنا به، في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه، إنك أنت السميع العليم.
* * *
وفي إخبار الله تعالى ذكره أنهما رفعا القواعد من البيت وهما يقولان: ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم - دليل واضح على أن بناءهما ذلك لم يكن مسكنا يسكنانه، ولا منزلا ينزلانه، بل هو دليل على أنهما بنياه ورفعا قواعده لكل من أراد أن يعبد الله تقربا منهما إلى الله بذلك. ولذلك قالا"ربنا تقبل منا". ولو كانا بنياه مسكنا لأنفسهم، لم يكن لقولهما:"تقبل منا" وجه مفهوم. لأنه كانا
__________
(1) سياق العبارة: "وإذا كان. . . كذلك" وما بينهما فصل. ويعني بقوله"كذلك" أنه كان قد فهم الضر والنفع، ولزمته فرائض الله وأحكامه.(3/72)
يكونان -لو كان الأمر كذلك- سائلين أن يتقبل منهما ما لا قربة فيه إليه. وليس موضعهما مسألة الله قبول ما لا قربة إليه فيه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) }
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"إنك أنت السميع العليم"، إنك أنت السميع دعاءنا ومسألتنا إياك قبول ما سألناك قبوله منا، من طاعتك في بناء بيتك الذي أمرتنا ببنائه - العليم بما في ضمائر نفوسنا من الإذعان لك في الطاعة، والمصير إلى ما فيه لك الرضا والمحبة، وما نبدي ونخفي من أعمالنا، (2) . كما:-
2061- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني أبو كثير قال، حدثنا سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"تقبل منا إنك أنت السميع العليم"، يقول: تقبل منا إنك سميع الدعاء.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ}
قال أبو جعفر: وهذا أيضا خبر من الله تعالى ذكره عن إبراهيم وإسماعيل: أنهما كانا يرفعان القواعد من البيت وهما يقولان:"ربنا واجعلنا مسلمين لك"، يعنيان بذلك: واجعلنا مستسلمين لأمرك، خاضعين لطاعتك، لا نشرك معك
__________
(1) يقول: هما من العلم والنبوة بمنزلة وموضع، فلا يسألان الله قبول عمل ليس من القربات إلى الله.
(2) قوله: "وما نبدي. . . " معطوف على قوله: "العليم بما في ضمائر نفوسنا".(3/73)
في الطاعة أحدا سواك، ولا في العبادة غيرك.
* * *
وقد دللنا فيما مضى على أن معنى"الإسلام": الخضوع لله بالطاعة. (1)
* * *
وأما قوله:"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"، فإنهما خصا بذلك بعض الذرية، لأن الله تعالى ذكره قد كان أعلم إبراهيم خليله صلى الله عليه وسلم قبل مسألته هذه، أن من ذريته من لا ينال عهده لظلمه وفجوره. فخصا بالدعوة بعض ذريتهما.
* * *
وقد قيل: إنهما عنيا بذلك العرب.
ذكر من قال ذلك:
2062- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومن ذريتنا أمة مسلمة لك" يعنيان العرب.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا قول يدل ظاهر الكتاب على خلافه. لأن ظاهره يدل على أنهما دعوا الله أن يجعل من ذريتهما أهل طاعته وولايته، والمستجيبين لأمره. وقد كان في ولد إبراهيم العرب وغير العرب، والمستجيب لأمر الله والخاضع له بالطاعة، من الفريقين. فلا وجه لقول من قال: عنى إبراهيم بدعائه ذلك فريقا من ولده بأعيانهم دون غيرهم، إلا التحكم الذي لا يعجز عنه أحد.
* * *
وأما"الأمة" في هذا الموضع، فإنه يعني بها الجماعة من الناس، (2) من قول الله: (وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ) [سورة الأعراف: 159] . (3)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2: 510، 511.
(2) انظر ما سلف 1: 221 س: 14.
(3) جاء في تفسير ابن كثير 1: 332 ما نصه:
قال ابن جرير: والصواب أنه يعم العرب وغيرهم، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل، وقد قال الله تعالى: "ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون"
وهو كما ترى ليس في أصل الطبري. فلا أدري أهو تصرف من ابن كثير، أم في أصول الطبري خرم في هذا الموضع، وكلاهما جائز، ولا أقطع بشيء.
هذا وقد أراد ابن كثير أن يرد ما ذهب إليه الطبري، فزعم أن تخصيص السدي أنهم العرب لا ينفي من عداهم ثم قال: "والسياق إنما هو في العرب، ولهذا قال بعده: "ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم" الآية، والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم، وقد بعث فيهم".
واعتراض ابن كثير هذا لا يقوم، واحتجاجه بالسياق هنا لا ينهض. فالدعاء دعاء إبراهيم وإسماعيل معا، ولكل منهما ذرية يشملها الدعاء. والسياق هنا سياق الآيات المتتابعة لا سياق آية واحدة. ففي الآيات التي تلي هذه الآية ذكر ملة إبراهيم، وبيانها: " إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون".
وهي آيات متتابعة، فالتخصيص فيها غير جائز، مع وضوح الدلالة على أن ذرية إبراهيم من غير إسماعيل، كانوا على ملة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، وهم له مسلمون وهذا دليل على ما ذهبت إليه في مقدمة الجزء الأول، من اختصار الطبري في تفسيره هذا، فإنه لو شاء لأفاض واحتج بما احتججت بما احتججت به. وهو دليل أيضًا على أن قراءة الطبري تحتاج إلى متابعة آية بعد آية، وأن قراءته مفرقا توقع في خطأ في فهم مراده وحجته. ودليل على أن الطبري شديد العناية بسياق الآيات وترابطها، ولكنه ربما أغفل ذكر هذا الترابط مفصلا وحجته فيه، لأنه قد استوفى ذلك في مواضع سبقت، فاختصر المواضع الأخرى ثقة بتتبع قارئه لما أراد. ودليل آخر على أن هذا التفسير لا يزال مجهول المكانة، على علو مكانته عند أسلافنا غفر الله لنا ولهم.(3/74)
رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا}
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. (1) فقرأه بعضهم:"وأرنا مناسكنا" بمعنى رؤية العين، أي أظهرها لأعيننا حتى نراها. وذلك قراءة عامة أهل الحجاز والكوفة.
__________
(1) في المطبوعة: "القراء"و"قراء"، ورددتها إلى ما درج عليه الطبري في عبارته. والقَرَأَة جمع قارئ، مثل حافظ وحفظة، كما سلف مرارا.(3/75)
وكان بعض من يوجه تأويل ذلك إلى هذا التأويل، يسكن الراء من"أرنا"، غير أنه يشمها كسرة.
* * *
واختلف قائل هذه المقالة وقرأة هذه القراءة في تأويل قوله:"مناسكنا"
فقال بعضهم: هي مناسك الحج ومعالمه.
ذكر من قال ذلك:
2063- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأرنا مناسكنا" فأراهما الله مناسكهما: الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، والإفاضة من عرفات، والإفاضة من جمع، ورمي الجمار، حتى أكمل الله الدين - أو دينه.
2064- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وأرنا مناسكنا" قال، أرنا نسكنا وحجنا.
2065- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما فرغ إبراهيم وإسماعيل من بنيان البيت، أمره الله أن ينادي فقال: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ) [سورة الحج:27] ، فنادى بين أخشبي مكة: (1) يا أيها الناس! إن الله يأمركم أن تحجوا بيته. قال: فوقرت في قلب كل مؤمن، فأجابه كل من سمعه من جبل أو شجر أو دابة:"لبيك لبيك". فأجابوه بالتلبية:"لبيك اللهم لبيك"، وأتاه من أتاه. فأمره الله أن يخرج إلى عرفات، ونعتها [له] ، (2) فخرج. فلما بلغ الشجرة عند العقبة، استقبله الشيطان، فرماه بسبع حصيات
__________
(1) أخشبا مكة: هما الجبلان المطيفان بها، وهما: "أبو قبيس" و"الأحمر"، وهو مشرف وجهه على قعيقعان، والأخشب: كل جبل خشن غليظ، وفي الحديث: "لا تزول مكة حتى يزول أخشباها".
(2) الزيادة بين القوسين، أظنها أحرى بالصواب.(3/76)
يكبر مع كل حصاة، فطار فوقع على الجمرة الثانية أيضا، فصده، فرماه وكبر، فطار فوقع على الجمرة الثالثة، فرماه وكبر. فلما رأى أنه لا يطيقه، ولم يدر إبراهيم أين يذهب، انطلق حتى أتى"ذا المجاز"، فلما نظر إليه فلم يعرفه جاز، فلذلك سمي:"ذا المجاز". ثم انطلق حتى وقع بعرفات، فلما نظر إليها عرف النعت. قال: قد عرفت! فسميت:"عرفات". فوقف إبراهيم بعرفات، حتى إذا أمسى ازدلف إلى جمع، (1) فسميت"المزدلفة"، فوقف بجمع. ثم أقبل حتى أتى الشيطان حيث لقيه أول مرة فرماه بسبع حصيات سبع مرات، ثم أقام بمنى حتى فرغ من الحج وأمره. وذلك قوله:"وأرنا مناسكنا". (2)
* * *
وقال آخرون - ممن قرأ هذه القراءة -"المناسك": المذابح. فكان تأويل هذه الآية، على قول من قال ذلك: وأرنا كيف ننسك لك يا ربنا نسائكنا، فنذبحها لك. (3)
ذكر من قال ذلك:
2066- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء:"وأرنا مناسكنا" قال: ذبحنا.
__________
(1) ازدلف إلى الشيء: تقرب إليه ودنا منه. وجمع (بفتح الجيم وسكون الميم) هي"مزدلفة".
(2) الأثر: 2065 سيأتي بعضه برقم: 3792 في هذا الجزء.
(3) نسك ينسك (بضم السين) نسكا (بسكون السين) ذبح. والنسيكة: الذبيحة.(3/77)
2067- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن ابن جريج، عن عطاء قال: مذابحنا.
2067م- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2067م- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
2067م- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء: سمعت عبيد بن عمير يقول:"وأرنا مناسكنا" قال، أرنا مذابحنا.
* * *
وقال آخرون:"وأرنا مناسكنا" بتسكين"الراء"، (1) وزعموا أن معنى ذلك: وعلمنا، ودلنا عليها - لا أن معناه: أرناها بالأبصار. وزعموا أن ذلك نظير قول حُطائط بن يعفر، أخي الأسود بن يعفر: (2)
ريني جوادا مات هزلا لعلني ... أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا (3)
يعني بقوله:"أريني"، دليني عليه وعرفيني مكانه، ولم يعن به رؤية العين.
__________
(1) كان في المطبوعة: "وقال آخرون"، واستظهرت من السياق أنها"وقرأ آخرون"، فلذلك أثبت ما استظهرت، فسيقول بعد: "وهذه قراءة رويت. . . ".
(2) هما أخوان من بني نهشل بن دارم، جاهليان، أمهما رهم بنت العباب.
(3) الشعر والشعراء: 201-202، 211 وفيه تحقيق عن اختلاف قديم في نسبته، ومجاز القرآن: 55، والخزانة 1: 195-196 وفيهما مراجع كثيرة. روى البيت لحاتم الطائي، ولمعن بن أوس، وفي اللسان (أنن) و (علل) عن ابن برى وقال: "حطائط بن يعفر، ويقال هو لدريد"، وسيأتي في تفسير الطبري منسوبا لدريد بن الصمة (7: 213 بولاق) مع اختلاف في رواية صدره: ذريني أطوف في البلاد لأنني
ولم أجد هذه الرواية في الكتب التي بين يدي، وأخشى أن يكون الطبري أو من أنشده البيت - قد وهم. فقول حطائط قبله أو بعده. ذريني أكن للمال ربا، ولا يكن ... لي المال ربا، تحمدي غبه غدا
ذريني فلا أعيا بما حل ساحتى ... أسود فأكفي، أو أطيع المسودا
وهو يخاطب بهذه الأبيات أمه رهم بنت العباب، وكانت تلومه على جوده وإتلافه المال. والهزل (بفتح وسكون) والهزل (بضم فسكون) والهزال: هو نقيض السمن، مع الضعف والاسترخاء. وقوله: "لأنني" بفتح الهمزة بمعنى: "لعلني". من قولهم: "أن" بمعنى"عل"، و"لأن" بمعنى"لعل"، وأرى أن الهمزة منقلبة عن العين، والنون منقلبة عن اللام. وهما لغتان من لغات العرب. واجتمعتا في هذا اللفظ.(3/78)
وهذه قراءة رويت عن بعض المتقدمين. (1)
ذكر من قال ذلك:
2068- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال عطاء:"أرنا مناسكنا"، أخرجها لنا، علمناها.
2069- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال ابن المسيب: قال علي بن أبي طالب: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قال:"فعلت أي رب، فأرنا مناسكنا" -أبرزها لنا، علمناها- فبعث الله جبريل، فحج به.
* * *
قال أبو جعفر: والقول واحد، فمن كسر"الراء" جعل علامة الجزم سقوط"الياء" التي في قول القائل:"أرينه""أرنه"، (2) وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم. ومن سكن"الراء" من"أرنا"، توهم أن إعراب الحرف في"الراء"، فسكنها في الجزم، كما فعلوا ذلك في"لم يكن" و"لم يك". (3) .
وسواء كان ذلك من رؤية العين أو من رؤية القلب. ولا معنى لفرق من فرق بين رؤية العين في ذلك ورؤية القلب.
* * *
وأما"المناسك" فإنها جمع"منسك"، وهو الموضع الذي ينسك لله فيه، ويتقرب إليه فيه بما يرضيه من عمل صالح: إما بذبح ذبيحة له، وإما بصلاة أو طواف أو سعي، وغير ذلك من الأعمال الصالحة. ولذلك قيل لمشاعر الحج
__________
(1) كان الأجود أن تكون هذه الجملة بعد قوله: "وقرأ آخرون: "وأرنا مناسكنا" بتسكين الراء". ولكن هكذا وقع في النسخ.
(2) هكذا جاء في المطبوعة"أرينه"، وأظن صواب هذا الحرف"يرينيه"، مضارعا مرفوعا، ليستقيم مع قوله: "وأقر الراء مكسورة كما كانت قبل الجزم".
(3) ظاهر كلام الطبري هنا يدل على أن قوله: "لم يك" بتسكين الكاف، على توهم أن إعراب هذه الكلمة في الكاف، فسكنها لما دخل عليها الجازم. ولم أجد هذا القول في كتاب مما بين يدي من الكتب، وأخشى أن يكون في نص الطبري في هذا المكان سقط لم أتبينه.(3/79)
"مناسكه"، لأنها أمارات وعلامات يعتادها الناس، ويترددون إليها.
* * *
وأصل"المنسك" في كلام العرب: الموضع المعتاد الذي يعتاده الرجل ويألفه، يقال:"لفلان منسك"، وذلك إذا كان له موضع يعتاده لخير أو شر. ولذلك سميت"المناسك""مناسك"، لأنها تعتاد، ويتردد إليها بالحج والعمرة، وبالأعمال التي يتقرب بها إلى الله.
* * *
وقد قيل: إن معنى"النسك": عبادة الله. وأن"الناسك" إنما سمي"ناسكا" بعبادة ربه.
فتأول قائلو هذه المقالة. قوله:"وأرنا مناسكنا"، وعلمنا عبادتك، كيف نعبدك؟ وأين نعبدك؟ وما يرضيك عنا فنفعله؟
وهذا القول، وإن كان مذهبا يحتمله الكلام، فإن الغالب على معنى"المناسك" ما وصفنا قبل، من أنها"مناسك الحج" التي ذكرنا معناها.
* * *
وخرج هذا الكلام من قول إبراهيم وإسماعيل على وجه المسألة منهما ربهما لأنفسهما. وإنما ذلك منهما مسألة ربهما لأنفسهما وذريتهما المسلمين. فلما ضما ذريتهما المسلمين إلى أنفسهما، صارا كالمخبرين عن أنفسهما بذلك. (1) وإنما قلنا إن ذلك كذلك، لتقدم الدعاء منهما للمسلمين من ذريتهما قبل في أول الآية، وتأخره بعد في الآية الأخرى. فأما الذي في أول الآية فقولهما:"ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك"، ثم جمعا أنفسهما والأمة المسلمة من ذريتهما، في مسألتهما ربهما أن يريهم مناسكهم فقالا"وأرنا مناسكنا". وأما التي في الآية التي بعدها:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، فجعلا المسألة لذريتهما خاصة.
__________
(1) في المطبوعة: "عن أنفسهم بذلك"، والصواب ما أثبت.(3/80)
وقد ذكر أنها في قراءة ابن مسعود:"وأرهم مناسكهم"، يعني بذلك وأر ذريتنا المسلمة مناسكهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) }
قال أبو جعفر: أما"التوبة"، فأصلها الأوبة من مكروه إلى محبوب. فتوبة العبد إلى ربه، أوبته مما يكرهه الله منه، بالندم عليه، والإقلاع عنه، والعزم على ترك العود فيه. وتوبة الرب على عبده: عوده عليه بالعفو له عن جرمه، والصفح له عن عقوبة ذنبه، مغفرة له منه، وتفضلا عليه. (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: وهل كان لهما ذنوب فاحتاجا إلى مسألة ربهما التوبة؟
قيل: إنه ليس أحد من خلق الله، إلا وله من العمل -فيما بينه وبين ربه- ما يجب عليه الإنابة منه والتوبة. فجائز أن يكون ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما خَصَّا به الحال التي كانا عليها، (2) من رفع قواعد البيت. لأن ذلك كان أحرى الأماكن أن يستجيب الله فيها دعاءهما، وليجعلا ما فعلا من ذلك سنة يقتدى بها بعدهما، وتتخذ الناس تلك البقعة بعدهما موضع تنصل من الذنوب إلى الله. وجائز أن يكونا عنيا بقولهما:"وتب علينا"، وتب على الظلمة من أولادنا وذريتنا -الذين أعلمتنا أمرهم- من ظلمهم وشركهم، حتى ينيبوا إلى طاعتك. فيكون ظاهر الكلام على الدعاء لأنفسهما، والمعني به ذريتهما. كما
__________
(1) انظر معنى"التوبة" فيما سلف 1: 547/2: 72-73.
(2) في المطبوعة: "ما كان من قبلهما ما قالا من ذلك، وإنما خصا. . . "، وهو كلام فاسد والصواب ما أثبت. يجعل"قبلهما"، أي قولهما. وبحذف الواو من: "وإنما".(3/81)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
يقال:"أكرمني فلان في ولدي وأهلي، وبرني فلان"، إذا بر ولده.
* * *
وأما قوله:"إنك أنت التواب الرحيم"، فإنه يعني به: إنك أنت العائد على عبادك بالفضل، والمتفضل عليهم بالعفو والغفران - الرحيم بهم، المستنقذ من تشاء منهم برحمتك من هلكته، المنجي من تريد نجاته منهم برأفتك من سخطك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ}
قال أبو جعفر: وهذه دعوة إبراهيم وإسماعيل لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم خاصة، وهي الدعوة التي كان نبينا صلى الله عليه وسلم يقول:"أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى":-
2070- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن محمد بن إسحاق، عن ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان الكلاعي: أن نفرا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك. قال: نعم، أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى عيسى، صلى الله عليه وسلم. (1)
__________
(1) الحديث: 2070- ثور بن يزيد الكلاعي الحمصي. ثقة من أثبت الرواة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/2/180-181، وابن أبي حاتم 1/1/468-469.
خالد بن معدان الكلاعي الحمصي: تابعي ثقة ثبت، مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/161-162، وابن سعد 7/2/162، وابن أبي حاتم 1/2/351.
وهذا الإسناد مرسل، لأن خالد بن معدان لم يذكر أنه عن أحد من الصحابة. وكذلك هو في سيرة ابن هشام، (ص 106-107 طبعة أوربة، 1: 175 طبعة الحلبي) . في قصة مطولة. وكذلك رواه الطبري في التاريخ 2: 130، بهذا الإسناد، مطولا أيضًا، مرسلا.
ولكنه ثبت موصولا، من رواية ابن إسحاق أيضًا: فرواه الحاكم في المستدرك 2: 600، من طريق يونس بن بكير، عن ابن إسحاق قال، "حدثني ثور بن يزيد، عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنهم قالوا: يا رسول الله أخبرنا عن نفسك؟ ". . فذكر الحديث مختصرا، بنحو مما هنا. ثم قال الحاكم: "خالد بن معدان: من خيار التابعين، صحب معاذ بن جبل، فمن بعده من الصحابة. فإذا أسند حديثا إلى الصحابة، فإنه صحيح الإسناد، وإن لم يخرجاه". ووافقه الذهبي على تصحيحه.(3/82)
2071- حدثني عمران بن بكار الكلاعي قال، حدثنا أبو اليمان قال، حدثنا أبو كريب، عن أبي مريم، عن سعيد بن سويد، عن العرباض بن سارية السلمي قال، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إني عند الله في أم الكتاب، خاتم النبيين، وإن آدم لمنجدل في طينته. وسوف أنبئكم بتأويل ذلك: أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشارة عيسى قومه، ورؤيا أمي. (1)
2072- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن وهب قال، أخبرني معاوية -، وحدثني عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني قال، حدثني أبي قال، حدثنا
__________
(1) الحديث: 2071- عمران بن بكار الكلاعي: ثقة، من شيوخ النسائي، ووثقه هو وغيره. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/294، وذكر أنه سمع منه. وقد مضت رواية الطبري عنه: 149 ولم نترجمه هناك. ووقع في التهذيب أنه مات"سنة إحدى وسبعين ومائة"! وهو خطأ ناسخ أو طابع، لا يعقل ذلك وأن يسمع منه النسائي والطبري وهذه الطبقة. وصحته: سنة 271.
أبو اليمان: هو الحكم بن نافع الحمصي، وهو ثقة من شيوخ أحمد بن حنبل والبخاري. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/342، وابن أبي حاتم 1/2/129، وقال: "وهو نبيل ثقة صدوق".
أما قوله"حدثنا أبو كريب" - هنا: فإنه خطأ يقينا من الناسخين. فإن"أبا كريب محمد بن العلاء" - وقد مضت ترجمته: 1291- متأخر عن أبي اليمان. هذه واحدة، وأخرى، أن أبا اليمان روى هذا الحديث عن ابن أبي مريم، كما سيأتي. فإما أنه ذكر خطأ من الناسخ، وإما أن يكون صوابه"وأبو كريب، قالا: حدثنا". فيكون عمران بن بكار رواه عن شيخين.
ابن أبي مريم: هو"أبو بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي"، وهو ضعيف، من قبل سوء حفظه وتغيره، كما بينا في شرح المسند: 1464، 6165. ووقع هنا في المطبوعة"عن أبي مريم" بحذف"ابن". وهو خطأ واضح. ثم إن ضعف"ابن أبي مريم" من قبل حفظه، قد جبر في هذا الحديث، بأن رواه غيره. ولكنه أخطأ فيه بحذف التابعي من إسناده.
سعيد بن سويد الكلبي الشامي: وهو تابعي ثقة، سمع من بعض الصحابة ولقيهم. ولكن ابن حبان ذكره في الثقات (ص: 475) في أتباع التابعين. ترجمه الحافظ في التعجيل: 152، وأشار إلى هذا الحديث، ونقل أن البخاري قال: "لم يصح حديثه". وما أدري أين قاله البخاري، فإنه لم يترجمه في الصغير، ولم يذكره في الضعفاء. وترجمه في الكبير 2/1/436، ولم يذكر فيه جرحا. وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/29، ولم يذكر فيه جرحا أيضًا. وإنما اختلف عنه الراويان - في هذا الإسناد والإسنادين بعده: أهو"عن العرباض"، أم بينهما تابعي آخر؟ فأخطأ ابن أبي مريم في حذف التابعي بين سعيد والعرباض. كما سيأتي، إن شاء الله.(3/83)
الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح - قالا جميعا، عن سعيد بن سويد، عن عبد الله بن هلال السلمي، عن عرباض بن سارية السلمي، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
2073- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن سعيد بن سويد، عن عبد الأعلى بن هلال السلمي، عن عرباض بن سارية: أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول، فذكر نحوه. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 2072- وهذا إسناد آخر للحديث قبله، بل إسنادان: فرواه الطبري عن يونس بن عبد الأعلى، عن ابن وهب، ثم رواه عن عبيد بن آدم العسقلاني، عن أبيه، عن الليث بن سعد - وابن وهب والليث روياه عن معاوية بن صالح.
وأولهما واضح. و"عبيد بن آدم بن أبي إياس العسقلاني" - في ثانيهما: ثقة، روى عنه أيضًا أبو زرعة وأبو حاتم، والنسائي، وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/402. وأبوه"آدم بن أبي إياس". مضت ترجمته: 187. والليث بن سعد: ومعاوية بن صالح: مضت ترجمته: 187 أيضًا.
(2) الحديث: 2073- وهذا إسناد آخر للحديث السابق. و"أبو صالح": هو عبد الله بن صالح، كاتب الليث بن سعد. مضت ترجمته: 186. عبد الأعلى بن هلال السلمي: هكذا اختلف في اسمه على معاوية بن صالح، في الإسناد السابق وهذا الإسناد: فهنالك"عبد الله بن هلال"، وهنا"عبد الأعلى بن هلال". وأنا أرجح أنه"عبد الأعلى" لما سيأتي من الدلائل، إن شاء الله.
وهذا التابعي قصر الحافظ فلم يترجم له في التعجيل في واحد من الاسمين، مع أنه من رجال مسند أحمد، ومع أن سلفه الحافظ الحسيني ترجم له في الإكمال، ص: 64 قال، "عبد الله بن هلال السلمي، ويقال: عبد الأعلى، شامي. روى عن العرباض بن سارية، وأبي أمامة الباهلي. وعنه سويد بن سعيد الكلبي. مجهول"! وما كان الرجل مجهولا قط! وهو مترجم عند ابن أبي حاتم 3/1/25 باسم"عبد الأعلى"، وكذلك ذكره ابن حبان في الثقات، ص: 267، وذكر له هذا الحديث، عن العرباض بن سارية. وكذلك ذكره البخاري في الكبير، في ترجمة"سعيد بن سويد" باسم"عبد الأعلى بن هلال". وكذلك صنع ابن أبي حاتم وابن حبان.
وأيضًا فإن الرواة عن الليث بن سعد اختلفوا عليه كذلك. ففي روايتي أحمد وابن سعد، من طريق الليث: "عبد الأعلى بن هلال"، كما سنذكر.
بل إن عبد الأعلى هذا له ذكر في حديث آخر في المسند (5: 261 حلبي) في مسند أبي أمامة الباهلي، فروى الإمام أحمد بإسناده إلى خالد بن معدان قال، "حضرنا صنيعا لعبد الأعلى بن هلال، فلما فرغنا من الطعام قام أبو أمامة فقال:. . "، إلخ.
وأيا ما كان فهذه الأسانيد صحاح، على الرغم من هذا الاختلاف. وكثيرا ما يكون مثل هذا، ولا أثر له في صحة الحديث.
والحديث - من رواية أبي بكر بن أبي مريم: 2071- رواه أيضًا أحمد في المسند: 17230 (ج 4 ص 127 حلبي) ، عن أبي اليمان الحكم بن نافع، عن أبي بكر، عن سعيد بن سويد، عن العرباض، بنحوه. وآخره عنده: "ورؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، وكذلك ترى أمهات النبيين، صلوات الله عليهم".
وبنحو ذلك - وشيء من الاختصار- رواه الحاكم في المستدرك 2: 600، من طريق أبي اليمان، عن ابن أبي مريم. وصححه هو والذهبي.
ورواه أيضًا الإمام أحمد: 17217 (ج 4 ص 127 حلبي) ، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن"عبد الله بن هلال السلمي"، عن عرباض بن سارية، نحوه. فعبد الرحمن بن مهدي، سمي التابعي"عبد الله" - كما صنع ابن وهب وآدم بن أبي إياس، هنا في روايتهما عن الليث.
ورواه أيضًا الإمام أحمد: 17218، وابن سعد في الطبقات 1/1/95-96، كلاهما عن أبي العلاء الحسن بن سوار الخراساني، عن الليث بن سعد، عن معاوية بن صالح، عن سعيد بن سويد، عن"عبد الأعلى بن هلال السلمي"، عن العرباض.
وقد ذكر الهيثمي هذا الحديث في مجمع الزوائد 8: 223، بألفاظ عن العرباض. ثم قال: "رواه أحمد بأسانيد، والبزار، والطبراني بنحوه. . . وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح، غير سعيد بن سويد، وقد وثقه ابن حبان".
وهو أيضًا عند السيوطي 1: 139، ونسبه -زيادة على ما ذكرنا- لابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل.
وبعد: فإن للحديث شاهدا آخر، يصلح للاستشهاد، مع ضعف في إسناده:
فروى أبو داود الطيالسي في مسنده: 1140، عن الفرج بن فضالة، عن لقمان بن عامر، عن أبي أمامة الباهلي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، نحو هذا الحديث.
وكذلك رواه الإمام أحمد في المسند (5: 262 حلبي) ، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن الفرج بن فضالة. بهذا الإسناد. والفرج بن فضالة: ضعيف، كما قلنا في: 1688.
وذكره السيوطي 1: 139، ونسبه أيضًا للطبراني، وابن مردويه، والبيهقي.(3/84)
وبالذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
2074 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، ففعل الله ذلك، فبعث فيهم رسولا من أنفسهم يعرفون وجهه ونسبه، يخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراط العزيز الحميد.(3/85)
2075- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، هو محمد صلى الله عليه وسلم.
2076- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع:"ربنا وابعث فيهم رسولا منهم"، هو محمد صلى الله عليه وسلم، فقيل له: قد استجيب ذلك، وهو في آخر الزمان.
* * *
قال أبو جعفر: ويعني تعالى ذكره بقوله:"يتلو عليهم آياتك": يقرأ عليهم كتابك الذي توحيه إليه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {َ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ}
قال أبو جعفر: ويعني ب"الكتاب": القرآن.
وقد بينت فيما مضى لم سمي القرآن"كتابا"، وما تأويله. (2) وهو قول جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
2077- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"ويعلمهم الكتاب"، القرآن.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الحكمة" التي ذكرها الله في هذا الموضع.
فقال بعضهم: هي السنة.
ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر معاني"تلا" فيما سلف 2: 409- 411، 569.
(2) انظر ما سلف 1: 97، 99.(3/86)
2078- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة""والحكمة"، أي السنة.
* * *
وقال بعضهم:"الحكمة"، هي المعرفة بالدين والفقه فيه.
ذكر من قال ذلك:
2079- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: المعرفة بالدين، والفقه في الدين، والاتباع له.
2080- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"والحكمة" قال،"الحكمة"، الدين الذي لا يعرفونه إلا به صلى الله عليه وسلم، يعلمهم إياها. قال: و"الحكمة"، العقل في الدين وقرأ: (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا) [سورة البقرة: 269] ، وقال لعيسى، (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإنْجِيلَ) [سورة آل عمران: 48] قال، وقرأ ابن زيد: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا) [سورة الأعراف: 175] قال، لم ينتفع بالآيات، حيث لم تكن معها حكمة. قال:"والحكمة" شيء يجعله الله في القلب، ينور له به.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندنا في"الحكمة"، أنها العلم بأحكام الله التي لا يدرك علمها إلا ببيان الرسول صلى الله عليه وسلم، والمعرفة بها، وما دل عليه ذلك من نظائره. وهو عندي مأخوذ من"الحكم" الذي بمعنى الفصل بين الحق والباطل، بمنزلة "الجِلسة والقِعدة" من "الجلوس والقعود"، يقال منه:"إن فلانا لحكيم بين الحكمة"، يعني به: إنه لبين الإصابة في القول والفعل.
وإذا كان ذلك كذلك، فتأويل الآية: ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو(3/87)
عليهم آياتك، ويعلمهم كتابك الذي تنزله عليهم، وفصل قضائك وأحكامك التي تعلمه إياها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَيُزَكِّيهِمْ}
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى قبل على أن معنى"التزكية": التطهير، وأن معنى"الزكاة"، النماء والزيادة. (1)
فمعنى قوله:"ويزكيهم" في هذا الموضع: ويطهرهم من الشرك بالله وعبادة الأوثان، وينميهم ويكثرهم بطاعة الله، كما:-
2081- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يتلو عليهم آياتك ويزكيهم" قال، يعني بالزكاة، طاعة الله والإخلاص.
2082- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج قال، قال ابن جريج قوله:"ويزكيهم" قال، يطهرهم من الشرك، ويخلصهم منه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: إنك يا رب أنت"العزيز" القوي الذي لا يعجزه شيء أراده، فافعل بنا وبذريتنا ما سألناه وطلبناه منك؛ و"الحكيم" الذي لا يدخل تدبيره خلل ولا زلل، فأعطنا ما ينفعنا وينفع ذريتنا، ولا ينقصك ولا ينقص خزائنك.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 573-574.(3/88)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ومن يرغب عن ملة إبراهيم"، وأي الناس يزهد في ملة إبراهيم، ويتركها رغبة عنها إلى غيرها؟ (1)
* * *
وإنما عنى الله بذلك اليهود والنصارى، لاختيارهم ما اختاروا من اليهودية والنصرانية على الإسلام. لأن"ملة إبراهيم" هي الحنيفية المسلمة، كما قال تعالى ذكره: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) [سورة آل عمران: 67] ، فقال تعالى ذكره لهم: ومن يزهد عن ملة إبراهيم الحنيفية المسلمة إلا من سفه نفسه، كما:-
2083- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه"، رغب عن ملته اليهود والنصارى، واتخذوا اليهودية والنصرانية، بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم -يعني الإسلام- حنيفا؛ كذلك بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم.
2084- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ومن يرغبث عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه" قال، رغبت اليهود والنصارى عن ملة إبراهيم، وابتدعوا اليهودية والنصرانية، وليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم: الإسلام.
* * *
__________
(1) سيأتي تفسير"الملة" بعد صفحات ص: 104.(3/89)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إلا من سفه نفسه"، إلا من سفهت نفسه. وقد بينا فيما مضى أن معنى"السفه"، الجهل. (1)
فمعنى الكلام: وما يرغب عن ملة إبراهيم الحنيفية، إلا سفيه جاهل بموضع حظ نفسه فيما ينفعها، ويضرها في معادها، كما:-
2085- حدثني يونس قال أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا من سفه نفسه" قال، إلا من أخطأ حظَّه.
* * *
وإنما نصب"النفس" على معنى المفسر. ذلك أن"السفه" في الأصل للنفس، فلما نقل إلى"من"، نصبت"النفس"، بمعنى التفسير. (2) كما يقال:"هو أوسعكم دارا"، فتدخل"الدار" في الكلام على أن السعة فيها، لا في الرجل. فكذلك"النفس" أدخلت لأن السفه للنفس لا ل"من". ولذلك لم يجز أن يقال: سفه أخوك. وإنما جاز أن يفسر بالنفس، وهي مضافة إلى معرفة، لأنها في تأويل نكرة. (3)
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: إن قوله:"سفه نفسه" جرت مجرى"سفه" إذا كان الفعل غير متعد، وإنما عداه إلى"نفسه" و"رأيه" وأشباه ذلك مما هو في المعنى نحو"سفه"، إذا هو لم يتعد. فأما"غبن" و"خسر" فقد يتعدى إلى غيره، يقال:"غبن خمسين، وخسر خمسين".
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 293-295.
(2) التفسير والمفسر: يعني التمييز، ويقال له أيضًا "التبيين".
(3) انظر بيان ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 79، واللسان (سفه) .(3/90)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولقد اصطفيناه في الدنيا"، ولقد اصطفينا إبراهيم. و"الهاء" التي في قوله:"اصطفيناه"، من ذكر إبراهيم.
* * *
و"الاصطفاء""الافتعال" من"الصفوة"، وكذلك"اصطفين"ا"افتعلنا" منه، صيرت تاؤها طاء لقرب مخرجها من مخرج الصاد.
ويعني بقوله:"اصطفيناه": اخترناه واجتبيناه للخلة، (1) ونصيره في الدنيا لمن بعده إماما.
* * *
وهذا خبر من الله تعالى ذكره عن أن من خالف إبراهيم فيما سن لمن بعده، فهو لله مخالف، وإعلام منه خلقه أن من خالف ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، فهو لإبراهيم مخالف. وذلك أن الله تعالى ذكره أخبر أنه اصطفاه لخلته، وجعله للناس إماما، وأخبر أن دينه كان الحنيفية المسلمة. ففي ذلك أوضح البيان من الله تعالى ذكره عن أن من خالفه فهو لله عدو لمخالفته الإمام الذي نصبه الله لعباده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وإنه في الآخرة لمن الصالحين"، وإن إبراهيم في الدار الآخرة لمن الصالحين.
* * *
و"الصالح" من بني آدم: هو المؤدي حقوق الله عليه.
__________
(1) الخلة (بضم فتشديد) : الصداقة والمحبة. والخليل: الصديق الحبيب. وهي هنا منزلة من منازل محبة الله لبعض عباده الذين اصطفاهم وأحبهم.(3/91)
إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131)
فأخبر تعالى ذكره عن إبراهيم خليله، أنه في الدنيا صفي، وفي الآخرة ولي، وأنه وارد موارد أوليائه الموفين بعهده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذ قال له ربه أسلم"، إذ قال له ربه: أخلص لي العبادة، واخضع لي بالطاعة، وقد دللنا فيما مضى على معنى"الإسلام" في كلام العرب، فأغنى عن إعادته. (1)
* * *
وأما معنى قوله:"قال أسلمت لرب العالمين"، فإنه يعني تعالى ذكره، قال إبراهيم مجيبا لربه: خضعت بالطاعة، وأخلصت العبادة، لمالك جميع الخلائق ومدبرها دون غيره.
* * *
فإن قال قائل: قد علمت أن"إذ" وقت، فما الذي وقت به؟ وما الذي هو له صلة. (2)
قيل: هو صلة لقوله:"ولقد اصطفيناه في الدنيا". وتأويل الكلام: ولقد اصطفيناه في الدنيا، حين قال له ربه: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين. وإنما معنى الكلام: ولقد اصطفيناه في الدنيا حين قلنا له: أسلم. قال: أسلمت لرب العالمين. فأظهر اسم"الله" في قوله:"إذ قال له ربه أسلم"، على وجه الخبر
__________
(1) انظر ما سلف 2: 510، 511، وهذا الجزء 3: 74.
(2) في المطبوعة: "وما الذي صلته". والصواب ما أثبت.(3/92)
وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
عن غائب، وقد جرى ذكره قبل على وجه الخبر عن نفسه، كما قال خُفاف بن ندبة:
أقول له - والرمح يأطر متنه: ... تأمل خفافا إنني أنا ذالكا (1)
* * *
ءفإن قال لنا قائل: وهل دعا اللهُ إبراهيمَ إلى الإسلام؟
قيل له: نعم، قد دعاه إليه.
فإن قال: وفي أي حال دعاه إليه؟
قيل حين قال: (يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) [سورة الأنعام: 78-79] ، وذلك هو الوقت الذي قال له ربه: أسلم - من بعد ما امتحنه بالكواكب والقمر والشمس. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ووصى بها"، ووصى بهذه الكلمة. عنى ب"الكلمة" قوله (3) "أسلمت لرب العالمين"، وهي"الإسلام"
__________
(1) سلف تخريج هذا البيت في 1: 227/ 2: 304.
(2) قرأ الآيات من سورة الأنعام: 74-78.
(3) في المطبوعة: "أعني بالكلمة"، وهو خطأ محض.(3/93)
الذي أمر به نبيه صلى الله عليه وسلم، وهو إخلاص العبادة والتوحيد لله، وخضوع القلب والجوارح له. (1)
* * *
ويعني بقوله:"ووصى بها إبراهيم بنيه"، عهد إليهم بذلك وأمرهم به.
* * *
وأما قوله:"ويعقوب"، فإنه يعني: ووصى بذلك أيضا يعقوبُ بنيه، كما:-
2086- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب"، يقول: ووصى بها يعقوب بنيه بعد إبراهيم.
2087- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"ووصى بها إبراهيم بنيه"، وصاهم بالإسلام، ووصى يعقوب بمثل ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وقال بعضهم: قوله: (ووصى بها إبراهيم بنيه) ، خبر منقض. وقوله:"ويعقوب" خبر مبتدأ. فإنه قال:"ووصى بها إبراهيم بنيه". بأن يقولوا: أسلمنا لرب العالمين - ووصى يعقوب بنيه: أن:"يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون".
ولا معنى لقول من قال ذلك. لأن الذي أوصى به يعقوب بنيه، نظير الذي أوصى به إبراهيم بنيه: من الحث على طاعة الله، والخضوع له، والإسلام.
* * *
فإن قال قائل: فإن كان الأمر على ما وصفت: من أن معناه: ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب: أن"يا بني" - فما بال"أن" محذوفة من الكلام؟
قيل: لأن الوصية قول، فحملت على معناها. وذلك أن ذلك لو جاء بلفظ
__________
(1) انظر تفسير"الإسلام" قبل 2: 510، 511، وهذا الجزء 3: 74، 92.(3/94)
القول، لم تحسن معه"أن"، وإنما كان يقال: وقال إبراهيم لبنيه ويعقوب:"يا بني". فلما كانت الوصية قولا حملت على معناها دون لفظها، (1) فحذفت"أن" التي تحسن معها، كما قال تعالى ذكره: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنْثَيَيْنِ) [سورة النساء: 11] ، وكما قال الشاعر:
إني سأبدي لك فيما أبدي ... لي شجنان شجن بنجد ... وشجن لي ببلاد السند (2)
فحذفت"أن"، إذ كان الإبداء باللسان في المعنى قولا فحمله على معناه دون لفظه. (3)
* * *
وقد قال بعض أهل العربية: إنما حذفت"أن" من قوله:"ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب"، اكتفاء بالنداء - يعني بالنداء قوله:"يا بني" وزعم أن علته في ذلك أن من شأن العرب الاكتفاء بالأدوات عن"أن"، كقولهم:"ناديت هل قمت؟ - وناديت أين زيد؟ ". قال: وربما أدخلوها مع الأدوات. فقالوا:"ناديت، أن هل قمت؟ ".
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "على معناها دون قولها"، وهو خطأ صوابه ما أثبت.
(2) معاني القرآن للفراء 1: 80، 180، ولسان العرب (شجن) . وقوله"شجن": هوى النفس، والحاجة. وهو مجاز من"الشجن" الذي هو الحزن والهم. وكنوا به عن المرأة المحبوبة التي تشغل القلب بالهم والحزن، من فراق أو دلال أو تجن، يقول مسلم بن الوليد الأنصاري: وسرب من الأشجان يطوى له الحشا ... على شرق، من يلقه يتبلد
يعني نساء، وقال أيضًا: أطال عمري، أم مد في أجلي، ... أم ليس في الظاعنين لي شجن?
أي امرأة أحبها، وهوى يحزنني فراقه وبعده؟
(3) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1: 80-81.(3/95)
وقد قرأ جماعة من القرأة:"وأوصى بها إبراهيم"، بمعنى: عهد.
وأما من قرأ"ووصى" مشددة، فإنه يعني بذلك أنه عهد إليهم عهدا بعد عهد، وأوصى وصية بعد وصية.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إن الله اصطفى لكم الدين"، إن الله اختار لكم هذا الدين الذي عهد إليكم فيه، واجتباه لكم. (1)
* * *
وإنما أدخل"الألف واللام" في"الدين"، لأن الذين خوطبوا من ولدهما وبنيهما بذلك، كانوا قد عرفوه بوصيتهما إياهم به، وعهدهما إليهم فيه، ثم قالا لهم -بعد أن عرفاهموه-: إن الله اصطفى لكم هذا الدين الذي قد عهد إليكم فيه، فاتقوا الله أن تموتوا إلا وأنتم عليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) }
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: أوَ إلَى بني آدمَ الموتُ والحياةُ، فينهى أحدُهم أن يموت إلا على حالة دون حالة؟
قيل له: إن معنى ذلك على غير الوجه الذي ظننتَ. وإنما معنى (2) "فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، أي: فلا تفارقوا هذا الدين -وهو الإسلام- أيام حياتكم. وذلك أن أحدا لا يدري متى تأتيه منيتُه، فلذلك قالا لهم:"فلا تموتن إلا وأنتم
__________
(1) انظر معنى"الاصطفاء" فيما سلف قريبا: 91.
(2) في المطبوعة: "وإنما معناه"، والصواب ما أثبت.(3/96)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133)
مسلمون"، لأنكم لا تدرون متى تأتيكم مناياكم من ليل أو نهار، فلا تفارقوا الإسلام، فتأتيكم مناياكم وأنتم على غير الدين الذي اصطفاه لكم ربكم فتموتوا وربُّكم ساخط عليكم، فتهلكوا.
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أم كنتم شهداء"، أكنتم. ولكنه استفهم ب"أم"، إذ كان استفهاما مستأنفا على كلام قد سبقه، كما قيل: (الم * تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [سورة السجدة: 1-3] وكذلك تفعل العرب في كل استفهام ابتدأته بعد كلام قد سبقه، تستفهم فيه ب"أم". (1)
* * *
"والشهداء" جمع"شهيد"، كما"الشركاء" جمع"شريك" و"الخصماء" جمع"خصيم". (2)
* * *
قال أبو جعفر وتأويل الكلام: أكنتم -يا معشر اليهود والنصارى، المكذبين بمحمد صلى الله عليه وسلم، الجاحدين نبوته-، حضورَ يعقوبَ وشهودَه إذ حضره الموت، أي إنكم لم تحضروا ذلك، فلا تدعوا على أنبيائي ورسلي الأباطيل، وتَنحلوهم اليهوديةَ والنصرانية، فإني ابتعثت خليلي إبراهيم -وولده إسحاق وإسماعيل وذريتهم- بالحنيفية المسلمة، وبذلك وصَّوْا بنيهم، وبه عهدوا إلى أولادهم من بعدهم. فلو حضرتموهم
__________
(1) استوفى الطبري حديث"أم" فيما سلف 2: 492-494 وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 56.
(2) مضى تفسير"الشهداء" في 1: 376-378.(3/97)
فسمعتم منهم، علمتم أنهم على غير ما نحلتموهم من الأديان والملل من بعدهم (1) .
* * *
وهذه آيات نزلت، تكذيبا من الله تعالى لليهود والنصارى في دعواهم في إبراهيم وولده يعقوب: أنهم كانوا على ملتهم، فقال لهم في هذه الآية:"أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت"، فتعلموا ما قال لولده وقال له ولده؟ ثم أعلمهم ما قال لهم وما قالوا له. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
2088- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"أم كنتم شهداء"، يعني أهل الكتاب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذ قال لبنيه"، إذ قال يعقوب لبنيه".
* * *
و"إذ" هذه مكررة إبدالا من"إذ" الأولى، بمعنى: أم كنتم شهداء يعقوب، إذ قال يعقوب لبنيه حين حضور موته.
* * *
ويعني بقوله:"ما تعبدون من بعدي" - أي شيء تعبدون،"من بعدي"؟ أي من بعد وفاتي؟ قالوا:"نعبد إلهك"، يعني به: قال بنوه له: نعبد معبودك الذي تعبده، ومعبود آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق،"إلها واحدا" أي: ن
__________
(1) في المطبوعة: "علىغير ما تنحلوهم"، والصواب ما أثبت".(3/98)
خلص له العبادة، ونوحد له الربوبية، فلا نشرك به شيئا، ولا نتخذ دونه ربا.
* * *
ويعني بقوله:"ونحن له مسلمون"، ونحن له خاضعون بالعبودية والطاعة.
ويحتمل قوله:"ونحن له مسلمون"، أن تكون بمعنى الحال، كأنهم قالوا: نعبد إلهك مسلمين له بطاعتنا وعبادتنا إياه. ويحتمل أن يكون خبرا مستأنفا، فيكون بمعنى: نعبد إلهك بعدك، ونحن له الآن وفي كل حال مسلمون.
* * *
وأحسن هذين الوجهين -في تأويل ذلك- أن يكون بمعنى الحال، وأن يكون بمعنى: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق، مسلمين لعبادته.
* * *
وقيل: إنما قدم ذكر إسماعيل على إسحاق، لأن إسماعيل كان أسن من إسحاق.
ذكر من قال ذلك:
2089- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق" قال، يقال: بدأ بإسماعيل لأنه أكبر.
* * *
وقرأ بعض المتقدمين:"وإله أبيك إبراهيم"، ظنا منه أن إسماعيل، إذ كان عما ليعقوب، فلا يجوز أن يكون فيمن تُرجم به عن الآباء، وداخلا في عدادهم. وذلك من قارئه كذلك، قلة علم منه بمجاري كلام العرب. والعرب لا تمتنع من أن تجعل الأعمام بمعنى الآباء، والأخوال بمعنى الأمهات. (1) فلذلك دخل إسماعيل فيمن تُرجم به عن الآباء. وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق، ترجمةٌ عن الآباء في موضع جر، ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون (2) .
* * *
__________
(1) وانظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 57، وقوله: "والعرب تجعل العم والخال أبا".
(2) "الترجمة" وما اشتق منها: هي"البدل"، كما سلف آنفًا 2: 340، 420، وهذا الجزء 3: 52 وقوله: "ولكنهم نصبوا بأنهم لا يجرون"، بمعنى أنها أسماء ممنوعة من الصرف، كما هو بين، ولكنه تعبير مليح.(3/99)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
والصواب من القراءة عندنا في ذلك:"وإله آبائك"، لإجماع القراء على تصويب ذلك، وشذوذ من خالفه من القراء ممن قرأ خلاف ذلك.
* * *
ونصب قوله:"إلها"، على الحال من قوله:"إلهك".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره. بقوله:"تلك أمة قد خلت"، إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم.
يقول لليهود والنصارى: يا معشر اليهود والنصارى، دَعوا ذكر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والمسلمين من أولادهم بغير ما هم أهله، ولا تنحلوهم كفر اليهودية والنصرانية، فتضيفونها إليهم، فإنهم أمة - ويعني: ب"الأمة" في هذا الموضع: الجماعةَ والقرنَ من الناس (1) - قد خلت: مضت لسبيلها.
* * *
وإنما قيل للذي قد مات فذهب:"قد خلا"، لتخليه من الدنيا وانفراده، عما كان من الأنس بأهله وقرنائه في دنياه. (2)
وأصله من قولهم:"خلا الرجل"، إذا صار بالمكان الذي لا أنيس له فيه، وانفرد من الناس. فاستعمل ذلك في الذي يموت، على ذلك الوجه.
* * *
ثم قال تعالى ذكره لليهود والنصارى: إن لمن نحلتموه - ضلالكم وكفركم الذي أنتم عليه (3) - من أنبيائي ورسلي، ما كسب (4) .
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"أمة" 1: 221، وهذا الجزء 3: 74.
(2) في المطبوعة: "بما كان من الأنس"، والصواب ما أثبت: أي: تخليه عما كان من الأنس بأهله. .
(3) في المطبوعة: "بضلالكم وكفركم" بزيادة الباء، وسياق الطبري يقتضي حذف هذه الباء.
(4) في المطبوعة: "كسبت"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.(3/100)
"والهاء والألف" في قوله:"لها"، عائدة إن شئت على"تلك"، وإن شئت على"الأمة".
* * *
ويعني بقوله:"لها ما كسبت"، أي ما عملت من خير، (1) . ولكم يا معشر اليهود والنصارى مثل ذلك ما عملتم، ولا تؤاخذون أنتم - أيها الناحلون ما نحلتموهم من الملل - فتسألوا عما كان إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وولدهم يعملون. فيكسبون من خير وشر، لأن لكل نفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت. فدعوا انتحالهم وانتحال مللهم، فإن الدعاوَى غيرُ مغنيتكم عند الله، وإنما يغني عنكم عنده ما سلف لكم من صالح أعمالكم، إن كنتم عملتموها وقدمتموها.
* * *
__________
(1) انظر معنى"الكسب" فيما سلف 2: 273-274.(3/101)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: "وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا"، وقالت اليهود لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه من المؤمنين: كونوا هودا تهتدوا؛ وقالت النصارى لهم: كونوا نصارى تهتدوا.
* * *
تعني بقولها:"تهتدوا"، أي تصيبوا طريق الحق، (1) . كما:-
2090- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير - وحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة - جميعا، عن ابن إسحاق، قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى
__________
(1) انظر معاني"الهدى" فيما سلف 1: 166-170، 230، 249، 549-551/2: 393.(3/101)
زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما الهدى إلا ما نحن عليه! فاتبعنا يا محمد تهتد! وقالت النصارى مثل ذلك. فأنزل الله عز وجل فيهم:"وقالوا كونوا هودا أو نصارى تهتدوا قل بل ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين". (1)
* * *
قال أبو جعفر: احتج الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم أبلغ حجة وأوجزها وأكملها، وعلمها محمدا نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، قل - للقائلين لك من اليهود والنصارى ولأصحابك:"كونوا هودا أو نصارى تهتدوا" -: بل تعالوا نتبع ملة إبراهيم التي يجمع جميعنا على الشهادة لها بأنها دين الله الذي ارتضاه واجتباه (2) وأمر به -فإن دينه كان الحنيفية المسلمة- وندع سائر الملل التي نختلف فيها، فينكرها بعضنا، ويقر بها بعضنا. فإن ذلك -على اختلافه- لا سبيل لنا على الاجتماع عليه، كما لنا السبيل إلى الاجتماع على ملة إبراهيم.
* * *
وفي نصب قوله:"بل ملة إبراهيم" أوجه ثلاثة. أحدها: أن يوجه معنى قوله:"وقالوا كونوا هودا أو نصارى"، إلى معنى: وقالوا اتبعوا اليهودية والنصرانية. لأنهم إذ قالوا:"كونوا هودا أو نصارى"، إلى اليهودية والنصرانية دعوهم، ثم يعطف على ذلك المعنى بالملة. فيكون معنى الكلام حينئذ: قل يا محمد، لا نتبع اليهودية والنصرانية، ولا نتخذها ملة، بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا، ثم يحذف"نتبع" الثانية، ويعطف ب"الملة" على إعراب اليهودية والنصرانية.
والآخر: أن يكون نصبه بفعل مضمر بمعنى"نتبع"
والثالث: أن يكون أريد: بل نكون أصحاب ملة إبراهيم، أو أهل ملة
__________
(1) الأثر: 2090- سيرة ابن هشام 2: 198.
(2) في المطبوعة: "تجمع جميعنا"، وهي خطأ، والصواب"يجمع"، من الإجماع.(3/102)
إبراهيم. ثم حذف"الأهل" و"الأصحاب"، وأقيمت"الملة" مقامهم، إذ كانت مؤدية عن معنى الكلام، (1) كما قال الشاعر: (2)
حسبت بغام راحلتي عناقا! ... وما هي، ويب غيرك، بالعناق (3)
يعني: صوت عناق، فتكون"الملة" حينئذ منصوبة، عطفا في الإعراب على"اليهود والنصارى".
* * *
وقد يجوز أن يكون منصوبا على وجه الإغراء، باتباع ملة إبراهيم. (4)
وقرأ بعض القراء ذلك رفعا، فتأويله - على قراءة من قرأ رفعا: بل الهدى ملة إبراهيم.
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 82، ويريد في هذا القول الأخير، أن النصب بقوله"نكون"، التي هي من معنى قوله: "كونوا هودا. . "، ثم حذفت"نكون".
(2) هو ذو الخرق الطهوي، وانظر الاختلاف في اسمه، ومن سمي باسمه في المؤتلف والمختلف: 119، والخزانة 1: 20، 21.
(3) سيأتي في التفسير 2: 56 منسوبا / ثم 4: 60/15: 14 (بولاق) ، ونوادر أبي زيد: 116، ومعاني القرآن للفراء 1: 61 - 62، واللسان (ويب) (عنق) (عقا) (بغم) وغيرها. وهو من أبيات يقولها لذئب تبعه في طريقه، وهي أبيات ساخرة جياد. ألم تعجب لذئب بات يسري ... ليؤذن صاحبا له باللحاق
حسبت بغام راحلتي عناقا! ... وما هي، ويب غيرك، بالعناق
ولو أني دعوتك من قريب ... لعاقك عن دعاء الذئب عاق
ولكني رميتك من بعيد ... فلم أفعل، وقد أوهت بساقي
عليك الشاء، شاء بني تميم، ... فعافقه، فإنك ذو عفاق
وقوله"عناق" في البيت: هي أنثى المعز، وقوله: "ويب" أي ويل. والبغام: صوت الظبية أو الناقة، واستعاره هنا للمعز. وقوله في البيت الثالث"عاق"، أي عائق، فقلب، والعقاق: السرعة في الذهاب بالشيء. عافقه: عالجه وخادعه ثم ذهب به خطفة واحدة.
(4) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 57، وقوله: "عليكم ملة إبراهيم".(3/103)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) }
قال أبو جعفر: و"الملة"، الدين
* * *
وأما"الحنيف"، فإنه المستقيم من كل شيء. وقد قيل: إن الرجل الذي تقبل إحدى قدميه على الأخرى، إنما قيل له"أحنف"، نظرا له إلى السلامة، كما قيل للمهلكة من البلاد"المفازة"، بمعنى الفوز بالنجاة منها والسلامة، وكما قيل للديغ:"السليم"، تفاؤلا له بالسلامة من الهلاك، وما أشبه ذلك.
* * *
فمعنى الكلام إذا: قل يا محمد، بل نتبع ملة إبراهيم مستقيما.
فيكون"الحنيف" حينئذ حالا من"إبراهيم"
* * *
وأما أهل التأويل فإنهم اختلفوا في تأويل ذلك. فقال بعضهم:"الحنيف" الحاج. وقيل: إنما سمي دين إبراهيم الإسلام"الحنيفية"، لأنه أول إمام لزم العباد -الذين كانوا في عصره، والذين جاءوا بعده إلى يوم القيامة- اتباعه في مناسك الحج، والائتمام به فيه. قالوا: فكل من حج البيت فنسك مناسك إبراهيم على ملته، فهو"حنيف"، مسلم على دين إبراهيم.
ذكر من قال ذلك:
2091- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال: حدثنا القاسم بن الفضل، عن كثير أبي سهل، قال: سألت الحسن عن"الحنيفية"، قال: حج البيت.
2092- حدثني محمد بن عبادة الأسدي قال: حدثنا عبد الله بن موسى(3/104)
قال: أخبرنا فضيل، عن عطية في قوله:"حنيفا" قال الحنيف: الحاج. (1)
2093- حدثني الحسين بن علي الصدائي قال: حدثنا أبي، عن الفضيل، عن عطية مثله. (2)
__________
(1) الخبر: 2092- محمد بن عبادة الأسدي، شيخ الطبري: هذا الشيخ مضى مرارا في المطبوعة على أوجه. منها: 645، 1511 باسم"محمد بن عمارة الأسدي"، وذكرنا في ثانيهما أننا لم نجد له ترجمة ولا ذكرا، إلا في رواية الطبري عنه مرارا في التاريخ. ولم نجده في فهارس التاريخ إلا كذلك. ومنها: 1971، باسم"محمد بن عمار"، وصححناه فيه على ما رأينا من قبل"محمد بن عمارة". ولكنه جاء هنا -كما ترى- باسم"محمد بن عبادة". والراجح عندي الآن أنه هو الصواب. فإن يكن ذلك تكن نسخ الطبري في التفسير وفي التاريخ محرفة في كل موضع ذكر فيه على غير هذا النحو.
وهذا الشيخ"محمد بن عبادة بن البختري الأسدي الواسطي": ثقة صدوق، كان صاحب نحو وأدب. وهو من شيوخ البخاري، وأبي حاتم، وأبي داود، وغيرهم. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/17. روى عنه البخاري في الصحيح حديثين، (8: 26، و 9: 93 من الطبعة السلطانية) - (10: 429، و 13: 214 من الفتح) - (9: 53، و 10: 246 من القسطلاني طبعة بولاق الأول) . ونص بهامش السلطانية على أن"عبادة" - في الموضعين: بفتح العين. وكذلك ضبطه الشارحان. قال الحافظ (13: 214) : "بفتح المهملة وتخفيف الموحدة، واسم جده: البختري، بفتح الموحدة وسكون المعجمة وفتح المثناة من فوق، ثقة واسطي، يكنى: أبا جعفر. ما له في البخاري إلا هذا الحديث، وآخر تقدم في كتاب الأدب"، يعني الذي مضى في الفتح (8: 26) .
وكذلك ضبط اسم أبيه، في المشتبه للذهبي: 333، والحافظ في تحرير المشتبه (مخطوط) .
وإنما رجحت -هنا- أنه"محمد بن عبادة": لأن"محمد بن عمارة الأسدي" مفقود ذكره في كتب التراجم والرواية. فيما وصل إليه علمي، ولأن كثيرا من رواياته في التاريخ والتفسير - عن"عبيد الله بن موسى"، كما في التفسير: 1511، والتاريخ 1: 57، و 2: 266، و 3: 76، 78. نعم: يمكن أن يكون هناك شيخ آخر -لم يصل إلينا علمه- باسم"محمد بن عمارة" يتفق مع هذا في شيوخه وفي الرواة عنه. ولكني أرى أن ما ذكرت هو الأرجح.
و"عبيد الله بن موسى": هو العبسي الحافظ الثقة. وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/334-335، وتذكرة الحفاظ 1: 322-323، ووقع اسمه في المطبوعة هنا"عبد الله" وهو تحريف واضح.
فضيل: هو ابن مرزوق الرقاشي: وهو ثقة، رجحنا توثيقه في شرح المسند: 1251، لأن من تكلم فيه، إنما تكلم من أجل أحاديث يرويها عن عطية العوفي - الذي يروى عنه هنا، وعطية ضعيف، كما مضى في: 305.
(2) الخبر: 2093- الحسين بن علي الصدائي -بضم الصاد وتخفيف الدال المهملتين- الأكفاني: ثقة عدل من الصالحين، روى عنه الترمذي والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/2/56، وتاريخ بغداد 8: 67-68.
أبوه"علي بن يزيد بن سليم الصدائي": ثقة أيضًا، تكلم فيه بعضهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/209.(3/105)
2094- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا حكام بن سلم، (1) عن عنبسة، عن محمد بن عبد الرحمن، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال: الحنيف الحاج.
2095- حدثني الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا ابن التيمي، عن كثير بن زياد قال: سألت الحسن عن"الحنيفية"، قال: هو حج هذا البيت.
قال ابن التيمي: وأخبرني جويبر، عن الضحاك بن مزاحم، مثله. (2)
2096- حدثنا ابن بشار قال: حدثنا ابن مهدي قال: حدثنا سفيان، عن السدي، عن مجاهد:"حنفاء" قال: حجاجا. (3)
2097- حدثني المثنى قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"حنيفا" قال: حاجا.
2098- حدثت عن وكيع، عن فضيل بن غزوان، عن عبد الله بن القاسم قال: كان الناس من مضر يحجون البيت في الجاهلية يسمون"حنفاء"، فأنزل الله تعالى ذكره (حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ) . [سورة الحج: 31]
* * *
وقال آخرون:"الحنيف"، المتبع، كما وصفنا قبل، من قول الذين قالوا: إن معناه: الاستقامة.
ذكر من قال ذلك:
2099- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا سفيان،
__________
(1) في المطبوعة"حكام بن سالم"، خطأ. وقد مضى كثيرا في إسناد الطبري.
(2) الخبر: 2095- ابن التيمي: لم أجد نصا يعين من هو؟ ونسبة"التيمي" فيها سعة. وأنا أرجح أن يكون"معتمر بن سليمان بن طرخان التيمي". فإنه من هذه الطبقة، ويروي عنه عبد الرزاق. ولعل عبد الرزاق ذكره بهذه النسبة، لئلا يشتبه باسم معمر. وهو ابن راشد، إذ يكثر عبد الرزاق الرواية عن معمر. فخشي التصحيف لو قال هنا"معتمر". فخرج منه بقوله"ابن التيمي".
(3) انظر ما سيأتي في رقم: 2098، فهذا من تفسير آية سورة الحج المذكورة ثم.(3/106)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"حنفاء" قال: متبعين.
* * *
وقال آخرون: إنما سمي دين إبراهيم"الحنيفية"، لأنه أول إمام سن للعباد الختان، فاتبعه من بعده عليه. قالوا: فكل من اختثن على سبيل اختتان إبراهيم، فهو على ما كان عليه إبراهيم من الإسلام، فهو"حنيف" على ملة إبراهيم. (1)
وقال آخرون:"بل ملة إبراهيم حنيفا"، بل ملة إبراهيم مخلصا."فالحنيف" على قولهم: المخلص دينه لله وحده.
ذكر من قال ذلك:
2100- حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا أحمد بن المفضل قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"واتبع ملة إبراهيم حنيفا"، يقول: مخلصا.
* * *
وقال آخرون: بل"الحنيفية" الإسلام. فكل من ائتم بإبراهيم في ملته فاستقام عليها، فهو"حنيف".
* * *
قال أبو جعفر:"الحنف" عندي، هو الاستقامة على دين إبراهيم، واتباعه على ملته. (2) . وذلك أن الحنيفية لو كانت حج البيت، لوجب أن يكون الذين كانوا يحجونه في الجاهلية من أهل الشرك كانوا حنفاء. وقد نفى الله أن يكون ذلك تحنفا بقوله: (ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من المشركين) [سورة آل عمران: 67]
فكذلك القول في الختان. لأن"الحنيفية" لو كانت هي الختان، لوجب أن يكون اليهود حُنفاء. وقد أخرجهم الله من ذلك بقوله: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا) [سورة آل عمران: 67] .
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 58.
(2) في المطبوعة: "الحنيف عندي هو الاستقامة"، وهو كلام مختلف، صوابه ما أثبت.(3/107)
فقد صحّ إذًا أن"الحنيفية" ليست الختانَ وحدَه، ولا حجَّ البيت وحده، ولكنه هو ما وصفنا: من الاستقامة على ملة إبراهيم، واتباعه عليها، والائتمام به فيها.
* * *
فإن قال قائل: أوَ ما كان مَنْ كان من قبل إبراهيم صلى الله عليه وسلم، من الأنبياء وأتباعهم، مستقيمين على ما أمروا به من طاعة الله استقامةَ إبراهيم وأتباعه؟
قيل: بَلى.
فإن قال: فكيف أضيف"الحنيفية" إلى إبراهيم وأتباعه على ملته خاصة، دون سائر الأنبياء قبله وأتباعهم؟
قيل: إنّ كل من كان قبل إبراهيم من الأنبياء كان حنيفًا متّبعًا طاعة الله، ولكن الله تعالى ذكره لم يجعل أحدًا منهم إمامًا لمن بعده من عباده إلى قيام الساعة، كالذي فعل من ذلك بإبراهيم، فجعله إمامًا فيما بيّنه من مناسك الحج والختان، وغير ذلك من شرائع الإسلام، تعبُّدًا به أبدًا إلى قيام الساعة. وجعل ما سنّ من ذلك عَلَمًا مميّزًا بين مؤمني عباده وكفارهم، والمطيعِ منهم له والعاصي. فسمِّي الحنيفُ من الناس"حنيفًا" باتباعه ملته، واستقامته على هديه ومنهاجه، وسُمِّي الضالُّ من ملته بسائر أسماء الملل، فقيل:"يهودي، ونصرانيّ، ومجوسيّ"، وغير ذلك من صنوف الملل
* * *
وأما قوله: و"ما كانَ مِن المشركين"، يقول: إنه لم يكن ممن يدين بعبادة الأوثان والأصنام، ولا كان من اليهود ولا من النصارى، بل كان حنيفًا مسلمًا.
* * *(3/108)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
القول في تأويل قوله تعالى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"قولوا" -أيها المؤمنون، لهؤلاء اليهودِ والنصارَى، الذين قالوا لكم:"كونوا هُودًا أو نصارى تَهتدوا"-:"آمنا"، أي صدَّقنا"بالله".
وقد دللنا فيما مضى أنّ معنى"الإيمان"، التصديقُ، بما أغنى عن إعادته. (1) .
* * *
"وما أنزل إلينا"، يقول أيضًا: صدّقنا بالكتاب الذي أنزل الله إلى نبيّنا محمد صلى الله عليه وسلم. فأضاف الخطاب بالتنزيل إليهم، إذ كانوا متّبعيه، ومأمورين منهيين به. فكان - وإنْ كان تنزيلا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - بمعنى التنزيل إليهم، للذي لهم فيه من المعاني التي وصفتُ
* * *
ويعني بقوله:"ومَا أنزل إلى إبراهيم"، صدَّقنا أيضًا وآمنا بما أنزل إلى إبراهيم"وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباط"، وهم الأنبياء من ولد يَعقوب.
* * *
وقوله:"ومَا أوتي مُوسَى وعيسى"، يعني: وآمنا أيضًا بالتوراة التي آتاها الله موسى، وبالإنجيل الذي آتاه الله عيسى، والكتب التي آتى النبيين كلهم، وأقرَرنا وصدّقنا أن ذلك كله حَق وهُدى ونور من عند الله، وأن جَميع من ذكر الله من أنبيائه كانوا على حق وهدى، يُصدِّق بعضهم بعضًا، على منهاج واحد في الدعاء إلى توحيد الله، والعمل بطاعته،"لا نُفرِّق بَينَ أحد منهم"، يقول: ل
__________
(1) انظر ما سلف 1: 235-236، ثم 2: 143، 348. . . ومواضع أخرى غيرها.(3/109)
انؤمن ببعض الأنبياء ونكفر ببعض، ونتبرَّأ من بعضٍ ونتولى بعضًا، كما تبرأت اليهودُ من عيسى ومحمد عليهما السلام وأقرّت بغيرهما من الأنبياء، وكما تبرأت النصارَى من محمد صلى الله عليه وسلم وأقرّت بغيره من الأنبياء، بل نشهد لجميعهم أنّهم كانوا رسلَ الله وأنبياءَه، بعثوا بالحق والهدى.
* * *
وأما قوله:"ونحنُ لَهُ مُسلمون"، فإنه يعني تعالى ذكره: ونحنُ له خاضعون بالطاعة، مذعنون له بالعبودية. (1)
* * *
فذُكر أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك لليهود، فكفروا بعيسى وبمن يؤمن به، كما:-
2101- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا يونس بن بكير قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال: حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نَفرٌمن يهود، فيهم أبو ياسر بن أخطب، (2) ورافع بن أبي رافع، وعازر، وخالد، وزيد، وأزار بن أبي أزار، وأشْيَع، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل فقال: أومن بالله وَمَا أنزلَ إلينا وما أنزلَ إلى إبرَاهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوب والأسباط، ومَا أوتي مُوسى وعيسى وَمَا أوتي النبيون من رَبهم لا نُفرّق بين أحد منهم ونحن له مُسلمون. فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته، وقالوا: لا نؤمن بعيسى، ولا نؤمن بمن آمن به. فأنزل الله فيهم: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) (3) [سورة المائدة:59]
__________
(1) انظر"الإسلام" فيما سلف: 510، 511 / وهذا الجزء 3، 74، 92، 94.
(2) في سيرة ابن هشام 2: 216"منهم: أبو ياسر".
(3) الأثر: 2101- سيأتي في تفسير سورة المائدة: 59 (6: 188-189 بولاق) بإسناده عن هناد بن السري عن يونس بن بكير، وهو في سيرة ابن هشام 2: 216 مع اختلاف يسير في بعض لفظه. وانظر الأثر التالي.(3/110)
2102- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثنا محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر نحوه - إلا أنه قال:"ونافع بن أبي نافع" مكانَ"رافع بن أبي رافع" (1) .
* * *
وقال قتادة: أنزلتْ هذه الآية، أمرًا من الله تعالى ذكره للمؤمنين بتصديق رُسله كلهم.
2103- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"قُولُوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم" إلى قوله:"ونَحنُ له مسلمون"، أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا ويصدقوا بأنبيائه ورسله كلهم، ولا يفرِّقوا بين أحد منهم.
* * *
وأما"الأسباط" الذين ذكرهم، فهم اثنا عشر رَجلا من ولد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم. وَلَد كل رجل منهم أمّة من الناس، فسموا"أسباطًا" (2) . كما:-
2104- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قال: الأسباط، يوسفُ وإخوته، بنو يَعقوب. ولد اثني عشر رجلا فولد كل وحل منهم أمَّة من الناس، فسموا:"أسباطا".
2105- حدثني موسى قال: حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي: أما الأسباط، فهم بنو يعقوب: يوسُف، وبنيامين، ورُوبيل،
__________
(1) الأثر: 2102 - هكذا جاء في سيرة ابن هشام 2: 216، وانظر سيرة ابن هشام أيضًا 1: 161، 162"رافع بن أبي رافع"، و"نافع بن أبي نافع"، والخلط في أسماء يهود ذلك العهد كثير في كتب السير.
(2) انظر تفسير"الأسباط" فيما سلف أيضًا 2: 121.(3/111)
ويهوذا، وشَمعون، ولاوِي، ودَان، وقهاث. (1) .
2106- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال:"الأسباط" يوسف وإخوته بنو يعقوب، اثنا عشر رجلا فولد لكل رجل منهم أمّة من الناس، فسموا"الأسباط".
2107- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة قال: حدثني محمد بن إسحاق قال (2) نكح يَعقوب بن إسحاق -وهو إسرائيل- ابنة خاله"ليا" ابنة"ليان بن توبيل بن إلياس"، (3) فولدت له"روبيل بن يعقوب"، (4) وكان أكبر ولده، و"شمعون بن يعقوب"، و"لاوي بن يعقوب" و"يهوذا بن يعقوب" و"ريالون بن يعقوب"، (5) و"يشجر بن يعقوب"، (6) و"دينة بنت يعقوب"، ثم توفيت"ليا بنت ليان". (7) فخلف يعقوب على أختها"راحيل بنت ليان بن توبيل بن إلياس" (8) فولدت له"يوسف بن يعقوب" و"بنيامين" -وهو بالعربية أسد- وولد له من سُرِّيتين له: اسم إحداهما"زلفة"، واسم الأخرى"بلهية"، (9) أربعة
__________
(1) الأثر: 2105- في الدر المنثور 1: 140. ولم أجد في ولد يعقوب"قهاث" وفي الدر المنثور"وتهان"، والظاهر أنهما جميعًا محرفان عن"نفتالى" أخبر"دان" من أمها"بلهية" جارية"راحيل"، كما سيأتي في الأثر التالي: 2107، وكما هو في كتاب بني إسرائيل الذي بين أيدينا. هذا، وقد اقتصر الطبري هنا على ثمانية نفر من الأسباط. وزاد السيوطي في الدر المنثور تاسعًا -في روايته عن الطبري- قال"وكونوا - بالنون"، وليس في ولد يعقوب هذا الاسم، إلا أن يكون تصحيفًا صوابه"زبلون" كما هو في كتب القوم. انظر التعليق على الأثر التالي: 2107.
(2) الأثر: 2107- لم أصحح هذه الأسماء، مع الاختلاف فيها، ولكني سأذكر مواضع الاختلاف على رسمها في كتاب بني إسرائيل الذي بين أيدينا، في التعليقات الآتية.
(3) "ليئة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان. . "
(4) (رأُوبين بن يعقُوبُ)
(5) (زَبُولُون بن يعقوب)
(6) (يسَّاكر بن يعقوب)
(7) "ليئَة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان. . "
(8) "ليئَة ابنة لابَان بن بَتُوئِيل""وراحيل بنت لابان. . "
(9) (بِلْهة)(3/112)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)
نفر:"دان بن يعقوب"، و"نَفثالي بن يعقوب" و"جَاد بن يعقوب"، و"إشرب بن يعقوب" (1) فكان بنو يعقوب اثني عشرَ رجلا نشر الله منهم اثنَى عشر سبطًا، لا يُحصى عددَهم ولا يعلم أنسابَهم إلا الله، يقول الله تعالى: (وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا) . [سورة الأعراف: 160]
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به"، فإن صدّق اليهودُ والنصارَى بالله، ومَا أنزل إليكم، وما أنزل إلى إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطِ، ومَا أوتي مُوسى وعيسى، وما أوتي النبيون من ربهم، وأقروا بذلك، مثلَ ما صدّقتم أنتم به أيّها المؤمنون وأقررتم، فقد وُفِّقوا ورَشِدوا، ولزموا طريق الحق، واهتدوا، وهم حينئذ منكم وأنتم منهم، بدخولهم في ملتكم بإقرارهم بذلك.
فدلّ تعالى ذكره بهذه الآية، على أنه لم يقبل من أحد عَملا إلا بالإيمان بهذه المعاني التي عدَّها قَبلها، كما:-
2108- حدثنا المثنى قال: حدثنا أبو صالح قال: حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا" ونحو هذا، قال: أخبر الله سبحانه أنّ الإيمان هو العروة الوثقى، وَأنه لا يقبل عملا إلا به، ولا تحرُم الجنة إلا على مَن تركه.
* * *
__________
(1) (أشِير بن يَعْقُوب) وراجع في الجميع سفر التكوين إصحاح: 29، 30، 35.(3/113)
وقد روي عن ابن عباس في ذلك قراءةٌ، جاءت مصاحفُ المسلمين بخلافها، وأجمعت قَرَأة القرآن على تركها. وذلك ما:-
2109- حدثنا به محمد بن المثنى قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن أبي حمزة، قال: قال ابن عباس: لا تقولوا:"فإن آمنوا بمثل مَا آمنتم به فقد اهتدوا" -فإنه ليس لله مثل- ولكن قولوا:"فإن آمنوا بالذي آمنتم به فَقد اهتدوا"- أو قال:"فإن آمنوا بما آمنتم به".
* * *
فكأن ابن عباس -في هذه الرواية إن كانت صحيحة عنه- يوجِّه تأويل قراءة من قرأ:"فإن آمنُوا بمثل مَا آمنتم به"، فإن آمنوا بمثل الله، وبمثل ما أنزل على إبراهيم وإسماعيل. وذلك إذا صرف إلى هذا الوجه، شِركٌ لا شكَّ بالله العظيم. لأنه لا مثل لله تعالى ذكرُه، فنؤمن أو نكفر به.
* * *
ولكن تأويل ذلك على غير المعنى الذي وَجّه إليه تأويله. وإنما معناه ما وصفنا، وهو: فإن صدّقوا مثل تصديقكم بما صدقتم به -من جميع ما عددنا عليكم من كتُب الله وأنبيائه- فقد اهتدوا. فالتشبيه إنما وقع بين التصديقين والإقرارين اللذين هما إيمان هؤلاء وإيمان هؤلاء. كقول القائل:"مرّ عمرو بأخيك مثلَ ما مررتُ به"، يعني بذلك مرّ عمرو بأخيك مثل مُروري به. والتمثيل إنما دخل تمثيلا بين المرورين، لا بين عمرو وبين المتكلم. فكذلك قوله:"فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به"، إنما وقع التمثيل بين الإيمانين، لا بين المؤمَنِ به.
* * *(3/114)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ}
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره بقوله:"وإن تَوَلَّوْا"، وإن تولى -هؤلاء الذين قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه:"كونوا هودًا أو نصارَى"- فأعرضوا، (1) = فلم يؤمنوا بمثل إيمانكم أيّها المؤمنون بالله، وبما جاءت به الأنبياءُ، وابتُعِثت به الرسل، وفرّقوا بين رُسُل الله وبين الله ورسله، فصدّقوا ببعضٍ وكفروا ببعضٍ = فاعلموا، أيها المؤمنون، أنهم إنما هُمْ في عصيان وفِرَاق وحَربٍ لله ولرسوله ولكم، كما:-
2110- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة: "وإنما هُم في شقاق"، أي: في فراق (2)
2111- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فإنما هُمْ في شقاق"، يعني فراق.
2112- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد:"وإن توَلوا فإنما هم في شقاق" قال: الشقاق: الفراقُ والمحاربة. إذا شَاقَّ فقد حارب، وإذا حَارب فقد شاقَّ، وهما واحدٌ في كلام العرب، وقرأ: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ) [سورة النساء: 115] .
* * *
قال أبو جعفر: وأصل"الشقاق" عندنا، والله أعلم، مأخوذٌ من قول القائل:"شَقَّ عليه هذا الأمر"، إذا كرَبه وآذاه. ثم قيل:"شاقَّ فلانٌ فلانًا"، بمعنى: نال
__________
(1) انظر معنى"تولى" فيما سلف، 2: 162، 163 / ثم 298، 299.
(2) الأثر: 2110- سقط من المطبوعة في إسناده: "عن سعيد"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقر به فيما سلف: 2104.(3/115)
كل واحد منهما من صاحبه ما كرَبه وآذاه، وأثقلته مَساءَته. ومنه قول الله تعالى ذكره: (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا) [سورة النساء: 35] بمعنى: فراقَ بينهما.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فسيكفيكهمُ الله"، فسيكفيكَ الله يا محمد، هؤلاء الذين قالوا لَكَ ولأصحابك:"كونوا هودًا أو نَصَارَى تهتدوا"، من اليهود والنصارى، إنْ هم تولوْا عن أن يؤمنوا بمثل إيمان أصحابك بالله، وبما أنزل إليك، وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وسائر الأنبياء غيرهم، وفرقوا بين الله ورُسُله - إما بقتل السيف، وإما بجلاء عن جوارك، وغير ذلك من العقوبات؛ فإن الله هو"السميع" لما يقولون لك بألسنتهم، ويبدون لك بأفواههم، من الجهل والدعاء إلى الكفر والملل الضّالة -"العليمُ" بما يُبطنون لك ولأصحابك المؤمنين في أنفسهم من الحَسد والبغضاء.
ففعل الله بهم ذلك عَاجلا وأنجزَ وَعْده، فكفى نبيّه صلى الله عليه وسلم بتسليطه إيّاه عليهم، حتى قتل بعضهم، وأجلَى بعضًا، وأذلّ بعضًا وأخزاه بالجزية والصَّغار.
* * *(3/116)
صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)
القول في تأويل قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) }
قال أبو جعفر: يعنى تعالى ذكره ب"الصبغة: صبغةَ الإسلام. وذلك أنّ النصارى إذا أرادت أن تنصِّر أطفالهم، جعلتهم في ماء لهم تزعم أن ذلك لها تقديس، بمنزلة غُسل الجنابة لأهل الإسلام، وأنه صبغة لهم في النصرانية. (1)
فقال الله تعالى ذكره -إذ قالوا لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه المؤمنين به:"كونوا هودًا أو نَصَارَى تَهتدوا"-: قل لهم يا محمد: أيها اليهود والنصارى، بل اتبعوا ملة إبراهيمَ، صبغة الله التي هي أحسن الصِّبَغ، فإنها هي الحنيفية المسلمة، ودعوا الشركَ بالله، والضلالَ عن محجَّة هُداه.
* * *
ونصب"الصبغة" من قرأها نصبًا على الردِّ على"الملة". وكذلك رَفع"الصبغة" من رَفع"الملة"، على ردّها عليها.
وقد يجوز رفعها على غير هذا الوجه. وذلك على الابتداء، بمعنى: هي صبغةُ الله.
وقد يجوز نصبها على غير وجه الرّد على"الملة"، ولكن على قوله:"قولوا آمنا بالله" إلى قوله"ونحنُ له مسلمون"،"صبغةَ الله"، بمعنى: آمنا هذا الإيمان، فيكون الإيمان حينئذ هو صبغةُ الله. (2)
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل"الصبغة" قال جماعة من أهل التأويل.
ذكر من قال ذلك:
2113- حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:
__________
(1) انظر معاني القرآن 1: 82-83.
(2) انظر معاني القرآن 1: 82-83.(3/117)
"صبغةَ الله ومن أحسن من الله صبغة" إنّ اليهود تصبغ أبناءها يهودَ، والنصارى تَصبغ أبناءَها نصارَى، وأن صبغة الله الإسلامُ، فلا صبغة أحسنُ من الإسلام، ولا أطهر، وهو دين الله بعث به نُوحًا والأنبياء بعده.
2114- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال عطاء:"صبغةَ الله" صبغت اليهودُ أبناءَهم خالفوا الفِطْرة.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"صبغة الله". فقال بعضهم: دينُ الله.
ذكر من قال ذلك:
2115- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"صبغة الله" قال: دينَ الله.
2116- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا وكيع، عن أبي جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله،"ومن أحسن من الله صِبغةً"، ومن أحسنُ من الله دينًا.
2117- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا ابن أبي جعفر عن أبيه، عن الربيع مثله.
2118- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال: حدثنا أبو أحمد الزبيري قال: حدثنا سفيان، عن رجل، عن مجاهد مثله.
2119- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو نعيم قال: حدثنا سفيان، عن مجاهد مثله.
2120- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2121- حدثنا أحمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو أحمد قال: حدثنا فُضَيل بن مرزوق، عن عطية قوله:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله.(3/118)
2122- حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"صبغةَ الله ومن أحسنُ من الله صبغة"، يقول: دينَ الله، ومن أحسن من الله دينًا.
2123- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"صبغةَ الله" قال: دينَ الله.
2124- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قول الله:"صبغةَ الله" قال: دين الله.
2125- حدثني ابن البرقي قال: حدثنا عمرو بن أبي سلمة قال: سألت ابن زيد عن قول الله:"صبغةَ الله"، فذكر مثله.
* * *
وقال أخرون:"صبغة الله" فطرَة الله. (1)
ذكر من قال ذلك:
2126- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"صبغة الله" قال: فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها.
2127- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا محمد بن حرب قال: حدثنا ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن مجاهد:"ومن أحسنُ من الله صبغة" قال: الصبغة، الفطرةُ.
2128- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: "صبغةَ الله"، الإسلام، فطرةَ الله التي فطر الناس عليها. قال ابن جريج: قال لي عبد الله بن كثير:"صبغةَ الله" قال: دين الله، ومن أحسنُ من الله دينًا. قال: هي فطرة الله.
* * *
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 59.(3/119)
ومن قال هذا القول، فوجَّه"الصبغة" إلى الفطرة، فمعناه: بل نتبع فطرة الله وملَّته التي خلق عليها خلقه، وذلك الدين القيم. من قول الله تعالى ذكره: (فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة الأنعام: 14] . بمعنى خالق السماوات والأرض (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138) }
قال أبو جعفر: وقوله تعالى ذكره:"ونَحنُ له عَابدون"، أمرٌ من الله تعالى ذكره نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يقوله لليهود والنصارى، الذين قالوا له ولمن تبعه من أصحابه:"كونوا هودًا أو نَصارَى". فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ بل نتبعُ ملة إبراهيم حنيفًا، صبغةَ الله، ونحنُ له عابدون. يعني: ملة الخاضعين لله المستكينين له، في اتّباعنا ملة إبراهيم، وَديْنُونتنا له بذلك، غير مستكبرين في اتباع أمره، والإقرار برسالته رسلَه، كما استكبرت اليهودُ والنصارَى، فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم استكبارًا وبغيًا وحسدًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"قُلْ أتُحاجُّونَنا في الله"، قل يا محمد = لمعاشر اليهود والنصارى، الذين قالوا لك ولأصحابك:"كونوا هُودًا
__________
(1) انظر مجاز القرآن لأبي عبيدة: 59.(3/120)
أو نَصَارَى تَهتدوا"، وزعموا أن دينهم خيرٌ من دينكم، وكتابهم خير من كتابكم، لأنه كان قبلَ كتابكم، وزعموا أنهم من أجل ذلك أولى بالله منكم =:"أتحاجوننا في الله وهو رَبنا وربكم"، بيده الخيرات، وإليه الثواب والعقابُ، والجزاءُ على الأعمال - الحسنات منها والسيئات، فتزعمون أنكم بالله أوْلى منا، من أجل أن نبيكم قبل نبينا، وكتابكم قبل كتابنا، وربّكم وربّنا واحدٌ، وأنّ لكلّ فريق منا ما عمل واكتسب من صالح الأعمال وسيئها، يجازى [عليها] فيثابُ أو يعاقبُ، (1) - لا على الأنساب وقدمَ الدِّين والكتاب.
* * *
ويعني بقوله:"قُلْ أتحاجوننا"، قل أتخاصموننا وتجادلوننا؟ كما-
2129- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"قل أتحاجوننا في الله"، قل: أتخاصموننا؟
2130- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد:"قل أتحاجُّونَنا"، أتخاصموننا؟
2131- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال: حدثني عمي قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"أتحاجوننا"، أتجادلوننا؟
* * *
فأما قوله:"ونحن له مُخلصون"، فإنه يعني: ونحن لله مخلصو العبادةِ والطاعة، لا نشرك به شيئًا، ولا نعبد غيره أحدًا، كما عبد أهل الأوثان معه الأوثانَ، وأصحاب العِجل معه العجلَ.
* * *
وهذا من الله تعالى ذكره توبيخٌ لليهود، واحتجاج لأهل الإيمان، بقوله تعالى ذكره للمؤمنين من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم: قولوا -أيها المؤمنون، لليهود
__________
(1) في المطبوعة: "ويجازى فيثاب أو يعاقب". وكأن الصواب يقتضي حذف"الواو"، وزيادة: "عليها". وقوله: "لأعلى الأنساب" معطوف على قوله: "والجزاء على الأعمال".(3/121)
أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)
والنصارى الذين قالوا لكم:"كونوا هودًا أو نصارى تَهتدوا"-:"أتحاجوننا في الله"؟ يعني بقوله:"في الله"، في دين الله الذي أمَرَنا أن نَدينه به، وربنا وربكم واحدٌ عدلٌ لا يجور، وإنما يجازي العبادَ عَلى ما اكتسبوا. وتزعمون أنّكم أولى بالله منا، لقدم دينكم وكتابكم ونبيكم، ونحنُ مُخلصون له العبادةَ، لم نشرك به شَيئًا، وقد أشركتم في عبادتكم إياه، فعبد بعضكم العجلَ، وبعضكم المسيحَ، فأنَّى تكونون خيرًا منا، وأولى بالله منا؟ (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ}
قال أبو جعفر: في قراءة ذلك وجهان. أحدهما:"أمْ تَقولون" ب"التاء". فمن قرأ كذلك، فتأويله: قل يا محمد -للقائلين لَك من اليهود والنصارى:"كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا"-: أتجادلوننا في الله، أم تقولون إن إبراهيم؟ فيكون ذلك معطوفًا على قوله:"أتحاجوننا في الله".
والوجه الآخر منهما:"أم يَقولون" ب"الياء". ومن قرأ ذلك كذلك وجّه قوله:"أم يقولون" إلى أنه استفهام مُستأنَف، كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [سورة السجدة: 3] ، وكما يقال:"إنها لإبل أم شَاءٌ". (2) وإنما جعله استفهامًا مستأنَفًا، لمجيء خبر مستأنف، كما يقال:"أتقوم أم يقوم أخوك؟ " فيصير قوله:"أم يقوم أخوك" خبرًا مستأنفًا لجملة ليست من الأول واستفهامًا
__________
(1) في المطبوعة: "وأنى تكونوا خيرًا منا"، والصواب ما أثبت. "أنى" استفهام بمعنى: كيف.
(2) انظر ما سلف في خبر"أم" 2: 492-494، وهذا الجزء 3: 97.(3/122)
مبتدأ. ولو كان نَسقًا على الاستفهام الأول، لكان خبرًا عن الأول، فقيل:"أتقوم أم تقعد؟ "
وقد زعم بعض أهل العربية أنّ ذلك، إذا قرئ كذلك ب"الياء"، فإن كان الذي بعد"أم" جملة تامة، فهو عطفٌ على الاستفهام الأول. لأن معنى الكلام: قيل: أيّ هذين الأمرين كائنٌ؟ هذا أم هذا؟
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القرَاءة عندنا في ذلك:"أم تقولون""بالتاء" دون"الياء" عطفًا على قوله:"قل أتحاجُّوننا"، بمعنى: أيّ هذين الأمرين تفعلون؟ أتجادلوننا في دين الله، فتزعمون أنكم أولى منا وأهدى منا سبيلا -وأمرنا وأمركم ما وصفنا، على ما قد بيناه آنفًا (1) - أمْ تزعمون أنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ، ومن سَمَّى الله، كانوا هُودًا أو نصارَى على ملتكم، فيصحّ للناس بَهتكم وكذبكم، (2) لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعد هؤلاء الذين سماهم الله من أنبيائه. وغير جائزة قراءة ذلك ب"الياء"، لشذوذها عن قراءة القراء.
* * *
وهذه الآية أيضًا احتجاجٌ من الله تعالى ذكره لنبيّه صلى الله عليه وسلم على اليهود والنصارى، الذين ذكر الله قَصَصهم. يقول الله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد -لهؤلاء اليهود والنصارى-: أتحاجُّوننا في الله، وتزعمون أن دينكم أفضلُ من ديننا، وأنكم على هدى ونحنُ على ضَلالة، ببرهان من الله تعالى ذكره، فتدعوننا إلى دينكم؟ فهاتوا برهانكم على ذلك فنتبعكم عليه، أم تقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباط كانوا هودًا أو نَصَارَى على دينكم؟ فهاتُوا -على دعواكم ما ادّعيتم من ذلك- برهانًا فنصدِّقكم، فإن الله قد جَعلهم أئمة يقتدى بهم.
__________
(1) في المطبوعة: "أيضًا"، والصواب ما أثبت.
(2) أخشى أن يكون الصواب"فيتضح للناس"، والذي في الأصل لا بأس به.(3/123)
ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: قُل لهم يا محمد - إن ادَّعوا أن إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هودًا أو نصَارَى: أأنتم أعلم بهم وبما كانوا عليه من الأديان، أم الله؟
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني: فإنْ زَعمتْ يا محمد اليهودُ والنصَارى - الذين قالوا لك ولأصحابك:"كونوا هودًا أو نصارى"، أن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا هودًا أو نصارى، فمن أظلمُ منهم؟ يقول: وأيُّ امرئ أظلم منهم؟ وقد كتموا شهادةً عندهم من الله بأن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطَ كانوا مسلمين، فكتموا ذلك، ونحلُوهم اليهوديةَ والنصرانية.
* * *
واختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
2132- فحدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم شَهادةً عندهُ من الله" قال: في قول يهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما، إنهم كانوا يهودَ أو نصارَى. فيقول الله: لا تكتموا منّي شهادةً إن كانت عندكم فيهم. وقد عَلم أنهم كاذبون.
2133- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله"، في قول اليهود لإبراهيم وإسماعيل ومن ذكر معهما: إنهم كانوا يهود أو نصارَى. فقال الله لهم: لا تكتموا مني الشهادة فيهم، إن كانت عندكم فيهم. وقد علم الله أنهم كانوا كاذبين.(3/124)
2134- حدثنا القاسم قال: حدثنا الحسين قال: حدثني إسحاق، عن أبي الأشهب، عن الحسن أنه تلا هذه الآية:"أم تقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل" إلى قوله:"قل أأنتم أعلمُ أم الله ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله"، قال الحسن: والله لقد كان عند القوم من الله شهادةُ أنّ أنبياءَه بُرَآء من اليهودية والنصرانية، كما أن عند القوم من الله شَهادة أن أموالكم ودماءكم بينكم حرام، فبم استحلُّوها؟
2135- حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله"، أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل: أنّهم لم يكونوا يهودَ ولا نصارَى، وكانت اليهودية والنصرانية بعد هؤلاء بزمان.
* * *
وإنما عنى تعالى ذكره بذلك أن اليهود والنصارَى، (1) إن ادَّعوْا أنَّ إبراهيم ومن سمِّي مَعه في هذه الآية، كانوا هودًا أو نصارى، تبيّن لأهل الشرك الذين هم نصراؤهم، (2) كذبُهم وادّعاؤهم على أنبياء الله الباطلَ = لأن اليهودية والنصرانية حدثت بعدهم = وإن هم نَفوْا عنهم اليهودية والنصرانية، (3) قيل لهم: فهلموا إلى ما كانوا عليه من الدين، فإنا وأنتم مقرُّون جميعًا بأنهم كانوا على حق، ونحن مختلفون فيما خالف الدّين الذي كانوا عليه.
* * *
وقال آخرون: بل عَنى تعالى ذكره بقوله:"ومَنْ أظلم ممن كتم شهادةً عنده من الله"، اليهودَ في كتمانهم أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّتَه، وهم يعلمون ذلك ويجدونه في كتبهم.
__________
(1) في المطبوعة: "وأنه عنى تعالى ذكره. . . " والسياق مختل، فاستظهرت إصلاحه كما سترى في التعليق الآتي:
(2) في المطبوعة"بين لأهل الشرك". والسياق يوجب ما أثبت.
(3) سياق هذه الجملة من أول الفقرة: "وإنما عنى تعالى ذكره أن اليهود والنصارى، إن ادعوا أن إبراهيم. . . تبين لأهل الشرك. . . وإن نفوا عنهم اليهودية قيل لهم:. . . "، وبذلك يتبين أن الذي أثبتنا أحق بسياق الكلام.(3/125)
ذكر من قال ذلك:
2136- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"أم تَقولون إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ كانوا هودًا أو نصارَى"، أولئك أهل الكتاب كتموا الإسلام وهم يعلمون أنه دينُ الله، واتخذوا اليهودية والنصرانيةَ، وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يعلمون أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
2137- حدثنا الحسن بن يحيى قال: حدثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"ومَنْ أظلمُ ممن كتم شهادة عنده من الله" قال: الشهادةُ، النبيُّ صلى الله عليه وسلم، مكتوبٌ عندهم، وهو الذي كتموا.
2138- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، نحو حديث بشر بن معاذ، عن يزيد. (1)
2139- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عند منَ الله" قال: هم يهودُ، يُسألون عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صفته في كتاب الله عندهم، فيكتمون الصفة.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما اخترنا القولَ الذي قلناه في تأويل ذلك، لأن قوله تعالى ذكره:"ومن أظلمُ ممن كتم شهادةً عنده من الله"، في إثر قصة من سمَّى الله من أنبيائه، وأمامَ قصته لهم. فأوْلى بالذي هو بَين ذلك أن يكون من قَصصهم دون غَيره.
* * *
فإن قال قائل: وأية شهادة عندَ اليهود والنصارى من الله في أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ؟
__________
(1) الأثر: 2138- كان في المطبوعة"حدثني المثنى قال حدثني ابن أبي جعفر"، أسقط من الإسناد"حدثنا إسحاق"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه رقم: 117.(3/126)
قيل: الشهادةُ التي عندهم من الله في أمرهم، مأ أنزل الله إليهم في التوراة والإنجيل، وأمرُهم فيها بالاستنان بسُنَّتهم واتباع ملتهم، وأنهم كانوا حُنفاء مسلمين. وهي الشهادةُ التي عندهم من الله التي كتموها، حين دعاهم نبي الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقالوا له: (لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى) [سورة البقرة: 111] ، وقالوا له ولأصحابه:"كونوا هُودًا أوْ نصارى تَهتدوا"، فأنزلَ الله فيهم هذه الآيات، في تكذيبهم، وكتمانهم الحق، وافترائهم على أنبياء الله الباطلَ والزُّورَ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وقل -لهؤلاء اليهود والنصارَى، الذين يحاجُّونك يا محمد-:"وما اللهُ بغافل عما تعملون"، من كتمانكم الحق فيما ألزَمكم في كتابه بيانَه للناس من أمر إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوبَ والأسباطِ في أمر الإسلام، وأنهم كانُوا مسلمين، وأنّ الحنيفية المسلمة دينُ الله الذي على جميع الخلق الدينُونةُ به، دون اليهودية والنصرانية وغيرهما من الملل- ولا هُو سَاهٍ عن عقابكم على فعلكم ذلك، (1) بل هو مُحْصٍ عليكم حتى يُجازيكم به من الجزاء ما أنتم له أهلٌ في عاجل الدنيا وآجل الآخرة. فجازاهم عاجلا في الدنيا، بقتل بعضهم، وإجلائه عن وطنه وداره، وهو مُجازيهم في الآخرة العذابَ المهين.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"غافل" فيما سلف 2: 243-244 / ثم: 316.(3/127)
تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"تلك أمة"، إبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ. كما:-
2140- حدثنا بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله تعالى:"تلك أمة قَد خَلت"، يعني: إبراهيمَ وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ.
2141- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال: حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بمثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقد بينا فيما مضى أن"الأمة"، الجماعة (1) .
* * *
فمعنى الآية إذًا: قلْ يا محمد = لهؤلاء الذين يُجادلونك في الله من اليهود والنصارى، إن كتموا ما عندَهم من الشهادة في أمر إبراهيم ومن سَمَّينا مَعه، وأنهم كانوا مسلمين، وزعموا أنهم كانوا هودًا أو نصارى، فكذبوا =: إنّ إبراهيم وإسماعيل وإسحاقَ ويعقوبَ والأسباطَ أمَّةٌ قد خَلتْ -أي مضت لسبيلها (2) - فصارت إلى ربها، وخَلتْ بأعمالها وآمالها، لها عند الله ما كسبت من خير في أيام حياتها، وعليها ما اكتسبت من شر، لا ينفعها غيرُ صالح أعمالها، ولا يضرها إلا سيِّئها. فاعلموا أيها اليهود والنصارى ذلك، فإنكم، إنْ كان هؤلاء - (3) وهم الذين
__________
(1) انظر ما سلف 1: 221 ثم هذا الجزء 3: 74، 100 / ثم انظر"خلا" و"كسب" في هذا الجزء 3: 101 والمراجع هناك.
(2) انظر ما سلف 1: 221 ثم هذا الجزء 3: 74، 100 / ثم انظر"خلا" و"كسب" في هذا الجزء 3: 101 والمراجع هناك.
(3) في المطبوعة: "هم الذين بهم. . . "، والصواب"وهم. . . ".(3/128)
بهم تَفتخرون، وتزعمون أنّ بهم تَرجُون النجاةَ من عذاب ربكم، مع سيئاتكم وعظيم خطيئاتكم - لا يَنفعهم عند الله غيرُ ما قدَّموا من صالح الأعمال، ولا يضرهم غير سيئها، فأنتم كذلك أحرَى أنْ لا ينفعكم عند الله غير ما قدمتم من صالح الأعمال، (1) ولا يضرّكم غيرُ سَيئها. فاحذروا على أنفسكم، وبادروا خروجَها بالتوبة والإنابة إلى الله مما أنتم عليه من الكفر والضلالة والفِرية على الله وعلى أنبيائه ورُسُله، ودَعُوا الاتكالَ على فَضَائل الآباء والأجداد، فإنما لكم ما كسبتم، وعليكم ما اكتسبتم، ولا تُسألون عما كان إبراهيم وإسماعيلُ وإسحاقُ ويعقوبُ والأسباط يَعملون من الأعمال، لأن كل نفس قَدِمت على الله يوم القيامة، فإنما تُسأل عما كسبت وأسلفت، دون ما أسلفَ غيرُها.
* * *
__________
(1) سياق هذه العبارة: "إن كان هؤلاء. . . لا ينفعهم عند الله غير ما قدموا. . . فأنتم كذلك أحرى أن لا ينفعكم غير صالح الأعمال. . . ".(3/129)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)
القول في تأويل قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"سيقول السفهاء"، سيقول الجهال"منَ الناس"، وهم اليهود وأهل النفاق.
وإنما سماهم الله عز وجل"سُفهاء"، لأنهم سَفِهوا الحق. (1) فتجاهلت أحبارُ اليهود، وتعاظمت جهالهم وأهل الغباء منهم، عن اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم، إذ كان من العرب ولم يكن من بني إسرائيل، وتحيّر المنافقون فتبلَّدوا.
* * *
وبما قلنا في"السفهاء" -أنهم هم اليهود وأهلُ النفاق- قال أهل التأويل.
ذكر من قال: هم اليهود:
__________
(1) سفه الحق: جهله. وانظر ما سلف في معنى"السفه" 1: 293-294 / ثم هذا الجزء 3: 90.(3/129)
2142- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"سيقول السفهاء من الناس مَا وَلاهم عن قِبْلتهم" قال، اليهود تقوله، حين تَرَك بيتَ المقدس.
2143- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2144- حدثت عن أحمد بن يونس، عن زهير، عن أبي إسحاق، عن البَراء:"سيقول السفهاء من الناس" قال، اليهود. (1)
2145- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء:"سيقول السفهاء من الناس" قال، اليهود.
2146- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء في قوله:"سيقول السفهاء من الناس" قال، أهل الكتاب
2147- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: اليهودُ.
* * *
وقال آخرون:"السفهاء"، المنافقون.
* ذكر من قال ذلك.
2148- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: نزلت"سَيقول السفهاء من الناس"، في المنافقين.
* * *
__________
(1) الأثر: 2144- هذا إسناد ليس بذاك، فإن الطبري رواه عن شخص مبهم، عن أحمد بن يونس، وهو أحمد بن عبد الله بن يونس التميمي. وهو ثقة، أخرج له الجماعة، وقد ينسب إلى جده. ولد سنة 133، أو 134، ومات سنة 227. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/6، والصغير، ص: 239، وابن أبي حاتم 1/1/57. وابن سعد 6: 283. زهير: هو ابن معاوية أبو خيثمة الكوفي. ثقة ثبت معروف. وأبو إسحاق: هو السبيعي، عمرو بن عبد الله. التابعي الكبير المشهور، البراء: هو ابن عازب الصحابي.(3/130)
القول في تأويل قوله تعالى: {مَا وَلاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ما ولاهم": أيُّ شيء صَرَفهم عن قبلتهم؟ وهو من قول القائل:"ولاني فلان دُبُره"، إذا حوّل وجهه عنه واستدبره، فكذلك قوله:"ما ولاهم"؟ أيّ شيء حَوَّل وُجُوههم؟ (1)
* * *
وأما قوله:"عن قبلتهم"، فإن"قبلة" كل شيء ما قابلَ وجهه. وإنما هي"فِعْلة" بمنزلة"الجلسة والقِعْدة"، (2) من قول القائل."قابلت فلانًا"، إذا صرتُ قُبالته أقابله، فهو لي"قبلة" وأنا له"قبلة"، إذا قابل كلّ واحد منهما بوجهه وجهَ صاحبه.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الكلام إذًا -إذْ كان ذلك معناه (3) -: سيقول السفهاء من الناس لكم، أيها المؤمنون بالله ورسوله، - إذا حوّلتم وجوهكم عَن قبلة اليهود التي كانتْ لكم قبلةً قَبلَ أمري إياكم بتحويل وجوهكم عنها شَطْر المسجد الحرام -: أيّ شيء حوّل وُجوه هؤلاء، فصرفها عن الموضع الذي كانوا يستقبلونه بوجوههم في صلاتهم؟
فأعلم الله جل ثناؤه نبيَّه صلى الله عليه وسلم، مَا اليهودُ والمنافقون قائلون من القول عند تحويل قبلته وقبلة أصحابه عن الشأم إلى المسجد الحرام، وعلّمه ما ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب. فقال له: إذا قالوا ذلك لك يا محمد، فقل لهم:"لله المشرقُ والمغرب يَهدي مَنْ يَشاء إلى صرَاط مستقيم".
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"ولي" 2: 162، وهذا الجزء 3: 115.
(2) انظر ما قال من ذلك في"الحكمة" في هذا الجزء 3: 87.
(3) في المطبوعة: "إذ كان معناه" بإسقاط"ذلك"، ولا يقوم الكلام إلا بها.(3/131)
وكان سببُ ذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس مُدة سنذكر مبلغها فيما بعد إن شاء الله تعالى، ثم أراد الله تعالى صَرْف قبلة نبيّة صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام. فأخبره عما اليهود قائلوه من القول عند صرفه وجهَه ووجهَ أصحابه شطرَه، وما الذي ينبغي أن يكون من ردِّه عليهم من الجواب.
* * *
ذكر المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحو بيت المقدس، وما كان سببُ صلاته نحوه؟ وما الذي دَعا اليهودَ والمنافقين إلى قِيلِ ما قالوا عند تحويل الله قبلةَ المؤمنين عن بيت المقدس إلى الكعبة؟
اختلف أهل العلم في المدة التي صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بعد الهجرة. فقال بعضهم بما:-
2149- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا: حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد قال، أخبرني سعيد بن جبير، أو عكرمة -شكّ محمد-، عن ابن عباس قال: لما صُرفت القبلةُ عن الشأم إلى الكعبة -وصرفت في رَجَب، على رأس سبعة عشر شهرًا من مَقدَم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينةَ- أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رفاعةُ بنُ قيس، وقَرْدَم بن عمرو، وكعبُ بن الأشرف، ونافعُ بن أبي نافع - هكذا قال ابن حميد، وقال أبو كريب: ورَافع بن أبي رافع (1) - والحجاج بن عمرو = حليفُ كعب بن الأشرف = والربيعُ بن الربيعُ بن [أبي] الحقيق، وكنانةُ بن أبي الحقيق، (2) فقالوا: يا محمد، ما ولاك عن قبلتك التي كنت عليها، وأنتَ تزعمُ أنك على ملة إبراهيم ودينه؟ ارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعْك ونصدقك! وإنما يريدون فتنته عن دينه. فأنزل
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 111 تعليق: 1.
(2) الزيادة بين القوسين من سيرة ابن هشام. وفيها: "وكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق".(3/132)
الله فيهم:"سيقول السفهاءُ من الناس مَا ولاهم عنْ قبلتهم التي كانوا عليها" إلى قوله:"إلا لنعلمَ مَنْ يَتَّبع الرسول ممن يَنقلبُ عَلى عَقبَيْه". (1)
2150- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، قال البراء: صلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس سَبعةَ عشر شهرًا، وكان يشتهي أن يُصرف إلى الكعبة. قال: فبينا نحن نُصلي ذاتَ يوم، فمر بنا مارٌّ فقال: ألا هلْ علمتم أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قد صُرف إلى الكعبة؟ قال: وقد صلينا ركعتين إلى هاهنا، وصلينا ركعتين إلى هاهنا - قال أبو كريب: فقيل له: فيه أبو إسحاق؟ فسكت. (2)
2151- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: صلينا بعد قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ سبعة عشر شهرًا إلى بيت المقدس. (3)
2152- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء بن عازب قال: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم نحو
__________
(1) الأثر: 2149- نص ما في سيرة ابن هشام 2: 198-199.
(2) الحديث: 2150- أبو بكر بن عياش: ثقة معروف، إلا أنهم أخذوا عليه بعض الأخطاء، لأنه لما كبر ساء حفظه وتغير. وهو هنا يروى الحديث -منقطعًا- عن البراء، لأنه لم يدركه. وقد سأله بعض سامعيه، كما حكى أبو كريب في آخر الحديث: "فيه: أبو إسحاق"؟ يريد السائل أن يستوثق منه: أسمعه من أبي إسحاق السبيعي عن البراء؟ فسكت ولم يجبه. ولو كان هذا وحده كان الحديث ضعيفًا. ولكنه ثابت من رواية أبي إسحاق السبيعي عن البراء، في الأسانيد الثلاثة التالية -وأولها من رواية ابن عياش نفسه- ومن مصادر الحديث الأخر، كما سيأتي.
(3) الحديث: 2151- هذا إسناد ضعيف، لضعف سفيان بن وكيع - شيخ الطبري. ولكنه يتقوى بالروايات الآتية وغيرها.
وقد رواه ابن ماجه: 1010، عن علقمة بن عمرو الدارمي، عن أبي بكر بن عياش، عن أبي إسحاق، عن البراء، مطولا. وذكر فيه أن صلاتهم إلى بيت المقدس كانت"ثمانية عشر شهرًا". وعلقمة بن عمرو الدارمي: ثقة. وقال البوصيري في زوائد ابن ماجه: "حديث البراء صحيح، ورجاله ثقات".(3/133)
بيت المقدس ستة عشر شهرًا أو سبعةَ عشر شهرًا -شك سفيان- ثم صُرفنا إلى الكعبة. (1)
2153- حدثني المثنى قال، حدثنا الُّنفيلي قال، حدثنا زهير قال: حدثنا أبو إسحاق، عن البراء: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أوَّلَ ما قَدم المدينة، نزلَ على أجداده -أو أخواله- من الأنصار، وأنه صَلَّى قِبَل بيت المقدس ستة عشر شهرًا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبَلَ البيت، وأنه صلى صلاة العصر ومعه قومٌ. فخرج رجل ممن صلى معه، فمرّ على أهل المسجد وهم رُكوع فقال: أشهدُ لقد صلَّيت مع رسول الله قبلَ مكة. فداروا كما همْ قِبَل البيت. وكانَ يُعجبه أن يحوَّل قبَل البيت. وكان اليهودُ أعجبهم أنّ رسول الله صلى الله علايه وسلم يُصَلّي قبَل بيت المقدس وأهلُ الكتاب، فلما ولَّى وجْهه قبَل البيت أنكروا ذلك. (2)
2154- حدثني عمران بن موسى قال، حدثنا عبد الوارث قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب قال: صلى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس بَعْد أن قدِم المدينةَ ستة عشر شهرًا، ثم وُجِّه نحو الكعبة قَبل بَدْرٍ بشهرين. (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 2152- هذا إسناد صحيح جدًا. يحيى: هو ابن سعيد القطان. سفيان: هو الثوري. والحديث مختصر. وهكذا رواه البخاري 8: 132 (فتح الباري) ومسلم 1: 148 - كلاهما من طريق يحيى، عن سفيان، به، مختصرًا.
(2) الحديث: 2153- وهذه رواية مفصلة. والإسناد صحيح جدًا. رواه الإمام أحمد في المسند 4: 283 (حلبي) ، عن حسن بن موسى، عن زهير وهو ابن معاوية. بهذا الإسناد نحوه. بأطول منه. ورواه ابن سعد في الطبقات 1/2/5، عن الحسن بن موسى، بهذا الإسناد. وكذلك رواه البخاري 1: 89-90، عن عمرو بن خالد، عن زهير، به. ورواه أيضًا 8: 130، عن أبي نعيم، عن زهير، مختصرًا قليلا.
ورواه أيضًا البخاري 1: 421-422، و 13: 202. ومسلم 1: 148، من أوجه، عن البراء بن عازب.
وسيأتي باقيه بهذا الإسناد: 2222.
(3) الحديث: 2154- عمران بن موسى بن حيان القزاز الليثي، شيخ الطبري: ثقة. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/305-306.
عبد الوارث: هو ابن سعيد بن ذكوان، أحد الأعلام، يحيى بن سعيد: هو الأنصاري البخاري ثقة حجة، من شيوخ الزهري ومالك والثوري وغيرهم.
ابن المسيب: هو سعيد بن المسيب الإمام التابعي الكبير، ووقع في المطبوعة"المسيب"، بحذف"ابن"! وهو خطأ واضح من الناسخين.
وهذا الحديث مرسل، كما هو مبين، وكذلك رواه مالك في الموطأ، ص 196، عن يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب مرسلا. وكذلك رواه الشافعي عن مالك، في الرسالة، بتحقيقنا، رقم 366. وكذلك رواه ابن سعد في الطبقات 1/2/4، عن يزيد بن هارون، عن يحيى بن سعيد.
وقد وصله العطاردي. من حديث سعد بن أبي وقاص: فرواه البيهقي في السنن الكبرى 2: 3، من طريق أحمد بن عبد الجبار العطاردي: "حدثنا محمد بين الفضيل، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب قال، سمعت سعدًا يقول. . . ". فذكر الحديث. ثم قال البيهقي: "هكذا رواه العطاردي عن ابن فضيل. ورواه مالك، والثوري، وحماد بن زيد - عن يحيى بن سعيد، عن ابن المسيب، مرسلا دون ذكر سعد".
وهذا إسناد جيد، يصلح متابعة جيدة للرواية المرسلة. فإن"أحمد بن عبد الجبار العطاردي": قد مضى في: 66 أن أبا حاتم قال فيه: "ليس بقوي". ولكن المتأمل في ترجمته في التهذيب 1: 51-52، وتاريخ بغداد 4: 262-265 - يرى أن توثيقه أرجح، وأن الكلام فيه لم يكن عن بينة. ولذلك قال الخطيب: "كان أبو كريب من الشيوخ الكبار، الصادقين الأبرار وأبو عبيدة السري ابن يحيى شيخ جليل أيضًا ثقة، من طبقة العطاردي. وقد شهد له أحدهما بالسماع، والآخر بالعدالة. وذلك يفيد حسن حالته، وجواز روايته. إذ لم يثبت لغيرهما قول يوجب إسقاط حديثه، واطراح خبره". وهذا كاف في قبول زيادته في هذا الحديث، بوصله من رواية سعيد بن المسيب عن سعد بن أبي وقاص.(3/134)
وقال آخرون بما:-
2155- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عثمان بن سعد الكاتب قال، حدثنا أنس بن مالك قال: صلى نبي الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس تسعة أشهر أو عشرة أشهر. فبينما هو قائمٌ يصلي الظهر بالمدينة وقد صلى ركعتين نحو بيت المقدس، انصرف بوَجْهه إلى الكعبة، فقال السفهاء:"ما وَلاهُم عن قبلتهم التي كانوا عَليها". (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 2155- عمرو بن علي: هو الفلاس، مضت ترجمته: 1989.
أبو عاصم: هو النيل، واسمه"الضحاك بن مخلد"، وهو فقيه ثقة حافظ، من شيوخ أحمد وإسحاق وابن المديني وغيرهم من الأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/337، والصغير: 231، وابن سعد 7/2/49، وابن أبي حاتم2/1/463، والجمع بين رجال الصحيحين 228-229. وكان نبيلا حقًا، صفة ولقبًا. قال البخاري في الكبير: "سمعت أبا عاصم يقول: ما اغتبت أحدًا منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها". ولد سنة 122، ومات سنة 212 وهو ابن 90 سنة و 4 أشهر ولدته أمه وعمرها 12 سنة. رحمهما الله.
عثمان بن سعد التميمي الكاتب المعلم: ثقة، وثقه أبو نعيم، والحاكم وغيرهما، وتكلم فيه بعضهم بغير حجة، ونقل بعضهم عن النسائي أنه قال: "ليس بثقة"، ونقل الحافظ أنه رأى بخط ابن عبد الهادي: "الصواب في قول النسائي: أنه ليس بالقوي". وهذا هو الصواب عن النسائي، وهو الذي في كتاب الضعفاء له، ص: 22. وترجمه ابن أبي حاتم 3/1/153، وقال: "سمع أنس بن مالك". وسماعه من أنس ثابت عندنا في حديث آخر في المسند: 13201.
فهذا الإسناد -عندنا- صحيح. والحديث ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 143، ونسبه البزار وابن جرير. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 13، وقال: "رواه البزار، وفيه عثمان بن سعد، ضعفه يحيى القطان وابن معين وأبو زرعة، ووثقه ابو نعيم الحافظ، وقال أبو حاتم: شيخ". وقال الهيثمي أيضًا: "حديث أنس في الصحيح، إلا أنه جعل ذلك في صلاة الصبح، وهنا: الظهر". يشير بذلك إلى أن أصله في الصحيح، وهو الحديث في صحيح مسلم 1: 148، من رواية حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس، بنحوه، وفيه: "فمر رجل من بني سلمة، وهم ركوع في صلاة الفجر، فنادى: ألا إن القبلة قد حولت! فمالوا كما هم نحو القبلة". وكذلك رواه ابن سعد 1/2/4، من طريق حماد بن سلمة. ومن الواضح أن هذه قصة غير التي رواها الطبري هنا. فإن الذي هنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي انصرف بوجهه إلى الكعبة. فهذا أول تحويل القبلة. وأما رواية مسلم فتلك بشأن جماعة آخرين، في مسجد قباء، جاءهم مخبر فأخبرهم وهم في الصلاة بتحويل القبلة، فاستداروا إليها. كما ثبت في الصحيحين وغيرهما، من حديث عبد الله بن عمر. وهو في المسند: 4642، 4794، 5934، 5827.(3/135)
وقال آخرون بما:-
2156- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا المسعودي، عن عمرو بن مرة، عن ابن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصلى نحو بيت المقدس ثَلاثة عَشر شهرًا. (1)
__________
(1) الحديث: 2156- أبو داود: هو الطيالسي الإمام الحافظ، واسمه: "سليمان بن داود بن الجارود". مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/11، وابن سعد 7/2/51، وابن أبي حاتم 2/1/111-113، مات سنة 203 عن 92 سنة لم يستكملها، كما قال ابن سعد.
المسعودي: هو عبد الرحمن بن عبد لله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، وهو ثقة، تغير حفظه في آخر عمره. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/250-252. وترجمنا له في شرح المسند مرارًا، آخرها في الحديث: 7105.
ابن أبي ليلى: هو عبد الرحمن، التابعي المشهور. ولكنه لم يسمع من معاذ بن جبل، كما جزم بذلك علي بن المديني والترمذي وابن خزيمة، لأنه ولد سنة وفاة معاذ أو قبلها أو بعدها بقليل.
فهذا الإسناد منقطع.
والحديث بهذا الإسناد، مختصرًا، رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 566، بلفظ: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة، فصلى سبعة عشر شهرًا نحو بيت المقدس، ثم نزلت عليه هذه الآية: "قد نرى تقلب وجهك في السماء"، إلى آخر الآية قال، فوجهه الله إلى الكعبة".
وهو جزء من حديث طويل، رواه أبو داود السجستاني في سننه: 507، بإسنادين: عن محمد بن المثنى -شيخ الطبري هنا- عن أبي داود، وهو الطيالسي - ثم رواه عن نصر بن المهاجر، عن يزيد بن هارون، كلاهما عن المسعودي. ولكن بين أبو داود أن رواية محمد بن المثنى مختصرة، كالرواية التي في مسند الطيالسي، ولكن ذكر أن صلاتهم نحو بيت المقدس كانت"ثلاثة عشر شهرًا"، كرواية الطبري هنا عن ابن المثنى. وأنا أرجح أن تكون رواية ابن المثنى عن الطيالسي. أرجح من الرواية التي في مسند الطيالسي، إذ أنه ليس من جمعه، بل هو من جمع أحد الرواة عنه.
ثم إن حديث معاذ -بطوله- رواه أحمد في المسند 5: 246-247، عن أبي النضر هاشم بن القاسم، عن يزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي، بهذا الإسناد. ولكن فيه"سبعة عشر شهرًا"، كرواية مسند الطيالسي.
وقد أشار الحافظ في الفتح 1: 89-90 إلى كثير من الروايات في ذلك، وحاول الجمع بينهما أو الترجيح. وعندي أن مثل هذا لا يستطاع ضبطه إلا أن يكتبوه في حينه، أو تتجه همّتهم إلى العناية بحفظه.
وقال الحافظ ابن كثير 1: 345-346: "والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس، بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة. واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهرًا، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يوجه إلى الكعبة. التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام. فأجيب إلى ذلك، وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق". وانظر أيضًا تاريخ ابن كثير 3: 252-254.(3/136)
2157- حدثنا أحمد بن المقدام العجلي قال، حدثنا المعتمر بن سليمان قال، سمعت أبي قال، حدثنا قتادة، عن سعيد بن المسيب: أنّ الأنصار صلَّت القبلةَ الأولى، قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم بثلاث حجج، وأن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى القبلةَ الأولى بعد قُدومه المدينة ستة عشر شهرًا، أو كما قال. وكلا الحديثين يحدِّث قتادة عن سعيد.
* * *
ذكر السبب الذي كان من أجله يُصلِّي رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس، قبل أن يُفرض عليه التوجُّه شطرَ الكعبة.
* * *
اختلف أهلُ العلم في ذلك.
فقال بعضهم: كان ذلك باختيار من النبي صلى الله عليه وسلم
ذكرُ من قال ذلك:(3/137)
2158- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تَميلة قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن عكرمة -وعن يزيد النحويّ، عن عكرمة- والحسن البصري قالا أوَّلُ ما نُسخ من القرآن القبلةُ. وذلك أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يستقبل صَخرَة بيت المقدس، وهي قبلة اليهودِ، فاستقبلها النبيّ صلى الله عليه وسلم سبعةَ عشر شهرًا، ليؤمنوا به ويتبعوه، ويدعو بذلك الأميين من العرب. فقال الله عز وجل: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 115] .
2159- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"سيقولُ السفهاء من الناس مَا وَلاهم عَن قبلتهم التي كانوا عليها"، يعنون بيتَ المقدس. قال الربيع. قال أبو العالية: إنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم خُيّر أن يوجِّه وجهه حيث شاء، فاختار بيت المقدس لكي يتألَّف أهلَ الكتاب، فكانت قبلتهُ ستة عشر شهرًا، وهو في ذلك يقلِّب وَجهه في السماء، ثم وَجَّهه الله إلى البيت الحرام.
* * *
وقال آخرون: بل كان فعلُ ذلك -من النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه- بفرض الله عز ذكره عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
2160- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قال: لما هاجَرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وكان [أكثرَ] أهلها اليهودُ، أمَره الله أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهود. فاستقبلها رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بضْعة عَشر شَهرًا، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبّ قبلةَ إبراهيم عليه السلام، وكان يدعو وينظر إلى السماء. فأنزل الله عز وجل: (قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي(3/138)
السَّمَاءِ) [سورة البقرة: 144] الآية. فارتاب من ذلك اليهود وقالوا:"ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟ فأنزل الله عز وجل:"قُلْ لله المشرق والمغرب". (1)
2161- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أوَّلَ ما صلى إلى الكعبة، ثم صُرف إلى بَيت المقدس. فصلَّت الأنصارُ نحو بيت المقدس قبلَ قُدومه ثلاث حِجَجٍ: وصلّى بعد قُدومه ستة عشر شهرًا، ثم ولاه الله جل ثناؤه إلى الكعبة.
* * *
ذكر السبب الذي من أجله قال من قال"ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟
* * *
اختلف أهل التأويل في ذلك. فرُوي عن ابن عباس فيه قولان. أحدهما ما:-
2162- حدثنا به ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: قال ذلك قومٌ من اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له: ارجِعْ إلى قبلتك التي كنت عليها نتَّبعك ونصدّقك! يريدون فتنتَهُ عن دينه. (2)
والقول الآخر: ما ذكرتُ من حَديث علي بن أبي طلحة عنه الذي مضى قبل. (3)
* * *
2163- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"سيقول السفهاءُ من الناس ما وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عَليها"؟ قال: صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حَولين قَبْل قُدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعدَ قدومه المدينة مهاجرًا، نحو بيت
__________
(1) الأثر: 2160- مضى برقم: 1833 ويأتي برقم: 2236، والزيادة بين القوسين من الموضعين.
(2) الأثر: 2162- هو بعض الأثر السالف رقم: 2149.
(3) يعني الأثر رقم: 2160.(3/139)
المقدس، ستة عشر شَهرًا، ثم وجَّهه اللهُ بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام. فقال في ذلك قائلون من الناس:"ما ولاهمْ عَنْ قبلتهم التي كانوا عليها"؟ لقد اشتاق الرَّجُل إلى مَوْلده! فقال الله عز وجل:"قلْ لله المشرقُ والمغربُ يهدي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مُستقيم".
* * *
وقيل: قائل هذه المقالة المنافقون. وإنما قالوا ذلك استهزاءً بالإسلام.
* ذكر من قال ذلك:
2164- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: لما وُجِّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم قبَلَ المسجد الحرام، اختلفَ الناس فيها فكانوا أصنافًا. فقال المنافقون: ما بالُهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجَّهوا إلى غيرها؟ فأنزل الله في المنافقين:"سَيقول السفهاءُ من الناس"، الآية كلها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك عز وجل: قُلْ يا محمد -لهؤلاء الذين قالوا لك ولأصحابك: ما ولاكم عن قبلتكم من بيت المقدس، التي كنتم على التوجُّه إليها، إلى التوجُّه إلى شطر المسجد الحرام؟ -: لله مُلك المشرق والمغرب = يعني بذلك: ملكُ ما بين قُطرَيْ مشرق الشمس، وقُطرَيْ مغربها، وما بينهما من العالم (1) = يَهدي من يشاء من خلقه، (2) فيُسدده، ويوفِّقه إلى الطريق القويم، وهو"الصراط
__________
(1) انظر تفسير"المشرق والمغرب" فيما سلف 2: 526-530.
(2) انظر تفسير"هدى" فيما سلف1: 166- 169، وفي فهرس اللغة في الجزء الأول والثاني.(3/140)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
المستقيم" (1) -ويعني بذلك: إلى قبلة إبراهيمَ الذي جعله للناس إمامًا- ويخذُل من يشاء منهم، فيضلُّه عن سبيل الحق.
* * *
وإنّما عنى جل ثناؤه بقوله:"يَهدي من يَشاء إلى صراط مُستقيم"، قُلْ يا محمد: إنّ الله هَدانا بالتوجُّه شطرَ المسجد الحرام لقبلة إبراهيم، وأضلَّكم -أيها اليهودُ والمنافقون وجماعةُ الشرك بالله- فخذلكم عما هدانا لهُ من ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وكذلك جَعلناكم أمة وسطًا"، كما هديناكم أيّها المؤمنون بمحمد عليه والسلام وبما جاءكم به من عند الله، فخصصناكم بالتوفيق لقِبلة إبراهيم وملته، وفضلناكم بذلك على من سواكم من أهل الملل، كذلك خصصناكم ففضَّلناكم على غيركم من أهل الأديان، بأن جعلناكم أمة وسطًا.
* * *
وقد بينا أن"الأمة"، هي القرن من الناس والصِّنف منهم وغَيرهم. (2)
* * *
وأما"الوسَط"، فإنه في كلام العرب الخيارُ. يقال منه:"فلان وَسَطُ الحسب في قومه"، (3) أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرفع في حسبه، و"هو وَسَطٌ في قومه، وواسطٌ"، (4)
كما يقال:"شاة يابِسةُ اللبن ويَبَسةُ اللبن"، وكما قال جل ثناؤه:
__________
(1) انظر تفسير"الصراط المستقيم" فيما سلف 1: 170-177.
(2) انظر ما سلف1: 221 / ثم هذا الجزء 3: 74، 100، 128.
(3) يقولون أيضًا: "هو وسيط الحسب في قومه"، إذا كان أوسطهم نسبًا، وأرفعم مجدًا.
(4) شاهد قولهم"واسط" من شعرهم، قول جابر بن ثعلب الطائي: وَمَنْ يَفْتَقِرْ فِي قَوْمِهِ يَحْمَدِ الغِنَى ... وَإنْ كَانَ فِيهِمْ وَاسِطَ العَمِّ مُخْوِلَا(3/141)
(فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا) [سورة طه: 77] ، وقال زُهير بن أبي سُلمى في"الوسط":
هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأنامُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا نزلَتْ إحْدَى الليَالِي بِمُعْظَمِ (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأنا أرى أن"الوسط" في هذا الموضع، هو"الوسط" الذي بمعنى: الجزءُ الذي هو بين الطرفين، مثل"وسَط الدار" محرَّك الوَسط مثقَّله، غيرَ جائز في"سينه" التخفيف.
وأرى أن الله تعالى ذكره إنما وصفهم بأنهم"وسَط"، لتوسطهم في الدين، فلا هُم أهل غُلوٍّ فيه، غلوَّ النصارى الذين غلوا بالترهب، وقيلهم في عيسى ما قالوا فيه - ولا هُم أهلُ تقصير فيه، تقصيرَ اليهود الذين بدَّلوا كتابَ الله، وقتلوا أنبياءَهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به؛ ولكنهم أهل توسط واعتدال فيه. فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبَّ الأمور إلى الله أوْسطُها.
* * *
وأما التأويل، فإنه جاء بأن"الوسط" العدلُ. وذلك معنى الخيار، لأن الخيارَ من الناس عُدولهم.
ذكر من قال:"الوسطُ" العدلُ.
2165- حدثنا سَلْم بن جُنادة ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا حفص بن غياث، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله
__________
(1) كأنه من قصيدته المعلقة، ديوانه 2: 27، ولكن رواية صدر البيت في الديوان: لِحَيٍّ حِلاَلٍ يَعْصِمُ النَّاسَ أَمْرُهُمْ
ولم أجد هذه الرواية فيما طبع من روايات ديوانه. ولكن البيت بهذه الرواية أنشده الجاحظ في البيان 3: 225 غير منسوب. وهو منسوب إلى زهير في أساس البلاغة"وسط". ورواية الديوان، والجاحظ: "إذا طرقت إحدى الليالي". وهما سواء.(3/142)
عليه وسلم في قوله:"وكذلك جَعلناكم أمة وَسَطًا" قال، عُدولا. (1)
2166- حدثنا مجاهد بن موسى ومحمد بن بشار قالا حدثنا جعفر بن عون، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
2167- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد الخدري:"وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا" قال،"عدولا.
2168- حدثني علي بن عيسى قال: حدثنا سعيد بن سليمان، عن حفص بن غياث، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله:"جعلناكم أمَّة وسطًا" قال، عدولا. (2)
__________
(1) الحديث: 2165- سلم بن جنادة، شيخ الطبري، مضت ترجمته في: 48، وكثرت رواية الطبري عنه، وهو أبو السائب. وفي المطبوعة هنا"سالم"، وهو خطأ تكرر فيها. ولا حاجة بنا إلى التنبيه عليه بعد ذلك.
يعقوب بن إبراهيم: هو الدورقي الحافظ، مضى: 237.
وهذا الإسناد والإسنادان بعده، لحديث واحد، مختصر من حديث سيأتي: 2179.
ورواه مختصرًا أيضًا، أحمد في المسند: 11084، عن أبي معاوية، عن الأعمش، به. ورواه بنحوه أيضًا: 11291، عن وكيع، عن الأعمش. (المسند 3: 9، 32 حلبي) . ونقله ابن كثير 1: 348، عن المسند. وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 6: 316، وقال: "رواه أحمد، ورجاله رجال الصحيح".
وقد وهم صاحب الزوائد في إدخاله فيها، لأنه مختصر من الحديث المطول الآتي، وقد أخرجه البخاري وغيره، فليس من الزوائد.
وهذه الروايات المختصرة عند الطبري - أشار إليها الحافظ في الفتح 8: 131، أثناء شرحه الرواية المطولة.
وكل الروايات التي رأينا، فيها"عدلا" بدل"عدولا". ولعل ما هنا من تحريف الناسخين، لأن الأجود صيغة الإفراد. على الوصف بالمصدر، يستوي فيه المذكر والمؤنث والمثنى والجمع. وفي اللسان: "فإن رأيته مجموعًا أو مثنى أو مؤنثًا - فعلى أنه قد أجرى مجرى الوصف الذي ليس بمصدر". والذي نقله الحافظ في الفتح، والسيوطي في الدر المنثور 1: 144 - بلفظ"عدلا" أيضًا بل عبارة أبي جعفر نفسه، قبل هذا الحديث تدل على ذلك، إذ قال: "ذكر من قال: الوسط العدل".
(2) الحديث: 2168- علي بن عيسى بن يزيد البغدادي الكراجكي: ثقة، من شيوخ الترمذي وابن خزيمة، مترجم في التهذيب، بغداد 12: 12-13. قال الخطيب: "وما علمت من حاله إلا خيرًا". مات سنة 247.
سعيد بن سليمان: هو أبو عثمان الواسطي البزاز، لقبه"سعدويه"، سبق توثيقه في شرح: 611. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/440 وابن سعد 7/2/81، وابن أبي حاتم 2/1/26، وتاريخ بغداد 9: 84-87. مات سنة 225، وله 100 سنة.
حفص بن غياث: مضى في: 1037، ولكن روايته هنا عن أبي صالح ذكوان السمان، منقطعة يقينًا، فإن أبا صالح مات سنة 101، وحفص ولد سنة 117. وإنما يروي عن الأعمش وطبقته، عن أبي صالح، كما في الإسناد الماضي: 2165.
ولعله سقط من نسخة الطبري في هذا الموضع بينهما: "عن الأعمش" - فيستقيم الإسناد، ويكون صحيححًا. ولم أستطع الجزم بشيء في ذلك، لأني لم أجد حديث أبي هريرة هذا في كتاب آخر ذي إسناد. وإنما ذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 144، ونسبه الطبري وحده.
وقد يرجح سقوط"الأعمش" من الإسناد في هذا الموضع: أن الحافظ حين أشار في الفتح 8: 131- إلى روايات الطبري المختصرة لحديث أبي سعيد، السابق، ذكر منها أن الطبري رواه"من طريق وكيع عن الأعمش، بلفظ: والوسط العدل، مختصر مرفوعا. ومن طريق أبي معاوية عن الأعمش، مثله". فهذان إسنادان لحديث أبي سعيد، نقلهما الحافظ ابن حجر - وهو من هو، دقة وتحريًا - عن هذا الموضع من الطبري، وليسا في النسخة بين أيدينا. فلا يبعد أن يكون في هذا الإسناد أيضًا نقص قوله"عن الأعمش" بين حفص بن غياث وأبي صالح.(3/143)
2169- حدثنا أبو كريب قال: حدثنا ابن يمان، عن أشعث، عن جعفر، عن سعيد:"وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا" قال، عدولا.
* * *
2170- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وكذلك جَعلناكم أمة وسَطًا" قال، عدولا.
2171- حدثنا المثنى قال، حدثنا حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2172- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"أمة وسَطًا" قال، عُدولا.
2173- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أمة وسَطًا" قال، عدولا.
2174- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"أمة وسَطًا" قال، عدولا.(3/144)
2175- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكذلك جعلناكم أمة وَسَطًا"، يقول: جعلكم أمةً عُدولا.
2176- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن رِشْد بن سعد قال، أخبرنا ابن أنعم المعافري، عن حبان بن أبي جبلة، يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم:"وكذلك جعلناكم أمةً وَسَطًا" قال، الوسطُ العدل. (1)
2177- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عطاء ومجاهد وعبد الله بن كثير:"أمة وَسَطًا"، قالوا: عُدولا. قال مجاهد: عَدْلا. (2)
2178- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وكذلك جَعلناكم أمهً وسطًا" قال، هم وَسَطٌ بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأمم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}
قال أبو جعفر:"والشهداء" جمع"شَهيد". (3)
فمعنى ذلك: وكذلك جَعلناكم أمَّة وسَطًا عُدولا [لتكونوا]
__________
(1) الحديث: 2176- هو قطعة من حديث مطول، سيأتي: 2195. و"رشدين بن سعد" ثبت في المطبوعة هنا"راشد بن سعد". وهو خطأ، كما سنبين هناك إن شاء الله.
(2) في المطبوعة: "وقال مجاهد: عدولا"، وكأن الصواب ما أثبت، وإلا كان كلاما زائدا، لا معنى له.
(3) انظر تفسير"الشهداء" فيما سلف 1: 376-378 / وهذا الجزء 3: 97.(3/145)
شُهداءَ لأنبيائي ورسُلي على أممها بالبلاغ، (1) أنها قد بلغت ما أُمرَت ببلاغه من رسالاتي إلى أممها، ويكونَ رسولي محمدٌ صلى الله عليه وسلم شهيدًا عليكم، بإيمانكم به وبما جاءكم به من عندي، كما:-
2179- حدثني أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يُدعى بنوح عليه السلام يوم القيامة فيقال له: هل بلَّغتَ ما أرسِلت به؟ فيقول: نعم. فيقال لقومه: هل بلغكم؟ فيقول: ما جاءنا ممن نذير! فيقال له: من يعلم ذاك؟ فيقول: محد وأمته. فهو قوله:"وكذلك جعلناكم أمَّةً وسطًا لتكونوا شُهداء على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا". (2)
2180- حدثنا مجاهد بن موسى قال، حدثنا جعفر بن عون قال، حدثنا الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم، بنحوه - إلا أنه زاد فيه: فيُدعون ويَشهدون أنه قد بلَّغ.
2181- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي سعيد:"وكذلك جعلناكم أمة وسَطًا لتكونوا شُهداءَ عَلى الناس" -بأن الرسل قد بلَّغوا-"ويكونَ الرسول عليكم
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها، بدلالة الآية، ودلالة ما سيأتي من قوله: "ويكون رسولي".
(2) الحديث: 2179- هو والإسنادان بعده، لحديث واحد، مضى بعضه بهذه الأسانيد: 2165-2167، إلا أن هناك زيادة شيخين للطبري في الإسنادين الأولين منا.
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، بنحوه: 1130، عن وكيع عن الأعمش، و 11579، عن أبي معاوية عن الأعمش. (3: 32، 58 حلبي) .
ورواه البخاري 6: 264، من طريق عبد الواحد بن زياد، و 8: 130-131، من طريق جرير وأبي أسامة، و 13: 266، من طريق أبي أسامة وجعفر بن عون - كلهم عن الأعمش، بهذا الإسناد نحوه.
ونقله ابن كثير في التفسير 1: 347-348، من روايتي الإمام أحمد، وقال: "رواه البخاري والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، من طرق، عن الأعمش".
ونسبه السيوطي 1: 144 لهؤلاء ولغيرهم.(3/146)
شهيدًا". بما عملتم، أو فعلتم.
2182- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن فضيل، عن أبي مالك الأشجعي، عن المغيرة بن عتيبة بن النهاس: أن مُكاتبًا لهم حَدّثهم عن جابر بن عبد الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إني وأمتي لعلى كَوْمٍ يومَ القيامة، مُشرفين على الخلائق. ما أحدٌ من الأمم إلا ودَّ أنه منها أيَّتُها الأمة، (1) ومَا من نبيّ كذّبه قومُه إلا نحن شُهداؤه يومَ القيامة أنه قد بلَّغ رسالات ربه ونصحَ لهُم. قال:"ويكونَ الرسول عليكم شَهيدًا". (2)
__________
(1) في حديث كعب بن مالك: "فتخلفنا أيتها الثلاثة" - يريد تخلفهم عن غزوة تبوك، وتأخر توبتهم. وهذه اللفظة تقال في الاختصاص، وتختص بالمخبر عن نفسه والمخاطب. تقول: "ما أنا فأفعل كذا أيها الرجل"، يعني نفسه. فمعنى قول كعب: "أيتها الثلاثة"، أي المخصوصين بالتخلف. (لسان العرب، مادة: أيا) .
(2) الحديث: 2182- هذا إسناد ضعيف، لجهالة التابعي الذي رواه عن جابر، وفي اسم الراوي عن التابعي بحث يحتاج إلى تحقيق.
ابن فضيل: هو محمد بن فضيل بن غزوان، مضى: 1840. أبو مالك الأشجعي: هو سعد بن طارق بن أشيم، تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. والكبير 2/2/59، وابن أبي حاتم 2/1/86-87.
المغيرة بن عتيبة بن النهاس: ثبت في الطبري هنا"عيينة"، بدل"عتيبة". ولم يترجم في التهذيب ولا ذيوله. وترجمه ابن أبي حاتم 4/1/227 هكذا: "مغيرة بن عتيبة بن نهاس العجلي. وكان قاضيًا لأهل الكوفة. روى عن سعيد بن جبير، وموسى بن طلحة، وعن مكتب عن جابر"، إلخ، وترجمه البخاري في الكبير 4/1/322-323 هكذا: "مغيرة بن عيينة بن عابس. قال ابن المبارك: ابن النحاس، عن. . . وعن مكتب بن جابر. . . ".
وحقق العلامة الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني، مصحح الكتابين - ترجيح ما يفي كتاب ابن أبي حاتم، لموافقته ما ثبت في الثقات لابن حبان، والإكمال لابن ماكولا. وهو الصحيح. وللمغيرة هذا روايات كثيرة في تاريخ الطبري، وثبت اسم أبيه في كثير منها على الصواب، وذكر اسمه ونسبه كاملا هناك 4: 81"المغيرة بن عتيبة بن النهاس العجلي".
وأما قوله هنا"أن مكاتبًا لهم حدثهم عن جابر" - فيفهم منه أن التابعي المبهم الراوي عن جابر، هو من موالي آل المغيرة الراوي عنه، وأنه مكاتب لهم. ولكن الذي في كتابي البخاري وابن أبي حاتم - كما ترى: "وعن مكتب عن جابر". فقال العلامة عبد الرحمن في تعليقه على ابن أبي حاتم: " أراه سعيد بن زياد المكتب" ولكنه قبل ذلك في تعليقه على التاريخ الكبير، ذكر ذلك احتمالا فقط، بل كاد يرده بأن"سعيد بن زياد المكتب مولى زياد المكتب مولى بني زهرة" ترجمه البخاري - يعني في 2/1/433"ولكن لم يذكر روايته عن جابر ولا غيره من الصحابة". وهو كما قال، وكذلك ترجمه في التهذيب وغيره. فلذلك أنا أستبعد جدًا أن يكون هو المراد بقول البخاري وابن أبي حاتم في شيوخ المغيرة"عن مكتب عن جابر". بل أكاد أرجح ما هنا في الطبري: أنه عن"مكاتب"، وأن يكون ذكر في بعض الروايات هكذا، ولعل بعض الناسخين القدماء نقلها حين نسخها محذوفة الألف.
ولم أجد هذا الحديث في كتاب آخر ذي إسناد، حتى أستطيع أن أتجاوز هذا الحد في التحقيق. ولكن ذكره السيوطي 1: 114 -دون إسناد طبعًا- ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، فقط.
وذكره ابن كثير 1: 348، نقلا عن ابن مردويه وابن أبي حاتم، من طريق عبد الواحد بن زياد، عن أبي مالك الأشجعي، بهذا الإسناد. وفيه"عن مغيرة بن عتيبة بن نياس"! وهو غلط واضح.(3/147)
2183- حدثني عصام بن روَّاد بن الجرّاح العسقلاني قال، حدثنا أبي قال، حدثنا الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن عبد الله بن أبي الفضل، عن أبي هريرة قال: خرجتُ مع النبي صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما صلى على الميت قال الناس: نِعم الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت! ثم خرجت مَعه في جنازة أخرى، فلما صلوا على الميت قال الناس: بئس الرجل! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وجَبت. فقام إليه أبيّ بن كعب فقال: يا رسولَ الله، ما قولك وجبت؟ قال:" قول الله عز وجل:"لتكونوا شُهداء على الناس". (1)
2184- حدثني عليّ بن سَهل الرملي قال، حدثنا الوليد بن مسلم قال،
__________
(1) 2183- عصام بن رواد بن الجراح العسقلاني: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/26، وقال: "روى عنه أبي، وكتبت أنا عنه"، ثم قال: "سئل أبي عنه؟ فقال: صدوق". وفي لسان الميزان: "لينه الحاكم أبو أحمد. وذكره ابن حبان في الثقات".
أبوه"رواد بن الجراح": مضت ترجمته: 126. ونزيد هنا: مترجم أيضًا في ميزان الاعتدال. ومجموع الكلام فيه يؤيد ضعفه. وقد روى له الطبري - فيما يأتي (22: 72-73) حديثًا مكذوبًا لا أصل له. وروى ما يدل على أن هذا الشيخ أدخل عليه ذلك الحديث، فلئن كان ذاك إن فيه لغفلة شديدة ما يجوز معها أن يقبل شيء من روايته. أما هذا الحديث -الذي هنا- فإنه لم ينفرد بروايته، كما سيجيء في الإسناد التالي لهذا.
وقد وقع المطبوعة هنا"عصام بن وراد" بتقديم الواو على الراء؛ وهو خطأ ظاهر. عبد الله بن أبي الفضل المديني: ترجمه ابن أبي حاتم 2/2/137، وروى عن أبيه قال: "لم يرو عنه غير يحيى بن أبي كثير، ولا نعرفه". وعن ذلك قال الذهبي في الميزان: "مجهول". وقال الحافظ في لسان الميزان: "ذكره ابن حبان في الثقات". وهذا - عندنا كاف في الاحتجاج بحديثه، إذ هو تابعي عرف شخصه، ووثقه ابن حبان. والتابعون -عندنا- على القبول، حتى يثبت في أحدهم جرح مقبول.
ووقع هنا في المطبوعة"عبد الله بن الفضل" بحذف كلمة"أبي"، وهو خطأ. وثبت على الصواب في الإسناد بعده.(3/148)
حدثني أبو عمرو، عن يحيى قال، حدثني عبد الله بن أبي الفضل المديني قال، حدثني أبو هريرة قال: أُتي رَسول الله صلى الله عليه وسلم بجنازة، فقال الناس: نعم الرجل! ثم ذكر نحو حديث عصَام عن أبيه. (1)
2185- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا زيد بن حباب قال، حدثنا عكرمة بن عمار قال، حدثني إياس بن سلمة بن الأكوع، عن أبيه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فمُرّ عليه بجنازة، فأثنِيَ عليها بثناء حَسن، فقال: وجبت! ومُرَّ عليه بجنازة أخرى، فأثنِيَ عليها دون ذلك، فقال: وجبت! قالوا: يا رسول الله، ما وجبت؟ قال: الملائكة شُهداء الله في السماء، وأنتم شهداء الله في الأرض، فما شهدتم عليه وجب. ثم قرأ: (وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ) الآية [سورة التوبة: 105] . (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 2184- هو إسناد آخر للحديث السابق. علي بن سهيل الرملي: مضى: 1384. الوليد بن مسلم الدمشقي، عالم الشأم: ثقة متقن صحيح العلم صحيح الحديث، من شيوخ أحمد وإسحاق وغيرهما، مات سنة 195. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/152-153، وابن سعد 7/2/173، وابن أبي حاتم 4/2/16-17، وروى عن مروان بن محمد قال، "كان الوليد بن مسلم عالمًا بحديث الأوزاعي".
وشيخه في هذا الإسناد"أبو عمرو"-: هو الأوزاعي.
والحديث -من هذا الوجه- صحيح، وذكره السيوطي، 1: 145، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم.
وأصله ثابت من حديث أبي هريرة. رواه أحمد في المسند: 7543. ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه، كما بينا هنا. ولكن لم يذكر فيه سؤال أبي بن كعب، ولا الاستشهاد بالآية. وفي مجمع الزوائد 3: 4 رواية أخرى له مطولة، وفيها أن السائل هو عمر. وذكر أنه"رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح".
(2) الحديث: 2185- وهذا إسناد صحيح، على شرط مسلم.
زيد بن الحباب -بضم الحاء المهملة وتخفيف الموحدة- العكلي: ثقة من شيوخ أحمد وابن المديني وغيرهما من الأئمة، وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/358، وابن سعد 6: 281، وابن أبي حاتم 1/2/561-562.
عكرمة بن عمار العجلي: ثقة، روى عنه شعبة والثوري ووكيع وغيرهم. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 4/1/50، وابن سعد 5: 404، وابن أبي حاتم 3/2/10-11.
إياس بن سلمة بن الأكوع: تابعي ثقة كثير الحديث، أخرج له أصحاب الكتب الستة، وهو قد سمع من أبيه الصحابي، وروى له الشيخان وغيرهما أحاديث من روايته عنه. وهو مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/1/439، وابن سعد 5: 184، وابن أبي حاتم 1/1/279-280. ورجال الصحيحين، ص: 47.
والحديث ذكره السيوطي 1: 145، باختصار في آخره. ونسبه لابن أبي شيبة، وهناد، وابن جرير والطبراني. ونقله الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 4-5، عن إسنادين للطبراني في الكبير، في كل منهما رجل ضعيف. فيستفاد تصحح الحديث بهذا الإسناد الصحيح عند ابن جرير. وفي المطبوعة: "فما شهدتم عليه وجبت"، والصواب ما أثبت.(3/149)
2186- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"لتكونوا شهداء على الناس"، تكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم، اليهود والنصارى والمجوس.
2187- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
2188- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا [أبو] عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح قال: يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة نَادِيَهُ ليس معه أحد، فتشهد له أمة محمد صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغهم. (1)
2189- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن أبيه أنه سمع عبيد بن عمير مثله.
2190- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، حدثني ابن أبي نجيح، عن أبيه قال، يأتي النبي صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، فذكر مثله، ولم يذكر عبيد بن عمير، مثله.
2191- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن
__________
(1) الأثر: 2188- كان في المطبوعة"حدثنا عاصم"، والصواب ما أثبت، وهو إسناد دائر في التفسير، أقربه: 2186. أما قوله: "ناديه" فهكذا جاءت في المطبوعة، وفي مطبوعات أخرى، وفي المخطوطات، وفي الدر المنثور 1: 146: "بإذنه"، وهذه الأخيرة لا معنى لها. أما قوله: "ناديه"، فكأنه أراد موقفه يوم القيامة. والنادي: مجتمع القوم وأهل المجلس. ولكني أرجح أن اللفظ محرف عن كلمة معناها"وحده - أو منفردًا"، فإن سياقه يقتضي ذلك. وقوله: "يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ناديه" أرجح أن قوله: "صلى الله عليه وسلم" زيادة ناسخ، والسياق يقتضي أن يكون: "يأتي النبي يوم القيامة ناديه ليس معه أحد".(3/150)
قتادة"لتكونوا شُهداء على الناس"، أي أنّ رسلهم قد بلغت قومَها عن ربّها،"ويكون الرسول عليكم شَهيدًا"، على أنه قد بلغ رسالات ربِّه إلى أمته.
2192- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أنّ قوم نوح يَقولونَ يوم القيامة: لم يبلِّغنا نوحٌ! فيدعَى نوح عليه السلام فيسأل: هل بلغتهم؟ فيقول: نعم. فيقال: من شُهودك؟ فيقول: أحمد صلى الله عليه وسلم وأمته. فتدعون فتُسألون فتقولون: نعم، قد بلّغهم. فتقول قوم نوح عليه السلام: كيف تشهدون علينا ولم تدركونا؟ قالوا: قد جاء نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم فأخبرنا أنه قد بلغكم، وأنزل عليه أنه قد بلغكم، فصدَّقناه. قال: فيصدّق نوح عليه السلام ويكذبونهم. قال:"لتكونوا شُهداء على الناس ويَكونَ الرسول عليكم شهيدًا"
2193- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"لتكونوا شُهداء على الناس"، لتكون هذه الأمة شُهداء على الناس أنّ الرسل قد بلَّغتهم، ويكون الرسول على هذه الأمة شهيدًا، أن قد بلَّغ ما أرسل به.
2194- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن زيد بن أسلم: أنّ الأمم يقولُون يوم القيامة: والله لقد كادت هذه الأمَّة أن تكون أنبياءَ كلهم! لما يرون الله أعطاهم.
2195- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، حدثنا ابن المبارك، عن رِشْدين بن سعد، قال أخبرني ابن أنعم المعافري، عن حبان بن أبي جبلة يُسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جمع الله عباده يوم القيامة، كان أوَّلَ من يدعى إسرافيلُ، فيقول له ربه: ما فعلتَ في عهدي؟ هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم رَبّ، قد بلغته جبريل عليهما السلام، فيدعى جبريل، فيقال له:(3/151)
هل بَلغك إسرافيلُ عهدي! (1) فيقول: نعم ربّ، قد بلغني. فيخلَّى عن إسرافيلُ، ويقال لجبريل: هل بلغت عهدي؟ فيقول: نعم، قد بلغتُ الرسل. فتُدعى الرسل فيقال لهم: هل بلَّغكم جبريلُ عهدي؟ فيقولون: نعم ربَّنا. فيخلَّى عن جبريل، ثم يقال للرسل: ما فعلتم بعهدي؟ فيقولون: بلَّغنا أممنا. فتدعى الأمم، فيقال: هل بلغكم الرسل عهدي؟ فمنهم المكذّب ومنهم المصدِّق، فتقول الرسل: إن لنا عليهم شهودًا يَشهدون أنْ قد بلَّغنا مع شَهادتك. فيقول: من يشهد لكم؟ فيقولون: أمَّة محمد. فتدعى أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول: أتشهدون أنّ رسُلي هؤلاء قد بلَّغوا عهدي إلى من أرسِلوا إليه؟ فيقولون: نعم ربَّنا شَهدنا أنْ قد بلَّغوا. فتقول تلك الأمم. كيف يشهد علينا من لم يُدركنا؟ فيقول لهم الرب تباركَ وتعالى: كيف تشهدون عَلى من لم تدركوا؟ فيقولون: ربنا بعثت إلينا رسولا وأنزلت إلينا عهدك وكتابك، وقصَصَت علينا أنّهم قد بلَّغوا، فشهدنا بما عهدْتَ إلينا. فيقول الرب: صدَقوا. فذلك قوله:"وكذلك جَعلناكم أمة وَسَطًا" -والوسطُ العَدْل-"لتكونوا شُهداء على الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا". قال ابن أنعم: فبلغني أنه يشهد يومئذ أمَّةُ محمد صلى الله عليه وسلم، إلا من كان في قلبه حِنَةٌ على أخيه. (2)
2196- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"لتكونوا شُهداء على الناس"، يعني بذلك. الذين استقاموا على الهُدى، فهم الذين يكونون شهداء على الناس يوم القيامة، لتكذيبهم رُسلَ الله وكفرهم بآيات الله.
__________
(1) في المطبوعة: "هل بلغت إسرافيل"، وهو خطأ، وصوابه ما أثبت.
(2) الحديث: 2195- هذا حديث ضعيف، من ناحيتين: من ناحية أنه مرسل، رواه تابعي لم يسنده عن صحابي. ومن ناحية ضعف"رشدين بن سعد"، كما سيأتي.
وقد مضت قطعة منه بهذا الإسناد: 2176. وأحلنا تخريجها على هذا الموضع.
رشدين بن سعد: ضعيف جدًا، سبق بيانه في: 1938. ووقع في المطبوعة هنا، وفي: 2176: "راشد"، كما كان ذلك في: 1938. وهو خطأ.
ابن أنعم المعافري: هو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم -بفتح الهمزة وسكون النون وضم العين المهملة- المعافري الإفريقي القاضي. وهو ثقة، تكلم فيه كثير من العلماء بغير حجة، سمع من أجلة التابعين، وكان شجاعًا في الحق. وكان أحمد بن صالح يقول: هو ثقة، وينكر على من تكلم فيه. قاله أبو بكر المالكي في رياض النفوس: "كان من جلة المحدثين، منسوبًا إلى الزهد والورع، صلبًا في دينه، متفننًا في علوم شتى". وغلا فيه ابن حبان غلوًا فاحشًا، فقال في كتاب المجروحين، ص: 283-284: "كان يروي الموضوعات عن الثقات، ويأتي عن الأثبات ما ليس من أحاديثهم، وكان يدلس عن محمد بن سعيد بن أبي قيس المطلوب". ثم روى حديثًا من طريقه يستدل به على ما قال. وهو حديث موضوع، ولكن ابن أنعم بريء من عهدته، فإن الحمل فيه على أحد الكذابين، وهو يوسف بن زياد البصري. وقد تعقب الدارقطني على ابن حبان ذلك، فيما ثبت بهامش مخطوطة المجروحين.
والمشارقة أخطأوا معرفة ابن أنعم، فعن ذلك جاء ما جاء من جرحه، بل أخطأوا تاريخ وفاته، فأرخوه سنة 156. والمغاربة أعرف به، وأرخوه سنة 161.
وله تراجم وافية: في التهذيب 6: 173-176، والصغير للبخاري، ص: 180، وابن أبي حاتم 2/2/334-335. والمجروحين لابن حبان: 283-284، والميزان للذهبي 2: 104-105، وطبقات علماء إفريقية لأبي العرب: 27-32. ورياض النفوس لأبي بكر المالكي 1: 96-103، وتاريخ بغداد 10: 214-218.
حبان -بكسر المهملة وتشديد الموحدة- بن أبي جبلة المصري: تابعي ثقة. وهو أحد العشرة الذين أرسلهم عمر بن عبد العزيز، ليفقهوا أهل إفريقية ويعلموهم أمر دينهم. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/83، وابن أبي حاتم 1/2/269.
وهذا الحديث مرسل، إذ حكى راويه عن التابعي أنه"يسنده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم"، لم يذكر من حدثه به.
وقوله"يسنده" - كتب في المطبوعة هنا وفي: 2176"بسنده" بالباء الموحدة. وهو تصحيف. والحديث ذكره السيوطي 1: 145، ولم ينسبه لغير الطبري وابن المبارك في الزهد.
وكان في المطبوعة"حقد على أخيه". وفي الدر المنثور 1: 146"إحنة"، والذي أثبته من القرطبي، وبعض المخطوطات. والحنة: الحقد، من"وحن يحن حنة" مثل: "وعد يعد عدة" (بكسر الحاء وفتح النون) . وقال الأزهري: ليست من كلام العرب، إنما هي إحنة: أي حقد. وأنكر الأصمعي"حنة"، وحكى عنه أبو نصر أنه قال: "كنا نظن الطرماح شيئًا حتى قال: وَأَكرَهُ أنْ يَعِيبَ عَلَيَّ قَوْمِي ... ِجَائِي الأَرْذَلِينَ ذَوِي الحِنَاتِ
لأنها إحنة وإحن، ولا يقال حنات" (ديوان الطرماح: 134) . وقال الزمخشري في الفائق (أحن) : "أما ما حكى عن الأصمعى. . . فاسترذال منه! "وحن"، وقضاء على الهمزة بالأصالة، أو برفض الواو في الاستعمال".(3/152)
2197- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"، يقول: لتكونوا شهداء على الأمم الذين خَلَوا من قبلكم، بما جاءتهم رسلهم، وبما كذّبوهم، فقالوا يوم القيامة وعَجِبوا: إنّ أمة لم يكونوا في زماننا، فآمنوا بما جاءتْ به رسلنا، وكذبنا نحن بما جاءوا به! فعجبوا كل العجب. قوله:"ويكُون الرسولُ عليكم شهيدًا"، يعني بإيمانهم به، وبما أنزل عليه.
2198- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"لتكونوا شُهداء على الناس"، يعني: أنهم شَهدوا على القرون بما سمَّى الله عز وجل لَهم.
2199- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء: ما قوله:"لتكونوا شهداء على الناس"؟ قال: أمة محمد، شهدوا على من ترك الحق حين جاءه الإيمانُ والهدى، ممن كان قبلنا. قالها عبد الله بن كثير. قال: وقال عطاء: شهداء على مَنْ ترك الحق ممن تركه من الناس أجمعين، جاء ذلك أمَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم في كتابهم،"ويكون الرسولُ عليكمْ شهيدًا" على أنهم قد آمنوا بالحق حين جاءهم، وصَدَّقوا به.
2200- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله:"لتكونوا شُهداء عل الناس ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا" قال، رسول الله صلى الله عليه وسلم شاهدٌ على أمَّته، وهم شهداء على الأمم، وهم أحد الأشهاد الذين قال الله عز وجل: (وَيَوْمَ يَقُومُ الأشْهَادُ) [سورة غافر: 51] الأربعة: الملائكة الذين يُحصُون أعْمالنا، لنا وعلينا، وقرأ قوله: (وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ) [سورة ق: 21] ، وقال: هذا يوم القيامة. قال: والنبيون شُهداء على أممهم. قال: وأمة محمد صلى الله عليه وسلم شُهداء على الأمم. قال:(3/154)
[والأطوار] الأجساد والجلود. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها"، ولم نجعل صَرْفك عَن القبلة التي كنت على التوجه إليها يا محمد فصرفْناك عنها، إلا لنعلم من يَتَّبعك ممن لا يتَّبعك، ممن يَنقلبُ على عقبيه.
* * *
والقبلة التي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عليها، التي عناها الله بقوله:"وما جعلنا القبلة التي كنت عليها"، هي القبلة التي كنت تتوجَّه إليها قبل أن يصرفك إلى الكعبة، كما:-
2201- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما جَعلنا القبلة التي كنت عليها"، يعني: بيت المقدس.
2202- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن
__________
(1) الأثر: 2200- ذكره السيوطي في الدر المنثور 5: 352 في تفسير [سورة غافر الآية: 51] ، بغير هذا اللفظ، ونسبه لابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما. ونصه:
"عن زيد بن أسلم: الأشهاد أربعة: الملائكة الذين يحصون علينا أعمالنا، وقرأ: "وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد"، والنبيون، شهداء على أممهم، وقرأ: "فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد"، وأمة محمد صلى الله عليه وسلم، شهداء على الأمم، وقرأ: "لتكونوا شهداء على الناس"، والأجساد والجلود، وقرأ: "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الذي أنطق كل شيء".
أما ما جاء في نص الطبري، ووضعته بين قوسين، فهو خطأ لا شك فيه، وأخشى أن يكون صوابه"الأطراف والأجساد والجلود"، ويعني بالأطراف، الجوارح، يريد بذلك الأيدي والأرجل، في قوله تعالى في [سورة يس: 65] : (اليَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وتُكَلّمنَا أَيْدِيهِمْ وتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)(3/155)
ابن جريج قال: قلت لعطاء:"وما جَعلنا القِبلة التي كنتَ عليها". قال: القِبلة بيتُ المقدس.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما ترك ذكر"الصرف عنها"، اكتفاء بدلالة ما قد ذكر من الكلام على معناه، كسائر ما قد ذكرنا فيما مضى من نَظائره. (1)
وإنما قُلنا: ذلك معناه، لأن محنةَ الله أصحابَ رسوله في القِبلة، إنما كانت -فيما تظاهرت به الأخبار- عند التحويل من بيت المقدس إلى الكعبة، حتى ارتدَّ -فيما ذكر- رجالٌ ممن كان قد أسلمَ واتَّبع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأظهرَ كثيرٌ من المنافقين =من أجل ذلك= نفاقَهم، وقالوا: ما بَالُ محمد يحوّلنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى هاهنا! وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالُنا وأعمالُهم وضاعت! وقال المشركون: تحيَّر محمد [صلى الله عليه وسلم] في دينه! فكان ذلك فتنةً للناس، وتمحيصًا للمؤمنين.
فلذلك قال جل ثناؤه:"ومَا جَعلنا القِبلةَ التي كنت عليها إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عَقبيه"، أي: ومَا جعلنا صَرْفك عن القبلة التي كنت عليها، وتحويلك إلى غيرها، كما قال جل ثناؤه: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلا فِتْنَةً لِلنَّاسِ) [سورة الإسراء: 60] بمعنى: وما جعلنا خَبرَك عن الرؤيا التي أريناك. وذلك أنه لو لم يكن أخبَر القوم بما كان أُرِي، لم يكن فيه على أحد فتنةٌ، وكذلك القبلة الأولى التي كانت نحو بيت المقدس، لو لم يكن صرفٌ عنها إلى الكعبة، لم يكن فيها على أحد فتنةٌ ولا محْنة.
* * *
ذكر الأخبار التي رُويت في ذلك بمعنى ما قلنا:
__________
(1) انظر ما سلف 1: 139-141، 179، وغيرها كثير، اطلبه في الفهارس.(3/156)
2203- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قَال: كانت القبلةُ فيها بلاءٌ وتمحيصٌ. صلَّت الأنصار نحو بيت المقدس حوْلين قَبل قدوم نبيّ الله صلى الله عليه وسلم، وصلى نبي الله صلى الله عليه وسلم بعدَ قُدومه المدينةَ مهاجرًا نحو بيت المقدس سبعةَ عشر شهرًا، ثم وجهه الله بعد ذلك إلى الكعبة البيتِ الحرام، فقال في ذلك قائلون من الناس:"مَا وَلاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟ لقد اشتاق الرجُل إلى مولده! قال الله عز وجل:"قُلْ لله المشرقُ والمغربُ يَهدي مَنْ يَشاءُ إلى صراط مُستقيم". فقال أناسٌ -لما صُرفت القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعمل في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله عز وجل:"ومَا كانَ الله ليُضيعَ إيمانكم". وقد يَبتلي الله العبادَ بما شَاءَ من أمره، الأمرَ بعدَ الأمر، ليعلم مَنْ يطيعه ممن يَعصيه، وكل ذلك مقبول، إذْ كان في [ذلك] إيمان بالله، وإخلاصٌ له، وتسليم لقضائه. (1)
2204- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُصلي قِبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبة. فلما وُجِّه قبل المسجد الحرام، (2) اختلف الناس فيها، فكانوا أصنافًا، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة زمانًا، ثم تركوها وتوجهوا إلى غيرها؟ وقال المسلمون: ليت شعرَنا عَن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلُّون قبَلَ بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم، أوْ لا؟ وقالت اليهود: إنّ محمدًا اشتاق إلى بلد أبيه ومولده، ولو ثبت على قبلتنا لكنا نرجو أن يكون هو صاحبنا الذي ننتظر! وقال
__________
(1) الأثر: 2203- في الدر المنثور 1: 143، وقد مضى شطره في رقم: 2163. وكان في المطبوعة: "وكل ذلك مقبول، وإذا كان في إيمان بالله. . . "، عبارة ركيكة، فجعلت"إذا"، "إذ" وزدت"ذلك": لتستقيم العبارة. أما في الدر المنثور فعبارته أشد سقمًا ونصها: "وكل ذلك مقبول، في درجات في الإيمان بالله، والإخلاص، والتسليم لقضاء الله".
(2) في المطبوعة: "فلما توجه قبل المسجد"، والصواب من رقم: 2164، والدر المنثور.(3/157)
المشركون من أهل مكة: تَحيَّر على محمد دينُهُ، فتوجه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه، ويوشك أنْ يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه في المنافقين:"سَيقول السفهاء من الناس مَا ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها" إلى قوله:"وإنْ كانتْ كبيرةً إلا على الذين هَدى الله"، وأنزل في الآخرين الآيات بعدها. (1)
2205- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء:"إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن ينقلبُ على عَقبيه"؟ فقال عطاء: يبتليهم، ليعلم من يُسلم لأمره. قال ابن جريج: بلغني أنّ ناسًا ممن أسلم رَجعوا فقالوا: مرة هاهنا ومرة هاهنا!
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ مَا كان الله عالمًا بمن يتَّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، إلا بعد اتباع المتّبع، وانقلاب المنقلب على عقبيه، حتى قال: ما فعلنا الذي فعلنا من تحويل القبلة إلا لنعلم المتّبعَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم من المنقلب على عقبيه؟
قيل: إن الله جل ثناؤه هو العالم بالأشياء كلها قَبل كونها، وليس قوله:"وما جعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلمَ من يتَّبع الرسول ممن يَنقلب على عَقبيه" يخبر [عن] أنه لم يعلم ذلك إلا بعد وجُوده. (2)
فإن قال: فما معنى ذلك؟
قيل له: أما معناه عندنا، فإنه: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رَسولي وحزبي وأوليائي مَنْ يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، فقال جل ثناؤه:"إلا لنعلم"، ومعناه: ليعلمَ رَسولي وأوليائي. إذْ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الأثر: 2204- مضى بعضه في رقم: 2164، وهو في الدر المنثور 1: 142-143.
(2) في المطبوعة: "يخبر أنه لم يعلم ذلك. . . "، والصواب ما أثبت، مع الزيادة بين القوسين.(3/158)
وأولياؤهُ من حزبه، وكان من شَأن العرب إضافة ما فعلته أتباعُ الرئيس إلى الرئيس، ومَا فعل بهم إليه، نحو قولهم:"فتح عُمر بن الخطاب سَوادَ العراق، وجَبى خَرَاجها"، وإنما فعل ذلك أصحابه، عن سببٍ كان منه في ذلك. وكالذي رُوي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول الله جل ثناؤه: مَرضْتُ فلم يَعدني عَبدي، واستقرضته فلم يقرضني، وشتمني ولم يَنبغِ له أن يُشتمني.
2206- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا خالد، عن محمد بن جعفر، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: قالَ الله: استقرضتُ عَبدي فلم يُقرضني، وشتمني ولم يَنبغ له أن يشتُمني! يقول: وادَهراه! وأنا الدهر، أنا الدهر.
2207- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
* * *
فأضاف تعالى ذكره الاستقراض والعيادة إلى نفسه، وقد كان ذلك بغيره، إذ كان ذلك عن سببه.
وقد حكي عن العرب سماعًا:"أجوع في غَيْر بَطني، وأعرى في غير
__________
(1) الحديثان: 2206، 2207- هما حديث واحد بإسنادين صحيحين.
خالد- في أولهما: هو خالد بن مخلد القطواني، بفتح القاف والطاء. وهو ثقة من شيوخ البخاري، أخرج له هو ومسلم في الصحيحين، تكلم فيه من جهة إفراطه في التشيع، ولكنه صدوق في الرواية. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/160، وابن سعد 6: 283، وابن أبي حاتم 1/2/354. وشيخه محمد بن جعفر بن أبي كثير الأنصاري الزرقي: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 1: 418، من طريق يزيد بن هارون، عن محمد بن إسحاق، بالإسناد الثاني، بنحوه. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
والنهي عن سب الدهر، في الحديث القدسي، من حديث أبي هريرة-: ثابت من أوجه، في الصحيحين وغيرهما. فانظر المسند: 7244، 7509. والبخاري 8: 441، و 10: 465، و 13: 389. وصحيح مسلم 2: 196-197.(3/159)
ظهْري"، بمعنى: جُوعَ أهله وعياله وعُرْيَ ظهورهم،
فكذلك قوله:"إلا لنعلم"، بمعنى: يعلم أوليائي وحزبي.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2208- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وما جَعلنا القبلةَ التي كنت عليها إلا لنعلم من يتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه"، قال ابن عباس: لنميّز أهلَ اليقين من أهل الشرك والريبة.
* * *
وقال بعضهم: إنما قيل ذلك، من أجل أن العرَب تَضع"العلم" مكان"الرؤية"، و"الرؤية" مكان"العلم"، كما قَال جلّ ذكره: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) [سورة الفيل: 1] ، فزعم أن معنى"ألم تر"، ألم تعلم؟ وزعم أن معنى قوله:"إلا لنعلم"، بمعنى: إلا لنرى من يتبع الرسول. وزعم أنّ قول القائل:"رأيتُ، وعَلمت، وشَهدت"، حروفٌ تتعاقب، فيوضَع بعضها موضع بعض، كما قال جرير بن عطية
كَأَنَّكَ لَمْ تَشْهَدْ لَقِيطًا وَحَاجِبًا ... وَعَمْرَو بن عَمْرٍو إذْ دَعَا يَالَ دَارِمِ (1)
بمعنى: كأنك لم تعلم لَقيطًا، لأنّ بين هُلْك لَقيط وحاجب وزمان جرير، ما لا يخفى بُعده من المدة. وذلك أنّ الذين ذكرهم هلكوا في الجاهلية، وجريرٌ كان بعد بُرْهة مَضَت من مجيء الإسلام.
* * *
__________
(1) ديوانه: 563، والنقائض: 409، من قصيدته الفالقة، في نقض قصيدة الفرزدق. وقد عدد فيها أيام قومه. والخطاب في قوله: "كأنك" للفرزدق، ويذكر"يوم جبلة"، وهو من أعظم أيامهم، وكان قبل الإسلام بأربعين سنة، عام ولد النبي صلى الله عليه وسلم، وهو لعامر وعبس، على ذبيان وتميم. وقتل يومئذ لقيط بن زرارة، وأسر حاجب بن زرارة، وأسر عمرو بن عمرو بن عدس، وهم من بني عبد الله بن دارم، وهم عمومة الفرزذق، وهو من بني مجاشع بن دارم.
ورواية الديوان والنقائض: "إذا دعوا"، وكلتاهما صحيحة المعنى.(3/160)
قال أبو جعفر: وهذا تأويل بعيدٌ، من أجل أنّ"الرؤية"، وإن استعملت في موضع"العلم"، من أجل أنه مستحيلٌ أن يرى أحدٌ شيئًا، فلا توجب رؤيته إياه علمًا بأنه قد رآه، إذا كان صحيح الفطرة. فجاز من الوجه الذي أثبته رؤيةً، أن يُضَاف إليه إثباتُهُ إياه علمًا، (1) وصحّ أن يدلّ بذكر"الرؤية" على معنى"العلم" من أجل ذلك. فليس ذلك، وإن كان [جائزا] في الرؤية -لما وصفنا- بجائز في العلم، (2) فيدلّ بذكر الخبر عن"العلم" على"الرؤية". لأن المرء قد يعلم أشياء كثيرة لم يرها ولا يراها، ويستحيل أن يَرَى شيئًا إلا علمه، كما قد قدمنا البيان [عنه] . (3) مع أنه غير موجود في شيء من كلام العرب أن يقال:"علمت كذا"، بمعنى رأيته. وإنما يجوز توجيه معاني ما في كتاب الله الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم منَ الكلام، إلى ما كان موجودًا مثله في كلام العرب، دون ما لم يكن موجودًا في كلامها. فموجود في كلامها"رأيت" بمعنى: علمت، وغير موجود في كلامها"علمت" بمعنى: رأيت، فيجوز توجيه:"إلا لنعلم" إلى معنى: إلا لنرى.
* * *
وقال آخرون: إنما قيل:"إلا لنعلم"، من أجل أنّ المنافقين واليهودَ وأهلَ الكفر بالله، أنكروا أن يكون الله تعالى ذكره يَعلم الشيءَ قبل كونه. وقالوا - إذ قيل لهم: إن قومَا من أهل القبلة سيرتدُّون على أعقابهم، إذا حُوِّلت قبلة محمد صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة-: ذلك غير كائن! أو قالوا: ذلك باطل! فلما فَعل الله ذلك، وحوَّل القبلة، وكفر من أجل ذلك من كفر، قال الله جل
__________
(1) أثبت الشيء: عرفه حق المعرفة.
(2) الزيادة بين القوسين، لا بد للسياق منها، وإلا اختل الكلام.
(3) زيادة يقتضيها سياقه.(3/161)
ثناؤه: ما فعلتُ إلا لنعلم ما علمه غَيركم- أيها المشركون المنكرون علمي بما هو كائن من الأشياء قبل كونه-: أنّي عالم بما هو كائن مما لم يكن بعد. (1)
فكأن معنى قائلي هذا القول في تأويل قوله:"إلا لنعلم": إلا لنبيّن لكم أنّا نعلمُ من يَتّبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه. وهذا وإن كان وَجهًا له مَخرج، فبعيدٌ من المفهوم.
* * *
وقال آخرون: إنما قيل:"إلا لنعلم"، وهو بذلك عالم قبل كونه وفي كل حال، على وجه الترفّق بعباده، واستمالتهم إلى طاعته، (2) كما قال جل ثناؤه: (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) (3) [سورة سبأ: 24] ، وقد علم أنه على هدى، وأنهم على ضلال مبين، ولكنه رَفقَ بهم في الخطاب، فلم يقل: أنّا على هدى، وأنتم على ضلال. فكذلك قوله:"إلا لنعلم"، معناه عندهم: إلا لتعلموا أنتم، إذ كنتم جُهالا به قبل أن يكونَ. فأضاف العلم إلى نفسه، رفقًا بخطابهم.
* * *
وقد بيَّنا القول الذي هو أوْلى في ذلك بالحقّ.
* * *
وأما قوله:"مَنْ يتَّبع الرسول". فإنه يعني: الذي يتبع محمدًا صلى الله عليه وسلم فيما يأمره الله به، فيوجِّه نحو الوَجه الذي يتوَجَّه نحوه محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *
__________
(1) كان في المطبوعة: "إلا لنعلم ما عندكم. . . " وهذا يجعل الجملة غير مستقيمة، غير مفهومة المعنى. ورأيت أن سياق الكلام قبله يدل على أن ذلك كما أثبت، فإن المؤمنين علموا أن قومًا سيرتدون إذا حولت القبلة، وأنكر اليهود والمنافقون أن يكون ذلك كائنًا. فاقتضى السياق أن يكون التأويل جامعًا لهذا العلم من هؤلاء، وذلك الإنكار من أولئك. ثم جاء الطبري بعبارة تصحح ما ذهبت إليه في قوله: "إلا لنبين لكم أننا نعلم". فكأن معنى الآية عند قائل هذا القول: ما جعلنا القبلة التي كنت عليها، وإلا للعلم بأننا نعلم من يتبع الرسول. . .
(2) في المطبوعة: "على وجه الترفيق بعباده"، وهو خطأ.
(3) كان في الأصل: "قل الله" أول الآية المستشهد بها، فآثرت إتمامها.(3/162)
وأما قوله:"ممن يَنقلب على عَقبيه"، فإنه يعني: من الذي يرتدُّ عن دينه، فينافق، أو يكفر، أو مخالف محمدًا صلى الله عليه وسلم في ذلك، ممن يظهر اتِّباعه، كما:-
2209- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما جَعلنا القبلةَ التي كنتَ عليها إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه" قال، مَنْ إذا دخلتْه شُبهة رجع عن الله، وانقلب كافرًا على عَقبيه.
* * *
وأصل"المرتد على عقبيه"، هو:"المنقلب على عقبيه"، الراجع مستدبرًا في الطريق الذي قد كان قطعه، منصرفًا عنه. فقيل ذلك لكل راجع عن أمر كان فيه، من دين أو خير. ومن ذلك قوله: (فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا) [سورة الكهف: 64] ، بمعنى: رَجعا في الطريق الذي كانا سَلكاه، وإنما قيل للمرتد:"مرتد"، لرجوعه عن دينه وملته التي كان عليها.
وإنما قيل:"رجع عَلى عقبيه"، لرجوعه دُبُرًا على عَقبه، إلى الوجه الذي كان فيه بدء سيره قبل مَرْجعه عنه. فيجعل ذلك مثلا لكل تارك أمرًا وآخذٍ آخرَ غيره، إذا انصرف عما كان فيه، إلى الذي كان له تاركًا فأخذه. فقيل:"ارتد فلان على عَقِبه، وانقلب على عَقبيه".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في التي وصفها الله جل وعز بأنها كانت"كبيرة إلا على الذين هَدى الله".(3/163)
فقال بعضهم: عنى جل ثناؤه ب"الكبيرة"، التوليةُ من بيت المقدس شطرَ المسجد الحرام والتحويلُ. وإنما أنَّث"الكبيرة"، لتأنيث"التولية".
* ذكر من قال ذلك:
2210- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس، قال الله:"وإن كانت كبيرةً إلا على الذين هدى الله"، يعني: تحويلَها.
2211- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى بن ميمون، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله" قال، ما أمِروا به من التحوُّل إلى الكعبة من بيت المقدس.
2212- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2213- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"لكبيرة إلا على الذين هَدى الله" قال، كبيرة، حين حُولت القبلة إلى المسجد الحرام، فكانت كبيرةً إلا على الذين هدى الله.
* * *
وقال آخرون: بل"الكبيرة"، هي القبلة بعينها التي كان صلى الله عليه وسلم يتوجَّه إليها من بيت المقدس قبلَ التحويل.
* ذكر من قال ذلك.
2214- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية:"وإن كانت لكبيرة"، أي: قبلةُ بيت المقدس -"إلا على الذين هدى الله". (1)
__________
(1) في المطبوعة: "عن أبيه عن أبي العالية"، بإسقاط"عن الربيع"، وهو إسناد دائر في الطبري، أقربه رقم: 1886.(3/164)
وقال بعضهم: بل"الكبيرة" هي الصلاة التي كانوا يصلّونها إلى القبلة الأولى.
* ذكر من قال ذلك.
2215- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله" قال، صلاتكم حتى يهديَكم اللهُ عز وجل القِبلةَ. (1)
2216- وقد حدثني به يونس مرة أخرى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن كانت لَكبيرة" قال، صلاتك هاهنا -يعني إلى بيت المقدس ستة عشر شهرًا- وانحرافُك هاهنا
* * *
وقال بعض نحويي البصرة: أنِّثت"الكبيرة" لتأنيث القبلة، وإياها عنى جل ثناؤه بقوله:"وإن كانت لكبيرة".
وقال بعض نحويي الكوفة: بل أنثت"الكبيرة" لتأنيث التولية والتحويلة
فتأويل الكلام على ما تأوله قائلو هذه المقالة: وما جعلنا تحويلتنا إياك عن القبلة التي كنتَ عليها وتوليتُناك عنها، إلا لنعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، وإن كانت تحويلتُنا إياك عنها وتوليتُناكَ"لكبيرة إلا على الذين هدى الله".
* * *
وهذا التأويل أولى التأويلات عندي بالصواب. لأن القوم إنما كبُر عليهم تحويل النبي صلى الله عليه وسلم وَجْهه عن القبلة الأولى إلى الأخرى، لا عين القبلة، ولا الصلاة. لأن القبلة الأولى والصلاة، قد كانت وهى غير كبيرة عليهم. إلا أن يوجِّه موجِّه تأنيث"الكبيرة" إلى"القبلة"، ويقول: اجتُزئ بذكر"القبلة" من ذكر"التولية والتحويلة"، لدلالة الكلام على معنى ذلك، كما قد وصفنا لك في نظائره. (2) فيكون ذلك وجهًا صحيحًا، ومذهبًا مفهومًا.
* * *
__________
(1) الأثر: 2215- سيأتي تامًا برقم: 2217، وفيه"يهديكم إلى القبلة"، وهما صواب.
(2) انظر ما سلف في فهارس الأجزاء الماضية.(3/165)
ومعنى قوله:"كبيرة"، عظيمة، (1) . كما:-
2217- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وإن كانت لكبيرة إلا عَلى الذين هدى الله" قال، كبيرة في صدور الناس، فيما يدخل الشيطانُ به ابنَ آدم. قال: ما لهم صلُّوا إلى هاهنا ستةَ عشر شهرًا ثم انحرفوا! فكبُر ذلك في صدور من لا يعرف ولا يعقل والمنافقين، فقالوا: أيّ شيء هذا الدين؟ وأما الذين آمنوا، فثبَّت الله جل ثناؤه ذلك قي قلوبهم، وقرأ قول الله"وإن كانت لكبيرةً إلا على الذين هدى الله" قال، صَلاتكم حَتى يهديكم إلى القبلة. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأما قوله:"إلا على الذين هَدى الله"، فإنه يعني به:
وإن كان تقليبَتُناك عن القبلة التي كنتَ عليها، لعظيمة إلا على من وّفَّقه الله جل ثناؤه، فهداهُ لتصديقك والإيمان بك وبذلك، واتباعِك فيه، وفيما أنزل الله تعالى ذكره عليك، كما:-
2218- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله"، يقول: إلا على الخاشعين، يعني المصدِّقين بما أنزل الله تبارك وتعالى. (3)
* * *
__________
(1) انظر تفسير"كبيرة" فيما سلف 2: 15.
(2) الأثر: 2217- انظر ما سلف رقم: 2115، والتعليق عليه.
(3) الأثر 2218- أخشى أن يكون هذا الأثر، هو نفس الأثر السالف برقم: 856.(3/166)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}
قال أبو جعفر: قيل: عنى ب"الإيمان"، في هذا الموضع: الصلاةَ.
* * *
ذكر الأخبار التي رُويت بذلك، وذكر قول من قاله:
2219- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وعبيد الله -وحدثنا سفيان بن وكيع قال حدثنا عبيد الله بن موسى- جميعًا، عن إسرائيل، عن سماك، عن عكرمة، عن ابن عباس قال، لما وُجِّه رَسوله الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة قالوا: كيف بمن ماتَ من إخواننا قبل ذلك، وهم يصلون نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله جل ثناؤه:"وما كانَ الله ليضيعَ إيمانكم". (1)
2220- حدثني إسماعيل بن موسى قال، أخبرنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء في قول الله عز وجل:"وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم نحوَ بَيت المقدس.
2221- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء نحوه. (2)
2222- وحدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن محمد بن نفيل الحرّاني قال، حدثنا زهير قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء قال: مات على القبلة قبلَ أن تحوّل إلى البيت
__________
(1) الحديث: 2219- هو بإسنادين معًا: أولهما صحيح، وهو رواية أبي كريب، عن وكيع وعبيد الله بن موسى. وثانيهما ضعيف، وهو رواية سفيان بن وكيع عن عبيد الله بن موسى.
وعبيد الله بن موسى العبسي: مضى في 2092.
والحديث رواه أحمد في المسند: 3249، عن وكيع، عن إسرائيل، بهذا الإسناد، نحوه. ورواه أيضًا مطولا ومختصرًا، من طرق عن إسرائيل: 2691، 2776، 2966. وخرجناه هناك في: 2691.
(2) الحديثان: 2220-2221- هما حديث واحد بإسنادين.
وذكره السيوطي 1: 146، ونسبه أيضًا لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم.(3/167)
رجالٌ وقُتلوا، فلم ندر ما نَقول فيهم. فأنزل الله تعالى ذكره:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم". (1)
2223- حدثنا بشر بن معاذ العقدي قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال، قال أناسٌ من الناس -لما صرفت القبلة نحو البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نَعملُ في قبلتنا؟ فأنزل الله جل ثناؤه:"وما كان الله ليضيع إيمانكم".
2224- حدثني موسى بن هارون قال، حدثني عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: لما وُجِّه رسول الله صلى الله عليه وسلم قبَل المسجد الحرام، (2) قال المسلمون: ليتَ شِعْرنا عن إخواننا الذين مَاتوا وهم يصلون قبل بيت المقدس! هل تقبَّل الله منا ومنهم أم لا؟ فأنزل الله جل ثناؤه فيهم:"وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم قبَلَ بيت المقدس: يقول: إنّ تلك طاعة وهذه طاعة. (3)
2225- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: قال ناسٌ -لما صرفت القبلة إلى البيت الحرام-: كيف بأعمالنا التي كنا نعملُ في قبلتنا الأولى؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"وما كانَ الله ليضيع إيمانكم" الآية.
2226- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني داود بن أبي عاصم قال، لما صُرف رسولُ الله صلى الله
__________
(1) الحديث: 2222- عبد الله بن محمد بن نفيل: هو عبد الله بن محمد بن علي بن نفيل، أبو جعفر النفيلي الحراني، الثقة المأمون الحافظ. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 2/2/159.
زهير: هو ابن معاوية الجعفي أبو خيثمة. مضى: 2144. وأبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني. والحديث هو باقي الحديث الماضي لهذا الإسناد: 2153. وقد بينا تخريجه هناك.
(2) في المطبوعة: "لما توجه. . . "، وانظر ما سلف رقم: 2204، والتعليق عليه.
(3) الأثر: 2224- مضى برقم: 2164، ثم: 2204، وفيه هنا زيادة.(3/168)
عليه وسلم إلى الكعبة، قال المسلمون: هَلك أصحابنا الذين كانوا يصلون إلى بيت المقدس! فنزلت:"وما كان الله ليضيع إيمانكم".
2227- حدثنا محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"وما كان الله ليضيع إيمانكم"، يقول: صَلاتكم التي صليتموها من قبل أن تكون القبلة. فكان المؤمنون قد أشفقوا على مَن صلى منهم أن لا تُقبلَ صلاتهم.
2228- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وما كان الله ليضيع إيمانكم"، صلاتكم.
2229- حدثنا محمد بن إسماعيل الفزاري قال، أخبرنا المؤمل قال، حدثنا سفيان، حدثنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب في هذه الآية:"وما كان الله ليضيع إيمانكم" قال، صلاتكم نحو بيت المقدس.
* * *
قال أبو جعفر: قد دللنا فيما مضى على أن"الإيمان" التصديق. وأن التصديقَ قد يكون بالقول وحده، وبالفعل وحده، وبهما جميعًا. (1)
فمعنى قوله:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم" -على ما تظاهرت به الرواية من أنه الصلاة-: وما كان الله ليُضيع تصديقَ رَسوله عليه السلام، بصَلاتكم التي صليتموها نحو بيت المقدس عن أمره، لأن ذلك كان منكم تصديقًا لرسولي، واتِّباعًا لأمْري، وطاعةً منكم لي.
* * *
قال:"وإضاعته إياه" جل ثناؤه -لو أضاعه-: تركُ إثابة أصْحابه وعامليه عليه، فيذهب ضياعًا، ويصير باطلا كهيئة"إضاعة الرجل ماله"، وذلك إهلاكه إياه فيما لا يعتاض منه عوضًا في عاجل ولا آجل.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 234-235، وغيره، فالتمسه في فهرس اللغة.(3/169)
فأخبر الله جل ثناؤه أنه لم يكن يُبطل عَمل عاملٍ عمل له عملا وهو له طاعة، فلا يُثيبه عليه، وإن نُسخ ذلك الفرضُ بعد عمل العامل إياه على ما كلفه من عمله.
* * *
فإن قال قائل: وكيفَ قال الله جل ثناؤه:"وما كان الله ليُضيع إيمانكم"، فأضاف الإيمان إلى الأحياء المخاطبين، والقومُ المخاطبون بذلك إنما كانوا أشفقوا على إخوانهم الذين كانوا ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس، وفي ذلك من أمرهم أنزلت هذه الآية؟
قيل: إن القوم وإن كانوا أشفقوا من ذلك، فإنهم أيضًا قد كانوا مشفقين من حُبُوط ثواب صلاتهم التي صلوها إلى بيت المقدس قبل التحويل إلى الكعبة، وظنّوا أنّ عملهم ذلك قد بطلَ وذهب ضياعًا؟ فأنزل الله جل ثناؤه هذه الآية حينئذ، فوجّه الخطاب بها إلى الأحياء ودخل فيهم الموتى منهم. لأن من شأن العرب -إذا اجتمع في الخبر المخاطبُ والغائبُ- أن يغلبوا المخاطب فيدخل الغائب في الخطاب. فيقولوا لرجل خاطبوه على وجه الخبر عنه وعن آخر غائب غير حاضر:"فعلنا بكما وصنعنا بكما"، كهيئة خطابهم لهما وهما حاضران، ولا يستجيزون أن يقولوا:"فعلنا بهما"، وهم يخاطبون أحدهما، فيردّوا المخاطب إلى عِدَاد الغَيَب. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143) }
قال أبو جعفر: ويعني بقوله جل ثناؤه:"إنّ الله بالناس لَرَءوفٌ رحيمٌ": أن الله بجميع عباده ذُو رأفة.
* * *
__________
(1) الغيب (بفتحتين) جمع غائب، مثل خادم وخدم.(3/170)
و"الرأفة"، أعلى مَعاني الرحمة، وهي عَامَّة لجميع الخلق في الدنيا، ولبعضهم في الآخرة.
* * *
وأما"الرحيم": فإنه ذو الرحمة للمؤمنين في الدنيا والآخرة، على ما قد بينا فيما مضى قبل. (1)
* * *
وإنما أراد جل ثناؤه بذلك أنّ الله عز وجل أرْحمُ بعباده منْ أن يُضيع لهم طاعةً أطاعوه بها فلا يثيبهم عليها، وأرأفُ بهم من أن يُؤاخذهم بترك ما لم يفرضه عليهم -أيْ ولا تأسوا عَلى مَوْتاكم الذين ماتوا وهم يصلون إلى بيت المقدس-، فإني لهم =على طاعتهم إياي بصَلاتهم التي صلوها كذلك= مثيبٌ، لأني أرحم بهم من أن أضيع لهم عملا عملوه لي؛ ولا تحزنوا عليهم، فإني غيرُ مؤاخذهم بتركهم الصلاة إلى الكعبة، لأني لم أكن فرضت ذلك عليهم، وأنا أرأف بخلقي من أن أعاقبهم على تركهم ما لم آمرهم بعمله.
* * *
وفي"الرءوف" لغات. إحداها"رَؤُف" على مثال"فَعُل"، كما قال الوليد بن عقبة:
وَشرُّ الطالِبِينَ -وَلا تَكُنْه- ... بقَاتِلِ عَمِّه، الرَّؤُفُ الرَّحِيم (2)
__________
(1) انظر ما سلف 1: 126-134.
(2) كان في المطبوعة: "الرءوف الرحيما". وجاء على الصواب في القرطبي 2: 145، وأبي حيان 1: 427، وفيهما خطأ آخر، الأول فيه"يقاتل"، والثاني"يقابل"، وكأن هذا البيت من شعر الوليد بن عقبة، الذي كتب به إلى معاوية يحض معاوية على قتال علي رضي الله عنهما. وهي في أنساب الأشراف: 140، وتاريخ الطبري 5: 236-237، وحماسة البحتري: 30، واللسان (حلم) وغيرها، وليس فيها هذا البيت، وكأنه قبل البيت الذي يقول فيه: لَكَ الْوَيْلاتُ! أَقْحِمْهَا عَلَيْهِمْ ... فخيرُ الطَّالبي التِّرَةِ الغَشُومُ
وقوله: "لا تكنه"، دعاء له، واستنكار أن يكون كهذا الطالب الثائر الذي يطالب بدم عمه، وهو رؤوف رحيم بعدوه وقاتل عمه، وهو شر طالب ثأر.(3/171)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
وهي قراءة عامة قراء أهل الكوفة. والأخرى"رَؤوف" على مثال"فعول"، وهي قراءة عامة قراء المدينة، و"رَئِف"، وهي لغة غطفان، على مثال"فَعِل" مثل حَذِر. و"رَأْف" على مثال"فَعْل" بجزم العين، وهي لغة لبني أسد.
والقراءة على أحد الوجهين الأوَّلين.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: قد نرى يا محمد نحنُ تقلُّبَ وجهك في السماء.
* * *
ويعني: ب"التقلب"، التحوُّل والتصرُّف.
ويعني بقوله:"في السماء"، نحو السماء وقِبَلها.
* * *
وإنما قيل له ذلك صلى الله عليه وسلم -فيما بلغنا- لأنه كان =قَبل تحويل قبلته من بيت المقدس إلى الكعبة= يرفع بصره إلى السماءِ ينتظر من الله جل ثناؤه أمرَه بالتحويل نحو الكعبة، كما:-
2230- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"قدْ نَرى تَقلُّبَ وجهك في السماء" قال، كان صلى الله عليه وسلم يقلّب وجهه في السماء، يحبّ أن يصرفه الله عز وجل إلى الكعبة، حتى صرَفه الله إليها.
2231- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"قد نَرَى تَقلُّب وجهك في السماء"، فكان نبي الله صلى الله عليه وسلم يُصلّي نحو بيتَ المقدس، يَهوى وَيشتهي القبلةَ نحو البيت الحرام، فوجَّهه الله جل ثناؤه لقبلة كان يهواها وَيشتهيها.(3/172)
2232- حدثنا المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثني ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"قد نرى تقلُّب وَجهك في السماء"، يقول: نَظرَك في السماء. وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقلِّب وجهه في الصلاة وهو يصلي نحو بيت المقدس، وكان يهوى قبلةَ البيت الحرام، فولاه الله قبلةً كان يهواها.
2233- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: كان الناس يصلون قبَلَ بيت المقدس، فلما قَدِم النبي صلى الله عليه وسلم المدينةَ على رأس ثمانية عشر شهرًا من مُهاجَره، كان إذا صلى رفع رأسه إلى السماء يَنظُر ما يُؤمر، وكان يصلّي قبَل بيت المقدس، فنسختها الكعبةُ. فكان النبي صلى الله عليه وسلم يُحب أن يصلي قبَل الكعبة، فأنزل الله جل ثناؤه:"قد نَرَى تقلب وَجهك في السماء" الآية.
* * *
ثم اختلف في السبب الذي من أجله كان صلى الله عليه وسلم يهوى قبلة الكعبة.
قال بعضهم: كره قبلةَ بيت المقدس، من أجل أن اليهودَ قالوا: يتَّبع قبلتنا ويُخالفنا في ديننا!
* ذكر من قال ذلك:
2234- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: قالت اليهود: يخالفنا محمد ويتّبع قبلتنا! فكان يدعو الله جل ثناؤه، ويَستفرض للقبلة، (1) فنزلت:"قد نَرَى تقلُّب وَجهك في السماء فلنولينك قبلة تَرْضَاها فول وجهك شَطرَ المسجد الحَرَام"، -وانقطع قول يهود:
__________
(1) في المطبوعة: "يستعرض للقبلة"، وأثبت ما في الدر المنثور 1: 147 وقوله: "يستفرض" أي يطلب فرضها عليه وعلى المؤمنين. وهذا ما لم تشبه كتب اللغة، ولكنه صحيح العربية. أما قوله: "يستعرض للقبلة"، فليست بشيء.(3/173)
يخالفنا ويتبع قبلتنا! - في صلاة الظهر، (1) . فجعل الرجالَ مكانَ النساء، والنساءَ مكانَ الرجال.
2235- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، سمعته -يعني ابن زيد- يقول: قال الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"فأينما تولوا فثمَّ وجه الله". قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" هؤلاء قَومُ يهودَ يستقبلون بيتًا من بيوت الله -لبيت المقدس- ولو أنَّا استقبلناه! فاستقبله النبي صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرًا، فبلغه أن يهودَ تَقول: والله ما دَرَى محمد وأصحابه أين قبلتهم حتى هديناهم! (2) فكره ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ورفع وجهه إلى السماء، فقال الله جل ثناؤه:"قد نَرَى تقلُّب وجهك في السماء فلنوَلينَّك قبلةً ترضَاها فوَلّ وجهك شَطرَ المسجد الحرام" الآية. (3)
* * *
وقال آخرون: بل كان يهوى ذلك، من أجل أنه كان قبلةَ أبيه إبراهيم عليه السلام.
* ذكر من قال ذلك:
2236- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة، وكان أكثرَ أهلها اليهودُ، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيتَ المقدس. ففرحت اليهودُ. فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة عشر شهرًا، فكان رسول الله صَلى الله عليه وسلم يُحب قبلةَ إبراهيم، فكان يدعو وينظر إلى السماء، فأنزل الله عز وجل:"قد نرى تقلُّبَ وجهك في السماء" الآية. (4)
* * *
__________
(1) سياق عبارته: "فنزلت. . . في صلاة الظهر".
(2) في المطبوعة: "ما درى محمد صلى الله عليه وسلم"، ولا تقوله يهود، فرفعته. وكذلك جاء في رقم: 1838.
(3) الأثر: 2235- مضى برقم: 1838.
(4) الأثر: 2236- مضى برقم: 1833، ورقم: 2160.(3/174)
فأما قوله:"فلنوَلينَّك قبلة تَرْضَاها"، فإنه يعني: فلنصرفنَّك عن بيت المقدس، إلى قبلة"ترضاها": تَهواها وتُحبها. (1)
* * *
وأما قوله:"فوَلِّ وجهك"، يعني: اصرف وجهك وَحوِّله.
* * *
وقوله:"شَطرَ المسجد الحَرَام"، يعني: ب"الشطر"، النحوَ والقصدَ والتّلقاء، كما قال الهذلي: (2)
إنَّ العَسِيرَ بهَا دَاء مُخَامِرُهَا ... فَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ (3)
يعني بقوله:"شَطْرَها"، نحوها. وكما قال ابن أحمر:
تَعْدُو بِنَا شَطْر جَمْعٍ وهْيَ عَاقِدةٌ، ... قَدْ كَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفَادِهَا الحَقَبَا (4)
* * *
__________
(1) انظر معاني"ولى" فيما سلف 2: 162، 535، وهذا الجزء 3: 131.
(2) هو قيس بن العيزارة الهذلي. والعيزارة أمه، واسمه قيس بن خويلد بن كاهل.
(3) ديوانه في أشعار الهذليين للسكري: 261 (أوربة) ، ورسالة الشافعي: 35، 487، وسيرة ابن هشام 2: 200، والكامل 1: 12، 2: 3 ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 60، واللسان (شطر) (حسر) ، وغيرها. ورواية الشافعي في الرسالة: "إن العسيب" بالباء في آخره، ورواية ديوانه وابن هشام: "إن النعوس". والعسير: التي تعسر بذنبها إذا حملت، من شراستها. والنعوس: التي تغمض عينيها عند الحلب. والعسيب: جريد النخل إذا كشط عنه خوصه. وأرى أنه لم يرد صفة الناقة بأحد هذه الألفاظ الثلاثة، وإنما هو اسم ناقته. وكلها صالح أن يكون اسما للناقة. وقد قال ابن هشام: "النعوس: ناقته، وكان بها داء فنظر إليها نظر حسير، من قوله: "وهو حسير". ويروى: "داء يخامرها فنحوها. . . "، ورواية ديوانه"مخزور". ومحسور، هو الحسير: الذي قد أعيى وكل. ومخزور: من قولهم: "خزر بصره": إذا دانى بين جفنيه ونظر بلحاظه. وهو يصف ناقته، ويذكر حزنه وحبه لها، فهو من الداء الذي خامرها مشفق عليها، يطيل النظر إليها حتى تحسر عيناه ويكل.
(4) سيرة ابن هشام 2: 199، والروض الأنف 2: 38، والخزانة 3: 38، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 60. وفي المطبوعة: "من إنفادها"، وهو خطأ. وقال: قبله: أَنْشَأتُ أَسْأَلُه عَنْ حَالِ رُفْقَتِهِ ... فقال: حَيَّ، فَإِنَّ الرَّكْبَ قَدْ نَصَبَا
حي: اعجل. ونصب: جد في السير: وقوله: "جمع"، هي مزدلفة، يريد الحج. وقوله: عاقدة، أي: قد عطفت ذنبها بين فخذيها. وقوله: كارب، أي أوشك وكاد وقارب ودنا. وأوفدت الناقة إيفادًا: أسرعت. والحقب: الحزام يشد به الرحل في بطن البعير مما يلي ثيله لئلا يؤذيه التصدير. يقول: قد أسرعوا إسراعًا إلى مزدلفة، فجعلت تعطف ذنبها تسد به فرجها حتى كاد عقد ذنبها يبلغ الحقب. والناقة تسد فرجها بذنبها في إسراعها، يقول المخبل السعدي: وإذَ رَفَعْتُ السَّوْطَ، أفْزَعَهَا ... تَحْتَ الضُّلُوعِ مُرَوِّعٌ شَهْمُ
وتَسُدُّ حَاذَيْهَا بِذِي خُصَلٍ ... عُقِمَتْ فناعَمَ، نَبْتَهُ العُقْمُ
ويقول المثقب العبدي، يصف ناقته مسرعة: تَسُدُّ بِدَائِمِ الخَطَرَانِ جَثْلٍ ... خَوايَةَ فَرْجِ مِقْلاَتٍ دَهِينِ(3/175)
ءوبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2237- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن داود بن أبي هند، عن أبي العالية:"شَطْرَ المسجد الحَرَام"، يعني: تلقاءه.
2238- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"شطر المسجد الحرام"، نحوَه.
2239- حدثنا محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام"، نَحوَه.
2240- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
2241- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة:"فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام"، أي تلقاءَ المسجد الحرام.
2242- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فولّ وجهك شطرَ المسجد الحرام" قال، نحو المسجد الحرام.(3/176)
2243- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام"، أي تلقاءَه.
2244- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: أخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس أنه قال:"شطرَه"، نحوَه.
2245- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق، عن البراء:"فولوا وجُوهكم شَطره" قال، قِبَله.
2246- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"شَطْره"، ناحيته، جانبه. قال: وجوانبه:"شُطوره". (1)
* * *
ثم اختلفوا في المكان الذي أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يولَّيَ وجهه إليه من المسجد الحرام.
فقال بعضهم: القبلةُ التي حُوِّل إليها النبي صلى الله عليه وسلم، وعناها الله تعالى ذكره بقوله:"فلنولينَّك قبلة تَرْضاها"، حيالَ ميزاب الكعبة.
* ذكر من قال ذلك:
2247- حدثني عبد الله بن أبي زياد قال، حدثنا عثمان قال، أخبرنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة، عن عبد الله بن عمرو:"فلنولينَّك قبلة ترضاها"، حيالَ ميزاب الكعبة. (2)
__________
(1) الخبر: 2246- هو وما قبله من الأخبار، في تفسير (شطره) بأنه: قبله، أو: نحوه. وانظر مؤيدًا ذلك، ما قاله الشافعي في الرسالة، بتحقيقنا: 105-111، 1378-1381.
(2) الحديث: 2247- عبد الله بن أبي زياد، شيخ الطبري: نسب إلى جده. وهو"عبد الله بن الحكم بن أبي زياد القطواني"، واسم"أبي زياد": "سليمان". وعبد الله هذا: ثقة، روى عنه أبو زرعة، وأبو حاتم، وابن خزيمة، وغيرهم. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 2/2/38.
وشيخه"عثمان": ما أدري من هو؟ وأغلب الظن أنه محرف، وصوابه"عفان".
يحيى بن قمطة: تابعي ثقة، ترجمه البخاري في الكبير 4/2/229، وابن أبي حاتم 4/2/181، وذكر أنه حجازي، ولم يذكرا فيه جرحًا. وذكر البخاري أنه يروي"عن ابن عمر". وذكر ابن أبي حاتم أنه يروي"عن عبد الله بن عمرو". وذكره ابن حبان في الثقات، ص: 371، وقال: "يروي عن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو". روى عنه يعلى بن عطاء.
واسم أبيه: "قمطة" بالقاف ثم الميم ثم الطاء المهملة. ولم أجد ما يدل على ضبط هذه الحروف. لكنه ثبت هكذا في الطبري وتفسير عبد الرزاق ومراجع الترجمة. ووقع في ابن كثير والمستدرك"قطة" بدون الميم. وهو خطأ، لمخالفته ما ذكرنا عن المراجع.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 269، من طريق مسلم بن إبراهيم، عن شعبة، بهذا الإسناد، مطولا بنحو الرواية التي بعد هذه. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.(3/177)
2248- وحدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا هشيم، عن يعلى بن عطاء، عن يحيى بن قمطة قال: رأيت عبد الله بن عمرو جالسًا في المسجد الحرام بإزاء الميزاب، وتلا هذه الآية:"فلنولينك قِبلة ترضاها" قال، هذه القبلة، هي هذه القبلة.
2249- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا هشيم -بإسناده عن عبد الله بن عمرو، نحوه- إلا أنه قال: استقبل الميزاب فقال: هذه القبلة التي قال الله لنبيه:"فلنولينك قبلة تَرضاها". (1)
* * *
وقال آخرون: بل ذلك البيت كله قبلةٌ، وقبلةُ البيت الباب.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الحديثان: 2248، 2249- وهذان إسنادان آخران للحديث قبلهما. وأولهما من رواية عبد الرزاق، عن هشيم، عن يعلى بن عطاء.
وهشيم- بالتصغير: هو ابن بشير، بفتح الموحدة وكسر الشين المعجمة. وهو أبو معاوية بن أبي خازم، وهو حافظ ثقة ثبت. مترجم في التهذيب. والكبير 4/2/242، وابن سعد 7/2/61، 70. وابن أبي حاتم 4/2/115-116. وتذكرة الحفاظ 1: 229-230.
والحديث في تفسير عبد الرزاق، ص: 13، بهذا الإسناد. وليس فيه كلمة"هي" المزادة هنا بعد قوله: "هذه القبلة". وأخشى أن تكون زيادتها غير جيدة ولا ثابتة.
وذكر ابن كثير 1: 352، أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم"عن الحسن بن عرفة، عن هشيم، عن يعلى بن عطاء". ووقع اسم"هشيم" فيه محرفًا، فيصحح من هذا الموضع.
والحديث في الدر المنثور أيضًا 1: 147، وزاد نسبته إلى ابن أبي شيبة، وسعيد بن منصور، وأحمد بن منيع في مسنده، وابن المنذر، والطبراني في الكبير. وهو في مجمع الزوائد 6: 316، وقال: "رواه الطبراني من طريقين، ورجال إحداهما ثقات".(3/178)
2250- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: البيت كله قبلةٌ، وهذه قبلةُ البيت - يعني التي فيها الباب. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي ما قال الله جل ثناؤه:"فوَلِّ وجهك شَطر المسجد الحرام"، فالمولِّي وجهه شطرَ المسجد الحرام، هو المصيبُ القبلةَ. وإنما عَلى من توجه إليه النيةُ بقلبه أنه إليه متوجِّه، كما أن على من ائتمِّ بإمام فإنما عليه الائتمام به، وإن لم يكن مُحاذيًا بدنُه بدنَه، وإن كان في طَرَف الصّفّ والإمام في طرف آخر، عن يمينه أو عن يساره، بعد أن يكون من خلفه مُؤتمًّا به، مصليًا إلى الوجه الذي يصلِّي إليه الإمام. فكذلك حكمُ القبلة، وإنْ لم يكن يحاذيها كل مصلّ ومتوَجِّه إليها ببدنه، غير أنه متوجِّه إليها. فإن كان عن يمينها أو عن يسارها مقابلَها، فهو مستقبلها، بعُد ما بينه وَبينها، أو قَرُب، من عن يمينها أو عن يسارها، بعد أن يكون غيرَ مستدبرها ولا منحرف عنها ببدنه ووَجهه، كما:
2251- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عميرة بن زياد الكندي، عن علي:"فول وجهك شطر المسجد الحرام" قال، شطُره، قبله. (2)
* * *
__________
(1) الخبر: 2250- نقله السيوطي 1: 147، عن الطبري وحده، بلفظ: "البيت كله قبلة، وقبلة البيت الباب".
(2) الحديث: 2251- أبو إسحاق: هو السبيعي الهمداني.
عميرة -بفتح العين- بن زياد الكندي: تابعي ثقة، ترجمه ابن سعد في الطبقات 6: 141، وقال: "روى عن عبد الله". أراد بذلك عبد الله بن مسعود. وترجمه البخاري في الكبير 4/1/69. وابن أبي حاتم 3/2/24. ولم يذكرا فيه جرحًا، ولا رواية عن غير ابن مسعود. وذكرا أن الراوي عنه أبو إسحاق.
والحديث رواه الحاكم في المستدرك 2: 269، من طريق محمد بن كثير، عن سفيان -وهو الثوري- عن أبي إسحاق بهذا الإسناد. وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى ج 2 ص 3، عن الحاكم.
وذكره السيوطي 1: 147، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والدينوري في المجالسة.
وذكره ابن كثير 1: 268، نقلا عن الحاكم.
ولفظه عندهم جميعًا: "قال: شطره قبله"، كما أثبتنا. ووقع في المطبوعة هنا: "قال: شطره فينا قبلة"!! وهو خطأ سخيف، من ناسخ أو طابع.
ووقع في الإسناد في ابن كثير"محمد بن إسحاق" بدل"أبي إسحاق". وهو خطأ يخالف ما ثبت هنا، وما ثبت في سائر المراجع.
ووقع فيه في ابن كثير والمستدرك ومختصره للذهبي -المطبوع والمخطوط-"عمير بن زياد". وهو خطأ أيضًا. وثبت على الصواب في رواية البيهقي عن الحاكم.(3/179)
قال أبو جعفر: وقبلةُ البيت: بابه، كما:-
2252- حدثني يعقوب بن إبراهيم والفضل بن الصَّبَّاح قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء قال، قال أسامة بن زيد: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرجَ من البيت أقبلَ بوجهه إلى الباب، فقال: هذه القبلةُ، هذه القبلة. (1)
2253- حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، قال، حدثني أسامة بن زيد قال: خرج النبي صلى
__________
(1) الحديث: 2252- الفضل بن الصباح البغدادي: ثقة، وثقه ابن معين. وقال أبو القاسم البغوي: "كان من خيار عباد الله". مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 3/2/63.
عبد الملك: هو ابن أبي سليمان العرزمي، مضى في: 1455.
عطاء: هو ابن أبي رباح، التابعي الكبير، الإمام الحجة، القدوة العلم، مفتي أهل مكة ومحدثهم. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 3/1/330-331. وتذكرة الحفاظ 1: 92: 93، وتاريخ الإسلام 4: 278-280، وابن سعد 2/2/133-134، و 5: 344-346.
أسامة بن زيد بن حارثة: هو حب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن حبه.
وقد زعم أبو حاتم -فيما حكاه عنه ابنه في المراسيل: ص: 57- أن عطاء لم يسمع من أسامة. ولكن الرواية التالية لهذه، فيها تصريح عطاء بالسماع منه. ثم المعاصرة كافية في ثبوت الاتصال، كما هو الراجح عند أهل العلم بالحديث.
وعطاء ولد سنة 27 ومات سنة 114. بل ذكر الذهبي أنه مات عن 90 سنة. وأسامة بن زيد مات سنة 54. بل أرخ مصعب الزبيري وفاته في آخر خلافة معاوية سنة 58 أو 59.
وهذا الحديث رواه أحمد في المسند (5: 209) ، عن هشيم، بهذا الإسناد واللفظ. ثم رواه عقبه، بالإسناد نفسه مطولا، بنحوه.(3/180)
الله عليه وسلم من البيت، فصلى ركعتين مستقبلا بوجهه الكعبة، فقال: هذه القبلةُ مرتين. (1)
2254- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، عن عبد الملك، عن عطاء، عن أسامة بن زيد، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحوه. (2)
2255- حدثنا سعيد بن يحيى الأموي قال، حدثنا أبي قال، حدثنا ابن جريج قال، قلت لعطاء: سمعت ابن عباس يقول: إنما أمرتم بالطَّوَاف ولم تؤمروا بدخوله. قال: قال: لم يكن ينهَى عن دخوله، ولكني سمعته يقول: أخبرني أسامة بن زيد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل البيت دَعا في نواحيه كلها، ولم يصلِّ حتى خرج، فلما خرج ركع في قِبَل القبلة ركعتين، وقال: هذه القبلة. (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 2253- ابن حميد: هو محمد بن حميد بن حيان الرازي الحافظ. سبقت رواية الطبري عنه مرارًا كثيرة، ووثقناه في 2028. ونزيد هنا أنه وثقه ابن معين وغيره. وأنكروا عليه أحاديث، وأجاب عنه ابن معين بأن"هذه الأحاديث التي يحدث بها، ليس هو من قبله، إنما هو من قبل الشيوخ الذي يحدث به عنهم". وقال الخليلي: "كان حافظًا عالمًا بهذا الشأن، رضيه أحمد ويحيى". وعرض عبد الله بن أحمد على أبيه ما كتبه عنه، فقال: أما حديثه عن ابن المبارك وجرير، فصحيح، وأما حديثه عن أهل الري، فهو أعلم". مترجم في التهذيب، والكبير 1/1/69-70، وابن أبي حاتم 3/2/232-233، والخطيب 2: 259-264، وتذكرة الحفاظ 2: 67-69.
جرير: هو ابن عبد الحميد بن قرط الرازي، وهو ثقة حجة. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 1/2/214، وابن سعد 7/2/110. وابن أبي حاتم 1/1/505-507، والخطيب 7: 253-261، وتذكرة الحفاظ 1: 250.
فهذا إسناد صحيح، صرح فيه عطاء بالسماع من أسامة بن زيد، كما أشرفا في الإسناد السابق.
والحديث رواه أحمد في المسند (5: 210 ح) ، ضمن قصة، عن يحيى -وهو القطان- عن عبد الملك"حدثنا عطاء، عن أسامة بن زيد".
(2) الحديث: 2254- عبد الرحيم بن سليمان: هو المروزي الأشل، مضت ترجمته: 2030. والحديث تكرار لسابقه، لكن لم يصرح في هذا الإسناد بسماع عطاء من أسامة.
(3) الحديث 2255- سعيد بن يحيى بن سعيد، الأموي: ثقة ثبت، بل قال علي بن المديني: "جماعة من الأولاد أثبت عندنا من آبائهم. . . وهذا سعيد بن يحيى بن سعيد الأموي: أثبت من أبيه". وهو من شيوخ البخاري ومسلم وأبي زرعة وأبي حاتم، مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/477، وابن أبي حاتم 2/1/74، والخطيب 9: 90-91. أبوه، يحيى بن سعيد بن أبان بن سعيد بن العاص: حافظ ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/277، وابن سعد 6: 277-278، و 7/2/80-81. وابن أبي حاتم 4/2/151-152، والخطيب 14: 132-135، وتذكرة الحفاظ 1: 298.
والحديث رواه أحمد في المسند (5: 208ح) ، عن عبد الرزاق، وروح - كلاهما عن ابن جريج، بهذا الإسناد نحوه.
رواه قبل ذلك (ص: 201 ح) عن عبد الرزاق وحده، مختصرًا، طوى القصة فلم يذكرها.
وليس في هذا الحديث ما ينفي أن يكون عطاء سمع الحديث من أسامة بن زيد، لأنه -هنا- إنما يجيب السائل عن قوا ابن عباس، وينفي أن يكون ابن عباس ينهى عن دخول البيت. فهو يذكر رواية ابن عباس عن أسامة، من أجل هذا. ولا يمنع هذا أن يكون الحديث عند عطاء عن أسامة مباشرة.
والحديث رواه أيضًا مسلم 1: 376-377، من طريق محمد بن بكر، عن ابن جريج، بهذا الإسناد، نحو هذه القصة، أطول منها قليلا.
ورواه البخاري 1: 420- 421 (فتح الباري) ، من طريق عبد الرزاق، عن ابن جريج، عن عطاء، عن ابن عباس، مختصرًا. لم يذكر القصة، ولم يذكر أنه عن أسامة، جعله من حديث ابن عباس. وذكر الحافظ أنه رواه الإسماعيلي وأبو نعيم، في مستخرجيهما، من طريق إسحاق بن راهويه، عن عبد الرزاق، بإسناد هذا: "فجعله من رواية ابن عباس عن أسامة بن زيد". قال الحافظ: "وهو الأرجح".
والخلاف في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى في الكعبة أو لم يصل - مذكور في الدواوين. والراجح صلاته فيها. المثبت مقدم على النافي. وانظر نصب الراية 2: 319-322.(3/181)
قال أبو جعفر: فأخبر صلى الله عليه وسلم أنّ البيت هو القبلة، وأن قبلة البيت بابه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: فأينما كنتم من الأرض أيها المؤمنون فحوِّلوا وجُوهكم في صلاتكم نَحو المسجد الحرام وتلقاءَه.
و"الهاء" التي في"شطرَه"، عائدة إلى المسجد الحرام.
فأوجب جل ثناؤه بهذه الآية على المؤمنين، فرضَ التوجُّه نحو المسجد الحرام(3/182)
في صلاتهم حيث كانوا من أرض الله تبارك وتعالى.
وأدخلت"الفاء" في قوله:"فولوا"، جوابًا للجزاء. وذلك أن قوله:"حيثما كنتم" جزاء، ومعناه: حيثما تكونوا فولوا وجوهكم شطره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}
يعني بقوله جل ثناؤه:"وإنّ الذين أوتُوا الكتاب" أحبارَ اليهود وعلماء النصارى.
* * *
وقد قيل: إنما عنى بذلك اليهودَ خاصةً.
* ذكر من قال ذلك:
2256- حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإن الذين أوتوا الكتاب"، أنزل ذلك في اليهود.
* * *
وقوله:"ليعلمون أنه الحق من ربهم"، يعني هؤلاء الأحبارَ والعلماءَ من أهل الكتاب، يعلمون أن التوجُّهَ نحو المسجد، الحقُّ الذي فرضه الله عز وجل على إبراهيم وذريته وسائر عباده بعده.
* * *
ويعني بقوله:"من رَبِّهم" أنه الفرضُ الواجب على عباد الله تعالى ذكره، وهو الحقُّ من عند ربهم، فَرَضَه عليهم.
* * *(3/183)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) }
قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك وتعالى: وليس الله بغافل عما تعملون أيها المؤمنون، في اتباعكم أمرَه، وانتهائكم إلى طاعته، فيما ألزمكم من فرائضه، وإيمانكم به في صَلاتكم نحو بيت المقدس، ثم صلاتكم من بعد ذلك شطرَ المسجد الحرام، ولا هو ساه عنه، (1) ولكنه جَل ثَناؤه يُحصيه لكم ويدّخره لكم عنده، حتى يجازيَكم به أحسن جزاء، ويثيبكم عليه أفضل ثواب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك تبارك اسمه: ولئن جئتَ، يا محمد، اليهودَ والنصارَى، بكل برهان وحُجة - وهي"الآية"- (2) بأن الحق هو ما جئتهم به، من فرض التحوُّل من قبلة بيت المقدس في الصلاة، إلى قبلة المسجد الحرام، ما صدّقوا به، ولا اتَّبعوا -مع قيام الحجة عليهم بذلك- قبلتَك التي حوَّلتُك إليها، وهي التوجُّه شَطرَ المسجد الحرام.
* * *
قال أبو جعفر: وأجيبت"لئن" بالماضي من الفعل، وحكمها الجوابُ بالمستقبل تشبيهًا لها ب"لو"، فأجيبت بما تجاب به"لو"، لتقارب معنييهما.
__________
(1) انظر تفسير"غافل" فيما سلف 2: 243-244، 315، وهذا الجزء 3: 127.
(2) انظر تفسيره"آية" فيما سلف 1: 106/2: 553.(3/184)
وقد مضى البيان عن نَظير ذلك فيما مضى. (1) وأجيبت"لو" بجواب الأيمان. ولا تفعل العربُ ذلك إلا في الجزاء خاصة، لأن الجزاء مُشابه اليمين: في أن كل واحد منهما لا يتم أوّله إلا بآخره، ولا يتمُّ وحده، ولا يصحّ إلا بما يؤكِّد به بعدَه. فلما بدأ باليمين فأدخلت على الجزاء، صَارَت"اللام" الأولى بمنزلة يَمين، والثانية بمنزلة جواب لها، كما قيل:"لعمرك لتقومَنَّ" إذ كثرت"اللام" من"لعمرك"، حتى صارت كحرف من حروفه، فأجيب بما يجاب به الأيمان، إذ كانت"اللام" تنوب في الأيمان عن الأيمان، دون سائر الحروف، غير التي هي أحقُّ به الأيمان. فتدلّ على الأيمان وتعمل عمل الأجوبة، ولا تدلّ سائر أجوبة الأيمان لنا على الأيمان. (2) فشبهت"اللام" التي في جواب الأيمان بالأيمان، لما وصفنا، فأجيبت بأجوبَتها.
* * *
فكانَ مَعنى الكلام -إذ كان الأمر على ما وصفنا-: لو أتيتَ الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك.
* * *
وأما قوله:"وما أنتَ بتابع قِبلتهم"، يقول: وما لك من سبيل يا محمد إلى اتّباع قبلتهم. وذلك أن اليهود تستقبل بيت المقدس بصلاتها، وأن النصارى تستقبل المشرقَ، فأنَّى يكون لك السبيل إلى إتباع قِبلتهم. مع اختلاف وجوهها؟ يقول: فالزم قبلتَك التي أمِرت بالتوجه إليها، ودعْ عنك ما تقولُه اليهود والنصارى وتدعُوك إليه من قبلتهم واستقبالها.
* * *
وأما قوله:"وما بعضهم بتابع قبلة بعض"، فإنه يعني بقوله: وما اليهود بتابعةٍ
__________
(1) انظر ما سلف 2: 458، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 84.
(2) قوله: "أجوبة الأيمان لنا على الأيمان" هذه عبارة غامضة، لم أظفر لها بوجه أرتضيه، وأنا لا أشك في تحريفها أو نقصها.(3/185)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
قبلةَ النصارى، ولا النصارى بتابعةٍ قبلة اليهود فمتوجِّهةٌ نحوها، كما:-
2257- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وما بعضهم بتاع قبلة بعض"، يقول: ما اليهود بتابعي قبلة النصارى، ولا النصارى بتابعي قبلة اليهود. قال: وإنما أنزلت هذه الآية من أجل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حُوِّل إلى الكعبة، قالت اليهود: إن محمدًا اشتاقَ إلى بلد أبيه ومولده! ولو ثبت على قبلتنا لكُنا نرجو أن يكون هو صاحبَنا الذي ننتظر! فأنزل الله عز وجل فيهم:"وإنّ الذين أوتوا الكتابَ ليعلمون أنه الحق من ربهم" إلى قوله:"ليكتمون الحق وهم يعلمون". (1)
2258- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وما بعضهم بتابع قبلةَ بعض"، مثل ذلك.
* * *
وإنما يعني جل ثناؤه بذلك: أن اليهود والنصارى لا تجتمع على قبلة واحدة، مع إقامة كل حزب منهم على مِلَّتهم. فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: يا محمد، لا تُشعر نفسك رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، فإنه أمر لا سبيل إليه. لأنهم مع اختلاف مللهم لا سبيل لكَ إلى إرضاء كل حزب منهم. من أجل أنك إن اتبعت قبلةَ اليهود أسخطتَ النصارى، وإن اتّبعت قبلة النصارى أسخطت اليهود، فدع ما لا سبيل إليه، وادعُهم إلى ما لهم السبيل إليه، من الاجتماع على مِلَّتك الحنيفيّة المسلمة، وقبلتِك قبلةِ إبراهيم والأنبياء من بعده.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولئن اتبعت أهواءهم"، ولئن التمست يا محمد رضَا هؤلاء اليهود والنصارى، الذين قالوا لك ولأصحابك:"كونوا هُودًا أو نصارى تهتدوا"، فاتبعتَ قبلتهم - يعني: فرَجعت إلى قبلتهم.
__________
(1) الأثر: 2257- انظر ما مضى رقم: 2204.(3/186)
ويعني بقوله:"من بَعد مَا جَاءك من العلم"، من بعد ما وصَل إليك من العلم، بإعلامي إياك أنهم مقيمون على باطل، وعلى عنادٍ منهم للحق، ومعرفةٍ منهم أنّ القبلة التي وجهتُك إليها هي القبلةُ التي فرضتُ على أبيك إبراهيم عليه السلام وسائر ولده من بعده من الرسل - التوجُّهَ نحوها،"إنك إذًا لمن الظالمين"، يعني: إنك إذا فعلت ذلك، من عبادي الظَّلمةِ أنفسَهم، المخالفين أمري، والتاركين طاعتي، وأحدُهم وفي عِدادِهم. (1)
* * *
__________
(1) السياق: من عبادي الظلمة. . . وأحدهم، وفي عدادهم".(3/187)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146)
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه"، أحبارَ اليهود وعلماء النصارى: يقول: يعرف هؤلاء الأحبارُ من اليهود، والعلماءُ من النصارى: أن البيتَ الحرام قبلتُهم وقبلة إبراهيم وقبلةُ الأنبياء قبلك، كما يعرفون أبناءَهم، كما:-
2259- حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يَعرفونه كما يَعرفون أبناءهم"، يقول: يعرفون أن البيت الحرام هو القبلةُ.
2260- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قول الله عز وجل:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونهُ كما يعرفونَ أبناءهم"، يعني: القبلةَ.(3/187)
2261- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، عرفوا أن قِبلة البيت الحرام هي قبلتُهم التي أمِروا بها، كما عرفوا أبناءهم.
2262- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفونَ أبناءهم"، يعني بذلك: الكعبةَ البيتَ الحرام.
2263- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم"، يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء، كما يعرفون أبناءهم. (1)
2264- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" قال، اليهود يعرفون أنها هي القبلة، مكة.
2265- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج في قوله:"الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم" قال، القبلةُ والبيتُ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) }
قال أبو جعفر: يقول جل ثناؤه: وإنّ طائفةً من الذين أوتوا الكتاب -وهُمُ اليهود والنصارى. وكان مجاهد يقول: هم أهل الكتاب.
2266- حدثني محمد بن عمرو -يعني الباهلي- قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بذلك.
__________
(1) في المطبوعة: "يعرفون الكعبة من قبلة الأنبياء".(3/188)
2267- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج مثله.
2268- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح مثله.
* * *
قال أبو جعفر: وقوله:"ليكتمون الحق"، - وذلك الحق هو القبلة =التي وجَّه الله عز وجل إليها نبيَّه محمدًا صلى الله عليه وسلم. يقول: فَولِّ وجهك شطرَ المسجد الحرام= التي كانت الأنبياء من قبل محمدٍ صلى الله عليه وسلم يتوجَّهون إليها. فكتمتها اليهودُ والنصارى، فتوجَّه بعضُهم شرقًا، وبعضُهم نحو بيتَ المقدس، ورفضُوا ما أمرهم الله به، وكتموا مَعَ ذلك أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم وهم يجدونَه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل. فأطلع الله عز وجل محمدًا صلى الله عليه وسلم وأمَّتَه على خيانتهم اللهَ تبارك وتعالى، وخيانتهم عبادَه، وكتمانِهم ذلك، وأخبر أنهم يفعلون ما يَفعلون من ذلك على علم منهم بأن الحق غيرُه، وأن الواجب عليهم من الله جل ثناؤه خلافُه، فقال:"ليكتمونَ الحق وهم يعلمون"، أنْ لَيس لَهم كتمانه، فيتعمَّدون معصية الله تبارك وتعالى، كما:- (1)
2269- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد عن قتادة قوله:"وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحق وهُمْ يعلمون"، فكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم.
2270- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليكتمون الحق وَهمْ يعلمون" قال، يكتمون محمدًا صلى الله عليه وسلم وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
__________
(1) من أول قوله: "كما حدثنا بشر بن معاذ"، إلى حيث نذكر في ص 207 تعليق: 2 موجود في ست عشرة صفحة بقيت من القسم المفقود من النسخة العتيقة.(3/189)
الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
2271- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وإنّ فريقًا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون"، يعني القبلةَ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) }
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره (1) اعلم يا محمد أنّ الحق ما أعلمك ربك وأتاك من عنده، لا ما يقول لكَ اليهود والنصارى.
وهذا خبرٌ من الله تعالى ذكره خبر لنبيه عليه السلام: (2) عن أن القبلة التي وجهه نحوها، هي القبلةُ الحقُّ التي كان عليها إبراهيم خليل الرحمن ومَنْ بعده من أنبياء الله عز وجل.
يقول تعالى ذكره له: فاعمل بالحقّ الذي أتاك من ربِّك يا محمد، ولا تَكوننَّ من الممترين.
* * *
يعني بقوله:"فلا تكونن من الممترين"، أي: فلا تكونن من الشاكِّين في أن القبلة التي وجَّهتك نَحوها قبلةُ إبراهيم خليلي عليه السلام وقبلة الأنبياء غيره، كما:
2272- حدثني المثنى قال، حدثني إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: قال الله تعالى ذكره لنبيه عليه السلام:"الحقُّ من ربك فلا تكونن من الممترين"، يقول: لا تكنْ في شك، فإنها قبلتُك وقبلةُ الأنبياء من قبلك. (3)
__________
(1) في المطبوعة: "يقول الله جل ثناؤه"، وأثبت نص المخطوطة.
(2) في المطبوعة"وهذا من الله تعالى ذكره خبر"، وأثبت ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "فلا تكن في شك أنها"، بإسقاط الفاء من"فإنها".(3/190)
2273- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"فلا تكونن من الممترين" قال، من الشاكين قال، لا تشكنّ في ذلك.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما"الممتري" (1) "مفتعل"، من"المرْية"، و"المِرْية" هي الشك، ومنه قول الأعشى:
تَدِرُّ عَلَى أَسْوُقِ المُمْتَرِينَ ... رَكْضًا، إِذَا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنّ (2)
* * *
ءقال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: أوَ كان النبي صلى الله عليه وسلم شَاكَّا في أنّ الحق من رَبه، أو في أن القبلة التي وجَّهه الله إليها حق من الله تعالى ذكره، حتى نُهي عن الشك في ذلك، فقيل له:"فلا تكونن من الممترين"؟
قيل: ذلك من الكلام الذي تُخرجه العرب مخُرَج الأمر أو النهي للمخاطب به، والمراد به غيره، كما قال جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ) [سورة الأحزاب: 1] ، ثم قال: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ
__________
(1) في المطبوعة: "والممتري"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) ديوانه: 20 واللسان (رجحن) من قصيدة سلف بيت منها في 1: 345، 346، يصف خيلا مغاوير لقيس بن معديكرب الكندي، أغارت على قوم مسرعة حثيثة، فبينا القوم يتمارون فيها إذا بها: - تُبَارِي الزِّجَاجَ مَغَاوِيرُهَا ... شَمَاطِيط في رَهَجٍ كالدَّخَنْ
تَدِرُّ عَلَى أسوُق. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
در الفرس يدر دريرًا ودرة: عدا عدوًا شديدًا. لا يثنيه شيء. والأسوق جمع ساق، ويجمع أيضًا على سوق وسيقان. يقول: بيناهم يتمارون إذ غشيتهم الخيل فصرعتهم، فوطئتهم وطئًا شديدًا، ومرت على سيقانهم عدوًا. وارجحن السراب: ارتفع واتسع واهتز، وذلك في وقت ارتفاع الشمس.(3/191)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [سورة الأحزاب: 2] . فخرج الكلام مخرج الأمرِ للنبي صلى الله عليه وسلم والنهيِ له، والمراد به أصحابه المؤمنون به. وقد بينا نظيرَ ذلك فيما مضى قبل بما أغنَى عن إعادته. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ولكلّ"، ولكل أهل ملة، (2) فحذف"أهل الملة" واكتفى بدلالة الكلام عليه، كما:-
2274- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:"ولكلِّ وِجْهة" قال، لكل صاحب ملة.
2275- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ولكلٍّ وجهة هو موليها"، فلليهوديّ وجهة هو موليها، وللنصارى وجهة هو موليها، وهداكم الله عز وجل أنتم أيها الأمَّة للقِبلة التي هي قبلة. (3)
2276- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال، قلت لعطاء قوله:"ولكل وجهة هو موليها" قال، لكل أهل دين، اليهودَ والنصارَى. قال ابن جريج، قال مجاهد: لكل صاحب مِلة.
2277- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكل وجهة هو موليها" قال، لليهود قبلة، وللنصارى قبلة، ولكم قبلة. يريد المسلمين.
2278- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال،
__________
(1) انظر ما سلف 2: 484- 488.
(2) في المطبوعة والمخطوطة: ". . . تعالى ذكره ولكل أهل ملة"، والصواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة: " فلليهود وجهة هو موليها"، و"وللنصارى قبلة هو موليها"، والصواب من المخطوطة. وفيها أيضًا: "التي هي قبلته" وأثبت ما في المخطوطة، وهو جبد.(3/192)
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ولكلٍّ وجهةٌ هو مولّيها"، يعني بذلك أهلَ الأديان: يقول: لكلٍّ قبلةٌ يرضَونها، ووجهُ الله تبارك وتعالى اسمه حيثُ تَوَجَّه المؤمنون. وذلك أن الله تعالى ذكره قال: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 115]
2279- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولكلٍّ وجْهة هو موليها"، يقول: لكل قوم قبلة قد ولَّوْها.
* * *
فتأويل أهل هذه المقالة في هذه الآية: ولكل أهل ملة قبلةٌ هو مستقبلها، ومولٍّ وجهه إليها.
* * *
وقال آخرون بما:-
2280- حدثنا به الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولكل وجهة هو موليها" قال، هي صلاتهم إلى بيت المقدس، وصلاتهم إلى الكعبة.
* * *
وتأويل قائل هذه المقالة: ولكلّ ناحية وجَّهك إليها ربّك يا محمد قبلة، اللهُ عز وجل مُولِّيها عبادَه.
* * *
وأما"الوِجهة"، فإنها مصدر مثل"القِعدة" و"المِشية"، من"التوجّه". وتأويلها: مُتوَجِّهٌ، يتوجَّه إليه بوَجهه في صلاته، (1) كما:-
2281- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وجهة" قبلةٌ.
__________
(1) في المطبوعة: "يتوجه إليها"، وأثبت ما في المخطوطة. وانظر معاني القرآن للفراء: 90"وجهة".(3/193)
2282- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2283- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ولكل وجهة" قال، وَجْه.
2284- حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وِجْهه"، قِبلة.
2285- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، قلت لمنصور:"ولكل وجْهة هو مولِّيها" قال، نحن نقرؤها، ولكلٍّ جَعلنا قِبلة يرضَوْنها. (1)
* * *
وأما قوله:"هو مُولِّيها"، فإنه يعني هو مولٍّ وجهه إليها ومستقبلها، (2) كما:-
2286- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"هو موليها" قال، هو مستقبلها.
2287- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
ومعنى"التوْلية" هاهنا الإقبال، كما يقول القائل لغيره:"انصرِف إليّ" بمعنى: أقبل إليّ."والانصراف" المستعمل، إنما هو الانصراف عن الشيء، ثم يقال:"انصرفَ إلى الشيء"، بمعنى: أقبل إليه منصرفًا عن غيره. وكذلك يقال:"ولَّيت عنه"، إذا أدبرت عنه. ثم يقال:"ولَّيت إليه"، بمعنى أقبلت إليه مولِّيًا عن غيره. (3)
* * *
__________
(1) قوله: "نقرؤها"، لا يعني أنها قراءة في قراآت القرآن، وإنما يعني دراستها والتفقه في معانيها.
(2) في المطبوعة: "مستقبلها" بحذف الواو، وهي جيدة.
(3) انظر معنى"التولية" فيما سلف 2: 535، وهذا الجزء 3: 175 وانظر أيضًا 2: 162، ثم هذا الجزء 3: 115، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 85.(3/194)
والفعل -أعني"التولية"- في قوله:"هو موليها" لل"كل". و"هو" التي مع"موليها"، هو"الكل"، وحُدَّت للفظ"الكل".
* * *
فمعنى الكلام إذًا: ولكل أهل مِلة وجهة، الكلُّ. منهم مولُّوها وجُوهَهم. (1)
* * *
وقد روي عن ابن عباس وغيره أنهم قرأوها:"هو مُولاها"، بمعنى أنه مُوجَّهٌ نحوها. ويكون"الكل" حينئذ غير مسمًّى فاعله، (2) ولو سُمي فاعله، لكان الكلام: ولكلّ ذي ملة وجهةٌ، اللهُ مولِّيه إياها، بمعنى: موجِّهه إليها.
* * *
وقد ذُكر عن بعضهم أنه قرأ ذلك:"ولكُلٍّ وِجهةٍ" بترك التنوين والإضافة. وذلك لحنٌ، ولا تجوز القراءةُ به. لأن ذلك -إذا قرئ كذلك- كان الخبرُ غير تامٍّ، وكان كلامًا لا معنى لَه. وذلك غير جائز أن يكون من الله جل ثناؤه.
* * *
والصواب عندنا من القراءة في ذلك:"ولكلٍّ وِجهةٌ هُوَ مُولِّيها"، بمعنى: ولكلٍّ وجهةٌ وقبلةٌ، ذلك الكُلّ مُولّ وجهه نحوها. لإجماع الحجة من القرّاء على قراءة ذلك كذلك، وتصويبها إياها، وشذوذ من خالف ذلك إلى غيره. وما جاءَ به النقلُ مستفيضًا فحُجة، وما انفرد به من كان جائزًا عليه السهو والغلط، (3) فغيرُ جائز الاعتراضُ به على الحجة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "لكل منهم مولوها"، وهو كلام مختل، والصواب من المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "ويكون الكلام حينئذ"، والصواب من المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "السهو والخطأ"، وأثبت ما في المخطوطة.(3/195)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فاستبقوا"، فبادروا وسَارعوا، من"الاستباق"، وهو المبادرة والإسراع، كما:-
2288- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فاستبقوا الخيرات"، يقول: فسارعوا في الخيرات. (1)
* * *
وإنما يعني بقوله:"فاستبقوا الخيرات"، أي: قد بيّنت لكم أيها المؤمنون الحقَّ، وهديتكم للقِبلة التي ضلَّت عنها اليهود والنصارى وسائرُ أهل الملل غيركم، فبادروا بالأعمال الصالحة، شكرًا لربكم، وتزوَّدوا في دنياكم لآخرتكم، (2) فإني قد بيّنت لكم سبُل النجاة، (3) فلا عذر لكم في التفريط، وحافظوا على قبلتكم، فلا تضيِّعوها كما ضَيَّعتها الأمم قبلكم، (4) فتضلُّوا كما ضلت؛ كالذي:-
2289- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فاستبقوا الخيرات"، يقول: لا تُغلَبُنَّ على قبلتكم.
2290- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فاستبقوا الخيرات" قال، الأعمال الصالحة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "يعني: فسارعوا"، وأثبت ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "لأخراكم"، وهما سواء في المعنى.
(3) في المطبوعة: "سبيل النجاة"، وأثبت ما في المخطوطة.
(4) في المطبوعة: "ولا تضيعوها كما ضيعها"، وأثبت ما في المخطوطة، وهي أجود.(3/196)
القول في تأويل قوله تعالى: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) }
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا"، في أيّ مكان وبقعة تهلكون فيه، (1) يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة، إن الله على كل شيء قدير، كما:-
2291- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أينما تكونوا يَأت بكمُ الله جميعًا"، يقول: أينما تكونوا يأت بكم الله جميعًا يوم القيامة.
2291م- حدثنا موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أينما تكونوا يَأت بكم الله جميعًا"، يعني: يومَ القيامة.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما حضَّ الله عز وجل المؤمنين بهذه الآية على طاعته والتزوُّد في الدنيا للآخرة، فقال جل ثناؤه لهم: استبقوا أيها المؤمنون إلى العمل بطاعة ربكم، ولزوم ما هداكم له من قبلة إبراهيم خليله وشرائع دينه، فإن الله تعالى ذكره يأتي بكم وبمن خالفَ قبلكم ودينكم وشريعتكم جميعًا يوم القيامة، من حيث كنتُم من بقاع الأرض، حتى يوفِّيَ المحسنَ منكم جزاءه بإحسانه، (2) والمسيء عقابه بإساءته، أو يتفضّل فيصفح.
* * *
وأما قوله:"إنّ الله على كل شيء قدير"، فإنه تعالى ذكره يعني: إنّ الله تعالى على جَمْعكم -بعد مماتكم- من قبوركم إليه، من حيث كنتم وكانت قبوركم كمن وعلى غير ذلك مما يشاء، قديرٌ. (3) فبادروا خروجَ أنفسكم بالصالحات من الأعمال قبل مماتكم ليومَ بعثكم وَحشركم.
* * *
__________
(1) انظر القول في تفسير"أينما" في معاني القرآن للفراء 1: 85-89.
(2) في المخطوطة: "حتى يؤتي المحسن منكم جزاءه"، ولا بأس بها.
(3) في المطبوعة: "من قبوركم من حيث كنتم وعلى غير ذلك"، أسقط منها الناسخ.(3/197)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"ومن حيث خرجت"، ومن أيّ موضع خرَجْت إلى أي موضع وجَّهتَ، فولِّ يا محمد وَجهك - يقول: حوِّل وَجْهك. وقد دللنا على أن"التولية" في هذا الموضع شطر المسجد الحرام، إنما هي: الإقبالُ بالوجه نحوه. وقد بينا معنى"الشطر" فيما مضى. (1)
* * *
وأما قوله:"وإنه للحق من ربك"، فإنه يعني تعالى ذكره: وإنّ التوجه شَطرَه للحق الذي لا شكّ فيه من عند ربك، فحافظوا عليه، وأطيعوا الله في توجهكم قِبَله.
* * *
وأما قوله:"ومَا الله بغافل عَما تَعملون"، فإنه يقول: فإن الله تعالى ذكره لَيس بساهٍ عن أعمالكم، ولا بغافل عنها، ولكنه محصيها لكم، حتى يجازيكم بها يوم القيامة. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في"التولية" في هذا الجزء 3: 194 تعليق: 3، وما سلف في تفسير: "شطر" في هذا الجزء 3: 175.
(2) انظر معنى"غافل" فيما سلف من هذا الجزء 3: 174 تعليق: 1، والمراجع هناك.(3/198)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
القول في تأويل قوله تعالى ذكره {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهْ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"ومن حَيثُ خرجت فول وَجهك شطر المسجد الحرام": من أيّ مكان وبُقعة شَخصتَ فخرجت يا محمد، فولِّ وجهك تلقاء المسجد الحرام، وهو شَطره.
ويعني بقوله:"وحيث ما كنتم فولُّوا وُجوهكم"، وأينما كنتم أيها المؤمنون من أرض الله، فولُّوا وجوهكم في صلاتكم تُجاهه وقِبَله وقَصْدَه. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي}
قال أبو جعفر: فقال جماعة من أهل التأويل: عنى الله تعالى ب"الناس" في قوله:"لئلا يكون للناس"، أهلَ الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
2292- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"لئلا يكون للناس عليكم حجة"، يعني بذلك أهلَ الكتاب. قالوا -حين صُرف نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة البيت الحرام-: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!
2293- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
__________
(1) في المخطوطة: "فولوا في صلاتكم"، أسقط"وجوهكم".(3/199)
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"لئلا يكونَ للناس عليكم حجة"، يعني بذلك أهلَ الكتاب، قالوا -حين صُرف نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة-: اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه!
* * *
فإن قال قائل: فأيّةُ حُجة كانت لأهل الكتاب بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه نحوَ بيت المقدس، على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه؟
قيل: قد ذكرنا فيما مضى ما روي في ذلك. قيل: إنهم كانوا يقولون: ما درَى مُحمد وأصحابهُ أين قبلتهم حتى هديناهم نحن! وقولهم: يُخالفنا مُحمد في ديننا ويتبع قبلتنا! (1) فهي الحجة التي كانوا يحتجُّون بها عَلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، على وجه الخصومة منهم لهم، والتمويه منهم بها على الجهالّ وأهل الغباء من المشركين. (2)
وقد بينا فيما مضى أن معنى حِجاج القوم إيَّاه، الذي ذكره الله تعالى ذكره في كتابه، إنّما هي الخصومات والجدال. فقطع الله جل ثناؤه ذلك من حجتهم وَحسمه، بتحويل قبلة نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به، من قبلة اليهود إلى قبلة خليله إبراهيم عليه السلام. وذلك هو معنى قول الله جل ثناؤه:"لئلا يكون للناس عليكم حجة"، يعني ب"الناس"، الذين كانوا يحتجون عليهم بما وصفت.
* * *
وأما قوله:"إلا الذين ظَلموا منهم"، فإنهم مُشركو العرب من قريش، فيما تأوَّله أهلُ التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2294- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إلا الذين ظَلموا منهم"، قومُ محمد صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء رقم: 2234، 2235.
(2) في المطبوعة: "وأهل العناد من المشركين"، والصواب من المخطوطة.(3/200)
2295- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: هم المشركون من أهل مكة.
2296- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إلا الذين ظلموا منهم"، يعني مشركي قريش.
2297- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إلا الذين ظلموا منهم" قال، هم مشركو العرب.
2298- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، و"الذين ظلموا": مشركو قريش.
2299- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قال عطاء: هم مشركو قريش - قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقولُ مثل قول عطاء.
* * *
فإن قال قائل: وأيّةُ حجة كانت لمشركي قريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، في توجههم في صلاتهم إلى الكعبة؟ وهل يجوز أن يكون للمشركين على المؤمنين -فيما أمرهم الله به أو نهاهم عنه- حُجة؟ (1)
قيل: إن معنى ذلك بخلاف ما توهمتَ وذهبتَ إليه. وإنما"الحجة" في هذا الموضع، الخصومة والجدال. (2) ومعنى الكلام: لئلا يكون لأحد من الناس عليكم خُصُومةٌ ودعوى باطلٌ غيرَ مشركي قريش، فإن لهم عليكم دعوى بَاطلا وخصومةً بغير حق، (3) بقيلهم لكم:"رَجَع محمدٌ إلى قبلتنا، وسيرجع إلى
__________
(1) في المطبوعة: ". . . على المؤمنين حجة فيما أمرهم الله تعالى ذكره به، أو نهاهم عنه"، قدم"حجة" وزاد الثناء على الله.
(2) انظر ما سلف في تفسير: "أتحاجوننا"، في هذا الجزء 3: 121.
(3) في المطبوعة: "دعوى باطلة" في الموضعين، ولا بأس بها. يقال: "دعوى باطل وباطلة"(3/201)
ديننا". فذلك من قولهم وأمانيّهم الباطلة، هي"الحجة" التي كانت لقريش على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه. ومن أجل ذلك استثنى الله تعالى ذكره"الذين ظلموا" من قريش من سائر الناس غيرهم، إذ نفى أن يكون لأحد منهم في قبلتهم التي وجّههم إليها حُجة.
وبمثل الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2300- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"لئلا يكون للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم"، قومُ محمد صلى الله عليه وسلم. قال مجاهد: يقول: حُجتهم، قولهم: قد راجعتَ قبلتنا!
2301- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله - إلا أنه قال: قولهم: قد رَجَعت إلى قبلتنا!
2302- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، حدثنا معمر، عن قتادة وابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم"، قالا هم مشركو العرب، قالوا حين صرفت القبلة إلى الكعبة: قد رجع إلى قبلتكم، فيوشك أن يرجع إلى دينكم! قال الله عز وجل:"فلا تَخشوْهم واخشوْني".
2303- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، و"الذين ظلموا": مشركُو قريش. يقول: إنهم سيحتجون عليكم بذلك، فكانت حجتهم على نبيّ الله صلى الله عليه وسلم =انصرافَهُ إلى البيت الحرام= (1) أنهم قالوا سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا! فأنزل الله
__________
(1) في المطبوعة والدر المنثور 1: 148"بانصرافه" وأثبت ما في المخطوطة وابن كثير 1: 358، وقوله: "انصرافه" منصوب على الظرفية أي عند انصرافه.(3/202)
تعالى ذكره في ذلك كله. (1)
2304- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
2305- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي فيما يذكر، عن أبي مالك وعن أبي صالح عن ابن عباس - وعن مرة الهمداني، عن ابن مسعود وعن ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا: لما صُرف نبيّ الله صلى الله عليه وسلم نحوَ الكعبة، بعد صلاته إلى بيت المقدس، قال المشركون من أهل مكة: تحيّر على محمد دينه! فتوجّه بقبلته إليكم، وعلم أنكم كنتم أهدى منه سبيلا ويُوشك أن يدخل في دينكم! فأنزل الله جل ثناؤه فيهم:"لئلا يَكونَ للناس عليكم حجةٌ إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم واخشوني". (2)
2306- حدثنا القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله:"لئلا يَكون للناس عَليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم" قال، قالت قريش - لما رَجَع إلى الكعبة وأمِر بها:- ما كان يستغني عنا! قد استقبل قبلتنا! فهي حُجتهم، وهم"الذين ظلموا" - قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير أنه سمع مجاهدًا يقول مثل قول عطاء، فقال مجاهد: حُجتهم، قولهم: رجعت إلى قبلتنا!
* * *
__________
(1) الأثر: 2303- في تفسير ابن كثير 1: 358، والدر المنثور 1: 148. والذي في المخطوطة والمطبوعة سواء"فأنزل الله في ذلك كله". أما في الدر المنثور: "فأنزل الله في ذلك كله: "يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين". والذي في الطبري يكاد لا يستقيم، والذي في الدر المنثور لا يستقيم، وكأن صواب العبارة: "فأنزل الله في ذلك، ذلك كله إلى قوله: "يا أيها الذين آمنوا. . . ".
(2) الأثر: 2305- انظر الأثر السالف: 2204.(3/203)
فقد أبان تأويلُ من ذكرنا تأويلَه من أهل التأويل قوله:"إلا الذين ظلموا منهم"، عن صحّة ما قلنا في تأويله، وأنه استثناءٌ على مَعنى الاستثناء المعروف، الذي ثبتَ فيهم لما بعدَ حرف الاستثناء ما كان منفيًّا عما قبله. (1) كما قولُ القائل (2) "ما سَارَ من الناس أحدٌ إلا أخوك"، إثباتٌ للأخ من السير ما هو مَنفيٌّ عن كل أحد من الناس. فكذلك قوله:"لئلا يكونَ للناس عليكم حُجة إلا الذين ظلموا منهم"، نَفى عن أن يكون لأحد خُصومةٌ وجدلٌ قِبَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعوى باطلٍ عليه وعَلى أصحابه، بسبب توجُّههم في صلاتهم قبل الكعبة - إلا الذين ظلموا أنفسهم من قريش، فإن لهم قبلهم خصومةً ودعوى باطلا بأن يقولوا: (3) إنما توجهتم إلينا وإلى قبلتنا، لأنا كنا أهدى منكم سبيلا وأنكم كنتم بتوجهكم نحو بيت المقدس على ضلال وباطل.
وإذ كان ذلك معنى الآية بإجماع الحجة من أهل التأويل، فبيِّنٌ خطأُ قول من زعم أن معنى قوله:"إلا الذين ظلموا منهم": ولا الذين ظلموا منهم، وأن"إلا" بمعنى"الواو". (4) لأن ذلك لو كان معناه، لكان النفيُ الأول عن جميع الناس - أنْ يكون لهم حُجة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه في تحوُّلهم نحو الكعبة بوجوههم - مبيِّنًا عن المعنى المراد، ولم يكن في ذكر قوله بعد ذلك:"إلا الذين ظَلموا منهم" إلا التلبيس الذي يتعالى عن أن يُضافَ إليه أو يوصف به. (5)
هذا مع خروج معنى الكلام =إذا وجّهت"وإلا" إلى معنى"الواو"، ومعنى
__________
(1) في المطبوعة: "الذي يثبت فيهم لما بعد حرف الاستثناء ما كان منفيًا عما قبلهم"، وهو خطأ صرف، والصواب ما في المخطوطة.
(2) في المطبوعة: "كما أن قول القائل"، زادوا"أن" لتكون دارجة على نهجهم، والصواب ما في المخطوطة.
(3) في المطبوعة: "ودعوى باطلة" في الموضعين. وانظر ما سلف: 201 تعليق: 3.
(4) زاعم هذا القول هو أبو عبيدة في مجاز القرآن: 60-61، وانظر معاني القرآن للفراء 1: 89-90.
(5) رد الطبري على أبي عبيدة أمثل من رد الفراء وأقوم.(3/204)
العطف= من كلام العرب. وذلك أنه غيرُ موجودة"إلا" في شيء من كلامها بمعنى"الواو"، إلا مع استثناء سابق قد تقدمها. كقول القائل:"سار القوم إلا عمرًا إلا أخاك"، بمعنى: إلا عمرًا وأخاك، فتكون"إلا" حينئذ مؤدّية عما تؤدي عنه"الواو"، لتعلق"إلا" الثانية ب"إلا" الأولى. (1) ويجمع فيها أيضًا بين"إلا" و"الواو" فيقال:"سار القوم إلا عمرًا وإلا أخاك"، فتحذف إحداهما، فتنوب الأخرى عنها، فيقال: (2) "سار القوم إلا عمرًا وأخاك - أو إلا عمرًا إلا أخاك"، لما وصفنا قبل.
وإذ كان ذلك كذلك، فغير جائز لمدَّعٍ من الناس أن يدَّعي أنّ"إلا" في هذا الموضع بمعنى"الواو" التي تأتي بمعنى العطف.
* * *
وواضحٌ فسادُ قول من زعم أن معنى ذلك: إلا الذين ظلموا منهم، فإنهم لا حجة لهم، فلا تخشوْهم. كقول القائل في الكلام: (3) "الناس كلهم لك حامدون إلا الظالم [لك] المعتدي عليك"، فإن ذلك لا يعتدّ بعُداوَنه ولا بتركه الحمد، (4) لموضع العداوة. وكذلك الظالم لا حجة له، وقد سُمي ظالمًا = (5) لإجماع جميع أهل التأويل على تخطئة ما ادَّعى من التأويل في ذلك. وكفى شاهدًا على خطأ مقالته إجماعُهم على تخطئتها.
* * *
وظاهر بُطُول قول من زَعَم: (6) أنّ"الذين ظلموا" هاهنا، ناسٌ من العرب
__________
(1) في المخطوطة: "إلى الأول"، وكأنه غير صواب.
(2) في المخطوطة: "ويجمع أيضًا فيها إلا والواو فيها فيقول: " ولم أستبن ما يقول، والذي في المطبوعة سياق صحيح.
(3) في المطبوعة: "في كلامه"، والصواب من المخطوطة، ومعاني القرآن للفراء، فهو نص كلامه.
(4) في المطبوعة، وفي معاني القرآن للفراء: "بعداوته"، والصواب ما في المخطوطة.
(5) السياق: "وواضح فساد قول من زعم. . . لإجماع جميع أهل التأويل".
(6) في المطبوعة: "بطلان" صحيحة المعنى، وفي المخطوطة: "دخول" تصحيف وتحريف لما أثبت. والبطول والبطلان مصدران من الباطل. وهما سواء في المعنى، وقد سلف أن استعملها الطبري مرارًا. انظر ما سلف 2: 426، تعليق: 1 / 439 س: 11/479 س: 13.(3/205)
كانوا يَهودًا ونصارَى، فكانوا يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم، فأما سائرُ العرب، فلم تكن لهم حجة، وكانت حُجة من يحتجُّ منكسرة. لأنك تقول لمن تريد أن تَكسِر عليه حجته:"إنّ لك عليّ حجة ولكنها منكسرة، وإنك لتحتج بلا حجة، وحجتك ضعيفة". ووَجَّه معنى:"إلا الذين ظَلموا منهم" إلى معنى: إلا الذينَ ظلموا منهم، منْ أهل الكتاب، فإنّ لَهُم عليكم حُجة وَاهية أو حجة ضعيفة.
* * *
ووَهْيُ قَولِ من قال:"إلا" في هذا الموضع بمعنى"لكن".
وضَعْفُ قولِ من زعم أنه ابتداء بمعنى: إلا الذين ظلموا منهم فلا تخشوهم. (1)
لأن تأويل أهل التأويل جاء في ذلك بأنّ ذلك من الله عز وجل خَبرٌ عن الذين ظلموا منهم: أنهم يحتجون على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بما قد ذكرنا، ولم يقصِد في ذلك إلى الخبر عن صفة حُجتهم بالضعف ولا بالقوة -وإن كانت ضعيفةً لأنها باطلة- وإنما قصد فيه الإثباتَ للذين ظلموا، ما قد نَفى عن الذين قبل حرف الاستثناء من الصفة.
2307- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه قال، قال الربيع: إنّ يهوديًّا خاصم أبا العالية فقال: إن مُوسَى عليه السلام كان يصلِّي إلى صخرة بيت المقدس. فقال أبو العالية: كان يصلّي عند الصخرة إلى البيت الحرام. قال: قال: فبيني وبينك مسجدُ صالح، فإنه نحته من الجبل. قال أبو العالية: قد صلّيت فيه وقِبلتُه إلى البيت الحرام. قال الربيع: وأخبرني أبو العالية أنه مرّ على مسجد ذي القرنين، وقِبلتُه إلى الكعبة.
* * *
وأما قوله:"فلا تخشوْهم واخشوْني"، يعني: فلا تخشوا هؤلاء الذين وصفت لَكم أمرهم من الظَّلمة في حجتهم وجدالهم وقولهم ما يقولون (2) في أنّ محمدًا صلى
__________
(1) قوله"ووهي قول. . . "، و"وضعف قول. . . " معطوف على قوله آنفًا: "وظاهر بطول قول من زعم. . . ".
(2) في المطبوعة: "من الظلم في حجتهم"، والصواب من المخطوطة. ثم فيها: "وقولهم ما يقولون من أن محمدًا"، وصوابه من المخطوطة.(3/206)
الله عليه وسلم قد رجع إلى قبلتنا، وسيرجع إلى ديننا! - أو أن يَقدروا لكم على ضرّ في دينكم أو صدِّكم عما هداكم الله تعالى ذكره له من الحق، ولكن اخشوني، فخافوا عقابي، في خلافكم أمري إن خالفتموه.
وذلك من الله جل ثناؤه تقدُّمٌ إلى عباده المؤمنين، (1) بالحضّ على لزوم قبلتهم والصلاة إليها، وبالنهي عن التوجُّه إلى غيرها. يقول جل ثناؤه: واخشوْني أيها المؤمنون، في ترك طاعتي فيما أمرتكم به من الصلاة شَطرَ المسجد الحرام.
وقد حكي عن السدي في ذلك ما:-
2308- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا تخشوْهم واخشوْني"، يقول: لا تخشوا أن أردَّكم في دينهم (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلأتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"ولأتمَّ نعمتي عليكم"، ومن حيث خرجتَ من البلاد والأرض، وإلى أيّ بقعة شخصت (3) فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام، وحيثُ كنت، يا محمد والمؤمنون، فولُّوا وجوهكم في صلاتكم شَطرَه،
__________
(1) تقدم إليه بكذا: أمره به.
(2) إلى هنا انتهى ما عثرنا عليه من الأوراق التي ذكرناها في ص: 189 تعليق: 1، وفي آخره ما نصه:
"تَمَّ المجلد الثاني بعون الله تعالى، والصلاة على نبيّه محمد وآله وصحبه وسلم. يتلوهُ في الثالث إن شاء الله تعالى، القول في تأويل قوله تعالى: (ولأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُون) إن شاء الله تعالى، وهو بقية الجزء السادس والعشرون؟؟ "
(3) في المطبوعة: "إلى أي بقعة"، بحذف الواو، والصواب ما أثبت.(3/207)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)
واتخذوه قبلة لكم، كيلا يكون لأحد من الناس -سوى مشركي قريش- حجةٌ، ولأتمّ بذلك =من هدايتي لكم إلى قبلة خليلي إبراهيم عليه السلام، الذي جعلته إمامًا للناس= نعمتي، فأكمل لكم به فضلي عليكم، وأتمم به شرائع ملتكم الحنيفية المسلمة التي وصيتُ بها نوحًا وإبراهيم وموسى وعيسى وسائر الأنبياء غيرهم. وذلك هو نعمته التي أخبر جل ثناؤه أنه متمُّها على رسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين به من أصحابه.
* * *
وقوله:"ولعلكم تهتدون"، يعني: وكي ترشدوا للصواب من القبلة. (1) و"لعلكم" عطف على قوله:"ولأتم نعمتي عليكم"،"ولأتم نعمتي عليكم" عطف على قوله:"لئلا يكون".
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"كما أرسلنا فيكم رسولا"، ولأتمّ نعمتي عليكم ببيان شرائع ملتكم الحنيفية، وأهديَكم لدين خليلي إبراهيم عليه السلام، فأجعل لكم دَعوتَه التي دعاني بها ومسألتَه التي سألنيها فقال: (رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [سورة البقرة: 128] ، كما جعلت لكُم دعوته التي دعاني بها، ومسألته التي سألنيها فقال: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ يَتْلُو
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"لعل" بمعنى"كي" 1: 364 / ثم 2: 69، 72، 161.(3/208)
عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [سورة البقرة: 129] ، فابتعثت منكم رَسولي الذي سألني إبراهيمُ خليلي وابنُهُ إسماعيل، أنْ أبعثه من ذرّيتهما.
ف"كما" -إذ كان ذلك معنى الكلام- صلةٌ لقول الله عز وجل:"ولأتم نعمتي عليكم". ولا يكون قوله:"كما أرسلنا فيكم رسولا منكم"، متعلقًا بقوله:"فاذكروني أذكركم".
* * *
وقد قال قوم: إنّ معنى ذلك: فاذكرُوني كما أرسلنا فيكم رسولا منكم أذكركم. وزعموا أن ذلك من المقدم الذي معناه التأخير، (1) فأغرقوا النزع، (2) وبعدوا من الإصابة، وحملوا الكلام على غير معناه المعروف، وسِوَى وجهه المفهوم.
وذلك أنّ الجاريَ من الكلام على ألسن العرب، المفهومَ في خطابهم بينهم - إذا قال بعضهم لبعض:"كما أحسنت إليك يا فلان فأحسن" - أن لا يَشترطوا للآخر، لأن"الكاف" في"كما" شرطٌ معناه: افعل كما فعلت. ففي مجيء جواب:"اذكروني" بعده، وهو قوله:"أذكركم"، أوضحُ دليل على أن قوله:"كما أرسلنا" من صلة الفعل الذي قبله، وأن قوله:"اذكروني أذكركم" خبرٌ مبتدأ منقطعٌ عن الأول، وأنه =من سبب قوله:"كما أرْسلنا فيكم"= بمعزل.
* * *
وقد زعم بعض النحويين أن قوله:"فاذكروني" -إذا جُعل قوله:"كما أرسلنا فيكم" جوابًا له، مع قوله:"أذكركم"- نظيرُ الجزاء الذي يجاب بجوابين، كقول القائل: إذا أتاك فلانٌ فأته تَرْضَه"، فيصير قوله:"فأته" و"ترضه" جوابين لقوله:"إذا أتاك"، وكقوله:"إن تأتني أحسِن إليك أكرمك". (3)
__________
(1) هو الفراء، انظر معاني القرآن 1: 92.
(2) أغرق النازع في القوس: إذا شدها، وجاوز الحد في مد القوس، وبلغ النصل كبد القوس، فربما قطع يد الرامي. ونزع الرامي في قوسه نزعًا: جذب السهم بالوتر. وقولهم: "أغرق في النزع"، مثل في الغلو والإفراظ.
(3) هو من قول الفراء أيضًا، انظر معاني القرآن 1: 92.(3/209)
وهذا القولُ وإن كان مذهبًا من المذاهب، فليس بالأسهل الأفصح في كلام العرب. والذي هو أولى بكتاب الله عز وجل أن يوجِّه إليه من اللغات، الأفصح الأعرفُ من كلام العرب، دون الأنكر الأجهل من منطقها. هذا، مع بعد وجهه من المفهوم في التأويل.
* * *
ذكر من قَال: إنّ قوله:"كما أرسلنا"، جوابُ قوله:"فاذكروني".
2309- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى قال، سمعت ابن أبي نجيح يقول في قول الله عز وجل:"كما أرسلنا فيكم رسولا منكم"، كما فعلتُ فاذكروني.
2310- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
قوله:"كما أرسلنا فيكم رَسولا منكم"، فإنه يعني بذلك العرب، قال لهم جل ثناؤه: الزموا أيها العربُ طاعتي، وتوجهوا إلى القبلة التي أمرتكم بالتوجُّه إليها، لتنقطع حُجة اليهود عنكم، فلا تكون لهم عليكم حجَة، ولأتم نعمتي عليكم، وتهتدوا، كما ابتدأتكم بنعمتي، فأرسلت فيكم رسولا منكم. وذلك الرسول الذي أرسلَه إليهم منهم: محمد صلى الله عليه وسلم، كما:-
2311- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"كما أرْسلنا فيكم رسولا منكم"، يعني محمدًا صلى الله عليه وسلم.
* * *
وأمّا قوله:"يتلو عليكم آياتنا"، فإنه يعني آيات القرآن، وبقوله:"ويزكيكم" ويطهّركم من دَنَس الذنوب، و"يعلمكم الكتاب" وهو الفرقان، يعني: أنه(3/210)
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
يعلمهم أحكامه. ويعني: ب"الحكمة" السننَ والفقهَ في الدين. وقد بينا جميع ذلك فيما مضى قبل بشواهده. (1)
* * *
وأمّا قوله:"ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون"، فإنه يعني: ويعلمكم من أخبار الأنبياء، وقَصَص الأمم الخالية، والخبر عما هو حادثٌ وكائن من الأمور التي لم تكن العرب تعلمها، فعلِموها من رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأخبرهم جل ثناؤه أنّ ذلك كله إنما يدركونه برَسوله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فاذكروني أيها المؤمنون بطاعتكم إياي فيما آمركم به وفيما أنهاكم عنه، أذكرْكم برحمتي إياكم ومغفرَتي لكم، كما:-
2312- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، عن عطاء بن دينار، عن سعيد بن جبير:"فاذكروني أذكركم" قال، اذكروني بطاعتي، أذكركم بمغفرتي.
* * *
وقد كان بعضهم يتأوّل ذلك أنه من الذكر بالثناء والمدح.
* ذكر من قال ذلك:
1313- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون"، إن الله ذاكرُ من ذكره، وزَائدُ من شكره، ومعذِّبُ من كفَره.
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 86-88 والمراجع.(3/211)
2314- حدثني موسى قال، حدثني عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"اذكروني أذكركم" قال، ليس من عبد يَذكر الله إلا ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلا ذكره برَحمةٍ، ولا يذكره كافر إلا ذكره بعذاب.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: اشكروا لي أيها المؤمنون فيما أنعمت عليكم من الإسلام، والهداية للدين الذي شرعته لأنبيائي وأصفيائي،"ولا تكفرون"، يقول: ولا تجحدوا إحساني إليكم، فأسلبكم نعمتي التي أنعمت عليكم، ولكن اشكروا لي عليها، وأزيدكم فأتمم نعمتي عليكم، وأهديكم لما هديت له من رَضيت عنه من عبادي، فإنّي وعدت خلقي أنّ من شكر لي زدته، ومن كفرني حَرمته وسلبته ما أعطيتُه.
* * *
والعرب تقول:"نَصحتُ لك وشكرتُ لك"، ولا تكاد تقول:"نصحتك"، وربما قالت:"شكرتك ونصحتك"، من ذلك قول الشاعر: (1)
هُمُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ ... فَهَلا شَكَرْتَ القَوْمَ إذْ لَمْ تُقَاتِلِ (2)
وقال النابغة في"نصحتك":
نَصَحْتُ بَنِي عَوَفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا ... رَسُولِي ولَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ وسَائِلِي (3)
* * *
__________
(1) نسبه أبو حيان في تفسيره 1: 447 لعمر بن لجأ، ولم أجد الشعر في مكان.
(2) معاني القرآن للفراء: 1: 92. وكان في المطبوعة: "إن لم تقاتل"، وأثبت ما في الفراء والبؤسى والبأساء: البؤس. والنعمى والنعماء: النعمة.
(3) ديوانه: 89، ومعاني القرآن للفراء 1: 92، وأمالي ابن الشجري 1: 362، وهي في غزو عمرو بن الحارث الأصغر لبني مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان. ورواية ديوانه: "فلم يتقبلوا وصاتي". الوصاة: الوصية. وقوله: "رسولي". الرسول: الرسالة. والوسائل جمع وسيلة: وهي ما يتقرب به المرء إلى غيره من حرمة أو آصرة.(3/212)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)
وقد دللنا على أن معنى"الشكر"، الثناء على الرجل بأفعاله المحمودة، وأن معنى"الكفر" تغطية الشيء، فيما مضى قبل، فأغنى ذلك عن إعادته هاهنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) }
قال أبو جعفر: وهذه الآية حضٌّ من الله تعالى ذكره على طاعته، واحتمال مكروهها على الأبدان والأموال، فقال:"يا أيها الذينَ آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة" على القيام بطاعتي، وأداء فرائضي في ناسخ أحكامي، والانصراف عَما أنسخه منها إلى الذي أحدِثه لكم من فرائضي، وأنقلكم إليه من أحكامي، والتسليم لأمري فيما آمركم به في حين إلزامكم حكمه، والتحول عنه بعد تحويلي إياكم عنه -وإن لحقكم في ذلك مكروهٌ من مقالة أعدائكم من الكفار بقذفهم لكم الباطل، أو مشقةٌ على أبدانكم في قيامكم به، أو نقصٌ في أموالكم- (2) وعلى جهاد أعدائكم وحربهم في سبيلي، بالصبر منكم لي على مكروه ذلك ومَشقته عليكم، واحتمال عنائه وثقله، ثم بالفزع منكم فيما يَنوبكم من مُفظِعات الأمور إلى الصلاة لي، فإنكم بالصبر على المكاره تُدركون مرضاتي، وبالصلاة لي تستنجحون طلباتكم قبَلي، وتدركون حاجاتكم عندي، فإني مع الصابرين على القيام بأداء فرائضي وترك معاصيَّ، أنصرهُم وأرعاهم وأكلَؤُهم، حتى يظفروا بما طلبوا وأمَّلوا قِبَلي.
* * *
__________
(1) معنى"الشكر" 1: 135-138 وتفسير معنى"الكفر" فيما سلف 1: 255، 382، 522، ومواضع كثيرة. اطلبها في فهرس اللغة.
(2) هذه جمل متداخلة، والعطف سياقه في هذه الجملة: استعينوا بالصبر والصلاة على القيام بطاعتي، وأداء فرائضي. . والانصراف عما أنسخه. . والتسليم لأمري. . والتحول عنه. . وعلى جهاد أعدائكم. . بالصبر. . ".(3/213)
وقد بينت معنى"الصبر" و"الصلاة" فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته، (1) كما:
2315- حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية في قوله:"واستعينوا بالصبر والصلاة"، يقول: استعينوا بالصبر والصلاة على مرضاة الله، واعلموا أنهما من طاعة الله.
2316- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة"، اعلموا أنهما عَونٌ على طاعة الله.
* * *
وأما قوله:"إن الله مع الصابرين"، فإن تأويله: فإن الله نَاصرُه وظَهيرهُ وراضٍ بفعله، كقول القائل:"افعل يَا فلان كذا وأنا معك"، يعني: إني ناصرُك على فعلك ذلك ومُعينك عليه.
* * *
__________
(1) انظر فيما سلف تفسير"الصلاة" 1: 242-243 / ثم 2: 11. وتفسير"الصبر" في 2: 11، 124، وانظر فهرس اللغة.(3/214)
وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر على طاعتي في جهاد عدوّكم، وترك معاصيَّ، وأداء سائر فرائضي عليكم، ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله: هو ميت، فإن الميت من خَلقي مَنْ سلبته حياتَه وأعدمتُه حواسَّه، فلا يلتذّ لذة ولا يُدرك نعيما، فإنّ من قُتل منكم ومن سائر خَلقي في سبيلي، أحياءٌ عندي، في حياة ونعيم، وعيش هَنِيّ، ورزق سنيّ، فَرحين(3/214)
بما آتيتهم من فضلي، وَحبوتهم به من كرامتي، كما:-
2317- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"بل أحياء" عند ربهم، يرزقون من ثمر الجنة، ويَجدون ريحها، وليسوا فيها.
2318- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2319- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تقولوا لمن يقتل في سَبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون"، كنَّا نُحَدَّثَ (1) أن أرواح الشهداء تعارف في طَير بيض يأكلن من ثمار الجنة، وأن مساكنهم سِدرة المنتهى، وأن للمجاهد في سبيل الله ثلاثُ خصال من الخير: مَن قُتل في سبيل الله منهم صار حيًّا مرزوقًا، ومن غُلب آتاه الله أجرًا عظيمًا، ومن مات رَزَقه الله رزقًا حسنًا.
2320- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تَقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء" قال، أرواحُ الشهداء في صُوَر طير بيضٍ.
2321- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء"، في صُوَر طير خضر يطيرون في الجنه حيث شاءوا منها، يأكلون من حيث شاءوا.
2322- حدثني المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عثمان بن غياث. قال، سمعت عكرمة يقول في قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياءٌ ولكن لا تشعرون" قال، أرواح الشهداء في طير خُضر في الجنة.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "كما يحدث"، والصواب ما أثبت.(3/215)
قال أبو جعفر: فإن قال لنا قائل: وما في قوله:"ولا تقولوا لمن يُقتل في سبيل الله أمواتٌ بل أحياء"، من خصوصية الخبر عن المقتول في سبيل الله الذي لم يعمَّ به غيره؟ وقد علمت تظاهُر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وصف حال المؤمنين والكافرين بعد وفاتهم، فأخبر عن المؤمنين أنهم يفتح لهم من قبورهم أبوابٌ إلى الجنة يَشمون منها رَوْحها، ويستعجلون الله قيام الساعة، ليصيروا إلى مساكنهم منها، ويجمع بينهم وبين أهاليهم وأولادهم فيها = وعن الكافرين أنهم يُفتح لهم من قبورهم أبوابٌ إلى النار يَنظرون إليها، ويصيبهم من نَتنها ومكروهها، ويُسلط عليهم فيها إلى قيام الساعة من يَقمَعُهم فيها، ويسألون الله فيها تأخيرَ قيام الساعة، حِذارًا من المصير إلى ما أعد الله لهم فيها، مع أشباه ذلك من الأخبار. وإذا كانت الأخبار بذلك متظاهرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما الذي خُصَّ به القتيل في سبيل الله، مما لم يعم به سائر البشر غيره من الحياة، وسائرُ الكفار والمؤمنين غيرُه أحياءٌ في البرزخ، أما الكفار فمعذبون فيه بالمعيشة الضنك، وأما المؤمنون فمنعَّمون بالروح والريحان ونَسيم الجنان؟
قيل: إنّ الذي خَصّ الله به الشهداء في ذلك، وأفادَ المؤمنين بخبره عنهم تعالى ذكره، إعلامه إياهم أنهم مرزوقون من مآكل الجنة ومطاعمها في بَرْزَخِهم قَبل بعثهم، ومنعَّمون بالذي ينعم به داخلوها بعد البعث من سائر البشر، من لذيذ مطاعمها الذي لم يُطعمها الله أحدًا غيرَهم في برزخه قبل بعثه. فذلك هو الفضيلة التي فضَّلهم بها وخصهم بها من غيرهم، والفائدة التي أفادَ المؤمنين بالخبر عنهم، فقال تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [سورة آل عمران: 169-170] ، وبمثل الذي قُلنا جاء الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
2323- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عبد الرحيم بن سليمان، وَعَبدة(3/216)
بن سليمان، عن محمد بن إسحاق، عن الحارث بن فضيل، عن محمود بن لبيد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الشهداءُ على بَارق، نهر بباب الجنة، في قبة خضراء -وقال عبدة: في روضة خضراء- يخرُج عليهم رزقهم من الجنه بُكرة وَعشيًّا. (1)
2324- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح عن الإفريقي، عن ابن بشار السلمي -أو أبي بشار، شكّ أبو جعفر- قال: أرواح الشهداء في
__________
(1) الحديث: 2323- عبدة بن سليمان الكلابي الكوفي: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 272، وابن أبي حاتم 3/1/89.
الحارث بن فضيل الأنصاري المدني: ثقة، وثقه ابن معين والنسائي وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/277، وابن أبي حاتم 1/2/86.
محمود بن لبيد بن عقبة بن رافع الأشهلي، الأوسي، الأنصاري: صحابي على الراجح الذي جزم به البخاري، مات سنة 96 أو 97. قال الواقدي: مات وهو ابن 99 سنة. قال الحافظ في التهذيب: "على مقتضى قول الواقدي في سنة، يكون له يوم مات النبي صلى الله عليه وسلم 13 سنة. وهذا يقوي قول من أثبت الصحبة". وروى البخاري في الكبير 4/1/402، بإسناد صحيح: "عن محمود بن لبيد قال، أسرع النبي صلى الله عليه وسلم حتى تقطعت نعالنا، يوم مات سعد بن معاذ". وهذا حجة كافية في إثبات صحبته. فقال ابن أبي حاتم 4/1/289-290: "قال البخاري: له صحبة. فخط أبي عليه، وقال لا يعرف له صحبة"! وهو نفي دون دليل، لا يقوم أمام إثبات عن دليل صحيح. ولذلك قال ابن عبد البر - كما في التهذيب: "قول البخاري أولى". وهو مترجم أيضًا في ابن سعد 5: 55-56. والإصابة 6: 66-67.
والحديث رواه أحمد في المسند: 2390، عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد، عن أبيه، عن ابن إسحاق، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه ابن حبان في صحيحه 7: 69 (من مخطوطة الإحسان) ، من طريق يعقوب، به. ورواه الحاكم في المستدرك 2: 74، من طريق يزيد بن هارون، عن ابن إسحاق. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره ابن كثير في التفسير 2: 292، عن رواية المسند. قال: "تفرد به أحمد". ثم أشار إلى رواية الطبري هذه، وقال: "وهو إسناد جيد". وهو في مجمع الزوائد 5: 298، ونسبه لأحمد، والطبراني، وقال: "ورجال أحمد ثقات".
وذكره السيوطي 2: 96. وزاد نسبته لابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، وابن المنذر والبيهقي في البعث.
وقوله: "وقال عبدة. . . "، يريد أن"عبدة بن سليمان" قال: "في روضة" بدل"في قبة". ووقع في المطبوعة"أو قال عبدة". ووضع"أو" هنا بدل واو العطف - خطأ غير مستساغ. ونرجح أنه من ناسخ أو طابع.(3/217)
قباب بيض من قباب الجنة، في كل قبة زوجتان، رزقهم في كل يوم طلعت فيه الشمس ثَورٌ وحُوت، فأما الثور، ففيه طعم كلّ ثمرةٍ في الجنة، وأما الحوت ففيه طَعمُ كل شراب في الجنة. (1)
* * *
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فإنّ الخبر عما ذكرت أن الله تعالى ذكرُه أفاد المؤمنين بخبره عن الشهداء من النعمة التي خصّهم بها في البرزخ غيرُ موجود في قوله:"ولا تَقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء"، وإنما فيه الخبرُ عن حَالهم، أمواتٌ هم أم أحياءٌ.
قيل: إنّ المقصود بذكر الخبر عن حياتهم، إنما هو الخبر عَمَّا هم فيه من النِّعمة، ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عبادَه عما خَصّ به الشهداء في قوله: (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) [سورة آل عمران: 169] ، وعلموا حالهم بخبره ذلك، ثم كان المراد من الله تعالى ذكره في قوله:"ولا تقولوا لمنْ يُقتل في سبيل الله أموات بل أحياء"، نَهْيُ خَلقه عن أن يقولوا للشهداء أنهم موتى (2) = تَرَك إعادة ذكر ما قد بين لهم من خبرهم.
* * *
وأما قوله:"ولكنْ لا تَشعرُون"، فإنه يعني به: ولكنكم لا تَرونهم فتعلموا أنهم أحياءٌ، وإنما تعلمون ذلك بخبري إياكم به.
* * *
وإنما رفع قوله:"أمواتٌ" بإضمار مكنيّ عن أسماء"من يُقتل في سبيل الله"، ومعنى ذلك: ولا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله هم أموات. ولا يجوز النصب في
__________
(1) الخبر: 2324- هذا خبر لا أدري ما هو؟! ورأسه"ابن بشار السلمي؛ أو أبو بشار" - الذي شك فيه ابن جرير: لم أهتد إلى شيء يدل عليه. وقد ذكره السيوطي 2: 96، عن هذا الموضع من الطبري، ثم لم يصنع شيئًا!
(2) سياق الكلام: ولكنه تعالى ذكره لما كان قد أنبأ عباده. . . ترك أعادة ذكر. . . ".(3/218)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)
"الأموات"، لأن القول لا يعمل فيهم، وكذلك قوله:"بل أحياء"، رفعٌ، بمعنى: هُمْ أحياء. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأمْوَالِ وَالأنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) }
قال أبو جعفر: وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباعَ رَسوله صلى الله عليه وسلم، أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور، ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكما امتحن أصفياءَه قَبلهم. ووَعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) [سورة البقرة: 214] ، وبنحو الذي قلنا في ذلك كان ابن عباس وغيرُه يقول.
2325- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع"، ونحو هذا، قال: أخبر الله المؤمنين أن الدنيا دارُ بلاء، وأنه مبتليهم فيها، وأمرَهم بالصبر وبَشّرهم فقال:"وبشر الصابرين"، ثم أخبرهم أنه فعل هكذا بأنبيائه وصَفوته، لتطيب أنفسهم فقال: (مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) .
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "إنهم أحياء"، والسياق يقتضي ما أثبت. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 93-94، فقد استوفى ما اختصره الطبري.(3/219)
ومعنى قوله:"وَلنبلونكم"، ولنختبرنكم. وقد أتينا على البيان عن أن معنى"الابتلاء" الاختبار، فيما مضى قبل. (1)
* * *
وقوله:"بشيء من الخوف"، يعني من الخوف من العدو، وبالجوع -وهو القحط- يقول: لنختبرنكم بشيء من خوف ينالكم من عدوكم وبسَنه تُصيبكم ينالكم فيها مجاعة وشدة، وتتعذر المطالب عليكم، (2) فتنقص لذلك أموالكم، وحروبٌ تكون بينكم وبين أعدائكم من الكفار، فينقص لها عددكم، وموتُ ذراريكم وأولادكم، وجُدوب تحدُث، فتنقص لها ثماركم. كل ذلك امتحان مني لكم، واختبار مني لكم، فيتبين صادقوكم في إيمانهم من كاذبيكم فيه، ويُعرف أهل البصائر في دينهم منكم، من أهل النفاق فيه والشك والارتياب.
كل ذلك خطابٌ منه لأتباع رَسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، كما:
2326- حدثني هارون بن إدريس الكوفيّ الأصم قال، حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي، عن عبد الملك، عن عطاء في قوله:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع" قال، هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. (3)
* * *
وإنما قال تعالى ذكره:"بشيء من الخوف" ولم يقل بأشياء، لاختلاف أنواع ما أعلم عبادَه أنه مُمتحنهم به. فلما كان ذلك مختلفًا - وكانت"مِن" تَدلّ على أنّ كل نوع منها مُضمر"شيء"، فإنّ معنى ذلك: ولنبلونكم بشيء من الخوف، وبشيء من الجوع، وبشيء من نقص الأموال - اكتفى بدلالة ذكر"الشيء" في أوله، من إعادته مع كل نوع منها.
ففعل تعالى ذكره كل ذلك بهم، وامتحنهم بضروب المحَن، كما:-
2327- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
__________
(1) انظر ما سلف 2: 48، 49، ثم هذا الجزء 3: 7.
(2) في المطبوعة: "وتعذر المطالب" والصواب ما أثبت.
(3) الخبر: 2326- سبق هذا الإسناد: 1455، ولما نعرف شيخ الطبري فيه.(3/220)
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156)
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات" قال، قد كان ذلك، وسيكونُ ما هو أشد من ذلك.
قال الله عند ذلك:"وبشر الصابرين الذين إذا أصَابتهم مُصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عَلمهم صَلواتٌ من رَبهم وَرَحمة وأولئك هُمُ المهتدون".
* * *
ثم قال تعالى ذكره لنبيه صلى الله عليه وسلم: يا محمد، بشّر الصابرين على امتحاني بما أمتحنهم به، (1) والحافظين أنفسهم عن التقدم على نَهْيي عما أنهاهم عنه، والآخذين أنفسهم بأداء ما أكلفهم من فرائضي، مع ابتلائي إياهم بما أبتليهم به، (2) القائلين إذا أصابتهم مصيبة:"إنا لله وإنا إليه رَاجعون". فأمره الله تعالى ذكره بأن يخصّ -بالبشارة على ما يمتحنهم به من الشدائد- أهلَ الصبر، الذين وصف الله صفتهم.
* * *
وأصل"التبشير": إخبار الرجل الرجلَ الخبرَ، يَسرّه أو يسوءه، لم يسبقه به إلى غيره (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: وبشّر، يا محمد، الصابرين الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمنّي، فيُقرون بعبوديتي، ويوحِّدونني بالربوبية،
__________
(1) في المطبوعة: "بما امتحنتهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "بما ابتليتهم"، والسياق يقتضي ما أثبت.
(3) انظر ما سلف 1: 383/2: 393.(3/221)
أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
ويصدقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي، ويرجون ثَوابي، ويخافون عقابي، ويقولون -عند امتحاني إياهم ببعض مِحَني، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أنْ أبتليهم به من الخوف والجوع ونَقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا مُمتحنهم بها-: إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياءً، ونحن عبيده وإنا إليه بعد مَماتنا صائرون = تسليمًا لقضائي ورضًا بأحكامي.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، هؤلاء الصابرون، الذين وصفهم ونَعتهم -"عليهم"، يعني: لَهم،"صلوات"، يعني: مغفرة."وصلوات الله" على عباده، غُفرانه لعباده، كالذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
2328-"اللهم صَلِّ على آل أبي أوْفى". (1)
* * *
يعني: اغفر لَهم. وقد بينا"الصلاة" وما أصلها في غير هذا الموضع. (2)
وقوله:"ورحمة"، يعني: ولهُم مع المغفرة، التي بها صَفح عن ذنوبهم وتغمَّدها، رحمة من الله ورأفة.
__________
(1) الحديث: 2328- هو جزء من حديث صحيح. رواه البخاري 3: 286 (من الفتح) . ومسلم 1: 297- كلاهما من طريق شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن أبي أوفى قال، "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم، فأتاه أبي أبو أوفى بصدقته، فقال: اللهم صل على آل أبي أوفى".
قال الحافظ: "يريد أبا أوفى نفسه، لأن الآل يطلق على ذات الشيء. . . وقيل لا يقال ذلك إلا في حق الرجل الجليل القدر".
وهذه فائدة نفيسة، من الحافظ ابن حجر، رحمه الله.
(2) انظر ما سلف 1: 242 / ثم 2: 505 / ثم 2: 37، 213، 214.(3/222)
ثم أخبر تعالى ذكره -مع الذي ذكر أنه مُعطيهم على اصطبارهم على محنه، تسليمًا منهم لقضائه، من المغفرة والرحمة- أنهم هم المهتدون، المصيبون طريق الحقّ، والقائلون مَا يُرْضى عنهم والفاعلون ما استوجبوا به من الله الجزيل من الثواب.
وقد بينا معنى"الاهتداء"، فيما مضى، فإنه بمعنى الرشد للصواب. (1)
* * *
وبمعنى ما قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2329- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"الذين إذا أصابتهم مُصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه رَاجعون أولئكَ عليهم صَلوات من ربهم وَرحمه وأولئك هم المهتلون" قال، أخبر الله أنّ المؤمن إذا سَلّم الأمرَ إلى الله، ورَجع واسترْجع عند المصيبة، كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاةُ من الله، والرحمة، وتحقيق سَبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مَن استرْجع عند المصيبة، جبر الله مُصيبته، وأحسن عُقباه، وَجعل له خَلفًا صالحًا يرضاه. (2)
2330- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
__________
(1) انظر ما سلف 1: 166-170، 230، 249، 549-551 / ثم 2: 211/ ثم هذا الجزء 3: 101، 140، 141.
(2) الحديث: 2329- ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 2: 330-331، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، وفيه علي بن أبي طلحة، وهو ضعيف".
وذكره السيوطي في الدر المنثور 1: 156، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في شعب الإيمان.
وعلي بن أبي طلحة: سبق في: 1833 أنه ثقة، وأن علة هذا الإسناد -وهو كثير الدوران في تفسير الطبري-: انقطاعه، لأن ابن أبي طلحة لم يسمع من ابن عباس، ولم يره.(3/223)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
عن أبيه، عن الربيع في قوله:"أولئك عليهم صلواتٌ من ربّهم ورحمة"، يقول: الصلوات والرحمة على الذين صبروا واسترجعوا.
2331- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن سفيان العُصفُريّ، عن سعيد بن جبير قال: مَا أعطِيَ أحدٌ ما أعطيت هذه الأمة:"الذينَ إذا أصابتهم مصيبه قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولئك عليهم صَلواتٌ من رَبهم وَرحمة"، ولو أعطيها أحدٌ لأعطيها يعقوب عليه السلام، ألم تسمعْ إلى قوله: (يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ) [سورة يوسف: 84] . (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر:"والصفا" جمع"صَفاة"، وهي الصخرة الملساء، ومنه قول الطرمَّاح:
أَبَى لِي ذُو القُوَى وَالطَّوْلِ ألا ... يُؤَبِّسَ حَافِرٌ أَبَدًا صَفَاتِي (2)
__________
(1) الخبر: 2331- سفيان العصفري: هو سفيان بن زياد العصفري، وهو ثقة، وثقه ابن معين، وأبو حاتم، وأبو زرعة. مترجم في التهذيب 4: 111، برقم: 198. وابن أبي حاتم 2/1/221، برقم: 966. والكبير للبخاري 2/2/93، برقم: 2076، لكن لم يذكر نسبته"العصفري". وهو يشتبه على كثير من العلماء بآخر، هو"سفيان بن دينار، أبو الورقاء الأحمري". فقد ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/220-221، برقم: 695، وثبت في بعض نسخه زيادة"العصفري" في نسبته. والبخاري ترجم"الأحمري" 2/2/92، برقم: 2073. ولم يذكر فيه"العصفري" أيضًا. وترجم في التهذيب 4: 109، برقم: 193- مع شيء من التخليط في الترجمتين، يظهر بالتأمل. ومع هذا التخليط فقد رجح الحافظ أنهما اثنان، وقال في ترجمة"سفيان بن دينار"-: "والتحقيق فيه: أن سفيان بن دينار التمار هذا، يقال له: العصفري، أيضًا، وأن سفيان بن زياد العصفري: آخر، بينه الباحي". وقال في ترجمة الآخر: "والصحيح أنهما اثنان، كما قال ابن معين وغيره". وأيا ما كان فالاثنان قتان.
(2) ديوانه: 134، وكان في المطبوعة: "يونس حافر أبدي"، وهو خطأ، والطول: القدرة والغنى. وهو ذو الطول والقوة، هو الله سبحانه. وأبس الشيء يؤبسه: ذلله ولينه، أو كسره، ومثله قول عباس بن مرداس: إنْ تَكُ جُلْمُودَ صَخْرٍ لاَ أُؤَبِّسُهُ ... أُوقِدْ عَلَيْهِ، فأْحمِيهِ، فينصَدِعُ
السَّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِه ... وَالحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِهَا جُرَعُ(3/224)
وقد قالوا إن"الصفا" واحد، وأنه يثنى"صَفَوان"، ويجمع"أصفاء" و"صُفِيًّا، وصِفِيًّا"، واستشهدوا على ذلك بقول الراجز (1)
كأنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ (2)
وقالوا: هو نظير"عَصَا وعُصِيّ [وعِصِيّ، وأَعْصاء] ، ورَحَا ورُحِيّ [وَرِحِيّ] وأرْحاء". (3)
* * *
وأما"المروة"، فإنها الحصاةُ الصغيرة، (4) يجمع قليلها"مَرَوات"، وكثيرها"المرْو"، مثل"تمرة وتمَرات وتمر"، قال الأعشى ميمون بن قيس:
__________
(1) هو الأخيل الطائي.
(2) سيأتي في التفسير 6: 142 والجمهرة 3: 135، والمخصص 10: 90، ومجالس ثعلب: 249، والحيوان 2: 339، والقالي 2: 8، واللسان (صفا) و (نفا) وكلهم رواه"متنيه" إلا ابن دريد فإنه أنشده: كأنّ مَتْنَيَّ من النَّفِيِّ ... مِنْ طُولِ إشْرَافِي على الطّوِيِّ
والنفي: ما تطاير من دلو المستقى. ومن روى"متني" فكأنه عنى أن الأخيل يصف نفسه. وأما من روى"متنيه"، فإنه عنى غيره. وهو الأصح فيما أرجح، وقد قال الأزهري: "هذا ساق كان أسود الجلدة، استقى من بئر ملح، فكان يبيض نفي الماء على ظهره إذا ترشش. لأنه كان ملحًا". فإذا صح ذلك، كانت رواية البيت الذي يليه"من طول إشراف" بغير ياء الإضافة، ومعنى الشعر أشبه بما قال الأزهري، لتشبيهه في البيت الثالث. و"الطوي" البئر المطوية بالحجارة.
(3) الزيادة بين الأقواس لا بد منها، ليستقيم تمثيل المتمثل بهذه الجموع، على نظيرها. وهو قوله آنفًا: صفا وأصفاء وصفى وصفى.
(4) بيان الطبري عن معنى"المرو" ليس بجيد، والأجود ما قاله أصحاب اللغة: المرو، حجارة بيض براقة، تكون فيها النار، وتقدح منها النار، ويتخذ أداة كالسكين يذبح بها، وهي صلبة.(3/225)
وَتَرَى بالأرْضِ خُفًّا زائِلا ... فَإِذَا مَا صَادَفَ المَرْوَ رَضَح (1)
يعني ب"المرو": الصخرَ الصغار، ومن ذلك قول أبي ذؤيب الهذلي:
حَتَّى كأنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ ... بِصَفَا المُشَرِّقِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَعُ (2)
ويقال"المشقِّر".
* * *
وإنما عنى الله تعالى ذكره بقوله:"إنّ الصفا والمروة"، في هذا الموضع: الجبلين المسمَّيَين بهذين الاسمين اللذين في حَرَمه، دون سائر الصفا والمرو. ولذلك أدخل فيهما"الألف واللام"، ليعلم عباده أنه عنى بذلك الجبلين المعروفين بهذين الاسمين، دون سائر الأصفاء والمرْوِ.
* * *
وأما قوله:"منْ شَعائر الله"، فإنه يعني: من معالم الله التي جعلها تعالى ذكره لعباده مَعلمًا ومَشعَرًا يعبدونه عندها، إما بالدعاء، وإما بالذكر، وإما بأداء ما فرض عليهم من العمل عندها. ومنه قول الكميت:
نُقَتِّلُهُمْ جِيَلا فَجِيلا تَرَاهُمُ ... شَعَائِرَ قُرْبَانٍ بِهِمْ يُتَقَرَّبُ (3)
__________
(1) ديوانه: 161، وفي الشطر الأول تصحيف لم أتبين صوابه، ورواية الديوان: وَتُولِّي الأَرْضَ خُفًّا مُجْمَرًا
وهو يصف ناقته وشدتها ونشاطها، والخف المجمر: هو الوقاح الصلب الشديد المجتمع، نكبته الحجارة فصلب. رضح الحصا والنوى رضحًا: دقه فكسره. يعني من شدة الخف وصلابته، وذلك محمود في الإبل.
(2) ديوانه: 3، والمفضليات: 587، من قصيدة البارعة في رثاء أولاده، يقول عن المصائب المتتابعة تركته كهذه الصخرة التي وصف. والمشرق: المصلي بمنى. قال ابن الأنباري: "وإنما خص المشرق، لكثرة مرور الناس به". ثم قال: "ورواها أبو عبيدة: "المشقر": يعني سوق الطائف. يقول: كأني مروة في السوق يمر الناس بها، يقرعها واحد بعد واحد".
(3) الهاشميات: 21، واللسان (شعر) ، وغيرهما. والضمير في قوله: "نقتلهم"، إلى الخوارج الذين عدد أسماءهم في بيتين قبل: عَلاَمَ إذًا زُرْنَا الزُّبَيْر وَنَافِعًا ... بغارتنا، بَعْدَ المقَانِبِ مِقْنَبُ
وَشَاطَ عَلَى أَرْمَاحِنَا بِادِّعَائِهَا ... وَتَحْوِيلهَا عَنْكُمْ شَبِيبٌ وقَعْنَبُ
والجيل: الأمة، أو الصنف من الناس. وفي المطبوعة واللسان: "تراهم" بالتاء، وهو خطأ. والشعائر هنا جمع شعيرة: وهي البدنة المهداة إلى البيت، وسميت بذلك لأنه يؤثر فيها بالعلامات. وإشعار البدن: إدماؤها بطعن أو رمي أو حديدة حتى تدمي.(3/226)
وكان مجاهد يقول في الشعائر بما:-
2332- حدثني به محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله" قال، من الخبر الذي أخبركم عنه. (1)
2333- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
فكأن مجاهدًا كان يرى أن الشعائر، إنما هو جمع"شعيرة"، من إشعار الله عباده أمرَ الصفا والمروة، وما عليهم في الطواف بهما. فمعناه: إعلامُهم ذلك.
وذلك تأويل من المفهوم بعيد. وإنما أعلم الله تعالى ذكره بقوله:"إن الصفا والمروة مِنْ شعائر الله" عبادَه المؤمنين أن السعي بينهما من مَشاعر الحج التي سنَّها لهم، وأمرَ بها خليله إبراهيمَ صلى الله عليه وسلم، إذ سَأله أن يُريه مناسك الحج. وذلك وإن كان مَخرجُه مَخرجَ الخبر، فإنه مرادٌ به الأمر. لأن الله تعالى ذكره قد أمر نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم باتباع ملة إبراهيم عليه السلام، فقال له: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا) [سورة النحل: 123] ، وجعل تعالى ذكره إبراهيمَ إمامًا لمنْ بَعده. فإذْ كان صحيحًا أن الطوافَ والسعيَ بين الصفا والمروة من شعائر الله ومن مَناسك الحج، فمعلوم أن إبراهيم صلى الله
__________
(1) في المطبوعة: "من الخير" بالياء المثناة التحتية، وليس يستقيم، والصواب ما أثبت، وكلام الطبري في تعليقه على قول مجاهد، دال على الصواب من ذلك أنها من الإشعار، وهو الإخبار.(3/227)
عليه وسلم قد عَمل به وسنه لمن بعده، وقد أُمرَ نبينا صلى الله عليه وسلم وأمته باتباعه، فعليهم العمل بذلك، على ما بينه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره:"فمن حج البيت"، فمن أتاه عائدًا إليه بَعدَ بدء. وكذلك كل من أكثر الاختلاف إلى شيء فهو"حَاجٌّ إليه"، ومنه قول الشاعر: (1)
لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولا كثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا (2)
__________
(1) هو المخبل السعدي، وهو مخضرم.
(2) المعاني الكبير: 478، والاشتقاق لابن دريد: 77، 156، وتهذيب الألفاظ: 563، وإصلاح المنطق: 411، والبيان والتبيين 3: 97، وشرح أدب الكاتب للجواليقي: 313، وللبطليوسي: 405، واللسان (سبب) (حجج) ، (قهر) (زبرق) ، والجمرة لابن دريد: 1: 31، 49/3: 434، وسمط اللآلي: 191، والخزانة 3: 427. وفي المطبوعة: "بيت الزبرقان" والصواب ما أثبت.
وقد ذهب الطبري في تفسير البيت، كما ذهب ابن دريد وابن قتيبة والجاحظ وغيرهم إلى أن"السب" هاهنا العمامة، وأن سادات العرب كانوا يصبغون عمائمهم بالزعفران، ومنهم حصين بن بدر، وهو الزبرقان، وسمي بذلك لصفرة عمامته وسيادته. وذهب أبو عبيدة وقطرب إلى أنه"السب" هنا هي الاست، وكان مقروفًا، وزعموا أن قول قطرب قول شاذ، والصواب عندي أن أبا عبيدة وقطرب قد أصابا، وأنهم أخطأوا في ردهم ما قالا. فقد كان المخبل بذيء اللسان، حتى نسب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إنما هو عذاب يصبه الله على من يشاء من عباده" (النقائض: 1048) قال أبو عبيدة في النقائض: "كان المخبل القريعي أهجى العرب. . . ثم كان بعده حسان بن ثابت، ثم الحطيئة، والفرزدق، وجرير، والأخطل. هؤلاء الستة الغاية في الهجاء وغيره، ولم يكن في الجاهلية ولا في الإسلام لهم نظير". هذا وقد كان من أمر المخبل والزبرقان بن بدر ما كان في ضيافة الحطيئة (انظر طبقات فحول الشعراء: 96-100) ، وهجاؤه له، ثم ما استشرى من هجاء المخبل له، لما خطب إليه أخته خليدة، فأبى الزبرقان أن يزوجها له، وذمه. فهجاء وهجا أخته مقذعًا، وحط منه حتى قال له: يَا زِبْرِقَانُ أخَابَنِي خَلَفٍ ... مَا أنْتَ وَيبَ أبِيكَ والفَخْرُ
مَا أنْتَ إلاّ فِي بَنِي خَلَفٍ ... كالإسْكَتَينِ عَلاَهُمَا البَظْرُ
وكل شعره في الزبرقان وأخته مقذع. وهذا البيت الذي استشهد به الطبري من قذعه. وقبل البيت: أَلَمْ تَعْلَمِي يَا أُمَّ عَمْرَةَ أنَّنِي ... تَخَاطَأَنِي رَيْبُ الزَّمَانِ لأَكْبَرَا
لأَشْهَدَ مِنْ عَوْفٍ حُلُولاً كثيرةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزبْرِقَانِ المُزَعْفَرَا
تَمَنَّى حُصَيْنٌ أن يَسُودَ جِذَاعَهُ ... فأَمْسَى حُصَيْنٌ قد أُذِلَّ وأُقْهِرَا
وفي سيرة ابن هشام 2: 275-276 قول عتبة بن ربيعة في أبي جهل: "سيعلم مصفراسته من انتفخ سحره، أنا أم هو! " فرماه بمثل ذلك من القبيح، الذي قاله المخبل السعدي. ومن زعم أن المخبل يقول إنه: "كره أن يعيش ويعمر حتى يرى الزبرقان من الجلالة والعظمة بحيث يحج بنو عوف عصابته"، فقد أخطأ، وقد نقض عليه البيت الثالث ما زعم، فإنه يصفه بأنه تمنى السيادة، ولكن ذلك لم يزده إلا ذلا وقهرًا، فكيف يتأتى أن يقول ما زعم هذا أنه أراده؟ بل أراد المخبل أن يسخر به ويتهكم، كما فعل في سائر هجائه له.
وقوله: "وأشهد" منصوب، عطفًا على قوله: "لأكبرا".(3/228)
يعني بقوله:"يحجون"، يكثرون التردد إليه لسُودده ورياسته. وإنما قيل للحاج"حاجّ"، لأنه يَأتي البيت قَبل التعريف، ثم يعود إليه لطَواف يوم النحر بعد التعريف، ثم ينصرف عنه إلى منى، ثم يعود إليه لطوَاف الصَّدرَ. (1) فلتكراره العودَ إليه مرّة بعد أخرى قيل له:"حاجٌّ".
* * *
وأما"المعتمر"، فإنما قيل له:"معتمر"، لأنه إذا طاف به انصرف عنه بعد زيارته إياه. وإنما يعني تعالى ذكره بقوله:"أو اعتمر"، أو اعتمرَ البيت، ويعني ب"الاعتمار" الزيارة. فكل قاصد لشيء فهو له"معتمر"، ومنه قول العجاج:
لَقَدْ سَمَا ابْنُ مَعْمَرٍ حِينَ اعْتَمَرْ ... غْزًى بَعِيدًا من بَعِيدٍ وَضَبَرْ (2)
يعني بقوله:"حين اعتمر"، حين قصده وأمَّه.
* * *
__________
(1) عرف يعرف تعريفًا: وقف بعرفات. و"طواف الصدر" من قولهم: صدر الناس من حجهم، أي رجعوا بعد أن يقضوا نسكهم.
(2) ديوانه: 19 من قصيدة مدح بها عمر بن عبيد الله بن معمر التميمي، مضى منها في 1: 190، 2: 157. وقوله"مغزى"، أي غزوًا. وضبر: جمع قوائمه ليثب ثم وثب. وهو يصف بعده جيش عمر بن عبيد الله، وكان فتح الفتوح الكثيرة، وعظم أمره في قتال الخوارج.(3/229)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، يقول: فلا حَرَج عليه ولا مَأثم في طَوَافه بهما.
* * *
فإن قال قائل: وما وجه هذا الكلام، وقد قلت لنا، إن قوله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله"، وإن كان ظاهرهُ ظاهرَ الخبر، فإنه في معنى الأمر بالطواف بهما؟ فكيف يكون أمرًا بالطواف، ثم يقال: لا جُناح على من حج البيت أو اعتمر في الطواف بهما؟ وإنما يوضع الجُناح عمن أتى ما عليه بإتيانه الجناحُ والحرجُ؟ والأمر بالطواف بهما، والترخيصُ في الطواف بهما، غيرُ جائز اجتماعهما في حال واحدة؟
قيل: إنّ ذلك بخلاف ما إليه ذهبتَ. (1) وإنما معنى ذلك عند أقوام: أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لما اعتمر عُمرة القضيَّة، تخوَّف أقوامٌ كانوا يطوفون بهما في الجاهلية قبل الإسلام لصنمين كانا عليهما تعظيمًا منهم لهما، فقالوا: وكيف نَطوف بهما، وقد علمنا أنَّ تَعظيم الأصنام وجميع ما كان يُعبد من ذلك من دون الله، شركٌ؟ ففي طوَافنا بهذين الحجرين أحرَجُ ذلك، (2) لأن الطواف بهما في الجاهلية إنما كان للصنمين اللذين كانا عليهما، وقد جاء الله بالإسلام اليومَ، ولا سبيل إلى تعظيم شيء مع الله بمعنى العبادة له!
فأنزل الله تعالى ذكره في ذلك من أمرهم:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله"،
__________
(1) في المطبوعة: "إليه ذهب"، والصواب ما أثبت، لأن الطبري ساق قول القائل، على أنه خطاب له إذ قال للطبري: "وقد قلت لنا". فالصواب أن يصرف الرد عليه خطابًا له كما خاطبه.
(2) في المطبوعة: "أحد ذلك"، ولا معنى له، وفيه تحريف لا شك فيه. فإنهم لم يذكروا متعددًا من الآثام حتى يجعلوا له"أحدًا". وإنما أرادوا: أكبر الإثم والشرك. و"ذلك"، إشارة إلى الشرك. ولو قرئت أيضًا: "أخوف ذلك" لكاتب صوابًا، لأنه سيذكر أنهم كانوا يتخوفون الطواف بهما. ويعني: أخوف الشرك.(3/230)
يعني: إن الطوافَ بهما، فترك ذكر"الطواف بهما"، اكتفاء بذكرهما عنه. وإذْ كان معلومًا عند المخاطبين به أن معناه: من معالم الله التي جعلها علَمًا لعباده يعبدونه عندهما بالطواف بينهما، ويذكرونه عليهما وعندهما بما هو له أهل من الذكر،"فمن حَج البيتَ أو اعتمر" فلا يتخوَّفنَّ الطواف بهما، من أجل ما كانَ أهل الجاهلية يطوفون بهما من أجل الصنمين اللذين كانا عليهما، فإن أهل الشرك كانوا يطوفون بهما كفرًا، وأنتم تَطوفون بهما إيمانًا، وتصديقًا لرسولي، وطاعةً لأمري، فلا جُناح عليكم في الطواف بهما.
* * *
و"الجناح"، الإثم، كما:-
2334- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فلا جُناح عليه أن يطوّف بهما"، يقول: ليس عليه إثم، ولكن له أجر.
* * *
وبمثل الذي قلنا في ذلك تظاهرت الرواية عن السلف من الصحابة والتابعين.
ذكر الأخبار التي رويت بذلك:
2335- حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا داود، عن الشعبي: أن وَثَنًا كان في الجاهلية على الصفا يسمى"إسافًا"، (1) ووثنًا على المرْوة يسمى"نائلة"، فكان أهل الجاهلية إذا طافوا بالبيت مَسحوا الوثَنين. فلما جاء الإسلام وكُسرت الأوثان، قال المسلمون: إنّ الصفا والمرْوة إنما كانَ يُطاف بهما من أجل الوَثنين، وليس الطواف بهما من الشعائر! قال: فأنزل الله: إنهما من الشعائر،"فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوّف بهما".
2336- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عامر قال: كان صنم بالصفا يدعى"إسافًا"، (2) ووثَن بالمروة يدعى"نائلة"،
__________
(1) في المطبوعة: "إساف"، والصواب ما أثبت، فهو غير ممنوع من الصرف.
(2) في المطبوعة: "إساف"، والصواب ما أثبت، فهو غير ممنوع من الصرف.(3/231)
ثم ذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب - وزاد فيه، قال: فذكِّر الصفا من أجل الوثن الذي كان عليه، وأنِّت المروة من أجل الوثن الذي كان عليه مؤنثًا. (1)
2337- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي، وذكر نحو حديث ابن أبي الشوارب عن يزيد، وزاد فيه - قال: فجعله الله تطوُّعَ خير.
2338- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن أبي زائدة قال، أخبرني عاصم الأحول قال، قلت لأنس بن مالك: أكنتم تكرهون الطواف بين الصفا والمرْوة حَتى نزلت هذه الآية؟ فقال: نعم كنا نكره الطواف بَينهما لأنهما من شعائر الجاهلية، حتى نزلت هذه الآية:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله". (2)
2339- حدثني علي بن سهل الرملي قال، حدثنا مؤمل بن إسماعيل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم قال، سألت أنسًا عن الصفا والمروة، فقال: كانتا من مَشاعر الجاهلية، فلما كان الإسلام أمسكوا عنهما، فنزلت:"إن الصفا والمرْوَة من شَعائر الله". (3)
__________
(1) الأثر: 2336- هكذا جاء هذا الأثر في الدر المنثور 1: 160، وصواب عبارته فيما أرجح، أن يحذف"مؤنثًا"، أو أن يقال: "من أجل أن الوثن الذي كان عليه كان مذكرًا، وأنث المروة من أجل أن الوثن الذي كان عليه كان مؤنثًا".
(2) الحديث: 2338- يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي. ابن أبي زائدة: هو يحيى بن زكريا بن أبي زائدة الهمداني الوادعي، وهو حافظ ثقة، يقرن بابن المبارك. يقولون: إنه أول من صنف الكتب بالكوفة، مات سنة 183. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/273-274. والصغير، ص: 206، وابن سعد: 6: 274، وابن أبي حاتم 4/2/144-145، وتذكرة الحفاظ 1: 226-247.
عاصم: هو ابن سليمان الأحول، مضى في: 184، وهو من صغار التابعين. وعده سفيان الثوري أحفظ ثلاثة في البصرة. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7/2/20-65، وابن أبي حاتم 3/1/343-344.
والحديث رواه البخاري 3: 402 (فتح) ، من طريق عبد الله، وهو ابن المبارك، عن عاصم الأحول، بنحوه. ورواه أيضًا مسلم، والترمذي، والنسائي. كما في القسطلاني 3: 153-154.
(3) الحديث: 2339- سفيان: هو الثوري. والحديث مختصر ما قبله. ورواه البخاري مختصرًا 8: 132 (فتح) ، عن محمد بن يوسف، عن سفيان. ورواه الحاكم 2: 270، من طريق حسين بن حفص، عن سفيان. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وأخطأ الحاكم في استدراكه، فقد رواه البخاري. كما ذكرنا قبل.
وسيأتي بعض معناه مختصرًا: 2346، 2347، من رواية جرير، عن عاصم، عن أنس.(3/232)
2340- حدثني عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث قال، حدثني أبو الحسين المعلم قال، حدثنا شيبان أبو معاوية، عن جابر الجعفي، عن عمرو بن حبشي قال، قلت لابن عمر:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناحَ عليه أنْ يَطَّوَّف بهما" قال، انطلق إلى ابن عباس فاسأله، فإنه أعلم من بقي بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. فأتيته فسألته، فقال: إنه كان عندهما أصنامٌ، فلما حُرِّمْن أمسكوا عن الطواف بينهما، حتى أنزلت:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أنْ يَطَّوَّفَ بهما" (1) .
__________
(1) الحديث: 2340- عبد الوارث بن عبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد العنبري: ثقة، من شيوخ مسلم والترمذي والنسائي وأبي حاتم وغيرهم. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/76.
حسين المعلم: هو حسين بن محمد بن بهرام التميمي المروذي، المؤدب، كما لقب بذلك في التهذيب، وهو"المعلم" أيضًا، كما لقبه بذلك البخاري وابن أبي حاتم، وهو ثقة من شيوخ أحمد ويحيى والأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/386-387، وابن سعد 7/2/79، وابن أبي حاتم 1/2/64. وتاريخ بغداد 8: 88-90، وكان معروفًا برواية"تفسير شيبان النحوي". فروى ابن أبي حاتم عن أبيه قال، "أتيته مرارًا بعد فراغه من تفسير شيبان، وسألته أن يعيد على بعض المجلس، فقال: بكر، بكر. ولم أسمع منه شيئًا".
ومما يوقع في الوهم، الاشتباه بين"عبد الوارث بن عبد الصمد". وشيخه"حسين المعلم" هذا - وبين"عبد الوارث بن سعيد"، وشيخه"حسين المعلم" أيضًا.
ف"عبد الوارث" -شيخ الطبري- هو الذي ترجمنا له هنا. وشيخه"حسين بن محمد المروذي". و"عبد الوارث بن سعيد" - هو جد"عبد الوارث" هذا. و"حسين المعلم" هو"حسين بن ذكوان المعلم"، وهو قديم، يروي عن التابعين.
شيبان أبو معاوية: "هو شيبان بن عبد الرحمن التميمي النحوي؛ وهو إمام حجة حافظ، حدث عند أبو حنيفة، وهو من أقرانه. وروى عنه الأئمة: الطيالسي، وابن مهدي، وغيرهما. مترجم في التهذيب. والكبير 2/2/255، وابن سعد 6: 262، و 7/2/67-68 وابن أبي حاتم 1/1/355-356، وتاريخ بغداد 9: 271-274، وتذكرة الحفاظ 1: 202-203.
ووقع في المطبوعة غلط في اسمه واسم الراوي عنه: فذكر"أبو الحسين المعلم"! وهو تخليط، وذكر"سنان أبو معاوية"! وهو فوق ذلك تصحيف.
جابر الجعفي، بضم الجيم وسكون العين المهملة: وهو جابر بن يزيد بن الحارث، وهو ضعيف جدًا، رمي بالكذب. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/210، والضعفاء للبخاري، ص: 7. والنسائي، ص: 7، وابن أبي حاتم 1/1/497-498، والمجروحين لابن حبان، رقم: 175، ص 140-141. والميزان 1: 176-178.
عمرو بن حبشي، بضم الحاء المهملة وسكون الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة: تابعي ثقة، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 3/1/226.
وهذا الحديث -الضعيف الإسناد- لم أجده إلا في هذا الموضع. وذكره السيوطي 1: 159، ولم ينسبه إلا إلى الطبري.(3/233)
2341- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله"، وذلك أنّ ناسًا كانوا يتحرجون أن يَطوفوا بين الصفا والمروة، فأخبر الله أنهما من شعائره، والطواف بينهما أحبُّ إليه، فمضت السُّنة بالطَّواف بينهما.
2342- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله فمن حَج البيت أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما" قال، زعم أبو مالك، عن ابن عباس: أنه كانَ في الجاهلية شَياطين تعزِفُ الليل أجمعَ بين الصفا والمروة، وكانت بَينهما آلهة، فلما جاء الإسلام وظَهر، قال المسلمون: يا رَسولَ الله، لا نطوف بين الصفا والمروة، فإنه شركٌ كنا نفعله في الجاهلية! فأنزل الله:"فلا جُناح عليه أن يطوَّف بهما". (1)
__________
(1) الحديث: 2342- هذا الإسناد، هو من أسانيد تفسير السدي الثلاثة، وقد فصلنا القول فيها، في: 168.
والحديث رواه أبو بكر بن أبي داود في كتاب المصاحف، ص: 100-101، عن الحسين بن علي بن مهران، عن عامر بن الفرات، عن أسباط، بهذا الإسناد، نحوه.
وفي إسناد ابن أبي داود فائدة جديدة: أن هناك راويًا لتفسير السدي، غير"عمرو بن طلحة القناد" راويه عن أسباط بن نصر. فها هو ذا عامر بن الفرات يروي شيئًا منه عن أسباط أيضًا. و"عامر بن الفرات": لم أجد له ترجمة أصلا. ومن عجب أن يذكره ابن أبي حاتم، في ترجمة"الحسين بن علي بن مهران" 1/2/56 - شيخًا له، ثم لا يترجم له في بابه!
ورواه أيضًا الحاكم 2: 271، من طريق عمرو بن طلحة القناد، عن أسباط. بهذا الإسناد نحوه. وزاد في آخره: "يقول: عليه إثم ولكن له أجر". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ولنا على الحاكم والذهبي في هذا استدراك، هو: أن أبا مَالك -التابعي راويه عن ابن عباس - وهو"غزوان الغفاري": لم يرو له مسلم في صحيحه أصلا. فلا يكون الحديث على شرط مسلم، في اصطلاح الحاكم!
وفي رواية الحاكم -هذه- فائدة أيضًا: أنا ظننا عند الكلام على أسانيد تفسير السدي الثلاثة، أن الحاكم اختار منها إسنادين فقط، ولكن أظهرنا هذا الإسناد على أنه صحح الثلاثة الأسانيد.
والحديث ذكره السيوطي 1: 159، وزاد نسبته لابن أبي حاتم أيضًا.(3/234)
2343- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله" قال، قالت الأنصار: إنّ السَّعي بين هذين الحجرين من أمر الجاهلية! فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروة من شَعائر الله"
2344- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن أبن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
2345- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما" قال، كان أهل الجاهلية قد وَضَعوا على كل واحد منهما صَنمًا يعظمونهما، فلما أسلم المسلمون كرِهوا الطواف بالصفا والمروة لمكان الصنمين، فقال الله تعالى:"إن الصفا والمروةَ من شَعائر الله فمن حج البيتَ أو اعتمر فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، وقرأ: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [سورة الحج: 32] ، وسَن رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما.
2346- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم قال، قلت لأنس: الصفا والمروة، أكنتم تكرَهون أن تطوفوا بهما مع الأصنام التي نُهيتم عنها؟ قال: نعم، حتى نزلت:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله".
2347- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير قال، أخبرنا عاصم قال، سمعت أنس بن مالك يقول: إنّ الصفا والمروة من مَشاعر قُريش في الجاهلية،(3/235)
فلما كان الإسلام تَركناهما. (1)
* * *
وقال آخرون: بل أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية، في سَبب قوم كانوا في الجاهلية لا يَسعوْن بينهما، فلما جاء الإسلام تخوَّفوا السعي بينهما كما كانوا يتخوَّفونه في الجاهلية.
* ذكر من قال ذلك:
2348- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة، قوله:"إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله" الآية، فكان حَيٌّ من تهامة في الجاهلية لا يسعون بينهما، فأخبرهم الله أنّ الصفا والمروة من شعائر الله، وكانَ من سُنة إبراهيم وإسماعيلَ الطواف بينهما.
2349- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال، كان ناس من أهل تِهامة لا يطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله".
2350- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني عقيل، عن ابن شهاب قال، حدثني عروة بن الزبير قال، سألت عائشة فقلت لها: أرأيتِ قول الله:"إنّ الصفا والمروة من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"؟ وقلت لعائشة: وَالله ما على أحدٍ جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة؟ فقالت عائشة: بئس ما قلت يا ابن أختي، إنّ هذه الآية لو كانت كما أوَّلتها كانت: لا جُناح عليه أن لا يطوَّف بهما، ولكنها إنما أنزلت في الأنصار: كانوا قبل أن يُسلموا يُهلُّون لمَناةَ، الطاغيةَ التي كانوا يعبدون بالمشلَّلِ، وكان من أهلَّ لها يتحرَّج أن يَطُوف بين
__________
(1) الحديثنان: 2346-2347- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي، وهو ثقة حجة حافظ. مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/214، وابن سعد 7/2/110، وابن أبي حاتم 1/1/505-507. وتاريخ بغداد 7: 253-261، وتذكرة الحفاظ 1: 250.
والحديثان مضى معناهما، من رواية عاصم عن أنس: 2338، 2339.(3/236)
الصفا والمروة، فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك - فقالوا: يا رسول الله إذا كنا نتحرج أن نَطُوف بين الصفا والمروة - أنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروَة من شعائر الله فمن حَجّ البيتَ أو اعتمرَ فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما". قالت عائشة: ثم قد سَن رَسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بينهما، فليس لأحد أن يَترك الطواف بَينهما. (1)
2351- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة قالت: كان رجالٌ من الأنصار مِمَّن يُهلُّ لمناةَ في الجاهلية -و"مناةُ" صنمٌ بين مكة والمدينة- قالوا: يا نبيّ الله، إنا كنا لا نطوفُ بين الصفا والمروة تعظيمًا لمناة، فهل علينا من حَرَج أن نَطوف بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروةَ من شعائر الله فمن حج البيتَ أو اعتمرَ فلا جناح عليه أن يطوف بهما". قال عروة: فقلت لعائشة: ما أبالي أن لا أطوف بين الصفا والمروة! قال الله:"فلا جُناح عليه". قالت: يا ابن أختي، ألا ترى أنه يقول:"إن الصفا والمروة من شَعائر الله"! قال الزهري: فذكرت ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فقال: هذا العلم! قال أبو بكر: ولقد سمعتُ رجالا من أهل العلم يقولون: لما أنزل الله الطوافَ بالبيت ولم يُنزل الطواف بين الصفا والمروة، قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إنا كنا نطوفُ في الجاهلية بين الصفا والمروة، وإنّ الله قد ذكر الطواف بالبيت ولم يذكر الطوافَ بين الصفا والمروةَ، فهل علينا من حرج أن لا نَطوفَ بهما؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ الصفا والمروةَ من شعائر الله" الآية كلها، قال أبو بكر: فأسمعُ أن هذه الآية نزلت في الفريقين كليهما، فيمن طَافَ وفيمن لم يَطُف. (2)
__________
(1) الحديث: 2350- عقيل- بضم العين: هو ابن خالد الأيلي، وهو ثقة ثبت حجة، قال ابن معين: "أثبت من روى عن الزهري: مالك، ثم معمر، ثم عقيل". مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/94، وابن أبي حاتم 3/2/43.
عروة بن الزبير بن العوام: تابعي ثقة فقيه عالم ثبت مأمون، قال أبو الزناد: "كان فقهاء أهل المدينة أربعة: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، وقبيصة بن ذؤيب، وعبد الملك بن مروان". وأمه أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر الصديق، وعائشة أم المؤمنين خالته، رضي الله عنهم. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/31-32، وابن سعد 2/2/134-135، و 5: 132-135، وابن أبي حاتم 3/1/395-396، وتذكرة الحفاظ 1: 58-59، وتاريخ الإسلام 3: 31-34.
والحديث -من هذا الوجه- رواه مسلم 1: 362، من طريق عقيل، عن ابن شهاب، وهو الزهري ولم يذكر لفظه كله، إحالة على روايات قبله.
ورواه البخاري 3: 397-401، مطولا، من طريق شعيب، عن الزهري، باللفظ الذي هنا، إلا خلافًا في أحرف يسيرة: "فلما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقالوا. . . أنزل الله. . . " ففي البخاري: "فلما أسلموا سألوا. . . قالوا. . . فأنزل الله. . . ". ولكن زاد البخاري في آخره قول الزهري أنه ذكر ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن - الذي سيأتي في الرواية التالية لهذه، بنحو معناه.
وثبت من أوجه كثيرة، عن الزهري، عن عروة، مطولا ومختصرًا:
فرواه مالك في الموطأ، ص: 373، عن هشام بن عروة، عن أبيه. ورواه البخاري 8: 132. وابن أبي داود في المصاحف، ص 100 -ولم يذكر لفظه- كلاهما من طريق مالك.
ورواه أحمد في المسند 6: 144، 227 (حلبي) ، من طريق إبراهيم بن سعد، عن الزهري. وكذلك رواه ابن أبي داود، ص: 100 -ولم يذكر لفظه- من طريق إبراهيم بن سعد.
ورواه مسلم مطولا 1: 361-362، من طريق سفيان بن عيينة، عن الزهري. وكذلك رواه البخاري 8: 472، من طريق سفيان. ولكنه اختصره جدًا.
ورواه مسلم وابن أبي داود - قبل ذلك وبعده: من أوجه كثيرة.
وذكره السيوطي 1: 159، وزاد نسبته إلى أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، وابن الأنباري في المصاحف، وابن أبي حاتم، والبيهقي في السنن.
وانظر الحديث التالي لهذا.
قوله"يهلون لمناة": أي يحجون. ومناة، بفتح الميم والنون الخفيفة: صنم كان في الجاهلية. وقال ابن الكلبي: كانت صخرة نصبها عمرو بن لحي لهذيل، وكانوا يعبدونها. والطاغية: صفة لها إسلامية. قاله الحافظ في الفتح.
"المشلل": بضم الميم وفتح الشين المعجمة ولامين، الأولى مفتوحة مثقلة، هي الثنية المشرفة على قديد، وقديد، بضم القاف ودالين مهملتين، مصغرًا: قرية جامعة بين مكة والمدينة، كثيرة المياه. عن الفتح.
(2) الحديث: 2351- هو تكرار للحديث السابق بمعناه، من وجه آخر صحيح، عن الزهري. وفيه زيادة قول الزهري أنه ذكر ذلك لأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، إلخ. وهذه الزيادة ذكرها البخاري، في روايته من طريق شعيب عن الزهري، كما قلنا آنفًا.
ورواية معمر عن الزهري - هذه: ذكر البخاري بعضها تعليقًا 8: 472، فقال: "قال معمر عن الزهري. . . ". وقال الحافظ: "وصله الطبري، عن الحسن بن يحيى، عن عبد الرزاق، مطولا". فهذه إشارة إلى الرواية التي هنا، وأشار إليها في الفتح 3: 399، وذكر أنه وصلها أحمد وغيره.
وقد رواها أيضًا ابن أبي داود في المصاحف، ص: 100، عن"خشيش بن أصرم، والحسن بن أبي الربيع، أن عبد الرزاق أخبرهم عن معمر. . . ". ولم يسق لفظ الحديث، إحالة على ما قبله. و"خشيش": بضم الخاء وفتح الشين وآخره شين، معجمات كلها. و"الحسن بن أبي الربيع": هو"الحسن بن يحيى" شيخ الطبري، كنية أبيه"أبو الربيع". وخلط المستشرق طابع كتاب المصاحف: فكتب"حشيش" بالحاء المهملة! وكتب"الحسن بن أبي الربيع بن عبد الرزاق"!!
و"أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام" المخزومي القرشي المدني: من كبار التابعين الأئمة، ومن سادات قريش. وهو أحد الفقهاء السبعة. مترجم في التهذيب، والكنى للبخاري، رقم: 51، وابن سعد 2/2/133، و 5: 153-154، وتذكرة الحفاظ 1: 59-60، وتاريخ الإسلام 4: 72-73.
وقول أبي بكر بن عبد الرحمن"فأسمع أن هذه الآية نزلت. . . " - إلخ: هو في رواية البخاري أيضًا 3: 401، وقال الحافظ: "كذا في معظم الروايات، بإثبات الهمزة وضم العين، بصيغة المضارعة للمتكلم. وضبطه الدمياطي في نسخته [يعني من صحيح البخاري] بالوصل وسكون العين. بصيغة الأمر، والأول أصوب، فقد وقع في رواية سفيان المذكورة: فأراها نزلت. وهو بضم الهمزة، أي أظنها".
وانظر كثيرًا من طرق هذا الحديث أيضًا، في السنن الكبرى للبيهقي 5: 96-97.(3/237)
2352- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانَ ناسٌ من أهل تهامة لا يَطوفون بين الصفا والمروة، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمرْوَة من شعائر الله". (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره قد جعل الطواف بين الصفا والمروة من شعائر الله، كما جعل الطواف بالبيت من شعائره.
فأما قوله:"فلا جناحَ عليه أن يطَّوَّف بهما"، فجائزٌ أن يكون قيل لكلا الفريقين اللذين تخوَّف بعضهم الطواف بهما من أجل الصنمين اللذين ذكرهما الشعبي، وبَعضُهم من أجل ما كان من كراهتهم الطواف بهما في الجاهلية، على ما رُوي عن عائشة.
__________
(1) الأثر: 2352- كان في المطبوعة: "حدثنا الحسن بن يحيى، قال أخبرنا معمر" بإسقاط"أخبرنا عبد الرزاق قال"، وهو إسناد دائر في التفسير، وهو مكرر رقم: 2349 بنصه، وأخشى أن يكون زيادة ناسخ سها.(3/239)
وأيُّ الأمرين كان من ذلك، فليس في قول الله تعالى ذكره:"فلا جُناح عليه أن يطَّوَّف بهما"، الآية، دلالةٌ على أنه عَنى به وَضعَ الحرَج عَمن طاف بهما، من أجل أن الطواف بهما كان غير جائزٍ بحظر الله ذلك، ثم جُعل الطواف بهما رُخصة، لإجماع الجميع على أن الله تعالى ذكره لم يحظُر ذلك في وقت، ثم رخص فيه بقوله:"فلا جناح عليه أن يطَّوَّف بهما".
* * *
وإنما الاختلافُ في ذلك بين أهل العلم على أوجُهٍ. فرأى بعضُهم أن تارك الطواف بينهما تاركٌ من مَناسك حجه ما لا يُجزيه منه غيرُ قَضَائه بعينه، كما لا يُجزى تارك الطواف -الذي هو طَواف الإفاضة- إلا قضَاؤه بعينه. وقالوا: هما طَوافانَ: أمرَ الله بأحدهما بالبيت، والآخرُ بينَ الصفا والمروة.
* * *
ورأى بعضهم أن تارك الطواف بهما يُجزيه من تَركه فِدية، ورأوا أن حُكم الطواف بهما حُكمُ رَمي بعض الجمرات، والوقوف بالمشعر، وطَواف الصَّدر وما أشبه ذلك، مما يُجزى تاركه من تَرْكه فِديةٌ، ولا يلزمه العَوْد لقضَائه بعينه.
* * *
ورأى آخرون أنّ الطواف بهما تطوع، إن فعله صاحبه كان مُحسنًا، وإن تَرَكه تاركٌ لم يلزمه بترْكه شيء. (1)
* * *
ذكر من قال: إن السعي بين الصفا والمروة واجبٌ ولا يجزي منه فدية، ومن تركه فعليه العَوْد. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "لم يلزمه بتركه شيء والله تعالى أعلم"، وهذه لا شك زيادة من ناسخ.
(2) في المطبوعة: "فعليه العودة"، والأجود ما أثبت، وهو أشبه بعبارة الطبري وأقرانه من فقهاء عصره. وسيأتي كذلك بعد مرات في عبارته الآتية، وكأن هذه من تصرف ناسخ أو طابع.(3/240)
2353- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قالت: لَعمري ما حَجّ من لم يَسع بين الصفا والمروة، لأن الله قال:"إن الصفا والمروة من شعائر الله".
2353م- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال مالك بن أنس: مَنْ نسي السعي بين الصفا والمروة حتى يستبعد من مكة، فليرجع فَليسْع، وإن كان قد أصاب النساء فعليه العمرَة والهدي. (1)
* * *
وكان الشافعي يقول: عَلى مَنْ تَرَك السعي بين الصفا والمروةَ حتى رجع إلى بلده، العود إلى مكة حتى يَطوف بينهما، لا يجزيه غير ذلك. (2)
2354- حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
ذكر من قال: يجزي منه دم، وليس عليه عودٌ لقضائه.
قال الثوري بما:-
2355- حدثني به علي بن سهل، عن زيد بن أبي الزرقاء، عنه، وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: إن عَاد تاركُ الطوافَ بينهما لقضائه فحسن، وإن لم يعُدْ فعليه دمٌ.
* * *
ذكر من قال: الطوافُ بينهما تطوّعٌ، ولا شيء على من تركه، ومنْ كان يقرأ: (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما)
2356- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا ابن جريج قال، قال عطاء: لو أن حاجًّا أفاضَ بعدما رمى جمرة العقبة، فطاف بالبيت ولم يَسع، فأصابها -يعني: امرأته- لم يكن عليه شيء، لا حجٌّ ولا عمرة، من أجل قول الله في مصحف ابن مسعود:"فمنْ حَج البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّفَ بهما". فعاودته بعد ذلك فقلت: إنه قد ترك سُنة النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ألا تسمعه يقول:"فمن تَطوَّع خَيرًا"، فأبى أن يجعل عليه شيئًا؟
2357- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك،
__________
(1) انظر لفظ مالك في الموطأ: 374-375.
(2) انظر لفظ الشافعي في الأم 2: 178.(3/241)
عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"إن الصفا والمروَة منْ شعائر الله" الآية"فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوَّف بهما".
2358- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم قال: سمعت أنسًا يقول: الطواف بينهما تطوع.
2359- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا عاصم الأحول قال، قال أنس بن مالك: هما تطُّوع.
2360- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد نحوه.
2361- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"إن الصفا والمروة من شعائر الله فمنْ حَجّ البيتَ أو اعتمر فلا جناح عليه أن يَطَّوفَ بهما" قال، فلم يُحرِّج من لم يَطُفْ بهما.
2362- حدثنا المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا أحمد، عن عيسى بن قيس، عن عطاء، عن عبد الله بن الزبير قال: هما تطوع. (1)
__________
(1) الخبر: 2362- عيسى بن قيس، الراوي عن عطاء: لم أستطع اليقين به. ففي ابن أبي حاتم 3/1/284 ترجمتان: "عيسى بن قيس"، روى عن سعيد بن المسيب، وروى عنه الليث. و"عيسى بن قيس السلمي"، روى عنه هشيم. ولم يذكر عنهما شيئا آخر. إلا أن الأول مجهول. فمن المحتمل أن يكون الراوي هنا أحدهما. فإن عطاء بن أبي رباح مات سنة 114، فالراوي عن سعيد بن المسيب -المتوفي سنة 73- محتمل جدًا أن يروي عن عطاء. والليث وهشيم متقاربا الطبقة، مات الليث سنة 175، وهشيم سنة 183. وأما"أحمد" الراوي هنا عن"عيسى بن قيس" - فلم أستطع معرفته.
ثم ترجح عندي أن"حجاجًا" - في هذا الإسناد: هو"حجاج بن الشاعر". وهو: حجاج بن يوسف بن حجاج الثقفي البغدادي، عرف بابن الشاعر، لأن أباه يوسف كان شاعرًا صحب أبا نواس، وحجاج هذا: ثقة، من شيوخ مسلم وأبي داود وغيرهما، قال ابن أبي حاتم: "كان من الحفاظ، ممن يحسن الحديث ويحفظه. مترجم في التهذيب، وابن أبي جاتم 1/2/168، وتاريخ بغداد 8: 240-241، وتذكرة الحفاظ 2: 117-118.
وأن شيخه"أحمد": هو أحمد بن عبد الله بن يونس، وهو ثقة متقن حافظ، من شيوخ البخاري ومسلم، سماه الإمام أحمد"شيخ الإسلام". وقد مضت الإشارة إليه: 2144.
فإن يكن الإسناد هكذا، على ما رجحنا، يكن"عيسى بن قيس" محرفًا، صوابه"عمر بن قيس"، وهو المكي المعروف بـ "سندل" - بفتح السين والدال المهملتين بينهما نون ساكنة. وهو ضعيف جدًا، منكر الحديث كما قال البخاري. وقال ابن عدي: "هو ضعيف بإجماع، لم يشك أحد فيه، وقد كذبه مالك". وهو مترجم في التهذيب. والصغير للبخاري، ص: 190، والضعفاء له، ص: 25، والنسائي ص: 24، وابن سعد 5: 358، وابن أبي حاتم 3/1/129-130.
وأنا أرجح أن يكون هذا الإسناد على هذا النحو، ولكني لا أستطيع الجزم بذلك، ولا تغيير اسم"عيسى بن قيس" - حتى أستبين بدليل آخر.(3/242)
2364- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم قال: قلت لأنس بن مالك: السعي بين الصفا والمروة تطوُّع؟ قال: تطوعٌ.
* * *
والصواب من القول في ذلك عندنا أنّ الطواف بهما فرض واجب، وأن على من تركه العوْد لقضائه، ناسيًا كان، أو عامدًا. لأنه لا يُجزيه غير ذلك، لتظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حج بالناس، فكان مما علمهم من مناسك حَجّهم الطوافُ بهما.
* * *
ذكر الرواية عنه بذلك:
2365- حدثني يوسف بن سلمان قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل قال، حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جابر قال: لما دنا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفا في حجه قال:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله"، ابدؤوا بما بدأ الله بذكره. فبدأ بالصفا فرَقِيَ عليه. (1) .
2366- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا محمود بن ميمون أبو الحسن، عن أبي بكر بن عياش، عن ابن عطاء، عن أبيه، عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله"، فأتى الصفا فبدأ بها، فقام عليها، ثم أتى المروة فقام عليها، وطاف وسَعى. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 2365- هو قطعة من حديث جابر - الطويل، في صفة حجة الوداع. وقد مضت قطعة منه، بهذا الإسناد: 2003. وأخرى من رواية يحيى القطان، عن جعفر الصادق: 1989.
(2) الحديث: 2366- محمود بن ميمون أبو الحسن: لا أدري من هو، ولا ما شأنه. لم أجد له ترجمة ولا ذكرًا.
ابن عطاء، عن أبيه: هو يعقوب بن عطاء بن أبي رباح، وهو ثقة، بينا ذلك في المسند: 1809. مترجم في التهذيب والكبير 4/2/298، وابن أبي حاتم 4/2/211.
وهذا الحديث لم أجده في شيء من المراجع. وإن كان لابن عباس أحاديث أخر في شأن الصفا والمروة والسعي بينهما. من ذلك الحديث الماضي: 2342. وحديث في المستدرك 2: 270-271، وصححه الحاكم والذهبي.(3/243)
فإذ كان صحيحًا بإجماع الجميع من الأمة - أنّ الطواف بهما على تعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّته في مناسكهم، وعمله في حَجَّه وعُمرته = وكان بيانه صلى الله عليه وسلم لأمَّته جُمَلَ ما نَصّ الله في كتابه، وفَرَضه في تنزيله، وأمرَ به مما لم يُدْرَك علمه إلا ببيانه، لازمًا العمل به أمته، كما قد بينا في كتابنا"كتاب البيان عن أصول الأحكام" - إذا اختلفت الأمة في وُجُوبه، (1) ثم كان مُختلفًا في الطواف بينهما: هل هو واحبٌ أو غير واجب = كان بينًا وجُوب فرضه على مَنْ حجَّ أو اعتمر، (2) لما وصفنا.
وكذلك وُجوب العوْد لقضاء الطواف بين الصفا والمروة - لما كان مختلَفًا فيما عَلى مَنْ تركه، مع إجماع جَميعهم على أنّ ذلك مما فَعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلَّمه أمته في حجهم وعمرتهم إذ علَّمهم مناسك حجهم - كما طاف بالبيت وعلَّمه أمته في حجهم وعمرتهم، إذ علَّمهم مناسك حجهم وعُمْرتهم - وأجمع الجميع على أن الطواف بالبيت لا تُجْزي منه فديةٌ ولا بَدلٌ، ولا يجزي تاركه إلا العودُ لقضائه = كان نظيرًا له الطوافُ بالصفا والمروة، ولا تجزي منه فدية وَلا جزاءٌ، ولا يجزي تاركَه إلا العودُ لقضائه، إذ كانا كلاهما طَوافين: أحدهما بالبيت، والآخرُ بالصفا والمروة.
__________
(1) كان في المطبوعة: "لما قد بينا"، وهو خطأ يختل به الكلام. وقوله: "وكان بيانه. . . " إلى قوله: "إذا اختلفت الأمة في وجوبه" جملة فاصلة معطوفة على التي قبلها وسياقها وسياق معناها: وكان بيانه لأمته جمل ما نص الله في كتابه. . -مما لا يدرك علمه إلا ببيانه- لازمًا العمل به أمته. . . إذا اختلفت الأمة في وجوبه.
(2) وهذه الجملة من تمام قوله ومن سياقها: "وإذا كان صحيحًا بإجماع الأمة. . . كان بينًا وجوب فرضه على من حج أو اعتمر".(3/244)
ومن فَرَّق بين حكمهما عُكس عليه القولُ فيه، ثم سئل البرهان على التفرقة بينهما.
فإن اعتل بقراءة من قرأ:"فلا جُناح عليه أنْ لا يَطَّوف بهما".
قيل: ذلك خلافُ ما في مصاحف المسلمين، غيرُ جائز لأحد أن يزيد في مصاحفهم ما ليس فيها. وسواء قَرَأ ذلك كذلك قارئ، أو قرأ قارئ: (ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [سورة الحج: 29] ،"فَلا جناح عليهم أنْ لا يَطَّوَّفوا به". (1) فإن جازت إحدى الزيادتين اللتين ليستا في المصحف، (2) كانت الأخرى نظيرَتها، وإلا كان مُجيزُ إحداهما - إذا منع الأخرى - مُتحكمًا، والتحكم لا يعجِزُ عنه أحدٌ.
وقد رُوي إنكار هذه القراءة، وأن يكون التنزيل بها، عن عائشة.
2367- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مالك بن أنس، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: قلت لعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وأنا يومئذ حديث السِّن: أرأيت قول الله عز وجل:"إنّ الصفا والمروةَ من شَعائر الله فَمنْ حَجّ البيتَ أو اعتمر فَلا جُناح عليه أن يَطَّوَّف بهما"، فما نرَى على أحد شَيئًا أنْ لا يَطَّوَّف بهما! فقالت عائشة: كلا! لو كانت كما تقول، كانت:"فلا جُناح عليه أن لا يَطَّوَّف بهما"، إنما أنزلت هذه الآية في الأنصار، كانوا يُهلّون لمناة -وكانت مَناة حَذوَ قَديد-، وكانوا يتحرَّجون أن يطوفوا بين الصفا والمروة. فلما جاء الإسلام، سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فأنزل الله:"إنّ الصفا والمرْوةَ من شَعائر الله فمن حَجّ
__________
(1) كان في المطبوعة: "فلا جناح عليه"، وهو خطأ بين. ويعني: أن يجعل القارئ قوله: "فلا جناح عليهم أن لا يطوفوا بهما" من تمام آية سورة الحج السالفة، فيزيد في القرآن ما ليس فيه.
(2) في المطبوعة: "فإن جاءت إحدى الزيادتين" تصحيف، والصواب ما أثبت.(3/245)
البيت أو اعتمر فلا جُناحَ عليه أن يطوف بهما".
* * *
قال أبو جعفر: وقد يحتمل قراءة من قرأ:"فلا جُناحَ عَليه أنْ لا يَطَّوَّف بهما"، أن تكون"لا" التي مع"أن"، صلةً في الكلام، (1) إذْ كان قد تقدَّمها جَحْدٌ في الكلام قبلها، وهو قوله: (فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ) ، فيكون نظير قول الله تعالى ذكره: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) [سورة الأعراف: 12] ، بمعنى ما منعك أن تسجدَ، وكما قال الشاعر: (2)
مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا ... والطَّيِّبَانِ أبُو بَكْرٍ وَلا عُمَرُ (3)
ولو كان رسمُ المُصحف كذلك، لم يكن فيه لمحتجّ حجة، مع احتمال الكلام ما وصفنا. لما بيَّنا أن ذلك مما عَلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمَّته في مناسكهم، على ما ذكرنا، ولدلالة القياس على صحته، فكيف وهو خلافُ رُسوم مصاحف المسلمين، ومما لو قَرَأه اليوم قارئ كان مستحقًّا العقوبةَ لزيادته في كتاب الله عز وجل ما ليس منه؟
* * *
__________
(1) قوله: "صلة"، أي زيادة ملغاة، وانظر ما سلف 1: 190، 405 وفهرس المصطلحات، وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 95، فقد ذكر هذا الوجه.
(2) هو جرير.
(3) سلف تخريجه في 1: 191-192.(3/246)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158) }
قال أبو جعفر: اختلف القرَأء في قراءة ذلك، فقرأته عامة قُراء أهل المدينة والبصرة:"ومن تَطوَّع خَيرًا" على لفظ المضيّ ب"التاء" وفتح"العين". وقرأته عامة قراء الكوفيين:"وَمَنْ يَطَّوَّعْ خَيرًا" ب"الياء" وجَزم"العين" وتشديد"الطاء"، بمعنى: ومن يَتطوع. وذُكر أنها في قراءة عبد الله:"ومَنْ يَتطوَّعْ"، فقرأ ذلك قُرّاء أهل الكوفة، على ما وصفنا، اعتبارًا بالذي ذكرنا من قراءَة عبد الله -سوى عَاصم، فإنه وافق المدنيين- فشددوا"الطاءَ" طلبًا لإدغام"التاء" في"الطاء". وكلتا القراءتين معروفة صحيحة، متفقٌ معنياهما غيرُ مختلفين - لأن الماضي من الفعل مع حروف الجزاء بمعنى المستقبل. فبأيّ القراءتين قرأ ذلك قارئٌ فمصيبٌ.
* * *
(1) [والصواب عندنا في ذلك، أن] معنى ذلك: ومن تطوع بالحج والعمرة بعد قَضَاء حجته الواجبة عليه، فإن الله شاكرٌ له على تطوعه له بما تطوع به من ذلك ابتغاءَ وجهه، فمجازيه به، عليمٌ بما قصد وأراد بتطُّوعه بما تطوع به.
وَإنما قُلنا إنّ الصوابَ في معنى قوله:"فمن تطوَّع خيرًا" هو ما وصفنا، دون قول من زَعم أنه معنيٌّ به: فمن تَطوع بالسعي والطواف بين الصفا والمروة، لأن الساعي بينهما لا يكون متطوعًا بالسعي بينهما، إلا في حَج تطوع أو عُمرة تطوع، لما وصفنا قبل. وإذ كان ذلك كذلك كان معلومًا أنه إنما عنى بالتطوع بذلك، التطُّوعَ بما يعملُ ذلك فيه من حَجّ أو عمرة.
* * *
__________
(1) زدت ما بين القوسين، استظهارًا من قوله بعد: "وإنما قلنا إن الصواب في معنى قوله. . . " والظاهر أنها مما سقط من ناسخ.(3/247)
وأما الذين زعموا أنّ الطواف بهما تطوُّع لا واجب، فإنّ الصواب أن يكون تأويل ذلك على قولهم: فمن تطوَّع بالطواف بهما، فإنّ الله شاكر =لأن للحاج والمعتمِر على قولهم الطوافَ بهما إن شاء، وتركَ الطواف. فيكون معنى الكلام على تأويلهم: فمن تطوع بالطواف بالصفا والمروة، فإنّ اللهَ شَاكرٌ تطوُّعَه ذلك= عليمٌ بما أراد ونَوَى الطائف بهما كذلك، كما:-
2368- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ومن تطوَّع خيرًا فإن الله شاكرٌ عَليمٌ" قال، من تطوع خيرًا فهو خيرٌ له، تطوَّع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت من السنن.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومن تطوع خَيرًا فاعتمر.
* ذكر من قال ذلك:
2369- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومن تطوَّع خيرًا فإن الله شاكر عليم"، من تطوع خيرًا فاعتمر فإن الله شاكر عليمٌ. قال: فالحج فريضةٌ، والعمرةُ تطوع، ليست العمرة واجبةً على أحد من الناس.
* * *(3/248)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله: (1) "إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا منَ البينات"، علماءَ اليهود وأحبارَها، وعلماءَ النصارى، لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم، وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
* * *
و"البينات" التي أنزلها الله: (2) ما بيّن من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وصفته، في الكتابين اللذين أخبر الله تعالى ذكره أنّ أهلهما يجدون صفته فيهما.
* * *
ويعني تعالى ذكره ب"الهدى" ما أوضح لَهم من أمره في الكتب التي أنزلها على أنبيائهم، فقال تعالى ذكره: إنّ الذين يكتمون الناسَ الذي أنزلنا في كتبهم من البيان من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته، وصحة الملة التي أرسلته بها وحقِّيَّتها، فلا يخبرونهم به، ولا يعلنون من تبييني ذلك للناس وإيضاحِيه لهم، (3) في الكتاب الذي أنزلته إلى أنبيائهم،"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون إلا الذين تابوا" الآية. كما:-
2370- حدثنا أبو كريب قال، وحدثنا يونس بن بكير -وحدثنا ابن
__________
(1) في المطبوعة: يقول: "إن الذين يكتمون. . . "، وهو خطأ ناسخ، صوابه ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "من البينات"، كأنه متصل بالكلام قبله، وهو لا يستقيم، وكأن الصواب ما أثبت.
(3) كان في المطبوعة"ولا يعلمون من تبييني ذلك للناس وإيضاحي لهم"، وهي عبارة لا تستقيم وسياق معنى الآية يقتضي ما أثبت، من جعل"يعلمون""يعلنونه"، وزيادة"بعد"، وجعل"إيضاحي""إيضاحيه".(3/249)
حميد قال، حدثنا سلمة- قالا جميعًا، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس قال: سألَ مُعاذ بن جبل أخو بنى سَلِمة، وسعد بن مُعاذ أخو بني عبد الأشهل، وخارجة بن زيد أخو بني الحارث بن الخزرج، نفرًا من أحبار يَهود - قال أبو كريب: عما في التوراة، وقال ابن حميد: عن بَعض مَا في التوراة - فكتموهم إياه، وأبوْا أن يُخبروهم عنه، فأنزل الله تعالى ذكره فيهم:"إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم الله وَيَلعنهم اللاعنون". (1)
2371- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنزلنا من البينات والهدى" قال، هم أهل الكتاب.
2372- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2373- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه عن الربيع في قوله:"إنّ الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى" قال، كتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم، فكتموه حسدًا وبغيًا.
__________
(1) الأثر رقم: 2370- في سيرة ابن هشام 2: 200 كما في رواية ابن حميد.(3/250)
2374- حدثنا بشر بن معاذ: قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب"، أولئكَ أهلُ الكتاب، كتموا الإسلام وهو دين الله، وكتموا محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهم يَجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.
2374م- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ الذين يَكتمونَ ما أنزلنا من البينات والهدى من بَعد مَا بيَّناه للناس في الكتاب"، زعموا أن رجلا من اليهود كان له صديقٌ من الأنصار يُقال له ثَعلبة بن غَنَمة، (1) قال له: هل تجدون محمدًا عندكم؟ قال: لا! = قال: مُحمد:"البينات". (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ}
[قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"من بعد ما بيناه للناس"] ، (3) بعضَ الناس، لأن العلم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ومَبعثه لم يكن إلا عند أهل الكتاب دون غيرهم، وإياهم عَنى تعالى ذكره بقوله:"للناس في الكتاب"، ويعني بذلك: التوراة والإنجيل.
* * *
وهذه الآية وإن كانت نزلت في خاصٍّ من الناس، فإنها معنيٌّ بها كل كاتمٍ علمًا فرضَ الله تعالى بيانه للناس.
وذلك نظير الخبر الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
__________
(1) في سيرة ابن هشام، وغيرها بالغين المعجمة غير مضبوط باللفظ، ولكن ابن حجر ضبطه في الإصابة، وقال: "بفتح المهملة والنون"، ولم يذكر شكًا ولا اختلافًا في ضبطه بالغين المعجمة.
(2) قوله: "قال: محمد البينات" من تفسير السدي، ليس من الخطاب بين ثعلبة بن غنمة واليهودي. ويعني أن البينات التي يكتمونها هي محمد صلى الله عليه وسلم، أي صفته ونعته في كتابهم.
(3) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وقد استظهرتها من نهج أبي جعفر في جميع تفسيره. وهذا سقط من الناسخ بلا ريب.(3/251)
2375- من سُئل عَن علم يَعلمهُ فكتمه، ألجِمَ يوم القيامة بلجام من نار." (1)
* * *
وكان أبو هريرة يقول ما:-
2376- حدثنا به نصر بن علي الجهضمي قال، حدثنا حاتم بن وردان قال، حدثنا أيوب السختياني، عن أبي هريرة قال، لولا آيةٌ من كتاب الله ما حدَّثتكم! وتلا"إنّ الذين يكتمونَ مَا أنزلنا من البينات والهدى من بَعد ما بيَّناه للناس في الكتاب أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون"، (2)
2377- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وَهْب الله بن راشد، عن يونس قال، قال ابن شهاب، قال ابن المسيب: قال أبو هريرة: لولا آيتان أنزلهما الله في كتابه ما حدَّثت شيئًا: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ) إلى آخر الآية، والآية الأخرى: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) إلى آخر الآية [سورة آل عمران: 178] . (3)
* * *
__________
(1) الحديث: 2375- هذا حديث صحيح. ذكره الطبري هنا معلقًا دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: 7561، من حديث أبي هريرة. وخرجناه في شرح المسند، وفي صحيح ابن حبان بتحقيقنا، رقم: 95.
(2) الحديث: 2376- نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي: ثقة، من شيوخ أصحاب الكتب الستة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/106، وابن أبي حاتم 4/1/471.
حاتم بن وردان السعدي: ثقة، روى له الشيخان. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/72، وابن أبي حاتم 1/2/260.
أيوب السختياني: مضى في: 2039. ولكن روايته هنا عن أبي هريرة منقطعة، فإنه ولد سنة 66، وأبو هريرة مات سنة 59 أو نحوها. ومعنى الحديث صحيح ثابت عن أبي هريرة، بروايات أخر متصلة، كما سنذكر في الحديث بعده.
(3) الحديث: 2377- محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: الإمام الحافظ المصري، فقيه عصره، قال ابن خزيمة: "ما رأيت في فقهاء الإسلام أعرف بأقاويل الصحابة والتابعين - منه". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/2/300-301، وتذكرة الحفاظ 2: 115-116.
أبو زرعة وهب الله بن راشد المصري، مؤذن الفسطاط: ثقة، قال أبو حاتم: "محله الصدق". ترجمه ابن أبي حاتم 4/2/27، وقال: "روى عنه عبد الرحمن، ومحمد، وسعد، بنو عبد الله بن عبد الحكم". وترجم أيضًا في لسان الميزان 6: 235، ونقل عن ابن يونس، أنه مات في ربيع الأول سنة 211"وكانت القضاة تقبله"، وروى عنه عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم. في فتوح مصر مرارًا، منها في ص: 182 س 3-4: "حدثنا وهب الله بن راشد، أخبرنا يونس بن يزيد، عن ابن شهاب. . . ". وهذا الإسناد ثابت في تاريخ ولاة مصر للكندي، ص 33، عن علي بن قديد، عن عبد الرحمن: "حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد". وذكره الدولابي في الكنى والأسماء 1: 182، وروى: "حدثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، والربيع بن سليمان الجيزى، قالا: حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد، إلخ". ورواية الربيع الجيزى عنه، ثابتة في كتاب الولاة، ص 313، أيضًا.
وهذا الاسم"وهب الله": من نادر الأسماء، لم أره -فيما رأيت- إلا لهذا الشيخ، ولم يذكره أصحاب المشتبه، بل لم يذكره الزبيدي في شرح القاموس، على سعة اطلاعه. واشتبه أمره على ناسخي الطبري أو طابعيه، فثبت في المطبوعة هكذا: "ثنا أبو زرعة وعبد الله بن راشد"؛ فحرفوا"وهب الله" إلى"وعبد الله" - فجعلوه راويين!
يونس: هو ابن يزيد الأيلي، وهو ثقة، عرف بالراوية عن الزهري وملازمته. قال أحمد بن صالح: "نحن لا نقدم في الزهري أحدًا على يونس"، وقال: "كان الزهري إذا قدم أيلة نزل على يونس، وإذا سار إلى المدينة زامله يونس". مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/406، وابن أبي حاتم 4/2/247-249، وابن سعد 7/2/206.
وهذا الحديث جزء من حديث مطول، رواه مسلم 2: 261-262، من طريق ابن وهب، عن يونس، عن ابن شهاب -فذكر حديثًا عن عائشة- ثم: "قال ابن شهاب: وقال ابن المسيب: إن أبا هريرة قال. . . ".
ورواه عبد الرزاق في تفسيره، ص 14-15، عن معمر، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، بنحوه مطولا. ورواه أحمد في المسند: 7691، عن عبد الرزاق.
ورواه البخاري 5: 21 (فتح) ، بنحوه، من رواية إبراهيم بن سعد، عن الزهري، عن الأعرج. ورواه البخاري أيضًا 1: 190-191 (فتح) من رواية مالك، عن الزهري، عن الأعرج وكذلك رواه ابن سعد 2/2/118، وأحمد في المسند: 7274- كلاهما من طريق مالك.
وروى الحاكم في المستدرك 2: 271، نحوه مختصرًا، من طريق أبي أسامة، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.(3/252)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ (159) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك يَلعنهم الله"، هؤلاء الذين يكتمون ما أنزلهُ الله من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وصفَته وأمر دينه، أنه(3/253)
الحق -من بعد ما بيَّنه الله لهم في كتبهم- يلعنهم بكتمانهم ذلك، وتركهم تَبيينه للناس.
* * *
و"اللعنة""الفَعْلة"، من"لعنه الله" بمعنى أقصاه وأبعده وأسْحَقه. وأصل"اللعن": الطرْد، (1) كما قال الشماخ بن ضرار، وذكر ماءً ورَد عليه:
ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنَفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ الَّلعِينِ (2)
يعني: مقامَ الذئب الطريد. و"اللعين" من نعت"الذئب"، وإنما أراد: مقام الذئب الطريد واللعين كالرَّجل. (3)
* * *
فمعنى الآية إذًا: أولئك يُبعدهم الله منه ومن رحمته، ويسألُ ربَّهم اللاعنون أنْ يلعنهم، لأن لعنةَ بني آدم وسائر خَلق الله مَا لَعنوا أن يقولوا:"اللهم العنه" إذْ كان معنى"اللعن" هو ما وصفنا من الإقصاء والإبعاد.
وإنما قلنا إن لعنة اللاعنين هي ما وصفنا: من مسألتهم رَبَّهم أن يَلعَنهم، وقولهم:"لعنه الله" أو"عليه لعنة الله"، لأن:-
2378- محمد بن خالد بن خِداش ويعقوب بن إبراهيم حدثاني قالا حدثنا إسماعيل بن علية، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون"، البهائم، قال: إذا أسنَتَتِ السَّنة، (4) قالت البهائم: هذا من أجل عُصَاة بني آدم، لعنَ الله عُصَاة بني آدم!
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيمن عنى الله تعالى ذكره ب"اللاعنين". فقال بعضهم: عنى بذلك دوابَّ الأرض وهَوامَّها.
__________
(1) انظر ما سلف 2: 328.
(2) سلف تخريجه وشرحه في 2: 328. وفي التعليق هناك خطأ صوابه"مجاز القرآن: 46".
(3) كان في المطبوعة: "الطريد واللعين"، والصواب طرح الواو.
(4) أسنتت الأرض والسنة: أجدبت، وعام مسنت مجدب. والسنة: القحط والجدب. وكان في المطبوعة: "أسنت"، والصواب ما أثبت. وفي الدر المنثور 1: 162: "إذا اشتدت السنة".(3/254)
* ذكر من قال ذلك:
2379- حدثنا محمد بن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد قال: تلعنهم دوابُّ الأرض، وما شاءَ الله من الخنافس والعقارب تقول: نُمْنَعَ القطرَ بذنوبهم.
2380- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد:"أولئك يَلعنهم الله ويَلعنهم اللاعنون" قال، دواب الأرض، العقاربُ والخنافس، يقولون: مُنِعنا القطرَ بخطايا بني آدم.
2381- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو، عن منصور، عن مجاهد:"ويلعنهم اللاعنون" قال، تلعنهم الهوامّ ودواب الأرض، تقول: أمسك القطرُ عنا بخطايا بني آدم.
2382- حدثنا مُشرف بن أبان الحطاب البغدادي قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن عكرمة في قوله:"أولئك يَلعنهم اللهُ ويَلعنهم اللاعنون" قال، يلعنهم كل شيء حتى الخنافس والعقاربُ، يقولون: مُنعنا القطرَ بذنوب بني آدم. (1)
2383- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ويلعنهم اللاعنون" قال، اللاعنون: البهائم.
2383م- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، البهائمُ، تلعن عُصاةَ بَني آدم حين أمسك الله عنهم بذنوب بني آدم المطر، فتخرج البهائم فتلعنهم.
2384- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرني مسلم بن خالد، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أولئك يَلعنهم الله
__________
(1) الخبر: 2382- مشرف بن أبان الحطاب البغدادي: ثبت هنا على الصواب، كما ظهر في: 1951. وقد مضى ذلك مغلوطًا"بشر بن أبان": 1383.(3/255)
ويَلعنهم اللاعنون"، البهائم: الإبل والبقرُ والغنم، فتلعن عُصاةَ بني آدم إذا أجدبت الأرض.
* * *
فإن قال لنا قائل: ومَا وَجْهُ الذين وجَّهوا تأويلَ قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، إلى أن اللاعنين هم الخنافسُ والعقارب ونحو ذلك من هَوامِّ الأرض، وقد علمتَ أنّها إذا جَمعتْ مَا كان من نَوع البهائم وغير بني آدم، (1) فإنما تجمعه بغير"الياء والنون" وغير"الواو والنون"، وإنما تجمعه ب"التاء"، وما خالفَ ما ذكرنا، فتقول:"اللاعنات" ونحو ذلك؟
قيل: الأمر وإن كان كذلك، فإنّ من شأن العرَب إذا وصفت شيئًا من البهائم أو غيرها - مما حُكم جَمعه أن يكون ب"التاء" وبغير صورة جمع ذُكْرَانِ بني آدم - بما هُو منْ صفة الآدميين، أن يجمعوه جمع ذكورهم، كما قال تعالى ذكره: (وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا) [سورة فصلت: 21] ، فأخرج خطابهم على مثال خطاب بني آدم، إذ كلَّمتهم وكلَّموها، وكما قال: (يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ) [سورة النمل: 18] ، وكما قال: (وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) [سورة يوسف: 4] .
* * *
وقال آخرون: عنى الله تعالى ذكره بقوله:"ويَلعنهم اللاعنون"، الملائكة والمؤمنين.
* ذكر من قال ذلك:
2385- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويَلعنهم اللاعنون"، قال، يَقول: اللاعنون من ملائكة الله ومن المؤمنين. (2)
__________
(1) الضمير في قوله: "أنها إذا جمعت"، للعرب، وإن لم يجر لها ذكر في الكلام.
(2) في المطبوعة: "يزيد بن زريع عن قتادة" بإسقاط"قال حدثنا سعيد"، والصواب ما أثبته، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه رقم: 2374.(3/256)
2386- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ويلعنهم اللاعنون"، الملائكة.
2387- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال:"اللاعنون"، من ملائكة الله والمؤمنين.
* * *
وقال آخرون: يعني ب"اللاعنين"، كل ما عدا بني آدم والجنّ.
* ذكر من قال ذلك:
2388- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويلعنهم اللاعنون" قال، قال البراء بن عازب: إنّ الكافر إذا وُضع في قبره أتته دَابة كأن عينيها قِدْران من نُحاس، معها عمود من حديد، فتضربه ضربة بين كتفيه، فيصيح، فلا يسمع أحد صوته إلا لعنه، ولا يبقى شَيء إلا سمع صوته، إلا الثقلين الجن والإنس.
2389- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون" قال، الكافر إذا وضع في حفرته، ضُرب ضربة بمطرق (1) فيصيح صيحةً، يسمع صَوْته كل شيء إلا الثقلين الجن والإنس، فلا يسمع صيحته شَيء إلا لعنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصحة عندنا قول من قال:"اللاعنون"، الملائكةُ والمؤمنون. لأن الله تعالى ذكره قد وصف الكفار بأن اللعنة التي تحلّ بهم إنما هي من الله والملائكة والناس أجمعين، فقال تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ، (2) فكذلك
__________
(1) المطرق والمطرقة: وهي أداة الحداد التي يضرب بها الحديد.
(2) هي الآية رقم: 161، تأتي بعد قليل.(3/257)
اللعنة التي أخبر الله تعالى ذكره أنها حَالَّة بالفريق الآخر: الذين يكتمونَ ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد ما بينه للناس، (1) هي لعنة الله، ولعنة الذين أخبر أن لعنتهم حالّة بالذين كفروا وماتوا وهم كفار، (2) وهم"اللاعنون"، لأن الفريقين جميعًا أهلُ كفر.
* * *
وأما قول من قال إن"اللاعنين" هم الخنافس والعقارب وما أشبه ذلك من دبيب الأرض وهَوامِّها، (3) فإنه قول لا تدرك حَقيقته إلا بخبر عن الله أن ذلك من فعلها تَقوم به الحجة، ولا خبرَ بذلك عن نبي الله صلى الله عليه وسلم، فيجوز أن يقال إنّ ذلك كذلك.
وإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول فيما قالوه أن يقال: إن الدليل من ظاهر كتاب الله موجودٌ بخلاف [قول] أهل التأويل، (4) وهو ما وصفنا. فإنْ كان جائزًا أن تكون البهائم وسائرُ خلق الله، تَلعن الذين يَكتمون ما أنزل الله في كتابه من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته ونبوّته، بعد علمهم به، وتلعن معهم جميع الظَّلمة - فغير جائز قطعُ الشهادة في أن الله عنى ب"اللاعنين" البهائمَ والهوامَّ ودَبيب الأرض، إلا بخبر للعذر قاطع. ولا خبرَ بذلك، وظاهر كتابا لله الذي ذكرناه دالٌّ على خلافه. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "من بعد ما بيناه للناس"، وهو سهو ناسخ.
(2) في المطبوعة: "هي لعنة الله التي أخبر أن لعنتهم حالة. . . "، والصواب ما أثبت.
(3) كل ماش على وجه الأرض يقال له: دابة ودبيب.
(4) ما بين القوسين زيادة، أخشى أن تكون سقطت من ناسخ.
(5) في المطبوعة: "وكتاب الله الذي ذكرناه"، وهو كلام لا يقال. والصواب ما أثبت. والذي ذكره آنفًا: "إن الدليل من ظاهر كتاب الله. . . ".
هذا، ورد قول هؤلاء القائلين بما قالوه، مبين لك عن نهج الطبري وتفسيره، وكاشف لك عن طريقته في رد الأخبار التي رواها عن التابعين، في كل ما يحتاج إلى خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاطع بالبيان عما ذكروه. والطبري قد يذكر مثل هذه الأخبار، ثم لا يذكر حجته في ردها، لأنه كره إعادة القول وتريده فيما جعله أصلا في التفسير، كما بين ذلك في"رسالة التفسير"، ثم في تفسيره بعد، ورد أشباهه في مواضع متفرقة منه. أما إذا كان في شيء من ذلك خبر قاطع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه لا يدع ذكره، فإذا لم يذكر -فيما أشبه ذلك- خبرًا عن رسول الله، فاعلم أنه يدع لقارئ كتابه علم الوجه الذي يرد به هذا القول.(3/258)
إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله واللاعنين يَلعنون الكاتمين الناس ما علموا من أمر نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وصفته ونعته في الكتاب الذي أنزله الله وبَيَّنه للناس، إلا من أناب من كتمانه ذلك منهم؛ ورَاجع التوبة بالإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم، والإقرار به وبنبوّته، وتصديقه فيما جاء به من عند الله، وبيان ما أنزل الله في كتبه التي أنزل إلى أنبيائه، من الأمر باتباعه؛ وأصلح حالَ نفسه بالتقرب إلى الله من صَالح الأعمال بما يُرضيه عنه؛ وبيَّن الذي عَلم من وَحي الله الذي أنزله إلى أنبيائه وعهد إليهم في كتبه فلم يكتمه، وأظهرَه فلم يُخفِه ="فأولئك"، يعني: هؤلاء الذين فَعلوا هذا الذي وصفت منهم، هم الذين أتوب عليهم، فأجعلهم من أهل الإياب إلى طاعتي، والإنابة إلى مَرضَاتي.
ثم قال تعالى ذكره:"وَأنا التواب الرحيم"، يقول: وأنا الذي أرجع بقلوب عبيدي المنصرفة عنّى إليَّ، والرادُّها بعد إدبارها عَن طاعتي إلى طلب محبتي، والرحيم بالمقبلين بعد إقبالهم إليَّ، أتغمدهم مني بعفو، وأصفح عن عظيم ما كانوا اجترموا فيما بيني وبينهم، بفضل رحمتي لهم.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يُتاب على من تاب؟ وما وَجه قوله:"إلا الذينَ تابوا فأولئك أتوب عليهم"؟ وهل يكون تائبٌ إلا وهو مَتُوب عليه، أو متوب عليه إلا وهو تائب؟
قيل: ذلك مما لا يكون أحدُهما إلا والآخر معه، فسواء قيل: إلا الذين تِيبَ عليهم فتابوا - أو قيل: إلا الذين تابوا فإني أتوب عليهم. وقد بيَّنا وَجه ذلك(3/259)
فيما جاء من الكلام هذا المجيء، في نظيره فيما مضى من كتابنا هذا، فكرهنا إعادته في هذا الموضع. (1)
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2390- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"إلا الذين تابوا وأصلحوا وبَيَّنوا"، يقول: أصلحوا فيما بينهم وبين الله، وبيَّنوا الذي جاءهم من الله، فلم يكتموه ولم يجحدوا به: أولئك أتوب عليهم وأنا التواب الرحيم.
2391- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"إلا الذين تَابوا وأصلحوا وبَينوا" قال، بيّنوا ما في كتاب الله للمؤمنين، وما سألوهم عنه من أمر النبي صلى الله عليه وسلم. وهذا كله في يهود.
* * *
قال أبو جعفر: وقد زعم بعضهم أن معنى قوله:"وبيَّنوا"، إنما هو: وبينوا التوبة بإخلاص العمل. ودليل ظاهر الكتاب والتنزيل بخلافه. لأن القوم إنما عوتبوا قبل هذه الآية، (2) على كتمانهم ما أنزلَ الله تعالى ذكره وبينه في كتابه، في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، ثم استثنى منهم تعالى ذكره الذين يبينون أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ودينه، فيتوبون مما كانوا عليه من الجحود والكتمان، فأخرجهم من عِداد مَنْ يَلعنه الله ويَلعنه اللاعنون (3) = ولم يكن العتاب على تركهم تبيين التوبة بإخلاص العمل.
والذين استثنى اللهُ من الذين يكتمون ما أنزل الله من البينات والهدى من بعد
__________
(1) انظر ما سلف 2: 549.
(2) في المطبوعة: "في مثل هذه الآية"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "فأخرجهم من عذاب من يلعنه الله"، وهو تصحيف، صوابه ما أثبت.(3/260)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161)
ما بيَّنه للناس في الكتاب، (1) عبدُ الله بن سلام وذَووه من أهل الكتاب، (2) الذين أسلموا فحسن إسلامهم، واتبعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ الذين كفروا"، إن الذين جَحدوا نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وكذبوا به = من اليهود والنصارى وسائر أهل الملل، والمشركين من عَبدة الأوثان ="وماتوا وهم كفار"، يعني: وماتوا وهم على جُحودهم ذلك وتكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم،"أولئك عَليهم لَعنةُ الله والملائكة"، يعني: فأولئك الذين كفروا وماتوا وهم كفار عليهم لعنة الله، يقول: أبعدهم الله وأسحقهم من رحمته،"والملائكة"، يعني ولَعنهم الملائكةُ والناس أجمعون. ولعنة الملائكة والناس إياهم قولهم:"عليهم لعنة الله".
* * *
وقد بينا معنى"اللعنة" فيما مضى قبل بما أغنى عن إعادته. (3)
* * *
فإن قال قائل: وكيف تَكونُ على الذي يموت كافرًا بمحمد صلى الله عليه وسلم [لعنةُ الناس أجمعين] من أصناف الأمم، (4) وأكثرهم ممن لا يؤمن به ويصدقه؟
__________
(1) في المطبوعة: "من بعد ما بيناه للناس"، وهو خطأ وسهو.
(2) قوله: "وذووه"، أي أصحابه وأهل ملته، بإضافة"ذو" إلى الضمير، وللنحاة فيه قول كثير، وزعموا أن ذلك يكون في ضرورة الشعر، وليس كذلك، بل هو آت في النثر قديمًا، بمثل ما استعمله الطبري.
(3) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 254، والتعليق: 1، ومراجعه.
(4) الزيادة التي بين القوسين لا بد منها، وإلا اختل الكلام والسؤال، ولم يكن لهما معنى محدود مفهوم، واستظهرت الزيادة من جواب هذا السؤال.(3/261)
قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه. وقد اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم: عنى الله بقوله:"والناس أجمعين"، أهلَ الإيمان به وبرسوله خاصة، دون سائر البشر.
* ذكر من قال ذلك:
2392- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والناس أجمعين"، يعني: ب"الناس أجمعين"، المؤمنين.
2393- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"والناس أجمعين"، يعني بـ "الناس أجمعين"، المؤمنين.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك يومَ القيامة، يُوقَفُ على رءوس الأشهاد الكافرُ فيلعنه الناس كلهم.
* ذكر من قال ذلك:
2394- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية: أن الكافر يُوقَف يوم القيامة فيلعنه الله، ثم تلعنه الملائكة، ثم يلعنه الناس أجمعون.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك قول القائل كائنًا من كان:"لَعنَ الله الظالم"، فيلحق ذلك كل كافر، لأنه من الظَّلمة.
* ذكر من قال ذلك:
2395- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"أولئك عليهم لَعنة الله والملائكة والناس أجمعين"، فإنه لا يتلاعن اثنان مُؤمنان ولا كافران فيقول أحدهما:"لعن الله الظالم"، إلا وجبت تلك اللعنة على الكافر، لأنه ظالم، فكل أحد من الخلق يلعنه.
* * *(3/262)
خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب عندنا قولُ من قال: عنى الله بذلك جَميعَ الناس، بمعنى لعنهم إياهم بقولهم:"لعن الله الظالم - أو الظالمين".
فإن كلّ أحد من بني آدم لا يمتنع من قيل ذلك كائنًا من كان، (1) ومن أي أهل ملة كان، فيدخل بذلك في لعنته كلّ كافرٍ كائنًا من كان. وذلك بمعنى ما قاله أبو العالية. لأن الله تعالى ذكره أخبر عمن شَهدهم يوم القيامة أنهم يلعنونهم فقال: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) [هود: 18]
وأما ما قاله قتادة، من أنه عنى به بعضَ الناس، فقولٌ ظاهرُ التنزيل بخلافه، ولا برهان على حقيقته من خبر ولا نظر. فإن كان ظن أن المعنيَّ به المؤمنون، من أجل أن الكفار لا يَلعنون أنفسهم ولا أولياءهم، فإن الله تعالى ذكره قد أخبر أنهم يَلعنونهم في الآخرة. ومعلومٌ منهم أنّهم يَلعنون الظَّلمة، وداخلٌ في الظَّلمة كل كافر، بظلمه نفسه، وجحوده نعمةَ ربه، ومخالفته أمرَه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) }
* * *
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: ما الذي نصب"خالدين فيها"؟
قيل: نُصب على الحال من"الهاء والميم" اللتين في"عليهم". وذلك أنّ معنى قوله:"أولئكَ عَليهم لعنة الله"، أولئك يلعنهم الله والملائكةُ والناس أجمعون خالدين فيها. ولذلك قرأ ذلك:"أولئك عَليهم لعنة الله والملائكةُ والناس أجمعون"
__________
(1) في المطبوعة: "لا يمنع من قيل ذلك"، والصواب ما أثبت.(3/263)
مَنْ قرأَهُ كذلك، (1) توجيهًا منه إلى المعنى الذي وصفتُ. وذلك وإن كان جائزًا في العربية، فغيرُ جائزةٍ القراءةُ به، لأنه خلافٌ لمصاحف المسلمين، وما جاء به المسلمون من القراءة مستفيضًا فيهم. فغير جائز الاعتراضُ بالشاذّ من القول، على ما قد ثبتت حُجته بالنقل المستفيض.
* * *
وأما"الهاء والألف" اللتان في قوله:"فيها"، فإنهما عائدتان على"اللعنة"، والمرادُ بالكلام: ما صار إليه الكافر باللعنة من الله ومن ملائكته ومن الناس. والذي صار إليه بها، نارُ جهنم. وأجرى الكلام على"اللعنة"، والمراد بها ما صار إليه الكافر، كما قد بينا من نظائر ذلك فيما مضى قبل، كما:-
2396- حدثت عن عمار قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية:"خالدين فيها"، يقول: خالدين في جهنم، في اللعنة.
* * *
وأما قوله:"لا يخفّف عنهم العذاب"، فإنه خبرٌ من الله تعالى ذكره عن دَوَام العذاب أبدًا من غير توقيت ولا تخفيف، كما قال تعالى ذكره: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا) [سورة فاطر: 36] ، وكما قال: (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا) [سورة النساء: 56]
* * *
وأما قوله:"ولا هم يُنظرون"، فإنه يعني: ولا هُم يُنظرون بمعذرة يَعتذرون، كما:-
2397- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، عن أبي العالية:"ولا هم ينظرون"، يقول: لا يُنظرون فيعتذرون،
__________
(1) في المطبوعة: "والناس أجميعن"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت، برفع"الملائكة والناس أجمعون"، وهي قراءة الحسن. وانظر معاني القرآن للفراء 1: 96-97، وتفسير هذه الآية في سائر كتب التفسير.(3/264)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
كقوله: (هَذَا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ) . [سورة المرسلات: 35-36]
* * *
القول في تأويل قوله عز وجل: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163) }
قال أبو جعفر: قد بينا فيما مضى معنى"الألوهية"، وأنها اعتباد الخلق. (1)
فمعنى قوله:"وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إلهَ إلا هو الرحمن الرحيم": والذي يستحق عَليكم أيها الناس الطاعةَ له، ويستوجب منكم العبادة، معبودٌ واحدٌ وربٌّ واحد، فلا تعبدوا غيرَه، ولا تشركوا معه سواه، فإنّ من تُشركونه معه في عبادتكم إياه، هو خَلقٌ من خلق إلهكم مثلكم، وإلهكم إله واحد، لا مثلَ لهُ وَلا نَظير.
* * *
واختُلِف في معنى وَحدانيته تعالى ذكره،
فقال بعضهم: معنى وحدانية الله، معنى نَفي الأشباه والأمثال عنه، كما يقال:"فلان واحدُ الناس - وهو وَاحد قومه"، يعني بذلك أنه ليسَ له في الناس مثل، ولا له في قومه شبيه ولا نظيرٌ. فكذلك معنى قول:"اللهُ واحد"، يعني به: الله لا مثل له ولا نظير.
فزعموا أن الذي دلَّهم على صحة تأويلهم ذلك، أنّ قول القائل:"واحد" يفهم لمعان أربعة. أحدها: أن يكون"واحدًا" من جنس، كالإنسان"الواحد" من الإنس. والآخر: أن يكون غير متفرِّق، كالجزء الذي لا ينقسم. (2) والثالث:
__________
(1) انظر ما سلف 1: 122-126.
(2) في المطبوعة: "غير متصرف"، وهو تصحيف، والصواب ما أثبت.(3/265)
أن يكون معنيًّا به: المِثلُ والاتفاق، كقول القائل:"هذان الشيئان واحد"، يراد بذلك: أنهما متشابهان، حتى صارَا لاشتباههما في المعاني كالشيء الواحد.
والرابع: أن يكون مرادًا به نفي النظير عنه والشبيه.
قالوا: فلما كانت المعاني الثلاثةُ من معاني"الواحد" منتفيةً عنه، صح المعنى الرابع الذي وَصَفناه.
* * *
وقال آخرون: معنى"وحدانيته" تعالى ذكره، معنى انفراده من الأشياء، وانفراد الأشياء منه. قالوا: وإنما كان منفردًا وحده، لأنه غير داخل في شيء ولا داخلٌ فيه شيء. قالوا: ولا صحة لقول القائل:"واحد"، من جميع الأشياء إلا ذلك. وأنكر قائلو هذه المقالة المعاني الأربعةَ التي قالها الآخرون.
* * *
وأما قوله:"لا إله إلا هو"، فإنه خبرٌ منه تعالى ذكره أنه لا رب للعالمين غيرُه، ولا يستوجبُ على العبادِ العبادةَ سواه، وأنّ كلّ ما سواه فهُم خَلقه، والواجبُ على جميعهم طاعته والانقيادُ لأمره، وتركُ عبادة ما سواه من الأنداد والآلهة، وهجْر الأوثان والأصنام. لأنّ جميع ذلك خلقُه، وعلى جميعهم الدينونة له بالوحدانية والألوهة، ولا تَنبغي الألوهة إلا له، إذ كان ما بهم من نعمة في الدنيا فمنه، دون ما يعبدونه من الأوثان ويشركون معه من الأشراك؛ (1) وما يصيرون إليه من نعمة في الآخرة فمنه، وأن ما أشركوا معه من الأشراك لا يضر ولا ينفعُ في عاجل ولا في آجل، ولا في دنيا ولا في آخرة.
وهذا تنبيه من الله تعالى ذكره أهلَ الشرك به على ضلالهم، ودعاءٌ منه لهم إلى الأوبة من كفرهم، والإنابة من شركهم.
__________
(1) الأشراك جمع شريك، كما يقال: شريف وأشراف، ونصير وأنصار، ويجمع أيضًا على"شركاء".(3/266)
ثم عرَّفهم تعالى ذكره بالآية التي تتلوها، موضعَ استدلال ذوي الألباب منهم على حقيقة ما نبَّههم عليه من توحيده وحُججه الواضحة القاطعة عُذرَهم، فقال تعالى ذكره: أيها المشركون، إن جهلتم أو شككتم في حقيقة ما أخبرتكم من الخبر: من أنّ إلهكم إله واحد، دونَ ما تدَّعون ألوهيته من الأنداد والأوثان، فتدبروا حُججي وفكروا فيها، فإن من حُججي خَلق السموات والأرض، واختلاف الليل والنهار، والفلكُ التي تجري في البحر بما يَنفعُ الناس، وما أنزلت من السماء من ماء فأحييت به الأرض بعد موتها، وما بثثتُ فيها من كل دابة، والسحاب الذي سَخرته بين السماء والأرض. فإن كان ما تعبدونه من الأوثان والآلهة والأنداد وسائر ما تشركون به، إذا اجتمع جميعه فتظاهرَ أو انفرد بعضُه دون بعض، يقدر على أن يخلق نظيرَ شيء من خَلقي الذي سميتُ لكم، فلكم بعبادتكم ما تعبدون من دوني حينئذ عذرٌ، وإلا فلا عُذر لكم في اتخاذ إله سواي، ولا إله لكم ولما تعبدون غَيري. فليتدبر أولو الألباب إيجازَ الله احتجاجَه على جميع أهل الكفر به والملحدين في توحيده، في هذه الآية وفي التي بعدها، بأوْجز كلام، وأبلغ حجة وألطف معنى يشرف بهم على مَعرفة فضْل حكمة الله وبَيانه.
* * *(3/267)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
القول في المعنى الذي من أجله أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}
* * *
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في السبب الذي من أجله أنزل الله تعالى ذكره هذه الآية على نَبيّه محمد صلى الله عليه وسلم.
* * *(3/267)
فقال بعضهم: أنزلها عليه احتجاجًا له على أهل الشرك به من عبدة الأوثان. وذلك أن الله تعالى ذكره لما أنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وإلهكم إله واحد لا إله إلا هُو الرحمنُ الرحيم" فتلا ذلك عَلى أصحابه، وسمع به المشركون مِنْ عبدة الأوثان، قال المشركون: وما الحجة والبرهان على أنّ ذلك كذلك؟ ونحن نُنكر ذلك، ونحن نزعم أنّ لنا آلهة كثيرة؟ فأنزل الله عند ذلك:"إن في خَلق السموات والأرض"، احتجاجًا لنبيه صلى الله عليه وسلم على الذين قالوا مَا ذَكرنَا عَنهم.
* ذكر من قال ذلك:
2398- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة:"وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، فقال كفار قريش بمكة: كيف يَسعُ الناسَ إله واحد؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ في خَلق السموَات والأرض واختلاف الليل والنهار"، إلى قوله:"لآياتٍ لقوم يَعقلون"، فبهذا تعلمُون أنه إله واحدٌ، وأنه إله كل شيء، وخالق كل شيء.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم، من أجل أنّ أهلَ الشرك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم [آية] ، (1) فأنزل الله هذه الآية، يعلمهم فيها أنّ لهم في خَلق السموات والأرض وسائر ما ذكر مع ذلك، آيةً بينةً على وحدانية الله، وأنه لا شريك له في ملكه، لمن عَقل وتدبَّر ذلك بفهم صحيح.
* ذكر من قال ذلك:
2399- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن أبيه،
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا يتم الكلام إلا بها، ويدل عليها ما سيأتي في الآثار بعد.(3/268)
عن أبي الضحى قال: لما نزلت"وإلهكم إلهٌ واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية! فأنزل الله تعالى ذكره:"إن في خلق السموات والأرض وَاختلاف الليل والنهار"، الآية.
2400- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى قال: لما نزلت:"وإلهكم إله واحدٌ لا إله إلا هو الرحمن الرحيم"، قال المشركون: إن كان هذا هكذا فليأتنا بآية، فأنزل الله تعالى ذكره:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، الآية.
2401- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق بن الحجاج قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، قال، حدثني سعيد بن مسروق، عن أبي الضحى قال: لما نزلت هذه الآية، جعل المشركون يعجبون ويقولون: تقول إلهكم إله واحدٌ، فلتأتنا بآية إن كنتَ من الصادقين! فأنزل الله:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، الآية.
2402- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج عن عطاء بن أبى رباح أن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: أرِنا آية! فنزلت هذه الآية:"إنّ في خلق السموات والأرض".
2403- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يعقوب القمي، عن جعفر، عن سعيد قال: سألت قريش اليهودَ فقالوا: حدثونا عما جاءكم به موسى من الآيات! فحدثوهم بالعصَا وبيده البيضاء للناظرين. وسألوا النصارى عما جاءهم به عيسى من الآيات، فأخبروهم أنه كان يُبرئ الأكمهَ والأبرصَ ويُحيي الموتى بإذن الله. فقالت قريش عند ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم: ادعُ الله أن يجعل لَنا الصفا ذَهبًا، فنزداد يقينًا، ونتقوَّى به على عدوّنا. فسأل النبي صلى الله عليه وسلم ربه، فأوحى إليه:(3/269)
إنّي مُعطيهم، فأجعلُ لهم الصفا ذهبًا، ولكن إن كذَّبوا عذّبتهم عذابًا لم أعذبه أحدًا من العالمين.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذَرني وقَومي فأدعوهم يومًا بيوم. فأنزل الله عليه:"إنّ في خَلق السموات والأرض"، الآية: إن في ذَلك لآية لهم، إن كانوا إنما يريدون أن أجعل لهم الصفا ذهبًا، فخلق الله السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، أعظمُ من أن أجعل لهم الصفا ذهبًا ليزدادوا يقينًا.
2404- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار"، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: (1) غيِّر لنا الصفا ذهبًا إن كنت صادقًا أنه منه! فقال الله: إنّ في هذه الآيات لآياتٍ لقوم يعقلون. وقال: قد سأل الآيات قومٌ قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أنّ الله تعالى ذكره نَبَّه عباده = على الدلالة على وَحدانيته وتفرده بالألوهية، دون كل ما سواه من الأشياء = بهذه الآية. وجائزٌ أن تكون نزلت فيما قاله عطاء، وجائزٌ أن تكون فيما قاله سعيد بن جبير وأبو الضحى، ولا خبرَ عندنا بتصحيح قول أحد الفريقين يقطع العذرَ، فيجوز أن يقضيَ أحدٌ لأحد الفريقين بصحة قولٍ على الآخر. وأيُّ القولين كان صحيحًا، فالمراد من الآية ما قلت.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فقال المشركون للنبي. . . "، والصواب طرح هذه الفاء.(3/270)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ في خَلق السموات والأرض"، إن في إنشاء السموات والأرض وابتداعهما.
* * *
ومعنى"خلق" الله الأشياء: ابتداعه وإيجاده إياها، بعد أن لم تكن موجودة.
وقد دللنا فيما مضى على المعنى الذي من أجله قيل:"الأرض"، ولم تجمع كما جُمعت السموات، فأغنى ذلك عن إعادته (1)
* * *
فإن قال لنا قائل: وهل للسموات والأرض خلقٌ هو غيرُها فيقال:"إنّ في خلق السموات والأرض"؟
قيل: قد اختلف في ذلك. فقال بعض الناس: لها خَلقٌ هو غيرها. واعتلُّوا في ذلك بهذه الآية، وبالتي في سورة: الكهف: (مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ) [سورة الكهف: 51] وقالوا: لم يخلق الله شيئًا إلا والله له مريدٌ. قالوا: فالأشياء كانت بإرادة الله، والإرادة خلق لها.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 431-437.(3/271)
وقال آخرون: خلق الشيء صفة له، لا هي هو، ولا غيرُه. قالوا: لو كان غيرُه لوجب أن يكون مثله موصوفًا. قالوا: ولو جاز أن يكون خَلقُه غيرَه، وأن يكون موصوفًا، لوجب أن تكون له صفة هي له خَلق. ولو وجب ذلك كذلك، لم يكن لذلك نهاية. قالوا: فكان معلومًا بذلك أنه صفة للشيء. قالوا: فخلق السموات والأرض صفة لهما، على ما وصفنا. واعتلُّوا أيضًا -بأن للشيء خلقًا ليس هو به- من كتاب الله بنحو الذي اعتلّ به الأولون.
* * *
وقال آخرون: خَلق السموات والأرض، وخلق كل مخلوق، هو ذلك الشيء بعينه لا غيره.
فمعنى قوله:"إن في خلق السموات والأرض": إنّ في السموات والأرض. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"واختلاف الليل والنهار"، وتعاقب الليل والنهار عليكم أيها الناس.
* * *
وإنما"الاختلاف" في هذا الموضع"الافتعال" من"خُلوف" كل واحد منهما الآخر، (2) كما قال تعالى ذكره: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [سورة الفرقان: 62] .
بمعنى: أن كل واحد منهما يخلف مَكان صاحبه، إذا ذهب الليل جَاء النهارُ بعده، وإذا ذهب النهارُ جاء الليل خلفه. ومن ذلك قيل:"خلف فلانٌ فلانًا في أهله بسوء"، ومنه قول زهير:
بِهَا العِينُ وَالآرَامُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... وَأَطْلاؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَم (3)
* * *
__________
(1) لم يتبع أبو جعفر في هذا الموضع ما درج عليه من ترجيح القول الذي يختاره. وهذا مما يدل على ما ذهبنا إليه، أنه كان يختصر كلامه أحيانًا، مخافة الإطالة. هذا إذا لم يكن في المخطوطات خرم أو اختصار من ناسخ أو كاتب.
(2) "خلوف" مصدر"خلف"، ولم أجده في كتب اللغة، ولكنه عربي معرق في قياسه.
(3) ديوانه: من معلقته العتيقة. والهاء في"بها" إلى"ديار أم أوفى" صاحبته. والعين جمع عيناء: وهي بقر الوحش، واسعة العيون جميلتها. والآرام جمع رئم: وهي الظباء الخوالص البياض، تسكن الرمل. "خلفة" إذا جاء منها فوج ذهب آخر يخلفه مكانه. يصف مجيئها وذهوبها في براح هذه الرملة. والأطلاء جمع طلا: وهو ولد البقرة والظبية الصغير. ويصف الصغار من أولاد البقر والظباء في هذه الرملة، وقد نهض هذا وذاك منها من موضع جثومه. يصف اختلاف الحركة في هذه الفقرة المهجورة التي فارقتها أم أوفى، وقد وقف بها من بعد عشرين حجة -، كما ذكر.(3/272)
وأما"الليل". فإنه جَمْع"ليلة"، نظيرُ"التمر" الذي هو جمع"تمرة". وقد يجمع"ليالٍ"، فيزيدون في جَمعها ما لم يكن في واحدتها. وزيادتهم"الياء" في ذلك نظير زيادتهم إياها في"ربَاعية وثَمانية وكرَاهية".
* * *
وأما"النهار"، فإنّ العرب لا تكاد تجمعه، لأنه بمنزلة الضوء. وقد سمع في جَمعه"النُّهُر"، قال الشاعر:
لَوْلا الثّرِيدانِ هَلَكْنَا بِالضُّمُرْ ... ثَرِيدُ لَيْلٍ وثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ (1)
ءولو قيل في جمع قليله"أنهِرَة" كان قياسًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: إنّ في الفلك التي تجري في البحر.
* * *
و"الفلك" هو السُّفن، واحدُه وجمعه بلفظ واحد، ويذكَّر ويؤنث، كما قال تعالى ذكره في تذكيره في آية أخرى: (وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) [سورة يس: 41] ، فذكَّره.
* * *
وقد قال في هذه الآية:"والفلك التي تجري في البحر"، وهي مُجْراة، لأنها
__________
(1) تهذيب الألفاظ: 422، والمخصص 9: 51، واللسان (نهر) ، والأزمنة والأمكنة 1: 77، 155 وغيرها. ورواية اللسان والمخصص"لمتنا بالضمر". والضمر (بضم الميم وسكونها) مثل العسر والعسر: الهزال ولحاق البطن من الجوع وغيره. والثريد: خبز يهشم ويبل بماء القدر ويغمس فيه حتى يلين.(3/273)
إذا أجريت فهي"الجارية"، فأضيف إليها من الصفة ما هو لها. (1)
* * *
وأما قوله:"بما ينفع الناس"، فإن معناه: ينفعُ الناسَ في البحر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وما أنزل اللهُ من السماء من مَاء"، وفيما أنزلهُ الله من السماء من ماء، وهو المطر الذي يُنزله الله من السماء.
وقوله:"فأحيا به الأرضَ بَعدَ موتها"، وإحياؤها: عمارَتُها، وإخراج نباتها. و"الهاء" التي في"به" عائدة على"الماء" و"الهاء والألف" في قوله:"بعد موتها" على الأرض.
و"موت الأرض"، خرابها، ودُثور عمارتها، وانقطاعُ نباتها، الذي هو للعباد أقواتٌ، وللأنام أرزاقٌ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ}
قال أبو جعفر: بعني تعالى ذكره بقوله:"وبث فيها منْ كلّ دَابة"، وإن فيما بثّ في الأرض من دابة.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 196.(3/274)
ومعنى قوله:"وبَث فيها"، وفرَّقَ فيها، من قول القائل:"بث الأميرُ سراياه"، يعنى: فرَّق.
و"الهاء والألف" في قوله:"فيها"، عائدتان على"الأرض".
* * *
"والدابة""الفاعلة"، من قول القائل:"دبَّت الدابة تدبُّ دبيبًا فهي دابة"."والدابة"، اسم لكل ذي رُوح كان غير طائر بجناحيه، لدبيبه على الأرض.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وتصريف الرياح"، وفي تصريفه الرياح، فأسقط ذكر الفاعل وأضاف الفعل إلى المفعول، كما تقول: (1) "يعجبني إكرام أخيك"، تريد: إكرامُك أخَاك.
* * *
"وتصريف" الله إياها، أنْ يُرسلها مَرَّة لَواقحَ، ومرة يجعلها عَقيما، ويبعثها عذابًا تُدمِّر كل شيء بأمر ربها، كما:-
2405- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وتصريف الرياح والسحاب المسخر" قال، قادرٌ والله ربُّنا على ذلك، إذا شَاء [جعلها رَحمةً لواقح للسحاب ونشرًا بين يدي رحمته، وإذا شاء] جَعلها عذابًا ريحًا عقيمًا لا تُلقح، إنما هي عَذابٌ على من أرسِلتْ عليه. (2)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "كما قال: يعجبني. . يريد"، والصواب ما أثبت.
(2) الزيادة بين القوسين من نص الدر المنثور 1: 164، من نص تفسير قتادة الذي أخرجه الطبري.(3/275)
وزعم بعض أهل العربية أنّ معنى قوله:"وتصريف الرياح"، أنها تأتي مَرّة جنوبًا وشمالا وقبولا ودَبورًا. ثم قال: وذلك تصريفها. (1) وهذه الصفة التي وَصَفَ الرياح بها، صفة تصرُّفها لا صفة تصريفها، لأن"تصريفها" تصريفُ الله لها،"وتصرفها" اختلافُ هُبوبها.
وقد يجوز أن يكون معنى قوله:"وتصريف الرياح"، تصريفُ الله تعالى ذكره هبوب الريح باختلاف مَهابِّها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والسحاب المسخر"، وفي السحاب، جمع"سحابة". يدل على ذلك قوله تعالى ذكره: (وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ) [سورة الرعد: 12] فوحّد المسخر وذكره، كما قالوا:"هذه تَمرة وهذا تمر كثير". في جمعه،"وهذه نخلة وهذا نخل". (2)
وإنما قيل للسحاب"سحاب" إن شاء الله، لجر بعضه بعضًا وسَحبه إياه، من قول القائل:"مرّ فلان يَجر ذَيله"، يعني:"يسحبه".
* * *
فأما معنى قوله:"لآيات"، فإنه عَلامات ودلالاتٌ على أن خالق ذلك كلِّه ومنشئه، إله واحدٌ. (3)
* * *
__________
(1) هذه مقالة الفراء في معاني القرآن 1: 97.
(2) في المطبوعة: "كما قال: هذه ثمرة. . . "، والصواب ما أثبته.
(3) انظر معنى"آية" فيما سلف 1: 106، وفهارس اللغة. وقد ترك الطبري تفسيره"المسخر"، وكأن في الأصول اختصارًا من ناسخ أو كاتب، إن لم يكن من الطبري نفسه، كما أشرت إليه فيما مضى.(3/276)
"لقوم يعقلون"، لمن عَقل مَوَاضع الحجج، وفهم عن الله أدلته على وحدانيته. فأعلم تعالى ذكره عبادَه، بأنّ الأدلة والحجج إنما وُضعت مُعتبَرًا لذوي العقول والتمييز، دون غيرهم من الخلق، إذ كانوا هم المخصوصين بالأمر والنهي، والمكلفين بالطاعة والعبادة، ولهم الثواب، وعليهم العقاب.
* * *
فإن قال قائل: وكيف احتج على أهل الكفر بقوله:"إنّ في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار" الآية، في توحيد الله؟ وقد علمت أنّ أصنافًا من أصناف الكفرة تدفع أن تكون السموات والأرض وسائر ما ذكر في هذه الآية مخلوقةً؟
قيل: إنّ إنكار من أنكر ذلك غيرُ دافع أن يكون جميعُ ما ذكرَ تعالى ذكره في هذه الآية، دليلا على خالقه وصانعه، وأنّ له مدبرًا لا يشبهه [شيء] ، وبارئًا لا مِثْل له. (1) وذلك وإن كان كذلك، فإن الله إنما حَاجَّ بذلك قومًا كانوا مُقرِّين بأنّ الله خالقهم، غير أنهم يُشركون في عبادته عبادة الأصنام والأوثان. (2) فحاجَّهم تعالى ذكره فقال -إذ أنكروا قوله:"وإلهكم إلهٌ واحد"، وزعموا أن له شُركاء من الآلهة-: [إن إلهكم الذي خلق السموات وأجرى فيها الشمس والقمر لكم بأرزاقكم دائبين في سيرهما. وذلك هو معنى اختلاف الليل والنهار في الشمس والقمر] (3) وذلك هو معنى قوله:"والفلك التي تجري في البحر بما
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها هنا.
(2) انظر ما سلف في 1: 371، والرد على من ظن أن العرب كانت غير مقرة بالوحدانية.
(3) هذه الجملة قد سقط منها شيء كثير، فاختلت واضطربت، وكأن صوابها ما يأتي: [إنّ إلهكم الذي خلق لَكم السَّموَات والأرض، فخلق الأرض وقَدّر لكم فيها أرزاقكم وأقواتكم، وخلق السَّمَوات وأجرى فيها الشمس والقمر دائبين في سيرهما - وذلك هو معنى: (واختلاف الليل والنهار) -وخلق الرياح التي تسوق السفن التي تحملكم فتجريها في البحر لتبتغوا من فضله]-(3/277)
ينفع الناس" - وأنزل إليكم الغيثَ من السماء، فأخصب به جنابكم بعد جُدوبه، وأمرعه بعد دُثوره، فَنَعَشكم به بعد قُنوطكم (1) -، وذلك هو معنى قوله:"وَمَا أنزل الله من السماء من مَاء فأحيا به الأرض بعد موتها" - وسخَّر لكم الأنعام فيها لكمْ مطاعمُ ومَآكل، ومنها جمالٌ ومراكبُ، ومنها أثاث وملابس - وذلك هو معنى قوله:"وبث فيها من كل دابة" - وأرْسل لكم الرياح لواقح لأشجار ثماركم وغذائكم وأقواتكم، وسيَّر لكم السحاب الذي بَودَقْه حَياتكم وحياة نعمكم ومواشيكم - وذلك هو معنى قوله:"وتصريف الرياح والسحاب المسخَّر بين السماء والأرض".
فأخبرهم أنّ إلههم هو الله الذي أنعمَ عليهم بهذه النعم، وتفرَّد لهم بها. ثم قال: هل من شُركائكم مَن يفعل مِنْ ذلكم من شيء، فتشركوه في عبادتكم إياي، وتجعلوه لي نِدًّا وعِدلا؟ فإن لم يكن من شُركائكم مَنْ يفعل مِنْ ذلكم مِن شيء، ففي الذي عَددت عليكم من نعمتي، وتفردت لكم بأياديّ، دلالاتٌ لكم إن كنتم تَعقلون مواقعَ الحق والباطل، والجور والإنصاف. وذلك أنّى لكم بالإحسان إليكم متفرِّد دون غيري، وأنتم تجعلون لي في عبادتكم إياي أندادًا. فهذا هو معنى الآية.
* * *
والذين ذُكِّروا بهذه الآية واحتج عليهم بها، هم القوم الذين وصفتُ صفتهم، دون المعطِّلة والدُّهْرية، وإن كان في أصغر ما عدَّ الله في هذه الآية، من الحجج البالغة، المَقْنَعُ لجميع الأنام، تركنا البيان عنه، كراهة إطالة الكتاب بذكره.
__________
(1) أمرع الأرض: صيرها خصبة بعد الجدب. والدثور: الدروس، يريد خرابها وانمحاء آثار عمارتها من النبات وغيره. وكان في المطبوعة: "فينعثكم"، والصواب ما أثبت. ونعشه الله ينعشه: رفعه وتداركه برحمته.(3/278)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أنّ من الناس من يتخذ من دون الله أندادًا له =
وقد بينا فيما مضى أن"الندّ"، العدل، بما يدل على ذلك من الشواهد، فكرهنا إعادته. (1)
* * *
= وأن الذين اتخذوا هذه"الأنداد" من دُون الله، يحبون أندادهم كحب المؤمنين الله. ثم أخبرَهم أن المؤمنين أشد حبًا لله، من متخذي هذه الأنداد لأندادهم.
* * *
واختلف أهل التأويل في"الأنداد" التي كان القوم اتخذوها. وما هي؟
* * *
فقال بعضهم: هي آلهتهم التي كانوا يعبدونها من دون الله.
* ذكر من قال ذلك.
2406- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"ومن الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبًا لله"، من الكفار لأوثانهم.
2407- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله تعالى ذكره:"يحبونهم كحب الله"، مباهاةً ومُضاهاةً للحقّ بالأنداد،"والذين آمنوا أشد حبًا لله"، من الكفار لأوثانهم.
2408- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
__________
(1) انظر ما سلف 1: 368-370.(3/279)
2409- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ومن الناس من يتخذُ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" قال، هي الآلهة التي تُعبد من دون الله، يقول: يحبون أوثانهم كحب الله،"والذين آمنوا أشد حبًا لله"، أي من الكفار لأوثانهم.
2410- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومنَ الناس من يَتخذ من دون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" قال، هؤلاء المشركون. أندادُهم: آلهتهم التي عَبدوا مع الله، يحبونهم كما يحب الذين آمنوا الله، والذين آمنوا أشد حبًا لله من حبهم هم آلهتُهم.
* * *
وقال آخرون: بل"الأنداد" في هذا الموضع، إنما هم سادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله تعالى ذكره.
* ذكر من قال ذلك:
2411- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ومنَ الناس من يَتخذ من دُون الله أندادًا يحبونهم كحب الله" قال، الأنداد من الرجال، يطيعونهم كما يطيعون الله، إذا أمروهم أطاعوهم وعَصَوا الله. (1)
* * *
فإن قال قائل: وكيف قيل:"كحب الله"؟ وهل يحب الله الأنداد؟ وهل كان مُتخذو الأنداد يحبون الله، فيقال:"يُحيونهم كحب الله"؟
قيل: إنّ معنى ذلك بخلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما ذلك نظير قول القائل: (2) "بعت غُلامي كبيع غلامِك"، بمعنى: بعته كما بيع غلامك، وكبيْعك
__________
(1) الأثر: 2411- في المطبوعة: "حدثني موسى قال حدثنا أسباط"، أسقط منه"قال حدثنا عمرو"، وهو إسناد دائر في التفسير، أقر به رقم: 2404. ثم انظر ص: 288 س: 11 فسيأتي تأويله وبيانه عن قول السدي.
(2) في المطبوعة: "وإنما نظير ذلك"، وأثبت أولى العبارتين بالسياق والمعنى.(3/280)
غُلامَك،"واستوفيتُ حَقي منه استيفاء حَقك"، بمعنى: استيفائك حقك، فتحذف من الثاني كناية اسم المخاطَب، اكتفاء بكنايته في"الغلام" و"الحق"، كما قال الشاعر:
فَلَسْتُ مُسَلِّمًا مَا دُمْتُ حَيَّا ... عَلَى زَيْدٍ بِتَسْلِيم الأمِيرِ (1)
يعنى بذلك: كما يُسلَّم على الأمير.
* * *
فمعنى الكلام إذًا: ومنَ الناس من يتخذ، أيها المؤمنون، من دون الله أندادًا يحبونهم كحبكُم الله. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) }
قال أبو جعفر: اختلفت القرأة في قراءة ذلك. فقرأه عامة أهل المدينة والشأم:"ولوْ ترى الذين ظَلموا" بالتاء"إذ يَرون العذابَ" بالياء"أن القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب" بفتح"أنّ" و"أنّ" كلتيهما - بمعنى: ولو ترى يا محمد
__________
(1) لم أعرف قائله. وسيأتي في هذا الجزء 3: 311، وهو من أبيات أربعة في البيان والتبيين 4: 51، ومعاني القرآن للفراء 1: 100، وأمالي الشريف 1: 215. وبعد البيت: أَميرٌ يأكُلُ الفَالُوذَ سِرًّا ... ويُطْعِمُ ضيفَهُ خُبْزَ الشَّعِير!
أتذكُرُ إذْ قَبَاؤك جلْدُ شاةٍ ... وَإِذْ نَعْلاَكَ من جِلْدِ البَعِيرِ?
فسُبْحان الذي أعطاك مُلْكًا ... وعَلَّمك الجلوسَ على السَّرِير!!
(2) في المطبوعة: "كحب الله"، وليس هذا تفسيرًا على سياق كلامه وتفسيره، بل هو نص الآية، والصواب ما أثبت.(3/281)
الذين كفروا وَظَلموا أنفسهم، حينَ يَرون عذابَ الله ويعاينونه"أنّ القوة لله جميعًا وأن الله شديدُ العذاب".
ثم في نصَبْ"أنّ" و"أنّ" في هذه القراءة وجهان: أحدهما أن تُفتح بالمحذوف من الكلام الذي هو مطلوب فيه، فيكون تأويل الكلام حينئذ: ولو ترى يَا محمد الذين ظلموا إذ يرون عذاب الله، لأقروا -ومعنى ترى: تبصر- أن القوة لله جميعًا، وأنّ الله شديد العذاب. ويكون الجواب حينئذ -إذا فتحت"أن" على هذا الوجه- متروكًا، قد اكتفى بدلالة الكلام عليه، ويكون المعنى ما وصفت. فهذا أحد وجهي فتح"أن"، على قراءة من قرأ:"ولو ترى" ب"التاء".
والوجهُ الآخر في الفتح: أن يكون معناه: ولو ترى، يا محمد، إذ(3/282)
يَرى الذين ظلموا عذابَ الله، لأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب، لعلمت مبلغ عذاب الله. ثم تحذف"اللام"، فتفتح بذلك المعنى، لدلالة الكلام عليها.
* * *
وقرأ ذلك آخرون من سَلف القراء:"ولو تَرى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب إن القوة لله جميعًا وإن الله شديدُ العذاب". بمعنى: ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا حين يعاينون عذابَ الله، لعلمت الحال التي يصيرون إليها. ثم أخبر تعالى ذكره خبرًا مبتدأ عن قدرته وسلطانه، بعد تمام الخبر الأول فقال:"إن القوة لله جميعًا" في الدنيا والآخرة، دون من سواه من الأنداد والآلهة،"وإن الله شديد العذاب" لمن أشرك به، وادعى معه شُركاء، وجعل له ندًا.
* * *
وقد يحتمل وجهًا آخر في قراءة من كسر"إن" في"ترى" بالتاء. وهو أن يكون معناه: ولو ترَى، يا محمد الذين ظلموا إذ يرون العذابَ يقولون: إنّ القوة لله جميعًا وإنّ الله شديد العذاب. ثمّ تحذفُ"القول" وتَكتفي منه بالمقول.
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"ولو يَرَى الذين ظلموا" بالياء"إذ يَرَون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شَديدُ العذاب" بفتح"الألف" من"أنّ""وأنّ"، بمعنى: ولو يرى الذين ظلموا عذابَ الله الذي أعد لهم في جهنم، لعلموا حين يَرونه فيعاينونه أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب، إذ يرون العذاب. فتكون"أن" الأولى منصوبة لتعلقها بجواب"لو" المحذوف، ويكون الجواب متروكًا، وتكون الثانية معطوفة على الأولى. وهذه قراءة عامة القرّاء الكوفيين والبصريين وأهل مكة.
* * *
وقد زعم بعض نحويي البصرة أنّ تأويل قراءة من قرأ:"ولو يَرَى الذين ظلموا إذ يرون العذابَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب" بالياء في"يرى" وفتح"الألفين" في"أن""وأن"-: ولو يعلمون، (1) لأنهم لم يكونوا علموا قدر ما يعاينون من العذاب. وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عَلم، فإذا قال:"ولو ترى"، فإنما يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم.
ولو كسر"إنّ" على الابتداء، إذا قال:"ولو يرى" جاز، لأن"لو يرى"، لو يعلم.
وقد تكون"لو" في معنى لا يَحتاج معها إلى شيء. (2) تقول للرجل:"أمَا وَالله لو يعلم، ولو تعلم" (3) كما قال الشاعر: (4)
إنْ يكُنْ طِبَّكِ الدّلالُ، فلَوْ فِي ... سَالِفِ الدَّهْرِ والسِّنِينَ الخَوَالِي! (5)
__________
(1) يريد أن"يرى" بمعنى: يعلم. وقاله أبو عبيدة في مجاز القرآن: 62.
(2) في المطبوعة: "وقد تكون"لو يعلم" في معنى لا يحتاج. . . "، والصواب حذف"يعلم" فإنه أراد"لو" وحدها، وذلك ظاهر في استدلاله بعد.
(3) في المطبوعة: "لو يعلم" في الموضعين، والصواب جعل إحداهما بالياء. والأخرى بالتاء.
(4) هو عبيد بن الأبرص.
(5) ديوانه: 37، من قصيدة جيدة يعاتب امرأته وقد عزمت على فراقه، وقبله: تلكَ عِرْسِي تَرُومُ قِدْمًا زِيَالِي ... أَلِبَيْنٍ تُرِيد أَمْ لِدَلاَلِ?
والزيال: المفارقة. وقوله: "طبك"، أي شهوتك وإرادتك وبغيتك. يقول لها: إن كنت الدلال على تبغين وترومين، فقد مضى حين ذلك، أيام كنا شبابًا في سالف دهرنا وليالينا الخوالي! إذ-: أنْت بَيْضَاءُ كالمهاة، وإِذْا ... آتِيكِ نَشْوَانَ مُرْخِيًا أَذْيالِي(3/283)
هذا ليس له جواب إلا في المعنى، وقال الشاعر (1)
وَبِحَظٍّ مِمَّا نَعِيشُ، وَلا ... تَذْهَبْ بِكَ التُّرَّهَاتُ فِي الأهْوَالِ (2)
فأضمر: فعيشي. (3)
قال: وقرأ بعضهم:"ولو تَرى"، وفتح"أن" على"ترى". وليس بذلك، (4) لأن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم، ولكن أراد أن يعلم ذلك الناسُ، كما قال تعالى ذكره: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) [سورة السجدة: 3] ، ليخبر الناس عن جهلهم، وكما قال: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة البقرة: 107] . (5)
* * *
قال أبو جعفر: وأنكر قوم أن تكون"أنّ" عاملا فيها قوله:"ولو يرى". وقالوا: إنّ الذين ظلموا قَد علموا حين يَرون العذاب أن القوة لله جميعًا، فلا وجه لمن تأوَّل ذلك: ولو يَرى الذين ظلموا أنّ القوة لله. وقالوا: إنما عمل في"أن" جواب"لو" الذي هو بمعنى"العلم"، لتقدم"العلم" الأول. (6)
* * *
__________
(1) هو عبيد بن الأبرص أيضًا من قصيدته السالفة.
(2) ديوانه: 37، وسيأتي في التفسير 7: 117، وهو في الموضعين مصحف. كان هنا"وبحظ ما تعيش". قال لها ذلك بعد أن ذكر أنها زعمت أنه كبر وقل ماله، وضن عنه إخوانه وأنصاره. ثم أمرها أن ترفض مقالة العاذلين، ويعظها أن تعيش معه بما يعيش به. والترهات جمع ترهة: وهي أباطيل الأمور. والأهوال جمع هول: وهو الأمر المخيف. ثم ذكر لها أمر أهلها إذا فارقته إليهم وما تلقاه من أهوال، فقال: مِنْهُمُ مُمْسِكٌ، ومِنْهم عَدِيمٌ، ... وبَخِيلُ عَلَيْكِ فِي بُخّالِ
(3) في المطبوعة: "فأضمر: عش"، والصواب ما أثبت، وستأتي على الصواب في الجزء السابع.
(4) قوله: "ليس بذلك"، أي قول ضعيف ليس بذلك القوي.
(5) انظر ما سلف 2: 484-488.
(6) يعني بالعلم الأول"لو يرى" بمعنى"لو يعلم"، والآخر الجواب المحذوف: "لعلموا".(3/284)
وقال بعض نحويي الكوفة: مَنْ نصب:"أن القوة لله وأن الله شديد العذاب" ممن قرأ:"ولو يَرَى" بالياء، فإنما نصبها بإعمال"الرؤية" فيها، وجعل"الرؤية" واقعةً عليها. وأما مَنْ نصبها ممن قرأ:"ولو ترى" بالتاء، فإنه نَصبَها على تأويل: لأنّ القوة لله جميعًا، ولأن الله شديد العذاب. قال: ومن كسرهما ممن قرأ بالتاء، فإنه يكسرهما على الخبر.
* * *
وقال آخرون منهم: فتح"أنّ" في قراءة من قرأ:"ولو يَرَى الذين ظلموا" بالياء، بإعمال"يرى"، وجوابُ الكلام حينئذ متروك، كما ترك جواب: (وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرْضُ) [سورة الرعد: 31] ، لأن معنى الجنة والنار مكررٌ معروف. (1) وقالوا: جائز كسر"إن"، في قراءة من قرأ ب"الياء"، وإيقاع"الرؤية" على"إذ" في المعنى، وأجازوا نصب"أن" على قراءة من قرأ ذلك ب"التاء"، لمعنى نية فعل آخر، وأن يكون تأويل الكلام:"ولو ترى الذين ظَلموا إذ يرون العذاب"، [يرَون] أنّ القوة لله جميعا، (2) وزعموا أن كسر"إنّ" الوجهُ، إذا قرئت:"ولو تَرَى" ب"التاء" على الاستئناف، لأن قوله:"ولو ترى" قد وَقع على"الذين ظلموا". (3)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القراءة عندنا في ذلك:"ولو تَرَى الذين ظلموا" -بالتاء من"ترى"-"إذ يرون العذاب أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب" بمعنى: لرأيتَ أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب. فيكون قوله:"لرأيت" الثانية، محذوفةً مستغنى بدلالة قوله:"ولو ترى الذين ظلموا"، عن ذكره، وإن
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 97، وفيه"معاني الجنة. . . "، والصواب ما في الطبري وإحدى نسخ معاني القرآن.
(2) الذي بين القوسين زيادة لا بد منها، وإلا اختل الكلام، واستدركتها من معاني القرآن للفراء 1: 98.
(3) هذا قول الفراء في معاني القراء 1: 97-98، مع بعض التصرف في اللفظ. وقوله: "وقع"، و"الوقوع" يعني به تعدي الفعل إليه. وانظر فهرس المصطلحات.(3/285)
كان جوابًا ل"لو". (1)
ويكون الكلام، وإن كان مخرجه مَخرجَ الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم - معنيًّا به غيره. لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا شك عالمًا بأن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب. ويكون ذلك نظيرَ قوله: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ) [سورة البقرة: 107] وقد بيناه في موضعه. (2)
وإنما اخترنا ذلك على قراءة"الياء"، لأن القوم إذا رَأوا العذاب، قَد أيقنوا أن القوة لله جميعًا وأن الله شديد العذاب، فلا وجه أن يُقال: لو يرون أنّ القوة لله جميعًا - حينئذ. لأنه إنما يقال:"لو رأيت"، لمن لم يرَ، فأما من قد رآه، فلا معنى لأن يقال له:"لو رأيت".
* * *
ومعنى قوله:"إذ يَرون العذاب"، إذ يُعاينون العذاب، كما:-
2412- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولو يرى الذين ظَلموا إذ يَرون العذابَ أن القوة لله جميعًا، وأن الله شديد العذاب"، يقول: لو عاينوا العذاب.
* * *
وإنما عنى تعالى ذكره بقوله:"ولو تَرَى الذين ظلموا"، ولو ترى، يا محمد، الذين ظلموا أنفسهم، فاتخذوا من دوني أندادًا يحبونهم كحبكم إياي، حين يُعاينون عَذابي يومَ القيامة الذي أعددتُ لهم، لعلمتم أن القوة كلها لي دُون الأنداد والآلهة، وأنّ الأنداد والآلهة لا تغني عنهم هنالك شيئًا، ولا تدفع عنهم عذابًا أحللتُ بهم، وأيقنتم أنِّي شديدٌ عذابي لمن كفر بي، وادَّعى مَعي إلهًا غيري.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وإن كان جوابًا. . . "، والصواب ما أثبت.
(2) انظر ما سلف 2: 484-488.(3/286)
إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)
القول في تأويل قوله تعالى {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إذْ تبرَأ الذين اتُّبعوا منَ الذين اتبعوا ورَأوا العذاب"، إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعواهم. (1)
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الذين عَنى الله تعالى ذكره بقوله:"إذ تَبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا"، فقال بعضهم بما:-
2413- حدثنا به بشر بن معاذ قال: حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إذ تبرأ الذين اتُّبعوا"، وهم الجبابرة والقادةُ والرؤوس في الشرك،"من الذين اتَّبعوا"، وهم الأتباع الضعفاء،"ورأوا العذاب".
2414- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا" قال، تبرأت القادةُ من الأتباع يوم القيامة.
2415- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، ابن جريج: قلت لعطاء:"إذ تبرَّأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا" قال، تبرأ رؤساؤهم وقادَتهم وساداتهم من الذين اتبعوهم.
* * *
وقال آخرون بما:-
2416- حدثني به موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "من الذين اتبعوا" مرة أخرى، والصواب"اتبعوهم" كما أثبت، وإلا لم يكن ذلك إلا تكرارًا بلا معنى.(3/287)
أسباط، عن السدي:"إذ تبرأ الذين اتُّبعُوا من الذين اتُّبعوا"، أما"الذين اتُّبعوا"، فهم الشياطين تبرأوا من الإنس.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول عندي في ذلك أنّ الله تعالى ذكره أخبرَ أنّ المتَّبَعين على الشرك بالله يتبرأون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله. ولم يخصص بذلك منهم بعضًا دون بعض، بل عَمّ جميعهم. فداخلٌ في ذلك كل متبوع على الكفر بالله والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتَّبعونه على الضلال في الدنيا، إذا عاينوا عَذابَ الله في الآخرة.
* * *
وأما دِلالة الآية فيمن عنى بقوله:"إذ تَبرأ الذين اتبعوا من الذين اتَّبعوا"، فإنها إنما تدل على أنّ الأنداد الذين اتخذهم مِن دون الله مَنْ وَصَف تعالى ذكره صفتَه بقوله:"ومنَ الناس مَن يَتخذُ من دُون الله أندادًا"، هم الذين يتبرأون من أتباعهم.
وإذ كانت الآيةُ على ذلك دَالّةً، صحّ التأويل الذي تأوله السدي في قوله: (1) "ومن الناس مَنْ يَتخذ من دون الله أندادًا"، أن"الأنداد" في هذا الموضع، إنما أريد بها الأندادُ من الرجال الذين يُطيعونهم فيما أمرُوهم به من أمر، ويَعصُون الله في طاعتهم إياهم، كما يُطيع اللهَ المؤمنون ويَعصون غيره = وفسد تأويل قول من قال: (2) "إذ تبرأ الذين اتُّبعوا من الذين اتَّبعوا"، إنهم الشياطين تَبرءوا من أوليائهم من الإنس. لأن هذه الآية إنما هي في سياق الخبر عن مُتخذي الأنداد.
* * *
__________
(1) انظر الأثر رقم: 2411.
(2) قوله: "وفسد" معطوف على قوله: "صح".(3/288)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ (166) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: أن الله شديد العذاب، إذ تبرأ الذين اتبعوا، وإذ تَقطعت بهم الأسباب.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في معنى"الأسباب". فقال بعضهم بما:-
2417- حدثني به يحيى بن طلحة اليربوعي قال، حدثنا فضيل بن عياض -وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير،- عن عبيد المكتب، عن مجاهد:"وتَقطعت بهمُ الأسباب" قال، الوصال الذي كان بينهم في الدنيا. (1)
2418- حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد قال، حدثنا يحيى بن يمان، عن سفيان، عن عبيد المكتب، عن مجاهد:"وتقطَّعت بهم الأسباب" قال، تواصلهم في الدنيا. (2)
2419 - حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد - جميعًا قالا حدثنا سفيان، عن عبيد المكتب، عن مجاهد بمثله.
__________
(1) الخبر: 2417- فضيل بن عياض بن مسعود التميمي الزاهد الخراساني: ثقة، قال ابن سعد: "كان ثقة ثبتًا فاضلا عابدًا ورعًا كثير الحديث". مات في أول المحرم سنة 187 بمكة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/123، والصغير: 209، وابن سعد 5: 366، وابن أبي حاتم 3/2/73.
وهذا الخبر يرويه أبو جعفر بإسنادين: من طريقي الفضيل بن عياض، ثم من طريقي جرير، وهو ابن عبد الحميد الضبي - كلاهما عن عبيد المكتب. ثم سيرويه عقب ذلك، بإسنادين آخرين: 2418، 2419، من رواية سفيان، وهو الثوري، عن عبيد المكتب.
و"عبيد المكتب"، بضم الميم وسكون الكاف وكسر التاء المثناة، من"الإكتاب"، أي تعليم الكتابة: هو عبيد بن مهران الكوفي، وهو ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 237، وابن أبي حاتم 3/1/2.
(2) الخبر: 2418- إسحاق بن إبراهيم بن حبيب بن الشهيد، شيخ الطبري: ثقة مأمون. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/1/211، وتاريخ بغداد 6: 370.(3/289)
2420- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نحيح، عن مجاهد:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، المودّة.
2421- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2422- حدثني القاسم قال، حدثني الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قال: تواصلٌ كان بينهم بالمودة في الدنيا.
2423- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى قال، أخبرني قيس بن سعد، عن عطاء، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره:"وتقطّعت بهم الأسباب" قال، المودة.
2424- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وتقطعت بهم الأسباب"، أسبابُ الندامة يوم القيامة، وأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها، ويتحابُّون بها، فصارت عليهم عداوةً يوم القيامة، ثم يوم القيامة يكفر بعضُكم ببعض، ويلعن بعضُكم بعضًا، ويتبرأ بعضُكم من بعض. وقال الله تعالى ذكره: (الأخِلاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ) [سورة الزخرف: 67] ، فصارت كل خُلَّة عداوة على أهلها إلا خُلة المتقين.
2425- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، هو الوصْل الذي كان بينهم في الدنيا.
2426- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وتقطعت بهم الأسباب"، يقول: الأسبابُ، الندامة.
* * *
وقال بعضهم: بل معنى"الأسباب"، المنازل التي كانت لهم من أهل الدنيا.(3/290)
* ذكر من قال ذلك:
2427- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وتقطعت بهم الأسباب"، يقول: تقطّعت بهم المنازلُ.
2428- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، عن أبي جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، الأسباب المنازل.
* * *
وقال آخرون:"الأسباب"، الأرحام.
* ذكر من قال ذلك:
2429- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، وقال ابن عباس:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، الأرحام.
* * *
وقال آخرون:"الأسباب"، الأعمال التي كانوا يعملونها في الدنيا.
* ذكر من قال ذلك:
2430- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أمّا"وتقطعت بهم الأسباب"، فالأعمال.
2431- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"وتقطعت بهم الأسباب" قال، أسباب أعمالهم، فأهل التقوى أعطوا أسبابَ أعمالهم وَثيقةً، فيأخذون بها فينجُون، والآخرون أعطوا أسبابَ أعمالهم الخبيثة، فتقطَّعُ بهم فيذهبون في النار.
* * *(3/291)
قال أبو جعفر: (1) "والأسباب"، الشيء يُتعلَّقُ به. قال: و"السبب" الحبل."والأسباب" جمع"سَبب"، وهو كل ما تسبب به الرجل إلى طَلبِته وحاجته. فيقال للحبل"سبب"، لأنه يُتسبب بالتعلق به إلى الحاجة التي لا يوصل إليها إلا بالتعلق به. ويقال للطريق"سبب"، للتسبب بركوبه إلى ما لا يدرك إلا بقطعه. وللمصاهرة"سبب"، لأنها سَببٌ للحرمة. وللوسيلة"سَبب"، للوصول بها إلى الحاجة، وكذلك كل ما كان به إدراك الطلبة، فهو"سبب" لإدراكها.
فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول في تأويل قوله: "وتقطعت بهم الأسباب" أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرَ أن الذين ظلموا أنفسهم -من أهل الكفر الذين ماتوا وهم كفار- يتبرأ = عند معاينتهم عذابَ الله = المتبوعُ من التابع، وتتقطع بهم الأسباب.
وقد أخبر تعالى ذكره في كتابه أن بَعضهم يلعنُ بعضًا، وأخبر عن الشيطان أنه يقول لأوليائه: (مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) [سورة إبراهيم: 22] ، وأخبر تعالى ذكره أنّ الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وأن الكافرين لا ينصر يومئذ بعضهم بعضًا، فقال تعالى ذكره: (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ) [سورة الصافات:24-25] وأنّ الرجل منهم لا ينفعه نسيبه ولا ذو رحمه، وإن كان نسيبه لله وليًّا، فقال تعالى ذكره في ذلك: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لأبِيهِ إِلا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) [سورة التوبة: 114] وأخبر تعالى ذكره أنّ أعمالهم تَصيرُ عليهم حسرات.
وكل هذه المعاني أسباب يتسبب في الدنيا بها إلى مطالب، فقطع الله منافعها في الآخرة عن الكافرين به، لأنها كانت بخلاف طاعته ورضاه، فهي منقطعة
__________
(1) من أول هذه الفقرة، كلام أبي جعفر، وأخشى أن يكون سقط شيء قبله. وهذا الابتداء على كل حال، جار على غير النهج الذي سار عليه كتابه من قبل ومن بعد.(3/292)
وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
بأهلها. فلا خِلالُ بعضهم بعضًا نَفعهم عند ورُودهم على ربهم، (1)
ولا عبادتُهم أندادهم ولا طاعتهم شياطينهم؛ ولا دافعت عنهم أرحامٌ فنصرتهم من انتقام الله منهم، ولا أغنت عنهم أعمالهم، بل صارت عليهم حسرات. فكل أسباب الكفار منقطعة.
فلا مَعْنِىَّ أبلغُ -في تأويل قوله:"وتقطعت بهم الأسباب"- من صفة الله [ذلك] وذلك ما بيَّنا من [تقطّع] جَميع أسبابهم دون بَعضها، (2) على ما قلنا في ذلك. ومن ادعى أن المعنيَّ بذلك خاص من الأسباب، سُئل عن البيان على دعواه من أصلٍ لا منازع فيه، وعورض بقول مخالفه فيه. فلن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"وقَال الذين اتَّبعوا"، وقال أتباع الرجال -الذين كانوا اتخذوهم أندادًا من دون الله يطيعونهم في معصية الله، ويَعصُون ربَّهم في طاعتهم، إذ يرون عَذابَ الله في الآخرة-:"لو أن لنا كرة".
* * *
يعني"بالكرة"، الرجعةَ إلى الدنيا، من قول القائل:"كررَت على القوم أكُرَّ كرًّا"، و"الكرَّة" المرة الواحدة، وذلك إذا حمل عليهم راجعًا عليهم بعد الانصراف عنهم، كما قال الأخطل:
__________
(1) في المطبوعة: "ينفعهم"، والصواب ما أثبت، فالأفعال قبله وبعده كلها ماضية. والخلال مصدر خاله (بشديد اللام) يخاله مخالة وخلالا: وهي الصداقة والمودة، يقول امرؤ القيس: صَرَفتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيَةِ الرَّدَى ... فَلَسْتُ بِمَقْلِيِّ الخِلالِ وَلاَ قَالي
(2) الزيادة التي بين الأقواس، لا بد منها حتى يستقم صدر الكلام وآخره، في الجملة التالية. ويعني بقوله"صفة الله": ما وصف الله سبحانه من تقطع أسباب الكافرين يوم القيامة، كالذي عدده آنفًا في الفقرة السالفة.(3/293)
وَلَقَدْ عَطَفْنَ عَلَى فَزَارَةَ عَطْفَةً ... كَرَّ الْمَنِيحِ، وَجُلْنَ ثَمَّ مَجَالا (1)
وكما:-
2432- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"وقال الذين اتَّبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا"، أي: لنا رجعةً إلى الدنيا.
2433- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وقال الذين اتبعوا لو أنّ لنا كرة" قال، قالت الأتباع: لو أن لنا كرة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا.
* * *
وقوله:"فنتبرأ منهم" منصوبٌ، لأنه جواب للتمني ب"الفاء". لأن القوم تمنوا رجعةً إلى الدنيا ليتبرأوا من الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله، كما تبرأ منهم رؤساؤهم الذين كانوا في الدنيا، المتبوعون فيها على الكفر بالله، إذْ عاينوا عَظيم النازل بهم من عذاب الله، (2) فقالوا: يا ليت لنا كرّة إلى الدنيا فنتبرأ منهم، و (يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [سورة الأنعام: 27]
* * *
__________
(1) ديوانه 48، ونقائض جرير والأخطل: 79. وفي المطبوعة: "كر المشيح"، وهو خطأ وفي الديوان"على قدارة"، وهو خطأ. وفزارة بن ذبيان بن بغيض. والمنيح: قدح لاحظ له في الميسر، وأقداح الميسر سبعة دوات أنصباء، وأربعة لا نصيب لها مع السبعة، ولكنها تعاد معها في كل ضربة. وقوله: "عطفن" يعني الخيل، ذكرها في بيت قبله. وقد مضى من هذه القصيدة أبيات في 2: 38، 39، 492، 496.
(2) في المطبوعة: "إذا عاينوا"، وهو خطأ.(3/294)
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}
قال أبو جعفر: ومعنى قوله:"كذلك يُريهمُ الله أعمالهم"، يقول: كما أراهم العذابَ الذي ذكره في قوله:"ورأوا العذاب"، الذي كانوا يكذبون به في الدنيا، فكذلك يُريهم أيضًا أعمالهم الخبيثة التي استحقوا بها العقوبة من الله"حسرات عليهم" يعني: نَدامات.
* * *
"والحسرات" جَمع"حَسْرة". وكذلك كل اسم كان واحده على"فَعْلة" مفتوح الأول ساكن الثاني، فإن جمعه على"فَعَلات" مثل"شَهوة وتَمرة" تجمع"شَهوات وتَمرات" مثقَّلة الثواني من حروفها. فأما إذا كان نَعتًا فإنك تَدع ثانيَه ساكنًا مثل"ضخمة"، تجمعها"ضخْمات" و"عَبْلة" تجمعها"عَبْلات"، وربما سُكّن الثاني في الأسماء، كما قال الشاعر: (1)
عَلَّ صُرُوفَ الدَّهْرِ أوْ دُولاتِهَا ... يُدِلْنَنَا اللَّمَّة مِنْ لَمَّاتِهَا ... فَتَسْتَرِيحَ النَّفْسُ مِنْ زَفْرَاتِهَا (2)
فسكنّ الثاني من"الزفرات"، وهي اسم. وقيل: إن"الحسرة" أشد الندامة.
* * *
__________
(1) لم أعرف قائله.
(2) سيأتي في التفسير 24: 43 / 30: 34 (بولاق) بزيادة بيت. والعيني 4: 396 واللسان (لمم) (زفر) (علل) وغيرها. والدولة (بفتح فسكون) والدولة (بضم الدال) : العقبة في المال والحرب وغيرهما، وهو الانتقال من حال إلى حال، هذا مرة وهذا مرة. ودالت الأيام: دارت بأصحابها. ويروي: "تديلنا" وأداله: جعل له العقبة في الأمر الذي يطلبه أو يتمناه، بتغيره وانتقاله عنه إلى حال أخرى. واللمة: النازلة من نوازل الدهر، كالملمة. والبيت الرابع الذي زاده الطبري: وَتَنْقَعُ الغُلّة من غُلاّتِها
والغلة: شدة العطش وحرارته. ونقع الغلة: سكنها وأطفأها وأذهب ظمأها.(3/295)
فإن قال لنا قائل: فكيف يَرَون أعمالهم حَسرات عليهم، وإنما يتندم المتندم عَلى تَرْك الخيرات وفوتها إياه؟ وقد علمت أنّ الكفار لم يكن لهم من الأعمال ما يتندّمون على تركهم الازديادَ منه، فيريهم الله قليلَه! (1) بل كانت أعمالهم كلها معاصيَ لله، ولا حسرةَ عليهم في ذلك، وإنما الحسرة فيما لم يَعملوا من طاعة الله؟
قيل: إن أهل التأويل في تأويل ذلك مختلفون، فنذكر في ذلك ما قالوا، ثم نخبر بالذي هو أولى بتأويله إن شاء الله.
فقال بعضهم: معنى ذلك: كذلك يريهم الله أعمالهم التي فرضها عليهم في الدنيا فضيَّعوها ولم يعملوا بها، حتى استوجب =ما كان الله أعدَّ لهم، لو كانوا عملوا بها في حياتهم، من المساكن والنِّعم= غيرُهمْ بطاعته ربَّه. (2) فصار ما فاتهم من الثواب -الذي كان الله أعدَّه لهم عنده لو كانوا أطاعوه في الدنيا، إذ عاينوه (3) عند دخول النار أو قبل ذلك- أسًى وندامةً وحسرةً عليهم.
* ذكر من قال ذلك:
2434- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كذلك يُريهم الله أعمالهم حَسرات عليهم"، زعم أنه يرفع لهم الجنة فينظرون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أنهم أطاعوا الله، فيقال لهم: تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تُقسَّم بين المؤمنين، فيرثونهم. فذلك حين يندمون.
2435- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان عن سلمة بن كهيل قال، حدثنا أبو الزعراء، عن عبد الله -في
__________
(1) قوله: "فيريهم الله قليله"، يعني به: فيريهم الله أنه قليل، فيتمنون أن لو كانوا ازدادوا من فعله حتى يكثر.
(2) سياق هذه الجملة: حتى استوجب غيرهم بطاعته ربه، ما كان الله أعد لهم. . . " فقدم وأخر وفصل، كعادته.
(3) في المطبوعة: "إذا عاينوه"، والصواب ما أثبت.(3/296)
قصة ذكرها- فقال: فليس نَفْسٌ إلا وهي تنظر إلى بَيتٍ في الجنة وبَيتٍ في النار، وهو يومُ الحسرة. قال: فيرى أهلُ النار الذين في الجنة، فيقال لهم: لو عَملتم! فتأخذهم الحسرة. قال: فيرى أهلُ الجنة البيتَ الذي في النار، فيقال: لولا أن منَّ الله عليكم! (1)
* * *
فإن قال قائل: وكيف يكون مضافًا إليهم من العمل ما لم يَعملوه على هذا التأويل؟
قيل: كما يُعرض على الرجل العملُ فيقال [له] قبل أن يعمله: (2) هذا عملك. يعني: هذا الذي يجب عليك أن تَعمله، كما يقال للرجل يَحضُر
__________
(1) الحديث: 2435- سفيان: هو الثوري. سلمة بن كهيل الحضرمي. سبق توثيقه: 439، ونزيد هنا أن الثوري قال: "كان ركنًا من الأركان". وقال أحمد: "سلمة متقن الحديث". وقال أبو زرعة: "كوفي ثقة مأمون ذكي". مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/75، وابن سعد 6: 221، وابن أبي حاتم 2/1/170-171، وتاريخ الإسلام 5: 81-82.
أبو الزعراء - بفتح الزاي والراء بينهما عين مهملة ساكنة؛ هو عبد الله بن هانئ أبو الزعراء الكبير، وهو خال سلمة بن كهيل. وهو ثقة من كبار التابعين. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 119، وابن أبي حاتم 2/2/195.
وهذا الحديث قطعة من حديث طويل - كما قال الطبري هنا: "في قصة ذكرها" وستأتي قطعة أخرى منه في الطبري 15: 97 (بولاق) . وهو حديث موقوف من كلام ابن مسعود ولكنه -عندنا- وإن كان موقوفًا لفظًا، فإنه مرفوع حكمًا، لأنه في صفة آخر الزمان، وما يأتي من الفتن، ثم فناء الدنيا، ثم البعث والنشور والشفاعة، وما إلى ذلك، مما لا يعلم بالرأي.
وقد رواه -بطوله كاملا- الحاكم في المستدرك 4: 496-498، من طريق الحسين بن حفص الإصبهاني، عن سفيان، بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. وهو كما قالا.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 10: 328-330، بطوله، وقال: رواه الطبراني وهو موقوف، مخالف للحديث الصحيح وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "أنا أول شافع"! هكذا قال الهيثمي ولم يذكر شيئًا عن إسناده. وليس هذا موضع التعقب على تعليله.
وروى أبو داود الطيالسي: 389- قطعة أخرى منه، عن يحيى بن سلمة بن كهيل، عن أبيه. و"يحيى بن سلمة". ضعيف جدًا. قال البخاري في الصغير، ص: 143"منكر الحديث" ولا يضر ضعف الإسناد عند الطيالسي، إذ جاء الحديث -كما ترى- بإسناد صحيح، من رواية سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل.
(2) ما بين القوسين زيادة يستقيم بها الكلام.(3/297)
غَداؤه قبل أن يَتغدى به: (1) هذا غَداؤك اليوم. يعني به: هذا ما تَتغدى به اليوم. فكذلك قوله:"كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم"، يعني: كذلك يُريهم الله أعمالهم التي كان لازمًا لهم العمل بها في الدنيا، حسرات عليهم.
* * *
وقال آخرون: كذلك يُريهم الله أعمالهم السيئة حسرات عليهم، لم عَملوها؟ وهلا عملوا بغيرها مما يُرضي الله تعالى ذكره؟
* ذكر من قال ذلك:
2436- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"كذلك يُريهم الله أعمالهم حسرات عليهم"، فصَارت أعمالهم الخبيثة حَسرةً عليهم يوم القيامة.
2437- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"أعمالهم حسرات عليهم" قال، أوليس أعمالهم الخبيثةُ التي أدخلهم الله بها النار؟ [فجعلها] حسرات عليهم. (2) قال: وجعل أعمالَ أهل الجنة لهم، وقرأ قول الله: (بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأيَّامِ الْخَالِيَةِ) [سورة الحاقة: 24]
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية تأويل من قال: معنى قوله:"كذلك يُريهم الله أعمالهمْ حَسرات عليهم"، كذلك يُرِي الله الكافرين أعمالهم الخبيثة حسرات عليهم، لم عملوا بها؟ وهلا عملوا بغيرها؟ فندموا على ما فرط منهم من أعمالهم الرديئة، إذ رأوا جزاءها من الله وعقابها، (3) لأن الله أخبر أنه يريهم أعمالهم ندمًا عليهم.
__________
(1) في المطبوعة: "كما يقال للرجل"، وزيادة الواو لازمة.
(2) الزيادة بين القوسين مما يستقيم به معنى الكلام، ليطابق القول الذي قاله هؤلاء. ويوافق الشطر الثاني من هذا الخبر في ذكر أعمال أهل الجنة.
(3) في المطبوعة: "إذا رأوا جزاءها"، والصواب ما أثبت.(3/298)
فالذي هو أولى بتأويل الآية، ما دلّ عليه الظاهرُ دون ما احتمله الباطن الذي لا دلالة له على أنه المعنيُّ بها. (1) والذي قال السدي في ذلك، وإن كان مَذهبًا تحتمله الآية، فإنه مَنزع بعيد. ولا أثر -بأنّ ذلك كما ذكر- تقوم به حُجة فيسلم لها، (2) ولا دلالة في ظاهر الآية أنه المراد بها. فإذْ كان الأمر كذلك، لم يُحَلْ ظاهر التنزيل إلى باطن تأويل. (3)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: وما هؤلاء الذين وصَفتهم من الكفار =وإنْ نَدموا بعد معاينتهم مَا عاينوا من عذاب الله، فاشتدت ندامتهم على ما سلف منهم من أعمالهم الخبيثة، وتمنَّوا إلى الدنيا كرةً ليُنيبوا فيها، ويتبرأوا من مُضليهم وسادتهم الذين كانوا يطيعونهم في معصية الله فيها = بخارجين من النار التي أصلاهُموها الله بكفرهم به في الدنيا، ولا ندمُهم فيها بمنجيهم من عذاب الله حينئذ، ولكنهم فيها مخلدون.
* * *
وفي هذه الآية الدلالةُ على تكذيب الله الزاعمين أن عَذابَ الله أهلَ النار من أهل الكفر مُنقضٍ، وأنه إلى نهاية، ثم هو بعدَ ذلك فانٍ. لأن الله تعالى ذكره أخبرَ عن هؤلاء الذين وصف صفتهم في هذه الآية، ثم ختم الخبر عنهم بأنهم غيرُ خارجين من النار، بغير استثناء منه وَقتًا دون وقت. فذلك إلى غير حدّ ولا نهاية.
* * *
__________
(1) انظر تفسير معنى: "الظاهر، والباطن" فيما سلف 2: 15، واطلبه في فهرس المصطلحات.
(2) في المطبوعة: "تقوم له حجة"، وهو خطأ، صوابه ما أثبت.
(3) في المطبوعة: "فإذا كان الأمر. . . "، والصواب ما أثبت. وقوله: "لم يحل" من أحال الشيء يحيله: إذا حوله من مكان إلى مكان، أو من وجه إلى وجه.(3/299)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأرْضِ حَلالا طَيِّبًا وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يا أيّها الناسُ كلوا مما أحللت لكم من الأطعمة على لسان رسولي محمد صلى الله عليه وسلم فطيَّبْته لكم - مما تُحرِّمونه عَلى أنفسكم من البحائر والسوائب والوصائل وما أشبه ذلك مما لم أحرِّمه عليكم = دون مَا حرَّمته عليكم من المطاعم والمآكل فنجَّسته من مَيتة ودم ولحم خنزير وما أهِلّ به لغيري. ودَعوا خُطوات الشيطان - الذي يوبقكم فيهلككم، ويوردكم مَوارد العطب، ويحرّم عليكم أموالكم - فلا تتبعوها ولا تعملوا بها، إنه = يعني بقوله:"إنه" إنّ الشيطان، و"الهاء" في قوله:"إنه" عائدة على الشيطان = لكم أيها الناس"عدو مُبين"، يعني: أنه قد أبان لكم عَداوته، بإبائه عن السجود لأبيكم، وغُروره إياه حَتى أخرجه من الجنة، واستزله بالخطيئة، وأكل من الشجرة.
يقول تعالى ذكره: فلا تنتصحوه، أيها الناس، مع إبانته لكم العداوة، ودعوا ما يأمركم به، والتزموا طاعتي فيما أمرتكم به ونهيتكم عنه مما أحللته لكم وحرَّمته عليكم، دون ما حرمتموه أنتم على أنفسكم وحللتموه، طاعة منكم للشيطان واتباعًا لأمره.
* * *
ومعنى قوله:"حَلالا"، طِلْقًا. (1) وهو مصدر من قول القائل:"قد حَلَّ لك هذا الشيء"، أي صار لك مُطلقًا، (2) "فهو يَحِلُّ لك حَلالا وحِلا"، ومن
__________
(1) الطلق (بكسر فسكون) . الحلال. يقال: هو لك طلق، أي حلال. وفي الحديث: "الخيل طلق"، أي أن الرهان عليها حلال.
(2) هكذا في المطبوعة، وأخشى أن يكون الصواب فيما كتب الطبري"طلقًا" كما سلف، وكما سيأتي في عبارته.(3/300)
كلام العرب:"هو لك حِلٌّ"، أي: طِلْق. (1) .
* * *
وأما قوله:"طيبًا" فإنه يعني به طاهرًا غير نَجس ولا محرَّم.
* * *
وأما"الخطوات" فإنه جمع"خُطوة"، و"الخطوة" بعد ما بين قدمي الماشي. و"الخطوة" بفتح"الخاء""الفعلة" الواحدة من قول القائل:"خَطوت خَطوة واحدةً". وقد تجمع"الخُطوة""خُطًا" و"الخَطْوة" تجمع"خَطوات"،"وخِطاء".
* * *
والمعنى في النهي عن اتباع خُطواته، النهي عن طريقه وأثره فيما دعا إليه، مما هو خلاف طاعة الله تعالى ذكره.
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى"الخطوات". فقال بعضهم: خُطُوات الشيطان: عمله.
* ذكر من قال ذلك:
2438- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"خطوات الشيطان"، يقول: عمله.
* * *
وقال بعضهم:"خطوات الشيطان"، خَطاياه.
* ذكر من قال ذلك:
2439- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"خُطُوات الشيطان" قال، خطيئته.
2440- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: خَطاياه.
__________
(1) في المطبوعة: "من كلام العرب. . . "، وأثبت الواو، وحذفها جيد أيضًا.(3/301)
2441- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تتَّبعوا خُطُوات الشيطان" قال، خطاياه.
2442- حدثني يحيى بن أبي طالب قال، حدثنا يزيد قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قوله:"خطوات الشيطان" قال، خطايا الشيطان التي يأمرُ بها.
* * *
وقال آخرون:"خطوات الشيطان"، طاعته.
* ذكر من قال ذلك:
2443- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تتبعوا خطوات الشيطان"، يقول: طاعته.
* * *
وقال آخرون:"خطوات الشيطان"، النذورُ في المعاصي.
* ذكر من قال ذلك:
2444- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن سليمان، عن أبي مجلز في قوله:"ولا تتّبعوا خُطوات الشيطان" قال، هي النذور في المعاصي.
* * *
قال أبو جعفر: وهذه الأقوال التي ذكرناها عمن ذكرناها عنه في تأويل قوله:"خطوات الشيطان"، قريبٌ معنى بعضها من بعض. لأن كل قائلٍ منهم قولا في ذلك، فإنه أشار إلى نَهي اتباع الشيطان في آثاره وأعماله. غيرَ أن حقيقة تأويل الكلمة هو ما بينت، من أنها"بعد ما بين قَدميه"، ثم تستعمل في جميع آثاره وطُرقه، على ما قد بينت.
* * *(3/302)
إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (169) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنما يأمرُكم"، الشيطانَ،"بالسوء والفحشاء وأن تَقولوا على الله ما لا تعلمون".
* * *
"والسوء": الإثم، مثل"الضُّرّ"، من قول القائل:"ساءك هذا الأمر يَسوءك سُوءًا"، وهو ما يَسوء الفاعل.
* * *
وأما"الفحشاء"، فهي مصدر مثل"السراء والضراء"، (1) وهي كل ما استُفحش ذكرُه، وقَبُح مَسموعه.
وقيل: إن"السوء" الذي ذكره الله، هو معاصي الله. فإن كان ذلك كذلك، فإنما سَمَّاها الله"سوءًا" لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند الله. وقيل: إن"الفحشاء"، الزنا: فإن كان ذلك كذلك، فإنما يُسمى [كذلك] ، (2) لقبح مسموعه، ومكرُوه ما يُذْكَر به فاعله.
* ذكر من قال ذلك:
2445- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"إنما يأمركم بالسوء والفحشاء"، أمّا"السوء"، فالمعصية، وأما"الفحشاء"، فالزنا.
* * *
وأما قوله:"وأنْ تَقولوا على الله مَا لا تعلمون"، فهو ما كانوا يحرِّمون من البحائر والسوائب والوَصائل والحوامي، ويزعمون أن الله حرَّم ذلك. فقال تعالى
__________
(1) لعل الصواب، "فهي اسم مصدر".
(2) ما بين القوسين زيادة يستقيم بها الكلام.(3/303)
ذكره لهم: (مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) [سورة المائدة: 103] فأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية، (1) أنّ قيلهم:"إنّ الله حرم هذا! " من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان، وأنه قد أحلَّه لهم وطيَّبه، ولم يحرم أكله عليهم، ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته، طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا منهم خطواته، واقتفاء منهم آثارَ أسلافهم الضُّلال وآبائهم الجهال، الذين كانوا بالله وبما أنزل على رسوله جُهالا وعن الحق ومنهاجه ضُلالا - وإسرافًا منهم، كما أنزل الله في كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى ذكره:"وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنزل اللهُ قَالوا بَلْ نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا".
* * *
__________
(1) في المطبوعة، "وأخبرهم" بالواو، والصواب الجيد ما أثبت.(3/304)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ (170) }
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية وجهان من التأويل.
أحدهما: أن تكون"الهاء والميم" من قوله:"وإذا قيلَ لهم" عائدة على"من" في قوله:"ومنَ الناس مَنْ يَتخذُ من دون الله أندادًا"، فيكون معنى الكلام: ومن الناس مَنْ يَتخذُ من دُون الله أندادًا، وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله. قالوا: بل نتبع ما ألفينا عَليه آباءنا.
والآخر: أن تكون"الهاء والميم" اللتان في قوله:"وإذا قيل لهم"، من ذكر"الناس" الذين في قوله:"يا أيها الناسُ كلوا مما في الأرض حَلالا طيبًا"، فيكون(3/304)
ذلك انصرافًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب، كما في قوله تعالى ذكره: (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) [سورة يونس: 22]
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه عندي بالصواب وأولى بتأويل الآية (1) أن تكون"الهاء والميم" في قوله:"لهم"، من ذكر"الناس"، وأن يكون ذلك رجوعًا من الخطاب إلى الخبر عن الغائب. لأن ذلك عَقيب قوله:"يا أيها الناس كلوا مما في الأرض". فلأنْ يكون خبرًا عنهم، أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبرَ أنّ منهم"مَنْ يَتخذ من دُون الله أندادًا"، مع ما بينهما من الآيات، وانقطاع قَصَصهم بقصة مُستأنفة غيرها = وأنها نزلت في قوم من اليهود قالوا ذلك، (2) إذ دعوا إلى الإسلام، كما:-
2446- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، أو عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: دَعا رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهودَ من أهل الكتاب إلى الإسلام ورَغَّبهم فيه، وحذرهم عقاب الله ونقمته، فقال له رَافع بن خارجة، ومَالك بن عوف: بل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا، فإنهم كانوا أعلم وخيرًا منا! فأنزل الله في ذلك من قولهما (3) "وإذا قيلَ لهُم اتبعوا ما أنزل اللهُ قالوا بَل نتِّبع ما ألفينا عَليه
__________
(1) في المطبوعة: "وأشبه عندي وأولى بالآية"، وهو كلام مختل، ورددته إلى عبارة الطبري في تأويل أكثر الآيات السالفة.
(2) في المطبوعة: "وإنما نزلت في قوم من اليهود"، وهو خطأ ناطق، واضطراب مفسد للكلام. والصواب ما أثبت. يقول أبو جعفر إن أولى الأقوال بالصواب أن تكون الآية نزلت في ذكر عرب الجاهلية الذين حرموا ما حرموا على أنفسهم، كما ذكر في تفسير الآيتين السالفتين (168، 169) ، ويستبعد أن يكون المعنى بها من ورد ذكرهم في الآية (165) ، كما يستبعد قول من قال إنها نزلت في اليهود، في الخبر الذي سيرويه بعد. فقوله: "وأنها نزلت" عطف على قوله"خبرًا" في قوله: "أولى من أن يكون خبرًا عن الذين أخبر أن منهم من يتخذ. . . ".
(3) في المطبوعة: "فأنزل الله من قولهم ذلك". وهو خطأ محض، ورددتها إلى نصها في سيرة ابن هشام، كما سيأتي مرجعه.(3/305)
آباءنا أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئًا ولا يَهتدون". (1)
2447- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا محمد بن إسحاق قال، حدثني محمد بن أبي محمد مولى زيد بن ثابت قال، حدثني سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس مثله - إلا أنه قال: فقال له أبو رَافع بن خارجة، ومالك بن عوف. (2)
* * *
وأما تأويل قوله:"اتبعوا ما أنزلَ الله"، فإنه: اعملوا بما أنزل الله في كتابه على رسوله، فأحِلُّوا حلاله، وحرِّموا حرامه، واجعلوه لكم إمامًا تأتمون به، وقائدًا تَتبعون أحكامه.
* * *
وقوله:"ألفينا عَليه آباءنا"، يعني وَجدنا، كما قال الشاعر: (3)
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلا ذَاكِرِ اللهَ إلا قَلِيلا (4)
__________
(1) الأثر رقم: 2446- في سيرة ابن هشام 2: 200-201، مع اختلاف يسير في لفظه.
(2) الأثر رقم: 2447- انظر الأثر: 2446.
(3) هو أبو الأسود الدؤلي.
(4) ديوانه: 49 (نفائس المخطوطات) ، سيبوبه 1: 85، والأغاني 11: 107، وأمالي بن الشجرى 1: 283 والصدقة والصديق: 151، والخزانة 4: 554، وشرح شواهد المغني: 316، واللسان (عتب) . وهو من أبيات قالها في امرأة كان يجلس إليها بالبصرة، وكانت برزة جميلة، فقالت له يومًا: يا أبا الأسود، هل لك أن أتزوجك؟ فإني امرأة صناع الكف، حسنة التدبير، قانعة بالميسور. قال: نعم. فجمعت أهلها وتزوجته. ثم إنه وجدها على خلاف ما قالت، فأسرعت في ماله، ومدت يدها في خيانته، وأفشت عليه سره، فغدا على من كان حضر تزويجه، فسألهم أن يجتمعوا عنده، ففعلوا. فقال لهم: أَرَيْتَ امْرءًا كنتُ لَمْ أَبْلُهُ ... أتَانِي، فَقَالَ: اتّخِذْنِي خليلاَ
فخالَلْتَهُ، ثُمَّ صَافيْتُه ... فَلَمْ أَسْتَفِدْ مِنْ لَدُنْهُ فتيلاَ
وَأَلفَيْتُهُ حِينَ جَرَّبْتُه ... كَذُوبَ الحَدِيثِ سَرُوقًا بَخِيلاَ
فَذَكَّرْتُه، ثُمَّ عَاتبتُهُ ... عِتَابًا رَفِيقًا وَقَوْلاً جَمِيلاَ
فَأَلْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... وَلاَ ذَاكِرِ اللهَ إلاَّ قَلِيلاَ
أَلسْتُ حَقِيقًا بِتَوْدِيعِهِ ... وَإتْبَاع ذلِكَ صَرْمًا طَوِيلاَ?!
قالوا: بلى والله يا أبا الأسود! قال: تلك صاحبتكم، وقد طلقتها، وأنا أحب أن أستر ما أنكرت من أمرها. ثم صرفها معهم.
قال ابن الشجرى: "والذي حسن لقائل هذا البيت حذف التنوين لالتقاء الساكنين، ونصب اسم الله تعالى، واختيار ذلك على حذف التنوين للإضافة وجر اسم الله - أنه لو أضاف لتعرف بإضافته إلى المعرفة، ولو فعل ذلك لم يوافق المعطوف المعطوف عليه في التنكير، فحذف التنوين لالتقاء الساكنين، وأعمل اسم الفاعل".
واستعجب الرجل: رجع عن الإساءة وطلب الرضا، فهو مستعتب.(3/306)
يعني: وجدته، وكما:-
2448- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"قالوا بَل نَتبع ما ألفينا عليه آباءنا"، أي: ما وجدنا عليه آباءنا.
2449- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله.
قال أبو جعفر: فمعنى الآية: وإذا قيل لهؤلاء الكفار: كلوا مما أحلّ الله لكم، ودَعوا خُطوات الشيطان وطريقه، واعملوا بما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في كتابه - استكبروا عن الإذعان للحقّ وقالوا: بل نأتم بآبائنا فنتَّبع ما وجدناهم عليه، من تحليل ما كانوا يُحلُّون، وتحريم ما كانوا يحرّمون.
* * *
قال الله تعالى ذكره:"أوَ لو كانَ آباؤهم" -يعني: آباء هؤلاء الكفار الذين مضوا على كفرهم بالله العظيم-"لا يعقلون شيئًا" من دين الله وفرائضه، وأمره ونهيه، فيُتَّبعون على ما سَلكوا من الطريق، ويؤتمُّ بهم في أفعالهم -"ولا يَهتدون" لرشد، فيهتدي بهم غيرهم، ويَقتدي بهم من طَلب الدين، وأراد الحق والصواب؟
يقول تعالى ذكره لهؤلاء الكفار: فكيف أيها الناس تَتَّبعون ما وجدتم عليه(3/307)
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
آباءكم فتتركون ما يأمرُكم به ربكم، وآباؤكم لا يعقلون من أمر الله شيئًا، ولا هم مصيبون حقًّا، ولا مدركون رشدًا؟ وإنما يَتّبع المتبعُ ذا المعرفة بالشيء المستعملَ له في نفسه، فأما الجاهل فلا يتبعه -فيما هو به جاهل- إلا من لا عقل له ولا تمييز.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلا دُعَاءً وَنِدَاءً}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
* * *
فقال بعضهم: معنى ذلك: مثل الكافر =في قلة فهمه عن الله ما يُتلى عليه في كتابه، وسُوء قبوله لما يدعى إليه من توحيد الله ويوعظ به= مثلُ البهيمة التي تسمع الصوتَ إذا نُعق بها، ولا تعقلُ ما يقال لها.
* ذكر من قال ذلك:
2450- حدثنا هناد بن السريّ قال، حدثنا أبو الأحوص، عن سماك، عن عكرمة، في قوله:"ومثلُ الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يَسمع إلا دعاء ونداءً" قال، مَثلُ البعير أو مثل الحمار، تدعوه فيسمع الصوت ولا يفقه ما تقول.
2451- حدثني محمد بن عبد الله بن زريع قال، حدثنا يوسف بن خالد السمتي قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"كمثل الذي يَنعق بما لا يَسمع" قال، هو كمثل الشاة ونحو ذلك. (1) .
__________
(1) الخبر: 2451- هذا خبر منهار الإسناد. أما"محمد بن عبد الله بن زريع" شيخ الطبري فلم أجد ترجمته. والطبري يروي عن"محمد بن عبد الله بن بزيع"، ولا أستطيع الترجيح بأنه هو، حرف اسم جده.
وأما"يوسف بن خالد السمتي": فهو ضعيف جدًا، قال فيه ابن معين: "كذاب، زنديق، لا يكتب حديثه". ولا يشتغل بمثله. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/388، وابن سعد 7/2/47، وابن أبي حاتم 4/2/221-222. و"السمتي": بفتح السين وسكون الميم، نسبة إلى السمت والهيئة. قال ابن سعد: "وقيل له: السمتي - للحيته وهيئته وسمته"!!
نافع بن مالك: هو الأصبحي، أبو سهيل، وهو عم الإمام مالك بن أنس، وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/86، وابن أبي حاتم 4/1/453.(3/308)
2452- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ومثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمع إلا دعاءً ونداءً"، كمثل البعير والحمار والشاة، إن قلت لبعضها"كُلْ" - لا يعلم ما تقول، غير أنه يسمع صوتك. وكذلك الكافر، إن أمرته بخير أو نهيته عن شر أو وَعظته، لم يعقل ما تقول غير أنه يسمع صوتك.
2453- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال ابن عباس: مثل الدابة تنادى فتسمعُ ولا تعقل ما يقال لها. كذلك الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل.
2454- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد:"كمثل الذي ينعق بما لا يسمع" قال، مثل الكافر مثل البهيمة تسمع الصوت ولا تعقل.
2455- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كمثل الذي ينعِق"، مثلٌ ضربه الله للكافر يسمع ما يقال له ولا يعقل، كمثل البهيمة تسمع النعيقَ ولا تعقل.
2456- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ومثل الذين كفروا كمثل الذي ينعق بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً"، يقول: مثل الكافر كمثل البعير والشاة، يسمع الصوت ولا يعقل ولا يدري ما عُني به.(3/309)
2457- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كمثل الذي ينعقُ بما لا يسمع إلا دعاءً ونداءً" قال، هو مثل ضربه الله للكافر. يقول: مَثل هذا الكافر مثل هذه البهيمة التي تسمع الصوت ولا تدري ما يقال لها. فكذلك الكافر لا ينتفع بما يقال له.
2458- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قال: هو مَثل الكافر، يسمع الصوت ولا يعقل ما يقال له.
2459- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج: سألت عطاء ثم قلت له: يقال: لا تعقل -يعني البهيمة- إلا أنها تسمع دُعاء الداعي حين ينعِقُ بها، فهم كذلك لا يَعقلون وهم يسمعون. فقال: كذلك. قال: وقال مجاهد:"الذي ينعِق"، الراعي"بما لا يسمع" من البهائم.
2460- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"كمثل الذي ينعق" الراعي"بما لا يسمع" من البهائم.
2461- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو، قال حدثنا أسباط، عن السدي:"كمثل الذي ينعِق بما لا يَسمع إلا دُعاء ونداءً"، لا يعقل ما يقال له إلا أن تُدعي فتأتي، أو ينادَى بها فتذهب. وأما"الذي ينعق"، فهو الراعي الغنم، كما ينعق الراعي بما لا يسمع ما يقال له، إلا أن يُدعى أو ينادى. فكذلك محمد صلى الله عليه وسلم، يدعو من لا يسمع إلا خرير الكلام، يقول الله: (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ) [سورة البقرة: 18]
* * *
قال أبو جعفر: ومعنى قائلي هذا القول - في تأويلهم ما تأوَّلوا، على ما حكيت عنهم -: ومثَلُ وَعْظِ الذين كفروا وواعظهم، كمثل نَعْق الناعق بغنمه(3/310)
ونعيقِه بها. فأضيف"المثل" إلى الذين كفروا، وترك ذكر"الوعظ والواعظ"، لدلالة الكلام على ذلك. كما يقال:"إذا لقيت فلانًا فعظِّمه تعظيمَ السلطان"، يراد به: كما تعظم السلطانَ، وكما قال الشاعر:
فَلَسْتُ مُسَلِّمًا مَا دُمْتُ حَيًّا ... عَلَى زَيْدٍ بِتَسْلِيمِ الأمِير (1)
يراد به: كما يُسلِّم على الأمير.
وقد يحتمل أن يكون المعنى -على هذا التأويل الذي تأوله هؤلاء-: ومثل الذين كفروا في قلة فهمهم عن الله وعن رسوله، كمثل المنعوق به من البهائم، الذي لا يَفقه من الأمر والنهي غير الصوت. وذلك أنه لو قيل له:"اعتلف، أورِدِ الماء"، لم يدر ما يقال له غير الصوت الذي يسمعه من قائله. فكذلك الكافر، مَثله في قلة فهمه لما يؤمر به وينهى عنه -بسوء تدبُّره إياه وقلة نظره وفكره فيه- مَثلُ هذا المنعوق به فيما أمِر به ونُهِي عنه. فيكون المعنى للمنعوق به، والكلام خارجٌ على الناعق، كما قال نابغة بني ذبيان:
وَقَدْ خِفْتُ، حَتَّى مَا تَزِيدُ مَخَافَتِي ... عَلَى وَعِلٍ فِي ذِي المَطَارَة عَاقِلِ (2)
والمعنى: حتى مَا تزيدُ مخافة الوعل على مخافتي، وكما قال الآخر: (3)
__________
(1) مضى تخريج هذا البيت في هذا الجزء: 281 تعليق: 1، وهذا القول في تفسير الآية ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 100.
(2) ديوانه: 90، وسيأتي في التفسير 30: 146 (بولاق) ، ومجاز القرآن: 65، ومعاني القرآن للفراء 1: 99، ومشكل القرآن: 151، والإنصاف: 164، وأمالي بن الشجرى 1: 52، 324، وأمال الشريف 1: 202، 216، ومعجم ما استعجم: 1238. وهو من قصيدة مضى منها تخريج بيت في هذا الجزء: 213. وقوله: "ذي المطارة" (بفتح الميم) ، وهو اسم جبل. وعاقل: قد عقل في رأس الجبل، لجأ إليه واعتصم به وامتنع. والوعل: تيس الجبل: يتحصن بوزره من الصياد. وقد ذكر البكري أنه رأى لابن الأعرابي أنه يعني بذي المطارة (بضم الميم) ناقته، وأنها مطارة الفؤاد من النشاط والمرح. ويعني بذلك: ما عليها من الرحل والأداة. يقول: كأني على رحل هذه الناقة وعلى عاقل من الخوف والفرق.
(3) النابغة الجعدي.(3/311)
كَانَتْ فَرِيضَةُ مَا تَقُولُ، كَمَا ... كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ (1)
والمعنى: كما كان الرجمُ فريضة الزنا، فجعل الزنا فريضة الرجم، لوضوح معنى الكلام عند سامعه، وكما قال الآخر:
إنّ سِرَاجًا لَكَرِيمٌ مَفْخَرُه ... تَحْلَى بِهِ العَيْنُ إذَا مَا تَجْهَرُهْ (2)
والمعنى: يَحلى بالعين، فجعله تحلى به العين. (3) ونظائر ذلك من كلام العرب أكثرُ من أن تحصى، مما تُوجِّهه العرب من خبر ما تخبر عنه إلى ما صاحَبَه، لظهور معنى ذلك عند سامعه، فتقول:"اعرِض الحوضَ على الناقة"، وإنما تعرض الناقة على الحوض، وما أشبه ذلك من كلامها. (4)
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ومَثل الذين كفروا في دُعائهم آلهتهم وأوثانهم التي لا تسمع ولا تعقل، كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً، وذلك الصدى الذي يسمع صوته، ولا يفهم به عنه الناعقُ شيئًا.
فتأويل الكلام على قول قائلي ذلك: ومثل الذين كفروا وآلهتهم -في دعائهم إياها وهي لا تفقه ولا تعقل- كمثل الناعق بما لا يسمعه الناعقُ إلا دعاءً ونداءً، أي: لا يسمع منه الناعق إلا دعاءَه.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) سيأتي في التفسير 2: 198، 327 (بولاق) ، ومعاني القرآن للفراء 1: 99، 131، ومشكل القرآن: 153، والإنصاف: 165، وأمالي الشريف 1: 216، والصاحبي: 172، وسمط اللآلي: 368، واللسان (زنا) . وقال الطبري في 2: 327، "يعني: كما كان الرجم الواجب من حد الزنا".
(2) سيأتي في التفسير: (2؛ 198 بولاق) ، ومعاني القرآن للفراء 1: 99، 131، وأمالي الشريف 1: 216، واللسان (حلا) . يقال: "ما في الحي أحد تجهره عيني"، أي تأخذه عيني فيعجبني. وفي حديث صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول علي: "لم يكن قصيرًا ولا طويلا، وهو إلى الطول أقرب. من رآه جهره"، أي عظم في عينه.
(3) هذا الذي مضى أكثر من قول الفراء في معاني القرآن 1: 99.
(4) هذا من نص كلام أبي عبيدة في مجاز القرآن: 63-64.(3/312)
2462- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ومَثل الذين كفروا كمثل الذي يَنعِق بما لا يَسمعُ إلا دعاءً ونداءً" قال، الرجل الذي يصيح في جَوف الجبال فيجيبه فيها صوت يُراجعه يقال له"الصَّدى". فمثل آلهة هؤلاء لَهم، كمثل الذي يُجيبه بهذا الصوت، لا ينفعه، لا يَسمع إلا دعاء ونداء. قال: والعرب تسمي ذلك الصدى.
* * *
وقد تحتمل الآية على هذا التأويل وجهًا آخر غير ذلك. وهو أن يكون معناها: ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم التي لا تفقه دعاءَهم، كمثل الناعق بغنم لهُ من حيث لا تسمعُ صوتَه غنمُه، فلا تنتفع من نَعقِه بشيء، غير أنه في عَناء من دعاء ونداء، فكذلك الكافر في دعائه آلهته، إنما هو في عناء من دعائه إياها وندائه لها، ولا ينفعه شيء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويل عندي بالآية، التأويل الأول الذي قاله ابن عباس ومَن وافقه عليه. وهو أن معنى الآية: ومثل وَعظ الكافر وواعظه، كمثل الناعق بغنمه ونَعيقه، فإنه يسمع نَعقه ولا يعقل كلامه، على ما قد بينا قبل.
فأما وَجه جَواز حذف"وعظ" اكتفاء بالمثل منه، فقد أتينا على البيان عنه في قوله: (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا) [سورة البقرة: 17] ، وفي غيره من نظائره من الآيات، بما فيه الكفاية عن إعادته. (1) .
* * *
وإنما اخترنا هذا التأويل، لأن هذه الآية نزلت في اليهود، وإياهم عَنى الله تعالى ذكره بها، ولم تكن اليهود أهل أوثان يَعبدونها، ولا أهل أصنام يُعظمونها ويرجون نَفعها أو دَفع ضرها. ولا وجه -إذ كان ذلك كذلك- لتأويل من
__________
(1) انظر ما سلف 1: 318-328، واطلب ذلك في فهرس العربية من الجزاء السالفة.(3/313)
تأوّل ذلك أنه بمعنى: مَثل الذين كفروا في ندائهم الآلهة ودُعائهم إياها.
* * *
فإن قال قائل: وما دليلك على أنّ المقصود بهذه الآية اليهود؟
قيل: دليلنا على ذلك مَا قبلها من الآيات وما بعدها، فإنهم هم المعنيون به. فكان ما بينهما بأن يكون خبرًا عنهم، أحق وأولى من أن يكون خبرًا عن غيرهم، حتى تأتي الأدلة واضحةً بانصراف الخبر عنهم إلى غيرهم. هذا، مع ما ذكرنا من الأخبار عَمن ذكرنا عنه أنها فيهم نزلت، والرواية التي روينا عن ابن عباس أنّ الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم. (1) وبما قُلنا من أن هذه الآية معنيّ بها
__________
(1) هذا موضع مشكل في كلام أبي جعفر رضي الله عنه، كان ينبغي أن يبينه فضل بيان. فإن صدر عبارته قاض بأن كل الآيات التي قبل هذه الآية نزلت في يهود، وليس كذلك. ثم عاد بعد قليل يقول: "هذا مع الرواية التي رويناها عن ابن عباس أن الآية التي قبل هذه الآية نزلت فيهم" -يعني في يهود. ولو كان الأمر كما يفهم من صدر عبارته، لم يكن لنصه بعد ذلك على أن الآية التي"قبل هذه الآية" نزلت فيهم، فيما روي عن ابن عباس- معنى مفهوم.
والظاهر أن أبا جعفر كان أراد أن يقول: إن الآيات السالفة نزلت في اليهود - إلا الآيات الأخيرة من أول قوله: "إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار" إلى قوله: "وإلهكم إله وحد" (163-170) ، فهي قد نزلت في كفار العرب، وذكر ابن عباس أن الآية الأخيرة: (170) نزلت في يهود أيضًا. ثم إن الآيات بعدها هي ولا شك في يهود وأهل الكتاب، فلذلك حمل معنى الآية هذه أنه مراد به اليهود. فكأنه جعل الآيات من (163-169) اعتراضًا في سرد قصة واحدة، هي قصة يهود.
فإن لم يكن ذلك كذلك، فلست أدري كيف يتسق كلامه. فهو منذ بدأ في تفسير هذه الآيات من 163-169 لم يذكر إلا أهل الشرك وحدهم، وبين أن المقصود بقوله تعالى: "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا" - هم الذين حرموا على أنفسهم البحائر والسوائب والوصائل (ص 300) ، ثم عاد في تأويل قوله تعالى: "وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" فقال: فهو ما كانوا يحرمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي (ص 303) . واليهود، كما أنهم لم يكونوا أهل أوثان يعبدونها، أو أصنام يعظمونها كما قال أبو جعفر، فهم أيضًا لم يحرموا بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة كما ذكر في تفسير الآيات السالفة. فهذا تناقض منه ر حمه الله - إلا إذا حمل كلامه على استثناء الآيات التي ذكرت أنه فسرها على أنه مراد بها مشركوا العرب الذين حرموا على أنفسهم ما حرموا من البحائر والسوائب والوصائل.
والصواب من القول عندي، أن هذه الآية تابعة للآيات السالفة، وأن قصتها شبيهة بقصة ما قبلها في ذكر المشركين الذي قال الله لهم: "يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبًا"، وأن العود إلى قصة أهل الكتاب هو من أول قوله تعالى: "إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" والآيات التي تليها. وانظر ما سيأتي: 317، فإنه قد عاد هناك، فجعل الآية خاصة بالمشركين من أهل الجاهلية، بذكره ما حرموا على أنفسهم من المطاعم، وهو تناقض شديد.(3/314)
اليهود، كان عطاء يقول:
2463- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال لي عطاء في هذه الآية: هم اليهود الذين أنزل الله فيهم: (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا) إلى قوله: (فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ) [سورة البقرة: 174-175] .
* * *
وأما قوله:"يَنعِق"، فإنه: يُصوِّت بالغنم،"النَّعيق، والنُّعاق"، ومنه قول الأخطل:
فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ، فَإِنَّمَا ... مَنَّتْكَ نَفْسَكَ فِي الخَلاءِ ضَلالا (1)
يعني: صوِّت به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"صُمٌّ بُكمٌ عُميٌ"، هؤلاء الكفارَ الذين مَثلهم كمثل الذي يَنعق بما لا يسمع إلا دُعاءً ونداءً"صُمٌ" عن الحق فهم لا يسمعون -"بُكمٌ" يعني: خُرسٌ عن قيل الحقّ والصواب، والإقرار بما أمرهم الله أن يقرُّوا به، وتبيين ما أمرهم الله تعالى ذكره أن يُبينوه من أمر محمد صلى الله عليه وسلم للناس، فلا ينطقون به ولا يقولونه، ولا يبينونه للناس -،"عُميٌّ"
__________
(1) ديوانه: 50، ونقائض جرير والأخطل: 81، وطبقات فحول الشعراء: 429، ومجاز القرآن: 64، واللسان (نعق) وقد مضت أبيات منها في 2: 38: 39، 492، 496، وهذا الجزء 3: 294، وقد ذكر قبله حروب رهطه بني تغلب، ثم قال لجرير: إنما أنت راعي غنم، فصوت بغنمك، ودع الحروب وذكرها. فلا علم لك ولا لأسلافك بها. وكل ما تحدث به نفسك من ذلك ضلال وباطل.(3/315)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)
عن الهدى وطريق الحق فلا يبصرونه، (1) . كما:-
2464- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"صُمٌ بكم عمي"، يقول: صم عن الحق فلا يسمعونه، ولا ينتفعون به ولا يعقلونه؛ عُمي عن الحق والهدى فلا يبصرونه؛ بُكم عن الحقّ فلا ينطقون به.
2465- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"صم بكم عمي" يقول: عن الحق.
2466- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"صم بكم عمي"، يقول: لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه.
* * *
وأما الرفع في قوله:"صم بكم عمي"، فإنه أتاهُ من قبل الابتداء والاستئناف، يدل على ذلك قوله:"فهم لا يعقلون"، كما يقال في الكلام:"هو أصم لا يسمع، وهو أبكم لا يتكلم". (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين صدَّقوا الله ورسوله، وأقروا لله بالعبودية، وأذعنوا له بالطاعة، كما:-
2467- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن
__________
(1) انظر تفسير: "صم""بكم""عمي" فيما سلف 1: 328-331. وقد حمل أبو جعفر معنى الآية هنا على أنه عنى به اليهود وأهل الكتاب. وانظر التعليق السالف ص: 314، رقم: 1.
(2) انظر إعرابه في الآية الأخرى فيما سلف 1: 329-330.(3/316)
إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
جويبر، عن الضحاك في قوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يقول: صدَّقوا.
* * *
"كلوا من طيبات ما رَزَقناكم"، يعني: اطعَموا من حَلال الرزق الذي أحللناهُ لكم، فطاب لكم بتحليلي إياه لكم، مما كنتم تحرِّمونَ أنتم، ولم أكن حرمته عليكم، من المطاعم والمشارب."واشكروا لله"، يقول: وأثنوا على الله بما هو أهله منكم، على النعم التي رزقكم وَطيَّبها لكم."إن كنتم إياه تعبدون"، يقول: إن كنتم منقادين لأمره سامعين مطيعين، فكلوا مما أباح لكم أكله وحلله وطيَّبه لكم، ودعوا في تحريمه خطوات الشيطان.
وقد ذكرنا بعض ما كانوا في جاهليتهم يحرِّمونه من المطاعم، وهو الذي ندبهم إلى أكله ونهاهم عن اعتقاد تحريمه، إذْ كان تحريمهم إياه في الجاهلية طاعةً منهم للشيطان، واتباعًا لأهل الكفر منهم بالله من الآباء والأسلاف. ثم بيّن لهم تعالى ذكره ما حرَّم عليهم، وفصَّله لهم مُفسَّرًا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: لا تُحرموا على أنفسكم ما لم أحرمه عليكم أيها المؤمنون بالله وبرسوله منَ البحائر والسوائب ونحو ذلك، بَل كلوا ذلك، فإني لم أحرم عليكم غير الميتة والدم ولحم الخنزير، ومَا أهلّ به لغيري.
* * *
ومعنى قوله:"إنما حَرَّم عليكم الميتة"، ما حرَّم عليكم إلا الميتة.
__________
(1) في المطبوعة: "وفصل لهم"، والصواب ما أثبت. وهذا الذي قاله هنا برهان آخر على أن أبا جعفر قد اضطرب في قصة هذه الآيات، فهو قد عاد وجعل بعض الآيات السالفة، في مشركي العرب في جاهليتهم، كما ترى، وهو بين أيضًا في تفسيرة الآية التالية. انظر ص: 314، تعليق: 1.(3/317)
"وإنما": حرف واحدٌ، ولذلك نصبت"الميتة والدم"، وغير جائز في"الميتة" إذا جعلت"إنما" حرفًا واحدًا - إلا النصب. ولو كانت"إنما" حرفين، وكانت منفصلة من"إنّ"، لكانت"الميتة" مرفوعة وما بعدها. وكان تأويل الكلام حينئذ: إنّ الذي حرم الله عليكم من المطاعم الميتةُ والدمُ ولحمُ الخنزير، لا غير ذلك. (1)
وقد ذُكر عن بعض القراء أنه قرأ ذلك كذلك، على هذا التأويل. ولست للقراءة به مستجيزًا =وإن كان له في التأويل والعربية وَجه مفهومٌ- لاتفاق الحجة من القراء على خلافه. فغيرُ جائز لأحد الاعتراض عليهم فيما نقلوه مجمعين عليه.
* * *
ولو قرئ في"حرّم" بضم الحاء من"حرّم"، لكان في"الميتة" وجهان من الرفع. أحدهما: من أن الفاعل غير مسمى،"وإنما" حرفٌ واحد.
والآخر:"إن" و"ما" في معنى حرفين، و"حرِّم" من صلة"ما"،"والميتة" خبر"الذي" مرفوع على الخبر. ولست، وإن كان لذلك أيضًا وجه، مستجيزًا للقراءة به، لما ذكرت.
* * *
وأما"الميتة"، فإن القرأةَ مختلفة في قراءتها. فقرأها بعضهم بالتخفيف، ومعناه فيها التشديد، ولكنه يُخففها كما يخفف القائلون في:"هو هيّن ليّن""الهيْن الليْن"، (2) كما قال الشاعر: (3)
لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إِنَّمَا المَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ (4)
__________
(1) انظر تفصيل هذا في معاني القرآن للفراء 1: 102-103.
(2) في المطبوعة: "القائلون وهو هين لين. . . "، وكأن الصواب ما أثبت.
(3) هو عدي بن الرعلاء الغساني، والرعلاء أمه.
(4) الأصمعيات: 5، ومعجم الشعراء: 252، وتهذيب الألفاظ: 448، واللسان (موت) وحماسة ابن الشجرى: 51، والخزانة 4: 187، وشرح شواهد المغني: 138. من أبيات جيدة صادقة، يقول بعده: إِنَّمَا المَيْتُ مَنْ يَعِيشُ ذَلِيلاً ... كَاسِفًا بَالُهُ قَلِيلَ الرّجَاءِ
فَأُنَاسٌ يُمَصَّصُونَ ثِمَادًا ... وَأُنَاسٌ حُلُوقُهُمْ فِي المَاء
الثماد الماء القليل يبقى في الحفر. وما أصدق ما قال هذا الأبي الحر.(3/318)
فجمع بين اللغتين في بيت واحد، في معنى واحد.
وقرأها بعضهم بالتشديد، وحملوها على الأصل، وقالوا: إنما هو"مَيْوِت"،"فيعل"، من الموت. ولكن"الياء" الساكنة و"الواو" المتحركة لما اجتمعتا،"والياء" مع سكونها متقدمة، قلبت"الواو""ياء" وشددت، فصارتا"ياء" مشددة، كما فعلوا ذلك في"سيد وجيد". قالوا: ومن خففها، فإنما طلب الخفة. والقراءةُ بها على أصلها الذي هو أصلها أولى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أن التخفيف والتشديد في"ياء""الميتة" لغتان معروفتان في القراءة وفي كلام العرب، فبأيهما قرأ ذلك القارئ فمصيب. لأنه لا اختلاف في معنييهما.
* * *
وأما قوله:"وَمَا أهِلَّ به لغير الله"، فإنه يعني به: وما ذُبح للآلهة والأوثان يُسمى عليه بغير اسمه، أو قُصد به غيرُه من الأصنام.
وإنما قيل:"وما أهِلَّ به"، لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قرَّبوه لآلهتهم، سموا اسم آلهتهم التي قربوا ذلك لها، وجَهروا بذلك أصْواتَهم، فجرى ذلك من أمرهم على ذلك، حتى قيل لكل ذابح، سمَّى أو لم يُسمِّ، (1) جهر بالتسمية أو لم يجهر-:"مُهِلٌّ". فرفعهم أصواتهم بذلك هو"الإهلال" الذي ذكره الله تعالى فقال:"وما أهِلَّ به لغير الله". ومن ذلك قيل للملبِّي في حَجة أو عمرة"مُهِلّ"، لرفعه صوته بالتلبية. ومنه"استهلال" الصبي، إذا صاح عند سقوطه من بَطن أمه،"واستهلال" المطر، وهو صوت وُقوعه على الأرض، كما قال عمرو بن قميئة:
__________
(1) في المطبوعة: "يسمي بذلك أو لم يسم"، والصواب ما أثبت، فعل ماض كالذي يليه.(3/319)
ظَلَمَ البِطَاحَ لَهُ انْهِلالُ حَرِيصَةٍ ... فَصَفَا النِّطَافُ لَهُ بُعَيْدَ المُقْلَعِ (1)
واختلف أهل التأويل في ذلك. فقال بعضهم: يعني بقوله:"وما أهِلَّ به لغير الله"، ما ذبح لغير الله.
* ذكر من قال ذلك:
2468- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، ما ذبح لغير الله.
2469- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وما أهلّ به لغير الله" قال، ما ذبح لغير الله مما لم يُسم عليه.
2470- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وما أهلّ به لغير الله"، ما ذبح لغير الله.
2471- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، قال ابن عباس في قوله:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، ما أهِلّ به للطواغيت.
2472- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبو خالد الأحمر، عن جويبر، عن الضحاك قال:"وما أُهلّ به لغير الله" قال، ما أهل به للطواغيت.
2473- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وما أهِلّ به لغير الله"، يعني: ما أهِل للطواغيت كلّها. يعني: ما ذبح لغير الله من أهل الكفر، غير اليهود والنصارى.
2474- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عطاء في قول الله:"وما أهِلّ به لغير الله" قال، هو ما ذبح لغير الله.
* * *
__________
(1) سلف تخريج هذا البيت في 1: 523-524، وأن صواب نسبته إلى الحادرة الذبياني.(3/320)
وقال آخرون: معنى ذلك: ما ذكر عليه غير اسم الله.
* ذكر من قال ذلك:
2475- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"وما أهلّ به لغير الله"، يقول: ما ذكر عليه غير اسم الله.
2476- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد -وسألته عن قوله الله:"وما أهلّ به لغير الله"- قال: ما يذبح لآلهتهم، الأنصابُ التي يعبدونها أو يسمُّون أسماءَها عليها. قال: يقولون:"باسم فلان"، كما تقول أنت:"باسم الله" قال، فذلك قوله:"وما أهلّ به لغير الله".
2477- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثنا حيوة، عن عقبة بن مسلم التُّجيبي وقيس بن رافع الأشجعي أنهما قالا أحِل لنا ما ذُبح لعيد الكنائس، وما أهدي لها من خبز أو لحم، فإنما هو طعام أهل الكتاب. قال حيوة، قلت: أرأيت قَول الله:"وما أهِلّ به لغير الله"؟ قال: إنما ذلك المجوسُ وأهلُ الأوثان والمشركون.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن اضطر"، فمن حَلَّت به ضَرورة مجاعة إلى ما حرَّمت عليكم من الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله -وهو بالصفة التي وصفنا- فلا إثم عليه في أكله إن أكله.
* * *(3/321)
وقوله: فمن"اضطر""افتعل" من"الضّرورة".
* * *
و"غيرَ بَاغ" نُصِب على الحال مِنْ"مَنْ"، فكأنه. قيل: فمن اضطرّ لا باغيًا ولا عاديًا فأكله، فهو له حلال.
* * *
وقد قيل: إن معنى قوله:"فمن اضطر"، فمن أكره على أكله فأكله، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك:
2478- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل، عن سالم الأفطس، عن مجاهد قوله:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد" قال: الرجل يأخذُه العدو فيدعونه إلى معصية الله.
* * *
وأما قوله:"غيرَ بَاغ ولا عَاد"، فإن أهل التأويل في تأويله مختلفون.
فقال بعضهم: يعني بقوله:"غير باغ"، غيرَ خارج على الأئمة بسيفه باغيًا عليهم بغير جَور، ولا عاديًا عليهم بحرب وعدوان، فمفسدٌ عليهم السبيلَ.
* ذكر من قال ذلك:
2479- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن مجاهد:"فمن اضطر غيرَ بَاغٍ ولا عاد" قال، غيرَ قاطع سبيل، ولا مفارق جماعة، ولا خارج في معصية الله، فله الرخصة.
2480- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد"، يقول: لا قاطعًا للسبيل، ولا مفارقًا للأئمة، ولا خارجًا في معصية الله، فله الرخصة. ومن خرج بَاغيًا أو عاديًا في معصية الله، فلا رخصة له وإن اضطُرَّ إليه.
2481- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد:"غير باغ ولا عاد" قال، هو الذي يقطع الطريق، فليس له رخصة(3/322)
إذا جاع أن يأكل الميتة، وإذا عطش أن يشربَ الخمر.
2482- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن شريك، عن سالم -يعني الأفطس- عن سعيد في قوله:"فمن اضطُر غير باغ ولا عاد" قال، الباغي العادي الذي يقطع الطريق، فلا رخصة له ولا كرامة.
2483- حدثني المثنى قال، حدثنا الحماني قال، حدثنا شريك، عن سالم، عن سعيد في قوله:"فمن اضطُر غير باغ ولا عاد" قال، إذا خرج في سبيل من سُبُل الله فاضطر إلى شرب الخمر شرب، وإن اضطر إلى الميتة أكل. وإذا خرج يقطع الطريق، فلا رخصة له.
2484- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حفص بن غياث، عن الحجاج، عن القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال:"غيرَ باغ" على الأئمة،"ولا عاد" قال، قاطع السبيل.
2485- حدثنا هناد قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد" قال، غير قاطع السبيل، ولا مفارق الأئمة، ولا خارج في معصية الله فله الرخصة.
2486- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن الحكم، عن مجاهد:"فمن اضطُر غير بَاغ ولا عاد" قال، غير باغ على الأئمة، ولا عاد على ابن السبيل.
* * *
وقال آخرون في تأويل قوله:"غيرَ باغ ولا عاد": غيرَ باغ الحرامَ في أكله، ولا معتدٍ الذي أبيحَ له منه.
* ذكر من قال ذلك.
2487- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد،(3/323)
عن قتادة قوله:"فمن اضطُرَّ غير باغ ولا عاد" قال، غير باغ في أكله، ولا عادٍ: أن يتعدى حلالا إلى حرام، وهو يجد عنه مَندوحة.
2488- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الحسن في قوله:"فمن اضطر غيرَ باغ ولا عاد" قال، غير باغ فيها ولا معتدٍ فيها بأكلها، وهو غنيٌّ عنها.
2489- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عمن سمع الحسن يقول ذلك.
2490- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال حدثنا أبو تميلة، (1) عن أبي حمزة، عن جابر، عن مجاهد وعكرمة قوله:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد"،"غير باغ" يَبتغيه،"ولا عادٍ": يتعدى على ما يُمسك نفسه.
2491- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد"، يقول: من غير أن يبتغي حرامًا ويتعداه، ألا ترى أنه يقول: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [سورة المؤمنون: 7\ سورة المعارج: 31]
2492- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمن اضطُرّ غير باغٍ ولا عادٍ" قال، أن يأكل ذلك بَغيًا وتعديًا عن الحلال إلى الحرام، ويترك الحلال وهو عنده، ويتعدى بأكل هذا الحرام. هذا التعدي. ينكر أن يكونا مختلفين، ويقول: هذا وهذا واحد!
* * *
وقال آخرون تأويل ذلك: فمن اضطر غير باغ في أكله شهوة، ولا عاد فوق ما لا بُدَّ له منه.
* ذكر من قال ذلك:
2493- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "أبو نميلة"، والصواب بالتاء. مضت ترجمته برقم: 392، 461.(3/324)
أسباط، عن السدي:"فمن اضطر غير باغ ولا عاد". أمَّا"باغ"، فيبغي فيه شهوته. وأما"العادي"، فيتعدى في أكله، يأكل حتى يشبع، ولكن يأكل منه قدر ما يُمسك به نفسه حتى يبلغ به حاجته.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: فمن اضطر غير باغ بأكله ما حُرم عليه من أكله، ولا عاد في أكله، وله عن ترك أكله -بوجود غيره مما أحله الله له- مندوحة وغنى.
وذلك أن الله تعالى ذكره لم يرخّصْ لأحد في قتل نفسه بحال. وإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الخارجَ على الإمام والقاطعَ الطريقَ، وإن كانا قد أتيا ما حرَّم الله عليهما =: من خروج هذا على من خرج عليه، وسَعي هذا بالإفساد في الأرض، = فغيرُ مبيح لهما فعلهما ما فعلا مما حرّم الله عليهما -ما كان حرّم الله عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من ذلك- من قتل أنفسهما. [ورَدُّهما إلى محارم الله عليهما بعد فعلهما، ما فعلا وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصا لهما قبل ذلك من فعلهما، وإن لم نرَ رَدَّهما إلى محارم الله عليهما تحريما، (1) فغير مرخِّص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حرامًا] . فإذ كان ذلك كذلك، فالواجبُ على قُطاع الطريق والبغاة على الأئمة العادلة، الأوبةُ إلى طاعة الله، والرجوعُ إلى ما ألزمهما الله الرجوع إليه، والتوبةُ من معاصي الله - لا قتلُ أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إلى إثمهما إثمًا، وإلى خلافهما أمرَ الله خلافًا. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا". وهو تصحيف مفسد قد آذى من أراد أن يفهم عن الطبري ما يقول. و"المحارم": كل ما حرم الله سبحانه علينا فهو من محارم الله. وانظر التعليق التالي.
(2) هذه الفقرة رد على القول الأول، قول من ذهب إلى أن"الباغي" هو الخارج على الأئمة، وأن"العادي" هو قاطع الطريق، وأنهما لفعلهما ذلك مستثنيان من حكم الآية في الترخيص للمضطر أن يأكل مما حرم الله عليه. ولكن العبارة في الأصل فاسدة، لا يكاد يكون لها معنى. ولم أستجز أن أدعها في الأصل على ما هي عليه. وهكذا كانت في الأصل:
[بل ذلك من فعلهما، وإن لم يؤدهما إلى محارم الله عليهما تحريمًا، فغير مرخص لهما ما كان عليهما قبل ذلك حراما] .
وهو كلام لا يستقيم، وقد اجتهدت فرأيت أنه سقط من ناسخ كلامه سطر كامل فيما أرجح، بين قوله: "من قتل أنفسهما" وقوله: "قبل ذلك من فعلهما" فبقيت"قبل" وحدها، فجاء ناسخ آخر فلم يستبن معنى ما يكتب، فجعل"قبل""بل"، ظنًا منه أن ذلك يقيم المعنى على وجه من الوجوه. فاضطرب الكلام كما ترى اضطرابًا لا يخلص إلى شيء مفهوم. وزاده فسادًا واضطرابًا تصحيف قوله: "وإن لم نر ردهما" بما كتب: "وإن لم يؤدهما"، فخلص إلى كلام ضرب عليه التخليط ضربًا!
وقد ساق الطبري في هذه الفقرة حجتين لرد قول من قال إن الباغي هو الخارج على الإمام، وإن العادي هو قاطع السبيل.
فالحجة الأولى: أن الباغي والعادي، وإن كان كلاهما قد أتى فعلا محرمًا، فإن إتيان هذا الفعل المحرم، لا يجعل قتل أنفسهما مباحًا لهما، إذ هو محرم عليهما قبل إتيانهما ما أتيا من محارم الله عليهما.
والحجة الأخرى: أن الله قد رخص لكل مضطر أن يأكل مما حرم عليه، فاستثناء الباغي والعادي من رخصة الله للمضطر. لا يعد عنده تحريمًا، بل هو رد إلى ما كان محرمًا عليهما قبل البغي أو العدوان. ومع ذلك فإن هذا الرد إلى ما كان محرمًا عليهما، وإن كان قد حرم عليهما ما كان مرخصًا لهما ولكل مضطر قبل البغي والعدوان، فإنه لا يرخص لهما قتل أنفسهما، وهو حرام عليهما قبل البغي والعدوان.
وإذن، فالواجب عليهما أن يتوبا، لا أن يقتلا أنفسهما بالمجاعة، فيزدادان إثمًا إلى إثمهما، وخلافًا إلى خلافهما بالبغي والعدوان أمر الله.(3/325)
وأما الذي وجَّه تأويل ذلك إلى أنه غيرُ باغ في أكله شهوة، فأكل ذلك شهوة، لا لدفع الضرورة المخوف منها الهلاك -مما قد دخل فيما حرمه الله عليه- فهو بمعنى ما قلنا في تأويله، وإن كان للفظه مخالفًا.
فأما توجيه تأويل قوله:"ولا عاد"، ولا آكل منه شبعه، ولكن ما يمسك به نفسه، فإن ذلك، بعض معاني الاعتداء في أكله. ولم يخصص الله من معاني الاعتداء في أكله معنى، فيقال عنى به بعض معانيه.
فإذ كان ذلك كذلك، فالصواب من القول ما قلنا: من أنه الاعتداء في كل معانيه المحرّمة.
* * *
وأما تأويل قوله:"فلا إثم عليه"، يقول: من أكل ذلك على الصفة التي وصفنا، فلا تبعة عليه في أكله ذلك كذلك ولا حَرج.
* * *(3/326)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"إنّ الله غَفور رحيم"،"إنّ الله غَفورٌ" =إن أطعتم الله في إسلامكم، فاجتنبتم أكل ما حرم عليكم، وتركتم اتباعَ الشيطان فيما كنتم تحرمونه في جاهليتكم- طاعةً منكم للشيطان واقتفاءً منكم خُطواته - مما لم أحرمه عليكم = لما سلف منكم، في كفركم وقبل إسلامكم، في ذلك من خطأ وذنب ومعصية، فصافحٌ عنكم، وتارك عقوبتكم عليه،"رحيم" بكم إن أطعتموه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"إنّ الذينَ يَكتمون ما أنزل الله من الكتاب"، أحبارَ اليهود الذين كتموا الناس أمرَ محمد صلى الله عليه وسلم ونبوّته، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة، برُشًى كانوا أُعطوها على ذلك، كما:-
2494- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب" الآية كلها، هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم وبَين لهم من الحق والهدى، من بعث محمد صلى الله عليه وسلم وأمره.
2495- حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله: (إنّ الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويَشترون(3/327)
به ثمنًا قليلا) قال: هم أهل الكتاب، كتموا ما أنزل الله عليهم من الحق والإسلامَ وشأنَ محمد صلى الله عليه وسلم.
2496- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال حدثنا أسباط، عن السدي:"إن الذين يكتمون مَا أنزل الله منَ الكتاب"، فهؤلاء اليهود، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم.
2497- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة قوله:"إنّ الذين يكتمونَ ما أنزل الله من الكتاب"، والتي في"آل عمران" (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا) [سورة آل عمران: 77] نزلتا جميعًا في يهود.
* * *
وأما تأويل قوله:"ويَشترون به ثمنًا قليلا"، فإنه يعني: يبتاعون به."والهاء" التي في"به"، من ذكر"الكتمان". فمعناه: ابتاعوا بكتمانهم ما كتموا الناس من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر نبوَّته ثمنًا قليلا. وذلك أنّ الذي كانوا يُعطَوْن = على تحريفهم كتابَ الله وتأويلهِمُوه على غير وجهه، وكتمانهم الحق في ذلك = اليسيرَ من عرض الدنيا، كما:-
2498- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ويشترون به ثمنًا قليلا" قال، كتموا اسم محمد صلى الله عليه وسلم، وأخذوا عليه طمعًا قليلا فهو الثمن القليل.
* * *
وقد بينت فيما مضى صفة"اشترائهم" ذلك، بما أغنى عن إعادته هاهنا.
* * *(3/328)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك"، - هؤلاء الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب في شأن محمد صلى الله عليه وسلم بالخسيس من الرِّشوة يُعطَوْنها، فيحرِّفون لذلك آيات الله ويغيِّرون معانيها ="ما يأكلون في بطونهم" - بأكلهم ما أكلوا من الرُّشى على ذلك والجعالة، (1) وما أخذوا عليه من الأجر ="إلا النار" - يعني: إلا ما يوردهم النار ويُصْليهموها، كما قال تعالى ذكره: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [سورة النساء: 10] معناه: ما يأكلون في بطونهم إلا ما يوردهم النار بأكلهم. فاستغنى بذكر"النار" وفهم السامعين معنى الكلام، عن ذكر"ما يوردهم، أو يدخلهم". وبنحو الذي قلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2499- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أولئك مَا يَأكلون في بُطونهم إلا النار"، يقول: ما أخذوا عليه من الأجر.
* * *
فإن قال قائل: فهل يكون الأكل في غير البطن فيقال:"ما يأكلون في بطونهم"؟
قيل: قد تقول العرب:"جُعت في غير بطني، وشَبعتُ في غير بطني"، فقيل: في بُطونهم لذلك، كما يقال:"فعل فُلان هذا نفسُه". وقد بينا ذلك في غير هذا الموضع، فيما مضى. (2)
__________
(1) الجعل (بضم فسكون) والجعالة (مثلثة الجيم) : أجر مشروط يجعل للقائل أو الفاعل شيئًا.
(2) انظر ما سلف 2: 272، وهذا الجزء 3: 159-160.(3/329)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)
وأما قوله:"ولا يُكلِّمهمُ الله يَومَ القيامة"، يقول: ولا يكلمهم بما يحبون ويشتهون، فأما بما يسُوءهم ويكرَهون، فإنه سيكلمهم. لأنه قد أخبر تعالى ذكره أنه يقول لهم - إذا قالوا: (رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ) الآيتين [سورة المؤمنون: 107-108] .
* * *
وأما قوله:"ولا يُزكِّيهم"، فإنه يعني: ولا يطهِّرهم من دَنس ذنوبهم وكفرهم، (1) "ولهم عذاب أليم"، يعني: مُوجع (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك الذين اشترَوُا الضلالة بالهدى"، أولئك الذين أخذوا الضلالة، وتركوا الهدى، وأخذوا ما يوجب لهم عذاب الله يوم القيامة، وتركوا ما يُوجب لهم غفرانه ورضْوَانه. فاستغنى بذكر"العذاب" و"المغفرة"، من ذكر السبب الذي يُوجبهما، لفهم سامعي ذلك لمعناه والمراد منه. وقد بينا نظائر ذلك فيما مضى. (3) وكذلك بينا وجه"اشتروا الضلالة بالهدى" باختلاف المختلفين، والدلالة الشاهدة بما اخترنا من القول، فيما مضى قبل، فكرهنا إعادته. (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 573-574، وهذا الجزء 3: 88.
(2) انظر ما سلف 1: 283. ثم 2: 140، 377، 506، 540.
(3) انظر ما سلف فهارس مباحث العربية.
(4) انظر ما سلف 1: 311-315.(3/330)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم معنى ذلك: فما أجرأهم على العمل الذي يقرِّبُهم إلى النار.
* ذكر من قال ذلك:
2500- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم على العمل الذي يقربهم إلى النار.
2501- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فما أصْبَرهم على النار"، يقول: فما أجرأهم عليها.
2502- حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن بشر، عن الحسن في قوله:"فما أصْبرهم على النار" قال، والله ما لهم عليها من صبر، ولكن ما أجرأهم على النار.
2503- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا مسعر = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو بكير قال، حدثنا مسعر =، عن حماد، عن مجاهد، أو سعيد بن جبير، أو بعض أصحابه:"فما أصبرهم على النار"، ما أجرأهم.
2504- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فما أصبرهم على النار"، يقول: ما أجرأهم وأصبرهم على النار.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فما أعملهم بأعمال أهل النار.
* * *(3/331)
* ذكر من قال ذلك:
2505- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فما أصْبرهم على النار" قال، ما أعملهم بالباطل.
2506- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
* * *
واختلفوا في تأويل"ما" التي في قوله:"فما أصبرهم على النار". فقال بعضهم: هي بمعنى الاستفهام، وكأنه قال: فما الذي صبَّرهم؟ أيُّ شيء صبرهم؟ (1)
* ذكر من قال ذلك:
2507- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فما أصبرَهم على النار"، هذا على وجه الاستفهام. يقول: مَا الذي أصبرهم على النار؟
2508- حدثني عباس بن محمد قال، حدثنا حجاج الأعور قال، أخبرنا ابن جريج قال، قال لي عطاء:"فما أصبرهم على النار" قال، ما يُصبِّرهم على النار، حين تَركوا الحق واتبعوا الباطل؟
2509- حدثنا أبو كريب قال: سُئل أبو بكر بن عياش:"فما أصبرهم على النار" قال، هذا استفهام، ولو كانت من الصبر قال:"فما أصبرُهم"، رفعًا. قال: يقال للرجل:"ما أصبرك"، ما الذي فعل بك هذا؟
2510- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فما أصبرهم على النار" قال، هذا استفهام. يقول ما هذا الذي صبَّرهم على النار حتى جَرأهم فعملوا بهذا؟
* * *
__________
(1) وذلك قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: 64.(3/332)
وقال آخرون: هو تعجُّب. يعني: فما أشد جراءتهم على النار بعَملهم أعمال أهل النار!
* ذكر من قال ذلك:
2511- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فما أصبرهم على النار" قال، ما أعملهم بأعمال أهل النار!
وهو قول الحسن وقتادة، وقد ذكرناه قبل. (1)
* * *
فمن قال: هو تعجُّب - وجَّه تأويلَ الكلام إلى:"أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذابَ بالمغفرة"، فما أشد جراءتهم -بفعلهم ما فعلوا من ذلك- على ما يوجب لهم النار! كما قال تعالى ذكره: (قُتِلَ الإنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) [سورة عبس: 17] ، تعجبًا من كفره بالذي خَلقه وسَوَّى خلقه.
* * *
فأما الذين وجهوا تأويله إلى الاستفهام، فمعناه: هؤلاء الذين اشتروا الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، فما أصبرهم على النار -والنار لا صبر عليها لأحد- حتى استبدلوها بمغفرة الله فاعتاضوها منها بدلا؟
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: ما أجرأهم على النار، بمعنى: ما أجرأهم على عَذاب النار وأعملهم بأعمال أهلها. وذلك أنه مسموع من العرب:"ما أصبرَ فلانًا على الله"، بمعنى: ما أجرأ فلانًا على الله! (2) وإنما يعجب الله خَلقه بإظهار الخبر عن القوم الذين يكتمون ما أنزل الله تبارك وتعالى من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوَّته، واشترائهم بكتمان ذلك ثَمنًا قليلا
__________
(1) انظر ما سلف رقم: 2501، 2502.
(2) انظر خبر ذلك في معاني القرآن للفراء 1: 103.(3/333)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
من السحت والرشى التي أعطوها - على وَجه التعجب من تقدمهم على ذلك. (1) مع علمهم بأنّ ذلك موجبٌ لهم سَخط الله وأليم عقابه.
وإنما معنى ذلك: فما أجرأهم علي عذاب النار! ولكن اجتزئ بذكر"النار" من ذكر"عذابها"، كما يقال:"ما أشبه سخاءك بحاتم"، بمعنى: ما أشبه سَخاءك بسخاء حاتم،"وما أشبه شَجاعتك بعنترة". (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176) }
قال أبو جعفر: أما قوله:"ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق"، فإنه اختلف في المعنيِّ ب"ذلك".
* * *
فقال بعضهم: معنيُّ"ذلك"، فعلُهم هذا الذي يفعلون = من جراءتهم على عذاب النار، في مخالفتهم أمر الله، وكتمانهم الناسَ ما أنزل الله في كتابه، وأمرَهم ببيانه لهم من أمر محمد صلى الله عليه وسلم وأمر دينه = من أجل أن الله تبارك تعالى"نزل الكتاب بالحق"، وتنزيله الكتاب بالحق هو خبرُه عنهم في قوله لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [سورة البقرة: 6-7] فهم -مع ما أخبر الله عنهم من أنهم لا يؤمنون- لا يكون منهم غيرُ اشتراء الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة.
__________
(1) قدم، وتقدم، وأقدم، واستقدم، كلها بمعنى واحد، إذا كان جرئيًا فاقتحم.
(2) انظر معاني القرآن للفراء 1: 103، أيضًا.(3/334)
وقال آخرون: معناه:"ذلك" معلومٌ لهم، بأن الله نزل الكتاب بالحق، لأنّا قد أخبرنا في الكتاب أنّ ذلك لهم، والكتابُ حَق.
كأن قائلي هذا القول كان تأويل الآية عندهم: ذلك العذاب = الذي قال الله تعالى ذكره، فما أصبرهم عليه = معلومٌ أنه لهم. لأن الله قد أخبر في مواضع من تنزيله أن النار للكافرين، وتنزيله حق، فالخبر عن"ذلك" عندهم مُضمر.
* * *
وقال آخرون: معنى"ذلك"، أن الله وصف أهل النار، فقال:"فما أصبرهم على النار"، ثم قال: هذا العذاب بكفرهم. و"هذا" هاهنا عندهم، هي التي يجوز مكانها"ذلك"، (1) كأنه قال: فعلنا ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق فكفروا به. قال: فيكون"ذلك" -إذا كان ذلك معناه- نصبًا، ويكون رفعًا بالباء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال بتأويل الآية عندي: أن الله تعالى ذكره أشار بقوله:"ذلك"، إلى جميع ما حواه قوله:"إنّ الذين يَكتمونَ مَا أنزلَ الله من الكتاب"، إلى قوله:"ذلك بأن الله نزل الكتاب بالحق"، من خبره عن أفعال أحبار اليهود، وذكره ما أعد لهم تعالى ذكره من العقاب على ذلك، فقال: هذا الذي فعلته هؤلاء الأحبارُ من اليهود = بكتمانهم الناسَ ما كتموا من أمر محمد صلى الله عليه وسلم ونبوته مع علمهم به، طلبًا منهم لعرَض من الدنيا خسيس -وبخلافهم أمري وطاعتي= وذلك -من تركي تطهيرَهم وتزكيتهم وتكليمهم، وإعدادي لهم العذاب الأليم- بأني أنزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه.
فيكون في"ذلك" حينئذ وجهان من الإعراب: رفعٌ ونصب. والرفع ب"الباء"، والنصب بمعنى: فعلت ذلك بأني أنزلت كتابي بالحق، فكفروا به واختلفوا فيه. وترك ذكر"فكفروا به واختلفوا"، اجتزاءً بدلالة ما ذكر من الكلام عليه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 225-227 في بيان"ذلك"، و"هذا".(3/335)
وأما قوله:"وإنّ الذينَ اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"، يعني بذلك اليهودَ والنصارى. اختلفوا في كتاب الله، فكفرت اليهودُ بما قصَّ الله فيه من قَصَص عيسى ابن مريم وأمه. وصَدقت النصارى ببعض ذلك، وكفروا ببعضه، وكفروا جميعًا بما أنزل الله فيه من الأمر بتصديق محمد صلى الله عليه وسلم. فقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: إن هؤلاء الذين اختلفوا فيما أنزلت إليك يا محمد لفي منازعة ومفارقة للحق بعيدة من الرشد والصواب، كما قال الله تعالى ذكره: (فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ) [سورة البقرة: 137] كما:
2512- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإنّ الذين اختلفوا في الكتاب لفي شقاق بعيد"، يقول: هم اليهود والنصارى. يقول: هم في عَداوة بعيدة. وقد بَينتُ معنى"الشقاق"، فيما مضى. (1)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 115، 116.(3/336)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
القول في تأويل قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله ذلك. فقال بعضهم: معنى ذلك: ليس البرَّ الصلاةُ وحدها، ولكن البرّ الخصال التي أبينها لكم.
2513- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"ليسَ البرّ أن تُولوا وُجُوهكم قِبَل(3/336)
المشرق والمغرب"، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تَعملوا، فهذا منذ تحوَّل من مكة إلى المدينة، ونزلت الفرائض، وحدَّ الحدود. فأمر الله بالفرائض والعمل بها.
2514- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، ولكنّ البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله.
2515- حدثني القاسم قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2516- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن ابن عباس قال: هذه الآية نزلت بالمدينة:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، يعني: الصلاة. يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غيرَ ذلك. قال ابن جريج، وقال مجاهد:"ليس البرّ أن تُولوا وجوهكم قبَل المشرق والمغرب"، يعني السجود، ولكن البر ما ثبت في القلب من طاعة الله.
2517- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا أبو تميلة، (1) عن عبيد بن سليمان، عن الضحاك بن مزاحم، أنه قال فيها، قال يقول: ليس البر أن تصلوا ولا تعملوا غير ذلك. وهذا حين تحوّل من مكة إلى المدينة، فأنزل الله الفرائض وحدَّ الحدود بالمدينة، وأمر بالفرائض أن يؤخذ بها.
* * *
وقال آخرون: عنى الله بذلك اليهود والنصارى. وذلك أن اليهود تصلي فتوجِّه قبل المغرب، والنصارى تصلي فتوَجَّه قبل المشرق، فأنزل الله فيهم هذه الآية، يخبرهم فيها أن البرّ غير العمل الذي يعملونه، ولكنه ما بيناه في هذه الآية
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) في المطبوعة: "أبو نميلة" بالنون، والصواب ما أثبت. وانظر الأثر رقم: 2490 والتعليق عليه.(3/337)
2518- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: كانت اليهود تصلي قبَل المغرب والنصارى تصلي قبل المشرق، فنزلت:"ليس البر أن تولوا وُجُوهكم قبل المشرق والمغرب".
2519- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر"، ذُكر لنا أن رَجلا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر فأنزل الله هذه الآية. وذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل فتلاها عليه. وقد كان الرجلُ قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ثم مات على ذلك يُرْجى له ويطمع له في خير، فأنزل الله:"ليسَ البر أن تولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب". وكانت اليهود تَوجَّهت قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق -"ولكن البر من آمنَ بالله واليوم الآخر" الآية.
2520- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس قال: كانت اليهود تصلي قبل المغرب، والنصارى قبل المشرق، فنزلت:"ليس البر أن تُولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بتأويل الآية، القول الذي قاله قتادة والربيع بن أنس =: أن يكون عنى بقوله:"ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب"، اليهودَ والنصارَى. لأن الآيات قبلها مضت بتوبيخهم ولَومهم، والخبر عنهم وعما أُعدّ لهم من أليم العذاب. وهذا في سياق ما قبلها، إذْ كان الأمر كذلك، -"ليس البر"، - أيها اليهود والنصارى، أنْ يولي بعضُكم وجهه قبل المشرق وبعضُكم قبل المغرب،"ولكنّ البر مَنْ آمن بالله واليوم الآخر وَالملائكة والكتاب" الآية.
* * *(3/338)
فإن قال قائل: فكيف قيل:"ولكن البر من آمن بالله"، وقد علمت أن"البر" فعل، و"مَنْ" اسم، فكيف يكون الفعل هو الإنسان؟
قيل: إن معنى ذلك غيرَ ما توهمته، وإنما معناه: ولكنّ البرَّ برُّ من آمن بالله واليوم الآخر، (1) فوضع"مَنْ" موضع الفعل، اكتفاءً بدلالته، ودلالة صلته التي هي له صفةٌ، مَنْ الفعل المحذوف، كما تفعله العرب، فتضع الأسماء مواضع أفعالها التي هي بها مشهورة، فتقول:"الجود حاتم، والشجاعة عنترة"، و"إنما الجود حاتم والشجاعة عنترة"، ومعناها: الجُود جود حاتم فتستغني بذكر"حاتم" إذ كان معروفًا بالجود، من إعادة ذكر"الجود" بعد الذي قد ذكرته، فتضعه موضع"جوده"، لدلالة الكلام على ما حذفته، استغناء بما ذكرته عما لم تذكره. (2) كما قيل: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا) [سورة يوسف: 82] والمعنى: أهل القرية، وكما قال الشاعر، وهو ذو الخِرَق الطُّهَوي:
حَسِبْتَ بُغَامَ رَاحِلَتِي عَنَاقًا! ... وَمَا هي، وَيْبَ غَيْرِكَ بالعَنَاقِ (3)
يريد: بُغَامَ عنَاق، أو صوتَ [عناق] ، (4) كما يقال:"حسبت صياحي أخاك"، يعني به: حسبتَ صياحي صياحَ أخيك.
* * *
وقد يجوز أن يكون معنى الكلام: ولكن البارَّ مَنْ آمن بالله، فيكون"البر" مصدرًا وُضع موضعَ الاسم. (5)
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "ولكن البر كمن آمن بالله" وهو خطأ محض، صوابه ما أثبت.
(2) انظر ما سلف: 2: 61، 359 وهذا الجزء 3: 334.
(3) سلف تخريجه في هذا الجزء 3: 103 تعليق: 3.
(4) الزيادة بين القوسين لا بد منها.
(5) هذا قول أبي عبيدة في مجاز القرآن: 65، وذكره الفراء في معاني القرآن 1: 104.(3/339)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وآتى المالَ على حُبه"، وأعطى مَاله في حين محبته إياه، وضِنِّه به، وشُحِّه عليه، (1) . كما:-
2521- حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس قال، سمعت ليثًا، عن زبيد، عن مرة بن شراحيل البكيلي، عن عبد الله بن مسعود:"وآتَى المالَ على حُبه"، أي: يؤتيه وهو صَحيحٌ شحيحٌ، يأمل العيش ويخشى الفقر. (2)
2522- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن -وحدثنا الحسن بن يحيى قال أخبرنا عبد الرزاق- قالا جميعًا، عن سفيان، عن زُبيد الياميّ،
__________
(1) انظر معنى"الإيتاء" فيما سلف 1: 574/2: 160، 317.
(2) الخبر: 2521- ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس بن يزيد الأودي، مضى في: 438، 2030.
ليث: هو ابن أبي سليم، مضى في شرح: 1497.
زبيد- بالباء الموحدة مصغرًا: هو ابن الحارث بن عبد الكريم اليامي، وهو ثقة ثبت. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/411، وابن سعد 6: 216، وابن أبي حاتم 1/2/623.
مرة بن شراحيل: وهو الهمداني الكوفي، من كبار التابعين، كما مضى توثيقه: 168، وهو مترجم في التهذيب 10: 88-89، والكبير 4/2/5، وابن سعد 6: 79، وابن أبي حاتم 4/1/366. و"البكيلي" - بفتح الباء الموحدة وكسر الكاف: نسبه إلى"بكيل"، وهم بطن من همدان. انظرالاشتقاق لابن دريد، ص: 250، 256، 312، وجمهرة الأنساب لابن حزم ص: 372-373. وكذلك نسب مرة إلى"بكيل" في كتاب ابن أبي حاتم، وهو الصواب. ووقع في التهذيب بدلها"السكسكي"؛ وهو تصحيف لا شك فيه، فإن"السكسك": هو ابن أشرس بن كندة. وشتان بين همدان وكندة، إنما يجتمعان بعد بضعة جدود، في"زيد بن كهلان بن سبأ". انظر جمهرة الأنساب، ص: 405، وما قبلها.(3/340)
عن مرة، عن عبد الله:"وآتى المالَ على حُبه" قال، وأنت صحيح، تأمل العيش، وتخشى الفقر. (1)
2523- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن زبيد اليامي، عن عبد الله أنه قال في هذه الآية:"وآتى المال على حبه" قال، وأنت حريصٌ شحيحٌ، تأمل الغنى، وتخشى الفقر.
2524- حدثنا أحمد بن نعمة المصري قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا الليث قال، حدثنا إبراهيم بن أعين، عن شعبة بن الحجاج، عن زبيد اليامي، عن مرة الهمداني قال، قال عبد الله بن مسعود في قول الله:"وآتى المال على حبه ذوي القربى"، قال: حريصًا شحيحًا، يأمل الغنى ويَخشى الفقر. (2)
__________
(1) الخبر: 2522- عبد الرحمن: هو ابن مهدي الإمام. وسفيان هو الثوري. فالطبري يرويه من طريق ابن مهدي. ومن طريق عبد الرزاق - كلاهما عن سفيان.
والخبر في تفسير عبد الرزاق، ص: 15، وفيه: "وأنت صحيح شحيح"، بزيادة"شحيح".
(2) الخبر: 2524- شيخ الطبري"أحمد بن نعمة المصري": لم أجد له ترجمة. أبو صالح: هو عبد الله بن صالح، كاتب الليث. الليث: هو ابن سعد إمام أهل مصر.
إبراهيم بن أعين الشيباني البصري، نزل مصر: ضعيف: قال البخاري: "فيه نظر في إسناده". وقال أبو حاتم: "هذا شيخ بصري، ضعيف الحديث، منكر الحديث وقع إلى مصر". مترجم في التهذيب وفرق بينه وبين"إبراهيم بن أعين" آخر ثقة. وترجم ابن أبي حاتم 1/1/87 ثلاث تراجم. والبخاري 1/1/272 ترجمة واحدة.
وهذه الأسانيد الثلاثة: 2521-2523، لخبر موقوف اللفظ على ابن مسعود. وهو في الحقيقة مرفوع حكمًا، إذ مثل هذا لا يعرف بالرأي. وسيأتي معناه موقوفًا عليه أيضًا: 2529، 2531. وكذلك رواه الحاكم 2: 272، من رواية منصور، عن زبيد، عن مرة، عن ابن مسعود، موقوفًا. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي. ونسبه السيوطي 1: 170-171 لابن المبارك، ووكيع، وغيرهما. ثم ذكر أنه رواه الحاكم أيضًا"عن ابن مسعود، مرفوعًا". وكذلك نقل ابن كثير 1: 388 أن الحاكم رواه مرفوعًا. ولم أجده مرفوعًا في المستدرك. ثم ذكر ابن كثير الرواية الموقوفة، وزعم أنها أصح.
وهذا المعنى ثابت أيضًا في حديث مرفوع صحيح، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم - وقد سئل: أي الصدقة أعظم أجرًا؟ - فقال: "أن تصدق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت: لفلان كذا، وقد كان لفلان". رواه أحمد في المسند: 7159، 7401. ورواه البخاري ومسلم وأبو داود، كما بينا هناك.(3/341)
2525- حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم قالا حدثنا هشيم قال، أخبرنا إسماعيل بن سالم، عن الشعبي، سمعته يُسْأل: هل على الرجل حَق في ماله سوى الزكاة؟ قال: نعم! وتلا هذه الآية:"وآتى المالَ على حُبه ذَوي القربى واليتامى والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة".
2526- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا سُويد بن عمرو الكلبي قال، حدثنا حمّاد بن سلمة قال، أخبرنا أبو حمزة قال، قلت للشعبي: إذا زكَّى الرجلُ ماله، أيطيبُ له ماله؟ فقرا هذه الآية:"ليس البر أنْ تُولوا وجوهَكم قبل المشرق والمغرب" إلى"وآتى المال على حُبه" إلى آخرها، ثم قال: حدثتني فاطمة بنت قيس أنها قالت: يا رسول الله، إنّ لي سبعين مثقالا من ذَهَب. فقال: اجعليها في قَرَابتك. (1)
2527- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن آدم، عن شريك قال، حدثنا أبو حمزة، فيما أعلم - عن عامر، عن فاطمة بنت قيس أنها سمعته يقول: إنّ في المال لحقًّا سوَى الزكاة. (2)
2528- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أبي حيان
__________
(1) الحديث: 2526- سويد بن عمرو الكلبي: ثقة من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/149، وابن أبي حاتم 2/1/239.
أبو حمزة: هو ميمون الأعور القصاب، وهو ضعيف جدًا. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/343، وابن أبي حاتم 4/1/235-236.
وهذا الحديث بهذا السياق لم أجده في موضع آخر. وقد روى قريب من معناه، بإسناد آخر أشد ضعفًا. فروى الدارقطني في سننه، ص: 205، من طريق أبي بكر الهذلي، عن شعيب بن الحبحاب، عن الشعبي، عن فاطمة بنت قيس، قالت: "أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بطوق فيه سبعون مثقالا من ذهب، فقلت: يا رسول الله، خذ منه الفريضة، فأخذ منه مثقالا وثلاثة أرباع مثقال". وقال الدارقطني: "أبو بكر الهذلي: متروك، ولم يأت به غيره". وقد مضى بيان ضعف الهذلي هذا: 597.
(2) الحديث: 2527- شريك: هو ابن عبد الله بن أبي شريك، النخعي القاضي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/238، وابن أبي حاتم 2/1/365-367.
وقوله: "عن فاطمة بنت قيس: أنها سمعت": يعني النبي صلى الله عليه وسلم. كما هو ظاهر من سياق القول، ومن الروايات الأخر. وسيأتي الحديث أيضًا: 2530- وتخريجه هناك، إن شاء الله.(3/342)
قال، حدثني مزاحم بن زفر قال، كنت جالسًا عند عطاء فأتاه أعرابي فقال له: إن لي إبلا فهل عليّ فيها حقٌّ بعد الصدقة؟ قال: نعم! قال: ماذا؟ قال: عَاريَّة الدلو، وطُروق الفحل، والحلَب. (1)
2529- حدثني موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، ذكره عن مرة الهمداني في:"وآتى المالَ على حُبه" قال: قال عبد الله بن مسعود: تُعطيه وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تطيل الأمل، وتخاف الفقر. وذكر أيضًا عن السدي أن هذا شيء واجبٌ في المال، حق على صاحب المال أن يفعله، سوى الذي عليه من الزكاة.
2530- حدثنا الربيع بن سليمان قال، حدثنا أسد قال، حدثنا سويد بن عبد الله، عن أبي حمزة، عن عامر، عن فاطمة بنت قيس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"في المال حق سوى الزكاة، وتلا هذه الآية:"ليس البر" إلى آخر الآية. (2)
__________
(1) في المطبوعة: "عارية الذلول"، وهو خطأ. في حديث عبد الله مسعود: "كنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: عارية الدلو والقدر"، وفي حديث أبي هريرة أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما حق الإبل؟ قال: تعطى الكريمة، وتمنح الغزيرة، وتفقر الظهر، وتطرق الفحل، وتسقى اللبن". وفي حديث عبيد بن عمير قال قال رجل: يا رسول الله، ما حق الإبل -فذكره نحوه- زاد: "وإعارة دلوها". (سنن أبي داود 2: 167، 168 باب حقوق المال) .
وطرق الفحل الناقة يطرقها طرقًا وطروقًا: قعا عليها وضربها. وإطراق الفحل: إعارته للضراب. والحلب (بفتحتين) : اللبن المحلوب، سمي بمصدره من: حلب الناقة يحلبهَا وحلبًا وحلابًا.
(2) الحديث: 2530- أسد: هو ابن موسى، الذي يقال له"أسد السنة". مضى في: 23. سويد بن عبد الله هكذا ثبت في المطبوعة. وعندي أنه خطأ، صواب"شريك بن عبد الله"، الذي مضى في الإسناد السابق: 2527. فإن الحديث معروف أنه من رواية شريك. ثم ليس في الرواة -الذين رأينا تراجمهم- من يسمى"سويد بن عبد الله" إلا رجلا له شأن لا بهذا الإسناد، لم يعرف إلا بخبر آخر منكر، وهو مترجم في لسان الميزان.
وهذا الحديث تكرار للحديث: 2527 بأطول منه قليلا. ورواه أيضًا الدارمي 1: 385، عن محمد بن الطفيل. والترمذي 2: 22، من طريق الأسود بن عامر، وعن الدارمي عن محمد بن الطفيل. وابن ماجه: 1789، من طريق يحيى بن آدم. والبيهقي في السنن الكبرى 4: 84، من طريق شاذان - كلهم عن شريك، بهذا الإسناد، مطولا ومختصرًا.
قال الترمذي: "هذا حديث ليس إسناده بذاك. أبو ميمون الأعور يضعف".
وقال البيهقي: "فهذا حديث يعرف بأبي حمزة ميمون الأعور، كوفي، وقد جرحه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين، فمن بعدهما من حفاظ الحديث".
ونقل ابن كثير 1: 389-390 أنه رواه أيضًا ابن أبي حاتم، عن يحيى بن عبد الحميد. ورواه ابن مردويه، من حديث آدم بن أبي إياس، ويحيى بن عبد الحميد - كلاهما عن شريك، ثم ذكر أنه أخرجه ابن ماجه، والترمذي.
ووقع لفظ الحديث في ابن ماجه مغلوطًا، بنقيض معناه. بلفظ: "ليس في المال حق سوى الزكاة"!
وهذا خطأ قديم في بعض نسخ ابن ماجه. وحاول بعض العلماء الاستدلال على صحة هذا اللفظ عند ابن ماجه، كما في التلخيص الحبير للحافظ ابن حجر، ص 177، وشرح الجامع الصغير للمناوي: 7641.
ولكن رواية الطبري الماضية: 2527- وهي من طريق يحيى بن آدم، التي رواه منها ابن ماجه: تدل على أن اللفظ الصحيح هو ما في سائر الروايات.
ويؤيد ذلك أن ابن كثير نسب الحديث للترمذي وابن ماجه، معًا، ولم يفرق بين روايتهما، وكذلك صنع النابلسي في ذخائر المواريث: 11699، إذ نسبه إليهما حديثًا واحدًا.
ويؤيد أيضًا أن البيهقي، بعد أن رواه قال: "والذي يرويه أصحابنا في التعاليق: ليس في المال حق سوى الزكاة - فلست أحفظ فيه إسنادًا. والذي رويت في معناه ما قدمت ذكره". ولو كان في ابن ماجه على هذا اللفظ، لما قال ذلك، إن شاء الله.(3/343)
2531- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن زبيد اليامي، عن مرة بن شراحيل، عن عبد الله في قوله:"وآتى المالَ على حُبه" قال، أن يعطي الرجلُ وهو صحيح شحيحٌ به، يأمل العيش ويخاف الفقر.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية: وأعطى المال - وهو له محب، حريصٌ على جمعه، شحيح به - ذَوي قَرابته فوصل به أرحامهم.
وإنما قلت عنى بقوله:"ذوي القرْبى"، ذوي قرابة مؤدِّي المال على حُبه، للخبر الذي رَوَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمره فاطمةُ بنت قيس=
2532- وقوله صلى الله عليه وسلم حين سئل: أيُّ الصَّدقة أفضَل؟ قال: جُهْد المُقِلّ على ذي القَرَابة الكاشح. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 2532- معناه ثابت من حديث أبي هريرة. رواه أحمد في المسند: 8687 (2: 358 حلبي) : "عن أبي هريرة: أنه قال: يا رسول الله أي الصدقة أفضل؟ قال: جهد المقل، وابدأ بمن تعول".
وذكره المنذري في الترغيب والترهيب 2: 28، وقال: "رواه أبو داود، وابن خزيمة في صحيحه، والحاكم، وقال: صحيح على شرط مسلم".
وروى الحاكم في المستدرك 1: 406، عن أم كلثوم بنت عقبة، قالت: "قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفضل الصدقة على ذي الرحم الكاشح". وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه"، ووافقه الذهبي.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 116، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح"، وذكر قبله أحاديث أخر بنحوه.
والكاشح: المبغض: قال ابن الأثير: "العدو الذي يضمر عداوته، ويطوي عليهما كشحه، أي باطنه".
والكاشح الذي يضمر لك العداوة، كأنه يطويها في كشحه. وهو ما بين الخاصرة إلى الضلع، أو يعرض عنك بوجهه ويوليك كشحه.(3/344)
وأما"اليتامى""والمساكين"، فقد بينا معانيهما فيما مضى. (1)
* * *
وأما"ابن السبيل"، فإنه المجتاز بالرَّجل. ثم اختلف أهل العلم في صفته. فقال بعضهم: هو الضيفُ من ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
2533- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال: حدثنا سعيد، عن قتادة:"وابن السبيل" قال، هو الضيف قال: قد ذُكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:" من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خَيرًا أو ليسكت. قال: وكان يَقول: حَق الضيافة ثلاثُ ليال، فكل شيء أضافه بَعد ذَلك صدقة. (2)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف في معنى"مسكين" 2: 137، 293، ومعنى: "ذي القربى"، و"اليتامى" 2: 292.
(2) الحديث: 2533- هو حديث مرسل، يقول قتادة -وهو تابعي-: "قد ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول. . "، فذكره.
و"سعيد" الذي يروي عن قتادة: هو سعيد بن أبي عروبة. و"يزيد" الراوي عنه: هو يزيد بن زريع.
والحديث ثبت معناه ضمن حديث رواه مسلم 2: 45، من حديث أبي شريح العدوي الخزاعي: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته، قالوا: وما جائزته يا رسول الله؟ قال: يومه وليلته، والضيافة ثلاثة أيام، فما كان وراء ذلك فهو صدقة عليه، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت". ورواه أيضًا أحمد، وسائر أصحاب الكتب الستة، كما في الفتح الكبير 3: 231.(3/345)
وقال بعضهم: هو المسافر يمر عليك.
* ذكر من قال ذلك:
2534- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن جابر، عن أبي جعفر:"وابن السبيل" قال، المجتاز من أرض إلى أرض.
2535- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن معمر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وقتادة في قوله:"وابن السبيل" قال، الذي يمر عليك وهو مسافر.
2536- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عمن ذكره، عن ابن جريج عن مجاهد وقتادة مثله.
* * *
وإنما قيل للمسافر"ابن السبيل"، لملازمته الطريق -والطريق هو"السبيل"- فقيل لملازمته إياه في سفره:"ابنه"، كما يقال لطير الماء"ابن الماء" لملازمته إياه، وللرجل الذي أتت عليه الدهور"ابن الأيام والليالي والأزمنة"، ومنه قول ذي الرمة:
وَرَدْتُ اعْتِسَافًا وَالثُّرَيَّا كَأَنَّهَا ... عَلَى قِمَّةِ الرَّأْسِ ابْنُ مَاءٍ مُحَلِّقُ (1)
* * *
__________
(1) ديوابنه: 401، وهو متعلق ببيت قبله: وَمَاءٍ قَدِيمِ العَهْدِ بالناسِ جنٍ ... كَأَنَّ الدَّبَى مَاءَ الغَضَا فِيهِ يَبْصُقُ
الآجن المتغير. والدبى: صغار الجراد. والغضى: شجر. كأن الجراد رعته، فبصقت فيه رعيها فهو أصفر أسود. والاعتساف: الاقتحام والسير على غير هدى. والمحلق: العالي المرتفع. وابن الماء: هو طير الغرانيق، يعرف بالكركي، والإوز العراقي، وهو أبيض الصدر، أحمر المنقار، أصفر العين. يقول الأقيشر، يصف مجلس شراب: كَأَنَّهُنَّ وأَيْدِي الشَّرْبِ مُعْمَلَةٌ ... إِذَا تَلأْلأَْنَ فِي أَيْدِي الغَرَانِيقِ
بَنَاتُ ماءِ، تُرى بيضًا جَاجِئُها ... حُمْرًا مَنَاقِرُهَا، صُفْرَ الحَمَالِيقِ
والثريا: نجوم كثيرة مجتمعة، سميت بالمفرد. جعلها"على قمة"، وذلك في جوف الليل، ترى بيضاء زاهرة.(3/346)
وأما قوله:"والسائلين"، فإنه يعني به: المستطعمين الطالبين، كما:-
2537- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن إدريس، عن حصين، عن عكرمة في قوله:"والسائلين" قال، الذي يسألك.
* * *
وأما قوله:"وفي الرقاب"، فإنه يعني بذلك: وفي فك الرقاب من العبودة، وهم المكاتبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة، (1) بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها سادَاتهم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وأقامَ الصلاة"، أدام العمل بها بحدودها، وبقوله"وآتى الزكاة"، أعطاها على مَا فَرضها الله عليه. (2)
* * *
__________
(1) العبودة والعبودية واحد، ولا فعل له عند أبي عبيد. وقال اللحياني فعله"عبد" على زنة"كرم".
(2) انظر معنى"إقامة الصلاة" و"إيتاء الزكاة" فيما سلف 1: 572-574، ومواضع أخرى، اطلبها في فهرس اللغة.(3/347)
فإن قال قائل: وهل من حقٍّ يجب في مال إيتاؤه فرضًا غير الزكاة؟
قيل: قد اختلف أهل التأويل في ذلك:
فقال بعضهم: فيه حقوقٌ تجبُ سوى الزكاة = واعتلُّوا لقولهم ذلك بهذه الآية، وقالوا: لما قال الله تبارك وتعالى:"وآتَى المالَ على حُبه ذَوي القربى"، ومن سمى الله معهم، ثم قال بعد:"وأقامَ الصلاةَ وآتى الزكاة"، علمنا أن المالَ - الذي وَصَف المؤمنين به أنهم يُؤتونه ذَوي القربى، ومن سمَّى معهم - غيرُ الزكاة التي ذكر أنهم يؤتونها. لأن ذلك لو كان مالا واحدًا لم يكن لتكريره معنى مفهوم. قالوا: فلما كان غيرَ جائز أن يقول تعالى ذكره قولا لا معنى له، علمنا أنّ حكم المال الأول غيرُ الزكاة، وأن الزكاة التي ذكرها بعد غيره. قالوا: وبعد، فقد أبان تأويل أهل التأويل صحة ما قلنا في ذلك.
وقال آخرون: بل المال الأول هو الزكاة، ولكن الله وصَف إيتاء المؤمنين مَنْ آتوه ذلك، في أول الآية. فعرَّف عباده -بوصفه ما وصف من أمرهم- المواضعَ التي يجب عليهم أن يضَعوا فيها زكواتهم، ثم دلّهم بقوله بعد ذلك:"وآتى الزكاة"، أن المال الذي آتاه القومُ هو الزكاة المفروضةُ =كانت= عليهم، إذ كان أهلُ سُهمانها هم الذين أخبرَ في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم.
* * *
وأما قوله:"والموفون بَعهدهم إذا عاهدوا"، فإن يعني تعالى ذكره: والذين لا ينقضون عَهد الله بعد المعاهدة، ولكن يوفُون به ويتمُّونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه. كما:-
2538- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع بن أنس في قوله:"والموفون بعهدهم إذا عاهدوا" قال، فمن أعطى عهدَ الله ثم نقضه، فالله ينتقم منه. ومن أعطى ذمة النبي صلى الله عليه(3/348)
وسلم ثم غَدر بها، فالنبي صلى الله عليه وسلم خصمه يومَ القيامة.
* * *
وقد بينت"العهد" فيما مضى، بما أغنى عن إعادته هاهنا. (1)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ}
قال أبو جعفر: وقد بينا تأويل"الصبر" فيما مضى قبل. (2)
فمعنى الكلام: والمانعين أنفسهم -في البأساء والضراء وحين البأس- مما يكرهه الله لَهم، الحابسيها على ما أمرهم به من طاعته. ثم قال أهل التأويل في معنى"البأساء والضراء" بما:-
2539- حدثني به الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ (3) قال، حدثني أبي - وحدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد - قالا جميعًا، حدثنا أسباط عن السدي، عن مرة الهمداني، عن ابن مسعود أنه قال: أما البأساءُ فالفقر، وأما الضراء فالسقم.
2540- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي - وحدثني المثنى قال، حدثنا الحماني - قالا جميعًا، حدثنا شريك، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله في قوله:"والصابرين في البأساء والضراء" قال، البأساء الجوع، والضراء المرضُ.
2541- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا شريك، عن السدي، عن مرة عن عبد الله قال: البأساء الحاجة، والضراءُ المرضُ.
2542- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال حدثنا سعيد، عن قتادة قال:
__________
(1) انظر ما سلف 1: 410-415، 557 / ثم هذا الجزء 3: 20.
(2) انظر ما سلف 2: 10-11، 124 / ثم هذا الجزء 3: 214.
(3) في المطبوعة"العبقري"، والصواب ما أثبته، وقد ترجم له فيما سلف رقم: 1625.(3/349)
كنا نُحدِّث أن البأساء البؤس والفقر، وأن الضراء السُّقم. وقد قال النبي أيوب صلى الله عليه وسلم (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [سورة الأنبياء: 83] .
2543- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"والصابرين في البأساء والضراء" قال، البؤس: الفاقة والفقر، والضراء: في النفس، من وَجع أو مرَض يصيبه في جسده.
2544- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"البأساء والضراء" قال، البأساء: البؤس، والضراء: الزمانة في الجسد.
2545- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك قال:"البأساء والضراء"، المرض. (1)
2546- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج:"والصابرين في البأساء والضراء" قال، البأساء: البؤس والفقر، والضراء: السقم والوجع.
2547- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل قال: سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في هذه الآية:"والصابرين في البأساء والضراء"، أما البأساء: الفقر، والضراء: المرض. (2)
* * *
قال أبو جعفر: وأما أهل العربية: فإنهم اختلفوا في ذلك. فقال بعضهم:
__________
(1) الأثر: 2545- أخشى أن يكون قد سقط من هذا الأثر شيء. وهو تفسير"البأساء"، وذكر"الضراء" قبل قوله: "المرض"، وسيأتي على الصواب في الأثر الذي يليه.
(2) الخبر: 2547- عبيد بن الطفيل: كنيته: "أبو سيدان"، بكسر السين المهملة وسكون الياء التحتية ثم دال مهملة، كما سيأتي باسمه وكنيته: 2555. وهو الغطفاني، يروي عنه أيضًا وكيع، وأبو نعيم الفضل بن دكين، قال أبو حاتم: "صالح، لا بأس به". وهو مترجم في التقريب، والخلاصة وابن أبي حاتم 2/2/409.(3/350)
"البأساء والضراء"، مصدر جاء على"فعلاء" ليس له"أفعل" لأنه اسم، كما قد جاء"أفعل" في الأسماء ليس له"فعلاء"، نحو"أحمد". وقد قالوا في الصفة"أفعل"، ولم يجيء له"فعلاء"، فقالوا:"أنت من ذلك أوْجل"، ولم يقولوا:"وجلاء".
وقال بعضهم: هو اسم للفعل. فإن"البأساء"، البؤس،"والضراء" الضر. وهو اسم يقع إن شئت لمؤنث، وإن شئت لمذكر، كما قال زهير:
فَتُنْتَجْ لَكُمْ غِلْمَانَ أَشْأَمَ، كُلُّهُمْ ... كَأَحْمَرِ عَادٍ، ثُمَّ تُرْضِعْ فَتَفْطِمِ (1)
يعني فتنتج لكم غلمان شؤم.
وقال بعضهم: لو كان ذلك اسمًا يجوز صرفه إلى مذكر ومؤنث، لجازَ إجراء"أفعل" في النكرة، ولكنه اسم قام مقام المصدر. والدليل على ذلك قوله:"لئن طَلبت نُصرتهم لتجدنَّهم غير أبعدَ"، (2) بغير إجراء. وقال: إنما كان اسما للمصدر، لأنه إذا ذُكر علم أنه يُراد به المصدر.
وقال غيره: لو كان ذلك مصدرًا فوقع بتأنيث، لم يقع بتذكير، ولو وَقَع
__________
(1) ديوانه: 20، من معلقته الفريدة. وهي من أبياته في صفة الحرب، التي قال في بدئها، قبل هذا البيت: وَمَا الحَرْبُ إِلاَّ مَا عَلِمْتُمْ وَذُقْتُمُ ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالحَدِيث المُرَجَّمِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً، ... وتَضْرَ، إذا ضَرَّيْتُمُوهَا فَتَضْرَمِ
فَتَعْرُكَكُم عَرْكَ الرَّحَا بِثِفَالِهَا ... وَتلْقَحْ كِشافًا، ثم تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
يقول: إن الحرب تلقح كما تلقح الناقة، فتأتي بتوأمين في بطن. وقوله: "أحمر عاد" يعني أحمر ثمود، فأخطأ ولم يبال أيهما قال. وأحمر ثمود، هو قدار، عاقر ناقة الله فأهلكهم ربهم بما فعلوا. يقول: إن الحرب ترضع مشائيمها وتقوم عليهم حتى تفطمهم بعد أن يبلغوا السعي لأنفسهم في الشر.
(2) يقال"فلان غير أبعد"، أي لا خير فيه. ويقال: "ما عند فلان أبعد" أي لا طائل عنده. قال رجل لابنه: "إن غدوت على المربد ربحت عنا، أو رجعت بغير أبعد"، أي بغير منفعة.(3/351)
بتذكير، لم يقع بتأنيث. لأن من سُمي ب"أفعل" لم يصرف إلى"فُعلى"، ومن سُمي ب"فُعلى" لم يصرف إلى"أفعل"، لأن كل اسم يبقى بهيئته لا يصرف إلى غيره، ولكنهما لغتان. فإذا وقع بالتذكير، كان بأمر"أشأم"، وإذا وقع"البأساء والضراء"، (1) وقع: الخلة البأساء، والخلة الضراء. وإن كان لم يُبن على"الضراء"،"الأضر"، ولا على"الأشأم"،"الشأماء". لأنه لم يُردْ من تأنيثه التذكير، ولا من تذكيره التأنيث، كما قالوا:"امرأة حسناء"، ولم يقولوا:"رجل أحسن". وقالوا:"رجل أمرد"، ولم يقولوا:"امرأة مرداء". فإذا قيل:"الخصلة الضراء" و"الأمر الأشأم"، دل على المصدر، ولم يحتج إلى أن يكون اسمًا، وإن كان قد كَفَى من المصدر.
وهذا قول مخالفٌ تأويلَ من ذكرنا تأويله من أهل العلم في تأويل"البأساء والضراء"، وإن كان صحيحًا على مذهب العربية. وذلك أن أهل التأويل تأولوا"البأساء" بمعنى: البؤس،"والضراء" بمعنى: الضر في الجسد. وذلك من تأويلهم مبني على أنهم وجَّهوا"البأساءَ والضراء" إلى أسماء الأفعال، دون صفات الأسماء ونعوتها. فالذي هو أولى ب"البأساء والضراء"، على قول أهل التأويل، أن تكون"البأساء والضراء" أسماء أفعال، فتكون"البأساء" اسمًا"للبؤس"، و"الضراء" اسمًا"للضر".
* * *
وأما"الصابرين" فنصبٌ، وهو من نعت"مَن" على وجه المدح. (2) لأن من شأن العرب -إذا تطاولت صفةُ الواحد- الاعتراضُ بالمدح والذم بالنصب أحيانًا، وبالرفع أحيانًا، (3) كما قال الشاعر: (4)
__________
(1) يعني: إذا وقع بالتأنيث: وقع بمعنى: الخلة البأساء والخلة الضراء.
(2) يريد"من" في قوله تعالى: "ولكن البر من آمن. . . "
(3) انظر ما سلف 1: 329.
(4) لم أعرف قائله.(3/352)
إلَى المَلِكِ القَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ ... وَلَيْثَ الكَتِيبَةِ فِي المُزْدَحَمْ (1) وَذَا الرَّأْيِ حِينَ تُغَمُّ الأمُورُ ... بِذَاتِ الصَّلِيلِ وذَاتِ اللُّجُمْ (2)
فنصب"ليث الكتيبة" وذا"الرأي" على المدح، والاسم قبلهما مخفُوضٌ لأنه من صفة واحد، ومنه قول الآخر: (3)
فَلَيْتَ الَّتِي فِيهَا النُّجُومُ تَوَاضَعَت ... عَلَى كُلِّ غَثٍّ مِنْهُمُ وسَمِينِ (4) غيُوثَ الوَرَى فِي كُلِّ مَحْلٍ وَأَزْمَةٍ ... أُسُودَ الشَّرَى يَحْمِينَ كُلَّ عَرِينِ (5)
* * *
وقد زعم بعضهم أن قوله: (6) "والصابرين في البأساء"، نصبٌ عطفًا على"السائلين".
__________
(1) معاني القرآن للفراء 1: 105، والإنصاف: 195، وأمالي الشريف 1: 205، وخزانة الأدب 1: 216. والقرم. السيد المعظم المقدم في المعرفة وتجارب الأمور. والمزدحم: حومة القتال حيث يزدحم الكماة. يمدحه بالجرأة في القتال.
(2) وغم الأمر يغم (بالبناء للمجهول) : استعجم وأظلم، وصار المرء منه في لبس لا يهتدي لصوابه. والصليل: صوت الحديد. يعني بذات الصليل كتيبة من الرجالة يصل حديد بيضها وشكتها وسلاحها. وذات اللجم: كتيبة من الفرسان. يذكر ثباته واجتماع نفسه ورأيه حين تطيش العقول في صليل السيوف وكر الخيول في معركة الموت. فقوله: "بذات الصليل" متعلق بقوله: "تغم الأمور".
(3) لم أعرف قائلهما.
(4) معاني القرآن للفراء 1: 106، وأمالي الشريف 1: 206. وقوله: "تواضعت"، هو عندي"تفاعل" من قولهم: وضع الباني الحجر توضيعًا: نضد بعضه على بعض. ومنه التوضع: وهو خياطة الجبة بعد وضع القطن. ومنه أيضًا: وضعت النعامة بيضها: إذا رثدته ووضعت بعضه فوق بعض، وهو بيض موضع: منضود بعضه على بعض. يقول: ليت السماء قد انضمت على جميعهم، فكانوا من نجومها. وقوله: "غث منهم وسمين"، مدح، يعني: ليس فيهم غث، فغثهم حقيق بأن يكون من أهل العلاء.
(5) المحل: الجدب والقحط. ورواية الفراء والشريف: "ولزبة". والأزمة والأزبة واللزبة، بمعنى واحد: وهي شدة السنة والقحط. وروايتهما أيضًا: "غيوث الحيا". والحيا: الخصب، ويسمى المطر حيا، لأنه سبب الخصب. والثرى: موضع تأوي إليه الأسود.
(6) هذا القول ذكره الفراء في معاني القرآن 1: 108، ورده.(3/353)
كأن معنى الكلام كان عنده: وآتى المال على حبه ذَوي القربَى واليتامَى والمساكين، وابنَ السبيل والسائلينَ والصابرين في البأساء والضراء. وظاهرُ كتاب الله يدلّ على خطأ هذا القول، وذلك أنّ"الصابرين في البأساء والضراء"، هم أهل الزمانة في الأبدان، وأهلُ الإقتار في الأموال. وقد مضى وصف القوم بإيتاء -مَنْ كان ذلك صفته- المالَ في قوله:"والمساكينَ وابنَ السبيل والسائلين"، وأهل الفاقة والفقر، هم أهل"البأساء والضراء"، لأن من لم يكن من أهل الضراء ذا بأساء، لم يكن ممن له قبولُ الصدقة، وإنما له قبولها إذا كان جامعًا إلى ضرائه بأساء، وإذا جمع إليها بأساء، كان من أهل المسكنة الذين قد دخلوا في جملة"المساكين" الذين قد مضى ذكرهم قبل قوله:"والصابرين في البأساء". وإذا كان كذلك، ثم نصب"الصابرين في البأساء" بقوله"وآتى المال على حبه"، كان الكلام تكريرًا بغير فائدة معنى. كأنه قيل: وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامَى والمساكينَ. والله يتعالى عن أن يكون ذلك في خطابه عبادَه. ولكن معنى ذلك: ولكنّ البر مَن آمن بالله واليوم الآخر، والموفون بعهدهم إذا عاهدوا، والصابرين في البأساء والضراء."والموفون" رفعٌ لأنه من صفة"مَنْ"، و"مَنْ" رفعٌ، فهو معرب بإعرابه."والصابرين" نصب -وإن كان من صفته- على وجه المدح الذي وصفنا قبل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَحِينَ الْبَأْسِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وحين البأس"، والصابرين في وقت البأس، وذلك وَقت شدة القتال في الحرب، كما:-
2548- حدثني الحسين بن عمرو بن محمد العنقزيّ قال، حدثنا أبي قال،(3/354)
حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله في قول الله:"وحين البأس" قال، حين القتال. (1)
2549- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، عن مرة، عن عبد الله مثله.
2550- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وحين البأس" القتال.
2551- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:"وحين البأس"، أي عندَ مواطن القتال.
2552- حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة:"وحين البأس"، القتال.
2553- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع،"وحين البأس"، عند لقاء العدو.
2554- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا عبيدة، عن الضحاك:"وحين البأس"، القتال
2555- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا عبيد بن الطفيل أبو سيدان قال، سمعت الضحاك بن مزاحم يقول في قوله:"وحين البأس" قال، القتال. (2)
* * *
__________
(1) الأثر: 2548- في المطبوعة: "العبقري"، وقد مضى مرارا خطأ، وصححناه. وانظر ترجمته في رقم: 1625.
(2) الخبران: 2554-2555 أبو نعيم في أولهما؛ هو الفضل بن دكين. وأبو أحمد في ثانيهما: هو الزبيري، محمد بن عبد الله بن الزبير. وباقي الإسناد، مضى في: 2547.(3/355)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أولئك الذين صدقوا"، من آمن بالله واليوم الآخر، ونعتهم النعتَ الذي نعتهم به في هذه الآية. يقول: فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وحققوا قولهم بأفعالهم - لا مَنْ ولَّى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره، وينقض عهده وميثاقه، ويكتم الناسَ بَيانَ ما أمره الله ببيانه، ويكذِّب رسله.
* * *
وأما قوله:"وأولئك هُم المتقون"، فإنه يعني: وأولئك الذين اتقوا عقابَ الله، فتجنَّبوا عصيانه، وحَذِروا وعده، فلم يتعدَّوا حدوده. وخافوه، فقاموا بأداء فرائضه.
* * *
وبمثل الذي قلنا في قوله:"أولئك الذين صَدقوا"، كان الربيع بن أنس يقول:
2556- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"أولئك الذين صدقوا" قال، فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقتُه العمل، صَدقوا الله. قال: وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقتُه العمل، فإن لم يكن مع القول عملٌ فلا شيء.
* * *(3/356)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنْثَى بِالأنْثَى}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى"، فُرض عليكم.
* * *
فإن قال قائل: أفرضٌ على وليّ القتيل القصاصُ من قاتل وَليّه؟
قيل: لا ولكنه مباح له ذلك، والعفو، وأخذُ الدية.
فإن قال قائل: وكيف قال:"كتب عليكم القصاص"؟
قيل: إن معنى ذلك على خلاف ما ذهبتَ إليه، وإنما معناه: يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى، أي أن الحر إذا قتل الحرَّ، فَدم القاتل كفءٌ لدم القتيل، والقصاصُ منه دون غيره من الناس، فلا تجاوزوا بالقتل إلى غيره ممن لم يقتل، فإنه حرام عليكم أن تقتلوا بقتيلكم غيرَ قاتله.
والفرض الذي فرضَ الله علينا في القصاص، هو ما وصفتُ من ترك المجاوزة بالقصاص قَتلَ القاتل بقتيله إلى غيره، لا أنه وجب علينا القصاص فرضًا وجُوب فرضِ الصلاة والصيام، حتى لا يكون لنا تركه. ولو كان ذلك فرضًا لا يجوز لنا تركه، لم يكن لقوله:"فَمن عُفي لهُ من أخيه شيء"، معنى مفهوم. لأنه لا عفو بعد القصاص فيقال:"فمن عفي له من أخيه شيء".
* * *
وقد قيل: إن معنى القصاص في هذه الآية، مقاصَّة ديات بعض القتلى بديات بعض. وذلك أن الآية عندهم نزلت في حِزبين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل بعضهم بعضًا، فأُمِر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يُصْلح بينهم بأن تَسقط ديات نساء أحد الحزبين بديات نساء الآخرين، ودياتُ رجالهم(3/357)
بديات رجالهم، وديات عبيدهم بديات عبيدهم، قصاصًا. فذلك عندهم مَعنى"القصاص" في هذه الآية.
* * *
فإن قال قائل: فإنه تعالى ذكره قال:"كُتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى"، فما لنا أن نقتص للحر إلا من الحر، ولا للأنثى إلا من الأنثى؟
قيل: بل لنا أن نقتص للحر من العبد، وللأنثى من الذكر بقول الله تعالى ذكره: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) [سورة الإسراء: 33] ، وبالنقل المستفيض عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
2557- المسلمون تتكافأ دماؤهم. (1)
* * *
فإن قال: فإذ كان ذلك، فما وجه تأويل هذه الآية؟
قيل: اختلف أهلُ التأويل في ذلك. فقال بعضهم: نزلت هذه الآية في قوم كانوا إذا قتل الرجل منهم عَبد قوم آخرين، لم يرضوا من قتيلهم بدم قاتله، من أجل أنه عَبد، حتى يقتلوا به سَيّده. وإذا قتلت المرأة من غيرهم رجلا لم يرضوا من دم صاحبهم بالمرأة القاتلة، حتى يقتلوا رجلا من رهط المرأة وعشيرتها. فأنزل الله هذه الآية، فأعلمهم أن الذي فُرض لهم من القصاص أن يقتلوا بالرجل الرجلَ القاتل دون غيره، وبالأنثى الأنثى القاتلة دون غيرها من الرجال، وبالعبد العبدَ القاتلَ دون غيره من الأحرار، فنهاهم أن يتعدَّوا القاتل إلى غيره في القصاص.
* ذكر من قال ذلك:
2558- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد -وحدثني المثنى
__________
(1) الحديث: 2557- رواه الطبري هنا معلقًا، دون إسناد. وقد رواه أحمد في المسند: 6797، من حديث عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده - وهو عبد الله بن عمرو بن العاص: "المسلمون تكافأ داؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم". ورواه بنحوه أيضًا ابن ماجه: 2685. ورواه أحمد، بألفاظ مختلفة، مطولا ومختصرًا: 6692، 6970، 7012.(3/358)
قال، حدثنا الحجاج- قالا حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله:"الحر بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، نزلت قي قبيلتين من قبائل العرب اقتتلتا قتال عُمِّيَّة، فقالوا: نقتل بعبدنا فلانَ ابن فلان، وبفلانة فلانَ بن فلان، فأنزل الله:"الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى". (1)
2559- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، كان أهل الجاهلية فيهم بَغْيٌ وطاعة للشيطان، فكان الحيّ إذا كان فيهم عُدة ومَنعة، فقيل عبدُ قوم آخرين عبدًا لهم، قالوا: لا نقتل به إلا حرًّا! تعززًا، لفضلهم على غيرهم في أنفسهم. وإذا قُتلت لهم امرأة قتلتها امرأةُ قوم آخرين قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا! فأنزل الله هذه الآية يخبرهم أنّ العبدَ بالعبد والأنثى بالأنثى، فنهاهم عن البغي. ثم أنزل الله تعالى ذكره في سورة المائدة بعد ذلك فقال: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأنْفَ بِالأنْفِ وَالأذُنَ بِالأذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) [سورة المائدة: 45] .
2560- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، لم يكن لمن قبلنا ديةٌ، إنما هُو القتل، أو العفوُ إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثر من غيرهم، فكانوا إذا قتل من الحيّ الكثير عبدٌ قالوا: لا نقتل به إلا حُرًّا. وإذا قتلت منهم امرأة قالوا: لا نقتل بها إلا رجلا. فأنزل الله:"الحرّ بالحرّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى".
__________
(1) العمية (بضم العين أو كسرها، وتشديد الميم وتشديد الياء) : الغواية والكبر واللجاجة في الباطل والفتنة والضلالة. وفي الحديث: "من قاتل تحت راية عمية، يغضب لعصبة، أو ينصر عصبة، أو يدعو لعصبة، فقتل، قتل قتلة جاهلية". وقال أحمد بن حنبل: هو الأمر الأعمى للعصبية، لا تستبين ما وجهه.(3/359)
2561- حدثني محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت داود، عن عامر في هذه الآية:"كتب عليكم القصَاص في القتلى الحر بالحرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، إنما ذلك في قتال عُمية، (1) إذا أصيب من هؤلاء عبدٌ ومن هؤلاء عبدٌ، تكافآ، وفي المرأتين كذلك، وفي الحرّين كذلك. هذا معناه إن شاء الله.
2562- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال، دخل في قول الله تعالى ذكره:"الحر بالحر"، الرجل بالمرأة، والمرأةُ بالرجل. وقال عطاء: ليس بينهما فَضل.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في فريقين كان بينهم قتالٌ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقتل من كلا الفريقين جماعةٌ من الرجال والنساء، فأُمِر النبي صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم، بأن يجعل ديات النساء من كل واحد من الفريقين قصاصًا بديات النساء من الفريق الآخر، وديات الرجال بالرجال، وديات العبيد بالعبيد، فذلك معنى قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى".
* ذكر من قال ذلك:
2563- حدثنا موسى بن هارون قال: حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، اقتتل أهل ملتين من العرب، أحدهما مسلم والآخر معاهد، في بعض ما يكون بين العرب من الأمر، فأصلح بينهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم -وقد كانوا قَتلوا الأحرار والعبيد والنساء- على أن يؤدِّي الحرُّ ديةَ الحر، والعبد دية العبد، والأنثى دية الأنثى، فقاصَّهم بعضَهم من بعض.
2564- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا عبد الله
__________
(1) سلف شرح"عمية" في ص: 359، تعليق: 1.(3/360)
بن المبارك، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك قال: كان بين حيين من الأنصار قتالٌ، كان لأحدهما على الآخر الطَّوْلُ (1) فكأنهم طلبوا الفضْل. فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليصلح بينهم، فنزلت هذه الآية:"الحرُّ بالحرِّ والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى"، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى.
2566- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شعبة، عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، نزلت في قتال عُمية. قال شعبة: كأنه في صلح. قال: اصطلحوا على هذا.
2567- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة عن أبي بشر قال: سمعت الشعبي يقول في هذه الآية:"كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، نزلت في قتال عُمية"، (2) قال: كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك أمرٌ من الله تعالى ذكره بمقاصَّة دية الحرّ ودية العبد، ودية الذكر ودية الأنثى، في قتل العمد - إن اقتُصَّ للقتيل من القاتل، والتراجع بالفضل والزيادة بين ديتي القتيل والمقتص منه.
* ذكر من قال ذلك:
2568- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبدُ بالعبد والأنثى بالأنثى" قال، حُدِّثنا عن علي بن أبي طالب أنه
__________
(1) الطول: الفضل والعلو.
(2) سلف شرح"عمية" في ص: 359، تعليق: 1.(3/361)
كان يقول: أيما حُرّ قتل عبدًا فهو قَوَدٌ به، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه، وقاصُّوهم بثمن العبد من دية الحرّ، وأدَّوا إلى أولياء الحرّ بقية ديته. وإن عبدٌ قتل حرًّا فهو به قَودٌ، فإن شاء أولياء الحرّ قتلوا العبد وقاصُّوهم بثمن العبد، وأخذوا بقية دية الحرّ، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيَوُا العبد. وأيُّ حرّ قتل امرأة فهو بها قَوَدٌ، فإن شاء أولياء المرأة قَتلوه وأدّوا نصفَ الدية إلى أولياء الحرّ. وإن امرأة قتلتْ حُرًّا فهي به قَوَدٌ، فإن شاء أولياء الحر قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإن شاءوا أخذوا الدية كلها واستحيوها، وإن شَاءوا عفوْا.
2569- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا هشام بن عبد الملك قال، حدثنا حماد بن سلمة، عن قتادة، عن الحسن: أن عليًّا قال في رجل قتل امرأته، قال: إن شاءوا قَتلوه وغَرِموا نصف الدية.
2570- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سعيد، عن عوف، عن الحسن قال: لا يُقتل الرجل بالمرأة، حتى يُعطوا نصف الدية.
2571- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن سماك، عن الشعبي، قال، في رجل قَتل امرأته عمدًا، فأتوا به عليًّا فقال: إن شئتم فاقتلوه، ورُدُّوا فضل دية الرجل على دية المرأة.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت هذه الآية في حال مَا نزلت، والقومُ لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكنهم كانوا يقتلون الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، حتى سَوَّى الله بين حكم جميعهم بقوله: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) [سورة المائدة: 45] ، فجعل جميعَهم قَوَدَ بعضهم ببعض.
* ذكر من قال ذلك:
2572- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"والأنثى بالأنثى"،(3/362)
وذلك أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة، ولكن يقتلون الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة، فأنزل الله تعالى:"النفس بالنفس"، فجعل الأحرار في القصاص سَواءً فيما بينهم، في العمد رجالهم ونساؤُهم، في النفس وما دون النفس. وجعل العبيد مستوين فيما بينهم في العمد، في النفس وما دون النفس، رجالهم ونساؤُهم.
* * *
قال أبو جعفر: (1) فإذ كان مُختلَفًا الاختلافُ الذي وصفتُ، فيما نزلت فيه هذه الآية، فالواجب علينا استعمالها، فيما دلت عليه من الحُكم، بالخبر القاطع العذرَ. وقد تظاهرت الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم بالنقل العامِّ: أن نفس الرجل الحر قَوَدٌ قصَاصًا بنفس المرأة الحرة. فإذ كان ذلك كذلك، وكانت الأمَّة مختلفة في التراجع بفضل مَا بين دية الرجل والمرأة -على ما قد بَيَّنا من قول عليّ وغيره- كان واضحًا (2) فسادُ قول من قال بالقصاص في ذلك. والتراجع بفضل ما بين الديتين، بإجماع جميع أهل الإسلام: على أن حرامًا على الرجل أن يتلف من جَسده عضوًا بعوض يأخذه على إتلافه، فدعْ جميعَه = وعلى أن حرامًا على غيره إتلاف شيء منه -مثل الذي حُرِّم من ذلك- بعوَض يُعطيه عليه. (3) فالواجب أن تكون نفسُ الرجل الحر بنفس المرأة الحرة قَوَدًا.
وإذ كان ذلك كذلك، كان بيّنًا بذلك أنه لم يرد بقوله تعالى ذكره:"الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" أن لا يقادَ العبدُ بالحرّ، وأن لا تُقتل الأنثى بالذكر ولا الذكر بالأنثى. وإذْ كان ذلك كذلك، كان بيِّنًا أن الآية معنيٌّ بها أحد المعنيين الآخرين. إمّا قولنا: من أنْ لا يُتَعدَّى بالقصاص إلى غير القاتل والجاني، فيؤخذ بالأنثى الذكر وبالعبد الحر. وإمّا القول الآخر: وهو أن تكون
__________
(1) قوله: "فإذا كان مختلف" هو تمام قوله في رد السؤال في ص: 358 س: 11. "قيل: اختلف أهل التأويل في ذلك. . ".
(2) في المطبوعة: "وكان واضحًا"، والصواب حذف الواو.
(3) سياق العبارة: "كان واضحًا فساد من قال بالقصاص. . . بإجماع جميع أهل الإسلام على أن حرامًا على الرجل. . . وعلى أن حرامًا على غيره. . . ".(3/363)
الآية نزلت في قوم بأعيانهم خاصة أمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل ديات قتلاهم قصَاصًا بعضها من بعض، كما قاله السدي ومن ذكرنا قوله.
وقد أجمع الجميع -لا خلاف بينهم- على أن المقاصَّة في الحقوق غير واجبة، وأجمعوا على أن الله لم يقض في ذلك قضاء ثم نَسخه. وإذ كان كذلك، وكان قوله تعالى ذكره:"كُتب عليكم القصَاص" ينبئ عن أنه فَرضٌ، كان معلومًا أن القول خلافُ ما قاله قائل هذه المقالة. لأن ما كان فرضًا على أهل الحقوق أن يفعلوه، فلا خيارَ لهم فيه. والجميع مجمعون على أنّ لأهل الحقوق الخيارَ في مقاصَّتهم حقوقهم بعضَها من بعض. فإذْ تبيَّنَ فسادُ هذا الوجه الذي ذكرنا، فالصحيح من القول في ذلك هو ما قلنا.
* * *
فإن قال قائل: = إذْ ذكرتَ أن معنى قوله:"كتب عليكم القصاص" - بمعنى: فُرض عليكم القصاص =: لا يعرف (1) لقول القائل:"كتب" معنًى إلا معنى: خط ذلك، فرسم خطًّا وكتابًا، فما برهانك على أن معنى قوله:"كتب" فُرِض؟
قيل: إن ذلك في كلام العرب موجودٌ، وفي أشعارهم مستفيض، ومنه قول الشاعر: (2)
كُتِبَ القَتْلُ وَالقِتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى المُحْصَنَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ (3)
__________
(1) في المطبوعة: "ولا يعرف. . . " والصواب حذف الواو. والسياق: فإن قال قائل. . - لا يعرف" وما بينهما فصل. والذي ذكره في معنى"كتب" قد سلف في ص: 357.
(2) هو عمر بن أبي ربيعة، أو عبد الله بن الزبير الأسدي.
(3) ديوان عمر: 421، والبيان والتبيين 2: 236، والكامل 2: 154، وتاريخ الطبري 7: 158، وأنساب الأشراف 5: 264، والأغاني 9: 229. ولهذا الشعر خبر. وذلك أن مصعب بن الزبير، لما خرج إلى المختار بن أبي عبيد الثقفي المتنبئ فظفر به وقتله، كان فيمن أخذ امرأته عمرة بنت النعمان بن بشير، فلما سألها عنه قالت: رحمة الله عليه، إن كان عبدًا من عباد الله الصالحين: فكتب مصعب إلى أخيه عبد الله إنها تزعم أنه نبي! فأمر بقتلها. وقتلها الذي تولى قتلها قتلا فظيعًا، فاستنكره الناس، وقالوا فيه، وممن عمر: إِنَّ مِنْ أَعْجَبِ العَجَائِبِ عِنْدي ... قَتْلُ بيضاءَ حُرَّةٍ عُطْبُولِ
قُتِلَتْ هكذا عَلَى غَيْرِ جُرْم ... إِنَّ لِلهِ دَرَّهَا من قَتِيلِ
كُتِبَ القتل. . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .(3/364)
وقولُ نَابغةَ بني جعدة:
يَا بِنْتَ عَمِّي، كِتَابُ اللهِ أَخْرَجَنِي ... عَنْكُم، فَهَلْ أَمْنَعَنَّ اللهَ مَا فَعَلا! (1)
وذلك أكثر في أشعارهم وكلامهم من أن يحصى. غير أن ذلك، وإن كان بمعنى: فُرض، فإنه عندي مأخوذ من"الكتاب" الذي هو رسمٌ وخَط. وذلك أن الله تعالى ذكره قد كتب جميعَ ما فرَض على عباده وما هم عاملوه في اللوح المحفوظ، فقال تعالى ذكره في القرآن: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [سورة البروج: 21-22] وقال: (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) [سورة الواقعة: 77-78] . فقد تبين بذلك أن كل ما فرضه علينا، ففي اللوح المحفوظ مكتوبٌ.
فمعنى قوله: -إذ كان ذلك كذلك-"كُتب عليكم القصاص"، كتب عليكم في اللوح المحفوظ القصَاصُ في القتلى، فَرضًا، أن لا تقتلوا بالمقتول غير قاتله.
* * *
وأما"القصاص" فإنه من قول القائل:"قاصصتُ فلانًا حقّي قِبَلهُ من حَقه قبلي، قصاصًا ومُقاصَّة". فقتل القاتل بالذي قتله"قصاص"، لأنه مفعول به مثلُ الذي فعَل بمن قتله، وإن كان أحد الفعلين عُدوانًا والآخر حَقًّا. فهما وإن اختلفا من هذا الوجه، فهما متفقان في أن كل واحد قد فعَل بصاحبه مثل
__________
(1) اللسان (كتب) وأساس البلاغة (كتب) ، والمقاييس 5: 159، ويروي"يا ابنة عمي"، وفي الأساس: "أخرني"، فأخشى أن تكون خطأ من ناسخ.(3/365)
الذي فعل صاحبه به. وجعل فعل وَليّ القتيل الأوّل إذا قتل قاتل وليه - قصاصًا، إذ كان بسبب قتله استحق قتلَ من قتله، فكأن وليّه المقتول هو الذي وَلى قَتل قاتله، فاقتص منه.
* * *
وأما"القتلى" فإنها جمع"قتيل" كما"الصرعى" جمع"صريع"، والجرحى جمع"جريح". وإنما يجمع"الفعيل" على"الفعلى"، إذا كان صفة للموصوف به، بمعنى الزمانة والضرر الذي لا يقدر معه صاحبه على البراح من موضعه ومصرعه، (1) نحو القتلى في معاركهم، والصرعى في مواضعهم، والجرحى، وما أشبه ذلك.
* * *
فتأويل الكلام إذًا: فُرض عليكم، أيها المؤمنون، القصاصُ في القتلى: أن يُقتص الحر بالحرّ، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى. ثم ترك ذكر"أن يقتص" اكتفاءً بدلالة قوله:"كُتب عليكم القصاص" = عليه.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك.
فقال بعضهم: تأويله: فمن تُرك له من القتل ظلمًا، من الواجب كان لأخيه عليه من القصَاص -وهو الشيء الذي قال الله:"فمن عُفي له من أخيه شيء"- فاتباعٌ من العافي للقاتل بالواجب له قبَله من الدية، وأداءٌ من المعفوِّ عنه ذلك إليه بإحسان.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"أسرى" 2: 311.(3/366)
2573- حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان بن عيينة، عن عمرو، عن مجاهد، عن ابن عباس:"فمن عفي له من أخيه شيء"، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد. واتباع بالمعروف: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدِّي هذا بإحسان.
2574- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس أنه قال في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيءٌ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، فقال: هو العمد، يرضى أهله بالدية، واتباع بالمعروف: أُمر به الطالب = وأداء إليه بإحسان من المطلوب.
2575- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي -وحدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر- قالا جميعًا، أخبرنا ابن المبارك، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال، الذي يقبل الدية، ذلك منه عفوٌ واتباعٌ بالمعروف، ويؤدِّي إليه الذي عُفي له من أخيه بإحسان. (1)
2576- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان"، وهي الدية: أن يحسن الطالبُ الطلبَ = وأداء إليه بإحسان: وهو أن يحسن المطلوبُ الأداءَ.
2577- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف
__________
(1) الخبر: 2575- محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، شيخ الطبري، مضت الرواية عنه أيضًا: 1591. وسيأتي أيضًا: 2594. ووقع في المطبوعة هنا"سفيان" بدل"شقيق". وهو خطأ وتصحيف. فلا يوجد في الرواة من يسمى"محمد بن علي بن الحسن بن سفيان"، ولا باسم أبيه.(3/367)
وأداء إليه بإحسان"، والعَفُوُّ: الذي يعفو عن الدم ويَأخذ الدية.
2578- حدثنا سفيان قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء" قال، الدية.
2579- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد، عن إبراهيم، عن الحسن:"وأداء إليه بإحسان" قال، على هذا الطالب أن يطلبَ بالمعروف، وعلى هذا المطلوب أن يؤدي بإحسان.
2580- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف"، والعفوُّ: الذي يعفو عن الدم، ويأخذ الدية.
2581- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن داود بن أبي هند، عن الشعبي في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، هو العمد، يرضى أهله بالدية.
2582- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن داود، عن الشعبي مثله.
2583- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فمن عُفي له من أخيه شَيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، يقول: قُتل عمدًا فعُفي عنه، وقبلت منه الدية. يقول:"فاتباع بالمعروف"، فأمر المتبع أن يتبع بالمعروف، وأمرَ المؤدِّي أن يؤدي بإحسان، والعمد قَوَدٌ إليه قصاص، لا عَقل فيه، (1) إلا أن يرضَوا بالدية. فإن رضوا بالدية، فمئة خَلِفَة. (2) فإن قالوا: لا نرضى إلا بكذا وكذا. فذاك لهم.
__________
(1) العقل: الدية، سميت عقلا، لأن الدية كانت عند العرب في الجاهلية إبلا، لأنها كانت أموالهم. فكان القاتل يسوق الدية إلى فناء ورثة المقتول، فيعقلها بالعقل ويسلمها إلى أوليائه.
(2) الخلفة (بفتح الخاء وكسر اللام) : الحامل من النوق. وليس لها جمع من لفظها، بل يقال هي"مخاض"، كما يقال: امرأة ونساء.(3/368)
2584- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، يتبع به الطالبُ بالمعروف، ويؤدي المطلوب بإحسان.
2585- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، يقول: فمن قتل عمدًا فعفي عنه، وأخذت منه الدية، يقول:"فاتباع بالمعروف"، أمِر صاحبُ الدية التي يأخذها أن يتبع بالمعروف، وأمِر المؤدِّي أن يؤدي بإحسان.
2586- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قلت لعطاء: قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان" قال، ذلك إذا أخذ الدية، فهو عفوٌ.
2587- حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، أخبرني القاسم بن أبي بزة، عن مجاهد قال: إذا قبل الدية فقد عفا عن القصاص، فذلك قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، قال ابن جريج: وأخبرني الأعرج، عن مجاهد مثل ذلك، وزاد فيه: - فإذا قبل الدية فإن عليه أن يتبع بالمعروف، وعلى الذي عُفى عنه أن يُؤدي بإحسان.
2588- حدثنا المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، قال الحسن: أخذ الدية عفوٌ حَسن.
2589- حدثنا يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد:"وأداء إليه بإحسان" قال، أنتَ أيها المعفوُّ عنه.
2590- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع(3/369)
بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، وهو الدية، أن يحسن الطالب = وأداء إليه بإحسان: هو أن يُحسن المطلوب الأداء.
* * *
وقال آخرون معنى قوله:"فمن عُفي"، فمن فَضَل له فضل، وبقيتْ له بقية. وقالوا: معنى قوله:"من أخيه شيء": من دية أخيه شيء، أو من أرْش جراحته، (1) فاتباع منه القاتلَ أو الجارحَ الذي بَقي ذلك قبله - بمعروف، وأداء = من القاتل أو الجارح = إليه ما بقي قبله له من ذلك بإحسان.
وهذا قول من زعم أن الآية نزلت - أعني قوله:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عَليكم القصاص في القتلى" - في الذين تحاربوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأُمِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُصلح بينهم، فيقاصَّ ديات بعضهم من بعض، ويُردّ بعضُهم على بعض بفضل إن بَقي لهم قبل الآخرين. وأحسب أن قائلي هذا القول وَجَّهوا تأويل"العفو" -في هذا الموضع- إلى: الكثرة من قول الله تعالى ذكره: (حَتَّى عَفَوْا) [سورة الأعراف: 95] . فكأنّ معنى الكلام عندهم: فمن كثر له قبَل أخيه القاتل.
* ذكر من قال ذلك:
2591- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمنَ عُفي له من أخيه شيء"، يقول: بقي له من دية أخيه شَيءٌ أو من أرش جراحته، فليتبع بمعروف، وليؤدِّ الآخرُ إليه بإحسان.
* * *
والواجب على تأويل القول الذي روينا عن علي والحسن - في قوله:"كُتب عليكم القصاص" أنه بمعنى: مُقاصّة دية النفس الذكَر من دية نَفس الأنثى، والعبد من الحر، والتراجع بفضل ما بين ديتي أنفسهما - أن يكون معنى قوله:
__________
(1) الأرش: دية الجنايات والجراحات كالشجة ونحوها.(3/370)
"فمنْ عُفي له من أخيه شيء"، فمن عُفي له من الواجب لأخيه عليه - من قصَاص دية أحدهما بدية نفس الآخر، إلى الرِّضى بدية نفس المقتول، فاتباع من الوليّ بالمعروف، وأداء من القاتل إليه ذلك بإحسان.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال عندي بالصواب في قوله:"فمن عُفي له من أخيه شيء": فمن صُفح له - من الواجب كان لأخيه عليه من القود - عن شيء من الواجب، على دية يأخذها منه، فاتباعٌ بالمعروف = من العافي عن الدم، الراضي بالدية من دم وليه = وأداء إليه - من القاتل - ذلك بإحسان. لما قد بينا من العلل فيما مضى قبل: من أنّ معنى قول الله تعالى ذكره:"كُتب عليكم القصاص"، إنما هو القصَاص من النفوس القاتلة أو الجارحة أو الشاجَّة عمدًا. كذلك"العفو" أيضًا عن ذلك.
وأما معنى قَوله:"فاتباع بالمعروف"، فإنه يعني: فاتباع على ما أوجبه الله لهُ من الحقّ قبَل قاتل وليه، من غير أن يزداد عليه ما ليس له عليه - في أسنان الفرائض أو غير ذلك (1) - أو يكلفه ما لم يوجبه الله له عليه، كما:-
2592- حدثني بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: بلغنا عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من زاد أو ازداد بعيرًا" - يعني في إبل الديات وفرائضها - فمن أمر الجاهلية. (2)
* * *
وأما إحسان الآخر في الأداء، فهو أداءُ ما لَزِمه بقتله لولي القتيل، على
__________
(1) الفرائض جمع فريضة: وهو البعير المأخوذ في الزكاة، سمى فريضة لأنه فرض واجب على رب المال، ثم اتسع فيه حتى سمى البعير فريضة في غير الزكاة.
(2) الحديث: 2592- هذا حديث مرسل، إذ يرويه"قتادة"، وهو تابعي. ولم أجده في مكان آخر ولا ذكره السيوطي.(3/371)
ما ألزمه الله وأوجبه عليه، من غير أن يبخسه حقًّا له قبله بسبب ذلك، أو يحوجه إلى اقتضاءٍ ومطالبة.
* * *
فإن قال لنا قائل: وكيف قيل:"فاتباعٌ بالمعروف وأداء إليه بإحسان"، ولم يَقل فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان، كما قال: (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ) [سورة محمد: 4] ؟ قيل: لو كان التنزيل جاء بالنصب، وكان: فاتباعًا بالمعروف وأداءً إليه بإحسان- كان جائزًا في العربية صحيحًا، على وجْه الأمر، كما يقال:"ضربًا ضَربًا = وإذا لقيت فلانًا فتبجيلا وتعظيمًا"، غير أنه جاءَ رفعًا، وهو أفصح في كلام العرب من نصبه. وكذلك ذلك في كل ما كان نظيرًا له، مما يكون فرضًا عامًّا - فيمن قد فعل، وفيمن لم يفعل إذا فعل- لا ندبًا وحثًّا. ورفعه على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فالأمر فيه: اتباعٌ بالمعروف وأداءٌ إليه بإحسان، أو فالقضاء والحكم فيه: اتباع بالمعروف.
وقد قال بعض أهل العربية: رفع ذلك على معنى: فمن عفي له من أخيه شيء، فعليه اتباعٌ بالمعروف. وهذا مذهب، والأول الذي قلناه هو وجه الكلام. وكذلك كلّ ما كان من نظائر ذلك في القرآن، فإن رفعَه على الوجه الذي قُلناه. وذلك مثل قوله: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) [سورة المائدة: 95] ، وقوله: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) [سورة البقرة: 229] . وأما قوله: (فَضَرْبَ الرِّقَابِ) ، فإن الصواب فيه النصب، وهو وجه الكلام، لأنه على وجه الحثّ من الله تعالى ذكره عبادَه على القتل عند لقاء العدو، كما يقال:"إذا لقيتم العدو فتكبيرًا وتهليلا"، على وجه الحضّ على التكبير، لا على وجه الإيجاب والإلزام. (1)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 109-110.(3/372)
القول في تأويل قوله تعالى: {ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ذلك"، هذا (1) الذي حكمت به وسَننته لكم، من إباحتي لكم -أيتها الأمة- العفوَ عن القصاص من قاتل قتيلكم، على دية تأخذونها فتملكونها ملككم سائر أموالكم التي كنت مَنعتها مَن قبلكم من الأمم السالفة ="تخفيف من ربكم"، يقول: تخفيف مني لكم مما كنت ثَقَّلته على غيركم، بتحريم ذلك عليهم ="ورحمة"، مني لكم. كما:-
2593- حدثنا أبو كريب وأحمد بن حماد الدولابي قالا حدثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان في بني إسرائيل القصاصُ ولم تكن فيهم الدية، فقال الله في هذه الآية:"كُتب عليكم القصاصُ في القتلى الحر بالحر" إلى قوله:"فمَن عُفي له من أخيه شيء"، فالعفو: أن يقبل الدية في العمد ="ذلك تخفيف من ربكم". يقول: خفف عنكم ما كان على مَنْ كان قبلكم: أن يطلب هذا بمعروف، ويؤدي هذا بإحسان. (2)
__________
(1) انظر"ذلك" بمعنى"هذا"1: 235-237 / ثم هذا الجزء 3: 335.
(2) الحديث: 2593- أحمد بن حماد بن سعيد بن مسلم الأنصاري الرازي الدولابي: هو والد"أبي بشر محمد بن أحمد الدولابي" صاحب كتاب الكنى والأسماء. وقد رفعنا نسبه نقلا عن تذكرة الحفاظ 2: 291في ترجمة ابنه الحافظ. وأحمد بن حماد هذا: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم1/1/49، فلم يذكر فيه جرحًا، وذكر أن أباه أبا حاتم سمع منه.
سفيان: هو ابن عيينة.
والحديث رواه عبد الرزاق في تفسيره، ص: 16، بنحوه. بإسنادين: عن معمر، عن أبي نجيح، عن مجاهد. وعن ابن عيينة -كالإسناد هنا إلى مجاهد- عن ابن عباس.
ورواه البخاري 12: 183 (فتح) ، عن قتيبة بن سعيد، عن سفيان. بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي1: 173، وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والنسائي، وابن أبي حاتم، وابن حبان، وغيرهم.
وذكره ابن كثير 1: 394، من رواية سعيد بن منصور، عن سفيان. ثم قال: "وقد رواه غير واحد عن عمرو. وأخرجه ابن حبان في صحيحه عن عمرو بن دينار". فقد سها -رحمه الله- عن أن البخاري رواه في صحيحه، فنسبه لصحيح ابن حبان، ولم يذكر البخاري.(3/373)
2594- حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق قال، حدثنا أبي قال، حدثنا عبد الله بن المبارك، عن محمد بن مسلم، عن عمرو بن دينار، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان مَنْ قبلكم يقتلون القاتل بالقتيل، لا تقبل منهم الدّية، فأنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر" إلى آخر الآية،"ذلك تخفيفٌ من ربكم"، يقول: خفف عنكم، وكان على مَنْ قبلكم أنّ الدية لم تكن تقبل، فالذي يَقبل الدية ذلك منه عَفوٌ.
2595- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس:"ذلك تخفيف من ربكم ورحمة" - مما كان على بني إسرائيل، يعني: من تحريم الدية عليهم.
2596- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: كان على بني إسرائيل قصاص في القتل، ليس بينهم دية في نَفس ولا جَرْح، وذلك قول الله: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ) الآية كلها [سورة المائدة: 45] ، وخفف الله عن أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فقبل منهم الدية في النفس وفي الجراحة، وذلك قوله تعالى:"ذلك تخفيفٌ من ربكم" بينكم.
2597- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ذلك تخفيف من ربكم ورحمة"، وإنما هي رحمة رَحم الله بها هذه الأمة، أطعمهم الدية، وأحلَّها لهم، ولم تحلَّ لأحد قبلهم. فكان أهل التوراة إنما هو القصاص أو العفو، وليس بينهما أرْش، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفوٌ، أمروا به. فجعل الله لهذه الأمة القوَد والعفو والدية إن شاءوا، أحلها لهم، ولم تكن لأمة قبلهم.
2598- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن(3/374)
أبيه، عن الربيع بمثله سواء، غير أنه قال: ليس بينهما شيء.
2599- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم القصاص في القتلى" قال، لم يكن لمن قبلنا دية، إنما هو القتل أو العفو إلى أهله. فنزلت هذه الآية في قوم كانوا أكثرَ من غيرهم.
2600- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، وأخبرني عمرو بن دينار، عن ابن عباس قال: إنّ بني إسرائيل كان كتب عليهم القصاص، وخفف عن هذه الأمة - وتلا عمرو بن دينار:"ذلك تخفيف من رَبكم ورحمة".
* * *
وأما على قول من قال: القصاص في هذه الآية معناه: قصاصُ الديات بعضها من بعض، على ما قاله السدي، فإنه ينبغي أن يكون تأويله: هذا الذي فعلتُ بكم أيها المؤمنون = من قصاص ديات قَتلى بعضكم بديات بعض، وترك إيجاب القوَد على الباقين منكم بقتيله الذي قَتله وأخذه بديته = تخفيفٌ منّي عنكم ثِقْلَ ما كان عليكُم من حكمي عليكم بالقوَد أو الدية، ورحمة مني لكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فمن تجاوز ما جَعله الله له بعدَ أخذه الدّية، اعتداءً وظلمًا إلى ما لم يُجعل له من قتل قاتِل وليه وسفك دمه، فله بفعله ذلك وتعدِّيه إلى ما قد حرمته عليه، عذابٌ أليم.(3/375)
وقد بينت معنى"الاعتداء" فيما مضى بما أغنى عن إعادته. (1) وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2601- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اعتدى بعد ذلك"، فقتل،"فله عذابٌ أليم".
2602- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن اعتدى"، بعد أخذ الدية،"فله عذاب أليم".
2603- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية فقتل، فله عذاب أليم. قال: وذُكِر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"لا أعافي رجلا قَتل بَعد أخذه الدية. (2)
__________
(1) انظر ما سلف 2: 307.
(2) الحديث: 2603- وهذا رواه أيضًا قتادة -التابعي- مرفوعًا، فهو مرسل. وكذلك ذكره السيوطي 1: 173، عن قتادة، ونسبه للطبري وابن المنذر فقط.
وقد روى المرفوع منه - عبد الرزاق في تفسيره، ص: 16، عن معمر، عن قتادة مرسلا أيضًا.
ثم ذكر السيوطي اللفظ المرفوع، ونسبه لسمويه في فوائده، عن سمره. وقد قصر فيه جدًا، كما قصر في الجامع الصغير: 9701، إذ ذكره أيضًا، ونسبه للطيالسي -فقط- عن جابر، يعني جابر بن عبد الله.
وحديث الطيالسي -عن جابر-: هو في مسنده: 1763، عن حماد بن سلمة، عن مطر الوراق، عن رجل، عن جابر، فذكره مرفوعًا.
وقد رواه أحمد في المسند: 14968، عن عفان، عن حماد بن سلمة: "أخبرنا مطر، عن رجل، أحسبه الحسن، عن جابر بن عبد الله". وكذلك رواه أبو داود في السنن: 4507، عن موسى بن إسماعيل، عن حماد بن سلمة، به.
فتقصير السيوطي: أن نسبه للطيالسي وحده، وهو في أحد الكتب الستة ومسند أحمد.
وعلى كل حال، فحديث جابر ضعيف، لأن إسناده رجلا مبهمًا، أو رجل شك فيه مطر الوراق.
وحديث الحسن عن سمرة، ذكره أيضًا ابن كثير 1: 395 قال، "وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن الحسن، عن سمرة. . . "، فذكره مرفوعًا.
فهذا إسناد يمكن أن يكون صحيحًا، لو علمنا إسناده إلى سعيد بن أبي عروبة، ومن الذي رواه من طريقه؟ إذا لم أجده بعد طول البحث. ولو وجدناه لكان وصلا لهذا المرسل الذي رواه الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة.(3/376)
2604- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك" قال، هو القتل بعد أخذ الدية. يقول: من قتل بعد أنْ يأخذ الدية فعليه القتلُ، لا تُقبلُ منه الدية. (1)
2605- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الديةَ، فله عذاب أليم.
2606- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن قال، كان الرجل إذا قتل قتيلا في الجاهلية فرَّ إلى قومه، فيجيء قومه فيصالحون عنه بالدية قال، فيخرج الفارُّ وقد أمن على نفسه قال، فيُقتل ثم يُرْمى إليه بالدية، فذلك"الاعتداء".
2607- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا أبو عقيل قال، سمعت الحسن في هذه الآية:"فمن عُفي لهُ من دم أخيه شيء" قال، القاتلُ إذا طُلب فلم يُقدر عليه، وأُخِذ من أوليائه الدية، ثم أمن، فأخِذ فقُتِل. قال الحسن: ما أكل عُدوانٌ.
2608- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان قال، قلت لعكرمة: من قتل بعد أخذه الدية؟ قال: إذًا يُقتل! أما سمعت الله يقول:"فمن اعتدى بعدَ ذلك فله عذابٌ أليم"؟
2609- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط،
__________
(1) الخبر: 2604- رواه الطبري من طريق عبد الرزاق. وهو في تفسيره، ص 16، بهذا الإسناد.(3/377)
عن السدي:"فمن اعتدى بعد ذلك"، بعد مَا يأخذ الدية، فيقتل"فلا عذابٌ أليم".
2610- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنى أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"فمن اعتدى بعد ذلك"، يقول: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فله عذاب أليم.
2611- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم" قال، أخذ العَقْل، ثم قَتل بعد أخذ العقل قاتلَ قتيله، فله عذاب أليم.
* * *
واختلفوا في معنى"العذاب الأليم" الذي جعله الله لمن اعتدى بعد أخذه الدية من قاتل وليِّه.
فقال بعضهم: ذلك"العذابُ" هو القتلُ بمن قتله بعد أخذ الدية منه، وعفوه عن القصاص منه بدم وليِّه.
* ذكر من قال ذلك:
2612- حدثني يعقوب بن إبراهيم الدورقي قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك في قوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم" قال، يقتل، وهو العذاب الأليم = يقول: العذاب المُوجع.
2613- حدثني يعقوب قال، حدثني هشيم قال، حدثنا أبو إسحاق، عن سعيد بن جبير أنه قال ذلك.
2614- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا القاسم قال، حدثنا هارون بن سليمان، عن عكرمة:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم" قال، القتلُ.
* * *
وقال بعضهم: ذلك"العذابُ" عقوبة يعاقبه بها السلطان على قدر ما يَرَى من عقوبته.(3/378)
* ذكر من قال ذلك:
2615- حدثني القاسم بن الحسن قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني إسماعيل بن أمية، عن الليث = غير أنه لم ينسبه، وقال: ثقة =: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ بقسَمٍ أو غيره أن لا يُعفي عن رَجل عَفا عن الدم وأخذ الدية، ثم عَدا فَقتل، قال ابن جريج: وأخبرني عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز قال: في كتاب لعمرَ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال، و"الاعتداء" الذي ذكر الله: أنّ الرجل يأخذ العقلَ أو يقتصُّ، أو يقضي السلطان فيما بين الجراح، ثم يعتدي بعضُهم من بعد أن يستوعبَ حقه. فمن فعل ذلك فقد اعتدى، والحكم فيه إلى السلطان بالذي يرى فيه من العقوبة قال: ولو عفا عنه، لم يكن لأحد من طلبة الحق أن [يعفو] (1) لأن هذا من الأمر الذي أنزل الله فيه قوله: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) [سورة النساء: 59] . (2)
2616- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس،
__________
(1) الذي بين القوسين، هكذا في الأصل. وصوابه فيما أرجح"أن يقتله". ولم أجد الخبر، ولا كتاب عمر الذي ذكره.
(2) الحديث: 2615- هو في الحقيقة حديثان، رواهما ابن جريج، ولم أجدهما في مكان آخر. ولكني لا أسيغ لفظهما أن يكون من ألفاظ النبوة، ولا عليه شيء من نورها. وهو بألفاظ الفقهاء أشبه!
فأولهما: رواه ابن جريج، عن إسماعيل بن أمية، عن رجل اسمه"الليث": "غير أنه لم ينسبه" - فلا أعرف من"الليث" هذا؟ وأما إسماعيل بن أمية: فإنه ثقة، يروي عن التابعين. مترجم في التهذيب. والكبير 1/51/34، وابن أبي حاتم 1/1/159، ونسب قريش: 182، وجمهرة الأنساب لابن حزم: 74.
وثانيهما: رواه ابن جريج، عن عبد العزيز بن عمر بن عبد العزيز، عن"كتاب لعمر عن النبي صلى الله عليه وسلم". والظاهر أنه يريد كتابًا لعمر بن عبد العزيز. ومن المحتمل أن يكون كتابًا لعمر بن الخطاب.
وعبد العزيز بن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 2/2/389.(3/379)
عن الحسن: في رجل قُتل فأخذت منه الدية، ثم إن وليَّه قَتل به القاتل. قال الحسن: تؤخذ منه الدية التي أخذ، ولا يُقتل به. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بقوله:"فمن اعتدى بعد ذلك فله عذابٌ أليم"، تأويلُ من قال: فمن اعتدى بعد أخذه الدية، فَقتلَ قاتلَ وليه، فله عذاب أليم في عاجل الدنيا، وهو القتل. لأن الله تعالى جعل لكل وليِّ قتيلٍ قُتل ظلمًا، سلطانًا على قاتل وليه، فقال تعالى ذكره (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ) [سورة الإسراء: 33] . فإذ كان ذلك كذلك: وكان الجميع من أهل العلم مجمعين على أن من قَتل قاتلَ وليه بعد عفوه عنه وأخذِه منه دية قتيله، أنه بقتله إياه له ظالم في قتله - كان بَيِّنًا أن لا يولِّي من قَتله ظُلمًا كذلك، السلطانَ عليه في القصاص والعفو وأخذ الدية، أيّ ذلك شاء. (2) وَإذا كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن ذلك عذابُه، لأن من أقيم عليه حدُّه في الدنيا، كان ذلك عقوبته من ذنبه، ولم يكن به متَّبَعًا في الآخرة، على ما قد ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. (3)
__________
(1) الخبر: 2616- بشر بن معاذ، شيخ الطبري، مضى في: 352. ونزيد هنا أنه ثقة معروف، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/1/368، وذكر أن أباه كتب عنه، وأنه سئل عنه، فقال: "صالح الحديث صدوق". وهو يروي عن قدماء الشيوخ، مثل"حماد بن زيد" المتوفى سنة 179، وعبد الواحد بن زياد، شيخه هنا، المتوفى تلك السنة.
عبد الواحد بن زياد العبدي البصري: أحد الأعلام الثقات. مترجم في التهذيب، والصغير للبخاري: 202، وذكر أنه مات سنة 179، وابن أبي حاتم 3/1/20-21، وابن سعد 7/2/44.
يونس: هو ابن عبيد بن دينار العبدي، وهو ثقة، من أوثق أصحاب الحسن وأثبتهم. مترجم في التهذيب. والكبير 4/2/402، والصغير: 160، وابن سعد 7/2/23-24، وابن ابي حاتم 4/2/242.
(2) في هذه العبارة غموض، وأخشى أن يكون قد سقط من الكلام شيء، ولكن المعنى العام ظاهر.
(3) كالذي رواه البخاري من حديث عبادة بن الصامت قال: "بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم في رهط فقال: أبايعكم على أن لا تشركوا بالله شيئًا، ولا تسرقوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف. فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئًا فأخذ به في الدنيا، فهو كفارة له وطهور، ومن ستره الله فذلك إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له" (البخاري: كتاب الحدود 8: 162) .(3/380)
وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180)
وأما ما قاله ابن جريج: من أن حكم من قَتل قاتل وَليِّه بعد عفوه عنه، وأخذِه دية وليِّه المقتول - إلى الإمام دُون أولياء المقتول، فقولٌ خلافٌ لما دلَّ عليه ظاهرُ كتاب الله، وأجمع عليه علماء الأمة. وذلك أنّ الله جعل لوليّ كل مقتول ظلمًا السلطانَ دون غيره، من غير أن يخصّ من ذلك قتيلا دون قتيل. فسواءٌ كان ذلك قتيلَ وليّ من قتله أو غيره. ومن خص من ذلك شيئًا سئل البرهان عليه من أصلٍ أو نظير، وعُكِس عليه القول فيه، ثم لن يقول في شيء من ذلك قولا إلا ألزم في الآخر مثله. ثم في إجماع الحجة على خلاف ما قاله في ذلك، مكتفًى في الاستشهاد على فساده بغيره.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الألْبَابِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ولكم في القصَاص حَياةٌ يا أولي الألباب"، ولكم يا أولي العقول، فيما فرضتُ عليكم وأوجبتُ لبعضكم على بعض، من القصاص في النفوس والجراح والشجاج، مَا مَنع به بعضكم من قتل بعض، وقَدَع بعضكم عن بعض، فحييتم بذلك، فكان لكم في حكمي بينكم بذلك حياة. (1)
* * *
واختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم في ذلك نحو الذي قلنا فيه.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) قدعه يقدعه قدعًا: كفه. ومنه: "اقدعوا هذه الأنفس فإنها طلعة"، أي كفوها عما تشتهي وتريد.(3/381)
2617- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولكم في القصَاص حياةٌ يا أولي الألباب" قال، نكالٌ، تَناهٍ.
2618- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن أبي زائدة، عن ورقاء، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، نكالٌ، تَناهٍ.
2619- حدثني المثنى قال: حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2620- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة:"ولكم في القصاص حياة"، جعل الله هذا القصاص حياة، ونكالا وعظةً لأهل السفه والجهل من الناس. وكم من رجل قد هَمّ بداهية، لولا مخافة القصاص لوقع بها، ولكن الله حَجز بالقصاص بعضهم عن بعض؛ وما أمر الله بأمر قط إلا وهو أمر صلاح في الدنيا والآخرة، ولا نهي الله عن أمر قط إلا وهو أمر فساد في الدنيا والدين، والله أعلم بالذي يُصلح خَلقه.
2621- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب" قال، قد جعل الله في القصاص حياة، إذا ذكره الظالم المتعدي كفّ عن القتل.
2622- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولكم في القصاص حياة" الآية، يقول: جعل الله هذا القصاص حياة وعبرة لكم. كم من رجل قد هَمّ بداهية فمنعه مخافة القصاص أن يقع بها! وإن الله قد حجز عباده بعضهم عن بعض بالقصاص.
2623- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن مجاهد قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، نكالٌ، تناهٍ. قال ابن جريج: حَياةٌ. مَنعةٌ.(3/382)
2624- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، حياةٌ، بقية. (1) إذا خاف هذا أن يُقتل بي كفّ عني، لعله يكون عدوًّا لي يريد قتلي، فيذكر أن يُقْتَل في القصاص، فيخشى أن يقتل بي، فيكفَّ بالقصاص الذي خافَ أن يقتل، لولا ذلك قتل هذا.
2625- حدثت عن يعلى بن عبيد قال، حدثنا إسماعيل، عن أبي صالح في قوله:"ولكم في القصاص حياة" قال، بقاء.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: ولكم في القصاص من القاتل بقاء لغيره، لأنه لا يقتل بالمقتول غيرُ قاتله في حكم الله. وكانوا في الجاهلية يقتلون بالأنثى الذكر، وبالعبد الحرّ.
* ذكر من قال ذلك:
2626- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولكم في القصاص حياة"، يقول: بقاء، لا يقتل إلا القاتل بجنايته.
* * *
وأما تأويل قوله:"يا أولي الألباب"، فإنه: يا أولي العقول."والألباب" جمع"اللب"، و"اللب" العقل.
* * *
وخص الله تعالى ذكره بالخطاب أهلَ العقول، لأنهم هم الذين يعقلون عن الله أمره ونهيه، ويتدبّرون آياته وحججه دونَ غيرهم.
* * *
__________
(1) بقية: أي إبقاء. وأخشى أن تكون"تقية" بالتاء، أي اتقاء، كما يدل عليه سائر الأثر. وكلتاهما صحيحة المعنى.(3/383)
القول في تأويل قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) }
قال أبو جعفر: وتأويل قوله:"لعلكم تتقون"، أي تتقون القصاص، فتنتَهون عن القتل، كما:-
269- حدثني به يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"لعلكم تتقون" قال، لعلك تَتقي أن تقتله، فتقتل به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) }
قال أبو جعفر: يعني بقوله تعالى ذكره:"كُتب عليكم"، فُرض عليكم، أيها المؤمنون، الوصية = إذا حضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خَيرًا - والخير: المال = للوالدين والأقربين الذين لا يرثونه، بالمعروف: وهو مَا أذن الله فيه وأجازه في الوصية مما لم يجاوز الثلث، ولم يتعمّد الموصي ظُلم وَرَثته = حقًّا على المتقين = يعني بذلك: فرض عليكم هذا وأوجبه، وجعله حقًّا واجبًا على من اتقى الله فأطاعه أن يعمل به.
* * *
فإن قال قائل: أوَفرضٌ على الرجل ذي المال أن يُوصى لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه؟
قيل: نعم.(3/384)
فإن قال: فإن هو فرَّط في ذلك فلم يوص لهم، أيكون مضيِّعًا فرضًا يَحْرَج بتضييعه؟
قيل: نعم.
فإن قال: وما الدلالة على ذلك؟
قيل: قول الله تعالى ذكره:"كُتبَ عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَرَك خيرًا الوصيَّةُ للوالدين والأقربين"، فأعلم أنه قد كتبه علينا وفرَضه، كما قال: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ) [سورة البقرة: 183] ، ولا خلاف بين الجميع أن تارك الصيام وهو عليه قادر، مضيع بتركه فرضًا لله عليه. فكذلك هو بترك الوصية لوالديه وأقربيه ولهُ ما يوصي لهم فيه، مُضِيعٌ فَرْضَ الله عز وجل.
فإن قال: فإنك قد علمت أن جماعة من أهل العلم قالوا: الوصيةُ للوالدين والأقربين منسوخةٌ بآية الميراث؟
قيل له: وخالفهم جماعةٌ غيرهم فقالوا: هي محكمةٌ غيرُ منسوخة. وإذا كان في نسخ ذلك تنازع بين أهل العلم، لم يكن لنا القضاءُ عليه بأنه منسوخٌ إلا بحجة يجب التسليم لها، إذ كان غير مستحيل اجتماعُ حكمُ هذه الآية وحكمُ آية المواريث في حال واحدةٍ على صحة، بغير مدافعةِ حكم إحداهما حُكمَ الأخرى - وكان الناسخ والمنسوخ هما المعنيان اللذان لا يجوز اجتماع حكمهما على صحة في حالة واحدة، لنفي أحدهما صَاحبه.
وبما قلنا في ذلك قال جماعة من المتقدمين والمتأخرين.
* ذكر من قال ذلك:
2628- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن الضحاك أنه كان يقول: من مات ولم يُوص لذوي قرابته. فقد ختم عمله بمعصية.
2629- حدثني سَلم بن جنادة. (1) قال، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش،
__________
(1) في المطبوعة: "سالم بن جنادة". وهو خطأ. وقد مضى مرارًا، وانظر ترجمته في رقم: 48.(3/385)
عن مسلم، عن مسروق: أنه حضر رجلا فوصَّى بأشياء لا تنبغي، فقال له مسروق: إنّ الله قد قسم بينكم فَأحسن القَسْم، وإنه من يرغب برأيه عن رَأي الله يُضِلّه، أوصِ لذي قرابتك ممن لا يرثك، ثم دع المال على ما قسمه الله عليه.
2630- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك قال: لا تجوز وصية لوارث، ولا يُوصي إلا لذي قرابة، فإن أوصَى لغير ذي قرابة فقد عمل بمعصية؛ إلا أن لا يكون قرابة، فيوصي لفقراء المسلمين.
2631- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة قال: العجبُ لأبي العالية أعتقته امرأة من بني رياح وأوصى بماله لبني هاشم!
2632- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن رجل، عن الشعبي قال: لم يكن له [مَوَال] ، ولا كرامة. (1)
2633- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "لم يكن له حال ولا كرامة". وهو خطأ بلا شك عندي. فإن هذا الخبر تعليق على الخبر السالف الذي تعجب فيه المغيرة من فعل أبي العالية: أعتقته امرأة من بني رياح، وأوصى بماله لبني هاشم! فرد الشعبي تعجب المغيرة فقال: إن أبا العالية لا موالي له، ولا كرامة لأحد.
وخبر ذلك أن أبا العالية اشترته امرأة، ثم ذهبت به إلى المسجد، فقبضت على يده. فقالت: اللهم اذخره عندك ذخيرة، اشهدوا يا أهل المسجد أنه سائبة لله، ليس لأحد عليه سبيل إلا سبيل معروف. قال أبو العالية: والسائبة يضع نفسه حيث شاء. (ابن سعد 7/1/81) .
والسائبة: العبد يعتق على أن لا ولاء له. واختلف الفقهاء في ميراث السائبة، إذا ترك ميراثًا: أيرثه معتقه، أم لا يحل له أن يرزأ من ماله شيئًا؟ قيل: لما هلك أبو العالية أتى مولاه بميراثه، فقال: هو سائبة! وأبى أن يأخذه. وفي حديث عمر: "السائبة والصدقة ليومهما" قال أبو عبيدة: أي ليوم القيامة، واليوم الذي كان أعتق سائبته وتصدق بصدقة فيه. يقول: فلا يرجع إلى الانتفاع بشيء منها بعد ذلك في الدنيا. وانظر ترجمة سالم مولى أبي حذيفة (ابن سعد 3/1/60) فقد كان سائبة، وقتل يوم اليمامة في عهد أبي بكر، فأرسل أبو بكر ماله لمولاته فأبت أن تقبله، فجعله عمر في بيت المال.
فهذا ما أراد الشعبي أن يقول: إن أبا العالية سائبة، فهو لا موالي له، وماله يضعه حيث شاء، ولا كراهة في ذلك لأحد من الموالي، لأن ذلك هو حكم السائبة.
هذا ما رأيت في تصحيح هذه الجملة، ولم أجدها في مكان آخر، فأسأل الله أن أكون قد بلغت التوفيق، وجنبت الزلل.(3/386)
أيوب، عن محمد قال: قال عبد الله بن معمر في الوصية: من سمَّى، جعلناها حَيثُ سَمَّي - ومن قال: حيثُ أمرَ الله، جعلناها في قرابته.
2634- حدثني محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر قال، حدثنا عمران بن حُدير (1) قال: قلت لأبي مجلز: الوصية على كل مسلم واجبةٌ؟ قال: على من تركَ خيرًا.
2635- حدثنا سوّار بن عبد الله قال، حدثنا عبد الملك بن الصباح قال، حدثنا عمران بن حدير (2) قال: قلت للاحق بن حُميد: الوصية حق على كل مسلم؟ قال: هي حق على من ترك خيرًا.
* * *
واختلف أهل العلم في حكم هذه الآية.
فقال بعضهم: لم ينسخ الله شيئًا من حكمها، وإنما هي آية ظاهرُها ظاهرُ عموم في كل والد ووالدة والقريب، والمرادُ بها في الحكم البعضُ منهم دون الجميع، وهو من لا يرث منهم الميت دون من يَرث. وذلك قول من ذكرت قوله، وقول جماعة آخرين غيرهم مَعهم.
ذكر قول من لم يُذْكَر قولُه منهم في ذلك:
2636- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن جابر بن زيد: في رجل أوصى لغير ذي قرابة وله قرابةٌ محتاجون، قال: يُرَدّ ثلثا الثلث عليهم، وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2637- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا معاذ قال، حدثنا أبي، عن قتادة، عن الحسن وجابر بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا - في الرجل يُوصي لغير ذي
__________
(1) في المطبوعة: "عمران بن جرير"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت. وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري، صلى على جنازة خلف أنس. روى عن أبي مجلز، وأبي قلابة، وغيرهما وعنه
وأبو مجلز، هو لاحق بن حميد، المذكور في الإسناد التالي.
(2) في المطبوعة: "عمران بن جرير"، وهو خطأ، والصواب ما أثبت. وهو عمران بن حدير السدوسي أبو عبيده البصري، صلى على جنازة خلف أنس. روى عن أبي مجلز، وأبي قلابة، وغيرهما وعنه
وأبو مجلز، هو لاحق بن حميد، المذكور في الإسناد التالي.(3/387)
قرابته وله قرابة ممن لا يرثه قال، كانوا يجعلون ثُلثي الثلث لذوي القرابة، وثلث الثلث لمن أوصى له به.
2638- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حميد، عن الحسن أنه كان يقول: إذا أوصى الرجل لغير ذي قرابته بثُلثه فلهم ثلث الثلث، وثلثا الثلث لقرابته.
2639- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: من أوصى لقوم وسماهم، وترك ذوي قرابته محتاجين، انتُزِعتْ منهم وَرُدَّتْ إلى ذوي قرابته.
* * *
وقال آخرون: بل هي آية قد كان الحكم بها واجبًا وعُمل به بُرهة، ثم نَسخ الله منها بآية المواريث الوصيةَ لوالدي المُوصِي وأقربائه الذين يرثونه، وأقرّ فرضَ الوصية لمن كان منهم لا يرثه.
* ذكر من قال ذلك:
2640- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة في قوله:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، فجعلت الوصية للوالدين والأقربين، ثم نُسخ ذلك بعد ذلك، فجعل لهما نصيبٌ مفروضٌ، فصارت الوصية لذوي القرابة الذين لا يرثون، وجُعل للوالدين نصيبٌ معلوم، ولا تجوز وصية لوارث.
2641- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"إذ تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين" قال، نسخ الوالدان منها، وترك الأقربون ممن لا يرث.
2642- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله:"إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين(3/388)
والأقربين" قال، نَسخ من يَرث، ولم ينسخ الأقربين الذين لا يرثون.
2643- حدثنا يحيى بن نصر قال، حدثنا يحيى بن حسان قال، حدثنا سفيان، عن ابن طاوس، عن أبيه قال: كانت الوصية قبلَ الميراث للوالدين والأقربين، فلما نزل الميراث، نَسخ الميراثُ من يرث، وبقي من لا يرث. فمن أوصَى لذي قَرابته لم تجز وصيتُه. (1) .
2644- حدثني المثنى قال، حدثنا سُويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن إسماعيل المكي، عن الحسن في قوله:"إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين" قال، نَسخ الوالدين وأثبتَ الأقربين الذين يُحرَمون فلا يرثون.
2645- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن مبارك بن فضالة، عن الحسن في هذه الآية:"الوصية للوالدين والأقربين" قال، للوالدين منسوخة، والوصيةُ للقرابة وإن كانوا أغنياءَ.
2646- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين"، فكان لا يرث مع الوالدين غيرُهم، إلا وصية إن كانت للأقربين،
__________
(1) الخبر: 2643- يحيى بن نصر، شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ ولم أجد في الرواة من يدعي بهذا، إلا رجلا قديمًا لم يدركه الطبري، وهو"يحيى" بن نصر بن حاجب القرسي"، مات سنة 215 قبل أن يولد أبو جعفر. وهو مترجم في ابن أبي حاتم 4/2/193، وتاريخ بغداد 14: 159-160، ولسان الميزان 6: 278-279.
وفي تاريخ بغداد 14: 225-226 ترجمة"يحيى بن أبي نصر، أبو سعد الهروي"، واسم أبيه منصور بن الحسن". وهذا توفي سنة 287. ولكن يبعد أن يسمع من"يحيى بن حسان" المتوفى سنة 208.
وفي التهذيب 11: 292-293 ترجمة ثالثة: "يحيى بن النضر بن عبد الله الأصبهاني الدقاق"، يروي عن أبي داود الطيالسي، ويروي عنه أبو بكر بن أبي داود السجستاني. وهو مترجم أيضًا في تاريخ إصبهان 2: 257-258. فهذا من هذه الطبعة. ومن المحتمل جدًا أن يكون هو الذي روى عنه الطبري هنا.
وأما شيخه"يحيى بن حسان": فهو التنيسي البكري، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/269، والصغير: 229، وابن أبي حاتم 4/2/135.(3/389)
فأنزل الله بعد هذا: (وَلأبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأمِّهِ الثُّلُثُ) [سورة النساء: 11] ، فبين الله سبحانه ميراث الوالدين، وأقرّ وصية الأقربين في ثلث مال الميت.
2647- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن ترَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، فنسخ من الوصية الوالدين، وأثبت الوصية للأقربين الذين لا يرثون.
2648- حدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"كتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إنْ تَرك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف" قال، كان هذا من قبل أن تُنزل"سورة النساء"، فلما نزلت آية الميراث نَسخَ شأنَ الوَالدين، فألحقهما بأهل الميراث، وصارت الوصية لأهل القرابة الذين لا يرثون.
2649- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، أخبرنا عطاء بن أبي ميمونة قال: سألت مسلم بن يَسار، والعلاء بن زياد عن قول الله تبارك وتعالى:"إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، قالا في القرابة.
2650- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن إياس بن معاوية قال: في القرابة.
* * *
وقال آخرون: بل نَسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض والمواريث، فلا وصية تجب لأحد على أحد قريبٍ ولا بعيدٍ.
* ذكر من قال ذلك:
2651- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:(3/390)
"إن تَرَك خيرًا الوصية للوَالدين والأقربين" الآية، قال: فنسخ الله ذلك كله وفرضَ الفرائض.
2652- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن يونس، عن ابن سيرين، عن ابن عباس: أنه قام فخطب الناس هاهنا، فقرأ عليهم"سورة البقرة" ليبين لهم منها، فأتى على هذه الآية:"إن ترك خيرًا الوصية الوالدين والأقربين" قال، نُسخت هذه.
2653- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين"، نسخت الفرائضُ التي للوالدين والأقربين الوصيةَ.
2654- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن جهضم، عن عبد الله بن بدر قال، سمعت ابن عمر يقول في قوله:"إن تَرَك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين" قال، نسختها آيةُ الميراث. قال ابن بشار: قال عبد الرحمن: فسألت جهضمًا عنه فلم يحفظه.
2655- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين بن واقد، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قالا"إن تَرَك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين"، فكانت الوصية كذلك حتى نسختها آية الميراث.
2656- حدثني أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة، عن شريح في هذه الآية:"إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين" قال، كان الرجل يُوصي بماله كله، حتى نزلت آية الميراث.
2657- حدثنا أحمد بن المقدام قال، حدثنا المعتمر قال، سمعت أبي قال، زعم قتادة: أنه نسختْ آيتا المواريث في"سُورة النساء"، الآيةَ في"سُورة البقرة" في شأن الوصية.
2658- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،(3/391)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن تَرك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين" قال، كان الميراث للوَلد، والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة.
2659- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان الميراث للولد، والوصية للوالدين والأقربين، وهي منسوخة، نسختها آيةٌ في"سورة النساء": (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) [سورة النساء: 11]
2660- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصيةُ للوالدين والأقربين"، أما الوالدان والأقربون، فيوم نزلت هذه الآية كان الناس ليس لهم ميراث معلومٌ، إنما يُوصي الرجل لوالده ولأهله فيقسم بينهم، حتى نسختها"النساء"، فقال: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ) .
2661- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية قال، حدثنا أيوب، عن نافع: أن ابن عمر لم يُوصِ، وقال: أمّا مالي، فالله أعلمُ ما كنت أصنع فيه في الحياة، وأما رِباعي فما أحب أن يَشْرَك ولدي فيها أحد.
2662- حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا محمد بن يوسف قال، حدثنا سفيان، عن نسير بن ذعلوق قال، قال عروة -يعني ابن ثابت- لربيع بن خُثيم: (1) أوْصِ لي بمصحفك. قال: فنظر إلى أبيه فقال: (وَأُولُو الأرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ) [سورة الأنفال: 75] .
2663- حدثنا علي بن سهل قال، حدثنا يزيد، عن سفيان، عن الحسن بن عبد الله، عن إبراهيم قال: ذكرنا له أن زيدًا وطلحة كانا يشدِّدان في الوصية، فقال: ما كان عَليهما أن يفعلا مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يُوصِ، وأوصَى أبو بكر، أيِّ ذلك فعلتَ فحسنٌ.
__________
(1) في المطبوعة: "بن خثيم"، وأثبت ما في التهذيب، وانظر ترجمته.(3/392)
2664- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن الحسن بن عبد الله، عن إبراهيم قال: ذكر عنده طلحة وزيد فذكر مثله.
* * *
وأما"الخير" الذي إذا تركه تاركٌ وجب عليه الوصية فيه لوالديه وأقرَبيه الذين لا يرثون، فهو: المال، كما:-
2665- حدثني المثنى بن إبراهيم قال، حدثنا عبد الله بن صالح، عن معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"إن تَرك خيرًا"، يعني مالا.
2666- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"إن ترك خيرًا"، مالا.
2667- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة (1) قال، حدثنا شبل، عن أبي نجيح، عن مجاهد:"إن تَرَك خيرًا"، كان يقول: الخير في القرآن كله: المال، (لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) [سورة العاديات: 8] ، الخير: المال - (إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي) [سورة ص: 32] ، المال - (فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا) [سورة النور: 33] ، المال = و (إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ) ، المالُ.
2668- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"إن ترك خيرًا الوصية"، أي: مالا. (2)
2669- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا
__________
(1) في المطبوعة: "أبو جعفر" والصواب"أبو حذيفة"، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم: 2659.
(2) الأثر: 2668- في المطبوعة: "حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا سعيد" أسقط"حدثنا يزيد"، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه آنفًا رقم: 2640.(3/393)
أسباط عن السدي:"إن تَرك خيرًا الوصية"، أما"خيرًا"، فالمالُ.
2670- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"إن ترك خيرًا" قال، إن ترك مالا.
2671- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة، عن ابن عباس قوله:"إن ترك خيرًا" قال، الخيرُ المال.
2672- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحسن بن يحيى، عن الضحاك في قوله:"إن ترك خيرًا الوصية" قال، المال. ألا ترى أنه يقول: قال شعيب لقومه: (إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ) [سورة هود: 84] يعني الغني.
2673- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، أخبرنا محمد بن عمرو اليافعي، عن ابن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، تلا"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا"، قال عطاء: الخير فيما يُرى المال.
* * *
ثم اختلفوا في مبلغ المال الذي إذا تركه الرجل كان ممن لزمه حكم هذه الآية.
فقال بعضهم: ذلك ألف درهم.
* ذكر من قال ذلك:
2674- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى، عن قتادة في هذه الآية:"إن تَرَك خيرًا الوصية" قال، الخيرُ ألف فما فوقه.
2675- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا هشام بن عروة، عن عروة: أن علي بن أبي طالب دخل على ابن عم لهُ يعوده، فقال: إنّي أريد أن أوصي. فقال علي: لا توص، فإنك لم تترك خيرًا فتوصي.
قال: وكان ترك من السبعمئة إلى التسعمئة.(3/394)
2676- حدثني يونس بن عبد الأعلى قال، أخبرنا ابن وهب قال، حدثني عثمان بن الحكم الحزامي (1) وابن أبي الزناد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب: أنه دخل على رجل مريض، فذكر لهُ الوصية، فقال: لا تُوص، إنما قال الله:"إن تَرك خيرًا"، وأنت لم تترك خيرًا. قال ابن أبي الزناد فيه: فدع مَالك لبنيك.
2677- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن منصور بن صفية، عن عبد الله بن عيينة -أو: عتبة، الشك مني-: أنّ رجلا أراد أن يوصي وله ولد كثير، وترك أربعمئة دينار، فقالت عائشة: ما أرى فيه فضلا.
2678- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه قال: دخل عليٌّ علَى مولى لهم في الموت وله سبعمئة درهم، أو ستمئة درهم، فقال: ألا أوصي؟ فقال: لا! إنما قال الله:"إن ترك خيرًا"، وليس لك كثير مال.
* * *
وقال بعضهم: ذلك ما بين الخمسمئة درهم إلى الألف.
* ذكر من قال ذلك:
2679- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، عن أبان بن إبراهيم النخعيّ في قوله:"إن ترك خيرًا" قال، ألف درهم إلى خمسمئة.
* * *
وقال بعضهم: الوصية واجبة من قليل المال وكثيره.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) ضبطه في الخلاصة"بكسر المهملة" وفي التهذيب والميزان"الجذامي" بجيم مضمومة، ثم ذال معجمة.(3/395)
فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)
2680- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن الزهري قال: جعل الله الوصية حقًّا، مما قل منه أو كثر.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل قوله:"كُتبَ عَليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية" ما قال الزهري. لأن قليلَ المال وكثيره يقع عليه"خيرٌ"، ولم يحدّ الله ذلك بحدٍّ، ولا خص منه شيئًا فيجوز أن يحال ظاهر إلى باطن. فكلّ من حضرته منيَّته وعنده مالٌ قلّ ذلك أو كثر، فواجبٌ عليه أن يوصي منه لمن لا يرثه من آبائه وأمهاته وأقربائه الذين لا يرثونه بمعروف، كما قال الله جل ذكره وأمرَ به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فمن غيَّر ما أوصَى به الموصِي -من وصيته بالمعروف لوالديه أو أقربيه الذين لا يرثونه- بعد ما سمع الوصية، فإنما إثم التبديل على من بَدَّل وصيته.
* * *
فإن قال لنا قائل: وعلامَ عادت"الهاء" التي في قوله:"فمن بدّله"؟
قيل: على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر. وذلك هو أمر الميت، وإيصاؤه إلى من أوصَى إليه، بما أوصَى به، لمن أوْصَى له.
ومعنى الكلام:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموت إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقًّا عَلى المتقين"، فأوصوا لهم، فمن بدل ما أوصيتم به لهم بعد ما سَمعكم توصون لَهم، فإنما إثم ما فعل من ذلك عليه دونكم.(3/396)
وإنما قلنا إن"الهاء" في قوله:"فمن بدله" عائدة على محذوف من الكلام يدل عليه الظاهرُ، لأن قوله:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية" من قول الله، وأنّ تبديل المبدِّل إنما يكون لوصية الموصِي. فأما أمرُ الله بالوصية فلا يقدر هو ولا غيره أن يبدِّله، فيجوز أن تكون"الهاء" في قوله:"فمن بدله" عائده على"الوصية".
وأما"الهاء" في قوله:"بعد ما سمعه"، فعائدة على"الهاء" الأولى في قوله:"فمن بَدَّله".
وأما"الهاء" التي في قوله:"فإنما إثمه"، فإنها مكنيُّ"التبديل"، كأنه قال: فإنما إثم ما بدَّل من ذلك على الذين يبدلونه.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2681- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فمن بدَّله بَعد ما سمعه" قال، الوصية.
2682- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
2683- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه"، وقد وقعَ أجر الموصي على الله وبَرئ من إثمه، وإن كان أوصى في ضِرَارٍ لم تجز وصيته، كما قال الله: (غَيْرَ مُضَارٍّ) [سورة النساء: 12]
2684- حدثنا الحسين بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن بدَّله بعد ما سمعه"، قال: من بدّل الوصية بعد ما سمعها، فإثم ما بدَّل عليه.(3/397)
2685- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا: عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه"، فمن بدَّل الوصية التي أوصى بها، وكانت بمعروف، فإنما إثمها على من بدَّلها. إنه قد ظلم.
2686- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا حماد، عن قتادة: أن عطاء بن أبي رباح قال في قوله:"فمن بدَّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه"، قال: يُمضَى كما قال.
2687- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن يزيد بن إبراهيم، عن الحسن:"فمن بدّله بعد ما سمعه"، قال: من بدل وصية بعد ما سمعها.
2688- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا يزيد بن إبراهيم، عن الحسن في هذه الآية:"فمن بدّله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدِّلونه"، قال: هذا في الوصية، من بدَّلها من بعد ما سمعها، فإنما إثمه على من بَدَّله.
2689- حدثنا ابن بشار وابن المثنى قالا حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن عطاء وسالم بن عبد الله وسليمان بن يسار أنهم قالوا: تُمضى الوصية لمن أوصَى له به = إلى هاهنا انتهى حديث ابن المثنى، وزاد ابن بشار في حديثه = قال قتادة: وقال عبد الله بن معمر: أعجبُ إليّ لو أوْصى لذوي قرابته، وما يعجبني أن أنزعه ممن أوصَى له به. قال قتادة: وأعجبه إليّ لمن أوصى له به، قال الله عز وجل:"فمن بدَّله بعدَ ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدّلونه".
* * *(3/398)
القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك:"إن الله سميع" = لوصيتكم التي أمرتكم أن تُوصوا بها لآبائكم وأمهاتكم وأقربائكم حين توصون بها، أتعدلون فيها على ما أذِنت لكم من فعل ذلك بالمعروف، أم تَحيفون فتميلون عن الحق وتجورون عن القصد؟ ="عليمٌ" بما تخفيه صدوركم من الميل إلى الحق، والعدل، أم الجور والحيْف.
* * *(3/399)
فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية.
فقال بعضهم: تأويلها: فمن حضر مريضًا وهو يوصي عند إشرافه على الموت، فخاف أن يخطئ في وصيته فيفعل ما ليس له، أو أن يعمد جورًا فيها فيأمر بما ليس له الأمر به، فلا حرج على من حَضره فسمع ذلك منه أنْ يصلح بينه وبين وَرَثته، بأن يأمره بالعدل في وصيته، وأن ينهاهم عن مَنعه مما أذن الله له فيه وأباحه له.
* ذكر من قال ذلك:
2690- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال: هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو يموت، فإذا(3/399)
أسرف أمروه بالعدل، وإذا قصَّر قالوا: افعل كذا، أعطِ فلانًا كذا.
2691- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قوله:"فمن خَافَ من مُوص جَنفا أو إثما"، قال: هذا حين يُحْضَر الرجلُ وهو في الموت، فإذا أشرف على الجور أمروه بالعدل، (1) وإذا قصر عن حق قالوا: افعل كذا، أعط فلانًا كذا.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خافَ - من أولياء ميت، (2) أو وَالِي أمر المسلمين - من مُوص جنفا في وصيته التي أوصى بها الميت، فأصلح بين وَرَثته وبين الموصى لهم بما أوصَى لهم به، فرد الوصية إلى العدل والحقّ، فلا حرج ولا إثم.
* ذكر من قال ذلك:
2692- حدثني المثنى، حدثنا أبو صالح كاتب الليث، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"فمن خاف من مُوص جَنفًا" -يعني: إثْمًا- يقول: إذا أخطأ الميت في وصيته أو حاف فيها، فليس على الأولياء حرجٌ أن يردوا خطأه إلى الصواب.
2693- حدثنا الحسن بن يحيى، (3) حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، قال: هو الرجل يُوصي
__________
(1) في المطبوعة: "فإذا أشرف على الموت أمروه بالعدل"، وهو لا يستقيم مع سياق الخبر، ولا مع الخبر الذي قبله عن مجاهد أيضًا. ورجحت أن يكون الناسخ صحف"الجور" فجعلها"الموت" أو سها أو سبق قلمه. أو لعله أخطأ وصحف وزاد، وأن أصل عبارته كالسياق قبله: "فإذا أسرف أمروه بالعدل". وكلاهما جائز، وصواب في المعنى.
(2) في المطبوعة: "أوصياء ميت"، وهما سواء.
(3) في المطبوعة: "الحسن بن عيسى" وهو خطأ صرف، وهو إسناد دائر في التفسير أقربه إلينا رقم: 2684.(3/400)
فيحيف في وصيته، فيردها الوليّ إلى الحقّ والعدل. (1)
2694- حدثنا بشر بن معاذ، حدثنا يزيد بن زريع، عن سعيد، عن قتادة قوله:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، وكان قتادة يقول: من أوصى بجورٍ أو حيْف في وصيته فردها وَليّ المتوفى أو إمام من أئمة المسلمين، إلى كتاب الله وإلى العدل، فذاك له.
2695- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"فمن خَافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، فمن أوصى بوصية بجور، فردَّه الوصيُّ إلى الحق بعد موته، فلا إثم عليه - قال عبد الرحمن في حديثه:"فاصلح بينهم"، يقول: رده الوصيّ إلى الحق بعد موته، فلا إثم عليه.
2696- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصْلح بينهم"، قال: رده إلى الحق.
2697- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا إسرائيل، عن سعيد بن مسروق، عن إبراهيم قال، سألته عن رجل أوصى بأكثر من الثلث؟ قال: اردُدها. ثم قرأ:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا".
2698- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الربيع بن أنس:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال: رده الوصي إلى الحق بعد موته، فلا إثم على الوصي.
* * *
وقال بعضهم: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص جنفًا أو إثمًا في عطيته
__________
(1) في المطبوعة: "الوالي"، والصواب ما أثبت، أي ولي الميت.(3/401)
عند حضور أجله بعضَ ورثته دون بعض، فلا إثم على من أصلح بينهم = يعني: بين الورثة.
* ذكر من قال ذلك:
2699- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء قوله:"فمن خاف من موص جَنفًا أو إثمًا"، قال: الرجل يحيف أو يأثم عند موته، فيعطي ورثته بعضَهم دون بعض، يقول الله: فلا إثم على المصلح بينهم. فقلت لعطاء: أله أن يُعطي وارثه عند الموت، إنما هي وصية، ولا وصية لوارث؟ قال: ذلك فيما يَقسم بينهم.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن خاف من مُوص جنفًا أو إثمًا في وصيته لمن لا يرثه، بما يرجع نفعه على من يَرثه، فأصلح بينَ وَرَثته، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك:
2700- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يَقول: جَنفُه وإثمه، أنْ يوصي الرجل لبني ابنه ليكونَ المالُ لأبيهم، وتوصي المرأة لزوج ابنتها ليكون المال لابنتها؛ وذو الوارث الكثير والمالُ قليل، فيوصي بثلث ماله كله، فيصلح بينهم الموصَى إليه أو الأمير. قلت: أفي حياته أم بعد موته؟ قال: ما سمعنا أحدًا يقول إلا بعد موته، وإنه ليوعظ عند ذلك.
2701- حدثني الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه في قوله:"فمن خافَ من موص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم"، قال: هو الرجل يوصي لولد ابنته.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن خاف من موص لآبائه وأقربائه جَنفًا على بعضهم لبعض، فأصلح بين الآباء والأقرباء، فلا إثم عليه.
* ذكر من قال ذلك:(3/402)
2702- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه". أما"جنفًا": فخطأ في وصيته، وأما"إثمًا": فعمدًا يَعمد في وصيته الظلم. فإن هذا أعظمُ لأجره أن لا يُنفذها، ولكن يصلح بينهم على ما يرى أنه الحق، ينقص بعضًا ويزيد بعضًا. قال: ونزلت هذه الآية في الوالدين والأقربين.
2703- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"فمن خافَ من مُوص جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم فلا إثم عليه"، قال:"الجنَف" أن يحيف لبعضهم على بعض في الوصية،"والإثم" أن يكون قد أثم في أبويه بعضهم على بعض،"فأصلح بينهم" الموصَى إليه بين الوالدين والأقربين - الابن والبنون هُم"الأقربون" - فلا إثم عليه. فهذا الموصَى الذي أوْصى إليه بذلك، وجعل إليه، فرأى هذا قد أجنفَ لهذا على هذا، فأصلح بينهم فلا إثم عليه، فعجز الموصِي أن يوصي كما أمره الله تعالى، وعجز الموصَى إليه أن يصلح، فانتزع الله تعالى ذكره ذلك منهم، ففرضَ الفرائض.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها: فمن خاف من مُوصٍ جَنفًا أو إثمًا = وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه، أو يتعمد إثمًا في وصيته، بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث أو بالثلث كله، وفي المال قلة، وفي الوَرَثة كثرةٌ = فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يُوصَى لهم، وبين ورثة الميت، وبين الميت، بأن يأمرَ الميت في ذلك بالمعروف ويعرِّفه ما أباح الله له في ذلك وأذن له فيه من الوصية في ماله، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه:"كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف"، وذلك هو"الإصلاح" الذي(3/403)
قال الله تعالى ذكره:"فأصلح بينهم فلا إثم عليه". وكذلك لمن كان في المال فَضْل وكثرةٌ وفي الورثة قِلة، فأراد أن يقتصر في وصيته لوالديه وأقربيه عن ثلثه، فأصلح من حَضرَه بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصى لهم، بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم، ويبلغ بها ما رَخّص الله فيه من الثلث. فذلك أيضًا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف.
وإنما اخترنا هذا القول، لأن الله تعالى ذكره قال:"فمن خَاف من موص جَنفًا أو إثمًا"، يعني بذلك: فمن خاف من موص أن يَجْنَف أو يَأثم. فخوفُ الجنف والإثم من الموصي، إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم، فأما بعد وجوده منه، فلا وجه للخوف منه بأن يَجنف أو يأثم، بل تلك حال مَنْ قد جَنفَ أو أثم، ولوْ كان ذلك معناه لقيل: فمن تبيّن من مُوص جَنفًا أو إثمًا -أو أيقن أو علم- ولم يقل: فمن خَافَ منه جَنفًا.
* * *
فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال: فما وجه الإصلاح حينئذ، والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء؟
قيل: إنّ ذلك وإن كان من معاني الإصلاح، فمن الإصلاح الإصلاحُ بين الفريقين، (1) فيما كان مخوفًا حدوثُ الاختلاف بينهم فيه، بما يؤمن معه حُدوث الاختلاف. لأن"الإصلاح"، إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاحُ ذات البين، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين - قبلَ وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه.
فإن قال قائل: فكيف قيل:"فأصلح بينهم"، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين، أو المخوف اختلافهم، ذكرٌ؟
__________
(1) في المطبوعة: "فمن الإصلاح بين الفريقين. . "، والصواب زيادة، "الإصلاح"، كما يدل عليه السياق.(3/404)
قيل: بل قد جرى ذكر الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم، وهم والدا المُوصي وأقربوه، والذين أمروا بالوصية في قوله:"كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَركَ خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف"، ثم قال تعالى ذكره:"فمن خافَ من مُوص" -لمن أمرته بالوصية له-"جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم" -وبين من أمرته بالوصية له-"فلا إثم عليه". والإصلاح بينه وبينهم، هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي.
* * *
قال أبو جعفر: وقد قرئ قوله:"فمنْ خَافَ منْ مُوص" بالتخفيف في"الصاد" والتسكين في"الواو" - وبتحريك"الواو" وتشديد"الصاد".
فمن قرأ ذلك بتخفيف"الصاد" وتسكين"الواو"، فإنما قرأه بلغة من قال:"أوصيتُ فلانًا بكذا".
ومن قرأ بتحريك"الواو" وتشديد"الصاد"، قرأه بلغة من يقول:"وصَّيت فلانًا بكذا". وهما لغتان للعرب مشهورتان:"وصَّيتك، وأوصيتك" (1)
وأما"الجنف"، فهو الجورُ والعدول عن الحق في كلام العرب، ومنه قول الشاعر: (2)
هُمُ المَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا ... وَإِنَّا مِنْ لِقَائِهِمُ لَزُورُ (3)
يقال منه:"جَنف الرجل على صاحبه يَجنَف" -إذا مال عليه وجَار-"جَنفًا".
* * *
__________
(1) انظر تفسير (وصى) فيما سلف من هذا الجزء 3: 93-96.
(2) هو عامر الخصفي، من بني خصفة بن قيس عيلان.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة: 66، 67، ومشكل القرآن: 219، واللسان (جنف) (ولي) . والمولى: ابن العم، وأقام المفرد مقام الجمع، وأراد"المولى"، قال أبو عبيدة هو كقوله تعالى: (ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا) وزور جمع أزور: وهو المائل عن الشيء. يقول: هم أبناء عمنا، ونحن نكره أن نلاقيهم فنقاتلهم، لما لهم من حق الرحم.(3/405)
فمعنى الكلام من خاف من موص جَنفًا له بموضع الوصية، وميلا عن الصواب فيها، وجورًا عن القصد أو إثمًا بتعمده ذلك على علم منه بخطأ ما يأتي من ذلك، فأصلح بينهم، فلا إثم عليه.
* * *
وبمثل الذي قلنا في معنى"الجنف""والإثم"، قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2704- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس في قوله:"فمن خاف من موص جَنفًا"، يعني بالجنف: الخطأ.
2705- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا جابر بن نوح، عن عبد الملك، عن عطاء:"فمن خاف من موص جَنفًا"، قال: ميلا.
2706- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا عبد الملك، عن عطاء مثله.
2707- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن الحارث ويزيد بن هارون قالا حدثنا عبد الملك، عن عطاء مثله.
2708- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا جويبر، عن الضحاك قال: الجنفُ الخطأ، والإثم العمد.
2709- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا [أبو أحمد] الزبيري قال، حدثنا هشيم، عن جويبر، عن عطاء مثله.
2710- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، أما"جَنفًا" فخطأ في وصيته، وأما"إثمًا": فعمدًا، يعمد في وصيته الظلم. (1)
2711- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، عن عيسى،
__________
(1) الأثر: 2710- مضى رقم: 2702 مطولا.(3/406)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"فمن خَافَ من مُوص جنفًا أو إثمًا"، قال: خطأً أو عمدًا. (1)
2712- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع:"فمن خَاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، قال: الجنف الخطأ، والإثم العمد.
2713- حدثنا عمرو بن علي قال، حدثنا خالد بن يزيد صاحب اللؤلؤ قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع بن أنس مثله.
2714- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أبيه، عن إبراهيم:"فمن خاف من مُوص جَنفًا أو إثمًا"، قال: الجنف: الخطأ، والإثم العمد.
2715- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا فضيل بن مرزوق، عن عطية:"فمن خاف من مُوص جَنفًا"، قال: خطأ،"أو إثمًا" متعمدًا.
2716- حدثني المثنى قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرزاق، عن ابن عيينة، عن ابن طاوس، عن أبيه:"فمن خَافَ من مُوص جَنفًا"، قال: ميلا.
2717- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"جَنفًا" حَيْفًا،"والإثم" ميله لبعض على بعض. وكلّه يصير إلى واحد، كما يكون"عفوًّا غَفورًا" و"غَفورًا رَحيمًا".
2718- حدثنا القاسم قال حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن
__________
(1) الأثر: 2711- كان في المطبوعة: "فمن خاف من موص جنفًا" قال: جنفًا إثما"، وهي عبارة مضطربة فاسدة، فلم أستجز تركها على فسادها ونقلت قول مجاهد الذي أخرجه سفيان بن عيينة وعبد بن حميد فيما نقله السيوطي في الدر المنثور 1: 175.(3/407)
جريج قال، قال ابن عباس: الجنف" الخطأ، والإثم: العمد.
2719- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قال: الجنف الخطأ، والإثم العمد. (1)
* * *
وأما قوله:"إنّ الله غَفورٌ رَحيم"، فإنه يعني: والله غَفورٌ للموصي (2) = فيما كان حدَّث به نفسه من الجنف والإثم، إذا تَرَك أن يأثم ويَجنف في وصيته، فتجاوزَ له عما كان حدَّث به نفسه من الجور، إذ لم يُمْضِ ذلك فيُغْفِل أن يؤاخذه به (3) ="رحيمٌ" بالمصلح بينَ المُوصي وبين من أراد أن يَحيف عليه لغيره، أو يَأثَم فيه له.
* * *
__________
(1) الخبر: 2719- الحسين بن الفرج الخياط البغدادي: شيخ لا يعبأ بروايته، قال فيه ابن معين: "كذاب، صاحب سكر، شاطر"؛ مترجم في ابن أبي حاتم 1/2/62-63، وتاريخ إصبهان 1: 266-267، وتاريخ بغداد 8: 84-86، ولسان الميزان 2: 307. والطبري يروي عنه في التفسير كثيرًا بإسناد مجهول، يقول: "حدثت عن الحسين بن الفرج". ولعل ذلك من أجل ضعف حديثه، فلا يصل الإسناد إليه. وصرح في بعض مرات في التاريخ باسم من حدثه عنه، انظر التاريخ 1: 30، 42.
ويقع اسمه في المطبوعة على الصواب، كما في 2898. وكثيرًا ما يقع خطأ مصفحًا: "الحسن بن الفرج"، كما في هذا الموضع، وكما في: 2750. ومن ذلك ما مضى: 691، وقلت هناك: "لم أعرف من هو؟ ". فيصحح في ذاك الموضع، وحيثما جاء في التفسير.
الفضل بن خالد: مضت ترجمته: 691.
(2) كان في المطبوعة: "غفور رحيم للموصى. . "، وليس صوابًا، وسياق عبارته دال على صواب ما أثبتنا.
(3) في المطبوعة: "فيفعل أن يؤاخذه به"، ولعل الصواب ما أثبت.(3/408)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"يا أيها الذين آمنوا"، يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا بهما وأقرُّوا. (1)
ويعني بقوله:"كتب عليكم الصيام"، فرض عليكم الصيام. (2)
و"الصيام" مصدر، من قول القائل:"صُمت عن كذا وكذا" -يعني: كففت عنه-"أصوم عَنه صوْمًا وصيامًا". ومعنى"الصيام"، الكف عما أمر الله بالكف عنه. ومن ذلك قيل:"صَامت الخيل"، إذا كفت عن السير، ومنه قول نابغة بني ذبيان:
خَيْلٌ صِيَامٌ، وخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ العَجَاجِ، وأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا (3)
ومنه قول الله تعالى ذكره: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا) [سورة مريم: 26] يعني: صمتًا عن الكلام.
* * *
وقوله:"كما كُتب على الذين من قبلكم"، يعني فرض عليكم مثل الذي فرض على الذين منْ قبلكم.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الإيمان" فيما سلف 1: 234-235، والمراجع في فهرس اللغة.
(2) انظر تفسير"كتب" فيما سلف في هذا الجزء 3: 357، 364، 365.
(3) ديوانه: 106 (زيادات) واللسان (علك) (صام) . ولكنه من قصيدته التي أولها: بَانَتْ سُعَادُ وَأَمْسَى حَبْلُهَا انْجَذَمَا
وقد فسر"صامت الخليل" بأنها الإمساك عن السير، وعبارة اللغة، "صام الفرس" إذا قام في آريه لا يعتلف، أو قام ساكنًا لا يطعم شيئًا. وقال أبو عبيدة: كل ممسك عن طعام أو كلام أو سير، فهو صائم. والعجاج: الغبار الذي يثور، يعني أنها في المعركة لا تقر. وعلك الفرس لجامه: لاكه وحركه في فيه.(3/409)
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل التأويل في الذين عنى الله بقوله:"كما كُتبَ على الذين من قبلكم"، وفي المعنى الذي وَقعَ فيه التشبيه بين فرضِ صَومنا وصوم الذين من قبلنا.
فقال بعضهم: الذين أخبرنا الله عن الصوم الذي فرضه علينا، أنه كمثل الذي كان عليهم، هم النصارى. وقالوا: التشبيه الذي شَبه من أجله أحدَهما بصاحبه، هو اتفاقهما في الوقت والمقدار الذي هو لازم لنا اليوم فرضُه.
* ذكر من قال ذلك:
2720- حدثت عن يحيى بن زياد، عن محمد بن أبان [القرشي] ، عن أبي أمية الطنافسي، عن الشعبي أنه قال: لو صُمت السنة كلها لأفطرت اليوم الذي يشك فيه فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وذلك أن النصارى فُرض عليهم شهر رَمضان كما فرض علينا فحوَّلوه إلى الفصل. وذلك أنهم كانوا ربما صاموه في القيظ يعدون ثلاثين يومًا. (1) ثم جاء بعدهم قرن فأخذوا بالثقة من أنفسهم، فصاموا قبل الثلاثين يومًا وبعدها يومًا. ثم لم يزل الآخر يُستن سنّة القرن الذي قبله حَتى صارت إلى خمسين. (2) فذلك قوله:"كتبَ عليكم الصيام كما كتبَ عَلى الذين من قَبلكم"، (3)
* * *
__________
(1) في معاني القرآن للفراء: "فعدوه ثلاثين يومًا".
(2) في معاني القرآن: "يستن سنة الأول حتى صارت. . ".
(3) الخبر: 2720- يحيى بن زياد أبو زكرياء: هو الفراء الإمام النحوي، وهو ثقة معروف مترجم في التهذيب. وتاريخ بغداد 14: 149-155. وفي دواوين كثيرة.
محمد بن ابان: نقل أخي السيد محمود محمد شاكر أن هذا الخبر مذكور في كتاب"معاني القرآن" للفراء رواه عن"محمد بن أبان القرشي". ومحمد بن أبان القرشي: هو"محمد بن أبان بن صالح بن عمير"، مولى لقريش. ترجمه البخاري في الكبير 1/1/34، برقم 50. وقال: "يتكلمون في حفظه" وذكر في الصغير مرتين، ص: 188، 214. وقال في أولاهما: "يتكلمون في حفظ محمد بن أبان، لا يعتمد عليه". وقال في الضعفاء، ص: 30"ليس بالقوي".
وكذلك ترجمه ابن أبي حاتم 3/2/199، برقم: 1119، وروى تضعيفه عن يحيى بن معين.
والراجح عندي أنه هو الذي روى عنه الفراء، فإن ابن أبي حاتم ذكر من الرواة عن القرشي هذا - أبا داود الطيالسي، وهو من طبقة الفراء.
وأما ترجمته في التهذيب 9: 2-3 فإنها مختلة مضطربة، خلط فيها بين هذا وبين"محمد بن أبان الواسطي"، وشتان بينهما. والواسطي مترجم عند البخاري، برقم: 48، وعند ابن ابي حاتم، برقم: 1121. وكلاهما لم يذكر فيه جرحًا.
"عن أبي أمية الطنافسي": كذا ثبت هنا. وليس لأبي أمية الطنافسي ترجمة ولا ذكر، فيما رأينا من المراجع. وإنما المترجم ابنه"عبيد بن أبي أمية". وهو الذي يروي عن الشعبي. وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 2/2/401.
وهذا الخبر في معاني القرآن للفراء 1: 111، ونقله السيوطي 1: 176، ولم ينسبه لغير الطبري. ولكنه اختصره جدًا. +كأنه تلخيص لا نقل.(3/410)
وقال آخرون: بل التشبيه إنما هو من أجل أنّ صومهم كان من العشاء الآخرة إلى العشاء الآخرة. وذلك كان فرضُ الله جَل ثناؤه على المؤمنين في أول ما افترض عليهم الصوم. ووافق قائلو هذا القول القائلي القولَ الأوَّلَ: أن الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"كما كُتبَ على الذين من قبلكم"، النصارى.
* ذكر من قال ذلك:
2721- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، أما الذين من قبلنا: فالنصارى، كتب عليهم رمضان، وكتب عليهم أن لا يأكلوا ولا يشربوا بعد النوم، ولا ينكحوا النساءَ شهر رمضان. فاشتد على النصارى صيامُ رمَضان، وجعل يُقَلَّبُ عليهم في الشتاء والصيف. فلما رأوا ذلك اجتمعوا فجعلوا صيامًا في الفصل بين الشتاء والصيف، وقالوا: نزيد عشرين يومًا نكفّر بها ما صنعنا! فجعلوا صيامهم خمسين. فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى، حتى كان من أمر أبي قيس بن صرمة وعمر بن الخطاب، ما كان، (1) فأحل الله لهم الأكل والشرب والجماعَ إلى طُلوع الفجر.
__________
(1) سيأتي خبر أبي صرمة وعمر في الآثار رقم: 2935-2952.(3/411)
2722- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم"، قال: كتب عليهم الصوم من العتمة إلى العتمة.
* * *
وقال آخرون: الذين عَنى الله جل ثناؤه بقوله:"كما كتب على الذين من قبلكم"، أهل الكتاب.
* ذكر من قال ذلك:
2723- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، أهل الكتاب.
* * *
وقال بعضهم: بل ذلك كان على الناس كلهم.
* ذكر من قال ذلك:
2724- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم"، قال: كتب شهرُ رمضان على الناس، كما كُتب على الذين من قبلهم. قال: وقد كتب الله على الناس قبل أن ينزل رمضانُ صَوْمَ ثلاثة أيام من كل شهر.
2725- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، رمضانُ، كتبه الله على من كان قَبلهم.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب قول من قال: معنى الآية:
يا أيها الذين آمنوا فُرض عليكم الصيام كما فرض على الذين من قبلكم من أهل الكتاب،"أيامًا معدودات"، وهي شهر رمضان كله. لأن مَن بعدَ إبراهيم(3/412)
أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
صلى الله عليه وسلم كان مأمورًا باتباع إبراهيم، وذلك أن الله جل ثناؤه كان جَعله للناس إمامًا، وقد أخبرنا الله عز وجل أن دينه كان الحنيفيةَ المسلمةَ، فأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بمثل الذي أمر به مَنْ قبله من الأنبياء.
وأما التشبيه، فإنما وقع على الوقت. وذلك أن مَنْ كان قبلنا إنما كان فرِض عليهم شهر رمضان، مثل الذي فُرض علينا سواء.
* * *
وأما تأويل قوله:"لعلكم تَتقون"، فإنه يعني به: لتتقوا أكل الطعام وشرب الشراب وجماع النساء فيه. (1) يقول: فرضت عليكم الصوم والكفّ عما تكونون بترك الكف عنه مفطرين، لتتقوا ما يُفطركم في وقت صومكم.
* * *
وبمثل الذي قُلنا في ذلك قال جماعة من أهل التأويل:
* ذكر من قال ذلك:
2726- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما قوله:"لعلكم تتقون"، يقول: فتتقون من الطعامِ والشرابِ والنساءِ مثل ما اتقوا - يعني: مثل الذي اتقى النصارى قبلكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره، كتب عليكم أيها الذين آمنوا - الصيامُ أيامًا معدودات.
ونصبَ"أيامًا" بمضمر من الفعل، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم، أن تصوموا أيامًا معدودات، كما يقال:"أعجبني الضربُ، زيدًا".
* * *
__________
(1) انظرتفسير"لعل" بمعنى"لكي" 1: 364، 365 / ثم 2: 69، 161، واطلبه في الفهرس أيضًا.(3/413)
وقوله:"كما كتب على الذين من قبلكم" من الصيام، كأنه قيل: كتب عليكم الذي هو مثل الذي كتب على الذين من قبلكم: أن تصوموا أيامًا معدودات.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل فيما عَنى الله جل وعز بقوله:"أيامًا معدودات".
فقال بعضهم:"الأيام المعدودات"، صومُ ثلاثة أيام من كل شهر. قال: وكان ذلك الذي فُرض على الناس من الصيام قبل أن يُفرض عليهم شهرُ رمضان.
* ذكر من قال ذلك:
2727- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: كان عليهم الصيامُ ثلاثة أيام من كل شهر، ولم يُسمِّ الشهرَ أيامًا معدودات. قال: وكان هذا صيام الناس قبل، ثم فرض الله عز وجل على الناس شهرَ رمصان.
2728- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، وكان ثلاثةَ أيام من كل شهر، ثم نسخ ذلك بالذي أنزل من صيام رمضان. فهذا الصوم الأول، من العتمة.
2729- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة. عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصامَ يومَ عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم أنزل الله جل وعزّ فرضَ شهر رمضان، فأنزل الله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قَبلكم" حتى بلغ:"وَعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مِسكين". (1)
__________
(1) الحديث: 2729- يونس بن بكير: مضت ترجمته، في: 1605. ووقع في المطبوعة هنا"بشر بن بكير"، وهو خطأ واضح. وسيأتي هذا الحديث بهذا الإسناد -بأطول مما هنا- على الصواب، برقم: 2733.
عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة: هو المسعودي، وهو ثقة، تكلموا فيه بأنه تغير في آخر حياته قبل موته بسنة أو سنتين. مات سنة 160. مترجم في التهذيب. وابن سعد 6: 254، وابن أبي حاتم 2/2/250-252.
وهذا الحديث قطعة من حديث مطول، في أحوال الصلاة، وفي أحوال الصيام. مضت قطعة صغيرة منه، في شأن الصلاة إلى بيت المقدس: 2156، من طريق أبي داود الطيالسي، عن المسعودي.
ورواه أحمد في المسند بطوله 5: 246-247 (حلبي) ، عن أبي النضر، يزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي. وكذلك رواه أبو داود السجستاني: 507، من طريق أبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون.
وروى الحاكم في المستدرك 2: 274، شطره الذي في أحوال الصيام، من طريق أبي النضر، عن المسعودي. وقال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ونقله ابن كثير 1: 402-404، كاملا، عن رواية المسند. بإسنادها. وذكره السيوطي، كاملا أيضًا 1: 175-176، وزاد نسبته لابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه.(3/414)
2730- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قال: قد كتب الله تعالى ذكره على الناس، قَبل أن ينزل رمضان، صومَ ثلاثة أيام من كل شهر.
* * *
وقال آخرون: بل الأيام الثلاثةُ التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومُها قبل أن يفرض رمضان، كان تَطوعًا صوْمهُنّ، وإنما عنى الله جل وعز بقوله:"كتب عليكم الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم أيامًا معدودات"، أيامَ شَهر رمضان، لا الأيامَ التي كان يصومهن قبل وُجوب فرض صَوم شهر رمضان.
* ذكر من قال ذلك:
2731- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال، حدثنا أصحابنا: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرَهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا لا فريضةً. قال: ثم نزل صيام رمضان - قال أبو موسى: قوله:"قال عمرو بن مرة: حدثنا أصحابنا"(3/415)
يريد ابن أبي ليلى، كأنّ ابنَ أبي ليلى القائلُ:"حدثنا أصحابنا". (1)
2732- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عمرو بن مرة قال، سمعت ابن أبي ليلى، فذكر نحوه.
* * *
__________
(1) الحديث: 2731- وهذه قطعة من الحديث السابق، الطويل، الذي أشرنا إليه في: 2729، ولكنه هنا مروي من طريق آخر، طريق شعبة عن عمرو بن مرة. ويقول هنا عمرو بن مرة"حدثنا أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم"، إلخ. فلو أخذ هذا على ظاهره، لكان مرسلا. فلذلك فسره أبو موسى -وهو محمد بن المثنى شيخ الطبري- بأن الذي قال هذا هو عبد الرحمن بن أبي ليلى. ثم تلاه المثنى بالرواية بعده: 2732، عن أبي داود -وهو الطيالسي- عن شعبة"قال: سمعت عمرو بن مرة، قال: سمعت ابن أبي ليلى". وهذا هو الإسناد الذي أشرنا آنفًا إلى رواية الطبري قطعة أخرى من الحديث، به، في: 2156.
والظاهر أن ابن المثنى سمع الحديث من محمد بن جعفر مرتين أو أكثر، إحداها على هذا الوجه الذي هنا، وبعضها على الوجه الواضح الصريح، بذكر ابن أبي ليلى.
فقد روى الحديث -كله- أبو داود السجستاني في السنن: 506، بإسنادين، أحدهما إسناد الطبري هذا، أعني عن محمد بن المثنى. فقال أبو داود: "حدثنا عمرو بن مرزوق، أخبرنا شعبة، عن عمرو بن مرة، قال: سمعت ابن أبي ليلى -ح- وحدثنا ابن المثنى، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، سمعت ابن أبي ليلى، قال، أحيلت الصلاة ثلاثة أحوال، وحدثنا أصحابنا: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. . . ".
فأعاد في الإسناد الثاني -في طريق شعبة- قول عمرو بن مرة: "سمعت ابن أبي ليلى". ولعله أراد بهذه الإعادة، التي فيها التصريح باسم ابن أبي ليلى، رفع التوهم أن يظن أن تلك الرواية التي لم يصرح فيها محمد بن جعفر باسم"ابن أبي ليلى" تعلل هذه الرواية الصريحة.
أو يؤيد هذا قول الطبري -عقب الحديث-: "قال أبو موسى: قوله"قال عمرو بن مرة حدثنا أصحابنا" - يريد ابن أبي ليلى، كأن ابن أبي ليلى القائل: حدثنا أصحابنا". وأبو موسى: هو محمد بن المثنى نفسه، شيخ الطبري وأبي داود. فحين حدث بالرواية المبهمة -التي في الطبري هنا- فسرها بالرواية الأخرى الموضحة، وصرح في تفسيره بأن القائل"حدثنا أصحابنا" هو ابن أبي ليلى، لا عمرو بن مرة. تحرزًا من إيهام أن الإسناد يكون مرسلا إذا كان القائل ذلك هو عمرو بن مرة.
وقد عقب الطبري على ذلك، بالإسناد من طريق أبي داود الطيالسي، الذي فيه التصريح بسماع عمرو بن مرة ذلك من ابن أبي ليلى: 2732.
وقول ابن أبي ليلى"حدثنا أصحابنا" - يريد به الصحابة، مثل معاذ وغيره. وابن أبي ليلى من كبار التابعين. ويؤيد هذا رواية البخاري 4: 164 (فتح) ، قطعة من الحديث نفسه المطول، رواية معلقة بصيغة الجزم. فقال: "وقال ابن نمير: حدثنا الأعمش، حدثنا عمرو بن مرة، حدثنا ابن أبي ليلى حدثنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم". وقال الحافظ: "وصله أبو نعيم في المستخرج، والبيهقي من طريقه. . . وهذا الحديث أخرجه أبو داود، من طريق شعبة والمسعودي، عن الأعمش مطولا، في الأذان، والقبلة، والصيام. واختلف في إسناده اختلافًا كثيرًا. وطيق ابن نمير هذه أرجحها".(3/415)
قال أبو جعفر: وقد ذكرنا قول من قال: عنى بقوله:"كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم"، شهرَ رمضان.
* * *
وأولى ذلك بالصواب عندي قولُ من قال: عنى الله جل ثناؤه بقوله:" (أيامًا معدودات) ، أيامَ شهر رمضان. وذلك أنه لم يأت خبرٌ تَقوم به حُجة بأنّ صومًا فُرِض على أهل الإسلام غيرَ صوم شهر رمضان، ثم نسخ بصوم شهر رمضان، وأن الله تعالى قَد بيَّن في سياق الآية، (1) أنّ الصيامَ الذي أوجبه جل ثناؤه علينا هو صيام شهر رمضان دون غيره من الأوقات، بإبانته، عن الأيام التي أخبر أنه كتب علينا صومَها بقوله:"شهرُ رَمضان الذي أنزلَ فيه القرآن". فمن ادعى أن صومًا كان قد لزم المسلمين فرضُه غير صوم شهر رمضان الذين هم مجمعون على وجوب فرض صومه -ثم نسخ ذلك- سئل البرهانَ على ذلك من خبر تقوم به حُجة، إذ كان لا يعلم ذلك إلا بخبر يقطع العذرَ.
وإذ كان الأمر في ذلك على ما وصفنا للذي بينا، فتأويل الآية: كتب عليكم أيها المؤمنون الصيامُ كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون، أيامًا معدودات هي شهر رمضان. وجائز أيضًا أن يكون معناه:"كتب عليكم الصيام"، كتب عليكم شهر رمضان.
* * *
وأما"المعدودات": فهي التي تعدّ مبالغها وساعاتُ أوقاتها. ويعني بقوله:"معدودات"، مُحْصَيَاتٍ.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "وبأن الله تعالى. . . "، وهو خطأ. ليس معطوفًا على قوله: "بأن صومًا. . " بل هو عطف على قوله: "وذلك أنه لم يأت خبر. . . "(3/417)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"فمن كان منكم مريضًا"، (1) من كان منكم مريضًا، ممن كلِّف صَومه أو كان صحيحًا غير مريض وكان على سَفر،"فعدة من أيام أخر"، يقول: فعليه صوم عدة الأيام التي أفطرها في مرضه أو في سفره،"من أيام أخر"، يعني: من أيام أخر غير أيام مرضه أو سفره.
* * *
والرفع في قوله:"فعدةٌ منْ أيام أخر"، نظير الرفع في قوله:"فاتباع بالمعروف". وقد مضى بيان ذلك هنالك بما أغنى عن إعادته. (2)
* * *
وأما قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طَعامُ مسكين"، فإنّ قراءة كافة المسلمين:"وعلى الذين يُطيقونه"، وعلى ذلك خطوط مصاحفهم. وهي القراءة التي لا يجوز لأحد من أهل الإسلام خلافُها، لنقل جميعهم تصويبَ ذلك قرنًا عن قرن.
وكان ابن عباس يقرؤها فيما روي عنه:"وعلى الذين يُطوَّقونه". (3)
* * *
ثم اختلف قُرّاء ذلك:"وَعلى الذين يُطيقونه" في معناه.
فقال بعضهم: كان ذلك في أول ما فرض الصوم، وكان من أطاقه من المقيمين صامَه إن شاء، وإن شاء أفطره وَافتدى، فأطعم لكل يوم أفطره مسكينًا، حتى نُسخ ذلك.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) نص هذا الجزء من الآية لم يكن في المطبوعة، وأثبته على نهجه في التفسير.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 373.
(3) انظر رفض هذه القراءة فيما سيأتي: 438.(3/418)
2733- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال:"إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فصامَ يوم عاشوراء وثلاثة أيام من كل شهر، ثم إنّ الله جل وعز فرض شهر رَمضان، فأنزل الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام" حتى بلغ"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعام مسكين"، فكان من شاء صامَ، ومن شاء أفطر وأطعمَ مسكينًا. ثم إن الله عز وجل أوجب الصيام على الصحيح المقيم، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصوم، فأنزل الله عز وجل:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو عَلى سفر" إلى آخر الآية. (1)
2734- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، قال حَدثنا أصحابنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليهم أمرهم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر تطوعًا غيرَ فريضة. قال: ثم نزل صيام رمضان. قال: وكانوا قومًا لم يتعودوا الصيام. قال: وكان يشتد عليهم الصوم. قال: فكان من لم يصم أطعمَ مسكينًا، ثم نزلت هذه الآية:"فمن شهد منكم فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فكانت الرخصة للمريض والمسافر، وأمرنا بالصيام. قال محمد بن المثنى قوله:"قال عمرو: حدثنا أصحابنا"، يريد ابنَ أبي ليلى. كأن ابن أبي ليلى القائل:"حدثنا أصحابنا".
2735- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو داود قال، حدثنا شعبة قال، سمعت عمرو بن مرة قال، سمعت ابن أبي ليلى فذكر نحوه. (2)
__________
(1) الحديث: 2733- هو قطعة من الحديث الذي خرجناه في: 2729- أطول من الرواية الماضية.
(2) الحديثان: 2734، 2735- وهذان أيضًا قطعتان من الحديث الذي أشرنا إليه في: 2731، 2732، وقد صرح الطبري في أولهما -هنا- باسم"محمد بن المثنى"، الذي ذكره هناك بكنيته"قال أبو موسى".(3/419)
2736- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة في قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: كان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم نصف صاع مسكينًا، فنسخها:"شهرُ رَمَضَان" إلى قوله:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه".
2737- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم، بنحوه - وزاد فيه، قال: فنسختها هذه الآية، وصارت الآية الأولى للشيخ الذي لا يستطيع الصوم، يتصدق مكانَ كل يوم على مسكين نصفَ صاع.
2738- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح أبو تميلة قال، حدثنا الحسين، عن يزيد النحوي، عن عكرمة والحسن البصري قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، فكان من شاء منهم أن يصومَ صَام، ومن شاء منهم أن يَفتدي بطعام مسكين افتدى وتَمَّ له صومه. ثم قال:"فمن شَهد منكم الشهرَ فليصمه"، ثم استثنى من ذلك فقال:"ومنْ كان مريضًا أوْ عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر".
2739- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا ابن إدريس قال: سألت الأعمش عن قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، فحدثنا عن إبراهيم، عن علقمة. قال: نسختها:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه". (1)
2740- حدثنا عمر بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: نَسَخت هذه الآية - يعني:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين" - التي بَعدها:"فمن شَهد منكم الشهرَ فَليصمه ومن كان
__________
(1) الأثر: 2739- أبو هشام الرفاعي محمد بن يزيد بن محمد بن كثير بن رفاعة العجلي، قاضي بغداد، روى عن عبد الله بن إدريس وحفص بن غياث، روى عنه مسلم والترمذي وابن ماجه وغيرهم. ذكره ابن حبان في الثقات، وقال: يخطئ ويخالف. وقال ابن أبي حاتم. سالت أبي عنه فقال: ضعيف يتكلمون فيه، وله كتاب في القراءات، مات سنة 248.(3/420)
مريضًا أو على سَفر فعدة من أيام أخر". (1)
2741- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، سمعت الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة في قوله:"وعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، قال: نسختها:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه".
2742- حدثنا الوليد بن شجاع أبو همام قال، حدثنا علي بن مُسهر، عن عاصم، عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، كان الرجل يُفطر فيتصدق عن كل يوم على مسكين طعامًا، ثم نزلت هذه الآية:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضًا أو على سفر فعدةٌ من أيام أخر"، فلم تنزل الرّخصةُ إلا للمريض والمسافر.
2743- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عاصم،
__________
(1) الحديث: 2740- عمر بن المثنى: هكذا في المطبوعة، وأنا أرجح أن يكون صوابه"محمد بن المثنى" شيخ الطبري الذي يروي عنه كثيرًا. ولم أجد من يسمى"عمر بن المثنى" إلا رجلا واحدًا، ذكر في التهذيب ولسان الميزان على أنه من التابعين. ثم لم أجترئ على تصحيحه هنا، لاحتمال أن يكون من شيوخ الطبري الذين لم نجد تراجمهم.
عبد الوهاب: هو ابن عمر المجيد الثقفي، مضت ترجمته في: 2029.
عبد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عرف بلقب"العمري"، وهو ثقة، مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/109-110.
ومن المحتمل أن يكون في المطبوعة خطأ، وأن يكون صوابه"عبيد الله" بالتصغير، وهو أخو عبد الله أكبر منه وأوثق عند أئمة الجرح والتعديل، وهو أحد الفقهاء السبعة، مترجم في التهذيب. وابن أبي حاتم 2/2/326-327. وهو وأخوه يشتركان في كثير من الشيوخ، منهم"نافع مولى ابن عمر".
وإنما ظننت هذا الاحتمال، لأن الحديث مروي من حديث"عبيد الله"، كما سنذكر، إن شاء الله:
فرواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 200، من طريق عبد الوهاب الثقفي، "عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر".
ورواه البخاري مختصرا 4: 164، و 8: 136، من طريق عبد الأعلى، وهو ابن عبد الأعلى عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر.
ورواه البيهقي أيضًا من أحد طريقي البخاري.
والحديث صحيح بكل حال. وذكره السيوطي 1: 178، وزاد نسبته إلى وكيع، وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة في المصنف، وابن المنذر.(3/421)
عن الشعبي قال: نزلت هذه الآية للناس عامة:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، وكان الرجل يفطر ويتصدق بطعامه على مسكين، ثم نزلت هذه الآية:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، قال: فلم تنزل الرخصة إلا للمريض والمسافر.
2744- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن أبي ليلى قال: دخلت على عطاء وهو يأكل في شهر رمضان، فقال: إني شيخ كبيرٌ، إن الصومَ نزل، فكان من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم مسكينًا، حتى نزلت هذه الآية:" فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومَنْ كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، فوجب الصوم على كل أحد، إلا مريض أو مسافر أو شيخ كبير مثلي يَفتدي.
2745- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب قال: قال الله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيامُ كما كتب عَلى الذين منْ قبلكم"، قال ابن شهاب: كتب الله الصيام علينا، فكان من شاء افتدى ممن يطيق الصيامَ من صحيح أو مريض أو مسافر، ولم يكن عليه غير ذلك. فلما أوجب الله على من شهد الشهرَ الصيامَ، فمن كان صحيحًا يُطيقه وضع عنه الفدية، وكان من كان على سفر أو كان مريضًا فعدة من أيام أخر. قال: وبقيت الفديةُ التي كانت تُقبل قبل ذلك للكبير الذي لا يُطيق الصيام، والذي يعرض له العطشُ أو العلة التي لا يستطيع معها الصيام.
2746- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال، جعل الله في الصوم الأوّل فدية طعام مسكين، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطر، كان ذلك رخصةً له. فأنزل الله في الصوم الآخِر:"فعدة من أيام أخر"، ولم يذكر الله في الصوم الآخر فدية طعام مسكين، فنُسِخت الفدية، وَثبت في الصوم الآخر:(3/422)
"يُريد الله بكم اليسرَ ولا يُريد بكم العسر"، وهو الإفطار في السفر، وجعله عدةً من أيام أخَر.
2747- حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب قال، أخبرني عمي عبد الله بن وهب قال، أخبرني عمرو بن الحارث قال، بكَيْر بن عبد الله، عن يزيد مولى سلمة بن الأكوع، عن سلمة بن الأكوع أنه قال: كنا في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من شاء صام، ومن شاء أفطر وافتدى بطعام مسكين، حتى أنزلت:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه". (1)
2748- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم الأحول، عن الشعبي في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين"،
__________
(1) الحديث: 2747- أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، المصري، ابن أخي عبد الله بن وهب ثقة من شيوخ مسلم وابن خزيمة. تكلم فيه بعضهم فلم ينصفه. وأهل بلده أعرف به. فقال ابن أبي حاتم: "سألت محمد بن عبد الحكم عنه؟ فقال: ثقة، ما رأينا إلا خيرًا، قلت: سمع من عمه؟ قال: إي والله". مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/1/59-60.
"بكير بن عبد الله بن الأشج" المدني نزيل مصر: تابعي ثقة، قال ابن وهب: "ما ذكر مالك بن أنس بكير بن الأشج إلا قال: كان من العلماء". مترجم في التهذيب، والكبير 1/2/113، وابن أبي حاتم 1/1/403-404.
"بكير": بالتصغير. ووقع في المطبوعة"بكر" بغير الياء، وهو خطأ. فليس لبكر بن عبد الله المزني رواية في هذا الحديث. والحديث حديث"بكير بن عبد الله".
يزيد مولى سلمة بن الأكوع: هو يزيد بن أبي عبيد الحجازي، وهو تابعي ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/348-349، وابن أبي حاتم 4/2/280.
وقال البخاري في الصحيح -بعد روايته هذا الحديث-: "مات بكير قبل يزيد". وهو كما قال، فإن بكير بن عبد الله مات سنة 127، وقيل غير ذلك، إلى سنة 127. وأما يزيد مولى سلمة فإنه مات سنة 146 أو 147. فسمع عمرو بن الحارث هذا الحديث من بكير عن يزيد - في حياة يزيد.
والحديث رواه مسلم 1: 315، عن عمرو بن سواد العامري، عن ابن وهب، بهذا الإسناد. وكذلك رواه البيهقي 4: 200، من طريق بحر بن نصر، عن ابن وهب.
ورواه البخاري 8: 136، ومسلم 1: 315، والبيهقي 4: 200 - كلهم من حديث قتيبة بن سعيد، عن بكر بن مضر، عن عمرو بن الحارث، عن بكير.
وذكره السيوطي 1: 177-178، وزاد نسبته للدارمي، وابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم، وغيرهم.(3/423)
قال: كانت للناس كلهم: فلما نزلت:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، أمِروا بالصوم والقضاء، فقال:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر".
2749- حدثنا هناد قال، حدثنا علي بن مسهر، عن الأعمش، عن إبراهيم في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: نسختها الآية التي بعدها: وأن تصوموا خيرٌ لكم إنْ كنتم تعلمون.
2750- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن محمد بن سليمان، عن ابن سيرين، عن عبيدة:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: نسختها الآية التي تليها:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه".
2751- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك قوله:"كتب عليكم الصيام" الآية، فُرض الصوم من العتمة إلى مثلها من القابلة، فإذا صلى الرجل العتمة حَرُم عليه الطعام والجماع إلى مثلها من القابلة. ثم نزل الصوم الآخِر بإحلال الطعام والجماع بالليل كله، وهو قوله: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ) إلى قوله: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، وأحل الجماع أيضًا فقال: (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ، وكان في الصوم الأول الفدية، فمن شاء من مسافر أو مقيم أن يُطعم مسكينًا ويفطرَ فعل ذلك، ولم يذكر الله تعالى ذكره في الصوم الآخر الفديةَ، وقال:"فعدةٌ من أيام أخر"، فنسخ هذا الصومُ الآخِرُ الفديةَ. (1)
* * *
وقال آخرون: بل كان قوله:"وَعلى الذينَ يُطيقونه فدية طعامُ مسكين"، حُكمًا خاصًّا للشيخ الكبير والعجوز الذين يُطيقان الصوم، كان مرخصًا لهما
__________
(1) الخبر: 2751-"الحسين بن الفرج": ثبت في المطبوعة هنا"الحسن". وهو خطأ، كما بينا في: 2719.(3/424)
أن يَفديا صومهما بإطعام مسكين ويفطرا، ثم نسخ ذلك بقوله:"فمن شَهد منكم الشهرَ فليصمه"، فلزمهما من الصوم مثل الذي لزم الشاب إلا أن يعجزا عن الصوم، فيكون ذلك الحكم الذي كان لهما قبلَ النسخ ثابتًا لهما حينئذ بحاله.
* ذكر من قال ذلك.
2752- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عَزْرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: كان الشيخُ الكبير والعجوزُ الكبيرةُ وهما يطيقان الصوم، رُخص لهما أن يفطرَا إن شاءا ويطعما لكلّ يوم مسكينًا، ثم نَسخَ ذلك بعد ذلك:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر"، وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، إذا كانا لا يطيقان الصوم، وللحبلى والمرضع إذا خافتا.
2753- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن سعيد، عن قتادة، عن عروة عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وَعلى الذين يُطيقونه"، قال: الشيخ الكبير، والعجوز الكبيرة، ثم ذكر مثل حديث بشر عن يزيد. (1)
__________
(1) الحديثان: 2752-2753- سعيد: هو ابن أبي عروبة.
عزرة - بفتح العين والراء بينهما زاي ساكنة: هو ابن عبد الرحمن بن زرارة الخزاعي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/65، وابن أبي حاتم 3/2/21-22.
ووقع في المطبوعة هنا، وفي سنن أبي المطبوعة"عروة" بدل"عزرة"، وهو تصحيف. والتصويب من السنن مخطوطة الشيخ عابد السندي، ومن السنن الكبرى للبيهقي.
والحديث رواه أبو داود: 2318 (2: 266 عون المعبود) ، من طريق ابن أبي عدي، عن سعيد، عن قتادة، بهذا الإسناد، نحوه.
ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 230، من طريق روح بن عبادة، ومن طريق مكي بن إبراهيم - كلاهما عن سعيد بن أبي عروبة، به.
ثم رواه من طريق أبي داود في السنن، قال: "عن سعيد، فذكره". يعني بهذا الإسناد. فلو كانت رواية أبي داود من طريق"عروة" لذكر ذلك، ولم يحل إسناد أبي داود على إسناده السابق الذي فيه"عن عزرة".
وذكره السيوطي 1: 177 - وزاد نسبته لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
وروى البخاري 8: 135، نحو معناه، من طريق عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس وكذلك رواه النسائي 1: 318-319، من طريق عمرو بن دينار.(3/425)
2754- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا معاذ بن هشام قال، حدثني أبي، عن قتادة، عن عكرمة قال: كان الشيخ والعجوز لهما الرخصة أن يفطرا ويُطعما بقوله:"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين". قال: فكانت لهم الرخصة، ثم نسخت بهذه الآية:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فنسخت الرخصة عن الشيخ والعجوز إذا كانا يطيقان الصوم، وبقيت الحاملُ والمرضعُ أن يفطرَا ويُطعما.
2755- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج بن المنهال قال، حدثنا همام بن يحيى قال، سمعت قتادة يقول في قوله:"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: كان فيها رخصة للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة وهما يطيقان الصومَ أن يطعما مكانَ كل يوم مسكينًا ويفطرا، ثم نسخ ذلك بالآية التي بعدها فقال:"شهرُ رَمضَانَ" إلى قوله:"فعدةٌ من أيام أخر"، فنسختها هذه الآية. فكان أهل العلم يُرَوْن ويرجُون الرخصةَ تثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة إذا لم يطيقا الصومَ أن يفطرا ويُطعما عن كل يوم مسكينًا، وللحبلى إذا خشيت على ما في بطنها، وللمرضع إذا ما خشيت على ولدها.
2756- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، فكان الشيخ والعجوز يطيقان صوم رمضان، فأحل الله لهما أن يفطراه إن أرادا ذلك، وعليهما الفدية لكل يَوم يفطرانه طعامُ مسكين، فأنزل الله بعد ذلك:"شهرُ(3/426)
رَمضانَ الذي أنزل فيه القرآن"، إلى قوله:"فعدةٌ من أيام أخر".
* * *
وقال آخرون ممن قرأ ذلك:"وَعلى الذين يُطيقونه"، لم ينسخ ذلك ولا شيء منه، وهو حكم مثبتٌ من لَدُنْ نزلت هذه الآية إلى قيام الساعة، وقالوا: إنما تأويل ذلك: وعلى الذين يطيقونه - في حال شبابهم وَحداثتهم، وفي حال صحتهم وقوتهم - إذا مَرضوا وكبروا فعجزوا من الكبر عن الصوم، فدية طعام مسكين = لا أنَّ القوم كان رُخِّص لهم في الإفطار - وهم على الصوم قادرون - إذا افتدوا.
* ذكر من قال ذلك:
2757- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وَعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: أما الذين يطيقونه، فالرجل كان يطيقه وقد صام قَبل ذلك، ثم يعرض له الوَجع أو العطش أو المرض الطويل، أو المرأة المرضعُ لا تستطيع أن تصوم، فإن أولئك عليهم مكانَ كل يوم إطعام مسكين، فإن أطعم مسكينًا فهو خيرٌ له، ومن تكلف الصيام فصامه فهو خيرٌ له.
2758- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عَزْرَة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: إذا خَافت الحاملُ على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان، قال: يفطران ويطعمان مكانَ كل يوم مسكينًا، ولا يقضيان صومًا. (1)
__________
(1) الخبر: 2758- هناد: هو ابن السري، مضت ترجمته: 2058. وعبدة: هو ابن سليمان الكلابي، مضت ترجمته: 2323. وهذا الخبر في معنى الحديثين الماضيين: 2751، 2752، من رواية سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس. وذانك حديثان، لأنهما إخبار من ابن عباس عن نسخ الفدية وجواز الإفطار عامة، وإثباتهما في حق الشيخ الكبير ومن ذكر معه هناك. وأما هذا فإنه فتوى من ابن عباس.
ووقع هنا في المطبوعة"عروة" بدل"عزرة"، كما كان في ذينك الحديثين. فأثبتنا الصواب هنا كما أثبتناه هناك.(3/427)
2759- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، ... ، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: أنه رَأى أمَّ ولدٍ له حاملا أو مُرضعًا، فقال: أنت بمنزلة الذي لا يُطيقه، عليك أن تطعمي مكانَ كل يوم مسكينُا، ولا قَضَاء عليك. (1)
2760- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد، عن نافع، عن علي بن ثابت، عن نافع، عن ابن عمر، مثل قول ابن عباس في الحامل والمرضع. (2)
__________
(1) الخبر: 2759- وهذا الخبر كسابقه، فتوى أخرى من ابن عباس لأم ولده، بمعنى التي قبلها. ولكن وقع هنا في المطبوعة سقط في الإسناد، بين"عبدة" و"سعيد بن جبير" نرجع أن صوابه كالإسناد السابق. ولكن لم نستجز أن نثبته عن غير ثبت، فوضعنا أصفارًا موضع السقط.
ويدل على صحة هذا السقط: أن الدارقطني روى هذا الخبر، في سننه، ص: 250، من طريق روح، وهو ابن عبادة: "حدثنا سعيد، عن قتادة، عن عزرة، عن سعيد بن جبير: أن ابن عباس قال لأم ولد له. . ". ثم قال الدارقطني عقبه: "إسناد صحيح".
وذكره السيوطي 1: 179، وزاد نسبته لعبد بن حميد.
(2) الخبر: 2760- وهذا إسناد صحيح، موقوف على ابن عمر.
علي بن ثابت بن عمرو بن أخطب البصري الأنصاري: ثقة، ترجمه ابن أبي حاتم 3/1/177، ولم أجد ترجمته في موضع آخر. وملخص ما قال: روى عن نافع، ومحمد بن يزيد، ومحمد بن زياد. روى عنه سعيد بن أبي عروبة، وعمران القطان، وحماد بن سلمة، وسويد بن إبراهيم. ثم روى عن أحمد بن حنبل، قال: "علي بن ثابت بن أبي زيد الأنصاري: ثقة، حدث عنه سعيد بن أبي عروبة، وحماد زيد، وأخوه عزرة بن ثابت، وأخوه محمد بن ثابت". ثم ذكر ابن أبي حاتم، أنه سأل أباه"عن علي بن ثابت، أخي عزرة ومحمد ابني ثابت؟ فقال: لا بأس به".
ووجدت البخاري ذكره في الكبير 1/1/50، والصغير، ص: 171، في ترجمة أخيه محمد بن ثابت".
وجدهم"عمرو بن أخطب الأنصاري"، كنيته: أبو زيد، وقد اشتهر بكنيته. ترجمه ابن سعد 7/17-18، قال: "وله مسجد ينسب إليه بالبصرة".
وبقية الإسناد -قبل علي بن ثابت وبعده- ثقات معروفون، كما هو ظاهر.
ولم يذكر الطبري لفظ خبر ابن عمر:
وذكره السيوطي 1: 179، عن نافع: "قال: أرسلت إحدى بنات ابن عمر تسأله عن صوم رمضان وهي حامل؟ قال: تفطر وتطعم كل يوم مسكينًا"، ونسبه لعبد بن حميد، وابن أبي حاتم، والدارقطني.
والدارقطني رواه ص: 250، بإسنادين: من طريق حماد، عن أيوب، عن نافع عن ابن عمر: "أن امرأته سألته وهي حبلى؟ فقال: أفطري وأطعمي عن كل يوم مسكينًا، ولا تقضي".
ثم رواه من طريق أبي أسامة، عن عبيد الله، عن نافع قال: "كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش، وكانت حاملا، فأصابها عطش في رمضان، فأمرها ابن عمر أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينًا".(3/428)
2761- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذُكر لنا أن ابن عباس قال، لأم ولد له حبلى أو مرضع: أنت بمنزلة الذين لا يطيقونه، عليك الفداءُ ولا صومَ عليك. هذا إذا خافت على نفسها.
2762- حدثني محمد بن سعد قال، حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وَعلى الذين يطيقونه فدية طعامُ مسكين"، هو الشيخ الكبير كان يُطيق صومَ شهر رمضان وهو شاب، فكبر وهو لا يستطيع صومَه، فليتصدق على مسكين واحد لكل يوم أفطرَه، حين يُفطر وحينَ يَتسحَّر.
2763- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس نحوه - غير أنه لم يقل: حين يُفطر وحين يَتسحر.
2764- حدثنا هناد قال، حدثنا حاتم بن إسماعيل، عن عبد الرحمن بن حرملة، عن سعيد بن المسيب أنه قال في قول الله تعالى ذكره:"فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: هو الكبير الذي كان يصوم فكبر وعجز عنه، وهي الحامل التي ليس عليها الصيام. فعلى كل واحد منهما طعامُ مسكين: مُدٌّ من حنطة لكلّ يوم حتى يمضيَ رَمضان.
* * *
وقرأ ذلك آخرون:"وَعَلَى الَّذِينَ يُطَوَّقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ"، وقالوا: إنه الشيخ الكبير والمرأة العجوز اللذان قد كبرا عن الصوم، فهما يكلفان الصوم ولا يطيقانه، فلهما أن يفطرا ويطعما مكانَ كلّ يوم أفطراه مسكينًا. وقالوا: الآية ثابتة الحكم منذ أنزلت، لم تنسخ، وأنكروا قول من قال: إنها منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
2765- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، حدثنا ابن جريج،(3/429)
عن عطاء، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:"يُطوَّقونه".
2766- حدثنا هناد قال، حدثنا علي بن مسهر، عن عصام، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه كان يقرأ:"وَعلى الذين يُطوقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: فكان يقول: هي للناس اليوم قائمة.
2767- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:"وَعلى الذين يُطوَّقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: وكان يقول: هي للناس اليوم قائمة.
2768- حدثنا هناد قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقرؤها:"وعلى الذين يُطوَّقونه"، ويقول: هو الشيخ الكبير يُفطر ويُطعِم عنه.
2769- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية:"وعلى الذين يُطوَّقونه"، -وكذلك كان يقرؤها-: إنها ليست منسوخة، كلِّف الشيخُ الكبير أن يُفطر ويطعم مكان كل يوم مسكينًا.
2770- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير أنه قرأ:"وعلى الذين يُطوَّقونه".
2771- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن عمران بن حدَير، عن عكرمة قال:"الذين يُطيقونه" يصومونه، ولكن الذين"يُطوَّقونه"، يعجزون عنه.
2772- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج قال، حدثني محمد بن عباد بن جعفر، عن أبي عمرو مولى عائشة، أن عائشة كانت تقرأ:"يُطوَّقونه".
2773- حدثنا الحسن قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا ابن جريج، عن عطاء أنه كان يقرؤها"يطوَّقونه". قال ابن جريج: وكان مجاهد يقرؤها كذلك.(3/430)
2774- حدثنا حميد بن مسعدة قال حدثنا بشر بن المفضل قال: حدثنا خالد، عن عكرمة:"وعلى الذين يُطيقونه" قال، قال ابن عباس: هو الشيخُ الكبير. (1)
2775- حدثنا إسماعيل بن موسى السديّ قال، أخبرنا شريك، عن سالم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"وعلى الذين يُطوَّقونه" قال: يَتجشمونه يَتكلفونه. (2)
2776- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس، عن مسلم الملائي، عن مجاهد، عن ابن عباس في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فدية طعامُ مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يُطيق فيفطر ويُطعم كل يوم مسكينًا.
2777- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس في قول الله:"وَعلى الذين يُطيقونه"، قال: يُكلَّفونه، فديةٌ طعامُ مسكين واحد. قال: فهذه آية منسوخةٌ لا يرخص فيها إلا للكبير الذي لا يُطيق الصيام، أو مريض يعلم أنه لا يُشفى.
2778- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"الذين يطيقونه"، يتكلَّفونه، فديةٌ طعام مسكين واحد، ولم يُرخَّص هذا إلا للشيخ الذي لا يُطيق الصوم، أو المريض الذي يعلم أنه لا يشفى - هذا عن مجاهد.
2779- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن
__________
(1) الأثر: 2774- أخشى أن يكون الصواب هنا: "يطوقونه".
(2) الأثر: 2775- إسماعيل بن موسى السدي الفزاري، قيل: هو ابن بنت السدي الكبير إسماعيل بن عبد الرحمن، مات سنة 245.(3/431)
ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه كان يقول: ليست بمنسوخة.
2780- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، يقول: من لم يطق الصوم إلا على جَهد، فله أن يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا، والحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبيرُ والذي به سُقمٌ دائم.
2781- حدثنا هناد قال، حدثنا عبيدة، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره:"وعلى الذين يطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: هو الشيخ الكبير، والمرء الذي كان يصومُ في شبابه فلما كبر عجز عن الصوم قبل أن يموتَ، فهو يطعم كل يوم مسكينًا - قال هناد: قال عبيدة: قيل لمنصور: الذي يطعم كل يوم نصف صاعٍ؟ قال: نعم. (1)
2782- حدثنا هناد قال، حدثنا مروان بن معاوية، عن عثمان بن الأسود قال: سألتُ مجاهدًا عن امرأة لي وافقَ تاسعها شهرَ رَمضان، ووافق حرًّا شديدًا، فأمرني أن تُفطر وتُطعم. قال: وقال مجاهد: وتلك الرخصة أيضًا في المسافر والمريض، فإن الله يقول:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين".
2783- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن عاصم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: الحاملُ والمرضعُ والشيخُ الكبير الذي لا يستطيع الصوم، يفطرون في رمضان، ويطعمون عن كل يوم مسكينًا، ثم قرأ:"وعلى الذينَ
__________
(1) الخبر: 2781- عبيدة، بفتح العين: هو ابن حميد، بضم الحاء، بن صهيب الحذاء، وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وأخرج له البخاري في الصحيح. مترجم في التهذيب، والصغير للبخاري، ص: 212، وابن سعد 7/2/72-73، وابن أبي حاتم 3/1/92-93، وتاريخ بغداد 11: 120-123.(3/432)
يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين". (1)
2784- حدثنا علي بن سَعيد الكندي قال، حدثنا حفص، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي في قوله:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعام مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يستطيع الصوَم، يُفطر ويطعم مكانَ كل يوم مسكينًا. (2)
2785- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"وعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: هم الذين يتكلفونه ولا يطيقونه، الشيخُ والشيخة.
2786- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حَماد، عن الحجاج، عن أبي إسحاق، عن الحارث، عن علي قال: هو الشيخُ والشيخة.
2787- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن عمران بن حُدير، عن عكرمة أنه كان يقرؤها:"وَعلى الذين يُطيقونه" فأفطروا.
2788- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن عاصم، عمن حدثه عن ابن عباس قال: هي مثبتةٌ للكبير والمرضع والحامل، وعلى الذين يُطيقونَ الصيام.
2789- حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد قال، حدثنا ابن المبارك، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء: ما قوله:"وعلى الذين يطيقونه"؟ قال: بلغنا أن الكبير إذا لم يستطع الصوم يفتدي من كل يوم بمسكين. قلت: الكبيرُ الذي
__________
(1) الأثر 2783- أبو معاوية الضرير محمد بن خازم التميمي السعدي. قال ابن سعد: "كان ثقة كثير الحديث، يدلس، كان مرجئا. مات سنة 193.
(2) الأثر 2784- في المطبوعة: "علي بن سعد". علي بن سعيد بن مسروق الكندي أبو الحسن الكوفي روى عن حفص بن غياث وابن المبارك وغيرهما. وروى عنه الترمذي والنسائي وأبو حاتم، قال أبو حاتم: صدوق، وذكره ابن حبان في الثقات، توفي سنة 249.(3/433)
لا يستطيعُ الصوم، أو الذي لا يستطيعه إلا بالجهد؟ قال: بل الكبير الذي لا يستطيعه بجهد ولا بشيء، فأما مَن استطاع بجهد فليصمه، ولا عذر له في تركه.
2790- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: أخبرني عبد الله بن أبي يزيد:"وَعلى الذين يُطيقونه" الآية، كأنه يعني الشيخَ الكبير - قال ابن جريج: وأخبرني ابن طاوس، عن أبيه أنه كان يقول: نزلت في الكبير الذي لا يَستطيع صيامَ رمضان، فيفتدي من كل يوم بطعام مسكين. قلت له: كم طعامه؟ قال: لا أدري، غير أنه قال: طعام يوم.
2791- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الحسن بن يحيى، عن الضحاك في قوله:"فديةٌ طعامُ مسكين"، قال: الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصومَ، يفطر ويطعم كل يوم مسكينًا.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال:"وَعلى الذين يُطيقونه فديةٌ طعامُ مسكين"، منسوخٌ بقول الله تعالى ذكره:"فمن شَهد منكم الشهر فَليصمه".
لأن"الهاء" التي في قوله:"وَعلى الذين يُطيقونه"، من ذكر"الصيام" ومعناه: وعلى الذين يطيقون الصيام فدية طعامُ مسكين. فإذْ كان ذلك كذلك، وكان الجميعُ من أهل الإسلام مجمعينَ على أن من كان مُطيقًا من الرجال الأصحاء المقيمين غير المسافرين صوْمَ شهر رمضان، فغير جائز له الإفطار فيه والافتداء منه بطعام مسكين - كان معلومًا أنّ الآية منسوخةٌ.
هذا، مع ما يؤيد هذا القول من الأخبار التي ذكرناها آنفًا عن مُعاذ بن جبل، وابن عمر، وسلمة بن الأكوع: من أنهم كانوا - بعد نزول هذه الآية على عَهد رسول الله صلى الله عليه وسلم - في صوم شهر رمضان بالخيار بين صومه(3/434)
وسُقوط الفدية عنهم، وبين الإفطار والافتداء من إفطاره بإطعام مسكين لكل يوم؛ وأنهم كانوا يفعلون ذلك حتى نزلت:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فألزموا فرضَ صومه، وبطل الخيار والفديةُ.
* * *
فإن قال قائل: وكيف تدَّعي إجماعًا من أهل الإسلام = على أنّ من أطاق صومه وهو بالصفة التي وصفت، فغير جائز له إلا صومُه = وقد علمت قول من قال: الحامل والمرضعُ إذا خافتا على أولادهما، لهما الإفطار، وإن أطاقتا الصوم بأبدانهما، مع الخبر الذي رُوي في ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي:
2792- حدثنا به هناد بن السري قال، حدثنا قبيصة، عن سفيان، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس قال: أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وهو يَتغدَّى، فقال:" تعالَ أحدِّثك، إن الله وَضع عن المسافر والحامل والمرضع الصومَ وشَطرَ الصلاة"؟ (1)
__________
(1) الحديث: 2792- قبيصة: هو ابن عقبة السوائي، مضت ترجمته: 489، وأشرنا هناك إلى الكلام في روايته عن سفيان الثوري، وأنه غير مقبول، ونزيد هنا أن الشيخين أخرجا له في الصحيحين من روايته عن الثوري، كما في كتاب رجال الصحيحين، ص: 422.
أبو قلابة - بكسر القاف وتخفيف اللام: هو عبد الله بن زيد الجرمي -بفتح الجيم وسكون الراء- أحد الأعلام الحفاظ من التابعين. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7/1/133-135. وابن أبي حاتم 2/2/57-58، ورجال الصحيحين: 251، وتذكرة الحفاظ 1: 88-89.
أنس - في هذا الحديث فقط: هو أنس بن مالك الكعبي، من بني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوزان. وهو صحابي ليس له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا هذا الحديث الواحد. وبعضهم يذكر في نسبته"القشيري" يذهبون إلى أن"قشيرًا" هو ابن كعب بن ربيعة. وهذا هو الثابت في بعض كتب الأنساب، مثل الاشتقاق لابن دريد، ص: 181، وجمهرة الأنساب لابن حزم، ص: 271، 272، وقلدهم الحافظ في التهذيب. ولكن البخاري قال في ترجمته في التاريخ الكبير 1/2/30: "وكعب إخوة قشير". وقال ابن أبي حاتم في ترجمته 1/2/286: "من بني عبد الله بن كعب، وكعب أخو قشير". وفي رواية أبي داود لهذا الحديث - كما سيأتي في التخريج إن شاء الله -: "عن أنس بن مالك، رجل من بني عبد الله بن كعب، إخوة بني قشير". وقال الحافظ في الإصابة 1: 73"وهذا هو الصواب، وبذلك جزم البخاري في ترجمته. وعلى هذا فهو كعبي، لا قشيري ولأن قشيرًا هو ابن كعب، ولكعب ابن اسمه عبد الله. فهو من إخوة قشير، لا من قشير نفسه".
و"أنس بن مالك"- في الرواة، خمسة نفر: "أنس بن مالك" بن النضر الأنصاري خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهو المراد في أكثر الأحاديث عند إطلاق اسم"أنس". ثم"أنس بن مالك الكعبي" - هذا الذي هنا. وهذان صحابيان. و"أنس بن مالك بن أبي عامر الأصبحي"، "والد الإمام"مالك بن أنس"، وهو تابعي. ثم"أنس بن مالك الصيرفي"، شيخ خلاد بن يحيى. و"أنس بن مالك" شيخ لأبي داود الطيالسي. وهذان متأخران، يرويان عن التابعين. وقد ترجم ابن أبي حاتم لهؤلاء الخمسة. وترجم البخاري في الكبير الثلاثة الأول فقط. وذكرهم كلهم ابن الجوزي في تلقيح فهوم أهل الأثر، ص: 320. وقال في شأن"الكعبي" هذا، وأشار إلى حدجيثه الذي هنا-: روى هذا الحديث الثوري، عن أيوب، عن أبي قلابة، عن أنس [يعني الكعبي] . وعند الثوري بهذا الإسناد عن أنس الأنصاري أحاديث".
وهذا حق. ولذلك كان إطلاق اسم"أنس" هنا غير مستساغ ممن أطلقه، سواء أكان الطبري أم أحد شيوخ الإسناد، لما فيه من الإيهام.
والحديث رواه البخاري في الكبير 1/2/30، عن قبيصة -شيخ هناد في هذا الإسناد- وعن محمد بن يوسف، كلاهما عن الثوري، به. موجزًا كعادته. وصرح في الإسناد بأنه"عن أنس بن مالك الكعبي".
ورواه النسائي 1: 315-316، عن عمر بن محمد بن الحسن -هو ابن التل- عن أبيه، عن الثوري، به، بلفظ: "إن الله وضع عن المسافر، يعني نصف الصلاة، والصوم، وعن الحامل والمرضع".
ورواه أحمد في المسند 5: 29 (حلبي) عن ابن علية، عن أيوب، قال: "كان أبو قلابة حدثني بهذ الحديث، ثم قال لي: هل لك في الذي حدثنيه؟ قال: فدلني عليه، فأتيته، فقال: حدثني قريب لي يقال له أني بن مالك. . ". فذكره بقصة في أوله.
ففي هذه الرواية أن بين أبي قلابة وأنس الكعبي رجلا مبهمًا هو الذي حدثه به عنه.
وكذلك ذكر البخاري أن بينهما رجلا: فرواه عقب ذاك، عن يحيى بن موسى، عن عبد الرزاق عن معمر، عن أيوب، عن أبي قلابة"عن رجل من بني عامر: أن رجلا يقال له أنس حدثه: أنه قدم المدينى - نحوه".
وأنا أرى ترجيح رواية قبيصة ومحمد بن يوسف، التي ليس فيها الرجل المبهم، وقد تابعهما عليها محمد بن الحسن التل. فإن الثوري أحفظ من معمر ومن ابن علية معًا، وهو المقدم على من خالفه في الحفظ والإتقان.
وللحديث إسناد آخر، من وجه آخر. رواه أبو هلال محمد بن سليم الراسبي، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس الكعبي، وهو إسناد جيد، بل صحيح، وأبو هلال الراسبي: ثقة لا بأس به. وعبد الله بن سوادة بن حنظلة القشيري: ثقة أيضًا.
فرواه أحمد في المسند 4: 347 (حلبي) ، عن وكيع، وعن عفان. ورواه عقبة ابنه عبد الله عن شيبان. ورواه أحمد أيضًا 5: 29 (حلبي) ، عن عبد الصمد. ورواه ابن سعد في الطبقات 7/1/30، عن وكيع وعفان. ورواه أبو داود: 2408، عن شيبان بن فروخ. ورواه الترمذي 2: 42، عن أبي كريب ويوسف بن عيسى، عن وكيع. ورواه ابن ماجه: 1667، عن أبي بكر بن أبي شيبة وعلي بن محمد، عن وكيع. ورواه البيهقي 4: 231، من طريق عبيد الله بن موسى، وأبي نعيم. كل هؤلاء وكيع، وعفان، وشيبان، وعبد الصمد، وعبيد الله بن موسى، وأبو نعيم - رووه عن أبي هلال الراسبي، عن عبد الله بن سوادة، عن أنس الكعبي، به مطولا، في قصة.
وهذا إسناد متصل بالسماع، لأن ابن سعد قال عقب روايته: "قال عفان في الحديث كله: حدثنا قال: حدثنا، إلى آخره". فهذا نص على سماع كل شيخ ممن قبله إلى الصحابي.
وقال الترمذي: "حديث أنس بن مالك الكعبي: حديث حسن. ولا نعرف لأنس بن مالك هذا، عن النبي صلى الله عليه وسلم - غير هذا الحديث الواحد". ونقل الحافظ في التهذيب 1: 379، عن الترمذي أنه"صححه". ولكن الذي في أيدينا من نسخ الترمذي قوله"حديث حسن" فقط. فتستفاد زيادة تصحيحه من نقل الحافظ.(3/435)
قيل: إنّا لم ندَّع إجماعًا في الحامل والمرضع، وإنما ادعينا في الرجال الذين(3/436)
وصفنا صفتهم. فأما الحامل والمرضع، فإنما علمنا أنهنّ غير معنيات بقوله: (وعلى الذين يطيقونه) وخلا الرجال أن يكونوا معنيين به، (1) لأنهن لو كن معنيات بذلك دون غيرهن من الرجال، لقيل: وعلى اللواتي يُطقنه فدية طعامُ مسكين، لأن ذلك كلام العرب، إذا أفرد الكلامُ بالخبر عنهنّ دُون الرجال. فلما قيل:"وعلى الذين يُطيقونه"، كان معلومًا أنّ المعنيَّ به الرجالُ دون النساء، أو الرجالُ والنساء. فلما صحّ بإجماع الجميع - على أنّ من أطاق من الرجال المقيمين الأصحاء صومُ شهر رمضان، فغيرُ مرخص له في الإفطار والافتداء، فخرج الرجال من أن يكونوا معنيين بالآية، وعُلم أن النساء لم يُردن بها لما وصفنا: من أن الخبر عن النساء إذا انفرد الكلامُ بالخبر عنهن:"وعلى اللواتي يطقنه"، والتنزيل بغير ذلك.
وأما الخبر الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه إن كان صحيحًا، فإنما معناه: أنه وضَع عن الحامل والمرضع الصومَ ما دامتا عاجزتين عنه، حتى تُطيقا فتقضيا، كما وُضع عن المسافر في سفره، حتى يقيم فيقضيه - لا أنهما أُمِرتا بالفدية والإفطار بغير وجوب قضاء، ولو كان في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله وضع عن المسافر والمرضع والحامل الصوم"، دلالةٌ على أنه صلى الله عليه وسلم إنما عنى أن الله تعالى ذكره وضع عنهم بقوله:"وعلى الذين يُطيقونه
__________
(1) "خلا الرجال" أي خرجوا من قولهم: "أنا منك خلاء، وخلي"، أي بريء منك. ويقال: "هو خلو من هذا الأمر" أي خارج، أو خال منه.(3/437)
فدية طعامُ مسكين"، لوجب أن لا يكون على المسافر إذا أفطر في سفره قضاء، وأن لا يلزمه بإفطاره ذلك إلا الفدية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد جمع بين حُكمه وبين حكم الحامل والمرضع. وذلك قولٌ، إن قاله قائلٌ، خلافٌ لظاهر كتاب الله، ولما أجمع عليه جميع أهل الإسلام.
* * *
وقد زعم بعض أهل العربية من أهل البصرة أنّ معنى قوله:"وعلى الذين يطيقونه"، وعلى الذين يطيقون الطعام. وذلك لتأويل أهل العلم مخالفٌ.
* * *
وأما قراءة من قرأ ذلك:"وعلى الذين يُطوَّقونه" فقراءة لمصاحف أهل الإسلام خلافٌ، وغير جائز لأحد من أهل الإسلام الاعتراض بالرأي على ما نقله المسلمون وِرَاثة عن نبيهم صلى الله عليه وسلم نقلا ظاهرًا قاطعًا للعذر. لأن ما جاءت به الحجة من الدين، هو الحق الذي لا شك فيه أنه من عند الله. ولا يُعترض على ما قد ثَبت وقامت به حُجة أنه من عند الله، بالآراء والظنون والأقوال الشاذة.
* * *
وأما معنى"الفدية" فإنه: الجزاء، من قولك:"فديت هذا بهذا"، أي جزيته به، وأعطيته بدلا منه.
* * *
ومعنى الكلام: وعلى الذين يُطيقون الصيام جزاءُ طعام مسكين، لكلّ يوم أفطرَه من أيام صيامه الذي كتب عليه.
* * *
وأما قوله:"فدية طعامُ مسكين"، فإنّ القرأة مختلفةٌ في قراءته. فبعضٌ يقرأ بإضافة"الفدية" إلى"الطعام"، وخفض"الطعام" - وذلك قراءة عُظْم قراء أهل المدينة (1) - بمعنى: وعلى الذين يطيقونه أن يفدوه طعامَ مسكين.
__________
(1) في المطبوعة: "معظم قراء"، وصواب لفظ الطبري ما أثبت، كما مضى مرارًا، وكما سيأتي بعد قليل على الصواب. ومعنى الحرفين سواء، على كل حال.(3/438)
فلما جعل مكان"أن يفديه""الفدية" أضيف إلى"الطعام"، كما يقال"لزمني غَرامةُ درهم لك"، بمعنى: لزمني أن أغرَم لك درهمًا.
وآخرون يقرأونه بتنوين"الفدية"، ورفع"الطعام"، بمعنى الإبانة في"الطعام" عن معنى"الفدية" الواجبة على من أفطر في صومه الواجب، كما يقال:"لزمني غرامةٌ، درهمٌ لك"، فتبين"بالدرهم" عن معنى"الغرامة" ما هي؟ وما حدُّها؟ وذلك قراءةُ عُظْم قُراء أهل العراق.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بين الصواب قراءة من قرأ"فديةُ طعام" بإضافة"الفدية" إلى"الطعام"، لأن"الفدية" اسم للفعل، وهي غير"الطعام" المفديّ به الصوم.
وذلك أن"الفِدْية" مصدر من قول القائل:"فَديت صَوم هذا اليوم بطعام مسكين أفديه فدية"، كما يقال:"جلست جِلْسة، ومَشيتُ مِشْية"."والفدية" فعل، و"الطعام" غيرها. فإذْ كان ذلك كذلك، فبيِّنٌ أن أصَحّ القراءتين إضافة"الفدية" إلى"الطعام"، (1) وواضحٌ خطأ قول من قال: إن ترك إضافة"الفدية" إلى الطعام، أصح في المعنى، من أجل أن"الطعام" عنده هو"الفدية". فيقال لقائل ذلك: قد علمنا أن"الفدية" مقتضية مفديًّا، ومفديًّا به، وفدية. فإن كان"الطعام" هو"الفدية""والصوم" هو المفديّ به، فأين اسم فعل المفتدي الذي هو"فدية" إنّ هذا القول خطأ بين غير مشكل.
* * *
وأما"الطعام" فإنه مضاف إلى"المسكين". والقرأة في قراءة ذلك مختلفون.
فقرأه بعضهم بتوحيد"المسكين"، بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام
__________
(1) في المطبوعة: "فتبين أن أصح القراءتين. . "، ومثل هذا التحريف كثير فيما مضى، والصواب ما أثبت، وقوله بعد: "وواضح خطأ قول القائل. . "، معطوف عليه. فهذا هو صواب السياق.(3/439)
مسكين واحد لكل يوم أفطره، كما:-
2793- حدثني محمد بن يزيد الرفاعي قال، حدثنا حسين الجعفي، عن أبي عمرو أنه قرأ:"فديةٌ" -رفع منون-"طعام" -رفع بغير تنوين-"مسكين"، وقال: عن كل يوم مسكين. وعلى ذلك عُظْم قراء أهل العراق.
* * *
وقرأه آخرون بجمع"المساكين"،"فدية طعام مَساكين" بمعنى: وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مساكين عن الشهر، إذا أفطر الشهر كله، كما:-
2794- حدثنا أبو هشام محمد بن يزيد الرفاعي، عن يعقوب، عن بشار، عن عمرو، عن الحسن:"طعام مساكين"، عن الشهر كله.
* * *
قال أبو جعفر: وأعجبُ القراءتين إليّ في ذلك قراءة من قرأ:"طعام مسكين" على الواحد، بمعنى: وعلى الذين يطيقونه عن كل يوم أفطروه فدية طعام مسكين. لأن في إبانة حُكم المفطر يومًا واحدًا، وصُولا إلى معرفة حُكم المفطر جميع الشهر -وليس في إبانة حكم المفطر جميعَ الشهر، وصولٌ إلى إبانة حكم المفطر يومًا واحدًا، وأيامًا هي أقل من أيام جميع الشهر -، وأن كل"واحد" يُترجم عن"الجميع"، وأن"الجميع" لا يترجم به عن"الواحد". فلذلك اخترنا قراءة ذلك بالتوحيد. (1)
* * *
واختلف أهل العلم في مبلغ الطعام الذي كانوا يطعمون في ذلك إذا أفطروا.
فقال بعضهم: كان الواجبُ من طعام المسكين لإفطار اليوم الواحد نصف صاع من قمح.
وقال بعضهم: كان الواجب من طعام المسكين لإفطار اليوم، مدًّا من قمح ومن سائر أقواتهم.
__________
(1) الترجمة: البدل، كما سلف مرارًا. انظر 2: 340، وفهرس المصطلحات.(3/440)
وقال بعضهم: كان ذلك نصف صاع من قمح، أو صاعًا من تمر أو زبيب.
وقال بعضهم: ما كان المفطر يتقوَّته يومَه الذي أفطرَه.
وقال بعضهم: كان ذلك سحورًا وَعشاءً، يكون للمسكين إفطارًا.
وقد ذكرنا بعض هذه المقالات فيما مضى قبل، فكرهنا إعادة ذكرها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك. فقال بعضهم بما:-
2795- حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس:"فمن تطوع خيرًا"، فزاد طعامَ مسكين آخر،"فهو خيرٌ له وأن تصومُوا خيرٌ لكم".
2796- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن ابن عباس مثله.
2797- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن خصيف، عن مجاهد في قوله:"فمن تطوع خيرًا"، قال: من أطعم المسكين صاعًا.
2798- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه:"فمن تطَوع خيرًا فهو خيرٌ له"، قال: إطعامُ مَساكين عن كل يوم، فهو خير له.
2799- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن حنظلة، عن طاوس:"فمن تطوع خيرًا"، قال: طعامُ مسكين.
2800- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن(3/441)
حنظلة، عن طاوس نحوه.
2801- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا سفيان، عن ليث، عن طاوس:"فمن تطوع خيرًا"، قال: طعام مسكين.
2802- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد، عن ليث عن طاوس مثله.
2803- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عمرو بن هارون قال، حدثنا ابن جريج، عن عطاء أنه قرأ:"فمن تطوع" -بالتاء خفيفة [الطاء]-"خيرًا"، قال: زاد على مسكين. (1)
2804- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فمن تَطوع خيرًا فهو خيرٌ له"، فإن أطعم مسكينين فهو خير له.
2805- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج، أخبرني ابن طاوس، عن أبيه:"فمن تطوع خيرًا فهو خير له"، قال: من أطعم مسكينًا آخر.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك، فمن تطوع خيرًا فصامَ مع الفدية.
* ذكر من قال ذلك:
2806- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب:"فمن تطوع خيرًا فهو خيرٌ له"، يريد أن من صامَ مع الفدية فهو خير له.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن تطوع خيرًا فزاد المسكين على قَدر طعامه.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا بد منها، وإلا فسد الكلام. والقراءة الأخرى في هذه الكلمة: "يَطَّوَّعْ" بياء الغيبة، وفتح الياء، وتشديد الطاء وفتحها، وتشد الواو وفتحها، وجزم العين.(3/442)
2807- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج قال، قال ابن جريج قال، مجاهد:"فمن تطوع خيرًا"، فزاد طعامًا،"فهو خير له".
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن الله تعالى ذكره عمم بقوله:"فمن تطوع خيرًا"، فلم يخصص بعض معاني الخير دون بعض. فإنّ جَمْع الصَوْم مع الفدية من تطوُّع الخير، وزيادةُ مسكين على جزاء الفدية من تطوُّع الخير. وجائز أن يكون تعالى ذكره عنى بقوله:"فمن تطوع خيرًا"، أيَّ هذه المعاني تطوّع به المفتدي من صومه، فهو خير له. لأن كل ذلك من تطوع الخير، ونوافل الفضل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"وأنْ تَصوموا"، ما كتب عليكم من شهر رمضان،"فهو خير لكم" من أن تفطروه وتفتدوا، كما:-
2808- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأنْ تَصوموا خيرٌ لكم"، ومن تكلف الصيامَ فصامه فهو خيرٌ له.
2809- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني الليث قال، حدثني يونس، عن ابن شهاب:"وأن تَصُوموا خيرٌ لكم"، أي: إن الصيامَ خير لكم من الفدية.
2810- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى،(3/443)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وأن تصومُوا خيرٌ لكم".... (1)
* * *
وأما قوله:"إن كنتم تعلمون"، فإنه يعني: إن كنتم تعلمون خيرَ الأمرين لكم أيها الذين آمنوا، من الإفطار والفدية، أو الصوم على ما أمركم الله به.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}
قال أبو جعفر:"والشهر"، فيما قيل، أصله من"الشهرة". يقال منه:"قد شَهر فلانٌ سَيْفه" -إذا أخرجه من غمده فاعترض به من أراد ضربه-"يشهرُه شهرًا". وكذلك"شَهر الشهر"، إذا طلع هلاله،"وأشهرْنا نحن"، إذا دخلنا في الشهر.
* * *
وأما"رمضان"، فإن بعض أهل المعرفة بلغة العرب كان يزعم أنه سمى بذلك لشدة الحرِّ الذي كان يكون فيه، حتى تَرْمَض فيه الفِصَال، (2) كما يقال للشهر الذي يُحجّ فيه"ذو الحجة"، والذي يُرتبع فيه"ربيع الأول، وربيع الآخر".
* * *
وأما مجاهد فإنه كان يكره أن يقال:"رمضان"، ويقول: لعله اسمٌ من أسماء الله.
2811- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا سفيان، عن
__________
(1) الأثر: 2810- سقط آخره، ولم أجده في المراجع. ولكن صوابه كالذي قبله: من الإفطار والفدية، كما هو ظاهر.
(2) الفصال جمع فصيل: وهو ولد الناقة إذا فصل عن أمه. ورمض الفصال: أن تحترق الرمضاء -وهو الرمل- فتبرك الفصال من شدة حرها، وإحراقها أخفافها وفراسنها. ورمضت قدمه من الرمضاء: احترقت.(3/444)
مجاهد: أنه كره أن يقال:"رمضان"، ويقول: لعله اسم من أسماء الله لكن نقول كما قال الله:"شهر رمضان".
* * *
وقد بينت فيما مضى أن"شهر" مرفوع على قوله:"أيامًا معدودات"، هن شهر رمضان. (1) وجائز أن يكون رفعه بمعنى: ذلك شهر رمضان، وبمعنى: كتب عليكم شهرُ رمضان.
وقد قرأه بعض القراء"شهرَ رَمضان" نصبًا، بمعنى: كتب عليكم الصيام أن تصوموا شهرَ رمضان. وقرأه بعضهم نصبًا بمعنى: أن تصوموا شهرَ رمضان خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون وقد يجوز أيضًا نصبه على وجه الأمر بصومه، كأنه قيل: شهرَ رمضان فصومُوه. وجائز نصبه على الوقت، كأنه قيل: كتب عليكم الصيام في شهر رمضان.
* * *
وأما قوله:"الذي أنزل فيه القرآن"، فإنه ذكر أنه نزل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، في ليلة القدر من شهر رمضان. ثم أنزل إلى محمد صلى الله عليه وسلم على ما أراد الله إنزاله إليه، كما:-
2812- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن حسان بن أبي الأشرَس عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن جملةً من الذكر في ليلة أربع وعشرين من رمضان، فجُعل في بيت العزَّة - قال أبو كريب: حدثنا أبو بكر، وقال ذلك السدي.
2813- حدثني عيس بن عثمان قال، حدثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، عن حسان، عن سعيد بن جبير قال: نزل القرآن جملة واحدةً في ليلة القدر في شهر رمضان، فجعل في سماء الدنيا. (2)
__________
(1) انظر ما سلف آنفًا: 415، 417.
(2) الأثر: 2813- في المطبوعة: "يحيى عن عيسى"، وهو خطأ. وانظر التعليق على الأثر رقم: 300.(3/445)
2814- حدثنا أحمد بن منصور قال، حدثنا عبد الله بن رجاء قال، حدثنا عمران القطان، عن قتادة، عن أبي المليح، عن واثلة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"نزلت صُحف إبراهيم أول ليلة من شهر رمضان، وأنزلت التوراةُ لست مَضَين من رمضان، وأنزل الإنجيل لثلاثَ عَشرة خلت، وأنزل القرآن لأربع وعشرين من رمضان. (1)
2815- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن". أما"أنزل فيه القرآن"، فإن ابن عباس قال: شهر رمضان، والليلةُ المباركة ليلةُ القدر، فإن ليلة القدر هي الليلة المباركة، وهي في رمضان، نزل القرآن جملةً واحدة من الزُّبُر إلى البيت المعمور، وهو"مواقع النجوم" في السماء الدنيا حيث وقع القرآن، ثم نزل محمد صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الأمر والنهي وفي الحروب رَسَلا رَسَلا. (2)
2816- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس قال: أنزل الله القرآن إلى السماء الدنيا في ليلة القدر، فكان الله إذا أراد أن يُوحِيَ منه شيئًا أوحاه، فهو قوله: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [سورة القدر: 1] .
__________
(1) الحديث: 2814- عبد الله بن رجاء بن عمرو الغداني: ثقة من شيوخ البخاري. و"الغداني": بضم الغين المعجمة وتخفيف الدال المهملة.
عمران القطان: هو عمران بن داور، مضى في: 126. وكنيته"أبو العوام".
أبو المليح: هو ابن أسامة الهذلي، وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة. ووقع في المطبوعة"عن ابن أبي المليح". وزيادة"ابن" خطأ واضح.
واثلة - بالثاء المثلثة: هو ابن الأسقع، صحابي معروف. والحديث رواه أحمد في المسند: 17051 (4: 107 حلبي) ، عن أبي سعيد مولى بني هاشم، عن عمران أبي العوام، بهذا الإسناد، وهو إسناد صحيح.
ونقله ابن كثير 1: 406، عن المسند. وكذلك السيوطي 1: 189، وزاد نسبته إلى محمد بن نصر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والبيهقي في الشعب.
(2) رسلا رسلا: أي قطعة قطعة، وفرقة فرقة.(3/446)
2817- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر نحوه - وزاد فيه: فكان من أوله وآخره عشرون سنة.
2818- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن عكرمة، عن ابن عباس، قال: أنزل القرآنُ كله جملةً واحدةً في ليلة القدر في رمضان، إلى السماء الدنيا، فكان الله إذا أراد أن يحدث في الأرض شَيئًا أنزله منه، حتى جمعه.
2819- حدثني يعقوب قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عن حكيم بن جبير، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء جملة واحدة، ثم فرَّق في السنين بعدُ. قال: وتلا ابن عباس هذه الآية: (فَلا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) [سورة الواقعة:75] ، قال: نزل مفرَّقًا.
2820- حدثنا يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن داود، عن الشعبي قال: بلغنا أن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا.
2821- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، قرأه ابن جريج في قوله: (1) "شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن"، قال: قال ابن عباس: أنزل القرآن جملةً واحدة على جبريل في ليلة القدر، فكان لا ينزل منه إلا بأمر. قال ابن جريج: كان ينزل من القرآن في ليلة القدر كلُّ شيء ينزل من القرآن في تلك السنة. فنزل ذلك من السماء السابعة على جبريل في السماء الدنيا، فلا ينزل جبريلُ من ذلك على محمد إلا ما أمره به ربه. ومثل ذلك (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) و (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) [سورة الدخان: 3] .
__________
(1) هكذا في المطبوعة، ولم أدر ما هو، وأخشى أن يكون صوابه"قرأ ابن جريج قوله. . ".(3/447)
2822- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن السدي، عن محمد بن أبي المجالد، عن مقسم، عن ابن عباس، قال له رجل: إنه قد وقع في قلبي الشك من قوله:"شهرُ رَمضان الذي أنزل فيه القرآن"، وقوله: (إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ) وقوله (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، وقد أنزل الله في شوّال وذي القعدة وغيره! قال: إنما أنزل في رمضان في ليلة القدر وليلة مباركة جملة واحدةً، ثم أنزل على مَواقع النجوم رَسَلا في الشهور والأيام.
* * *
وأما قوله:"هُدى للناس"، فإنه يعني رَشادًا للناس إلى سبيل الحقّ وقَصْد المنهج. (1)
* * *
وأما قوله:"وَبيِّنات"، فإنه يعني: وواضحات"من الهدى" - يعني: من البيان الدالّ على حدود الله وفرائضه وحلاله وحرامه. (2)
* * *
وقوله:"والفرقان" يعني: والفصل بين الحق والباطل، (3) كما:-
2823- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدى: أما"وبينات من الهدى والفرقان"، فبينات من الحلال والحرام.
* * *
__________
(1) انظر تفسير"هدى" فيما سلف في فهرس اللغة.
(2) انظر تفسير"بينات" فيما سلف في فهرس اللغة.
(3) انظر تفسير"فرقان" فيما سلف 1: 98-99.(3/448)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى"شهود الشهر".
فقال بعضهم: هو مُقام المقيم في داره. قالوا: فمن دخل عليه شهرُ رمضان وهو مقيم في داره، فعليه صوم الشهر كله، غابَ بعدُ فسافر، أو أقام فلم يبرح.
* ذكر من قال ذلك:
2824- حدثني محمد بن حميد ومحمد بن عيسى الدامغاني قالا حدثنا ابن المبارك، عن الحسن بن يحيى، عن الضحاك، عن ابن عباس في قوله:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه"، قال: هو إهلاله بالدار. يريد: إذا هلَّ وهو مُقيم.
2825- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم قال، أخبرنا حصين، عمن حدثه، عن ابن عباس أنه قال. في قوله:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه"، فإذا شهده وهو مقيم فعليه الصوم، أقام أو سافر. وإن شهده وهو في سَفر، فإن شاء صامَ وإن شَاء أفطر.
2826- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن محمد، عن عبيدة -في الرجل يُدركه رمضان ثم يُسافر - قال: إذا شهدتَ أوله فصُمْ آخره، ألا تراه يقول:"فمن شَهدَ منكم الشهر فليصمه"؟
2827- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام القردوسي، عن محمد بن سيرين قال، سألت عَبيدة: عن رجل أدرك رمضان وهو مقيم؟ قال: من صام أول الشهر فليصم آخره، ألا تراه يقول: فَمنْ شهد منكم الشهرَ فليصمه". (1)
__________
(1) الأثر: 2827- في المطبوعة: "الفردوسي"، والصواب بالقاف المضمومة، هشام بن حسان الأزدي القردوسي أبو عبد الله البصري، روي عن حميد بن هلال والحسن البصري ومحمد وأنس وحفص بني سيرين وغيرهم، وروى عنه عكرمة بن عمار وسعيد بن أبي عروبة وابن علية وغيرهم. يقال هو منسوب إلى درب بالبصرة يقال له"القراديس"، وهو جمع قردوس، وهو أبو حي من اليمن، سمى الدرب بهم. ويقال: هو مولى لهذ الحي. قال ابن سعد: كان ثقة إن شاء الله. ومات سنة 146.(3/449)
2828- حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: أما"منْ شَهد منكم الشهر فليصمه"، فمن دخل عليه رمضان وهو مقيم في أهله فليصُمه، وإن خَرج فيه فليصُمه، فإنه دَخل عليه وهو في أهله.
2829- حدثني المثنى قال، حدثنا حجاج قال، حدثنا حماد قال، أخبرنا قتادة، عن محمد بن سيرين، عن عبيدة السلماني، عن علي -فيما يحسب حماد- قال: من أدرك رَمضان وهو مقيم لم يَخرج، فقد لزمه الصوم، لأن الله يقول:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه".
2830- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا عبد الرحمن، عن إسماعيل بن مسلم، عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن قول الله:"فمن شَهد منكم الشهر فليصمه"، قال: من كان مقيمًا فليصُمه، ومن أدركه ثم سافر فيه فليصمه.
2831- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة، قال: من شهد أول رمضان فليصم آخرَه.
2832- حدثنا هناد قال، حدثنا عبدة، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة أن عليًّا كان يقول: إذا أدركه رمضان وهو مقيمٌ ثم سافر، فعليه الصوم.
2833- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن عُبيدة الضبي، عن إبراهيم قال: كان يقول: إذا أدركك رمضانُ فلا تسافر فيه، فإن صمت فيه يومًا أو اثنين ثم سافرت، فلا تفطر، صُمه.
2834- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن أبي البختري. قال: كنا عند عُبيدة فقرأ هذه الآية:(3/450)
"فَمن شَهد منكم الشهر فليصمه"، قال: من صام شيئًا منه في المصر فليصم بقيته إذا خرج. قال: وكان ابن عباس يقول: إن شاء صَام وإن شَاء أفطر.
2835- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب -وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية- قالا جميعًا، حدثنا أيوب، عن أبي يزيد، عن أم ذرة، قالت: أتيت عائشه في رمضان، قالت: من أين جئتِ؟ قلت: من عند أخي حنين. قالت: ما شأنه؟ قالت: ودَّعته يُريد يرتحل. قالت: فأقرئيه السلام ومُريه فليُقم، فلو أدركني رمضانُ وأنا ببعض الطريق لأقمت له. (1)
2836- حدثنا هناد قال، حدثنا إسحاق بن عيسى، عن أفلح، عن عبد الرحمن، قال: جاء إبراهيم بن طلحة إلى عائشة يُسلّم عليها، قالت: وأين تريد؟ قال: أردتُ العمرة. قالت: فجلستَ حتى إذا دخل عليك الشهر خرجتَ فيه! قال: قد خرج ثَقَلي! قالت: اجلس، حتى إذا أفطرت فاخرج - يعني شهرَ رمضان. (2)
* * *
__________
(1) الخبر: 2835- أبو زيد: هو المدني، يعد في أهل البصرة. وهو تابعي ثقة، وثقه ابن معين. وترجمه البخاري في الكنى، رقم: 784، وقال: "سمع ابن عمر". وابن أبي حاتم 4/2/458-459. وفي التهذيب عن الآجري، عن أبي داود: "سألت أحمد عنه، فقال: تسأل عن رجل روى عنه أيوب؟ "
أم ذرة -بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء- مولاة عائشة: تابعية ثقة. مترجمة في التهذيب. وابن سعد 8: 357، وذكر لها روايتين أخريين عن عائشة، روى أحدهما مطولا قبل ذلك في ترجمة عائشة 8: 46.
أما أخوها"حنين": فإني لم أجد له ذكرًا في غير هذا الموضع.
والخبر ذكره السيوطي 1: 191، بنحو معناه، ونسبه لعبد بن حميد فقط. ولم يسم فيه"حنين" أخو"أم ذرة"، بل ذكر أنه أخوها فقط.
(2) الخبر: 2836- إسحاق بن عيسى: هو ابن الطباع البغدادي، ثقة من الرواة عن مالك وطبقته.
أفلح: هو ابن حميد بن نافع المدني، وهو ثقة معروف، روى له الشيخان.
عبد الرحمن هو ابن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، ثقة إمام، من خيار المسلمين. ولد في حياة عائشة.
إبراهيم بن طلحة: هو إبراهيم بن محمد بن طلحة بن عبيد الله التيمي، نسب هنا إلى جده. وهو تابعي ثقة رفيع الشأن.
وهذا الخبر نقله السيوطي 1: 191، ونسبه لعبد بن حميد فقط. وفيه أنه"عن عبد الرحمن بن القاسم: أن إبراهيم بن محمد جاء إلى عائشة. . "، فذكر نحو مما هنا، بمعناه.(3/451)
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن شهد منكم الشهر فليصُمْ ما شهد منه.
* ذكر من قال ذلك:
2837- حدثنا هناد بن السري قال، حدثنا شريك، عن أبي إسحاق: أن أبا مَيسرة خرج في رمضان، حتى إذا بلغ القنطرة دعا ماءً فشرب.
2838- حدثنا هناد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة قال: خرج أبو ميسرة في رمضان مسافرًا، فمرّ بالفرات وهو صائم، فأخذ منه كفًّا فشربه وأفطر.
2839- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن مرثد: أن أبا مَيسرة سافرَ في رمضان، فأفطر عند باب الجسر - هكذا قال هناد، عن مرثد، وإنما هو أبو مَرثد.
2840- حدثني محمد بن عمارة الأسديّ قال، حدثنا عبيد الله بن موسى قال، أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن مرثد: أنه خرج مع أبي ميسرة في رمضان، فلما انتهى إلى الجسر أفطر. (1)
__________
(1) الخبران: 2839، 2840- هما من رواية أبي إسحاق السبيعي، عن"مرثد"، عن"أبي ميسرة".
وقال الطبري في أولهما: "هكذا قال هناد: عن مرثد، وإنما هو: عن أبي مرثد"! يعني أن شيخه في أولهما، وهو"هناد"، أخطأ في ذلك، ومن عجب أنه يرويه عقبه في الرواية الثانية، عن شيخ آخر، بإسناد آخر إلى أبي إسحاق -كرواية هناد، التي زعم أنه أخطأ فيها!
وعندي أن أبا جعفر -رحمه الله- هو الذي وهم، أصاب الصواب فأخطأه:
أما أولا: فلاتفاق روايين حافظين ثقتين، هما سفيان الثوري في الإسناد الأول، وإسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي في الإسناد الثاني - كلاهما عن أبي إسحاق أنه"عن مرثد".
وأما ثانيًا: فلأنا لا نعرف في الرواة من كنيته"أبو مرثد"، إلا"أبا مرثد الغنوي كناز بن الحصين"، وهو صحابي قديم الوفاة، مات سنة 12. إلا أن يكون الطبري يعرف راويًا آخر بهذه الكنية لم يصل إلينا خبره. وما أظن.
وأبو ميسرة، صاحب الخبر في الروايتين: هو عمرو بن شرحبيل الهمداني الكوفي، وهو تابعي كبير ثقة، من شيوخ أبي إسحاق السبيعي. مات سنة 63، وشهد السبيعي جنازته. ولو شاء أبو إسحاق أن يروي هذا الخبر عنه دون واسطة، لما دفع عن ذلك، إذ عرف بالرواية عنه. ولكنه لم يشأ أن يدلس في خبر لم يشهده بنفسه، فرواه عمن شهده. وهو"مرثد".
والراجح عندي: أنه"مرثد بن عبد الله اليزني"، وهو تابعي أقدم قليلا من السبيعي. مات مرثد سنة 90. ومات السبعي -وهو تابعي أيضًا- سنة 126 أو بعدها بقليل.
فعن هذا كله رجحت -بل استيقنت- أن أبا جعفر رحمه الله، هو الذي وهم.(3/452)
2841- حدثنا هناد وأبو هشام قالا حدثنا وكيع، عن المسعودي، عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال: كنت مع عليّ في ضيعة له على ثلاث من المدينة، فخرجنا نريد المدينة في شهر رمضان، وعليٌّ راكبٌ وأنا ماشٍ، قال: فصام - قال هناد: وأفطرت- قال أبو هشام: وأمرني فأفطرتُ.
2842- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن عبد الرحمن بن عتبة، عن الحسن بن سعد، عن أبيه قال: كنت مع عليّ بن أبي طالب وهو جَاءٍ من أرض له، فصام، وأمرني فأفطرت، فدخل المدينة ليلا وكان راكبًا وأنا ماشٍ.
2843- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع -وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا ابن مهدي- قالا جميعًا، حدثنا سفيان، عن عيسى بن أبي عزة، عن الشعبي: أنه سافر في شهر رمضان فأفطر عند باب الجسر.
2844- حدثني ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، قال لي سفيان: أحبُّ إليّ أن تُتمه.
2845- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة قال: سألت الحكمَ وحمادًا، وأردت أن أسافر في رمضان فقالا لي: اخرج. وقال حماد، قال إبراهيم: أما إذا كان العَشر، فأحبُّ إليَّ أن يقيم.
2846- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا أبو الوليد قال، حدثنا حماد، عن قتادة، عن الحسن وسعيد بن المسيب قالا من أدركه الصومُ وهو مقيم رمضان ثم سافر، قالا إن شَاءَ أفطر.
* * *(3/453)
وقال آخرون:"فَمن شهد منكم الشهر فليصمه"، يعني: فمن شهده عاقلا بالغًا مكلفًا فليصمه.
وممن قال ذلك أبو حنيفة وأصحابه، كانوا يقولون: من دخل عليه شهرُ رمضان وهو صحيحٌ عاقلٌ بالغٌ فعليه صومه، فإن جُنّ بعد دُخوله عليه وهو بالصفة التي وصفنا، ثم أفاقَ بعد انقضائه، لزمه قضاءُ ما كان فيه من أيام الشهر مغلوبًا على عقله، لأنه كان ممن شهده وهو ممن عليه فُرض.
قالوا: وكذلك لو دخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنونٌ، إلا أنه ممن لو كان صحيحَ العقل كان عليه صَوْمه، فلن ينقضي الشهر حتى صَح وَبرأ، أو أفاق قبل انقضاء الشهر بيوم أو أكثر من ذلك، فإنّ عليه قضاءُ صوْم الشهر كله، سوى اليوم الذي صامه بَعد إفاقته، لأنه ممن قد شَهد الشهر.
قالوا: ولو دَخل عليه شهرُ رمضان وهو مجنون، فلم يفق حتى انقضى الشهرُ كله، ثم أفاق، لم يلزمه قضاء شيء منه، لأنه لم يكن ممن شَهده مكلَّفًا صَوْمَه.
قال أبو جعفر: وهذا تأويل لا معنى له، لأنّ الجنون إن كانَ يُسقط عمن كان به فَرْضَ الصومِ، من أجل فقد صاحبه عَقله جميع الشهر، فقد يجب أن يكونَ ذلك سبيلَ كل من فقد عقله جميع شهر الصوم. وقد أجمع الجميعُ على أن من فقد عقله جميع شَهر الصوم بإغماء أو بِرْسام، (1) ثم أفاق بعد انقضاء الشهر، أن عليه قضاءُ الشهر كله. ولم يخالف ذلك أحدٌ يجوزُ الاعتراضُ به على الأمة. وإذ كان إجماعًا، فالواجب أن يكون سبيلُ كل من كان زائلَ العقل جميع شهر الصوم، سبيلَ المغمى عليه. وإذ كان ذلك كذلك، كان معلومًا أن تأويل الآية غير الذي تأوَّلها قائلو هذه المقالة: من أنه شُهود الشهر أو بعضه مكلفًا صومَه. وإذا بطل ذلك، فتأويل المتأوِّل الذي زعم أن معناه: فمن شهد أوله مقيما حاضرًا
__________
(1) البرسام: علة يهذي فيها صاحبها. قالوا: هو ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء، ثم يتصل إلى الدماغ.(3/454)
فعليه صَوْم جميعه، أبطلُ وأفسدُ، لتظاهر الأخبار عن رَسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج عَام الفتح من المدينة في شهر رمضان بعد ما صَام بعضه، وأفطرَ وأمر أصحابه بالإفطار.
2847- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو الأحوص، عن منصور، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"سافرَ رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان من المدينة إلى مكة، حتى إذا أتى عُسْفان نزل به، فدعا بإناء فوضعه على يَده ليراه الناسُ، ثم شربه.
2848- حدثنا ابن حميد وسفيان بن وكيع قالا حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه
2849- حدثنا هناد، حدثنا عبيدة، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحوه. (1)
2850- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا ابن إسحاق قال، حدثني الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، عن ابن عباس قال: مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم لسفره عام الفتح لعشر مضين من رمضان، فصامَ رسول الله صلى الله عليه وسلم وصامَ الناسُ معه، حتى إذا أتى الكُدَيْد -ما بين عُسْفان وأَمَج- أفطر.
2851- حدثنا هناد وأبو كريب قالا حدثنا عبدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال خرج رسول الله
__________
(1) الأحاديث: 2847-2849، هي ثلاثة أسانيد لحديث واحد.
فأولها فيه"عن مجاهد، عن ابن عباس"، وفي الآخرين بينها"طاوس".
والحديث رواه الإمام أحمد في المسند، بأطول مما هنا: 2350، عن عبيدة، عن منصور، بالإسناد الثاني هنا، ورواه أيضًا: 2251، عن حسين، عن شيبان، عن منصور.
ورواه أيضًا -مطولا- الشيخان، كما في المنتقى: 2175. فهو حديث صحيح متفق عليه.(3/455)
صلى الله عليه وسلم لعشرٍ -أو لعشرين- مضت من رَمضان عام الفتح، فصام حتى إذا كان بالكديد أفطر. (1)
2852- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا سالم بن نوح قال، حدثنا عمر بن عامر، عن قتادة، عن أبي نضرة، عن أبي سعيد الخدريّ قال: خرجنا مع النبي صلى الله عليه وسلم لثمان عشرَةَ مضتْ من رمضان، فمنا الصائم ومنا المفطر، فلم يَعِب المفطرُ على الصائم، ولا الصائم على المفطر. (2)
* * *
فإذ كانا فاسدين هذان التأويلان، (3) بما عليه دَللنا من فسادهما - فَبيِّنٌ أن الصحيح من التأويل هو الثالث، (4) وهو قول من قال: فمن شهد منكم الشهر فليصمه، جميعَ ما شهد منه مقيمًا، ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر.
* * *
__________
(1) الحديثان: 2850، 2851- هما إسنادان آخران صحيحان، للحديث السابق، بلفظ أطول، ومن وجه آخر، من رواية ابن إسحاق، عن الزهري. وهو في سيرة ابن هشام، (ص 810 أوربة - 4: 42 طبعة الحلبي) ، بلفظ أطول مما هنا. وكذلك رواه أحمد في المسند: 2392، من طريق ابن إسحاق.
ورواه أحمد أيضًا: 1892، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري، مختصرًا، ورواه بأطول منه: 3089، عن عبد الزاق، عن معمر، عن الزهري.
وانظر تاريخ ابن كثير 4: 285-287.
(2) الحديث: 2852- سالم بن نوح، أبو سعيد العطار: ثقة من شيوخ أحمد.
عمر بن عامر السلمي البصري القاضي: ثقة ثبت في الحديث، كما قال أحمد.
والحديث رواه مسلم في صحيحه 1: 308، بأسانيد كثيرة، منها إسناد عن محمد بن المثنى، عن سالم بن نوح، عن عمر بن عامر، عن قتادة، بهذا الإسناد.
ثم رواه بأسانيد أخر 1: 308-309، عن أبي نضرة عن أبي سعيد.
ونسبه السيوطي 1: 190-191 أيضًا للترمذي والنسائي.
(3) في المطبوعة: "فإذا كان فاسدين. . . "، والصواب ما أثبته.
(4) في المطبوعة: "فتبين"، وهو خطأ، والصواب ما أثبته.(3/456)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر في الشهر فأفطر، فعليه صيامُ عدة الأيام التي أفطرها، من أيام أخرَ غير أيام شهر رمضان.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في المرَض الذي أباح الله معه الإفطار، وأوجب معه عده من أيام أخر.
فقال بعضهم: هو المرض الذي لا يُطيق صاحبه معه القيام لصَلاته.
* ذكر من قال ذلك:
2853- حدثنا معاذ بن شعبة البصري قال، حدثنا شريك، عن مغيره، عن إبراهيم وإسماعيل بن مسلم، عن الحسن أنه قال: إذا لم يستطع المريضُ أن يُصَلِّي قائمًا أفطر. (1)
2854- حدثني يعقوب قال حدثنا هشيم، عن مغيرة -أو عبيدة- عن إبراهيم، في المريض إذا لم يستطع الصلاةَ قائمًا فليفطر. يعني: في رمضان.
2855- حدثنا هناد قال، حدثنا حفص بن غياث، عن إسماعيل قال: سألت الحسن: متى يُفطر الصائم؟ قال: إذا جَهده الصوم. قال: إذا لم
__________
(1) الخبر: 2853- معاذ بن شعبة البصري، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم 4/1/251، قال: "معاذ بن شعبة أبو سهل البصري، روى عن عباد بن العوام، وعثمان بن مطر. روى عنه موسى بن إسحاق الأنصاري". ولم أجد له ترجمة غير ذلك. فهو شيخ قديم من شيوخ الطبري، لأنه يروي عن"عباد بن العوام" المتوفى سنة 185، و"شريك بن عبد الله النخعي" المتوفى سنة 188. وتلميذه الذي ذكره ابن أبي حاتم، وهو"موسى بن إسحاق بن موسى الأنصاري الخطمي، قاضي الري"، من شيوخ ابن أبي حاتم، كما في ترجمته عنده 4/1/135.(3/457)
يستطع أن يُصلي الفرائض كما أمِر. (1)
* * *
وقال بعضهم: وهو كل مرض كان الأغلبُ من أمر صاحبه بالصوم الزيادةُ في علته زيادة غير مُحتملة. (2) وذلك هو قول محمد بن إدريس الشافعي، حدثنا بذلك عنه الربيع.
* * *
وقال آخرون: وهو [كلّ] مرض يسمى مرَضًا. (3)
* ذكر من قال ذلك:
2856- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا الحسن بن خالد الربعي قال، حدثنا طريف بن شهاب العُطاردي: أنه دخل على محمد بن سيرين في رَمضان وهو يأكل، فلم يسأله. فلما فرغ قال: إنه وَجعتْ إصبعي هذه. (4)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا أن"المرض" الذي أذن
__________
(1) في المطبوعة: "كما مر"، وكأن الصواب ما أثبت.
(2) في المطبوعة: "زيادة غير المحتملة" وهو كلام ليس بعربي. ونص عبارة الشافعي في الأم 1: 89"وإن زاد مرض المريض زيادة بينة أفطر، وإن كان زيادة محتملة لم يفطر".
(3) في المطبوعة: "هو مرض يسمى مرضًا"، والصواب زيادة [كل] .
(4) الخبر: 2856- الحسن بن خالد الربعي: ترجمه ابن أبي حاتم 1/2/10 قال: "الحسن بن خالد بن باب القريعي. روي عن طريف بن شهال العطاردي. روى عنه محمد بن المثنى". فهو الشيخ الذي هنا، ولم أجد له ترجمة غيرها. وقد علق العلامة المحقق الشيخ عبد الرحمن بن يحيى اليماني-مصحح الكتاب- عند قوله"القريعي"، بأن في بعض النسخ"القرايعي"، وأنه سيأتي في باب"خالد""خالد بن باب الربعي"، وأنه"يمكن أن يكون هو والد الحسن هذا". وهذا نظر دقيق منه -حفظه الله- يؤيده نسبته هنا في الطبري"الربعي". و"خالد بن باب الربعي": مترجم في الكبير 2/1/130-131، وابن أبي حاتم 1/2/322، ولسان الميزان 2: 374.
طريف بن شهاب العطاردي: ذكر في المطبوعة اسم أبيه"تمام"، وهو خطأ. وطريف هذا: هو أبو سفيان الأشل. وهو ضعيف. وقيل في اسم أبيه"سعد". والذي جود اسمه ونسبته هو البخاري في ترجمته. وهو مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/358، وابن أبي حاتم 2/1/492-493، والضعفاء للبخاري، ص: 18-19.(3/458)
الله تعالى ذكره بالإفطار معه في شهر رمضان، من كان الصومُ جاهدَه جَهدًا غير محتمل، فكل من كان كذلك فله الإفطار وقضاء عدة من أيام أخر. وذلك أنه إذا بلغ ذلك الأمرَ، فإن لم يكن مأذونًا له في الإفطار فقد كلِّف عُسرًا، ومُنع يُسرًا. وذلك غير الذي أخبر الله أنه أراده بخلقه بقوله:"يُريد اللهُ بكم اليسرَ وَلا يُريد بكم العسر". وأما من كان الصوم غيرَ جَاهدِه، فهو بمعنى الصحيح الذي يُطيق الصوم، فعليه أداءُ فرضه.
* * *
وأما قوله:"فعدة من أيام أخر"، فإنّ معناها: أيامًا معدودة سوى هذه الأيام.
وأما"الأخَر"، فإنها جمع"أخرى" كجمعهم"الكبرى" على"الكُبَر" و"القُربى" على"القُرَب". (1)
* * *
فإن قال قائل: أوَليست"الأخر" من صفة الأيام؟
قيل: بلى.
فإن قال: أوَليس واحدُ"الأيام""يوم" وهو مذكر؟
قيل: بلى.
فإن قال: فكيف يكون واحدُ"الأخر""أخرى"، وهي صفة ل"اليوم"، ولم يكن"آخر"؟
قيل: إن واحد"الأيام" وإن كان إذا نُعت بواحد"الأخر" فهو"آخر"، فإن"الأيام" في الجمع تصير إلى التأنيث، فتصير نعوتها وصفاتها كهيئة صفات المؤنث، كما يقال:"مضت الأيامُ جُمعَ"، ولا يقال: أجمعون، ولا أيام آخرون.
* * *
فإن قال لنا قائل: فإن الله تعالى قال:"فمن كانَ منكم مريضًا أو عَلى
__________
(1) في المطبوعة: "بجمعهم الكبرى"، وكأن الصواب ما أثبت.(3/459)
سفر فعدةٌ من أيام أخر"، ومعنى ذلك عندك: فعليه عدةٌ من أيام أخر، كما قد وصفت فيما مضى. فإن كان ذلك تأويله، فما قولك فيمن كان مريضًا أو عَلى سَفر فَصَام الشهر، وهو ممن له الإفطار، أُيجزيه ذلك من صيام عدة من أيام أخر، أو غيرُ مُجزيه ذلك، وفَرْضُ صوم عدة من أيام أخر ثابتٌ عليه بهيئته، وإن صام الشهر كله؟ وهل لمن كان مريضًا أو على سَفر صيامُ شهر رمضان، أم ذلك محظور عليه، وغير جائز له صومه، والواجب عليه الإفطار فيه، حتى يقيم هذا ويبرأ هذا؟
قيل: قد اختلف أهل العلم في كل ذلك، ونحن ذاكرُو اختلافهم في ذلك، ومخبرون بأولاه بالصواب إن شاء الله.
فقال بعضهم: الإفطارُ في المرض عَزْمة من الله واجبةٌ، وليسَ بترخيص.
* ذكر من قال ذلك:
2857- حدثنا محمد بن بشار قال، حدثنا ابن أبي عدي -وحدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية- جميعًا، عن سعيد، عن قتادة، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس قال: الإفطارُ في السفر عَزْمة.
2858- حدثني محمد بن المثنى قال، حدثنا وهب بن جرير قال، أخبرنا شعبة، عن يعلى، عن يوسف بن الحكم قال: سألتُ ابن عمر -أو: سئل- عن الصوم في السفر فقال: أرأيت لو تصدقت على رجل بصدقة فردها عليك، ألم تغضب؟ فإنها صَدقة من الله تصدق بها عليكم. (1)
__________
(1) الخبر: 2858- شعبة: هو ابن الحجاج؛ إمام أهل الجرح والتعديل. وثبت في المطبوعة"سعيد". وهو خطأ ناسخ أو طابع في هذا الإسناد، كما يتبين مما سيأتي.
يعلى: هو ابن عطاء العامري، ثقة معروف.
يوسف بن الحكم أبو الحكم: تابعي ثقة. ذكره ابن حبان في الثقات. وترجمه ابن أبي حاتم 4/2/220 قال: "روى عن ابن عمر. روى عنه يعلى بن عطاء". وترجمه البخاري في الكبير 4/2/376 باسم"يوسف أبو الحكم، سمع ابن عمر. روى عنه يعلى بن عطاء". وثبت عقب ذلك في بعض نسخ الكبير: "هذا هو الأول أظنه". يريد المترجم قبله"يوسف بن مهران". وهذا الظن من البخاري ليس في موضعه، ولعله ظن ذلك إذ لم يقع له منسوبًا لأبيه، بل وقع له باسم"يوسف" وكنية"أبي الحكم".
والذي يقطع في ذلك، ويرفع كل شبهة: أن الدولابي روى هذا الخبر، في الكنى والأسماء 1: 154-155"حدثنا محمد بن بشار. قال: حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن يعلى بن عطاء، قال، سمعت يوسف بن الحكم أبا الحكم يقول: سمعت عبد الله بن عمر يسأل عن الصوم في السفر. . . " فذكر نحوًا مما هنا.
ووهب بن جرير يروي عن شعبة. ويعلى بن عطاء يروي عنه شعبة. فلا موضع في هذا الإسناد لاسم"سعيد". إلى ثبوت الخبر من رواية شعبة عند الدولابي، كما ذكرنا.
وهذا الرأي لابن عمر -ثم لغيره من الصحابة- إنما هو فيمن أبى أن يقبل رخصة الله في الإفطار في السفر. قال ابن كثير 1: 410-411"فأما إن رغب عن السنة، ورأى أن الفطر مكروه - فهذا يتعين عليه الإفطار، ويحرم عليه الصيام والحالة هذه. لما جاء في مسند الإمام أحمد وغيره، عن ابن عمر، وجابر، وغيرهما: من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة". يشير ابن كثير في ذلك إلى حديث ابن عمر في المسند: 5392. وانظر حديثين آخرين لابن عمر، في المسند: 5750، 5866.(3/460)
2859- حدثنا نصر بن عبد الرحمن الأزدي قال، حدثنا المحاربي عن عبد الملك بن حميد قال، قال أبو جعفر: كان أبي لا يَصُوم في السفر، ويَنهى عنه. (1)
2860- وحدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا عبيد، عن الضحاك: أنه كره الصومَ في السفر.
* * *
وقال أهل هذه المقالة: من صام في السفر فعليه القضاءُ إذا قام.
* ذكر من قال ذلك:
2861- حدثنا نصر بن علي الجهضميّ قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، عن أبيه، عن رجل: أن عمرَ أمرَ الذي صام في السفر أن يُعيد. (2) .
2862- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن أبي عدي، عن سعيد
__________
(1) الخبر: 2859- نصر بن عبد الرحمن الأزدي. مضى في: 423، 875. ووقع في المطبوعة هنا - كما وقع هناك: "الأودي". وهو خطأ.
(2) الخبر: 2861- نصر بن علي بن نصر بن علي الجهضمي: مضى في: 2376. ووقع في المطبوعة هنا"الخثمعي". وهو تصحيف واضح.
وشيخه"مسلم بن إبراهيم الأزدي الفراهيدي": مضى في: 1219. وقد ثبت في ترجمتيهما رواية نصر عن مسلم.
ربيعة بن كلثوم بن جبر البصري: ثقة، تكلم فيه بعضهم. مترجم في التهذيب، وابن سعد 7/2/35، والكبير 2/1/266، وابن أبي حاتم 1/2/477-478.
أبوه"كلثوم بن جبر": ثقة من صغار التابعين، لم يدرك عمر بن الخطاب. ولذلك روى عنه هنا بواسطة رجل مبهم. فالإسناد لذلك ضعيف. وانظر الخبر الآتي: 2866.(3/461)
بن عمرو بن دينار، عن رجل من بني تميم، عن أبيه قال: أمر عمر رجلا صام في السفر أن يعيدَ صَوْمه.
2863- حدثني ابن حميد الحمصي قال، حدثنا علي بن معبد، عن عبيد الله بن عمرو، عن عبد الكريم، عن عطاء، عن المحرَّر بن أبي هريرة قال: كنت مع أبي في سفر في رمضان، فكنت أصوم ويُفطر. فقال لي أبي: أما إنك إذا أقمتَ قَضيت. (1)
2864- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا سليمان بن داود قال، حدثنا شعبة، عن عاصم مولى قريبة، قال: سمعت عروة يأمر رجلا صام في السفر أن يَقضي.
2865- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة، عن عاصم مولى قريبة: أن رجلا صامَ في السفر، فأمرَهُ عروة أن يَقضي.
2866- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن صبيح قال، حدثنا ربيعة بن كلثوم، عن أبيه كلثوم: أنّ قومًا قدموا على عُمرَ بن الخطاب وقد صاموا رمضانَ في سفر، فقال لهم: والله لكأنكم كنتم تصُومون! فقالوا: والله يا أمير المؤمنين
__________
(1) الخبر: 2863- المحرر- براءين مع فتح الأولى مشددة: هو ابن أبي هريرة. وهو تابعي معروف، يروي عن أبيه، وعن ابن عمر. وله في المسند أحاديث عن أبيه، منها: 212، 9562.
وهذا الخبر ذكر السيوطي 1: 191، نحو معناه. ونسبه لعبد بن حميد فقط. وثبت فيه اسم"المحرر": "محرز" بالزاي في آخره، وهو تصحيف.(3/462)
لقد صمنا! قال: فأطقتموه! قالوا: نعم. قال: فاقضوه، فاقضوه. (1)
* * *
وعلة مَنْ قال هذه المقالة: أن الله تعالى ذكره فرَضَ بقوله:"فمن شهد منكم الشهر فليصمه" صومَ شهر رمضان على من شهده مُقيمًا غير مسافر، وجعل على من كان مريضًا أو مسافرًا صومَ عدة من أيام أخر غير أيام شهر رمضان بقوله:"ومَنْ كان مريضًا أو على سَفر فعدة من أيام أخر". قالوا: فكما غيرُ جائز للمقيم إفطارُ أيام شهر رمضان وَصَوم عدة أيام أخر مكانها -لأن الذي فرضَه الله عليه بشهوده الشهرَ صومُ الشهر دون غيره- فكذلك غير جائز لمن لم يشهده من المسافرين مقيمًا، صوْمُه. لأن الذي فرضه الله عليه عدة من أيام أخر. واعتلوا أيضًا من الخبر بما:-
2867- حدثنا به محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا يعقوب بن محمد الزهري قال، حدثنا عبد الله بن موسى، عن أسامة بن زيد، عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن عوف قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الصائم في السفر كالمفطر في الحضر." (2)
2868- حدثني محمد بن عبيد الله بن سعيد قال، حدثنا يزيد بن عياض،
__________
(1) الخبر: 2866- إسناده ضعيف، لانقطاعه، فإن كلثوم بن جبر لم يدرك عمر بن الخطاب، كما بينا ذلك في: 2861.
(2) الحديث: 2867- محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي - شيخ الطبري: لم أجد له ترجمة. وسيأتي بهذا الاسم أيضًا في: 2888. ولكن سيأتي في الإسناد الذي عقب هذا باسم"محمد بن عبيد الله بن سعيد" - بجعل أبيه"عبيد الله" بدل"عبد الله". وأنا أرجح الذي في إسنادين على الذي في إسناد واحد، ترجيحًا بدائيًا غير محقق.
يعقوب بن محمد بن عيسى بن عبد الملك بن حميد بن عبد الرحمن بن عوف الزهري: مختلف فيه، والظاهر أنه ثقة، وإنما أخذوا عليه الرواية عن رجال مجهولين غير معروفي العدالة - مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/398، وابن أبي حاتم 4/2/214-215، وتاريخ بغداد 14: 269-271.
عبد الله بن موسى بن إبراهيم - من ولد طلحة بن عبيد الله التيمي: مختلف فيه. وضعف أحمد جدًا. وقال ابن حبان: "يرفع الموقوف، ويسند المرسل، لا يجوز الاحتجاج به". ووقع في المطبوعة هنا"عبيد الله بن موسى". وهو خطأ، فإن الحديث معروف من رواية"عبد الله بن موسى التيمي". ثم هو الذي يروي عن أسامة بن زيد.
أسامة بن زيد: هو الليثي المدني، مختلف فيه. وقد رجحنا توثيقه في شرح المسند: 1098.
وهذا الحديث رواه ابن ماجه: 1666، عن إبراهيم بن المنذر الحزامي، عن عبد الله بن موسى التيمي بهذا الإسناد.
وقد أطال الحافظ الزيلعي في نصب الرواية 2: 461-463 في تخريج رواياته. ورجح أنه موقوف من كلام عبد الرحمن بن عوف، إلى انقطاع إسناده بين أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبيه. فقد رجح الحافظ أنه لم يسمع من أبيه شيئا. وقد رجحنا في شرح المسند: 1660 أنه سمع ذاك الحديث من أبيه - وكان صغيرًا حين مات عبد الرحمن. وليس معنى هذا أنه سمع منه كل ما يرويه عنه.
وذكر ابن أبي حاتم في كتاب العلل، رقم 694، أنه سأل أباه عن هذا الحديث، فقال أبو زرعة: "رواه أبو أحمد الزبيري، ومعن بن عيسى، وحماد بن خالد الخياط، عن ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه، قوله. ورواه عنبسة بن خالد، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه ابن لهيهة، عن يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. ورواه بقية، عن آخر، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم. وقال أبو زرعة: الصحيح عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه. موقوف".
ونقل الحافظ ابن حجر في التلخيص، ص: 195 أن الدارقطني في العلل والبيهقي، صححا أيضًا أنه موقوف. وانظر السنن الكبرى للبيهقي 4: 244، وتعقيب ابن التركماني عليه. والرواية الموقوفة على عبد الرحمن بن عوف رواها النسائي 1: 316، بثلاثة أسانيد. هذا وسيأتي قول الطبري في ص: 474 عن هذا الخبر والذي يليه وأشباههما، أنها: "واهية الأسانيد، لا يجوز الاحتجاج بها في الدين".(3/463)
عن الزهري، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبيه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"الصائمُ في السفر كالمفطر في الحضر. (1)
* * *
وقال آخرون: إباحة الإفطار في السفر رخصة من الله تعالى ذكره، رخصها لعباده، والفرضُ الصوم. فمن صام فرضَه أدَّى، ومن أفطر فبرُخصة الله له أفطر. قالوا: وإن صام في سفر فلا قَضاءَ عليه إذا أقام.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الحديث: 2868- هو إسناد آخر للحديث السابق.
وهذا إسناد مشكل:
فشيخ الطبري ذكر هنا باسم"محمد عبيد الله بن سعيد". وذكر في الإسناد السابق باسم"محمد بن عبد الله".
وثانيًا: قوله"حدثنا يزيد بن عياض" - غير معقول. يجب أن يكون بينهما راو على الأقل. فإن يزيد بن عياض بن يزيد بن جعدبة الليثي قديم الوفاة، مات في خلافة المهدي. وذكره البخاري في التاريخ الصغير، ص: 172، في فصل (من مات بين سنتي: 140-150) . فليس من المعقول أن يسمع منه أي شيخ للطبري المتوفى سنة 310. وأنا أرجح أن يكون بينهما"يزيد بن هارون"، لما سنذكر، إن شاء الله.
ويزيد بن عياض هذا: ضعيف جدًا. قال البخاري في الكبير 4/2/351-352، والصغير: "منكر الحديث". ورماه مالك وابن معين والنسائي وغيرهم بالكذب. و"جعدبة" بضم الجيم والدال المهملة بينهما عين مهملة ساكنة.
ونقل الزيلعي في نصب الراية 2: 462، أن هذا الحديث"رواه ابن عدي في الكامل، من حديث يزيد بن هارون: حدثنا يزيد بن عياض، عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبيه، مرفوعًا. قال ابن عدي: وهذا الحديث لا يرفعه عن الزهري - غير يزيد بن عياض، وعقيل من رواية سلامة بن روح عنه، ويونس بن يزيد من رواية القاسم بن مبرور عنه، وأسامة بن زيد من رواية عبد الله بن موسى التيمي عنه. والباقون من أصحاب الزهري - رووه عنه، عن أبي سلمة، عن أبيه، من قوله".(3/464)
2869- حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا أيوب قال، حدثنا عروة وسالم: أنهما كانا عند عمر بن عبد العزيز إذ هو أميرٌ على المدينة، فتذاكروا الصومَ في السفر، قال سالم: كان ابن عمر لا يصُوم في السفر. وقال عروة. وكانت عائشة تصوم. فقال سالم: إنما أخذت عن ابن عمر. وقال عروة: إنما أخذتُ عن عائشة. حتى ارتفعت أصواتهما. فقال عمر بن عبد العزيز: اللهم عفوً! اإذا كان يُسرًا فصوموا، وإذا كان عُسرًا فأفطروا.
2870- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا ابن علية، عن أيوب، قال، حدثني رجل قال: ذكر الصوم في السفر عند عمر بن عبد العزيز، ثم ذكر نحو حديث ابن بشار.
2871- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن محمد بن إسحاق - وحدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس حدثنا ابن إسحاق - عن الزهري، عن سالم بن عبد الله قال: خرج عمر بن الخطاب في بعض أسفاره في ليال بقيت من رمضان، فقال: إن الشهر قد تشعشع - قال أبو كريب في حديثه: أو: تَسعسع، ولم يشك يعقوب -فلو صمنا! فصام وصام الناس مَعه. ثم أقبل مرَّة قافلا حتى إذا كان بالروحاء أهلّ هلالُ شهر رمضان، فقال: إن الله قد(3/465)
قَضَى السفر، فلو صمنا ولم نَثْلم شهرنا! قال: فصام وصام الناس معه. (1) .
2872- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا الحكم بن بشير، قال، حدثني أبي - وحدثنا محمد بن بشار قال، أخبرنا عبيد الله قال، أخبرنا بشير بن سلمان -عن خيثمةَ قال: سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر، قال: قد أمرتُ غلامي أن يَصوم فأبى. قلت: فأين هذه الآية:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"؟ قال: نزلت ونحن يومئذ نرتحلُ جياعًا وننزل على غير شِبَع، وإنا اليوم نرتحل شِباعًا وننزل على شِبَع (2) .
2873- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن بشير بن سلمان، عن خيثمة، عن أنس نحوه.
2874- حدثنا هناد وأبو السائب قالا حدثنا أبو معاوية، عن عاصم،
__________
(1) تسعسع الشهر: أدبر وفنى إلا أقله من قولهم: "تسعسع الرجل": إذا اضطرب من الكبر أو الهرم. وتشعشع الشهر: رق وتقضى وبقى أقله. ذهب به إلى رقة الشهر وقلة ما بقي، كما يشعشع اللبن بالماء أي يمزج ويخلط. وقوله"لم نثلم شهرنا" من ثلم الإناء أو السيف: كسر شفة الإناء أو حد السيف. أي لم ندخل الخلل على صومنا ونجرح شهرنا.
(2) الخبر: 2872- الحكم بن بشير بن سلمان: مضى في: 1497.
أبوه"بشير بن سلمان النهدي": ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. وأبوه: "سلمان"، بفتح السين وسكون اللام. ووقع في كثير من المراجع المطبوعة"سليمان". وهو خطأ مطبعي. وفي التهذيب وفروعه"الكندي" بدل"النهدي". وهو خطأ، صوابه في الكبير للبخاري 1/2/99، وابن أبي حاتم 1/1/374، وابن سعد 6: 251، ورجال الصحيحين، ص: 55.
خيثمة: هو ابن أبي خيثمة البصري، وهو تابعي ثقة. وقال ابن معين: "ليس بشيء". كما في ابن أبي حاتم 1/2/394، ولكن ذكره ابن حبان في الثقات، وترجمه البخاري في الكبير 2/1/197، فلم يذكر فيه جرحًا، وأشار إلى هذا الحديث من روايته، كعادته في إشاراته الدقيقة -لله دره- فقال: "وقال أبو نعيم، عن بشير بن سلمان، عن خيثمة. قال: سألت أنس بن مالك عن الصوم في السفر". ولم يذكره هو ولا النسائي في الضعفاء. وهذا كاف في توثيقه والاحتجاج بروايته، دون الجرح المجمل من ابن معين.
وهذا الخبر ذكره السيوطي 1: 191، وزاد نسبته لعبد بن حميد، والنسائي. ولم أجده في النسائي، ولعله في السنن الكبرى.(3/466)
عن أنس: أنه سئل عن الصوم في السفر فقال: من أفطر فبرُخصة الله، ومن صام فالصومُ أفضل.
2875- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو أسامة، عن أشعث بن عبد الملك، عن محمد بن عثمان بن أبي العاص قال: الفطر في السفر رخصة، والصوم أفضل.
2876- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الصمد قال، حدثنا شعبة قال، حدثنا أبو الفيض، قال: كان علي علينا أميرًا بالشام، فنهانا عن الصوم في السفر، فسألت أبا قِرْصافة - رجلا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من بني ليث، قال عبد الصمد: سمعتُ رجلا من قومه يَقول: إنه واثلة بن الأسقع - قال: لو صمتَ في السفر ما قضيت. (1) .
__________
(1) الخبر: 2876- أبو الفيض: هو موسى بن أيوب المهري الحمصي، ويقال: ابن أبي أيوب، وهو شامي ثقة، وثقه ابن معين، والعجلي. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 4/1/134.
أبو قرصافة، بكسر القاف وسكون الراء بعدها صاد مهملة: هو"واثلة بن الأسقع" الصحابي، من بني ليث بن عبد مناة. يكنى"أبا الأسقع"، ويقال"أبو قرصافة"، كما في ترجمته في الإصابة والتهذيب وغيرهما. وهذا الخبر يؤيد هذه الكنية، لأن عبد الصمد بن عبد الوارث يذكر في أثنائه، أنه سمع رجلا من قومه يقول"إنه واثلة بن الأسقع".
وقد أوقعهم هذا الخبر -أو نحوه- في وهم عجيب؛ لأن هناك رجلا آخر له صحبة، يكنى"أبا قرصافة اسمه جندرة بن خيشنة" كنابي له صحبة، مترجم في التهذيب 2: 119، والكبير 1/2/249، وابن أبي حاتم 1/1/545، وأسد الغابة 1: 307. فانتقل نظر صاحب التهذيب، في ترجمة"أبي الفيض موسى بن أيوب" 10: 337 فذكر أنه يروي عن"أبي قرصافة جندرة بن خيشنة". ثم ذكر صاحب أسد الغابة، في ترجمة"جندرة" هذا أنه"جعله ابن ماكولا ليثيًا، وليس بشيء!! ". ولم يذكر صاحب التهذيب في ترجمة"جندرة" أنه يروي عنه"أبو الفيض"!!
فالظاهر عندي أن ابن ماكولا حين ذكر أن"أبا قرصافة" من بني ليث، أراد به"واثلة بن الأسقع"، كما تدل عليه الرواية في هذا الخبر. وأن صاحب التهذيب وهم حين ذكر أن أبا الفيض يروي عن"أبي قرصافة جندرة بن خيشنة"، لأن روايته إنما هي عن"أبي قرصافة واثلة"، وهو ليثي بلا خلاف فيه.
وأما قول أبي الفيض هنا: "كان على علينا أميرا بالشأم" - فلا أدري ما هو؟ وإنما اليقين أنه لا يريه به"علي بن أبي طالب"، إذ لم يكن ذلك قط. ولعله كان لهم أمير بالشأم يدعي"عليا". ويحتمل أن يكون ما هنا فيه تحريف، وأن يكون صوابه"كان علينا أمير بالشأم، فنهانا. . " إلخ.
ثم وجدت ما يؤيد ذلك: ففي مجمع الزوائد 3: 161-162"عن أبي الفيض" قال: خطبنا مسلمة بن عبد الملك، فقال: لا تصوموا رمضان في السفر، فمن صام فليقضه. قال أبو الفيض: فلقيت أبا قرصافة واثلة بن الأسقع، فسألته؟ فقال: لو ما صمت ثم صمت ما قضيته. رواه الطبراني في الكبير، ورجاله ثقات".
فهذه الرواية تماثل رواية الطبري هنا، وتدل على أن الأمير الذي نهاهم هو"مسلمة بن عبد الملك". فأكبر الرأي أن يكون الصواب في رواية الطبري"كان عليا أمير بالشأم"، كما ظننا من قبل. ولفظ آخر الحديث -في رواية الزوائد- أراه محرفًا، وأوضح منه وأصوب لفظ أبي جعفر. و"جندرة" و"خيشنة" - كلاهما بفتح أوله وثالثه وسكون ثانيه.(3/467)
2877- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن بسطام بن مسلم، عن عطاء قال: إن صمتم أجزأ عنكم، وإن أفطرتم فرُخصة.
2878- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن كهمس قال: سألت سالم بن عبد الله عن الصوم في السفر، فقال: إن صمتم أجزأ عنكم، وإن أفطرتم فرخصة.
2879- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم، عن طلحة بن عمرو، عن عطاء قال: من صام فحقٌّ أدَّاه، ومن أفطر فرُخصة أخذ بها.
2880- حدثنا هناد قال، حدثنا وكيع، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير، قال: الفطر في السفر رُخصة، والصومُ أفضل.
2881- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية، عن حجاج، عن عطاء، قال: هو تَعليم، وليس بعَزم - يعني قول الله:"ومن كان مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أخر"، إن شاء صام وإن شاء لم يصم.
2882- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو أسامة، عن هشام، عن الحسن: في الرجل يسافر في رمضان، قال: إن شاء صام وإن شاء أفطر.
2883- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا سفيان بن حبيب قال، حدثنا العوّام بن حوشب قال: قلت لمجاهد: الصوم في السفر قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم فيه ويفطر. قال: قلت: فأيهما أحب إليك؟ قال: إنما هي رُخصة، وأن تصوم رمضان أحب إليّ.
2884- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،(3/468)
عن حماد، عن سعيد بن جبير وإبراهيم ومجاهد، أنهم قالوا: الصومُ في السفر، إن شاء صَام وإن شاء أفطر، والصوم أحب إليهم.
2885- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن أبي إسحاق قال، قال لي مجاهد في الصوم في السفر -يعني صوم رمضان-: والله ما منهما إلا حلال، الصومُ والإفطار، وما أراد الله بالإفطار إلا التيسير لعباده.
2886- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال: حدثنا شعبة، عن الأشعث بن سليم قال: صحبت أبا الأسود بن يزيد وعمرو بن ميمون وأبا وائل إلى مكة، وكانوا يصومون رمضان وغيرَه في السفر.
2887- حدثنا علي بن حسن الأزدي قال، حدثنا معافى بن عمران، عن سفيان، عن حماد، عن سعيد بن جبير: الفطرُ في السفر رُخصة، والصوم أفضل.
2888- حدثني محمد بن عبد الله بن سعيد الواسطي قال، حدثنا يعقوب قال، حدثنا صالح بن محمد بن صالح، عن أبيه قال: قلت للقاسم بن محمد: إنا نسافر في الشتاء في رمضان، فإن صمتُ فيه كان أهوَنَ عليَّ من أن أقضيه في الحر! فقال: قال الله: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ما كان أيسرَ عليك فافعلْ (1) .
* * *
__________
(1) الخبر: 2888- محمد بن عبد الله بن سعيد، شيخ الطبري: مضى في: 2867، 2868.
صالح بن محمد بن صالح بن دينار التمار المدني: ترجمه البخاري في الكبير 2/2/292، ولم يذكر فيه جرحا، وذكر أنه يروي عن أبيه. ولم يترجم له ابن أبي حاتم، ولا التهذيب، ولا لسان الميزان ولكن ذكر في التهذيب في ترجمة أبيه، أنه يروي عنه.
أبوه محمد بن صالح بن دينار التمار: ثقة. مترجم في التهذيب. والكبير 1/1/117، وروى حدثنا آخر من رواية ابنه صالح، عنه، وابن أبي حاتم 3/2/287.(3/469)
قال أبو جعفر: وهذا القول عندنا أولى بالصواب، لإجماع الجميع على أن مريضًا لو صام شهرَ رمضان -وهو ممن له الإفطار لمرضه- أنّ صومه ذلك مجزئ عنه، ولا قضاء عليه إذا برأ من مرضه بعدة من أيام أخر، فكان معلومًا بذلك أن حكم المسافر حكمه في أنْ لا قضاءَ عليه إن صامه في سفره. لأن الذي جعل للمسافر من الإفطار وأمرَ به من قضاء عدة من أيام أخر، مثلُ الذي جعل من ذلك للمريض وأمرَ به من القضاء. ثم في دلالة الآية كفايةٌ مغنية عن استشهاد شاهد على صحة ذلك بغيرها. وذلك قول الله تعالى ذكره: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) ، ولا عُسرَ أعظم من أن يُلزم من صامه في سفره عدةً من أيام أخر، وقد تكلف أداءَ فرضه في أثقل الحالين عليه حتى قضاه وأدَّاه.
فإن ظن ذو غَباوة أنّ الذي صامه لم يكن فرضَهُ الواجبَ، فإن في قول الله تعالى ذكره:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام""شهرُ رَمضَان الذي أنزل فيه القرآن"، ما ينبئ أن المكتوبَ صومُه من الشهور على كل مُؤمن، هو شهرُ رمضان مسافرًا كان أو مقيمًا، لعموم الله تعالى ذكره المؤمنين بذلك بقوله:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكمُ الصيام""شهر رمضان" = وأن قوله:"ومَنْ كان مريضًا أو عَلى سفر فعدةٌ من أيام أخر" معناه: ومن كان مريضًا أو على سفر فأفطرَ برُخصة الله، فعليه صوم عدة أيام أخر مكانَ الأيام التي أفطر في سفره أو مرضه = ثم في تظاهر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله - إذْ سئل عن الصوم في السفر:"إن شئتَ فصم، وإن شئت فأفطر" - الكفايةُ الكافيةُ عن الاستدلال على صحة ما قُلنا في ذلك بغيره.
2889- حدثنا هناد قال، حدثنا عبد الرحيم ووكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة: أن حَمزة سألَ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصوم في السفر -وكانَ يسرُد الصوم- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن(3/470)
شئتَ فصُمْ وإن شئت فأفطر. (1) .
2890- حدثنا أبو كريب وعبيد بن إسماعيل الهبّاري قالا حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا هشام بن عروة، عن أبيه أن حمزة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر نحوه. (2) .
__________
(1) الحديث: 2889- هو حديث صحيح. رواه الإمام أحمد، وأصحاب الكتب الستة، كما في المنتقى: 2171.
و"حمزة" هذا: هو حمزة بن عمرو الأسلمي، صحابي معروف. مترجم في التهذيب، والكبير للبخاري 2/1/43، وابن سعد 4/2/45، وابن أبي حاتم 1/2/212، والاستيعاب، ص: 105، وأسد الغابة 2: 50-51، وتاريخ الإسلام للذهبي 3: 14.
ومن عجب بعد هذا كله: أن يسهو الحافظ ابن حجر عن ترجمته في الإصابة، في حين أنه أشار إليه في ترجمة"حمزة بن عمر" بضم العين وفتح الميم. وهي ترجمة أخطأ فيها بعض من سبقه، وبين هو هذا الخطأ كما بينه ابن الأثير!! وانظر الإسنادين بعد هذا. سرد الصوم يسرده سردًا: إذا والاه وتابعه بعضه في إثر بعض.
(2) الحديث: 2990- عبيد بن إسماعيل الهباري، شيخ الطبري: ثقة من شيوخ البخاري. ترجمه في الصغير، ص: 247، وهو مترجم أيضًا في التهذيب، وابن أبي حاتم 2/2/402.
ابن إدريس: هو عبد الله بن إدريس الأودي، مضى في: 438، 2030. ووقع في التهذيب 7: 59، في شيوخ"عبيد بن إسماعيل" -" وأبي إدريس". وهو خطأ مطبعي.
وهذا الإسناد ظاهره أنه مرسل، لأن عروة بن الزبير تابعي، كما هو واضح. والظاهر أن هشام بن عروة، أو أباه عروة - كان أحدهما يصل هذا الحديث تارة ويرسله تارة. وعروة سمعه من خالته عائشة أم المؤمنين، كما في الإسناد السابق، وسمعه أيضًا من أبي مراوح عن حمزة الأسلمي نفسه، كما في الإسناد التالي لهذا.
ومالك قد روى هذا الحديث في الموطأ، ص: 295، "عن هشام بن عروة، عن أبيه: أن حمزة بن عمرو الأسلمي. . " - فذكره مرسلا، كرواية ابن إدريس هنا، عن هشام.
فقال ابن عبد البر في التقصي، رقم: 643"هكذا رواه يحيى، لم يذكر عائشة. وخالفه أكثر رواة الموطأ، فذكروا فيه عائشة".
وقد رواه البخاري 4: 157، عن عبد الله بن يوسف، عن مالك - موصولا. وكذلك رواه غيره من الأئمة.
والظاهر عندي أن الذي كان يرسله ويصله - هو هشام أو أبوه، وأن مالكًا رواه عن هشام على الوجهين. بدلالة رواية عبد الله بن إدريس المرسلة -هنا- عن هشام.
ورواه البخاري أيضًا 4: 156، ومسلم 1: 309 - 310، بأسانيد، موصولا، من طريق هشام، عن أبيه، عن عائشة.(3/471)
2891- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أبو زرعة وهب الله بن راشد قال: أخبرنا حيوة بن شريح قال: أخبرنا أبو الأسود أنه سمع عروة بن الزبير يحدث عن أبي مراوح، عن حمزة الأسلمي صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يا رسول الله، إني أسرد الصوم، فأصومُ في السفر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما هي رُخْصة من الله لعباده، فمن فعلها فحسنٌ جميل، ومن تركها فلا جُناح عليه. فكان حمزة يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر. وكان عروة بن الزبير يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر، حتى إنْ كان ليمرضُ فلا يُفطر. وكان أبو مُرَاوح يصوم الدهر، فيصوم في السفر والحضر. (1) .
* * *
ففي هذا، مع نظائره من الأخبار التي يطول باستيعابها الكتاب الدلالة الدالة على صحة ما قلنا: من أن الإفطارَ رخصةٌ لا عزم، والبيانُ الواضح على صحة ما قلنا في تأويل قوله:"وَمن كانَ مريضًا أو عَلى سَفر فعدةٌ من أيام أخر".
* * *
__________
(1) الحديث: 2891- أبو زرعة وهب الله بن راشد: مضى في: 2377. ووقع في المطبوعة هنا - كما كان هناك: "أبو زرعة وعبد الله بن راشد قالا. . ". وهو خطأ، كما بينا آنفًا.
حيوة -بفتح الحاء المهملة والواو بينهما ياء تحتية ساكنة- بن شريح التجيبي، أبو زرعة المصري: فقيه عالم ثقة ثقة.
أبو الأسود: هو"يتيم عروة"، واسمه"محمد بن عبد الرحمن بن نوفل"، وقيل له"يتيم عروة" لأن أباه كان أوصى إليه.
أبو مراوج الغفاري المدني: تابعي ثقة، أخرج له الشيخان وغيرهما.
والحديث رواه مسلم 1: 310، والنسائي 1: 243 - والبيهقي 4: 43، ثلاثتهم من طريق ابن وهب، عن عمرو بن الحارث، عن أبي الأسود، بهذا الإسناد.
وقصر السيوطي جدًا، فذكره 1: 190، ونسبه للدارقطني"وصححه"، فقط. وهو في أحد الصحيحين وأحد السنن الأربعة.
فظهر من هذا الإسناد أن عروة بن الزبير له في هذا الحديث طريقان: فسمعه من خالته عائشة. وسمعه مطولا من أبي مراوح، عن حمزة الأسلمي نفسه، صاحب السؤال. فليس هذا اختلافًا على عروة، إنما هو توكيد رواية صحيحة، بأخرى مثلها.(3/472)
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: إن الأخبار بما قلت وإن كانت متظاهرةً، فقد تظاهرت أيضًا بقوله:"ليس من البر الصيامُ في السفر"؟
قيل: إن ذلك إذا كان الصيامُ في مثل الحال التي جَاء الأثرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قالَ في ذلك لمن قال له.
2892- حدثنا الحسين بن يزيد السبيعي قال، حدثنا ابن إدريس، عن محمد بن عبد الرحمن، عن محمد بن عمرو بن الحسن، عن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجُلا في سفره قد ظُلِّل عليه، وعليه جماعة، فقال:"من هذا؟ قالوا: صائم. قال: ليس من البر الصوم في السفر.
* * *
=قال أبو جعفر: أخشى أن يكون هذا الشيخ غلط، وبين ابن إدريس ومحمد بن عبد الرحمن، شعبة. (1) .
* * *
2892م- حدثنا ابن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة الأنصاري، عن محمد بن عمرو بن الحسن بن علي، عن جابر بن عبد الله قال: رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظُلِّل عليه، فقالوا: هذا رجل صائم! فقال رسول الله صلى الله
__________
(1) الحديث: 2892- الحسين بن يزيد السبيعي، شيخ الطبري: هكذا ثبت هنا. وأخشى أن يكون نسبته"السبيعي" سهوا أو خطأ من الناسخين. والذي في هذه الطبقة، ويروي عن عبد الله بن إدريس - هو"الحسين بن يزيد بن يحيى الطحان الأنصاري" وهو مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/2/67. روى عنه أبو داود، والترمذي، وأبو زرعة، وذكر الحافظ أنه روى عنه مسلم خارج الصحيح. والذي يرجح عندي هذا: أن الطبري روى خبرًا آخر، في التاريخ 1: 135 - 136: "حدثنا الحسين بن يزيد الطحان قال: حدثنا ابن إدريس. . . ". إلا أن يكون هذا شيخًا آخر للطبري، لم تصل إلينا معرفته.
وقد نبه الطبري إلى غلط هذا الشيخ، في إسقاط"شبعة" بين"ابن إديس" و"محمد بن عبد الرحمن"، وهو كما قال. فإن عبد الله بن إدريس لم يدرك أن يروي عن محمد بن عبد الرحمن. وسيأتي تخريج هذا الحديث، في الإسناد التالي له.(3/473)
عليه وسلم: ليس من البر أن تَصوموا في السفر. (1) .
* * *
فمن بلغ منه الصوم ما بَلغ من الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك، فليس من البر صومه. لأن الله تعالى ذكره قد حرّم على كل أحد تعريضَ نفسه لما فيه هلاكها، وله إلى نجاتها سبيل. وإنما يُطلب البر بما نَدب الله إليه وَحضَّ عليه من الأعمال، لا بما نهى عنه.
وأما الأخبار التي رويت عنه صلى الله عليه وسلم من قوله:"الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" (2) فقد يحتمل أن يكون قيل لمن بلغ منه الصوم ما بلغ من هذا الذي ظُلِّل عليه، إن كان قبل ذلك. وغيرُ جائز عليه أن يُضَاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم قيلُ ذلك، لأن الأخبار التي جاءت بذلك عن رسول الله صلى
__________
(1) الحديث: 2892م - محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة: ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وبعضهم ينسبه لجده لأمه، فيقول: "محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة". و"سعد بن زرارة"، وأخوه"أسعد بن زرارة"- صحابيان معروفان، أنصاريان، من بني النجار.
ووقع في هذا الإسناد في المطبوعة"شعبة عن عبد الرحمن بن سعد. . "، وهو خطأ واضح من الناسخين سقط منهم"محمد بن" قبل"عهد الرحمن".
محمد بن عمرو بن الحسن بن علي بن أبي طالب: تابعي ثقة، أخرج له الشيخان وغيرهما.
والحديث رواه مسلم 1: 308، بأسانيد، منها: عن محمد بن المثني، شيخ الطبري هنا، عن محمد بن جعفر، بهذا الإسناد.
ورواه أحمد في المسند: 14242 (3: 299حلبي) ، عن محمد بن جعفر، به. ورواه أبو داود الطيالسي: 1721، عن شعبة، به.
ورواه البخاري 4: 161-162 (فتح) ، عن آدم، عن شعبة. ورواه أيضًا -مختصرًا- في الكبير 1/1/189-190، عن آدم.
ورواه أبو نعيم في الحلية 7: 159، بأسانيد من طريق شعبة، ثم قال: "صحيح متفق عليه. واختلف في محمد بن عبد الرحمن: فأخرجه سليمان في ترجمة: شعبة عن أبي الرجال، وغيره أخرجه في ترجمة محمد بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة".
وقد حقق الحافظ في الفتح أن الصحيح ما ذكرنا. وهو الثابت في صحيح مسلم، وسنن أبي داود: 2407، وغيرهما.
وقصر السيوطي جدًا، إذ نسبه في الدر المنثور 1: 191 لابن أبي شيبة، وأبي داود، والنسائي، فقط؛ وهو في الصحيحين كما ترى.
(2) انظر الأثرين رقم: 2867، 2868، والتعليق عليهما.(3/474)
الله عليه وسلم واهية الأسانيد، لا يجوز الاحتجاجُ بها في الدين.
* * *
فإن قال قائل: وكيف عطف على"المريض"، وهو اسم بقوله:"أوْ على سفر" و"على" صفة لا اسم. (1) .
قيل: جاز أن ينسق ب"على" على"المريض"، لأنها في معنى الفعل. وتأويل ذلك: أو مسافرًا، كما قال تعالى ذكره: (دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا) [يونس: 12] ، فعطف ب"القاعد، والقائم" على"اللام" التي في"لجنبه"، لأن معناها الفعل، كأنه قال: دعانا مضطجعًا أو قاعدًا أو قائمًا.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: يريد الله بكم، أيها المؤمنون -بترخيصه لكم في حال مرضكم وسَفركم في الإفطار، وقضاء عدة أيام أخر من الأيام التي أفطرتموها بعد إقامتكم وبعد بُرئكم من مرضكم- التخفيفَ عليكم، والتسهيل عليكم، لعلمه بمشقة ذلك عليكم في هذه الأحوال (2) ="ولا يُريد بكم العسر"، يقول: ولا يريد بكم الشدة والمشقة عليكم، فيكلفكم صوم الشهر في هذه الأحوال، مع علمه شدة ذلك عليكم، وثقل حمله عليكم لو حمّلكم صومه، كما:-
2893- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"يُريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر"، قال: اليسر: الإفطار في السفر، والعسر الصيام في السفر.
2894- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا
__________
(1) قوله: "صفة" يعني حرف جر. وحروف الصفات هي حروف الجر. وقد مضى بيان ذلك في 1: 299 تعليق: 1.
(2) في المطبوعة: "بشقة ذلك عليكم"، والصواب ما أثبت.(3/475)
شعبة، عن أبي حمزة، قال: سألت ابن عباس عن الصوم في السفر، فقال: يُسرٌ وعُسرٌ. فخذ بيسر الله.
2895- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر. قال، أخبرنا ابن المبارك، عن شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"يريد الله بكم اليسر" -قال: هو الإفطار في السفر، وَجعل عدةً من أيام أخر-"ولا يريد بكم العسر".
2896- حدثنا بشر بن معاذ قال حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"يريد الله بكمُ اليسر ولا يُريد بكم العسر"، فأريدوا لأنفسكم الذي أراد الله لكم.
2897- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن عيينة، عن عبد الكريم الجزري عن طاوس، عن ابن عباس قال: لا تَعِبْ على من صام ولا على من أفطر -يعنِي في السفر في رمضان-"يريد الله بكم اليسر ولا يُريد بكم العسر".
2898- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضيل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمانَ، قال سمعت الضحاك بن مزاحم في قوله:"يريد الله بكمُ اليسر" -الإفطار في السفر-"ولا يريد بكم العسر"، الصيام في السفر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله: (1) "ولتكملوا العدة"، عدةَ ما أفطرتم، من أيام أخر، أوجبت عليكم قضاءَ عدة من أيام أخر بعد برئكم من مرضكم، أو إقامتكم من سفركم، كما:
__________
(1) في المطبوعة: "بذلك" مكان"بقوله"، وسياق الكلام يدل على صواب ما أثبت.(3/476)
2899- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال: أخبرنا ابن المبارك، عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"ولتكملوا العدة"، قال: عدة ما أفطر المريض والمسافر.
2900- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولتكملوا العدة"، قال: إكمالُ العدة: أنَ يصومَ ما أفطر من رمضان في سفر أو مرض [إلى] أنْ يُتمه، فإذا أتمه فقد أكمل العدة. (1) .
* * *
فإن قال قائل: ما الذي عليه = بهذه"الواو" التي في قوله:"ولتكملوا العدة" = عَطَفَتْ؟ (2) .
قيل: اختلف أهل العربية في ذلك.
فقال بعضهم: هي عاطفة على ما قبلها، كأنه قيل: ويُريد لتكملوا العدة ولتكبروا الله.
وقال بعض نحويي الكوفة: وهذه"اللام" التي في قوله:"ولتكملوا" لام"كي" لو ألقيتْ كان صوابًا. قال: والعرب تُدخلها في كلامها على إضمار فعل بعدها، ولا تكون شرطًا للفعل الذي قبلها وفيها"الواو"، ألا ترى أنك تقول:"جئتك لتحسن إلي"، ولا تقول:"جئتك ولتحسن إليّ"، فإذا قلته فأنت تريد: ولتحسن جئتك. قال: وهذا في القرآن كثيرٌ، منه قوله: (وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ) [سورة الأنعام: 113] ، وقوله: (وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ) [سورة الأنعام: 75] ، ولو لم تكن فيه"الواو" كان شرطًا على قولك: أريْناهُ ملكوت السموات والأرض
__________
(1) الزيادة بين القوسين لا غنى عنها هنا.
(2) السياق: وما الذي عليه عطفت.(3/477)
ليكون. فإذا كانت"الواو" فيها فلها فعل"مضمر" بعدها، و"ليكون من الموقنين"، أريناه. (1) .
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول أولى بالصواب في العربية. لأن قوله:"ولتكملوا العدة"، ليس قبله"لام" بمعنى"اللام" التي في قوله:"ولتكملوا العدة" فتعطف بقوله:"ولتكملوا العدة" عليها - وإن دخول"الواو" معها، يؤذن بأنها شرط لفعل بعدها، إذ كانت"الواو" لو حذفت كانت شرطًا لما قبلها من الفعل.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: ولتعظِّموا الله بالذكر له بما أنعم عليكم به، من الهداية التي خذل عنها غيركم من أهل الملل الذين كتب عليهم من صوم شهر رمضان مثلَ الذي كتب عليكم فيه، فضلُّوا عنه بإضلال الله إياهم، وخصَّكم بكرامته فهداكم له، ووفقكم لأداء ما كتبَ الله عليكم من صومه، وتشكروه على ذلك بالعبادة لهُ.
* * *
والذكر الذي حضهم الله على تعظيمه به،"التكبير" يوم الفطر، فيما تأوله جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2901- حدثني المثني قال، حدثنا سويد بن نصر قال، أخبرنا ابن المبارك، عن داود بن قيس، قال: سمعت زيد بن أسلم يقول:"ولتكبروا الله على
__________
(1) هذا قول الفراء، وهو نص كلامه في معاني القرآن 1: 113.(3/478)
ما هداكم"، قال: إذا رأى الهلال، فالتكبيرُ من حين يَرى الهلال حتى ينصرف الإمام، في الطريق والمسجد، إلا أنه إذا حضر الإمامُ كفّ فلا يكبرِّ إلا بتكبيره.
2902- حدثني المثني قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك قال: سمعت سفيان يقول:"ولتكبِّروا الله على ما هداكم"، قال: بلغنا أنه التكبير يوم الفطر.
2903- حدثني يونس قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد: كان ابن عباس يقول: حقٌّ على المسلمين إذا نظروا إلى هلال شوال أن يكبرِّوا الله حتى يفرغوا من عيدهم، لأن الله تعالى ذكره يقول:"ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم". قال ابن زيد: يَنبغي لهم إذا غَدوا إلى المصلَّى كبروا، فإذا جلسوا كبروا، فإذا جاء الإمام صَمتوا، فإذا كبر الإمام كبروا، ولا يكبرون إذا جاء الإمام إلا بتكبيره، حتى إذا فرغ وانقضت الصلاة فقد انقضى العيد. قال يونس: قال ابن وهب: قال عبد الرحمن بن زيد: والجماعةُ عندنا على أن يغدوا بالتكبير إلى المصلَّى.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولتشكروا الله على ما أنعم به عليكم من الهداية والتوفيق، وتيسير ما لو شاء عسر عليكم.
و"لعل" في هذا الموضع بمعنى"كي" (1) ولذلك عطف به على قوله:"ولتكملوا العدة ولتكبروا الله عَلى ما هَداكم ولَعلكم تَشكرون".
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 1: 364، والمراجع في فهرس مباحث العربية.(3/479)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره: بذلك وإذا سَألك يا محمد عبادي عَني: أين أنا؟ فإني قريبٌ منهم أسمع دُعاءهم، وأجيب دعوة الداعي منهم.
* * *
وقد اختلف فيما أنزلت فيه هذه الآية.
فقال بعضهم: نزلت في سائل سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أقريبٌ ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله:"وإذا سألك عبادي عَني فأني قريبٌ أجيبُ" الآية.
2904- حدثنا بذلك ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عبدة السجستاني، عن الصُّلب بن حكيم، عن أبيه، عن جده. (1) .
__________
(1) الحديث: 2904- جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي، مضى في: 2028، 2346. عبدة السجستاني: هو عبدة بن أبي برزة، ترجمه ابن أبي حاتم 3/1/90، ولم يذكر فيه جرحًا. ولم أجد له ترجمة عند غيره.
"السجستاني": هذا هو الصحيح، الثابت هنا، وفي المصادر المعتمدة، كما سيأتي. ووقع في بعض المراجع"السختياني"، وهو خطأ مطبعي واضح.
الصلب بن حكيم: نص الحافظ عبد الغني الأزدي المصري، في كتاب المؤتلف والمختلف، ص 79، على أنه"صلب": "بالياء معجمة من تحتها وضم الصاد". وترجم له فقال: "صلب بن حكيم، عن أبيه، عن جده. روى حديثه محمد بن حميد، عن جرير، عن عبدة بن أبي برزة السجستاني".
وكذلك قال الذهبي في المشتبه، ص: 316"وصلب بن حكيم، عن أبيه، عن جده. يشتبه بالصلت بن حكيم". وفي هامشه، نقلا عن هامش إحدى مخطوطاته: "قال الخطيب: قيل إنه أخ لبهز بن حكيم، ولا يصح ذلك. ويشتبه أيضًا بالصلت بن حكيم، بضم الحاء. ويقال: الحكيم بن الصلت" وكذلك قال الحافظ بن حجر، في"تبصير المنتبه" (مخطوط مصور عندي) ، ونص على أنه"قيل: إن الصلب بن حكيم، المتقدم ذكره - أخو بهز بن حكيم، ولا يصح".
ولكنه -مع هذا- ترجم له في لسان الميزان 3: 195، في باب"الصلت"، نقلا عن الميزان، وذكر هذا الحديث له. وذكر رواية الذهبي إياه بإسناده إلى"محمد بن حميد". ثم ذكر -نقلا عن الذهبي أيضًا- أنه رواه ابن أبي خثيمة، في جزء فيمن روي عن أبيه عن جده، وأنه"أخرجه العلائي في كتاب الوشي، عن إبراهيم بن محمد. وقال: لم أر للصلت ذكرًا في كتب الرجال". ثم عقب الحافظ على ذلك بقوله: "قلت: ذكره الدارقطني في المؤتلف، وحكى الاختلاف: هل آخره بالموحدة، أو بالمثناة؟ وقال إنه ابن حكيم بن معاوية بن حيدة، فهو أخو بهز بن حكيم، المحدث المشهور. وليس للصلت ولا لأبيه ولا لجده - ذكر في كتب الرواة، إلا ما قدمت من ذكر ابن أبي خيثمة، ولم يزد في التعريف به على ما ها هنا".
وهذا اضطراب شديد من الحافظ ابن حجر. ثم إن هذه التي نقلها عن ميزان الاعتدال للذهبي لم تذكر في النسخة المطبوعة منه. فالظاهر أنها سقطت من الأصول التي طبع عنها الميزان.
والراجح عندي ما ذهب إليه الذهبي وابن حجر وابن أبي خيثمة وعبد الغني الأزدي: أنه"صلب" بضم الصاد وبالوحدة في آخره. وأنه مجهول هو وأبوه وجده. أما"حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري-: فإنه تابعي معروف، وأبوه صحابي معروف. وقد روي عن حكيم بن معاوية بن حيدة - أبناؤه: بهز، وسعيد ومهران. فلا صلة للذي يسمى"الصلب" هذا - بهؤلاء.
وهذا الحديث ضعيف جدًا، منهار الإسناد بكل حال.
وقد وهم الحافظ ابن كثير، حين ذكره 1: 413-414، وجعله من حديث"معاوية بن حيدة القشيري".
وذكره السيوطي أيضًا 1: 194، وأخطأ فيه خطأ آخر: فجعله"من طريق الصلت بن حكيم، عن رجل من الأنصار، عن أبيه، عن جده"!! وقد تكون زيادة" عن رجل من الأنصار" خطأ من الناسخين، لا من السيوطي.(3/480)
2905- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا جعفر بن سليمان، عن عوف، عن الحسن قال: سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم: أين ربُّنا؟ فأنزل الله تعالى ذكره:"وإذا سألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دعان" الآية (1) .
* * *
__________
(1) الحديث: 2905- جعفر بن سليمان: هو الضبعي، بضم الضاد المعجمة، وفتح الباء الموحدة. وهو ثقة، وثقه ابن معين وغيره.
عوف: هو ابن أبي جميلة الأعرابي، وهو ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة. وقد مضت له رواية في: 645. وهو معروف بالرواية عن الحسن البصري.
وهذا الإسناد صحيح إلى الحسن. ولكن الحديث ضعيف، لأنه مرسل، لم يسنده الحسن عن أحد من الصحابة.
وقد رواه أبو جعفر هنا، من طريق عبد الرزاق، ولم أجده في تفسير عبد الرزاق. فلعله في موضع آخر من كتبه.(3/481)
وقال آخرون: بل نزلت جوابًا لمسألة قومٍ سَألوا النبي صلى الله عليه وسلم: أيّ ساعة يدعون الله فيها؟
* ذكر من قال ذلك:
2906- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء قال: لما نزلت: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [سورة غافر: 60] قالوا: في أي ساعة؟ قال: فنزلت:"وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب" إلى قوله:"لعلهم يَرُشدون".
2907- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد الزبيري قال، حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء في قوله:"أجيب دَعوَة الداع إذا دعان"، قالوا: لو علمنا أيَّ ساعة نَدْعو! فنزلت:"وإذا سَأَلكَ عِبَادي عَنّي فإني قريب" الآية.
2908- حدثني القاسم. قال: حدثنا الحسين قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: زعم عطاء بن أبي رباح أنه بلغه: لما نزلت: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، قال الناس: لو نعلم أي ساعة ندعو! فنزلت:"وإذا سألك عبادي عَني فإني قريب أجيب دَعوة الداع إذا دَعان فليستجيبوا لي وَليؤمنوا بي لعلهم يَرشدون".
2909- حدثنا موسى بن هارون قال حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وإذا سَألك عبادي عَني فإني قريبٌ أجيب دعوة الداع إذا دَعان"، قال: ليس من عَبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ذَخره له إلى يوم القيامة، ودفع عنه به مكروهًا.
2910- حدثني المثني قال، حدثنا الليث بن سعد عن ابن صالح، عمن حدثه: أنه بلغه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ما أعطى أحدٌ الدعاءَ(3/482)
ومُنع الإجابة، لأن الله يقول: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) .
* * *
ومعنى متأوِّلي هذا التأويل: وإذا سألك عبادي عني: أي ساعة يدعونني؟ فإني منهم قريب في كل وقت، أجيب دعوة الداع إذا دعان.
* * *
وقال آخرون: بل نزلت جوابًا لقول قوم قالوا - إذْ قالَ الله لهم: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) -: إلى أين ندعوه!
* ذكر من قال ذلك:
2911- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال مجاهد: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، قالوا: إلى أين؟ فنزلت: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [سورة البقرة: 115] .
* * *
وقال آخرون: بل نزلت جوابًا لقوم قالوا: كيف ندعو؟
* ذكر من قال ذلك:
2912- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: ذكر لنا أنه لما أنزل الله"ادْعُوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ"، قال رجال: كيف ندعو يا نبي الله؟ فأنزل الله:"وإذا سَألك عبادي عَنّي فإنّي قريبٌ" إلى قوله:"يرشدون".
* * *
وأما قوله:"فليستجيبوا لي"، فإنه يعني: فليستجيبوا لي بالطاعة. يقال منه:"استجبت له، واستجبته"، بمعنى أجبته، كما قال كعب بن سعد الغنويّ:
وَدَاعٍ دَعَا يَامَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيب (1)
__________
(1) سلف هذا البيت في1: 320، ونسيت هناك أن أشير إليه أنه سيأتي في هذا الموضع من التفسير، ثم في 4: 144 (بولاق) .(3/483)
يريد: فلم يجبه.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال مجاهد وجماعةٌ غيره.
2913- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني الحجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد قوله:"فليستجيبوا لي"، قال: فليطيعوا لي، قال:"الاستجابة"، الطاعة.
2914- حدثني المثني قال، حدثنا حبان بن موسى قال: سألت عبد الله بن المبارك عن قوله:"فليستجيبوا لي"، قال: طاعة الله.
* * *
وقال بعضهم: معنى"فليستجيبوا لي": فليدعوني
*ذكر من قال ذلك:
2915- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي رجاء الخراساني، قال"فليستجيبوا لي"، فليدعوني.
* * *
وأما قوله:"وليؤمنوا بي" فإنه يعني: وَليصدِّقوا. أي: وليؤمنوا بي، إذا همُ استجابوا لي بالطاعة، أني لهم من وَرَاء طاعتهم لي في الثواب عليها، وإجزالي الكرامةَ لهم عليها.
* * *
وأما الذي تأوَّل قوله:"فليستجيبوا لي"، أنه بمعنى: فليدعوني، فإنه كان يتأوّل قوله:"وليؤمنوا بي"، وليؤمنوا بي أني أستجيب لهم.
* ذكر من قال ذلك:
2916- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني منصور بن هارون، عن أبي رجاء الخراساني:"وليؤمنوا بي"، يقول: أني أستجيب لهم.
* * *
وأما قوله:"لعلهم يَرشُدُون" فإنه يعني: فليستجيبوا لي بالطاعة، وليؤمنوا بي(3/484)
فيصدِّقوا على طاعتهم إياي بالثواب مني لهم، وليهتدوا بذلك من فعلهم فيرشدوا، كما:-
2917- حدثني به المثني قال، حدثنا إسحاق، قال حدثنا عبد الرحمن بن سعد قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع في قوله:"لعلهم يَرشدون"، يقول: لعلهم يهتدون.
* * *
فإن قال لنا قائل: وما معنى هذا القول من الله تعالى ذكره؟ فأنت ترى كثيرًا من البشر يدعون الله فلا يجابُ لهم دُعاء، وقد قال:"أجيبُ دَعوة الداع إذا دَعان"؟
قيل: إن لذلك وجهين من المعنى:
أحدهما: أن يكون معنيًّا"بالدعوة"، العملُ بما نَدب الله إليه وأمر به. فيكون تأويل الكلام. وإذا سألك عبادي عَني فإنى قريبٌ ممن أطاعني وعَمل بما أمرته به، أجيبه بالثواب على طاعته إياي إذا أطاعني. فيكون معنى"الدعاء": مسألة العبد ربَّه وما وعد أولياءه على طاعتهم بعملهم بطاعته، ومعنى"الإجابة" من الله التي ضمنها له، الوفاءُ له بما وعد العاملين له بما أمرهم به، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله:"إنّ الدعاء هو العبادة".
2918- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جويبر، عن الأعمش، عن ذر، عن يُسَيْع الحضرمي، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّ الدعاءَ هُوَ العبادة. ثم قرأ: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [سورة غافر: 60] (1) .
* * *
__________
(1) الحديث: 2918- أما الحديث في ذاته - فإنه حديث صحيح. وأما هذا الإسناد بعينه، فلا أدري كيف يستقيم؟ مع ضعفه!
فإن ابن حميد - شيخ الطبري- هو: محمد بن حميد الرازي، سبق توثيقه: 2028، 2253.
ولكن من المحال أن يقول: "حدثنا جويبر"، لأن ابن حميد مات سنة 248، وجويبر بن سعيد الأزدي مات قبل ذلك بنحو مائة سنة، فقد ذكره البخاري في الصغير، ص: 176، فيمن مات بين سنتي: 140 - 150. فلا بد أن يكون قد سقط بينها شيخ، خطأ من الناسخين. ثم إن "جويبرا" هذا: ضعيف جدًا، كما بينا في: 284.
الأعمش: هو سليمان بن مهران، الإمام المعروف.
ذر، بفتح الذال المعجمة وتشديد الراء: هو ابن عبد الله المرهبي، بضم الميم وسكون الراء وكسر الهاء بعدها ياء موحدة. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
يسيع - بضم الياء الأولى وسكون الثانية بينهما سين مهملة مفتوحة: هو ابن معدان الحضرمي، في التهذيب، والكبير 4/2/425 - 426، وابن أبي حاتم 4/2/313. ووقع هنا في المطبوعة"سبيع"! وهو تصحيف.
والحديث سيأتي في الطبري 24: 51 - 52 (بولاق) ، بستة أسانيد. ووقع اسم "ذر" هناك مصحفًا إلى "زر"، بالزاي بدل الذال.
وهو حديث صحيح. رواه أحمد في المسند 4: 271 (الحلبي) ، عن أبي معاوية، عن الأعمش، بهذا الإسناد. فليس فيه "جويبر" الضعيف المذكور هنا.
ونقله ابن كثير 7: 309، عن ذلك الموضع من المسند، وقال: وهكذا رواه أصحاب السنن: الترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وابن أبي حاتم، وابن جرير - كلهم من حديث الأعمش، به. وقال الترمذي: حسن صحيح. ورواه أبو داود، والترمذي، والنسائي، وابن جرير أيضًا، من حديث شعبة، عن منصور الأعمش- كلاهما عن ذر، به، ثم ذكر أنه رواه ابن حبان والحاكم أيضا.
وهو عند الحاكم 1: 490 - 491 بأسانيد، ثم قال: "هذا حديث صحيح الإسناد، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي 5: 355، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، والبخاري في الأدب المفرد، وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه، وأبي نعيم في الحلية، والبيهقي في شعب الإيمان.(3/485)
فأخبر صَلى الله عليه وسلم أن دعاء الله إنما هو عبادته ومسألته، بالعمل له والطاعة.
وبنحو الذي قلنا في ذلك ذُكِر أن الحسن كان يقول:
2919- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني منصور بن هارون، عن عبد الله بن المبارك، عن الربيع بن أنس، عن الحسن أنه قال فيها: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) ، قال: اعملوا وأبشروا، فإنه حقٌّ على الله أنَ يستجيب(3/486)
للذين آمنوا وعَملوا الصالحات ويزيدُهم من فضله.
* * *
والوجه الآخر: أن يكون معناه: أجيب دعوة الداع إذا دَعان إن شئت. فيكون ذلك، وإن كان عامًّا مخرُجه في التلاوة، خاصًّا معناهُ.
* * *(3/487)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
القول في تأويل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"أحل لكم"، أطلق لكم وأبيح (1) .
* * *
ويعني بقوله:"ليلة الصيام"، في ليلة الصيام.
* * *
فأما"الرفث" فإنه كناية عن الجماع في هذا الموضع، يقال:"هو الرفثُ والرُّفوث". (2) .
* * *
وقد روي أنها في قراءة عبد الله:"أحل لكم ليلة الصيام الرفوثُ إلى نسائكم".
* * *
وبمثل الذي قلنا في تأويل"الرفث" قال أهل التأويل.
*ذكر من قال ذلك:
2920- حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان، عن عاصم، عن بكر عن عبد الله المزني، عن ابن عباس قال: الرفث، الجماعُ، ولكن الله كريم يَكني.
__________
(1) انظر تفسير"الحلال" فيما سلف من هذا الجزء 3: 300، 301.
(2) انظر ما سيأتي في معنى"الرفث" في هذا الجزء (2: 153 - 155 بولاق) .(3/487)
2921- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر، عن ابن عباس، مثله.
2922- حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي قال، حدثني عمي قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: الرفث، النكاح.
2923- حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا معمر، عن قتادة، قال: الرفث: غِشيانُ النساء.
2924- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:"أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم"، قال: الجماع.
2925- حدثني المثني قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
2926- حدثني المثني قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس، قال: الرفث: هو النكاح.
2927- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الكبير البصري قال، حدثنا الضحاك بن عثمان قال، سألت سالم بن عبد الله عن قوله:"أحلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، قال: هو الجماع.
2928- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، يقول: الجماع.
* * *
"والرفث" في غير هذا الموضع، الإفحاشُ في المنطق، كما قال العجاج:
عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّمِ (1)
* * *
__________
(1) ديوانه: 59، وسيأتي مع البيت قبله في التفسير 2: 246 (بولاق) ، من رجز له طويل، حمد فيه الله ومجده بقوله: فَالحَمْد ِللهِ العَلِيِّ الأَعْظَمِ ... ذِي الجَبَرُوتِ والجَلاَلِ الأَفْخَمِ
وَعَالِمِ الإِعْلاَنِ والمُكَتَّمِ ... وربّ كُلِّ كَافِرٍ ومُسْلِمِ
ثم عطف على قوله: "ورب كل كافر ومسلم" عطوفًا كثيرة، حتى انتهى إلى ما أنشده الطبري: وربِّ أسْرَابِ حَجيجٍ كُظَّمِ ... عن اللَّغَا وَرفَثِ التَّكَلُّمِ
والأسراب جمع سرب: وهو القطيع أو الطائفة من القطار الظباء والشاء والبقر والنساء، وجعله هذا للحجاج. والحجيج: الحجاج. وكظم جمع كاظم: وهو الساكت الذي أمسك لسانه وأخبت، من الكظم (بفتحتين) وهو مخرج النفس. واللغا واللغو: السقط ومالا يعتد به من كلام أو يمين، ولا يحصل منه على فائدة ولا نفع.
هذا، ومما يدل على أن أبا جعفر كان يختصر القول اختصارًا في بعض المواضع، أنه لم يفسر تعدية"الرفث" بحرف الجر"إلى"، ولولا الاختصار لقال فيه مقالا على ما سلف من نهجه. وقد عدي"الرفث"بـ "إلى"، لأنه في معنى الإفضاء. يقال: "أفضيت إلى امرأتي"، فلما أراد هذا المعنى جاء بحرفه ليضمنه معناه، إيذانًا بأن ذلك ما أراد بهذه الكناية.(3/488)
القول في تأويل قوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: نساؤكم لباسٌ لكمُ وأنتم لباسٌ لهن.
* * *
فإن قال قائل: وكيف يكون نساؤنا لباسًا لنا، ونحن لهن لباسًا و"اللباس" إنما هو ما لبس؟
قيل: لذلك وجهان من المعاني:
أحدهما: أن يكون كل واحد منهما جُعل لصاحبه لباسًا، لتخرُّدهما عند النوم، (1) واجتماعهما في ثوب واحد، وانضمام جسد كل واحد منهما لصاحبه،
__________
(1) في المطبوعة: "لتخرجهما عند النوم"، وأخشى أن يكون تصحيفًا. جعل الجيم خاء، وألصق الدال بالهاء، فظنها الناسخ خاء، لتشابههما. ولم أجد في مادة"خرج""خرج" بتشديد الراء بمعنى التجرد من الثياب، وإن كانوا يقولون: "خرج فلان من ثيابه" ولكنه هنا لا يظهر معناه لسقوط ذكره اللباس في عبارته. وإن كنت أظنها بعيدة، ولو ذكر معها اللباس. ورجح هذا التصحيح عندي قوله بعد البيت الآتي: "متجردين في فراش واحد".(3/489)
بمنزلة ما يلبسه على جَسده من ثيابه، فقيل لكل واحد منهما: هو"لباس" لصاحبه، كما قال نابغة بني جعدة:
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى عِطْفَهَا ... تَدَاعَتْ، فكَانَتْ عَلَيْهِ لِبَاسَا (1)
ويروي:" تثنت" فكنى عن اجتماعهما متجردين في فراش واحد ب"اللباس"، كما يكنى ب"الثياب" عن جسد الإنسان، كما قالت ليلى، وهي تصف إبلا ركبها قومٌ:
رَمَوْهَا بِأَثْوَابٍ خِفَافٍ، فَلا تَرَى ... لَهَا شَبَهًا إلا النَّعَامَ المُنَفَّرَا (2)
يعني: رموها بأنفسهم فركبوها. وكما قال الهذليّ (3) تَبَرَّأُ مِنْ دَمِ القَتيلِ وَوَتْرِهِ ... وَقَدْ عَلِقَتْ دَمَ القَتِيلِ إزَارُهَا (4)
__________
(1) الشعر والشعراء: 255 من أبيات جياد، ومجاز القرآن لأبي عبيدة: 67، وتأويل مشكل القرآن 107، وغيرها، وقبله أَضَاءَتْ لَنَا النَّارُ وَجْهًا ... أَغَرَّ مُلْتَبِسًا بِالفُؤَاءِ الْتِبَاسَا
يُضِيءُ كَضَوْءِ سِرَاجِ السَّلِيطِ ... لَمْ يَجْعَلِ اللهُ فِيه نُحَاسَا
بِآنسَةٍ غَيْرِ أنْسِ القِرَافِ وَتَخْلِطُ ... بالأُنْسِ مِنْها شِمَاسَا
وهو شعر كما ترى
(2) المعاني الكبير 1: 486، وتأويل مشكل القرآن: 107 وغيرهما. وقولهما: "رموها بأثواب" قالوا: تعني بأجسام خفاف (المعاني) والصواب في ذلك أن يقال: أن هؤلاء الركب قد لوحتهم البيد وأضتتهم، فلم يبق فيهم إلا عظام معروقة عليها الثياب، لا تكاد ترى إلا ثوبًا يلوح على كل ضار وضامر، ولذلك شبهت الإبل عليها ركبها بالنعام المنفر. والمنفر: الذي ذعر فانطلق هاربًا يخفق في الأرض.
(3) هو أبو ذؤيب الهذلي.
(4) ديوانه: 26، والمعاني الكبير: 483، ومشكل القرآن: 108 وغيرها. من قصيدة له عجيبة، يرثى بها صديقه وحميمه نشيبة بن محرث، استفتحها متغزلا مشببًا بصاحبته أم عمرو، واسمها فطيمة، وقال قبل هذا البيت، يلوم نفسه على هجرها ويقول: فَإنَّكَ مِنْهَا والتَّعَذُّرَ، بَعْدَ مَا ... لَجِجْتَ، وشطَّتْ مِنْ فُطَيْمَةَ دَارُهَا
كَنَعْتِ الَّتِي ظَلَّت تُسَبِّع سُؤْرَهَا ... وَقَالتْ: حَرَامٌ أنْ يرَجَّلَ جَارُهَا
تبرَّأُ مِنْ دَم القَتِيل. . . . ... . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
يقول أنت في انتفاءك من حبها بعد اللجاجة فيه، كهذه المرأة التي قتلت قتيلا وحازت بزه، أي سلاحه، وأخفته. قال الأصمعي في خبر هذه المرأة: هذه امرأة نزل بها رجل فتحرجت أن تدهنه وترجل شعره، ثم جاء كلب فولغ في إنائها فغسلته سبع مرات. وذلك بعين الرجل، فتعجب منها ومن ورعها. فبينا هو كذلك، أتاها قوم يطلبون عندها قتيلا، فانتفلت من ذلك -أي أنكرت- وحلفت. ثم فتشوا منزلها، فوجدوا القتيل وسلاحه في بيتها".
يقول أنت كهذه المرأة، تجحد حب صاحبتك، وتظهر أنك قد كبرت وانتهيت عن الجهل والصبا، ولو فتش قلبك. لرأوا حبك لها لا يزال يتأجج ويشتعل.(3/490)
يعني ب"إزارها"، نفسها. وبذلك كان الربيع يقول:
2929- حدثني المثني قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعيد قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهنّ"، يقول: هنّ لحاف لكم وأنتم لحاف لهن. (1) .
* * *
والوجه الآخر: أن يكون جَعل كلَّ واحد منهما لصاحبه"لباسًا"، لأنه سَكنٌ له، كما قال جل ثناؤه: (جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا) [سورة الفرقان: 47] ، يعني بذلك سكنًا تسكنون فيه. وكذلك زوجة الرجل سَكنه يسكن إليها، كما قال تعالى ذكره: (وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) [سورة الأعراف: 189]
__________
(1) الأثر: 2929- في المطبوعة: "عبد الرحمن بن سعيد"، وقد مضى برقم: 2917، على الصواب كما أثبته. وعبد الرحمن بن سعد بن عمار بن سعد القرظ المؤدب، روي عن أبيه وعمه محمد وبني أعمامه. وجماعة من أهله، وأبي الزناد وصفوان بن سليم، وروي عنه إسحاق بن راهويه وإبراهيم بن المنذر وغيرهما. ذكره ابن حبان في الثقات. وقال البخاري: فيه نظر. وقال الحاكم أبو أحمد حديثه ليس بالقائم.(3/491)
فيكون كل واحد منهما"لباسًا" لصاحبه، بمعنى سكونه إليه. وبذلك كان مجاهد وغيره يقولون في ذلك.
وقد يقال لما سَتر الشيء وَواراه عَن أبصار الناظرين إليه:"هو لباسه، وغشاؤه"، فجائز أن يكونَ قيل:"هنّ لباس لكم وأنتم لباس لهن"، بمعنى: أنّ كل واحد منكم ستر لصاحبه -فيما يكون بينكم من الجماع- عن أبصار سائر الناس.
وكان مجاهد وغيره يقولون في ذلك بما:-
2930- حدثنا به المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"هن لباس لكم وأنتم لباسٌ لهن"، يقول: سكنٌ لهن.
2931- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن"، قال قتادة: هُنّ سكنٌ لكم، وأنتم سكنٌ لهنّ.
2932- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"هن لباسٌ لكم" يقول: سكن لكم،"وأنتم لباس لهن"، يقول: سكن لهن.
2933- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال عبد الرحمن بن زيد في قوله:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن"، قال: المواقعة.
2934- حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إبراهيم، عن يزيد، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس قوله:"هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن"، قال: هن سكنٌ لكم وأنتم سكنٌ لهن.
* * *(3/492)
القول في تأويل قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ}
قال أبو جعفر: إن قال لنا قائل: وما هذه الخيانة التي كانَ القوم يختانونها أنفسهم، التي تابَ الله منها عليهم فعفا عنهم؟
قيل: كانت خيانتُهم أنفسَهم التي ذكرها الله في شيئين، أحدهما: جماع النساء، والآخر: المطعم والمشربُ في الوقت الذي كانَ حرامًا ذلك عليهم، كما:-
2935- حدثنا محمد بن المثني قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبه، عن عمرو بن مرة قال، حدثنا ابن أبي ليلى: أن الرجل كان إذا أفطرَ فنام لم يأتها، وإذا نام لم يطعم، حتى جاء عمر بن الخطاب يُريد امرأته، فقالت امرأته: قد كنتَ نمتَ! فظنّ أنها تعتلُّ فوقع بها. قال: وجاء رجل من الأنصار فأراد أن يطعم، فقالوا: نسخّن لك شيئًا؟...... (1) قال: ثم نزلت هذه الآية:"أحِلَ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم" الآية.
__________
(1) الأثر: 2935- موضع هذه النقط خرم في النسخ. وخبر عبد الرحمن بن أبي ليلى هذا أخرجه وكيع وعبد بن حميد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، وهو في الدر المنثور 1: 198، بغير هذا اللفظ. ولو أريد إتمامه لكان:
[نسخن لك شيئًا تفطِرُ عليه؟ فغلبته عيناهُ فنام. فجاءوا وقد نام، فقالوا: كُلْ! فقال: قد كنتُ نمتُ! فترك الطعام وبات ليلته يتقلّبُ. فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له. فقام عمر بن الخطاب فقال: يا رسول الله، إني أردتُ أهلي البارحة على ما يريدُ الرجلُ أهله، فقالت: إنها قد نامت! فظننتها تعتَلُُّ، فواقعتها، فأخبرتني أنّها كانت نامت] .
هذا لفظ آخر، ولكنه دال على المعنى الذي ذكره عبد الرحمن بن أبي ليلى، والذي استدل به الطبري. ثم انظر الآثار التالية 2936-2938 عن ابن أبي ليلى.(3/493)
2936- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن إدريس قال، حدثنا حصين بن عبد الرحمن، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كانوا يصومون ثلاثة أيام من كل شهر، فلما دخل رَمضان كانوا يصومون، فإذا لم يأكل الرجل عند فطره حتى ينام، لم يأكل إلى مثلها، وإن نام أو نامت امرأته لم يكن له أن يأتيها إلى مثلها. فجاء شيخٌ من الأنصار يقال له صرمة بن مالك، فقال لأهله: أطعموني. فقالت: حتى أجعل لك شيئًا سخنًا! قال: فغلبته عينه فنام. ثم جاء عمر فقالت له امرأته: إني قد نمت! فلم يعذرها، وظن أنها تعتلّ، فواقعها. فبات هذا وهذا يتقلبان ليلتهما ظهرًا وبطنًا، فأنزل الله في ذلك:"وكلوا واشرَبوا حتى يَتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر"، وقال:"فالآن بَاشروهن"، فعفا الله عن ذلك، وكانت سُنَّةً.
2937- حدثنا أبو كريب قال حدثنا يونس بن بكير قال، حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن معاذ بن جبل قال: كانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساءَ ما لم يناموا، فإذا ناموا تركوا الطعامَ والشرابَ وإتيانَ النساء. فكان رجل من الأنصار يدعى أبا صِرْمة يعمل في أرض له، قال: فلما كان عند فطره نام، فأصبح صائمًا قد جُهد. فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما لي أرى بكَ جهدًا! فأخبره بما كان من أمره. واختان رَجل نفسه في شأن النساء، فأنزل الله"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، إلى آخر الآية. (1) .
__________
(1) الحديث: 2937- هو قطعة من حديث طويل، سبق بعضه بهذا الإسناد: 2729، 2733. ووقع في المطبوعة هنا تحريف في الإسناد، هكذا: "حدثنا عبد الرحمن بن عبيد الله عن عتبة"! وصوابه: "عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة"، وهو المسعودي، كما بينا فيما مضى.
وقد أشرنا فيما مضى إلى أن أبا داود روى هذا الحديث المطول: 507، من طريق يزيد بن هارون، عن المسعودي. ولكنه لم يذكر فيه القسم الذي هنا كاملا، بل أشار إليه، إحالة على الرواية قبله، فقال: "وجاء صرمة وقد عمل يومه. وساق الحديث".
والحديث مطول في مسند أحمد 5: 246-247، من رواية أبي النضر ويزيد بن هارون - كلاهما عن المسعودي، به. كما أشرنا إليه مفصلا، فيما مضى: 2156. وفيه القسم الذي هنا. ولكن فيه أن الرجل الأنصاري"يقال له صرمة"، كما في رواية أبي داود.
وقد مضى في الرواية السابقة: 2936. أنه"صرمة بن مالك". وفي هذه الرواية -هنا-: "يدعى أبا صرمة".
والرواية السابقة مرسلة. وهذه الرواية منقطعة، لأن عبد الرحمن بن أبي ليلى لم يدرك معاذ بن جبل. وسيأتي مزيد بيان عن اسم هذا الأنصاري، في الرواية الآتية: 2939.(3/494)
2938- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء - نحو حديث ابن أبي ليلى الذي حَدّث به عمرو بن مرة، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى - قال: كانوا إذا صاموا ونام أحدهم، لم يأكُل شيئًا حتى يكون من الغد. فجاء رجلٌ من الأنصار وقد عمل في أرض له وقد أعيا وكلَّ، فغلبته عينه فنام، وأصبح من الغد مجهودًا، فنزلت هذه الآية:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". (1) .
2939- حدثني المثني قال، حدثنا عبد الله بن رجاء البصري قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائمًا فنام قبل أن يفطر، لم يأكل إلى مثلها، وإنّ قيس بن صرمة الأنصاري كان صائمًا، وكان توجَّه ذلك اليوم فعمِل في أرضه، فلما حضر الإفطارُ أتى امرأته فقال: هل عندكم طعام؟ قالت: لا ولكن أنطلق فأطلب لك. فغلبته عينه فنام، وجاءت امرأته قالت: قد نمت! فلم ينتصف النهارُ حتى غُشي عليه، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فنزلت فيه هذه الآية:"أحِلَ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" إلى"من الخيط الأسود" ففرحوا بها فرحًا شديدًا (2) .
__________
(1) الحديث: 2938- هذا إسناد صحيح، لولا ضعف سفيان بن وكيع -كما قلنا مرارًا- ولكنه ثابت في تفسير وكيع، كما ذكره السيوطي. والطبري لم يذكر لفظه كاملا، أحال على الروايات قبله. وسيذكره كاملا عقب هذا.
(2) الحديث: 2939- وهذا إسناد صحيح. عبد الله بن رجاء الغذائي: سبق توثيقه: 2814.
والحديث ثابت من حديث أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب الأنصاري:
فرواه أحمد في المسند 4: 295 (حلبي) ، عن أسود بن عامر، وأبي أحمد الزبيري. والبخاري 4: 111-112 (فتح) ، عن عبيد الله بن موسى. وأبو داود: 2314، من طريق أبي أحمد. والترمذي 4: 71-72، من طريق عبيد الله بن موسى - كلهم عن إسرائيل، عن جده أبي إسحاق. السبيعي. ورواه النسائي 1: 305، من طريق زهير، عن أبي إسحاق. ورواه البخاري أيضًا 8: 136، مختصرًا. عن عبيد الله بن موسى، وبإسناد آخر عن أبي إسحاق.
وذكره السيوطي 1: 197، وزاد نسبته إلى وكيع، وعبد بن حميد، والنحاس في ناسخه، وابن المنذر، والبيهقي في السنن.
وقد أطال الحافظ في الفتح 4: 111-112، في بيان الاختلاف في اسم الأنصاري، والروايات في ذلك. ورجح أنه"أبو قيس صرمة بن أبي أنس قيس بن مالك بن عدي. . . ". وأنه عن هذا جاء الاختلاف فيه: فبعضهم أخطأ اسمه وسماه بكنيته، وبعضهم نسبه لجده، وبعضهم قلب نسبه. وبعضهم صفحه"ضمرة بن أنس"، وأن صوابه"صرمة بن أبي أنس". وكذلك صنع في الإصابة بأطول من ذلك 3: 241-243، 280. "صرمة": بكسر المهملة وسكون الراء وفتح الميم.(3/495)
2940- حدثني المثني قال حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قول الله تعالى ذكره:"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم"، وذلك أن المسلمين كانوا في شهر رمضان إذا صلوا العشاء حُرِّم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. ثم إن نَاسًا من المسلمين أصابوا الطعام والنساء في رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله:"علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عليكم وعَفا عنكم فالآن باشروهن" يعني انكحوهن،"وكلوا واشربوا حَتى يَتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر". (1)
2941- حدثني المثني قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن لهيعة، قال: حدثني موسى بن جبير مولى بني سلمة: أنه سمع عبد الله بن كعب بن مالك يحدث عن أبيه قال: كان الناسُ في رمضان إذا صامَ الرجل فأمسَى فنام، حُرِّم عليه الطعام والشراب والنساءُ حتى يفطر من الغد. فرجع عمر بن
__________
(1) الحديث: 2940- ذكره ابن كثير 1: 418-419، من غير تخريج. والسيوطي 1: 197، ونسبه لابن جرير، وابن المنذر، فقط.(3/496)
الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سَمَر عنده، فوجد امرأته قد نامت، فأرادها فقالت: إني قد نمت! فقال: ما نمت! ثم وقع بها. وصنع كعب بن مالك مثل ذلك. فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله تعالى ذكره:"علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتابَ عَليكم وعفا عنكم فالآن باشروهن" ... الآية (1) .
2942- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد بن سلمة قال، حدثنا ثابت: أن عمر بن الخطاب واقع أهله ليلة في رمضان، فاشتد ذلك عليه، فأنزل الله: (أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) (2) .
2943- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال،
__________
(1) الحديث: 2941- سويد: هو ابن نصر بن سويد المروزي، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، ونص البخاري في الكبير 2/2/149 على أنه سمع ابن المبارك. وذكر أنه مات سنة 240 عن 91 سنة.
ابن لهيعة - بفتح اللام وكسر الهاء: هو عبد الله، الفقيه القاضي المصري. مختلف فيه كثيرا، والتحقيق أنه ثقة صحيح الحديث. وقد فصلنا القول فيه في شرح المسند: 87، 6613.
موسى بن جبير المدني الحذاء: ثقة، يخطئ في بعض حديثه. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/281، وابن أبي حاتم 4/1/139، ولم يذكرا فيه جرحا. وهو مولى"بني سلمة" بفتح السين وكسر اللام، من الأنصار. انظر المشتبه للذهبي، ص: 270.
عبد الله كعب بن مالك الأنصاري السلمي -بفتح اللام، نسبة إلى"بني سلمة" بكسرها: تابعي ثقة، كان قائد أبيه حين عمي، أخرج له الشيخان وغيرهما.
والحديث رواه أحمد في المسند: 15860 (3: 460 حلبي) ، عن عتاب بن زياد، عن عبد الله بن المبارك، بهذا الإسناد.
وذكره ابن كثير 1: 420. عن الطبري، فقط.
وذكره السيوطي 1: 197، وزاد نسبته إلى ابن المنذر، وابن أبي حاتم"بسند حسن". وإنما حسن إسناده، من أجل ابن لهيعة -فيما أرجح- وعندي أنه إسناد صحيح.
(2) الحديث: 2942- ثابت: هو ابن أسلم البناني، بضم الباء الموحدة وتخفيف النون الأولى. وهو تابعي ثقة، ولكنه يروي عن صغار الصحابة، كأنس، وابن الزبير، وابن عمر لم يدرك أن يروي عن عمر بن الخطاب. فهذا إسناد منقطع، ضعيف لذلك. والحديث ذكره السيوطي 1: 197، ولم ينسبه لغير ابن جرير.(3/497)
حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم هُنّ لباسٌ لَكم وأنتم لباسٌ لهن" إلى:"وعفا عَنكم". كان الناس أوّلَ ما أسلموا إذا صام أحدُهم يصوم يومه، حتى إذا أمسى طَعِم من الطعام فيما بينه وبين العتمة، حتى إذا صُليت حُرّم عليهم الطعامُ حتى يمسي من الليلة القابلة. وإنّ عمر بن الخطاب بينما هو نائم إذ سوّلت له نفسه فأتى أهله لبعض حاجته، فلما اغتسلَ أخذ يبكي ويلوم نفسه كأشد ما رأيتَ من الملامة. ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسولَ الله، إني أعتذر إلى الله وإليك من نفسي هذه الخاطئة، فانها زيَّنت لي فواقعتُ أهلي! هل تجد لي من رخصة يا رسول الله؟ قال: لم تكن حقيقًا بذلك يا عمر! فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعُذره في آية من القرآن، وأمر الله رسوله أن يَضَعها في المائة الوسطى من سورة البقرة فقال:"أحلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" إلى"علم الله أنكم كنتم تَختانون أنفسكم" يعني بذلك: الذي فعل عمر بن الخطاب فأنزل الله عفوه. فقال:"فتاب عليكم وعفا عنكم فالآن بَاشرُوهن" إلى:"من الخيط الأسود" فأحل لهم المجامعة والأكل والشرب حتى يتبين لهم الصبح (1) .
2944- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" قال: كان الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصيام بالنهار، فإذا أمسى أكل وشرب وجامع النساء، فإذا رَقَد حرَّم ذلك كله عليه إلى مثلها من القابلة. وكان منهم رجال يَختانون أنفسهم في ذلك، فعفا الله عنهم، وأحل [ذلك] لهم بعد الرقاد وقبله في الليل كله (2) .
__________
(1) الحديث: 2943- هذا الحديث بالإسناد المسلسل بالضعفاء، الذي شرحناه مفصلا في: 305. وقد ذكره السيوطي 1: 197، ونسبه للطبري وابن أبي حاتم.
ولم تكن بنا حاجة للكلام عليه هنا، إلا أننا أردنا أن نمهد به لحديث لأبي هريرة في معناه. نقله السيوطي 1: 197، ونسبه للطبري فقط، قال: "وأخرج ابن جرير، عن أبي هريرة. . ".
وذكره ابن كثير 1: 419 مع أواخر إسناده، ولم يذكر من خرجه. والظاهر من تتبع صنيعه أنه نقله عن الطبري أيضًا.
ولم نجده في الطبري، فإما سقط من الناسخين، وإما هو في موضع آخر من الطبري لما تصل إلينا معرفته. فرأينا إثباته - تماما للفائدة، وحفظا لما ينسب لهذا التفسير العظيم.
قال ابن كثير: "وقال سعيد بن أبي عروبة، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن أبي هريرة، في قول الله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامُ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) إلى قوله (ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، قال: كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية - إذا صلُّوا العشاءَ الآخِرَةَ حَرُمَ عليهم الطعامُ والشرابُ والنساءُ حتى يُفْطروا. وإن عمر بن الخطاب أصاب أهلَه بعد صلاة العشاء، وإن صِرْمَةَ بن قيس الأنصاري غَلَبَتْهُ عيناه بعد صلاة المغرب، فنام ولم يشبع من الطعام، ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء، فقام فأكل وشرب، فلما أصبح أتَى رسولَ الله صلى الله عليه سلم، فأخبره بذلك، فأنزل الله عند ذلك: (أُحِلَّ لَكُم لَيْلَةَ الصِّيَامَ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) ، يعني بالرفث مجامعةَ النساء، (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ، عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُم) ، يعني: تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء، (فَتَاب عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآنبَاشِرُوهُنَّ) يعني: جامعوهن، (وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللهُ لَكُم) ، يعني: الولد، (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّن لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ) ، فكان ذلك عَفْوًا من الله ورَحْمَةً".
هذا لفظ رواية ابن كثير. والسيوطي اختصره قليلا.
فهذا إسناد صحيح من سعيد بن أبي عروبة إلى أبي هريرة. أما ما وراه سعيد بن أبي عروبة، فلا ندري ما حاله، حتى نعرف رواته.
وقيس بن سعد: هو المكي، أبو عبد الملك، وهو ثقة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/154. وابن أبي حاتم 3/2/99، وابن سعد 5: 355، ولكن ذكر أن كنيته"أبو عبيد الله". وقال: "كان قد خلف عطاء بن أبي رباح في مجلسه".
وكنية قيس عند البخاري"أبو عبد الله". والظاهر أن هذا هو الصحيح، لأن الدولابي ذكره في الكنى 2: 59، في باب"أبو عبد الله".
(2) الزيادة بين القوسين لا بد منها، استظهرتها من الأثر الذي يليه ومن السياق.(3/498)
2945- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يصوم الصائم في رمضان، فإذا أمسى -ثم ذكر نحو حديث محمد بن عمرو وزاد فيه: وكان منهم رجال يختانون أنفسهم، وكان عمر بن الخطاب ممن اختان نفسه، فعفا الله عنهم، وأحل ذلك لهم بعد الرقاد وقبله، وفي الليل كله.
2946- حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: أخبرني إسماعيل بن شَرُوس، عن عكرمة مولى ابن عباس: أن رجلا -قد سَمَّاه [فنسيته]- من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار، جاء ليلةً وهو صائم، فقالت له امرأته: لا تَنمْ حتى نصنعَ لك طعامًا! فنام، فجاءت فقالت: نمت والله! فقال: لا والله! قالت: بلى والله! فلم يأكل تلك الليلة، وأصبح صائمًا فَغُشى عليه، فأنزلت الرخصة فيه (1) .
__________
(1) الحديث: 2946- إسماعيل بن شروس، أبو المقدام الصنعاني: ذكره ابن حبان وابن شاهين في الثقات، كما في لسان الميزان. وذكره ابن سعد في الطبقات 5: 397، ولم يذكر فيه أكثر من قوله"قد روى عنه". وترجمه ابن أبي حاتم 1/1/177، ولم يذكر فيه جرحا، والبخاري في الكبير 1/1/359-360، وذكر أنه يروي عن عكرمة، من قوله - يعني غير متصل، فهو إشارة إلى هذه الرواية، لأنها من قول عكرمة، مرسلة، لم يسندها عن أحد من الصحابة، ثم قال البخاري: "قال عبد الرزاق، عن معمر: كان يثبج الحديث". ونقل مصححه العلامة الشيخ عبد الرحمن اليماني، عن هامش إحدى نسخ التاريخ الكبير: "أي لا يأتي به على الوجه". وهذا هو الصواب في هذا الحرف، أنه"يثبج" من"التثبيج" بالثاء المثلثة والجيم، ففي شرح القاموس 2: 13"يقال ثبج الكتاب والكلام تثبيجا: لم يبينه. وقيل: لم يأت به على وجهه. وقال الليث: التثبيج التخليط". ونقلت هذه الكلمة في لسان الميزان 1: 411 محرفة إلى"يضع الحديث"! وهو تحريف قبيح. فما رمى هذا الرجل بالوضع قط. ولم يذكره البخاري ولا النسائي في الضعفاء.
و"شروس": من الأسماء النادرة، ولم أجد نصا على ضبطه، إلا أنه ضبط بالقلم في تفسير عبد الرزاق بفتحة فوق الشين المعجمة وضمة فوق الراء وكسرتين تحت السين المهملة في آخره. ونقل الشيخ عبد الرحمن اليماني هذا الضبط أيضًا عن إحدى نسخ التاريخ الكبير، وأن بهامشها نسخة أخرى مضبوطة بفتحة فوق الشين وأخرى فوق الواو مع سكون فوق الراء.
وهذا الحديث مرسل - كما ترى. وهو في تفسير عبد الرزاق، ص: 18. ولم أجده في غير هذين الموضعين.
وقد زدنا كلمة [فنسيته] ، بعد كلمة"سماه" - من تفسير عبد الرزاق. وكان في المطبوعة"وأنزلت الرخصة"، بالواو بدل الفاء. وأثبتنا الفاء من تفسير عبد الرزاق، إذ هي أجود هنا.(3/500)
2947- حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"علم الله أنكم كُنتُم تَختانون أنفسكم" وكان بدءُ الصيام أمِروا بثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين غدوة، وركعتين عشية، فأحلّ الله لهم في صيامهم - في ثلاثة أيام، وفي أول ما افترض عليهم في رمضان - إذا أفطروا، وكان الطعام والشرابُ وغشيان النساءَ لهم حلالا ما لم يرقدوا، فإذا رَقَدوا حُرم عليهم ذلك إلى مثلها من القابلة. وكانت خيانة القوم أنهم كانوا يُصيبون أو ينالون من الطعام والشراب وغشيان النساء بعد الرقاد، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم، ثم أحل الله لهم [بعد] ذلك الطعام والشراب وغشيانَ النساء إلى طلوع الفجر (1) .
2948- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"أحلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" قال: كان الناس قبل هذه الآية إذا رَقَد أحدُهم من الليل رَقْدًة، لم يحلَّ له طعامٌ ولا شرابٌ ولا أن يأتي امرأته إلى الليلة المقبلة، فوقع بذلك بعض المسلمين، فمنهم من أكل بعد هجعته أو شرب، ومنهم من وقع على امرأته، فرخص الله ذلك لهم.
2949- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: كُتب على النصارى رَمَضان، وكُتب عليهم أن لا
__________
(1) الأثر: 2947- الذي بين القوسين زيادة لا بد منها. وسياق هذا الأثر فيه بعض الغرابة، ولم أجده بنصه هذا في مكان آخر. ولكن جاء في الدر المنثور 1: 198 أثر مثله، قال في صدره: "وأخرج عبد حميد وابن جرير عن قتادة"، وساق أثرا يخالفه كل المخالفة في أكثر لفظه، وإن وافقه في بعض المعنى: قال.
[كان هذا قبل صوم رمضان، أمروا بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، من كل عشرة أيام يوما. وأمروا بركعتين غدوة وركعتين عشية. فكان هذا بدء الصلاة والصوم. فكانوا في صومهم هذا، وبعد ما فرض الله رمضان، إذا رقدوا لم يمسوا النساء والطعام إلى مثلها من القابلة. وكان أناس من المسلمين يصيبون من النساء والطعام بعد رقادهم، وكانت تلك خيانة القوم أنفسهم، فأنزل الله في ذلك من القرآن: "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم"، الآية] .(3/501)
يأكلوا ولا يَشربوا بَعد النوم، ولا ينكحوا النساء شهر رمضان، فكتب على المؤمنين كما كُتب عليهم، فلم يزل المسلمون على ذلك يَصنعون كما تصنع النصارى، حتى أقبل رجل من الأنصار يقال له أبو قيس بن صرمة، وكان يَعمل في حيطان المدينة بالأجر (1) فأتى أهله بتمر فقال لامرأته: استبدلي بهذا التمر طحينا فاجعليه سَخينةً، لعليّ أن آكله، فإن التمر قد أحرق جَوْفي! فانطلقت فاستبدلت له، ثم صنعتْ فأبطأتْ عليه فنام، فأيقظته، فكره أن يعصي الله ورسوله، وأبى أن يأكل، وأصبح صائما; فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعشيّ، فقال: ما لك يا أبا قيس! أمسيتَ طليحا؟ (2) فقص عليه القصة.
وكان عمر بن الخطاب وقع على جارية لهُ -في ناس من المؤمنين لم يملكوا أنفسهم- فلما سمع عمر كلام أبي قيس، رَهبَ أن ينزل في أبي قيس شيء، فتذكّرُ هُو، فقام فاعتذر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله إني أعوذُ بالله إنّي وقعتُ على جاريتي، ولم أملك نفسي البارحة! فلما تكلم عُمر، تكلم أولئك الناس، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ما كنتَ جديرًا بذلك يا ابن الخطاب! فنُسِخ ذلك عنهم، فقال:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفث إلى نسائكم هُن لباسٌ لكم وأنتم لباس لهن عَلم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم"، -يقول: إنكم تقعون عليهن خيانةً-"فتابَ عليكم وعفا عنكم فالآنَ باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم" -يقول: جامعوهن، ورجع إلى أبي قيس فقال-:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر".
2950- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال: حدثني حجاج، عن ابن جريج قال: قلت لعطاء:"أحِلّ لكم ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم" قال:
__________
(1) الحيطان جمع حائط: وهو البستان من النخيل إذا كان عليه حائط، فإذا لم يكن عليه حائط فهو ضاحية، وجمعه الضواحي.
(2) الطليح: الساقط من الإعياء والجهد والهزال.(3/502)
كانوا في رمضان لا يمسُّون النساءَ ولا يطعمون ولا يشربون بعد أن يناموا حتى الليل من القابلة، فإن مسُّوهن قبل أن يناموا لم يروا بذلك بأسا. فأصاب رجل من الأنصار امرأته بعد أن نام، فقال: قد اختنت نفسي! فنزل القرآن، فأحل لهم النساء والطعام والشرابَ حتى يتبين لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر. قال: وقال مجاهد: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يصوم الصائمُ منهم في رمضان، فإذا أمسى أكل وشرب وَجامع النساء، فإذا رَقد حرُم عليه ذلك كله حتى كمثلها من القابلة: وكان منهم رجال يختانون أنفسَهم في ذلك، فعفا عنهم وأحلَّ لهم بعد الرقاد وَقبله في الليل، فقال:"أحِلَّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" ... الآية.
2951- حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، عن عكرمة أنه قال في هذه الآية:"أحِلّ لكم ليلة الصيام الرفثُ إلى نسائكم" مثل قول مجاهد -وزاد فيه: أن عمر بن الخطاب قال لامرأته: لا ترقدي حتى أرْجع من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرقدت قبل أن يرجع، فقال لها: ما أنت براقدة! ثم أصابها، حتى جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فنزلت هذه الآية. قال عكرمة: نزلت:"وكلوا واشربوا" الآية في أبي قيس بن صرْمة، من بني الخزرج، أكل بعد الرقاد.
2952- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج قال، حدثنا حماد، قال، أخبرنا محمد بن إسحاق، عن محمد بن يحيى بن حبان، أن صرمة بن أنس أتى أهله ذات ليلة وهو شيخٌ كبيرٌ، وهو صائم فلم يُهيئوا له طعاما، فوضع رأسه فأغفى، وجاءته امرأته بطعامه فقالت له: كل. فقال: إني قد نمتُ! قالت: إنك لم تنم! فأصبح جائعا مجهودا، فأنزل الله:"وكلوا واشربوا حتى يَتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر".
* * *(3/503)
فأما"المباشرة" في كلام العرب، فإنه مُلاقاة بَشَرة ببَشرة، و"بشرة" الرجل: جلدته الظاهرة.
* * *
وإنما كنى الله بقوله:"فالآنَ باشروهن" عن الجماع. يقول: فالآن إذ أحللتُ لكم الرفثَ إلى نسائكم، فجامعوهن في ليالي شهر رمضان حتى يطلع الفجر، وهو تبيُّنُ الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر.
* * *
وبالذي قلنا في"المباشرة" قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
2953- حدثنا محمد بن بشار قال: حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا سفيان= وحدثنا عبد الحميد بن سنان، قال، حدثنا إسحاق، عن سفيان= وحدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قال، حدثنا أيوب بن سويد، عن سفيان =، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكنّ الله كريمٌ يكني.
2954- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن عاصم، عن بكر بن عبد الله المزني، عن ابن عباس نحوه.
2955- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، حدثنا معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"فالآن باشرُوهن" انكحُوهنّ.
2956- حدثني محمد بن سعد، قال حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: المباشرة النكاحُ.
2957- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء قوله:"فالآن باشرُوهن" قال: الجماع.(3/504)
وكل شيء في القرآن من ذكر"المباشرة" فهو الجماع نفسه، وقالها عبد الله بن كثير مثل قول عطاء: في الطعام والشراب والنساء.
2958- حدثنا حميد بن مسعدة قال، حدثنا يزيد بن زريع قال حدثنا شعبة= وحدثنا ابن بشار قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة= عن أبي بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال: المباشرة الجماع، ولكن الله يكني ما شاء بما شاء (1) .
2959- حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال، حدثنا هشيم، قال أبو بشر، أخبرنا عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.
2960- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد، قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"فالآن بَاشروهن" يقول: جامعوهن.
2961- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: المباشرةُ الجماع.
2962- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال، أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، عن عطاء مثله.
2963- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد قال، أخبرنا ابن المبارك، عن الأوزاعي، قال، حدثني عبدة بن أبي لبابة قال: سمعت مجاهدا يقول: المباشرة، في كتاب الله، الجماع.
2964- حدثنا ابن البرقي، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، قال، قال الأوزاعي: حدثنا من سمع مجاهدا يقول: المباشرة في كتاب الله، الجماع.
* * *
__________
(1) الأثر: 2958- في المطبوعة: "محمد بن مسعدة"، والصواب ما أثبت، وقد سلف في رقم 2774، 2883، وهو حميد بن مسعدة بن المبارك الباهلي البصري. ذكره ابن حبان في الثقات. وتوفي سنة 244.(3/505)
واختلفوا في تأويل قوله:"وابتغوا مَا كتب الله لكم" فقال بعضهم: الولد.
* ذكر من قال ذلك:
2965- حدثني عبدة بن عبد الله الصفَّار البصري قال، حدثنا إسماعيل بن زياد الكاتب، عن شعبة، عن الحكم، عن مجاهد:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد (1) .
2966- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا سهل بن يوسف وأبو داود، عن شعبة قال: سمعت الحكم:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد.
2967- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا أبو تميلة قال، حدثنا عبيد الله، عن عكرمة قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد.
2968- حدثني علي بن سهل قال، حدثنا مؤمل، حدثنا أبو مودود بحر بن موسى قال: سمعت الحسن بن أبي الحسن يقول في هذه الآية:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد.
2969- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدى:"وابتغوا ما كتب الله لكم" فهو الولد.
2970- حدثني محمد بن سعد قال، حدثنا أبي قال، حدثني عمي قال، حدثنا أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وابتغوا ما كتب الله لكم" يعني: الولدَ.
2971- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم، قال، حدثني
__________
(1) الخبر: 2965- عبدة بن عبد الله بن عبدة الصفار: ثقة من شيوخ البخاري. وهو من نوادر الشيوخ الذين روى عنهم في صحيحه وهم أحياء. لأنه مات سنة 258، أي بعد البخاري بسنتين. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/90، ورجال الصحيحين، ص: 336.
إسماعيل بن زياد الكاتب: لم أعرف من هو يقينا، وفي هذه الترجمة بضع شيوخ في التهذيب 1: 298-301، ولسان الميزان 1: 405-407، ولكني أكاد أرجح أنه هو الذي روى له ابن ماجه حديثا: 1314، عن ابن جريج، باسم"إسماعيل بن زياد" دون لقب أو وصف.(3/506)
عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد، فإنْ لم تلد هذه فهذه.
2972- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد بنحوه.
2973- حدثنا الحسن بن يحيى، أخبرنا عبد الرزاق، أخبرنا معمر، عمن سمع الحسن في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: هو الولد.
2974- حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ما كتب لكم من الولد.
2975- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:" وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الجماع.
2976- حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سلمان، قال: سمعت الضحاك بن مزاحم قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: الولد (1) .
* * *
وقال بعضهم: معنى ذلك ليلة القدر.
* ذكر من قال ذلك:
2977- حدثنا أبو هشام الرفاعي قال، حدثنا معاذ بن هشام، قال: حدثني أبي عن عمرو بن مالك، عن أبي الجوزاء عن ابن عباس:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ليلةُ القدر. قال أبو هشام: هكذا قرأها معاذ.
2978- حدثني المثنى قال، حدثنا مسلم بن إبراهيم قال، حدثنا الحسن بن أبي جعفر قال، حدثنا عمرو بن مالك عن أبي الجوزاء، عن ابن
__________
(1) الخبر: 2976-"الحسين بن الفرج": ثبت هنا في المطبوعة"الحسن بن الفرج"، وهو خطأ تكرر مرارا، منها: 2719. ولا نرى داعيا لتكرار التنبيه عليه بعد.(3/507)
عباس في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" قال: ليلة القدر (1) .
وقال آخرون: بل معناه: ما أحله الله لكم ورخصه لكم.
* ذكر من قال ذلك:
2979- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد بن زريع قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"وابتغوا ما كتب الله لكم" يقول: ما أحله الله لكم.
2980- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، قال: قال قتادة في ذلك: ابتغوا الرخصة التي كتبتُ لكم.
* * *
وقرأ ذلك بعضهم: (وَاتَّبِعُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ)
* ذكر من قال ذلك:
2981- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن عطاء بن أبي رباح، قال: قلت لابن عباس: كيف تقرأ هذه الآية:"وابتغوا" أو"اتبعوا"؟ قال: أيتهما شئت! قال: عليك بالقراءة الأولى.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في تأويل ذلك عندي أن يقال: إن الله تعالى ذكره قال:"وابتغوا" - بمعنى: اطلبوا-"ما كتب الله لكم" يعني" الذي قَضَى الله تعالى لَكم.
وإنما يريد الله تعالى ذكره: اطلبوا الذي كتبتُ لكم في اللوح المحفوظ أنه يُباح فيطلقُ لكم وطلب الولد إنْ طلبه الرجل بجماعه المرأةَ، مما كتب الله له
__________
(1) الخبران: 2977-2978- عمرو بن مالك، في الإسنادين: هو النكري، بضم النون وسكون الكاف، نسبة إلى"بني نكرة" من عبد القيس. وهو ثقة.
أبو الجوزاء: هو أوس بن عبد الله الربعي، وهو تابعي ثقة معروف، أخرج له الشيخان، وسائر أصحاب الكتب الستة. وقد بينا حاله وحال عمرو بن مالك الراوي عنه، في شرح المسند: 2623.
"الربعي": بفتح الراء والباء، نسبة إلى"ربعة الأزد"، كما في اللباب لابن الأثير 1: 459.(3/508)
في اللوح المحفوظ، وكذلك إن طلب ليلةَ القدر، فهو مما كتب الله له، وكذلك إن طلب ما أحلَّ الله وأباحه، فهو مما كتبه له في اللوح المحفوظ.
وقد يدخل في قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" جميعُ معاني الخير المطلوبة، غيرَ أن أشبه المعاني بظاهر الآية قول من قال: معناه وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد، لأنه عَقِيبُ قوله:"فالآن باشرُوهن" بمعنى: جامعوهنّ، فَلأنْ يكون قوله:"وابتغوا ما كتب الله لكم" بمعنى: وابتغوا ما كتب الله في مباشرتكم إياهن من الولد والنسل، أشبهُ بالآية من غيره من التأويلات التي ليس على صحتها دلالة من ظاهر التنزيل، ولا خبرٌ عن الرسول صلى الله عليه وسلم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل قوله:"حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيطِ الأسود من الفجر".
* * *
فقال بعضهم: يعني بقوله:"الخيط الأبيض"، ضوءَ النهار، وبقوله:"الخيطِ الأسود" سوادَ الليل.
فتأويله على قول قائلي هذه المقالة: وكلوا بالليل في شهر صَوْمكم، واشربوا، وبَاشروا نساءكم مبتغينَ ما كتب الله لكم من الولد، من أول الليل إلى أن يقع لكم ضوءُ النهار بطلوع الفجر من ظلمة الليل وسواده.(3/509)
* ذكر من قال ذلك:
2982- حدثني الحسن بن عرفة قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا أشعث، عن الحسن في قول الله تعالى ذكره:"حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" قال: الليل من النهار.
2983- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" قال: حتى يتبين لكم النهار من الليل،"ثم أتموا الصيام إلى الليل".
2984- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وكلوا واشرَبوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيام إلى الليل" فهما عَلَمان وحدَّان بَيِّنان فلا يمنعكم أذانُ مُؤذِّن مُراءٍ أو قليل العقل من سَحُوركم، فإنهم يؤذنون بهجيع من الليل طويل. وقد يُرى بياضٌ ما على السحر يقال له:"الصبح الكاذب" كانت تسميه العرب، فلا يمنعكم ذلك من سَحوركم، فإن الصبح لا خفاء به: طريقةٌ مُعترِضة في الأفق، وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الصبح، فإذا رأيتم ذلك فأمسكوا (1) .
2985- حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكمُ الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود منَ الفجر" يعني الليل من النهار، فأحلَّ لكم المجامعة والأكل والشربَ حتى يتبين لكم الصبح، فإذا تبين الصبحُ حرِّم عليهم
__________
(1) الأثر: 2984- الهجيع: الطائفة من الليل. يقال: مر هجيع -أو هزيع- من الليل، أي ساعة وطائفة منه. والسحر الثلث الآخر من الليل قبيل طلوع الفجر. والطريقة: الخط الممتد في الشيء يكون ظاهرا باختلاف لون، أو اختلاف ظاهر.(3/510)
المجامعة والأكل والشربُ حتى يُتمُّوا الصيامَ إلى الليل. فأمر بصوم النهار إلى الليل، وأمر بالإفطار بالليل.
2986- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، وقيل له: أرأيتَ قولَ الله تعالى:"الخيط الأبيضُ من الخيط الأسْود من الفجر"؟ قال: إنك لعريض القفا، قال: هذا ذهابُ الليل ومجيءُ النهار. قيل له: الشعبي عن عدي بن حاتم؟ قال: نعم، حدثنا حصين (1) .
* * *
وعلَّة من قال هذه المقالة، وتأوَّل الآية هذا التأويل ما:
__________
(1) الحديث: 2986- حصين: هو ابن عبد الرحمن السلمي، الثقة المأمون، من كبار أئمة الحديث. مضت له رواية في: 579.
وهذا الحديث اختصره أبو بكر بن عياش جدا، وحذف إسناده حين حدث به، ثم سئل عنه، فبين أنه سمعه من حصين عن الشعبي عن عدي بن حاتم.
وسيأتي: 2987، 2989 مختصرا، و 2988 مطولا، ولكنه ثابت في الصحيحين وغيرهما، مطولا بسياق صحيح واضح:
فرواه أحمد في المسند 4: 377 (حلبي) عن هشيم: "أخبرنا حصين، عن الشعبي، أخبرنا عدي بن حاتم، قال: لما نزلت هذه الآية (فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ، قال: عمدت إلى عقالين، أحدهما أسود، والآخر أبيض، فجعلتهما تحت وسادي، قال: ثم جعلت أنظر إليهما، فلا يتبين لي الأسود من الأبيض، ولا الأبيض من الأسود، فلما أصبحت غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبرته بالذي صنعت، فقال: إن كان وسادك إذًا لعريض، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل".
وقول عدي: "لما نزلت هذه الآية"، يريد: لما تليت عليه عند إسلامه، لأن فرض الصوم كان في أوائل الهجرة، وعدي أسلم بعد ذلك بدهر، في السنة التاسعة أو العاشرة.
ورواه البخاري 4: 113 (فتح) ، من طريق هشيم، ورواه مسلم 1: 301، وأبو داود: 2349- كلاهما من طريق عبد الله بن إدريس، عن حصين. ورواه البخاري 8: 137 (فتح) مختصرا، من طريق أبي عوانة، عن حصين.
وذكره ابن كثير 1: 421، من رواية أحمد، ثم قال: "أخرجاه في الصحيحين من غير وجه، عن عدي". وذكره السيوطي 1: 199، وزاد نسبته لسفيان بن عيينة، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، والترمذي، وابن المنذر، والبيهقي.
قوله: "عريض القفا"، كناية عن السمن وطول النوم. وذلك دليل على الغفلة والركود.(3/511)
2987- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا حفص بن غياث، عن مجالد بن سعيد، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: قلت يا رسول الله، قول الله:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر"؟ قال: هو بياض النهار وسوادُ الليل. (1) .
2988- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن نمير وعبد الرحيم بن سليمان، عن مجالد بن سعيد، عن عامر، عن عدي بن حاتم، قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعلَّمني الإسلام، ونَعت ليَ الصلوات، كيفَ أصَلي كلَّ صلاة لوقتها، ثم قال: إذا جاء رمضان فكل واشرب حتى يتبين لك الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتم الصيامَ إلى الليل. ولم أدر ما هو، ففعلتُ خَيطين من أبيض وأسود، فنظرت فيهما عند الفجر، فرأيتهما سواءً. فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله كل شيء أوصيتني قد حفظتُ، غير"الخيط الأبيض من الخيط الأسود"! قال: وما منعك يا ابن حاتم؟ وتبسَّم كأنه قد علم ما فعلت. قلتُ: فتلت خيطين من أبيض وأسود فنظرتُ فيهما من الليل فوجدتهما سواء! فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى رُئي نَواجذُه، ثم قال: ألم أقلْ لك"من الفجر"؟ إنما هو ضوء النهار وظلمة الليل (2) .
2989- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا مالك بن إسماعيل قال، حدثنا داود وابن علية جميعا، عن مطرِّف، عن الشعبي، عن عدي بن حاتم، قال: قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ما"الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود" أهما
__________
(1) الحديث: 2987- مجالد بن سعيد: مضت ترجمته في: 1614. والحديث تكرار للذي قبله في معناه.
(2) الحديث: 2988- مجالد بن سعيد، ثبت في المطبوعة هنا محرفا: "مجالد عن سعيد"؛ وهذا السياق المطول ذكره السيوطي 1: 199، ونسبه لابن جرير، وابن أبي حاتم، فقط.
ورواه أحمد في المسند 4: 377 (حلبي) ، عن يحيى، وهو القطان، عن مجالد، عن عامر، وهو الشعبي. ولكنه مختصر قليلا عما هنا.(3/512)
خيطان أبيض وأسود؟ فقال: وإنك لعَريضُ القفا إن أبصرْت الخيطين. ثم قال: لا ولكنه سوادُ الليل وبياضُ النهار. (1) .
2990- حدثني أحمد بن عبد الرحيم البرقي قال، حدثنا ابن أبي مريم قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا أبو حازم عن سهل بن سعد، قال: نزلت هذه الآية:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود" فلم ينزل"من الفجر" قال: فكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيطَ الأسود والخيط الأبيض، فلا يزال يأكل ويشرب حتى يتبَّين له. فأنزل الله بعد ذلك:"من الفجر" فعلموا إنما يعني بذلك الليلَ والنهارَ (2) .
* * *
وقال متأولو قول الله تعالى ذكره:"حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" أنه بياض النهار وسواد الليل-: صفة ذلك البياض أن يكون
__________
(1) الحديث: 2989- مالك بن إسماعيل بن زياد بن درهم، أبو غسان النهدي: حافظ ثقة. من شيوخ البخاري وغيره من الأئمة. مترجم في التهذيب، والكبير 4/1/315، وابن سعد 6: 282، وابن أبي حاتم 4/1/206-207.
داود، شيخ مالك بن إسماعيل: لم أستطع معرفته، ففي هذه الطبقة ممن يسمى"داود" كثرة. وأيا ما كان فالحديث صحيح، من جهة رواية ابن علية معه عن مطرف.
مطرف: هو ابن طريف الحارثي، مضت ترجمته في: 224.
والحديث مختصر - كما أشرنا آنفًا. وقد رواه البخاري 8: 137، عن قتيبة بن سعيد، عن جرير، وهو ابن عبد الحميد الضبي، عن مطرف، بهذا الإسناد، نحوه.
(2) الحديث: 2990- أحمد بن عبد الرحيم البرقي: هو أحمد بن عبد الله بن عبد الرحيم، مضى في: 22، 160.
ابن أبي مريم: هو سعيد بن الحكم، ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة، مضى في: 22.
أبو غسان: هو محمد بن مطرف -بكسر الراء المشددة- الليثي المدني، أحد العلماء الأثبات، روى له أصحاب الكتب الستة.
أبو حازم: هو سلمة بن دينار الأعرج التمار، المدني، تابعي ثقة، لم يكن في زمانه مثله.
والحديث رواه البخاري 4: 114-115، و 8: 137، عن ابن أبي مريم، بهذا الإسناد. ورواه مسلم 1: 301، عن شيخين، عن ابن أبي مريم.
ورواه أيضًا النسائي، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في سننه، كما في الدر المنثور 1: 199.(3/513)
منتشرا مستفيضا في السماء يملأ بياضه وضوءُهُ الطرق، فأما الضوء الساطع في السماء، فإن ذلك غير الذي عناه الله بقوله:"الخيط الأبيض من الخيط الأسود".
* ذكر من قال ذلك:
2991- حدثنا محمد بن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا معتمر بن سليمان، قال: سمعت عمران بن حدير، عن أبي مجلز: الضوء الساطعُ في السماء ليس بالصبح، ولكن ذاك"الصبح الكاذب"، إنما الصبح إذا انفضح الأفق (1) .
2992- حدثني سَلْم بن جنادة السوائي قال، حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن مسلم، قال: لم يكونوا يعدُّون الفجر فجرَكم هذا، كانوا يعدُّون الفجرَ الذي يملأ البيوتَ والطرُق (2) .
2993- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا عثام، عن الأعمش، عن مسلم: ما كانوا يرون إلا أنّ الفجر الذي يَستفيض في السماء.
2994- حدثنا الحسن بن عرفة قال، حدثنا روح بن عبادة قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني عطاء أنه سمع ابن عباس يقول: هما فجران، فأما الذي يسطَع في السماء فليس يُحِلّ ولا يُحرّم شيئا، ولكن الفجر الذي يستبين على رءوس الجبال هو الذي يحرِّم الشراب.
2995- حدثنا الحسن بن الزبرقان النخعي قال، حدثنا أبو أسامة، عن محمد بن أبي ذئب، عن الحارث بن عبد الرحمن، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، قال: [قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم] : الفجر فجران، فالذي كأنه ذنَب السِّرحان لا يحرّم شيئا، وأما
__________
(1) فضحه الصبح: دهمته فضحة الصبح، وهي بياضه فكشفه وبينه للأعين بضوئه. والأفضح: الأبيض ليس شديد البياض.
(2) الأثر: 2992- في المطبوعة: "مسلم بن جنادة" والصواب ما أثبت، وانظر ما سلف رقم: 48، ومواضع أخرى كثيرة.(3/514)
المستطير الذي يأخذ الأفق، فإنه يُحل الصلاة ويُحرّم الصوم. (1) .
2996- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا وكيع وإسماعيل بن صبيح وأبو أسامة، عن أبي هلال، عن سَوادة بن حنظلة، عن سمرة بن جندب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"لا يمنعكم من سَحُوركم أذانُ بلال ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجرُ المستطيرُ في الأفق" (2) .
__________
(1) الخبر: 2995- الحسن بن الزبرقان النخعي، شيخ الطبري: ترجمه ابن أبي حاتم 1/2/15، قال: "الحسن بن الزبرقان الكوفي، سكن قزوين، ويكنى بأبي الخزرج. روى عن مندل بن علي، وشريك، وفضيل بن عياض، والمطلب بن زياد، ومحمد بن صبيح السماك. روى عنه أبي، والفضل بن شاذان. سئل أبي عنه، فقال: هو شيخ". ولم أجد له ترجمة عند غيره.
أبو أسامة: هو حماد بن أسامة بن زيد الكوفي، ثقة حافظ ثبت، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
محمد بن أبي ذئب: هو محمد بن عبد الرحمن بن المغيرة بن الحارث بن أبي ذئب، القرشي العامري المدني، نسب إلى جده الأعلى، وهو إمام ثقة حافظ، يقرن بمالك أو يفضل عليه. وثبت في المطبوعة هنا"محمد بن أبي ذؤيب"؛ وهو خطأ بين.
الحارث بن عبد الرحمن القرشي العامري -من أنفسهم- المدني: ثقة، وهو خال"ابن أبي ذئب"، وهو أيضًا ابن عم أبيه، كما في نسب قريش، ص: 423.
محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان القرشي العامري -مولاهم- المدني: تابعي ثقة معروف، قال أبو حاتم"لا يسأل عن مثله".
وقد زدنا بين قوسين، عقب قوله"عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان قال" - (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، لأنه هكذا نقله ابن كثير 1: 424، عن هذا الموضع من الطبري، بهذه الزيادة، فيكون حديثا مرسلا. وهكذا قال ابن كثير، عقب نقله: "وهذا مرسل جيد". يريد: جيد الإسناد إلى ابن ثوبان التابعي، ولكنه لا يكون صحيحا مرفوعا، لأن المرسل لا تقوم به حجة.
وكذلك رواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 215، من طريق ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، بهذا الإسناد. من رواية ابن ثوبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرفوعا، مرسلا.
وكذلك ذكره السيوطي 1: 200"عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان: أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال. . ". ثم قال السيوطي: "وأخرجه الحاكم من طريقه، عن جابر، موصولا"، وكذلك ذكر البيهقي أنه"قد روى موصولا، بذكر جابر بن عبد الله فيه". وقد جهدت أن أجده في المستدرك، فخفي على موضعه.
ويكون ما وقع من الناسخين، في الطبري هنا، من حذف (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم) - خطأ يقينا. إذ يكون حينئذ موقوفا على ابن ثوبان. وقد تضافرت الدلائل على أنه عن ابن ثوبان، مرفوعا مرسلا، في رواية الطبري ورواية غيره.
والسرحان: الذئب. وذلك كناية عن استطالته وامتداده.
(2) الحديث: 2996- إسماعيل بن صبيح- بفتح الصاد المهملة وكسر الباء الموحدة - اليثكري الكوفي: ثقة مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 1/1/178.
أبو هلال: هو الراسبي محمد بن سليم، وهو ثقة.
سوادة بن حنظلة القشيري البصري: تابعي ثقة.
والحديث رواه أحمد في المسند 5: 13-14 (حلبي) ، عن وكيع، بهذا الإسناد، نحوه. وكذلك رواه الترمذي 2: 39، من طريق وكيع. .
وسيأتي مزيد تخريجه، في الحديث بعده.(3/515)
2997- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا معاوية بن هشام الأسدي قال، حدثنا شعبة، عن سوادة قال: سمعت سمرة بن جندب يذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سمعه وهو يقول:"لا يغرنّكم نداء بلال ولا هذا البياضُ حتى يبدوَ الفجرُ وَينفجر" (1) .
* * *
__________
(1) الحديث: 2997- معاوية بن هشام الأسدي القصار: ثقة، وثقه أبو داود وابن حبان. و"الأسدي" بفتح السين، لأنه"مولى بني أسد"، كما في ابن سعد 6: 282، والتقريب، وكذلك ثبت في الصحيحين: 92. ووقع في التهذيب والخلاصة"الأزدي" بالزاي، هو خطأ.
وهذا الحديث في معنى الذي قبله.
وقد رواه أبو داود الطيالسي: 897، عن شعبة، بهذا الإسناد، نحوه. وكذلك رواه النسائي 1: 305، من طريق الطيالسي.
ورواه أحمد في المسند 5: 7 (حلبي) : "حدثنا محمد بن جعفر، وروح، قالا: حدثنا شعبة، عن شيخ من بني قشير، قال روح: قال (يعني شعبة) : سمعت سوادة القشيري، وكان إمامهم" فذكر الحديث.
ورواه مسلم 1: 302، من طريق معاذ، وهو العنبري، ومن طريق أبي داود، وهو الطيالسي - كلاهما عن شعبة.
وقد سقط في هذا الموضع إسنادان آخران لهذا الحديث، ذكرهما ابن كثير 1: 423. فرأينا إثباتهما، تماما لنص أبي حعفر ما استطعنا:
قال ابن كثير: "وقال ابن جرير: حدثنا محمد بن المثنَّى، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي، حدثنا شعبة، عن شيخ من بني قُشَيْر سمعت سمُرة بن جَندُب يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَغُرنَّكم نداءُ بلال وهذا البياض، حتى ينفجر الفجر، أو يطلع الفجر".
"ثم رواه من حديث شعبة وغيره، عن سَوادَةَ بن حنظلة، عن سمرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يمنعنَّكم من سَحُوركم أذانُ بلال، ولا الفجر المستطيل، ولكن الفجر المستطيرُ في الأفق".
وهذا هو لفظ الحديث: 2996 هنا، ولكنه من غير طريق شعبة. ثم قال ابن كثير، نقلا عن أبي جعفر: "قال: وحدثني يعقوب بن إبراهيم، [عن] ابن علية، عن عبد الله بن سَوَادَةَ القُشَيْرِي، عن أبيه، عن سَمُرة بن جُنْدَُب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يَغُرَّنَّكم أذانُ بلال، ولا هذا البياض، لِعَمُود الصبح، حتى يَسْتَطِيرَ".
فهذان الإسنادان اللذان لم يذكرا هنا، ثابتان في ابن كثير نقلا عن ابن جرير.
والأول منهما يوافق رواية أحمد في المسند -التي ذكرنا آنفًا- عن محمد بن جعفر عن شعبة، التي أبهم فيها"شيخ من بني قشير".
والثاني منهما: وقع فيه خطأ مطبعي في ابن كثير، لأن الطبري يرويه عن يعقوب بن إبراهيم، وهو الدورقي الحافظ، عن ابن علية، عن عبد الله بن سوادة، عن أبيه. فسقط في مطبوعة ابن كثير حرف [عن] فزدناه ضرورة. لأن الحديث ثابت من رواية ابن علية، وهو"إسماعيل بن إبراهيم" المعروف بابن علية.
والحديث ثابت من رواية ابن علية: فرواه مسلم 1: 302، عن زهير بن حرب، "حدثنا إسماعيل ابن علية. . ".
وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 1: 425، من طريق مسدد، "حدثنا ابن علية".
وعبد الله بن سوادة القشيري -شيخ ابن علية في هذا الإسناد-: ثقة، كما بينا في تخريج حديث آخر مضى، برقم: 2792.
والحديث رواه أيضًا أحمد في المسند 5: 18 (حلبي) ، عن يزيد بن هارون، عن شعبة.
ورواه الطيالسي أيضًا: 898، عن محمد بن مسلم، قال: "حدثنا سوادة بن حنظلة القشيري. . ".
ورواه أيضًا مسلم 1: 302، وأبو داود: 2346، والبيهقي 4: 215- ثلاثتهم من طريق حماد بن زيد، عن عبد الله بن سوادة، عن أبيه.(3/516)
وقال آخرون: الخيطُ الأبيض: هو ضوء الشمس، والخيط الأسود: هو سوادُ الليل.
* ذكر من قال ذلك:
2998- حدثنا هنّاد بن السري قال، حدثنا عبيدة بن حميد، عن الأعمش،(3/517)
عن إبراهيم التيمي، قال: سافر أبي مع حُذيفة قال: فسار حتى إذا خشينا أن يفجأنا الفجرُ قال: هل منكم من أحد آكلٍ أو شاربٍ؟ قال: قلت له: أمّا من يريد الصومَ فلا. قال: بلى! قال: ثم سار حتى إذا استبطأنا الصلاة نزل فتسحَّر (1) .
2999- حدثنا هناد وأبو السائب، قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن أبيه، قال: خرجت مع حذيفة إلى المدائن في رمضان، فلما طلع الفجر، قال: هل منكم من أحد آكل أو شارب؟ قلنا: أمَّا رجل يريدُ أن يصوم فلا. قال: لكنّي! قال: ثم سرنا حتى استبطأنا الصلاة، قال: هل منكم أحد يريد أن يتسحَّر؟ قال: قلنا أمّا من يريد الصومَ فلا. قال: لكنّي! ثم نزل فتسحَّر، ثم صلى (2) .
3000- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، قال: ربما شربت بعد قول المؤذن - يعني في رمضان -:"قد قامت الصلاة". قال: وما رأيت أحدًا كان أفعلَ له من الأعمش، وذلك لما سمع، قال: حدثنا إبراهيم التيمي عن أبيه قال: كنا مع حذيفة نسير ليلا فقال: هل منكم متسحِّرٌ الساعة؟ قال: ثم
__________
(1) الخبر: 2998- هذا موقوف على حذيفة بن اليمان، وإسناده صحيح. إلا أنه وقع في المطبوعة خطأ في موضعين. وسيأتي عقب هذا موقوفا بإسنادين آخرين. ثم يأتي معناه مرفوعا، من حديث حذيفة نفسه: 3011-3014.
هناد بن السري - شيخ الطبري في هذا الإسناد: وقع في المطبوعة"هشام بن السري"؛ وهو خطأ يقينا، ليس من راو بهذا الاسم -فيما علمنا- وإنما هو"هناد". وقد ترجمنا له في: 2058.
عبيدة -بفتح العين- بن حميد، بضم الحاء المهملة: مضى في: 2781، ووقع في المطبوعة"عبادة بن حميد"؛ وهو خطأ أيضًا.
إبراهيم التيمي: هو إبراهيم بن يزيد بن شريك، وهو وأبوه تابعان ثقتان، أخرج لهما أصحاب الكتب الستة.
وظاهر هذا الإسناد الانقطاع، لأن إبراهيم التيمي لم يدرك حذيفة، ولم يشهد سفر أبيه معه. ولكن تبين من الإسنادين بعده أنه روى ذلك عن أبيه، فاتصل الإسناد.
(2) الخبر: 2999- إسناده صحيح متصل.
وقوله: "لكني"، اختصار قوله: لكني أريد الصوم، مثل ذلك كثير في كلامهم.(3/518)
سار، ثم قال حذيفة: هل منكم متسحِّر الساعة؟ قال: ثم سار حتى استبطأنا الصلاة، قال: فنزل فتسحّر (1) .
3001- حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني قال، حدثنا مصعب بن المقدام قال، حدثنا إسرائيل قال، حدثنا أبو إسحاق عن هبيرة، عن علي: أنه لما صلى الفجرَ قال: هذا حين يتبيّن الخيطُ الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (2) .
__________
(1) الخبر: 3000- هذا إسناد صحيح متصل أيضًا.
أبو بكر: هو ابن عياش، وقد مضى مرارا، منها: 2150. وهذا الإسناد صريح في سماعه من الأعمش، ورؤيته إياه يفعل ما حكى من سحوره بعد الأذان.
وقال الحافظ في الفتح 4: 117"وذهب جماعة من الصحابة، وبه قال الأعمش من التابعين، وصاحبه أبو بكر بن عياش -: إلى جواز السحور إلى أن يتضح الفجر".
وقال أيضًا: "وقد روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق - ذلك عن حذيفة، من طرق صحيحة".
وانظر لهذه المسألة - المحلى لابن حزم، في المسألة: 756 (ج 7 ص 229-235) . وسيأتي مزيد تخريج، عند حديثه المرفوع: 3011-3013، إن شاء الله.
(2) الخبر: 3001- هارون بن إسحاق الهمداني، شيخ الطبري: كوفي حافظ ثقة، من شيوخ البخاري في غير الصحيح، والترمذي، والنسائي، وغيرهم من الأئمة. مترجم في التهذيب، وابن سعد 6: 289، وابن أبي حاتم 4/2/87-88. وهو من الشيوخ الذين روى عنهم البخاري وهم أحياء، مات سنة 258، بعد البخاري بسنتين.
مصعب بن المقدام: مضت ترجمته: 1291.
هبيرة - بضم الهاء: هو ابن يريم، بفتح الياء التحتية وكسر الراء، الشبامي، بكسر الشين المعجمة وتخفيف الباء الموحدة وبعد الألف ميم، نسبة إلى"شبام"، وهو"عبد الله بن أسعد بن جثم بن حاشد"، قال ابن سعد: "وسمي شبام، بجبل لهم".
ووقع في التهذيب والتقريب والخلاصة"الشيباني"، وهو تصحيف. وهبيرة: تابعي ثقة، تكلم فيه بعضهم، لم يرو عنه غير أبي إسحاق السبيعي، وهو خال العالية امرأة أبي إسحاق. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/241، وابن سعد 6: 118، وابن أبي حاتم 4/2/109-110.
وهذا الخبر سيأتي بإسناد آخر، بنحوه: 3010.
وقد ذكره الحافظ في الفتح 4: 117، قال: "روى ابن المنذر بإسناد صحيح، عن علي: أنه صلى الصبح ثم قال: الآن حين تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود". ولكن ذكره السيوطي 1: 199، بنحوه، بلفظ"أنه قال حين طلع الفجر. . "! ونسبه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير. وأنا أكاد أرجح أن قوله"طلع الفجر" تحريف من الناسخين، لأن روايتي الطبري، هذه والآتية، فيهما"صلى الفجر"، وأيده ما نقله الحافظ من رواية ابن المنذر.(3/519)
3002- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا ابن الصلت قال، حدثنا إسحاق بن حذيفة العطار، عن أبيه، عن البراء، قال: تسحرت في شهر رمضان، ثم خرجت فأتيت ابن مسعود، فقال: اشربْ. فقلت: إنّي قد تسحَّرت! فقال: اشرب! فشربنا، ثم خرجنا والناس في الصلاة (1) .
3003- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو معاوية، عن الشيباني، عن جبله بن سحيم، عن عامر بن مطر، قال: أتيت عبد الله بن مسعود في داره، فأخرجَ فضلا من سَحُوره، فأكلنا معه، ثم أقيمت الصلاة فخرجنا فصلينا (2) .
3004- حدثنا خلاد بن أسلم قال، حدثنا أبو بكر بن عياش، عن أبي
__________
(1) الخبر: 3002- هذا إسناد مشكل، لا أدري ما هو؟
فابن الصلت: يدور بين اثنين في هذه الطبقة، "محمد بن الصلت بن الحجاج الأسدي"، و"محمد بن الصلت التوزي". فلا أدري أيهما هو؟ أم هو غيرهما.
وإسحاق بن حذيفة العطار، وأبوه: لم أجد لهما ترجمة، ولا ذكرا، في شيء مما بين يدي من المراجع. وأخشى أن يكون فيهما معا تحريف، فلئن تركوا ترجمة"إسحاق" ليبعدن أن يتركوا ترجمة أبيه، وهو في ظاهر هذا الإسناد تابعي، يروي عن صحابي، وهو البراء بن عازب. وانظر الخبر الذي بعده.
(2) الخبر: 3003- أما هذا فإسناده صحيح. الشيباني: هو أبو إسحاق سليمان بن أبي سليمان، مضت ترجمته: 1037.
جبلة بن سحيم - بضم السين المهملة، التيمي الشيباني: تابعي ثقة، ينسب إلى"تيم بن شيبان"، فهو"تيمي"، و"شيباني".
عامر بن مطر الشيباني: تابعي ثقة. مترجم في ابن سعد 6: 82، وابن أبي حاتم 3/1/328، ولسان الميزان 3: 225. وروى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن الحكم بن بشير، قال: "أبو مطر، الذي يروي عنه جبلة بن سحيم: هو عامر بن مطر، شيباني، رجل له شأن في المسلمين".
وهذا الخبر رواه ابن حزم في المحلى 7: 233، من طريق ابن أبي شيبة: "حدثنا أبو معاوية، عن الشيباني - هو أبو إسحاق. . " فذكره، بهذا الإسناد، نحوه.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 154 مختصرا، هكذا: "وعن مطر الشيباني، قال: تسحرنا مع عبد الله، ثم خرجنا فأقيمت الصلاة، رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح". فسمى التابعي"مطر الشيباني". وهو تحريف -فيما أرجح- فليس في الرواة من هذا اسمه. وما أدري: التحريف من رواة الطبراني، أم من الهيثمي، أم من ناسخ أو طابع؟ ولكنه -عندي- تحريف على كل حال.(3/520)
إسحاق، عن عبد الله بن معقل، عن سالم مولى أبي حذيفة قال، كنت أنا وأبو بكر الصديق فوق سطح واحد في رمضان، فأتيت ذات ليلة فقلت: ألا تأكل يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فأومأ بيده: أنْ كُفَّ، ثم أتيته مرة أخرى، فقلت له: ألا تأكلُ يا خليفة رسول الله؟ فأومأ بيده: أنْ كُف. ثم أتيته مرة أخرى، فقلت: ألا تأكل يا خليفةَ رسول الله؟ فنظر إلى الفجر ثم أومأ بيده: أنْ كُفّ. ثم أتيته فقلت: ألا تأكل يا خليفة رسول الله؟ قال: هات غَداءك! قال: فأتيته به فأكل، ثم صلى ركعتين، ثم قام إلى الصلاة (1) .
3005- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا شعبة، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال: الوتر بالليل والسَّحور بالنهار.
وقد رُوي عن إبراهيم غير ذلك:
3006- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن حماد، عن إبراهيم، قال: السحور بليل، والوتر بليل.
3007- حدثنا حكام، عن ابن أبي جعفر، عن المغيرة، عن إبراهيم، قال: السحور والوتر ما بين التَّثْويب والإقامة.
3008- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة،
__________
(1) الخبر: 3004- هذا إسناد ضعيف، لانقطاعه.
خلاد بن أسلم، أبو بكر الصفار، شيخ الطبري: ثقة، من شيوخ عبد الله بن أحمد، والترمذي والنسائي، مات في جمادى الآخرة سنة 249. مترجم في التهذيب، والصغير للبخاري ص: 237، وتاريخ بغداد 8: 342-343.
عبد الله بن معقل -بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف - بن مقرن - بضم الميم وفتح القاف وكسر الراء المشددة- المزني: تابعي ثقة، يروي عن أبيه، وهو صحابي، وعن علي، وابن مسعود، وغيرهم. ولكنه لم يدرك أن يروي عن سالم مولى أبي حذيفة، لأنه مات سنة 88، وسالم قتل باليمامة سنة 12 في خلافة أبي بكر. ولذلك تعقب الحافظ ابن حجر في التهذيب، ما ذكره أصله، فقال: "وأطلق المؤلف روايته عن سالم مولى أبي حذيفة. والظاهر أنها مرسلة، لأنه قتل باليمامة". وابن معقل هذا مترجم في التهذيب. والصغير للبخاري، ص: 93-94، وابن سعد 6: 121-122، والإصابة 5: 144. ووقع في المطبوعة هنا"عبيد الله"، بالتصغير، وهو خطأ.
سالم مولى أبي حذيفة: صحابي قديم الموت، كما قلنا آنفًا. وهو الذي وردت في شأنه سنة إرضاع الكبير. وهو مولى ثبيتة بنت يعار الأنصارية زوج أبي حذيفة، هي التي أعتقته، فتولى أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة القرشي زوجها. قال ابن سعد: "فسالم يذكر في الأنصار في بني عبيد، لعتق ثبيتة بنت يعار إياه، ويذكر في المهاجرين، لموالاته لأبي حذيفة". وهو مترجم في الكبير 2/2/108، والصغير، ص: 21، 22، وابن سعد 3/1/60-62، وابن أبي حاتم 2/1/189، والإصابة 3: 56-57. وقال ابن أبي حاتم: "لا أعلم روى عنه". وتعقبه الحافظ في الإصابة، فذكر له رواية حديثين مرفوعين، ثم قال: "وفي السندين جميعا ضعف وانقطاع. فيحمل كلام ابن أبي حاتم على أنه لم يصح عنه شيء". ولم يذكر الحافظ رواية الطبري هذه، وهي منقطعة أيضًا.
وهذا الخبر ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 4: 154، مختصرا قليلا، وقال: "رواه الطبراني في الكبير، ورجاله رجال الصحيح". هكذا قال، فلم يشر إلى علته بالانقطاع، إلا أن يكون إسناد الطبراني متصلا براو آخر فوق عبد الله بن معقل، فلعل. ولكني لا أظن ذلك.
نعم ذكر الحافظ في الفتح 4: 117، أن ابن المنذر"روى بإسناد صحيح، عن سالم بن عبيد الأشجعي، وله صحبة: أن أبا بكر قال له: اخرج فانظر هل طلع الفجر؟ قال: فنظرت ثم أتيته، فقلت: قد ابيض وسطع، ثم قال: اخرج فانظر هل طلع؟ فنظرت فقلت: قد اعترض، فقال: الآن أبلغني شرابي". فهذا سالم بن عبيد صحابي معروف من أهل الصفة. والرواية عنه تأتي من وجه آخر غير رواية سالم مولى أبي حذيفة. فإن كان الإسناد إليه صحيحا كما قال الحافظ، فهو ذلك، إلا أن يكون ذكر سالم بن عبيد" خطأ من بعض الرواة، فليس عندي بيان آخر عن إسناد ابن المنذر.
وقد روى ابن حزم في المحلى 6: 232، نحو هذا المعنى، بألفاظ أخر، عن أبي بكر:
فقال ابن حزم: "روينا من طريق معمر، عن أبان، عن أنس، عن أبي بكر الصديق، أنه قال: إذا نظر الرجلان إلى الفجر، فشك أحدهما، فليلأكلا حتى يتبين لهما".
"ومن طريق أبي أحمد الزبيري، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن سالم بن عبيد، قال: كان أبو بكر الصديق يقول لي: قم بيني وبين الفجر حتى أتسحر".
ومن طريق ابن أبي شيبة، عن جرير بن عبد الحميد، عن منصور بن المعتمر، عن هلال بن يساف، عن سالم بن عبيد الأشجعي، قال: قم فاسترني من الفجر، ثم أكل".
وهذا اللفظ الأخير مختصر، يفهم مما قبله أنه حكاية عن أبي بكر أيضًا، ولعله سقط منه شيء من ناسخي المحلى.
ثم قال ابن حزم: "سالم بن عبيد هذا: أشجعي كوفي، من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهذه أصح طريق يمكن أن تكون".
وأنا أرجح أن يكون طريق ابن المنذر -الذي نقله الحافظ في الفتح- مثل هذين الطريقين الأخيرين، اللذين نقلهما ابن حزم، فيكون من رواية هلال بن يساف عن سالم بن عبيد. واستبعد جدا أن يكون طريق الطبراني، الذي ذكره الهيثمي-: من هذا الوجه.
ثم روى ابن حزم 6: 233، نحو هذا المعنى، من رواية أبي السفر، ومن رواية أبي قلابة - كلاهما عن أبي بكر. وهما إسنادان منقطعان، فإن أبا السفر وأبا قلابة لم يدركا أبا بكر يقينا.(3/521)
عن شبيب بن غرقدة، عن عروة، عن حبان، قال: تسحرنا مع عليّ، ثم خرجنا وقد أقيمت الصلاة، فصلينا (1) .
3009- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن
__________
(1) الخبر: 3008- شبيب بن غرقدة السلمي: تابعي ثقة، وثقه أحمد وابن معين وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 2/2/232، وابن أبي حاتم 2/1/357.
عروة: هو ابن أبي الجعد الأزدي البارقي: صحابي معروف. قال البخاري: "وبارق: جبل، نزله بعض الأزد".
حبان - بكسر الحاء المهملة وتشديد الباء الموحدة: هو ابن الحارث، أبو عقيل، وهو تابعي ثقة. ترجمه البخاري في الكبير 2/1/77، وابن أبي حاتم 1/2/269، والدولابي في الكنى 2: 33.
وهكذا وقع في الطبري عن شيخه محمد بن المثنى -في هذا الإسناد- زيادة"عروة البارقي" بين"شبيب" و"حبان بن الحارث". وسيأتي الخبر عقب هذا: 3009، من رواية سفيان بن عيينة، عن شبيب، عن حبان، مباشرة دون واسطة، وهو الثابت المحفوظ عن شبيب. فلعل ابن المثنى -شيخ الطبري- وهم في هذه الزيادة، أو لعله كان من رواية شبيب، عن عروة وعن حبان، كلاهما عن علي، ثم اختلط في الإسناد على الناسخين.
فإن البخاري روى هذا الخبر، في ترجمة"حبان" في التاريخ الكبير، موجزا بالإشارة كعادته - على الصواب، من الوجه الذي رواه الطبري هنا:
فقال البخاري: "حدثنا محمد، قال: حدثنا غندر، قال: حدثنا شعبة، عن شبيب، عن حبان: تسحرنا مع علي".
فحمد - شيخ البخاري: هو محمد بن بشار الحافظ. وغندر: هو هو محمد بن جعفر شيخ ابن المثنى في إسناد الطبري هذا. وهو قد رواه -كما ترى- دون واسطة بين شبيب وحبان.
وكذلك رواه البخاري بثلاثة أسانيد عن شبيب عن حبان، فقال: "قال ابن محبوب، عن عمر الأبار، عن منصور، عن شبيب، عن حبان بن الحارث: تسحرنا مع علي. وقال جرير، عن منصور، عن شبيب، عن أبي عقيل. قال حسين، عن زائدة، عن شبيب، عن طارق بن قرة، وحبان بن الحارث، بهذا". وقد زاد في الإسناد الأخير للبخاري: أن شبيبا رواه عن طارق بن طارق بن قرة، عن علي، كمثل روايته إياه عن حبان، عن علي. و"طارق بن قرة": تابعي، لم يترجمه البخاري في الكبير، ولكن ترجمه ابن أبي حاتم 2/1/486، قال: "طارق بن قرة: روى عن علي، روى عنه شبيب بن غرقدة". وبذلك ترجمه أيضًا ابن حبان في الثقات، ص: 229.
ورواية البخاري، من طريق جرير عن منصور - رواها ابن حزم في المحلى 6: 233 مفصلة، قال: "ومن طريق ابن أبي شيبة: حدثنا جرير، هو ابن عبد الحميد، عن منصور بن المعتمر، عن شبيب بن غرقدة، عن أبي عقيل، قال: تسحرت مع علي بن أبي طالب، ثم أمر المؤذن أن يقيم الصلاة".
فهذه أسانيد تدل على أن ذكر"عروة البارقي" في إسناد الطبري هنا - إما سهو من ابن المثنى، وإما إضافة في الرواية مع حبان -لا رواية عنه- ثم حرفت من الناسخين.(3/523)
شبيب، عن حبان بن الحارث، قال: مررت بعليّ وهو في دار أبي موسى وهو يتسحَّر، فلما انتهيتُ إلى المسجد أقيمت الصلاة (1) .
3010- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي إسحاق، عن أبي السفر، قال: صلى عليُّ بن أبي طالب الفجرَ، ثم قال: هذا حين يتبيَّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر (2) .
* * *
وعلة من قال هذا القول: أنَّ القول إنما هو النهارُ دون الليل. قالوا: وأول النهار طلوعُ الشمس، كما أنّ آخرَه غروبُها. قالوا: ولو كان أوله طلوعُ الفجر، لوَجب أن يكون آخرَه غروبُ الشفق. قالوا: وفي إجماع الحجة على أنَّ آخر النهار غروب الشمس، دليلٌ واضح على أن أوله طلوعها. قالوا: وفي الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تسحر بعد طُلوع الفجر، أوضحُ الدليل على صحة قولنا.
ذكر الأخبار التي رويت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك:
3011- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة، قال: قلت: تسحَّرتَ مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قال: لو أشاءُ لأقولُ هو النهارُ إلا أنّ الشمس لم تطلع (3) .
__________
(1) الخبر: 3009- سفيان: هو ابن عيينة. والخبر تكرار في معناه للخبر قبله. ورواه أيضًا ابن حزم في المحلى 6: 233، قال: "وعن سفيان بن عيينة، عن شبيب بن غرقدة، عن حبان بن الحارث: أنه تسحر مع علي بن أبي طالب، وهما يريدان الصيام، فلما فرغ قال للمؤذن: أقم الصلاة".
(2) الخبر: 3010- أبو السفر -بفتح الفاء-: هو سعيد بن محمد، بضم الياء التحتية وسكون الحاء المهملة وكسر الميم، وهو تابعي ثقة، يروي عن متوسطي الصحابة، كابن عباس وابن عمر. وهذا الإسناد منقطع، لأن أبا السفر لم يدرك أن يروي عن علي بن أبي طالب. وقد مضى معناه عن علي، بإسناد آخر متصل: 3001.
(3) الحديث: 3011- عاصم: هو ابن بهدلة، وهو ابن أبي النجود -بفتح النون- الكوفي المقرئ، أحد القراء السبعة. وهو ثقة، أخرج له أصحاب الكتاب الستة. زر - بكسر الزاي وتشديد الراء: هو ابن حبيش، التابعي الثقة. مضى في: 274. حذيفة: هو ابن اليمان العبسي، صحابي مشهور، مناقبه كثيرة معروفة.
وهذا الحديث رواه ابن ماجه: 1695، عن علي بن محمد، هو الطنافسي، عن أبي بكر بن عياش، بهذا الإسناد نحوه، مختصرا. وسيأتي مزيد تخريج له في الثلاثة بعده.(3/524)
3012- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر، قال: ما كذب عاصمٌ على زرّ، ولا زرّ على حذيفة، قال: قلتُ له: يا أبا عبد الله تسحرت مع النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم هو النهارُ إلا أن الشمس لم تطلع (1) .
3013- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا مؤمل قال، حدثنا سفيان، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يتسحَّر وأنا أرى مواقعَ النَّبل. قال: قلت أبعدَ الصبح؟ قال: هو الصبح، إلا أنه لم تطلع الشمس (2) .
3014- حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا الحكم بن بشير، قال: حدثنا عمرو بن قيس وخلاد الصفار، عن عاصم بن بهدلة، عن زر بن حبيش، قال: أصبحت ذات يوم فغدوتُ إلى المسجد، فقلت: لو مررت على باب حذيفة! ففتح لي فدخلتُ، فإذا هو يسخّن له طعامٌ، فقال: اجلس حتى تطعَم. فقلت: إنّي أريد الصوم. فقرّب طعامه فأكل وأكلت معه، ثم قام إلى لِقْحة في الدار، فأخذ يحلُب من جانب وأحلُب أنا من جانب، فناولني، فقلت: ألا ترى الصبح؟ فقال: اشرب! فشربتُ، ثم جئتُ إلى باب المسجد فأقيمت الصلاة، فقلت له: أخبرني بآخر
__________
(1) الحديث: 3012- هو الحديث السابق بمعناه، بالإسناد نفسه. ولكن هذا جاء بصيغة في التوكيد موثقة، قصد بها أبو بكر بن عياش رفع شبهة الخطأ أو التزيد في الرواية.
(2) الحديث: 3013- سفيان: هو الثوري.
والحديث في معنى الحديثين قبله. وقد رواه أحمد في المسند 5: 400 (حلبي) ، عن وكيع، عن سفيان، بهذا الإسناد نحوه. وكذلك رواه النسائي 1: 303، وابن حزم في المحلى 6: 232 - كلاهما من طريق وكيع.
وفي الفتح 4: 117 أنه رواه"سعيد بن منصور، عن أبي الأحوص، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة، قال: تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، هو والله النهار، غير أن الشمس لم تطلع"(3/525)
سَحور تسحَّرته مع رَسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال: هو الصبح إلا أنه لم تطلع الشمسُ (1) .
3015- حدثنا أحمد بن إسحاق الأهوازي قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا حماد، عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"إذا سمع أحدكم النداءَ والإناءُ على يده، فلا يضعه حتى يقضيَ حاجته منه" (2) .
__________
(1) الحديث: 3014- الحكم بن بشير النهدي: مضت ترجمته: 1497. وعمرو بن قيس هو الملائي، مضت ترجمته: 886.
خلاد الصفار: هو خلاد بن عيسى العبدي، ويقال: خلاد بن مسلم. وهو ثقة. مترجم في التهذيب والكبير 2/1/171، وابن أبي حاتم 1/2/367.
وهذا الحديث تكرار للثلاثة قبله في معناها، إلا أنه مطول في قصة. وقد روى نحو هذه القصة - حماد بن سملة، عن عاصم، عن زر، عن حذيفة:
فرواها أحمد 5: 396 (حلبي) ، عن عفان، عن حماد بن سلمة.
وكذلك رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 324، وابن حزم في المحلى 6: 231: 232، كلاهما من طريق روح بن عبادة، عن حماد بن سلمة.
ورواه أحمد أيضًا 5: 405 (حلبي) ، من طريق شريك بن عبد الله -هو النخعي القاضي- عن عاصم، عن زر، قال: "قلت، يعني لحذيفة: يا أبا عبد الله، تسحرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نعم، قلت: أكان الرجل يبصر مواقع نبله؟ قال: نعم، هو النهار، إلا أن الشمس لم تطلع".
وقد ذكر ابن كثير 1: 422 رواية حماد بن سلمة عن عاصم - مختصرة، ونسبها لأحمد، والنسائي وابن ماجه، وقال: "وهو حديث تفرد به عاصم بن أبي النجود، قاله النسائي". ولم أجده في النسائي من رواية حماد ولم أجد كلمة النسائي أيضًا. فلعل ذلك في السنن الكبرى.
وقال الحافظ في الفتح 4: 117، بعد نقله رواية سعيد بن منصور وإشارته إلى رواية الطحاوي عن حذيفة: "روى ابن أبي شيبة وعبد الرزاق ذلك عن حذيفة، من طرق صحيحة".
"اللقحة": الناقة القريبة العهد بالولادة، فهي من ذوات الألبان.
(2) الحديث: 3015- هذا إسناد صحيح.
روح بن عبادة القيسي، من بني قيس بن ثعلبة: ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة، ووثقه ابن معين وغيره. تكلم فيه بعضهم بغير حجة. مترجم في التهذيب، والكبير 2/1/282-283، وابن سعد 7/2/50، وابن أبي حاتم 1/2/498-499، وتاريخ بغداد 8: 401-406.
"عبادة": بضم العين المهملة وتخفيف الباء الموحدة. ووقع في المطبوعة، في هذا الإسناد والذي بعده"روح بن جنادة"! وهو تصحيف، ولا يوجد راو بهذا الاسم.
حماد: هو ابن سلمة.
محمد بن عمرو بن علقمة بن وقاص الليثي: ثقة، أخرج له الجماعة أيضًا.
أبو سلمة: هو ابن عبد الرحمن بن عوف.
والحديث رواه أحمد في المسند: 10637 (2: 510 حلبي) ، عن روح بن عبادة، بهذا الإسناد واللفظ.
ورواه أحمد أيضًا: 9468 (2: 423 حلبي) ، عن غسان بن الربيع، عن حماد بن سلمة، بهذا الإسناد. وقرن إليه إسنادا آخر مرسلا، عن يونس، عن الحسن، عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه أبو داود: 2350، عن عبد الأعلى بن حماد النرسي. عن حماد بن سلمة، به. وكذلك رواه الحاكم في المستدرك 1: 426، من طريق عبد الأعلى، وقال الحاكم: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
وانظر تعليقنا على الحديث، فيما كتبنا على مختصر السنن للمنذري: 2249 (3: 233، 234) .(3/526)
3016- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا روح بن عبادة قال، حدثنا حماد، عن عمار بن أبي عمار، عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله- وزاد فيه: وكان المؤذن يؤذن إذا بَزَغ الفجر (1) .
3017- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين = وحدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق، قال، سمعت أبي قال، أخبرنا الحسين بن واقد = قالا جميعا، عن أبي غالب، عن أبي أمامة قال: أقيمت الصلاة والإناءُ في يد عمر، قال: أشرَبُها يا رسول الله؟ قال: نعم!، فشربها (2) .
__________
(1) الحديث: 3016- عمار بن أبي عمار مولى بني هاشم: تابعي ثقة، أخرج له مسلم في صحيحه.
والحديث رواه أحمد في المسند: 10638، عن روح بن عبادة، بهذا الإسناد، عقب الحديث السابق، كما صنع الطبري تماما.
وذكره ابن حزم في المحلى 6: 232، من رواية حماد بن سلمة، به، وساق لفظه كاملا. وزاد في آخره: وقال حماد، عن هشام بن عروة: كان أبي يفتي بهذا".
(2) الحديث: 3017- رواه الطبري بإسنادين: فرواه عن بن حميد، عن يحيى بن واضح، عن الحسين بن واقد - ثم استأنف إسنادا آخر، فرواه عن محمد بن علي بن الحسن، عن أبيه، عن الحسين بن واقد، فاجتمع الطريقان في الحسين بن واقد، عن أبي غالب، إلخ.
ويحيى بن واضح: هو أبو تميلة، مضت ترجمته: 392.
أبو غالب: هو صاحب أبي أمامة، وقد اختلف في اسمه: فقيل: "حزور"، بفتح الحاء المهملة والزاي والواو المشددة وآخره راء. وقيل: "سعيد بن الحزور"، وهو الذي اقتصر عليه ابن سعد 7/2/7. واختصر البخاري في الكبير 2/1/124 على"حزور". وترجمه ابن أبي حاتم في الترجمتين 1/2/315-316، ثم 2/1/13، وقال في الموضع الثاني: "وحزور أصح". وهو ثقة، وتكلم فيه بعضهم. ووثقه الدارقطني، وحسن الترمذي بعض أحاديثه، وصحح بعضها. مترجم في التهذيب 12: 197-198.
أبو أمامة: هو الباهلي، واسمه: "صدي" بضم الصاد وفتح الدال المهملتين وتشديد الياء"بن عجلان". وهو صحابي معروف مات سنة 86 وقد جاوز المئة، لأنه ثبت أنه كان ابن 30 سنة أو 33. ووقع في ابن سعد 7/2/131-132 أنه مات وهو ابن 61 سنة! وهو خطأ فاحش.
وهذا الحديث صحيح الإسناد. ولم أجده في غير هذا الموضع من تفسير الطبري.(3/527)
3018- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا يونس، عن أبيه، عن عبد الله، قال: قال بلال:"أتيتُ النبيّ صلى الله عليه وسلم أُوذِنه بالصلاة وهو يريد الصوم، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولني فشربتُ، ثم خرج إلى الصلاة (1) .
3019- حدثني محمد بن أحمد الطوسي قال، حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا إسرائيل، عن أبي إسحاق عن عبد الله بن معقل، عن بلال قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم أوذنه بصلاة الفجر وهو يريد الصيام، فدعا بإناء فشرب، ثم ناولني فشربتُ، ثم خرجنا إلى الصلاة (2) .
* * *
__________
(1) الحديث: 3018- يونس: هو ابن أبي إسحاق السبيعي، وهو ثقة، وثقه ابن معين وابن سعد وغيرهما. مترجم في التهذيب، والكبير 4/2/408، وابن سعد 6: 252، وابن أبي حاتم 4/2/243-244.
عبد الله: هو ابن معقل بن مقرن المزني، مضت ترجمته: 3004.
بلال: هو ابن رباح، مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم، من المهاجرين الأولين، مات في طاعون عمواس، سنة: 17، أو 18. ولم يدركه عبد الله بن معقل المتوفى سنة: 88. فالإسناد إليه ضعيف لانقطاعه.
وسيأتي تخريج الحديث في الإسناد التالي.
(2) الحديث: 3019- محمد بن أحمد الطوسي، شيخ الطبري: لم أعرف من هو؟ "عبد الله بن معقل": بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف. وثبت في المطبوعة هنا"مغفل"، وهو تصحيف.
والحديث رواه أحمد في المسند 6: 12 (حلبي) عن يحيى بن آدم، وأبي أحمد الزبيري - كلاهما عن إسرائيل، بهذا الإسناد، نحوه. ثم رواه 6: 13، عن حسين بن محمد، عن إسرائيل، به. وهو حديث ضعيف، لانقطاعه بين ابن معقل بن مقرن وبلال، كما بينا.
وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 3: 152، من رواية أحمد الأولى، وقال: "رواه أحمد، والطبراني في الكبير". ثم ذكر رواية أحمد الثانية، ثم قال: "ورجالهما رجال الصحيح". ففاته أن يعلمه بالانقطاع.
وروى أحمد أيضًا 6: 13، عن وكيع، عن جعفر بن برقان، عن شداد مولى عياض بن عامر، عن بلال: "أنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يؤذنه بالصلاة، فوجده يتسحر في مسجد بيته". وهذا ذكره الهيثمي أيضًا عن المسند، ثم قال: "وشداد مولى عياض: لم يدرك بلالا". وهو كما قال.(3/528)
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالآية، التأويلُ الذي رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:"الخيط الأبيض" بياض النهار،"والخيط الأسود" سوادُ الليل. وهو المعروف في كلام العرب، قال أبو دُؤاد الإياديّ:
فَلَمَّا أضَاءت لَنَا سُدْفَةٌ ... وَلاحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا (1)
* * *
وأما الأخبارُ التي رويتْ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه شرب أو تسحَّر، ثم خرج إلى الصلاة، فإنه غير دافع صحةَ ما قلنا في ذلك؛ لأنه غير مستنكر أن يكون صلى الله عليه وسلم شَرب قبل الفجر، ثم خرج إلى الصلاة، إذ كانت الصلاةُ -صلاة الفجر- هي على عهده كانت تُصلى بعد ما يطلع الفجر ويتبيَّن طلوعه ويؤذَّن لها قبل طلوعه.
وأما الخبر الذي رُوي عن حذيفة:"أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتسحر وأنا أرى مَواقعَ النَّبل"، فإنه قد استُثبتَ فيه فقيل له: أبعد الصبح؟ فلم يجب
__________
(1) الأصمعيات: 28 من أبيات. يصف فرسا خرج عليه للصيد، واللسان (خيط) . وفي الأصمعيات: "خير أنارا" ولا معنى لها. والسدفة: ظلمة الليل في لغة نجد، والضوء في لغة قيس، وهي أيضًا: اختلاط الضوء والظلمة جميعا، كوقت ما بين صلاة الفجر إلى أولى الإسفار. قال عمارة: ظلمة فيها ضوء من أول الليل وآخره، ما بين الظلمة إلى الشفق، وما بين الفجر إلى الصلاة. وأراد أبو دؤاد اختلاط الظلمة والضوء. ولاح: بدا وظهر من بعيد. والخيط: اللون هنا يكون ممتدا كالخيط.(3/529)
في ذلك بأنه كان بعد الصبح، ولكنه قال:"هو الصبح". وذلك من قوله يُحتمل أن يكون معناهُ: هو الصبح لقربه منه، وإن لم يكن هو بعينه، كما تقول العرب:"هذا فلان" شبها، وهي تشير إلى غير الذي سمَّته، فتقول:"هو هو" تشبيها منها له به، فكذلك قول حذيفة:"هو الصبح"، معناه: هو الصبح شبها به وقربا منه.
* * *
وقال ابن زيد في معنى"الخيط الأبيض والأسود" ما:
3020- حدثني به يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد:"حتى يتبيَّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر" قال:"الخيط الأبيض" الذي يكون من تحت الليل، يكشف الليل -"والأسود" ما فوقه.
* * *
وأما قوله:"من الفجر" فإنه تعالى ذكره يعني: حتى يتبين لكم الخيطُ الأبيضُ من الخيط الأسود الذي هو من الفجر. وليس ذلك هوَ جميعَ الفجر، ولكنه إذا تبيَّن لكم أيها المؤمنون من الفجر ذلك الخيط الأبيض الذي يكون من تحت الليل الذي فوقه سواد الليل، فمن حينئذ فصُوموا، ثم أتِمُّوا صيامكم من ذلك إلى الليل.
وبمثل ما قلنا في ذلك كان ابن زيد يقول:
3021- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"منَ الفجر" قال: ذلك الخيط الأبيضُ هو من الفجر نسبةً إليه، وليس الفجر كله، فإذا جاء هذا الخيط، وهو أوله، فقد حلت الصلاةُ وحَرُم الطعام والشراب على الصائم.
* * *
قال أبو جعفر: وفي قوله تعالى ذكره:"وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيضُ من الخيط الأسود من الفجر ثم أتموا الصيامَ إلى الليل" أوضحُ(3/530)
الدلالة على خطأ قول من قال: حلالٌ الأكلُ والشربُ لمن أراد الصوم إلى طلوع الشمس؛ لأن الخيط الأبيض من الفجر يتبين عند ابتداء طلوع أوائل الفجر، وقد جعل الله تعالى ذكره ذلك حدًّا لمن لزَمه الصوم في الوقت الذي أباح إليه الأكل والشرب والمباشرة.
فمن زعم أنّ له أنْ يتجاوز ذلك الحدّ، قيل له: أرأيتَ إن أجازَ له آخَرُ ذلك ضحوةً أو نصف النهار؟
فإن قال: إنّ قائلَ ذلك مخالف للأمة.
قيل له: وأنتَ لما دلَّ عليه كتاب الله ونقلُ الأمة مخالفٌ، فما الفرق بينك وبينه من أصْل أو قياس؟
فإن قال: الفرق بيني وبينه أن الله أمر بصوم النهار دون الليل، والنهارُ من طلوع الشمس.
قيل له: كذلك يقول مخالفوك، والنهار عندهم أوَّله طلوع الفجر، وذلك هو ضوء الشمس وابتداءُ طلوعها دون أن يتتامَّ طلوعها، كما أن آخر النهار ابتداءُ غروبها دون أن يتتامَّ غروبها.
ويقال لقائلي ذلك (1) إن كان"النهار" عندكم كما وصفتم، هو ارتفاع الشمس، وتكامل طُلوعها وذهاب جميعُ سدْفة الليل وَغبَس سواده -فكذلك عندكم"الليل": هو تتامُّ غروب الشمس، وذهاب ضيائها، وتكامل سواد الليل وظلامه؟
فإن قالوا: ذلك كذلك!
قيل لهم: فقد يجبُ أن يكون الصوم إلى مَغيب الشفق وذهاب ضوء الشمس وبياضها من أفق السماء!
__________
(1) جمع القائلين، بعد الإفراد.(3/531)
فإن قالوا: ذلك كذلك! أوجبوا الصومَ إلى مغيب الشفق الذي هوَ بياضٌ. وذلك قولٌ إنْ قالوه مدفوعٌ بنقل الحجة التي لا يجوز فيما نقلته مُجمعةً عليه -الخطأُ والسهوُ، [وكفى بذلك شاهدا] على تخطئته (1) .
وإن قالوا:"بل أول الليل" ابتداء سُدْفته وظلامه ومَغيبُ عَين الشمس عنا.
قيل لهم: وكذلك"أول النهار": طلوع أوّل ضياء الشمس ومغيب أوَائل سُدفة الليل.
ثم يعكس عليه القول في ذلك، (2) ويُسأل الفرقَ بين ذلك، فلن يقول في أحدهما قولا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
وأما"الفجر" فإنه مصدر من قول القائل:"تفجَّر الماءُ يتفجَّرُ فجرًا"، (3) إذا انبعثَ وجرى، فقيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلع الشمس"فجر"، لانبعاث ضوئه عليهم، وتورُّده عليهم بطرُقهم ومحاجِّهم، تفجُّرَ الماء المتفجِّر من منبعه.
* * *
وأما قوله:"ثم أتموا الصيام إلى الليل" فإنه تعالى ذكره حَدَّ الصوم بأن آخرَ وقته إقبالُ الليل - كما حدَّ الإفطارَ وإباحةَ الأكل والشرب والجماع وأوَّل الصوم بمجيء أول النهار وأوَّل إدبار آخر الليل، فدلّ بذلك على أن لا صومَ بالليل، كما لا فطر بالنهار في أيام الصوم = وعلى أنّ المواصل مجوِّعٌ نفسه في غير طاعة ربه. كما: -
__________
(1) ما بين القوسين زيادة لا بد منها لسياق الجملة.
(2) عاد مرة أخرى فأفرد القائل بعد جمع القائلين. ولولا الضمائر الكثيرة التي تمنع ظن التحريف أو التصحيف في جمل متتابعة. لغيرتها. ولعل أبا جعفر كان يسهو أحيانا عن مثل ذلك. لجوازه في العربية.
(3) هكذا جاء في المطبوعة، ولم أملك أن أغيره، لأن كلامه دال على أنه يجعله مصدرا، لقولهم: "تفجر" بالتاء وتشديد الجيم. وكأنه يحمله على أنه من المصادر التي جاءت على غير بناء أفعالها. كما مضى ذلك آنفًا في 1: 116-118. وانظر تفسير"التفجر" فيما سلف 2: 238.(3/532)
3022- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو معاوية ووكيع وعبدة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عاصم بن عمر، عن عمر، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل وأدبر النهارُ وغابت الشمس، فقد أفطر الصائم. (1) .
3023- حدثنا هناد قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو إسحاق الشيباني = وحدثنا هناد بن السري قال، حدثنا أبو عبيدة وأبو معاوية، عن الشيباني = وحدثنا ابن المثنى قال حدثنا أبو معاوية = وحدثني أبو السائب قال، حدثنا ابن إدريس، عن الشيباني = قالوا جميعا في حديثهم، عن عبد الله بن أبي أوفى قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في مسير وهو صائم، فلما غَرَبت الشمسُ قال لرجل: انزل فاجدَحْ لي. قالوا: لو أمسيت يا رسول الله! فقال: انزل فاجدح. فقال الرجل: يا رسول الله لو أمسيت! قال: انزل فاجدح لي. قال: يا رسول الله إن علينا نهارا! فقال له الثالثة، فنزل فجدح له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا أقبل الليل من هاهنا - وضرب بيده نحو المشرق - فقد أفطر الصائم (2) .
__________
(1) الحديث: 3022- عبدة: هو ابن سليمان.
عاصم: هو ابن عمر بن الخطاب، وهو تابعي ثقة، ولد في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم. ووقع في المطبوعة هنا عاصم بن عمرو"، وهو خطأ.
والحديث رواه بنحوه، أحمد في المسند: 192، 383، عن وكيع، عن هشام، بهذا الإسناد.
ورواه أيضًا: 231، عن ابن نمير، و 338، عن سفيان بن عيينة - كلاهما عن هشام.
ورواه البخاري 4: 171 (فتح) ، من طريق ابن عيينة.
ورواه مسلم 1: 303، من طريق أبي معاوية، وابن نمير، وأبي أسامة - ثلاثتهم عن هشام.
ورواه أبو داود: 2351، عن أحمد بن حنبل، عن وكيع، وعن مسدد. عن عبد الله بن داود - كلاهما عن هشام بن عروة.
(2) الحديث: 3023- رواه الطبري بأسانيد، تجتمع كلها في أبي إسحاق الشيباني.
فرواه عن هناد بن السري، عن ثلاثة شيوخ: عن أبي بكر بن عياش، وأبي عبيدة، وأبي معاوية. ورواه عن محمد بن المثنى، عن أبي معاوية. ورواه عن أبي السائب سلم بن جنادة، عن عبد الله بن إدريس الأودي - كلهم عن أبي إسحاق الشيباني، واسمه: سليمان بن أبي سليمان، عن عبد الله بن أبي أوفى.
أبو عبيدة: هو عبد الواحد بن واصل الحداد، وهو ثقة من شيوخ أحمد. مترجم في التهذيب، وابن أبي حاتم 3/1/24، وتاريخ بغداد 11: 3-5.
ووقع في المطبوعة في هذا الجزء من الإسناد: "حدثنا أبو عبيدة وأبو معاوية، عن شيبان". وهو خطأ واضح، ليس لشيبان صلة بهذا الإسناد. صوابه: "عن الشيباني"، كما أثبتناه.
والحديث رواه البخاري 4: 156، من طريق سفيان بن عيينة، و 171-172، من طريق خالد بن عبد الله الواسطي، و 172، من طريق عبد الواحد بن زياد العبدي، و 173، من طريق أبي بكر بن عياش. ورواه مسلم 1: 303، من طريق هشيم، وعلي بن مسهر، وعباد بن العوم، وعبد الواحد بن زياد، وسفيان، وجرير، وشعبة. ورواه أبو داود: 2352، من طريق عبد الواحد بن زياد - كلهم عن أبي إسحاق الشيباني، به، نحوه.
جدح السويق في اللبن أو الماء: إذا خاضه وحركه حتى يختلط ويستوي. وقوله: "ضرب بيده"، يعني أشار بيده مادا يده كفعل الضارب. و"ضرب" فعل من الأفعال التي تقع على كثير من الأعمال إلا قليلا. يقال: "ضرب في الأرض"، و"ضرب بيده إلى الشيء"، أهوى إليه، و"ضرب على يده"، و"ضرب يده إلى عمل كذا".(3/533)
3024- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا عبد الوهاب قال، حدثنا داود، عن رفيع، قال: فرض الله الصيام إلى الليل، فإذا جاء الليل فأنت مفطر إن شئت فكل، وإن شئت فلا تأكل (1) .
3025- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الأعلى قال، حدثنا داود، عن أبي العالية: أنه سُئل عن الوصال في الصوم فقال: افترض الله على هذه الأمَّة صومَ النهار، فإذا جاءَ الليل فإن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل.
3026 - حدثني يعقوب، قال: حدثني ابن علية، عن داود بن أبي هند، قال: قال أبو العالية في الوصال في الصوم، قال: قال الله:"ثم أتموا الصيام إلى الليل" فإذا جاء الليل فهو مفطر، فإن شاء أكل، وإن شاء لم يأكل.
3027- حدثني المثنى قال، حدثنا ابن دكين، عن مسعر، عن قتادة، قال: قالت عائشة: أتموا الصيامَ إلى الليل - يعني: أنها كرهت الوصال.
* * *
__________
(1) الأثر: 3024- رفيع، هو رفيع بن مهران أبو العالية الرياحي، ذكر مئات من المرات بكنيته. أدرك الجاهلية وأسلم بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بسنتين. مات سنة 90. وداود هو ابن أبي هند. وانظر الإسنادين التاليين.(3/534)
قال أبو جعفر: فإن قال قائل: فما وجه وصال مَنْ واصَل؟ فقد علمت بما:
3028- حدثكم به أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن هشام بن عروة، قال: كان عبد الله بن الزبير يُواصل سبعة أيام، فلما كبِر جعلها خمسا، فلما كبِر جدًّا جعلها ثلاثا.
3029- حدثنا أبو السائب قال، حدثنا حفص، عن عبد الملك، قال: كان ابن أبي يعمر يفطر كل شهر مرة.
3030 - حدثنا ابن أبي بكر المقدّمي قال، حدثنا الفروي، قال: سمعت مالكا يقول: كان عامر بن عبد الله بن الزبير يواصل ليلةَ ستَّ عشرة وليلة سبعَ عشرة من رمضان لا يفطر بينهما، فلقيته فقلت له: يا أبا الحارث ماذا تجدُه يقوِّيك في وصَالك؟ قال: السمْن أشرُبه أجده يُبلّ عروقي، فأما الماء فإنه يخرج من جسدي (1) .
= وما أشبه ذلك ممن فعل ذلك، ممن يطولُ بذكرهم الكتاب؟
قيل: وجه من فعل ذلك إن شاء الله تعالى على طلب الخموصة لنفسه والقوة (2) لا على طلب البرّ لله بفعله. وفعلهم ذلك نظيرُ ما كان عمر بن الخطاب يأمرهم به بقوله:
"اخشَوشِنوا وَتمعْددوا، وانزوا على الخيل نزوًا، واقطعوا الرُّكُب وامشوا حُفاة" (3) .
__________
(1) الخبر: 3030- ابن أبي بكر المقدمي: هو أبو عثمان أحمد بن محمد بن أبي بكر المقدمي، شيخ الطبري. و"الفروي" بفتح الفاء وسكون الراء: هو إسحاق بن محمد بن أبي فروة، وقد سبق مثل هذا الإسناد إلى مالك: 876. ولكن قال الطبري هناك: "حدثنا أبو عثمان المقدمي". وهنا لم يذكر اسمه ولا كنيته، بل نسبه إلى جده.
(2) "الخموصة" مصدر خمص بطنه خمصا (بسكون الميم وفتحها) وخماصة. ولم يذكروا"الخموصة" في كتب اللغة، وهو عربي عريق كقولهم: الفسالة والفسولة، والرذالة والرذولة، وفارس بين الفراسة والفروسة، ورجل جلد بين الجلادة والجلودة، وبطل بين البطالة والبطولة، وأشباه ذلك.
(3) اخشوشن الرجل: لبس الخشن وتعوده، وأكل الخشن، وعاش عيشا خشنا وبالغ في التخشن. وتمعدد الرجل: تشبه بعيش معد بن عدنان في التشظف وترك التزيي بزي العحم. يعني: اصبروا على عيش معد في الحضر والسفر، وتشبهوا بلباسه، ودعوا زي الأعاجم. النزو: الوثب، يأمرهم أن يثبوا على الخيل وثبا بلا استعانة بركاب. والركب جمع ركاب: وهو ما يكون في سرج الفرس يضع الراكب فيه رجله، فإذا كان مثله في رحل البعير سمي"الغرز".(3/535)
يأمرهم في ذلك بالتخشن في عيشهم، لئلا يتنعموا فيركنوا إلى خَفْض العيش ويميلوا إلى الدعة فيجبُنوا ويحتموا عن أعدائهم.
= وقد رَغِب - لمن واصل - عن الوصال كثيرٌ من أهل الفضل:
3032- حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي قال، حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق: أنّ ابن أبي نُعم كان يواصل من الأيام حتى لا يستطيع أن يقومَ، فقال عمرو بن ميمون: لو أدرَك هذا أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم رَجمُوه (1) .
= ثم في الأخبار المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنهي عن الوصال التي يطول بإحصائها الكتاب تركنا ذكر أكثرها استغناء بذكر بعضها، إذ كان في ذكر ما ذكرنا مُكتفًى عن الاستشهاد على كراهة الوصال بغيره.
3033 - حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر: أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم نَهى عن الوصال، قالوا: إنك تُواصلُ يا رَسول الله! قال: إني لست كأحدٍ منكم، إني أبيت أُطعَم وأسقَى (2) .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم الإذنُ بالوصال من السحر إلى السَّحر.
3034 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري قال، حدثنا
__________
(1) الأثر: 3032- ابن أبي نعم، هو"عبد الرحمن بن أبي نعم البجلي" الكوفي العابد. قال بكير بن عامر: لو قيل لعبد الرحمن: "قد توجه ملك الموت إليك يريد قبض روحك! " ما كانت عنده زيادة على ما هو فيه. وكان صبورا على الجوع الدائم، وهو الذي دخل على الحجاج في أيام الجماجم فوعظه. وأخذه الحجاج ليقتله، وأدخله بيتا مظلما، وسد الباب خمسة عشر يوما، ثم أمر بالباب ففتح ليخرج فيدفن. فدخلوا عليه فإذا هو قائم يصلي. فقال له الحجاج: سر حيث شئت.
(2) الحديث: 3033- يحيى بن سعيد: هو القطان.
عبيد الله: هو ابن عمر بن حفص بن عاصم، مضت ترجمته: 2740. ووقع في المطبوعة هنا"عن عبد الله" - يعني بالتكبير. و"عبد الله": هو العمري، وهو أخو"عبيد الله". بالتصغير - في هذا الإسناد، لأن القطان رواه عن"عبيد الله"، ولأن القطان كان لا يحدث عن"عبد الله"، كما روي ذلك عند ابن أبي حاتم 2/2/109 في ترجمة"عبد الله"، وكذلك نقل في التهذيب في ترجمته.
والحديث رواه أحمد في المسند: 4721، عن يحيى القطان، عن عبيد الله، بهذا الإسناد. ورواه أيضًا: 5795، عن محمد بن عبيد، و 6299، عن ابن نمير - كلاهما عن عبيد الله. وكذلك رواه مسلم 1: 303، من طريق ابن نمير.
ورواه مالك في الموطأ، ص: 300، عن نافع، عن ابن عمر. وكذلك رواه أحمد: 5917، 6125. والبخاري 4: 177 - كلاهما من طريق مالك.
ورواه أحمد أيضًا: 6416، ومسلم 1: 303- كلاهما من طريق عبد الوارث، عن أيوب، عن نافع.
وأما رواية"عبد الله" العمري - فقد رواه أحمد: 4752، عن وكيع، عن العمري، عن نافع.(3/536)
شعيب، عن الليث، عن يزيد بن الهاد، عن عبد الله بن خباب، عن أبي سعيد الخدري: أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لا تواصلوا، فأيُّكم أراد أن يُواصل فليواصل حتى السَّحر. قالوا: يا رسول الله، إنك تواصل! قال: إني لست كهيئتكم، إنّي أبيت لي مُطعم يُطعمني، وَساقٍ يسقيني (1) .
3035- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو نعيم قال، حدثنا أبو إسرائيل
__________
(1) الحديث: 3034- شعيب: هو ابن الليث بن سعد الإمام، وهو ثقة معروف، أخرج له مسلم وغيره. ووقع في المطبوعة"أبو شعيب"! وزيادة"أبو" خطأ، لا معنى لها ولا موضع.
يزيد بن الهاد: هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، مضت ترجمته في: 2031.
عبد الله بن خباب -بفتح الخاء المعجمة وتشديد الباء الموحدة- مولى بني عدي بن النجار: تابعي ثقة، وثقه أبو حاتم والنسائي، وروى له أصحاب الكتب الستة.
والحديث رواه البخاري 4: 177، عن عبد الله بن يوسف، عن الليث، بهذا الإسناد.
ورواه أحمد في المسند: 11070 (3: 8 حلبي) ، عن قتيبة بن سعيد، عن بكر بن مضر، عن ابن الهاد - وكذلك رواه أبو داود: 2361، عن قتيبة.
ورواه أحمد أيضًا: 11845 (3: 87 حلبي) ، عن أبي سعيد، عن عبد الله بن جعفر عن ابن الهاد.
ورواه البخاري أيضًا 4: 181، من طريق ابن أبي حازم، عن ابن الهاد.
وذكره السيوطي 1: 200، ونسبه للبخاري وأبي داود؟
وذكره أيضًا ابن كثير 1: 426، وقال: "أخرجاه في الصحيحين" فوهم وهما شديدا، رحمه الله فإن مسلما لم يخرجه في صحيحه. وقد نص الحافظ في الفتح 4: 217، في آخر كتاب الصيام، على أنه من أفراد البخاري.(3/537)
العبسي، عن أبي بكر بن حفص، عن أمِّ وَلد حاطب بن أبي بَلتعة: أنها مرّت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يتسحَّر، فدعاها إلى الطعام فقالت: إنّي صَائمة، قال: وكيف تصومين؟ فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: أين أنت من وصال آل محمد صلى الله عليه وسلم من السَّحر إلى السَّحر. (1) .
* * *
فتأويل الآية إذًا: ثم أتموا الكفَّ عما أمركم الله بالكفّ عنه، من حين يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر إلى الليل، ثم حَلّ لكم ذلك بعدَه إلى مثل ذلك الوقت. كما:
3036- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"ثم أتمُّوا الصيامَ إلى الليل" قال: من هذه الحدود الأربعة، فقرأ:"أحِلّ لكم
__________
(1) الحديث: 3035- أبو نعيم: هو الفضل بن دكين -بضم الدال المهملة وفتح الكاف- ثقة حافظ من شيوخ أحمد، قال أحمد: "هو على قلة روايته أثبت من وكيع"، وقال أيضًا: "كان يقظان في الحديث، عارفا به".
أبو إسرائيل العبسي: هو إسماعيل بن خليفة الملائي - بضم الميم وتخفيف اللام وهمزة بعد الألف. وهو ضعيف، بينا ضعفه في شرح المسند: 974.
أبو بكر بن حفص: هو عبد الله بن حفص بن عمر بن سعد بن أبي وقاص. وهو تابعي ثقة، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أم ولد حاطب بن أبي بلتعة: لم أعرف من هي، ولا وجدت لها ترجمة ولا ذكرا. ولو صح الإسناد إليها لم يكن بذلك بأس، لأن جهالة الصحابي لا تضر. ولكن الإسناد ضعيف.
وهذا الحديث لم أجده عند أحد غير الطبري. وقد نقله عنه ابن كثير 1: 426، بإسناده. ولم يزد شيئا في تخريجه. ولم يذكره السيوطي.(3/538)
ليلةَ الصيام الرفثُ إلى نسائكم" فقرأ حتى بَلغ:"ثم أتمُّوا الصيام إلى الليل" وكان أبي وغيره من مَشيختِنا يقولون هذا ويتلونه علينا (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره - بقوله:"ولا تباشرُوهن" لا تجامعوا نساءكم (2) .
* * *
= وبقوله:"وأنتم عَاكفونَ في المساجد" يقول: في حال عُكوفكم في المساجد، وتلك حال حَبْسهم أنفسَهم على عبادة الله في مساجدهم.
* * *
"والعكوف" أصله المقام، وحبسُ النفس على الشيء (3) كما قال الطِّرِمَّاح بن حَكيم:
فَبَاتَ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكفًّا ... عُكُوفَ البَواكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ (4)
__________
(1) الأثر: 3036- أبوه، هو زيد بن أسلم العدوي أبو أسامة الفقيه مولى عمر. روى عن أبيه وابن عمر وأبي هريرة وعائشة وطائفة من أصحاب رسول الله، كان ثقة من أهل الفقه والعلم، وكان عالما بتفسير القرآن. مات سنة 136.
(2) انظر تفسير"المباشرة" فيما سلف قريبا: 503-505.
(3) انظر تفسير"العكوف" فيما سلف من هذا الجزء 3: 41، 42.
(4) ديوانه: 153، واللسان (بنو) غير منسوب عن ثعلب، ورواه: "بينهن قتيل". وقال الثعالبي في المضاف والمنسوب: 219: "بنات الليل": الأحلام، والنساء، وأهوال الليل، والمنى، وبكلها جاء الشعر". وأراد الطرماح: ما يعالج من ذكرى صاحبته، وما يخالط ذلك من منى وهموم وشقاء يشقى به من حسرة وشوق ولهفة. وهو بيت جميل المعنى، جيد التصوير. جعل ذكرياته قد استدارت حوله تبكي عليه، وهو بينهن صريع قد قضى نحبه.(3/539)
يعني بقوله:"عكفا"، مقيمة، وكما قال الفرزدق:
تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِينَ كأنَّهُمْ ... عَلَى صَنَمٍ فِي الجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ (1)
* * *
وقد اختلف أهل التأويل في معنى"المباشرة" التي عنى الله بقوله:"ولا تُباشروهن". فقال بعضهم: معنى ذلك الجماعُ دون غيره من معاني"المباشرة".
* ذكر من قال ذلك:
3037- حدثني المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن على بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله:"ولا تُباشروهنّ وأنتم عَاكفون في المساجد" - في رمضان أو في غير رمضان، فحرَّم الله أن يَنكح النساء ليلا ونهارا حتى يَقضي اعتكافه.
3038- حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن ابن جريج، قال: قال لي عطاء:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال: الجماع.
__________
(1) ديوانه: 561، والنقائض: 563، من أبيات جياد يصف فيها قدور أهله الكرام، يقول قبله: وَقَدْ عَلِمَ الأَقْوامُ أنّ قُدُورنَا ... ضَوَامِنُ للأرْزَاقِ والرِّيحُ زَفْزَفُ
نَعَجِّلُ للضِّيفَانِ في المَحْلِ بالقِرَى ... قُدُروًا بمَعْبُوطٍ، تُمَدُّ وتُعْزَفُ
تُفَرَّغُ فِي شِيزَىَ كأنَّ جِفَانَهَا ... حِيَاضُ جِبًي، منها مِلاَءٌ ونُصَّفُ
الشيزى: خشب منه القدور تصنع. حياض جبي: حياض يجمع فيها الماء فهي ملأى أبدا. والمعتفون: الذين جاءوا يطلبون الرزق. يصفهم جياعا قد ثبتوا في أماكنهم ينتظرون، متلهفين وهم يكظمون أنفسهم، قد ماتت أصواتهم، كأنهم عباد قد خشعوا وخضعوا وأملوا.(3/540)
3039- حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك، قال: كانوا يُجامعون وهم مُعتكفون، حتى نزلت:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد".
3040 - حدثنا المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن سفيان، عن علقمة بن مرثد، عن الضحاك في قوله:"ولا تباشروهنّ وأنتم عاكفون في المساجد" قال: كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامع إن شاء، فقال الله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" يقول: لا تقرَبوهن ما دمتم عاكفين في مسجد ولا غيره.
3041 - حدثني المثنى قال، حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك عن جويبر عن الضحاك نحوه.
3042 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: كان أناس يُصيبون نساءهم وهم عاكفون فيها فنهاهم الله عن ذلك.
3043 - وحدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: كان الرجل إذا خرج من المسجد وهو معتكف ولقي امرأته باشرها إن شاء، فنهاهم الله عز وجل عن ذلك، وأخبرهم أنّ ذلك لا يصلح حتى يَقضيَ اعتكافه.
3044 - حدثنا موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال: حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" يقول: من اعتكف فإنه يصوم، لا يَحل له النساء ما دام معتكفا.
3045 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال: الجوارُ، فإذا خرج أحدكم من بيته إلى بيت الله فلا يقرب النساء.(3/541)
3046 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد قال: كان ابن عباس يقول: من خرج من بيته إلى بيت الله فلا يقرَب النساء.
3047 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، قال: كان الناس إذا اعتكفوا يخرُج الرجل فيباشر أهله ثم يرجع إلى المسجد، فنهاهم الله عن ذلك.
3048 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال ابن عباس، كانوا إذا اعتكفوا فخرج الرجل إلى الغائط جامع امرأته، ثم اغتسل، ثم رجع إلى اعتكافه، فنُهوا عن ذلك = قال ابن جريج: قال مجاهد: نُهوا عن جماع النساء في المساجد، حيث كانت الأنصار تجامِع، فقال:"لا تباشروهن وأنتم عاكفون" قال:"عاكفون"، الجوارُ = قال ابن جريج: فقلت لعطاء: الجماعُ المباشرة؟ قال: الجماع نفسه! فقلت له: فالقُبلة في المسجد والمسَّة؟ فقال: أما ما حُرِّم فالجماع، وأنا أكره كل شيء من ذلك في المسجد.
3049 - حدثت عن حسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"ولا تباشروهن" يعني الجماع.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك على جميع معاني"المباشرة" من لَمْس وقُبلة وجماع.
* ذكر من قال ذلك:
3050 - حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال مالك بن أنس: لا يمس المعتكف امرأته، ولا يباشرُها، ولا يتلذذ منها بشيء، قُبلةٍ ولا غيرها (1) .
__________
(1) في الموطأ: 318 بنصه.(3/542)
3051- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تُباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد" قال: المباشرة الجماعُ وغيرُ الجماع، كلُّه محرم عليه، قال:"المباشرة" بغير جماع، إلصاقُ الجلد بالجلد.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة من قال هذا القول: أن الله تعالى ذكره عمّ بالنهي عن المباشرة، ولم يخصص منها شيئا دون شيء. فذلك على ما عمَّه، حتى تأتي حُجة يجب التسليم لها بأنه عنى به مباشرةً دون مباشرةٍ.
* * *
وأولى القولين عندي بالصواب قول من قال: معنى ذلك: الجماعُ، أو ما قام مقامَ الجماع، مما أوجبَ غسلا إيجابَه. وذلك أنه لا قول في ذلك إلا أحد قولين:
إما جعل حكم الآية عامًّا، أو جَعل حكمها في خاصٍّ من معاني المباشرة. وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أن نساءه كنّ يُرجِّلنه وهو معتكف، فلما صح ذلك عنه، عُلم أنّ الذي عنى به من معاني المباشرة، البعض دون الجميع.
3052 - حدثنا علي بن شعيب قال، حدثنا معن بن عيسى القزاز، قال، أخبرنا مالك. عن الزهري، عن عروة وعن عمرة، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف يُدني إليّ رأسه فأرَجِّله (1) .
__________
(1) الحديث: 3052- هكذا رواه مالك في الموطأ، ص: 312، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن عمرة بنت عبد الرحمن، عن عائشة. فزاد في الإسناد"عمرة" بين عروة وعائشة.
وكذلك رواه مسلم 1: 95، وأبو داود: 2467 - كلاهما من طريق مالك. وكذلك رواه الترمذي 2: 72، من طريقه، مع خطأ من الناسخين. وقال أبو داود: "لم يتابع أحد مالكا على"عروة عن عمرة". ورواه معمر وزياد بن سعد وغيرهما: عن الزهري: عن عروة، عن عائشة". وقال الترمذي: "هكذا رواه غير واحد: عن مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن عروة، عن عمرة، عن عائشة. والصحيح: عن عروة وعمرة، عن عائشة. هكذا روى الليث، عن ابن شهاب، عن عروة وعمرة، عن عائشة".
وقال الحافظ في الفتح 4: 236"واتفقوا على أن الصواب قول الليث، وأن الباقين اختصروا منه ذكر عمرة، وأن ذكر عمرة في رواية مالك - من المزيد في متصل الأسانيد". وهذا من الحافظ -عندي- تكلف لا داعي له. ومالك، على إمامته وعلمه وحفظه. يخطئ كما يخطئ الناس، فالظاهر أنه نسي في بعض أحيانه، فجعل"عروة عن عمرة" بدل"عروة وعمرة". وقد ثبت عن مالك أنه كان يرويه أحيانا على الصواب، كما يظهر مما يأتي في: 3056.(3/543)
3053- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير وعمرة: أن عائشة قالت: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، وكان يدخل عليّ رأسَه وهو في المسجد فأرجِّلُه (1) .
3054- حدثنا سفيان بن وكيع قال: حدثنا أبي عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُدني إليَّ رأسه وهو مُجاورٌ في المسجد وأنا في حجرتي وأنا حائض، فأغسله وأرَجِّله (2) .
3055- حدثنا سفيان قال، حدثنا ابن فضيل، ويعلى بن عبيد، عن الأعمش، عن تميم بن سلمة، عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(1) الحديث: 3053- يونس، شيخ الطبري: هو ابن عبد الأعلى الصدفي - بفتح الصاد والدال المهملتين. مضت ترجمته: 1679.
ويونس - شيخ ابن وهب: هو ابن يزيد الأيلي. مضت ترجمته: 2377.
وهذا الحديث تكرار للذي قبله. وقد رواه يونس عن الزهري، عن عروة بن الزبير وعمرة بنت عبد الرحمن -معا- عن عائشة، على الصواب.
وقد تابعه على ذلك الليث بن سعد عن الزهري. فرواه البخاري 4: 236، ومسلم 1: 95-96. وأبو داود: 2468، والترمذي 2: 72 - كلهم من طريق الليث، عن الزهري، عن عروة وعمرة -معا- عن عائشة.
(2) الحديث: 3054- سفيان بن وكيع: فيه ضعف، كما قدمنا مرارا. ولكنه لم ينفرد بروايته من هذا الوجه، كما سنذكر.
فقد رواه ابن ماجه: 1778، عن علي بن محمد، عن وكيع، بهذا الإسناد.
وكذلك رواه البخاري 4: 236، من طريق يحيى و 10: 310، من طريق مالك. ورواه مسلم 1: 96، من طريق أبي خيثمة. ورواه أبو داود: 2469. من طريق حماد بن زيد. والنسائي 1: 68، من طريق مالك أيضًا - كلهم عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة. والحديث مكرر ما قبله.(3/544)
يعتكفُ فيخرجُ إليَّ رأسه من المسجد وهو عاكفٌ، فأغسِله وأنا حائض (1) .
3056- حدثني محمد بن معمر قال، حدثنا حماد بن مسعدة قال، حدثنا مالك بن أنس، عن الزهري وهشام بن عروة جميعا، عن عروة، عن عائشة: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُخرج رَأسه فأرجّله وهو معتكف (2) .
* * *
فإذْ كان صحيحا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذكرنا من غَسل عائشة
__________
(1) الحديث: 3055- سفيان: هو ابن وكيع. ابن فضيل: هو محمد.
تميم بن سلمة السلمي الكوفي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره. والحديث رواه أيضًا النسائي 1: 68، من طريق الفضيل بن عياض، عن الأعمش. بهذا الإسناد.
وهو مكرر ما قبله.
(2) الحديث: 3056- محمد بن معمر، شيخ الطبري: مضت ترجمته: 241. حماد بن مسعدة البصري: ثقة من شيوخ أحمد وإسحاق، وثقه ابن سعد، وأبو حاتم. وغيرهما. والحديث مكرر ما قبله.
وقد روى حماد بن مسعدة هذا الحديث عن مالك - على الصواب: أنه من رواية مالك عن الزهري عن عروة عن عائشة، وعن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، دون وساطة"عمرة" بين عروة وخالته عائشة. خلافا للرواية التي في الموطأ بإثبات الوساطة. والتي مضى مثلها: 3052 من رواية معن بن عيسى عن مالك. فكأن مالكا سها في تلك الرواية، حين جعل"عمرة" بين عروة وعائشة، وكان يذكر الصواب أحيانا، فيرويه من حديث عروة عن عائشة مباشرة. والحديث ثابت من رواية عروة عن عائشة، ومن رواية عمرة عن عائشة، سمعه الزهري كذلك من عروة، ومن عمرة، كما بينا في: 3053. وسمعه هشام بن عروة من أبيه عن عائشة، كما مضى في 3054، وفي طرقه التي خرجناها هناك.
وكذلك رواه البخاري من هذا الوجه، ولكنه فرقه حديثين بإسناد واحد: فرواه 10: 310، عن عبد الله بن يوسف: "أخبرنا مالك، عن ابن شهاب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة" - فذكره مختصرا. ثم قال: "حدثنا عبد الله بن يوسف، أخبرنا مالك، عن هشام، عن أبيه، عن عائشة - مثله".
وقد تابعه على ذلك معمر - في الزهري. فرواه البخاري 4: 246، من طريق هشام بن يوسف. ورواه النسائي 1: 68، من طريق عبد الأعلى - كلاهما عن معمر، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة.
ويؤيده هذه الرويات - في أن عروة رواه عن عائشة مباشرة: رواية مسلم إياه 1: 96، من رواية عمرو بن الحارث، عن محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة، دون واسطة.(3/545)
رأسه وهو معتكف، فمعلوم أن المراد بقوله:"ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد"، غيرُ جميع ما لزمه اسم"المباشرة" = وأنه معنيٌّ به البعض من معاني المباشرة دون الجميع. فإذا كان ذلك كذلك، وكان مجمَعًا على أنّ الجماع مما عُني به، كان واجبا تحريم الجماع على المعتكف وما أشبهه، وذلك كلُّ ما قام في الالتذاذ مقامه منَ المباشرة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: هذه الأشياء التي بيّنتها: من الأكل والشرب والجماع في شهر رمضان نهارا في غير عذر، وجماع النساء في الاعتكاف في المساجد، يقول: هذه الأشياءَ حدّدتها لكم، وأمرْتكم أن تجتنبوها في الأوقات التي أمرتكم أن تجتنبوها، وحرَّمتها فيها عليكم، فلا تقرَبوها، وابعُدوا منها أن تركبوها، فتستحقُّوا بها من العقوبة ما يستحقه من تعدّى حُدودي، وخالف أمري وركب معاصيَّ.
* * *
وكان بعض أهل التأويل يقول:"حدود الله": شروطه. وذلك معنى قريب من المعنى الذي قلنا، غيرَ أن الذي قلنا في ذلك أشبه بتأويل الكلمة.
وذلك أن"حد" كل شيء: ما حَصره من المعاني وميَّز بينه وبين غيره، فقوله:"تلك حدود الله" من ذلك، يعني به المحارم التي ميّزها من الحلال المطلق فحدَّدها بنعوتها وصفاتها، وعرَّفها عبادَه.
* * *
ذكر من قال إنّ ذلك بمعنى الشُّروط:(3/546)
3057 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال: أما"حدود الله" فشروطه.
* * *
وقال بعضهم:"حدود الله" معاصيه.
* ذكر من قال ذلك:
3058 - حدثت عن الحسين بن الفرج، قال: سمعت الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"تلك حدود الله" يقول: معصية الله - يعني المباشرةَ في الاعتكاف.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: كما بينت لكم أيها الناس واجبَ فرائضي عليكم من الصوم، وعرّفتكم حدودَه وأوقاته، وما عليكم منه في الحضر، وما لكم فيه في السفر والمرض، وما اللازم لكم تجنُّبه في حال اعتكافكم في مساجدكم، فأوضحت جميعَ ذلك لكم - فكذلك أبيِّن أحكامي، وحلالي وحرامي، وحدودي، وأمري ونهيي، في كتابي وتنزيلي، وعلى لسان رسولي صلى الله عليه وسلم للناس.
* * *
ويعني بقوله:"لعلهم يتقون" يقول: أبيِّن ذلك لهم ليتقوا مَحارمي ومعاصيَّ، ويتجنَّبوا سَخطي وَغضبي، بتركهم رُكوبَ ما أبيِّن لهم في آياتي أني قد حرَّمته عليهم، وأمرتهم بهجره وتركه.
* * *(3/547)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: ولا يأكل بعضُكم مالَ بعض بالباطل. فجعل تعالى ذكره بذلك آكلَ مال أخيه بالباطل، كالآكل مالَ نَفسه بالباطل.
ونَظيرُ ذلك قولهُ تعالى: (وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة الحجرات: 11] وقوله: (وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) [سورة النساء: 29] بمعنى: لا يلمزْ بعضكم بعضا، ولا يقتُلْ بعضكم بعضا (1) لأن الله تعالى ذكره جعل المؤمنين إخوة، فقاتل أخيه كقاتل نفسه، ولامزُه كلامز نفسه، وكذلك تفعل العرب تكني عن نفسها بأخواتها، وعن أخواتها بأنفسها، فتقول:"أخي وأخوك أيُّنا أبطش". يعني: أنا وأنت نصْطرع، فننظر أيُّنا أشدّ (2) - فيكني المتكلم عن نفسه بأخيه، لأن أخا الرجل عندها كنفسه، ومن ذلك قول الشاعر: (3)
أخِي وَأَخُوكَ بِبَطْنِ النُّسَيْرِ ... لَيْسَ بِهِ مِنْ مَعَدٍّ عَرِيبْ (4)
* * *
__________
(1) انظر ما سلف مثل ذلك في 2: 300، ثم الآية: 85 من سورة البقرة 2: 303 لم يذكر فيها شيئا من ذلك. ولم يبين هذا البيان فيما سلف. وهذا دليل على أنه كان أحيانا يختصر الكلام اختصارا، اعتمادا على ما مضى من كلامه، أو ما يستقبل منه. كما قلت في مقدمة التفسير.
(2) انظر تأويل مشكل القرآن: 114، هذا بنصه.
(3) هو ثعلبة بن عمرو (حزن) العبدي، ابن أم حزنة. ويقال هو من بني شيبان حليف في عبد القيس. وكان من الفرسان (الاشتقاق لابن دريد: 197) . وانظر التعليق التالي.
(4) المفضليات: 513، وتأويل مشكل القرآن: 114، معجم ما استعجم: 1038. وفي المطبوعة: "ليس لنا"، وأثبت ما في المراجع، وكأنها الصواب. ويقال: ليس بالدار عريب، أي ليس بها أحدا. و"النسير"، تصغير"النسر"، وهو مكان بديار بني سليم. بيد أن ياقوت نقل عن الحازمي أنه بناحية نهاوند، واستشهد بهذا البيت. فإن يكن ذلك فابن أم حزنة هذا إسلامي: قال ياقوت، قال سيف: "سار المسلمون من مرج القلعة نحو نهاوند، حتى انتهوا إلى قلعة فيها قوم، ففتحوها، وخلفوا عليها النسير بن ثور في عجل وحنيفة. وفتحها بعد فتح نهاوند، ولم يشهد نهاوند عجلي ولا حنفي، لأنهم أقاموا مع النسير على القلعة، فسميت به" (انظر تاريخ الطبري 4: 243، 251) .
فإن صح أن ابن أم حزنة كان في بعث المسلمين، كان هذا البيت مؤيدا لهذا القول. فإنه يقول له: أنا وأنت ببطن النسير، ليس معنا فيه من أبناء معد (وهم العرب) أحد. وأما عن الحازمي إذا كان الموضع ببلاد العرب، فهو يقول: ليس به أحد، وقوله"من معد" فضول من القول. وقد ترجح عندي أنه شاعر إسلامي، من بعض شعره في المفضليات رقم 74، وفي الوحشيات رقم: 217، (وانظر من نسب إلى أمه رقم: 22، 32) ، وله شعر في حماسة البحتري: 97، 103.
وإن صحت رواية الطبري: "ليس لنا من معد عريب". فعريب، في هذا البيت، هو صاحبه الذي ذكره في أول الشعر فقال: إِنَّ عَرِبيًا وَإِنْ سَاءَني ... أَحَبُّ حَبِيبٍ وَأَدْنَى قَرِيبْ
فيكون قوله: "معد" مصدر"عد يعد". يقول: أنا وأنت ببطن النسير وحدنا، لا يعد معنا أحد، يعني أنهما خاليين بالمكان، ليس لك من ينصرك ولا لي من ينصرني، فهناك يظهر صاحب للبأس منهما، وقال بعد البيت: فأقْسَم بِاللهِ لاَ يَأتَلِي ... وأقْسَمْتُ إِنْ نلتُهُ لاَ يَؤُوبْ
فَأَقْبَلَ نَحْوِي عَلَى قُدْرةٍ ... فَلَمَّا دَنَا صَدَقَتْه الكَذُوبْ(3/548)
فتأويل الكلام: ولا يأكلْ بعضكم أموال بعضٍ فيما بينكم بالباطل.
"وأكله بالباطل": أكله من غير الوجه الذي أباحه الله لآكليه.
* * *
وأما قوله:"وتُدلوا بها إلى الحكام" فإنه يعني: وتخاصموا بها - يعني: بأموالكم - إلى الحكام"لتأكلوا فريقا" = طائفة = (1) من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون.
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"فريق" 2: 224، 402.(3/549)
ويعني بقوله:"بالإثم" بالحرام الذي قد حرمه الله عليكم (1) "وأنتم تعلمون"، أي: وأنتم تتعمَّدون أكل ذلك بالإثم، على قصد منكم إلى ما حَرّم الله عليكم منه، ومعرفةٍ بأن فعلكم ذلك معصية لله وإثم. (2) . كما:
3059 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتُدلوا بها إلى الحكام" فهذا في الرجل يكون عليه مالٌ، وليس عليه فيه بيِّنة، فيجحد المال، فيخاصمهم فيه إلى الحكام وهو يعرف أنّ الحق عليه، وهو يعلم أنه آثم: آكلٌ حراما.
3060 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"وتُدلوا بها إلى الحكام" قال: لا تخاصم وأنت ظالم.
3061 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
3062 - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام" وكان يقال: من مشى مع خصمه وهو له ظالم، فهو آثم حتى يرجع إلى الحق. واعلم يَا ابن آدم أن قَضاء القاضي لا يُحلّ لك حراما ولا يُحقّ لك باطلا وإنما يقضي القاضي بنحو ما يرَى ويشهدُ به الشهود، والقاضي بَشر يخطئ ويصيب. واعلموا أنه من قد قُضي له بالباطل، فإن خصومته لم تنقض حتّى يجمع الله بينهما يوم القيامة، فيقضي على المبُطل للمحق، بأجود مما قُضي به للمبطل على المحقّ في الدنيا (3) .
__________
(1) انظر ما سلف في تفسير"الإثم" من هذا الجزء 3: 399-408.
(2) في المطبوعة: "معصية الله"، خطأ.
(3) في المطبوعة: "ويأخذ مما قضي به. . "، والصواب ما أثبت من تفسير ابن كثير 1: 430.(3/550)
3063 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام" قال: لا تدلِ بمال أخيك إلى الحاكم وأنتَ تعلم أنك ظالم، فإن قضاءه لا يُحلّ لك شيئا كان حراما عليك.
3064 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون" أما"الباطل" يقول: يظلم الرجل منكم صاحبَه، ثم يخاصمه ليقطع ماله وهو يعلم أنه ظالم، فذلك قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام".
3065- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني خالد الواسطي، عن داود بن أبي هند، عن عكرمة قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" قال: هو الرجل يشتري السِّلعة فيردُّها ويردُّ معها دَرَاهم.
3066 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بَينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام" يقول: يكون أجدل منه وأعرَف بالحجة، فيخاصمه في ماله بالباطل ليأكل ماله بالباطل. وقرأ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) [سورة النساء: 29] قال: هذا القِمار الذي كان يَعمل به أهل الجاهلية.
* * *
وأصل"الإدلاء": إرسال الرجل الدلو في سَبب متعلقا به في البئر. (1) فقيل للمحتج لدعواه:"أدلَى بحجة كيت وكيت" إذا كان حجته التي يحتج بها سببا
__________
(1) السبب: الحبل.(3/552)
له، هو به متعلقٌ في خصومته، كتعلق المستقي من بئر بدَلو قد أرسلها فيها بسببها الذي الدلو به متعلقة، يقال فيهما جميعا - أعني من الاحتجاج، ومن إرسال الدلو في البئر بسبب:"أدلى فلان بحجته، فهو يُدلي بها إدلاء = وأدلى دلوه في البئر، فهو يدليها إدلاء".
* * *
فأما قوله:"وتدلوا بها إلى الحكام"، فإن فيه وَجهين من الإعراب:
أحدهما: أن يكون قوله:"وتُدْلوا" جزما عطفا على قوله:"ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل" أي: ولا تدلوا بها إلى الحكام، وقد ذُكر أن ذلك كذلك في قراءة أُبَيٍّ بتكرير حرف النهي:"وَلا تدلوا بها إلى الحكام".
والآخر منهما: النصب على الصرْف، (1) فيكون معناه حينئذ: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وأنتم تدلون بها إلى الحكام، كما قال الشاعر:
لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ (2)
يعني: لا تنه عن خلق وأنتَ تأتي مثله.
وهو أنْ يكون في موضع جزم - على ما ذُكر في قراءة أبيّ - أحسن منه أن يكون نَصبا.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "على الظرف"، وهو محض خطأ. وقد مضى تفسير معنى"الصرف" في 1: 569-570، واالتعليق: 1.
(2) سلف تخريج هذا البيت في 1: 569، إلا أني سهوت فلم أذكر أنه آت في هذا الموضع من التفسير، وفي 9: 146 (بولاق) ، فقيده. وانظر أيضًا معاني القرآن للفراء 1: 115.(3/552)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)
القول في تأويل قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ}
قال أبو جعفر: ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عن زيادة الأهلة ونقصانها واختلاف أحوالها، فأنزل الله تعالى ذكره هذه الآية، جوابا لًهُم فيما سألوا عنه.
ذكر الأخبار بذلك:
3067 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتاده قوله:"يَسألُونك عن الأهلة قُلْ هيَ مواقيت للناس"، قال قتادة: سألوا نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك: لم جُعلت هذه الأهلة؟ فأنزل الله فيها ما تَسمعون:"هي مَواقيتُ للناس"، فجعلها لصوم المسلمين ولإفطارهم، ولمناسكهم وحجّهم، ولعدة نسائهم وَمحلّ دَينهم في أشياء، والله أعلم بما يُصلح خلقه.
3068 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع، قال: ذكر لنا أنهم قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لم خُلقت الأهلة؟ فأنزل الله تعالى:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيتُ للناس والحج" جعلها الله مواقيتَ لصوم المسلمين وإفطارهم ولحجهم ومناسكهم وعدّة نسائهم وَحلّ ديونهم (1) .
3069- حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا
__________
(1) هكذا جاء في هذه الآثار 3068، 3070، 3072، 3073"حل ديونهم". والذي في كتب اللغة: "حل الدين يحل حلولا ومحلا (بكسر الحاء) ": أي وجب. وأستظهر أن يكون هذا المصدر"حلا" بفتح الحاء كنظائرها من اللغة كقولهم: "صد يصد صدا وصدودا"، ولو كسرت الحاء لكان وجها. وهذه الرواية قاضية على صحة هذا المصدر.(3/553)
معمر، عن قتادة في قوله:"مواقيتُ للناس والحج" قال: هي مواقيت للناس في حجهم وصومهم وفطرهم ونُسكهم.
3070 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال الناس: لم خلقت الأهلة؟ فنزلت:"يسألونك عن الأهلة قُل هي مواقيت للناس"، لصَومهم وإفطارهم وَحجهم وَمَناسكهم - قال: قال ابن عباس: ووقتَ حجهم، وعدة نسائهم، وَحلّ دَينهم.
3071- حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"يسألونك عن الأهلة قلْ هي مواقيت للناس" فهي مواقيت الطلاق والحيض والحج.
3072 - حدثت عن الحسين بن الفرج قال، حدثنا الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس"، يعني: حَلّ دينهم، ووقت حجهم، وعدة نسائهم.
3073- حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: سأل الناسُ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة، فنزلت هذه الآية:"يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس" يعلمون بها حَلّ دينهم، وعدة نسائهم، ووقت حجهم.
3074 - حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد، عن شريك، عن جابر، عن عبد الله بن يحيى، عن علي: أنه سئل عن قوله:"مواقيت للناس"، قال: هي مواقيتُ الشهر: هكذا وهكذا وهكذا - وقبض إبهامه - فإذا رأيتموه فصوموا وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غُمَّ عليكم فأتموا ثَلاثين (1) .
* * *
__________
(1) الخبر: 3074- جابر: هو ابن يزيد الجعفي، بينا أنه ضعيف جدا، في: 2340. وأما شيخه"عبد الله بن يحيى": فما عرفت من هو؟ وأكبر ظني أن الاسم محرف، لم أستطع الوصول إلى صحته.
وهذا الخبر لم يذكره ابن كثير، ولا السيوطي. وإنما أشار إليه ابن كثير إشارة 1: 430.
وقد ورد معناه مرفوعا، في حديث صحيح، رواه الحاكم 1: 423، من حديث عبد الله بن عمر. وصححه ووافقه الذهبي. وذكره ابن كثير 1: 430، من رواية عبد الرزاق، ثم أشار إلى رواية الحاكم إياه. وذكره السيوطي 1: 203-204، ونسبه أيضًا للبيهقي.(3/554)
قال أبو جعفر: فتأويل الآية - إذا كان الأمرُ على ما ذكرنا عمن ذكرنا عنهُ قوله في ذلك-: يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وسِرَارِها وَتمامها واستوائها، وتغير أحوالها بزيادة ونُقصان وَمحاق واستسرار، وما المعنى الذي خَالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان؟ - فقلْ يا محمد: خالف بين ذلك ربُّكم لتصييره الأهلة = التي سألتم عن أمرها، ومخالفة ما بينها وبين غيرها فيما خالف بينها وبينه = مواقيتَ لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقِها واستسرارها وإهلالكم إياها، أوقات حَلّ ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرُّم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم، فجعلها مواقيت للناس.
* * *
وأما قوله"والحج"، فإنه يعني: وللحجِّ، يقول: وجعلها أيضًا ميقاتًا لحجكم، تعرفون بها وقت مناسككم وحَجكم.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) }
قال أبو جعفر: قيل: نزلت هذه الآية في قوم كانوا لا يدخلون - إذا أحرموا - بيوتَهم من قبل أبوابها.(3/555)
* ذكر من قال ذلك:
3075- حدثنا محمد بن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء يقول: كانت الأنصار إذا حَجوا ورَجعوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظُهورها. قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية:"وليسَ البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظهورها" (1) .
3076 - حدثني سفيان بن وكيع، قال، حدثني أبي، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن البراء قال: كانوا في الجاهلية إذا أحرموا، أتُوا البيوت من ظهورها، ولم يأتوا من أبوابها، فنزلت:"وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها"..الآية (2) .
3077 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى قال، حدثنا المعتمر بن سليمان، قال، سمعت داود، عن قيس بن حبتر: أن ناسا كانوا إذا أحرموا لم يدخلوا حائطا من بابه، ولا دارا من بابها أو بيتا، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه دارا، وكان رجل من الأنصار يقال له:"رفاعة بن تابوت" فجاء فتسوَّر الحائط، ثم دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فلما خرَج من باب الدار - أو قال: من باب البيت - خرج معه رفاعة، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما حملك على ذلك؟ قال: يا رسول الله، رأيتُك خرجتَ منه، فخرجت منه! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنّي رجلٌ أحْمس! فقال: إن تكن رَجلا أحْمس، فإنّ ديننا واحد! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليسَ البر بأن تأتوا البيوتَ من ظُهورها ولكن
__________
(1) الحديث: 3075- رواه أبو داود الطيالسي: 717، عن شعبة، بهذا الإسناد، نحوه. ورواه البخاري مطولا 3: 494، عن أبي الوليد، عن شعبة، بهذا الإسناد.
وذكره السيوطي 1: 204، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم. وسيأتي معناه بإسناد آخر، عقبه.
(2) الحديث: 3076- هو مكرر ما قبله. وهو في تفسير وكيع، كما ذكر السيوطي 1: 204.
ورواه البخاري 8: 137، عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، بهذا الإسناد.(3/556)
البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها" (1) .
3078 - حدثنا محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"وليس البرُّ بأن تأتوا البيوت من ظُهورها" يقول: ليس البرّ بأن تأتوا البيوت من كُوَّات في ظهور البيوت، وأبواب في جنوبها، تجعلها أهل الجاهلية. فنُهوا أن يدخلوا منها، وأمِروا أن يدخلوا من أبوابها.
3079- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3080 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم،
__________
(1) الحديث: 3077- داود: هو ابن أبي هند، مضت ترجمته: 1608.
قيس بن حبتر النهشلي التميمي: تابعي ثقة، وثقه أبو زرعة، والنسائي، وغيرهما.
"حبتر": بفتح الحاء المهملة والتاء المثناة بينهما باء موحدة ساكنة. ووقع في المطبوعة هنا"جبير"، وهو تصحيف. ووقع أيضًا هكذا مصحفا في المواضع التي سنشير إليها من الفتح والإصابة والدر المنثور، في هذا الحديث.
وهذا إسناد مرسل، لأنه عن تابعي مرفوعا، فهو ضعيف.
والحديث ذكره السيوطي 1: 204، وزاد نسبته لعبد بن حميد، وابن المنذر.
وذكره الحافظ في الإصابة 2: 209، من تفسير عبد بن حميد. وذكره أيضًا في الفتح 3: 494، مختصرا، ونسبه لعبد بن حميد، وابن جرير، وصرح في الموضعين بأنه حديث مرسل.
الأحمس: هو المتشدد فيه دينه الصلب. ثم كانت الحمس (جمع أحمس) هم قريش. وخزاعة، لنزولها مكة ومجاورتها قريشا، وكل من ولدت قريش من العرب وكنانة، وجديلة قيس - وهم فهم وعدوان ابنا عمرو بن قيس عيلان، وبنو عامر بن صعصعة، وكل من نزل مكة من قبائل العرب. فكانت الحمس قد شددوا في دينهم على أنفسهم، فكانوا إذا نسكوا لم يسلأوا سمنا، ولم يطبخوا أقطا، ولم يدخروا لبنا، ولم يحولوا بين مرضعة ورضاعها حتى يعافه، ولم يحركوا شعرا ولا ظفرا، ولا يبتنون في حجهم شعرا ولا وبرا ولا صوفا ولا قطنا، ولا يأكلون لحما، ولا يلبسون إلا جديدا، ولا يطوفون بالبيت إلا في حذائهم وثيابهم، ولا يمشون المسجد بأقدامهم تعظيما لبقعته، ولا يدخلون البيوت من أبوابها، ولا يخرجون إلى عرفات، يقولون: "نحن أهل الله"، ويلزمون مزدلفة حتى يقضوا نسكهم، ويطوفون بالصفا والمروة إذا انصرفوا من مزدلفة، ويسكنون في ظعنهم قباب الأدم الحمر (المحبر لابن حبيب: 178-180، ثم سيرة ابن هشام 1: 211-216 / والطبري في التفسير رقم: 3840) .(3/557)
قال: كان ناسٌ من أهل الحجاز إذا أحرموا لم يدخلوا من أبواب بيوتهم ودخلوا من ظهورها، فنزلت:"ولكن البر من اتقى" الآية.
3081 - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد في قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوتَ من أبوابها" قال: كان المشركون إذا أحرم الرجل منهم نَقب كُوَّة في ظهر بيته فجعل سُلَّمًا، فجعل يدخل منها. قال: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم ومعه رجل من المشركين، قال: فأتى الباب ليدخل، فدخل منه. قال: فانطلق الرجل ليدخل من الكوة. قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما شأنك؟ فقال: إنّي أحمس! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أحمس.
3082- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن الزهري، قال: كان ناسٌ من الأنصار إذا أهلُّوا بالعمرة لم يَحل بينهم وبين السماء شيء يتحرَّجون من ذلك، وكان الرجل يخرج مُهلا بالعمرة فتبدو له الحاجة بعد ما يخرج من بيته فيرجع ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سَقف الباب أن يحول بينه وبين السماء، فيفتح الجدار من وَرَائه، ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته. فتخرج إليه من بيته، حتى بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلَّ زمنَ الحديبية بالعمرة، فدخل حجرة، فدخل رجل على أثره، من الأنصار من بني سَلِمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إنّي أحمس! قال الزهري: وكانت الحُمس لا يبالون ذلك. فقال الأنصاري: وأنا أحمس! يقول: وأنا على دينك، فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها".
3084 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت" الآية كلها. قال قتادة: كان هذا الحي من الأنصار في الجاهلية، إذا أهلَّ أحدُهم بحجّ أو عمرة لا يدخلُ دارا من بابها، إلا أن يتسور حائطا تسوُّرًا، وأسلموا وهم كذلك. فأنزل الله تعالى ذكره(3/558)
في ذلك ما تسمعون، ونهاهم عن صنيعهم ذلك، وأخبرهم أنه ليس من البر صنيعهم ذلك، وأمرهم أن يأتوا البيوت من أبوابها.
3085 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" فإن ناسا من العرَب كانوا إذا حجُّوا لم يدخلوا بيوتهم من أبوابها كانوا يَنقبون في أدبارِها، فلما حجّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع، أقبل يمشي ومعه رجل من أولئك وهو مسلم. فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم باب البيت احتبس الرجل خلفه وأبى أن يدخل، قال: يا رسول الله، إني أحمس! - يقول: إنّي محرم - وكان أولئك الذين يفعلون ذلك يسمون"الحُمس"، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأنا أيضا أحمس! فادخل. فدخل الرجل، فأنزل الله تعالى ذكره:"وأتوا البيوت من أبوابها".
3086 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها ولكنّ البر من اتقى وأتوا البيوت من أبوابها"، وأنّ رجالا من أهل المدينة كانوا إذا خاف أحدُهم من عَدوِّه شيئا أحرم فأمِن، فإذا أحرم لم يلج من باب بيته واتخذ نَقبا من ظَهر بيته. فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة كان بها رجلٌ محرم كذلك - وأنّ أهل المدينة كانوا يُسمُّون البستان"الحُشّ" - وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخل بُستانًا، فدخله من بابه، ودخل معه ذلك المحرم، فناداه رجلٌ من ورائه: يا فلان، إنك محرم وقد دخلت! فقال: أنا أحمس! فقال: يا رسول الله، إن كنت محرما فأنا محرم، وإن كنت أحمسَ فأنا أحمسُ! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظُهورها"، إلى آخر الآية، فأحل الله للمؤمنين أن يدخلوا من أبوابها.
3087 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال حدثنا عبد الله بن أبي جعفر،(3/559)
عن أبيه، عن الربيع قوله:"وليسَ البر بأنْ تأتوا البيوتَ من ظهورها ولكن البر مَن اتقى وأتوا البيوت من أبوابها" قال: كان أهل المدينة وغيرُهم إذا أحرمُوا لم يدخلوا البيوت إلا من ظهورها، وذلك أن يتسوَّرُوها، فكان إذا أحرم أحدُهم لا يدخل البيت إلا أن يتسوّره من قِبَل ظَهره. وأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل ذات يوم بيتا لبعض الأنصار، فدخل رجلٌ على أثره ممن قد أحرم، فأنكروا ذلك عليه، وقالوا: هذا رجل فاجرٌ! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لم دخلت من الباب وقد أحرمت؟ فقال: رأيتك يا رسول الله دخلتَ فدخلتُ على أثرك! فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنّي أحمس! - وقريش يومئذ تُدعى الحُمس - فلما أن قال ذلك النبي صلى الله عليه وسلم قال الأنصاري: إن ديني دينك! فأنزل الله تعالى ذكره:"وليس البر بأن تأتوا البيوتَ من ظهورها" الآية.
3088 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج: قلت لعطاء قوله:"وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها" قال: كان أهل الجاهلية يأتون البيوت من ظهورها ويرَوْنه برًّا، فقال:"البر"، ثم نعت"البر" وأمر بأن يأتوا البيوت من أبوابها = قال ابن جريج: وأخبرني عبد الله بن كثير: أنه سمع مجاهدا يقول: كانت هذه الآية في الأنصار، يأتون البيوت من ظهورها، يتبرَّرُون بذلك.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل الآية إذًا: وليس البر أيها الناس بأن تأتوا البيوت في حال إحرامكم من ظهورها، ولكن البر من اتقى الله فخافه وتجنب محارمه، وأطاعه بأداء فرائضه التي أمره بها، فأما إتيانُ البيوت من ظهورها فلا برَّ لله فيه، فأتوها من حيثُ شئتُم من أبوابها وغير أبوابها، ما لم تعتقدوا تحريم إتيانها من أبوابها في حال من الأحوال، فإن ذلك غيرُ جائزٍ لكم اعتقادُه، لأنه مما لم أحرمه عليكم.
* * *(3/560)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واتقوا الله أيها الناس، فاحذروه وارهبوه بطاعته فيما أمركم به من فرائضه، واجتناب ما نهاكم عنه، لتفلحوا فتنجحوا في طلباتكم لديه، وتدركوا به البقاءَ في جَنَّاته والخلودَ في نعيمه.
* * *
وقد بينا معنى"الفلاح" فيما مضى قبلُ بما يدل عليه (1) .
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) }
قال أبو جعفر: اختلف أهلُ التأويل في تأويل هذه الآية.
فقال بعضهم: هذه الآية هي أول آية نزلت في أمر المسلمين بقتال أهل الشرك. وقالوا: أمر فيها المسلمون بقتال من قاتلهم من المشركين، والكف عمن كفّ عنهم، ثم نُسخت ب"براءة".
* ذكر من قال ذلك:
3089 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن سعد، وابن أبي جعفر، عن أبي جعفر، عن الربيع في قوله:"وقاتلُوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تَعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين" قال: هذه أوّل آية نزلت في القتال
__________
(1) انظر ما سلف 1: 249-250.(3/561)
بالمدينة، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من يقاتله، ويكفُّ عمن كفّ عنه، حتى نزلت"براءة"- ولم يذكر عبد الرحمن:"المدينة".
3090 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم" إلى آخر الآية، قال: قد نسخ هذا! وقرأ قول الله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] ، وهذه الناسخة، وقرأ: (بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) حتى بلغ: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) إلى: (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [سورة التوبة: 1-5] .
* * *
وقال آخرون: بل ذلك أمر من الله تعالى ذكره للمسلمين بقتال الكفار، لم ينسخ. وإنما الاعتداءُ الذي نهاهم الله عنه، هو نهيه عن قتل النساء والذَّراريّ. قالوا: والنهي عن قتلهم ثابتٌ حُكمه اليوم. قالوا: فلا شيء نُسخ من حكم هذه الآية.
* ذكر من قال ذلك:
3091 - حدثنا سفيان بن وكيع قال، حدثنا أبي، عن صَدقة الدمشقي، عن يحيى بن يحيى الغساني، قال: كتبتُ إلى عمر بن عبد العزيز أسألهُ عن قوله:"وقاتلوا في سَبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يُحب المعتدين"، قال: فكتب إليّ:"إنّ ذلك في النساء والذريّة ومن لم يَنصِبْ لك الحرَب منهم".
3092 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله تعالى ذكره:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم" لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، أمروا بقتال الكفار.
3093- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.(3/562)
3094 - حدثني علي بن داود قال، حدثنا أبو صالح، قال، حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين" يقول: لا تقتلوا النساء ولا الصِّبيان ولا الشيخ الكبير وَلا منْ ألقى إليكم السَّلَمَ وكفَّ يَده، فإن فَعلتم هذا فقد اعتديتم.
3095- حدثني ابن البرقي قال، حدثنا عمرو بن أبي سلمة، عن سعيد بن عبد العزيز، قال: كتب عمر بن عبد العزيز إلى عديِّ بن أرطاة:"إني وَجَدتُ آية في كتاب الله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم ولا تعتدوا إنّ الله لا يحب المعتدين" أي: لا تقاتل من لا يقاتلك، يعني: النساء والصبيان والرُّهبان".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذين القولين بالصواب، القولُ الذي قاله عمر بن عبد العزيز. لأن دعوى المدَّعي نَسْخَ آية يحتمل أن تكون غيرَ منسوخة، بغير دلالة على صحة دعواه، تحكُّم. والتحكم لا يعجِز عنه أحد.
* * *
وقد دَللنا على معنى"النسخ"، والمعنى الذي من قبَله يَثبت صحة النسخ، بما قد أغنى عن إعادته في هذا الموضع (1) .
* * *
فتأويل الآية - إذا كان الأمر على ما وصفنا -: وقاتلوا أيها المؤمنون في سبيل الله = وسبيلُه: طريقه الذي أوضحه، ودينه الذي شرعه لعباده = يقول لهم تعالى ذكره: قاتلوا في طاعتي وَعلى ما شرعت لكم من ديني، وادعوا إليه من وَلَّى عنه واستكبر بالأيدي والألسن، حتى يُنيبوا إلى طاعتي، أو يعطوكم الجزية صَغارًا إن كانوا أهل كتاب. وأمرهم تعالى ذكره بقتال مَنْ كان منه قتال من مُقاتِلة أهل الكفر دون من لم يكن منه قتال (2) من نسائهم وذراريهم، فإنهم أموال وخَوَلٌ لهم إذا غُلب المقاتلون منهم فقُهروا، فذلك معنى قوله:"قاتلوا في سبيل الله الذين
__________
(1) انظر ما سلف 2: 471-483، وهذا الجزء 3: 385.
(2) في المطبوعة في الموضعين: "فيه قتال"، وهو خطأ.(3/563)
يقاتلونكم" لأنه أباح الكف عمّن كف، فلم يُقاتل من مشركي أهل الأوثان والكافِّين عن قتال المسلمين من كفار أهل الكتاب على إعطاء الجزية صَغارا.
فمعنى قوله:"ولا تعتدوا": لا تقتلوا وليدًا ولا امرأةً، ولا من أعطاكم الجزية من أهل الكتابَين والمجوس،"إنّ الله لا يُحب المعتدين" الذين يجاوزون حدوده، فيستحلُّون ما حرَّمه الله عليهم من قتل هؤلاء الذين حَرَّم قتلهم من نساء المشركين وذراريهم (1) .
* * *
__________
(1) انظر تفسير"الاعتداء" فيما سلف 2: 307، وهذا الجزء 3: 376 ثم: 573.(3/564)
وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: واقتلوا أيها المؤمنون الذين يقاتلونكم من المشركين حيث أصبتم مَقاتلهم وأمكنكم قتلهم، وذلك هو معنى قوله:"حيث ثقفتموهم".
* * *
ومعنى"الثِّقْفَة" بالأمر (1) الحِذق به والبصر، يقال:"إنه لثَقِفَ لَقفٌ"، إذا كان جيد الحَذر في القتال، بصيرا بمواقع القتل. وأما"التَّثْقيف" فمعنى غير هذا، وهو التقويم.
* * *
فمعنى:"واقتلوهم حيث ثقفتموهم"، اقتلوهم في أي مكان تمكنتم من قتلهم، وأبصرتم مقاتلهم.
* * *
__________
(1) هذا مصدر لم أجده في كتب اللغة، وكأنه كما ضبطته بكسر الثاء على وزن"حكمة ونشدة". والذي ذكروه: "ثقف الشيء ثقفا وثقافا وثقوفة".(3/564)
وأما قوله:"وأخرجوهم من حيث أخرجوكم" فإنه يُعنى بذلك المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم ومنازلهم بمكة، فقال لهم تعالى ذكره: أخرجوا هؤلاء الذين يقاتلونكم - وقد أخرجوكم من دياركم - من مساكنهم وديارهم كما أخرجوكم منها.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ}
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"والفتنة أشد من القتل"، والشرك بالله أشدُّ من القتل.
* * *
وقد بينت فيما مضى أن أصل"الفتنة" الابتلاءُ والاختبار (1)
* * *
فتأويل الكلام: وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجعَ عنه فيصير مشركا بالله من بعد إسلامه، أشدُّ عليه وأضرُّ من أن يُقتل مقيمًا على دينه متمسكا عليه، مُحقًّا فيه. كما:
3096 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: ارتداد المؤمن إلى الوَثن أشدُّ عليه من القتل.
3097- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
3098 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"والفتنة أشدُّ من القتل" يقول: الشرك أشدُّ من القتل.
__________
(1) انظر ما سلف 2: 444.(3/565)
3099- حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة مثله.
3100- حدثت عن عمار بن الحسن، قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"والفتنة أشدُّ من القتل" يقول: الشرك أشدُّ من القتل.
3101 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: الشرك.
3102- حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، قال، قال ابن جريج، أخبرني عبد الله بن كثير، عن مجاهد في قوله:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: الفتنة الشركُ.
3103- حدثت عن الحسين بن الفرج، قال، سمعت الفضل بن خالد قال، حدثنا عبيد بن سليمان، عن الضحاك:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: الشرك أشدُّ من القتل.
3104- حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله جل ذكره:"والفتنة أشدُّ من القتل" قال: فتنة الكفر.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) }
قال أبو جعفر: والقَرَأةُ مختلفة في قراءة ذلك.
فقرأته عامَّة قراء المدينة ومكة:"ولا تُقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم" بمعنى: ولا تبتدئوا - أيها المؤمنون -(3/566)
المشركين بالقتال عند المسجد الحرام، حتى يبدأوكم به، فإن بدأوكم به هناك عند المسجد الحرَام في الحرم، فاقتلوهم، فإن الله جعل ثَواب الكافرين على كفرهم وأعمالهم السيئة، القتلُ في الدنيا، والخزي الطويل في الآخرة، كما:
3105- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"ولا تقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه" كانوا لا يُقاتلون فيه حتى يُبدأوا بالقتال، ثم نسخ بعدُ ذلك فقال:"وَقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" = حتى لا يكون شركٌ ="ويكون الدين لله" = أن يقال: لا إله إلا الله، عليها قاتل نبيُّ الله، وإليها دعا.
3106- حدثني المثنى قال، حدثنا الحجاج بن المنهال قال، حدثنا همام، عن قتادة:"ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم"، فأمر الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن لا يقاتلهم عند المسجد الحرام إلا أن يبدأوا فيه بقتال، ثم نسخ الله ذلك بقوله: (فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة: 5] فأمر الله نبيَّه إذا انقضى الأجل أن يقاتلهم في الحِلِّ والحرَم وعند البيت، حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأنّ محمدا رسولُ الله.
3107- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:"ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه" فكانوا لا يقاتلونهم فيه، ثم نسخ ذلك بعدُ فقال:"قاتلوهم حتى لا تكون فتنة".
* * *
وقال بعضُهم: هذه آيةٌ محكمة غيرُ منسوخة.
* ذكر من قال ذلك:
3108- حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن قاتلوكم" في الحرم فَاقتلوهم كذلك جزاءُ الكافرين، ل(3/567)
اتقاتل أحدا فيه، فمن عَدا عليك فقاتلك فقاتِله كما يقاتلك.
* * *
وقرأ ذلك عُظْم قراء الكوفيين:"ولا تَقْتلوهم عند المسجد الحرامَ حتى يَقْتلوكم فيه فإن قَتلوكم فاقتلوهم" بمعنى: ولا تبدأوهم بقتل حتى يبدأوكم به.
* ذكر من قال ذلك:
3109 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا عبد الرحمن بن أبي حماد، عن أبي حماد، عن حمزة الزيات قال: قلت للأعمش: أرأيت قراءتك:"ولا تَقتلوهم عند المسجد الحرام حتى يَقتلوكم فيه فإن قَتلوكم فاقتلوهم كذلك جَزاءُ الكافرين فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رَحيم"، إذا قَتلوهم كيف يقتلونهم؟ قال: إن العرب إذا قُتل منهم رجل قالوا:"قُتلنا"، وإذا ضُرب منهم رجل قالوا:"ضربنا" (1) .
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هاتين القراءتين بالصواب، قراءةُ من قرأ:"ولا تُقاتلوهم عند المسجد الحرامَ حتى يقاتلوكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم" لأن الله تعالى ذكره لم يأمر نبيَّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه في حالٍ = إذا قاتلهم المشركون = بالاستسلام لهم حتى يَقتلوا منهم قتيلا بعد ما أذن لَهُ ولهم بقتالهم، فتكونَ القراءة بالإذن بقتلهم بعد أن يَقتلوا منهم، أولى من القراءة بما اخترنا. وإذا كان ذلك كذلك، فمعلومٌ أنه قد كان تعالى ذكره أذِن لهم بقتالهم إذا كان ابتداء القتال من المشركين قَبل أن يقتلوا منهم قتيلا وبعد أن يقتلوا منهم قتيلا.
وقد نسخ الله تعالى ذكره هذه الآية بقوله:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"،
__________
(1) الخبر: 3109- عبد الرحمن بن أبي حماد سكين الكوفي: ترجمه ابن الجزري في طبقات القراء 1: 369-370، وذكر أنه أخذ القراءة عن حمزة الزيات، "وهو أحد الذين خلفوه في القيام بالقراءة".
وأما شيخه -في هذا الإسناد-"أبو حماد": فلا ندري من هو؟ والظن أنه زيادة خطأ من الناسخين. وهكذا ظن أخي السيد محمود، أيضًا.(3/568)
فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)
وقوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) [سورة التوبة: 5] ونحو ذلك من الآيات.
* * *
وقد ذكرنا بعضَ قول من قال هي منسوخة، وسنذكر قول من حضرنا ذكرُه ممن لم يُذكر.
3110 - حدثنا الحسن بن يحيى قال، حدثنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة:"ولا تُقاتلوهم عندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه" قال: نسخها قوله: (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .
3111- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب قال، قال ابن زيد في قوله:"ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يُقاتلوكم فيه" قال: حتى يبدأوكم، كان هذا قد حُرِّم فأحل الله ذلك له، فلم يزل ثابتا حتى أمره الله بقتالهم بعدُ.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) }
قال أبوجعفر: يعني تعالى ذكره بذلك: فإن انتهى الكافرون الذين يقاتلونكم عن قتالكم وكفرهم بالله، فتركوا ذلك وتابوا،"فإن الله غفور" لذنوب من آمن منهم وتاب من شركه، وأناب إلى الله من معاصيه التي سلفت منه وأيامه التي مَضت ="رحيم" به في آخرته بفضله عليه، وإعطائه ما يعطى أهل طاعته من الثواب بإنابته إلى محبته من معصيته. كما:
3112 - حدثنا المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن انتهوا" = فإن تابوا ="فإن الله غفورٌ رَحيم".
* * *(3/569)
وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ}
قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وقاتلوا المشركين الذين يقاتلونكم حتى لا تكون فتنة = يعني: حتى لا يكون شركٌ بالله، وحتى لا يُعبد دونه أحدٌ، وتضمحلَّ عبادة الأوثان والآلهة والأنداد، وتكونَ العبادة والطاعة لله وحده دون غيره من الأصنام والأوثان، كما قال قتادة فيما:
3113- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: حتى لا يكون شرك.
3114- حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة في قوله:"وقاتلوهم حَتى لا تكون فتنة" قال: حتى لا يكون شرك.
3115 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: الشرك"ويكون الدِّين لله".
3116- حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
3117 - حدثني موسى بن هارون، قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: أما الفتنة فالشرك.
3118 - حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وقاتلوهم حتى لا تكونَ فتنة"، يقول: قاتلوا حتى لا يكون شِرك.(3/570)
3119 - حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"وقاتلوهم حَتى لا تكونَ فتنة" أي شركٌ.
3120- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" قال: حتى لا يكون كفر، وقرأ (تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) [سورة الفتح: 16] .
3121- حدثني علي بن داود قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:"وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة" يقول: شركٌ.
* * *
وأما"الدين"، الذي ذكره الله في هذا الموضع (1) فهو العبادة والطاعة لله في أمره ونهيه، من ذلك قول الأعشى:
هُوَ دَانَ الرِّبَابَ، إِذْ كَرِهُوا الدِّي ... نَ، دِرَاكًا بِغَزْوَةٍ وَصِيَالِ (2)
يعني بقوله:"إذ كرهوا الدين"، إذ كرهوا الطاعة وأبوْها.
* * *
__________
(1) انظر معنى"الدين" فيما سلف 1: 155، 221.
(2) ديوانه: 12 وسيأتي في التفسير 3: 141 (بولاق) ، قالها في مدح الأسود بن المنذر اللخمي، أخي النعمان بن المنذر لأمه، وأم الأسود من تيم الرباب. هذا قول أبي عبيدة، والصواب ما قال غيره: أنه قالها في مدح المنذر بن الأسود، وكان غزا الحليفين أسدا وذبيان، ثم أغار على الطف، فأصاب نعما وأسرى وسبيا من رهط الأعشى بني سعد بن ضبيعة بن ثعلبة، والأعشى غائب. فلما قدم وجد الحي مباحا. فأتاه فأنشده، وسأله أن يهب له الأسرى ويحملهم، ففعل.
والرباب (بكسر الراء) هم بنو عبد مناة بن أد: تيم وعدي وعوف وثور، اجتمعوا فتحالفوا مع بني عمهم ضبة بن أد، على بني عمهم تميم بن أد. فجاؤوا برب (تمر مطبوخ) فغمسوا فيه أيديهم، فسموا"الرباب"، ثم خرجت ضبة عنهم، واكتفت بعددها.
وقوله: "دان الرباب" أي أذلهم واستعبدهم وحملهم على الطاعة. وقوله: "دراكا"، متتابعا يدرك بعضه بعضا. والصيال: السطرة. صال على عدوه: وثب عليه وسطا. يقول تابع غزوهم والسطو حتى دانو بالطاعة.(3/571)
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
3122- حدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:"ويكونَ الدِّينُ لله" يقول: حتى لا يُعبد إلا الله، وذلك"لا إله إلا الله"، عليه قاتل النبيُّ صلى الله عليه وسلم وإليه دعا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"إنّي أمرتُ أن أقاتِل الناسَ حتى يَقولوا لا إله إلا الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك فقد عَصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقِّها وحسابهم على الله".
3123- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة:"ويكون الدِّينُ لله" أن يقال:"لا إله إلا الله". ذُكِر لنا أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم كان يقول:"إنّ الله أمرَني أن أقاتِل الناسَ حتى يقولوا لا إله إلا الله". ثم ذكر مثل حديث الربيع.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلا عَلَى الظَّالِمِينَ (193) }
قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"فإن انتهوا" فإن انتهى الذين يقاتلونكم من الكفار عن قتالكم، ودَخلوا في ملّتكم، وأقرُّوا بما ألزمكم الله من فرائضه، وتركوا ما هم عليه من عبادة الأوثان، فدعوا الاعتداءَ عليهم وقتالَهم وجهادَهم، فإنه لا ينبغي أن يُعتدى إلا على الظالمين -وهم المشركون بالله، والذين تركوا عبادته وعبدوا غيرَ خالقهم.
* * *(3/572)
فإن قال قائل: وهل يجوز الاعتداء على الظالم فيقال:"فَلا عُدوان إلا على الظالمين"؟ (1) .
قيل: إن المعنى في ذلك على غير الوجه الذي إليه ذهبتَ، وإنما ذلك على وَجه المجازاة، لما كان من المشركين من الاعتداء، يقول: افعلوا بهم مثل الذي فعلوا بكم، كما يقال:"إن تَعاطيتَ منّي ظلما تعاطيته منك"، والثاني ليس بظلم، كما قال عمرو بن شأس الأسديّ:
جَزَيْنَا ذَوِى العُدْوَانِ بِالأمْسِ قَرْضَهُمْ ... قِصَاصًا، سَواءً حَذْوَكَ النَّعْلَ بِالنَّعْلِ (2)
وإنما كان ذلك نظير قوله: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) [سورة البقرة: 15] و (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة: 79] وقد بينا وجه ذلك ونظائره فيما مَضى قبلُ (3) .
* * *
وبالذي قلنا في ذلك من التأويل قال جماعة من أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
3124 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"فلا عُدوان إلا على الظالمين" والظالم الذي أبى أن يقول:"لا إله إلا الله".
3125 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع."فلا عُدوان إلا على الظالمين" قال: هم المشركون.
3126 - حدثني المثنى، قال، ثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا عثمان بن غياث، قال، سمعت عكرمة في هذه الآية:"فلا عدوان إلا على الظالمين"،
__________
(1) انظر معنى"العدوان" فيما سلف 2: 307، وهذا الجزء 3: 376، 564.
(2) لم أجد البيت، وشعر عمرو بن شأس على كثرته وجودته، قد ضاع أكثره.
(3) انظر ما سلف 1: 301-306.(3/573)
قال: هُم من أبى أن يقول:"لا إله إلا الله".
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:"فلا عدوان إلا على الظالمين" فلا تقاتل إلا من قاتل.
* ذكر من قال ذلك:
3127 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:"فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين" يقول: لا تقاتلوا إلا من قاتلكم.
3128- حدثني المثنى، قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3129 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي، قال:"فإن انتهوا فلا عُدوان إلا على الظالمين" فإنّ الله لا يحب العُدوان على الظالمين ولا على غيرهم، ولكن يقول: اعتدُوا عليهم بمثل ما اعتدوْا عليكم.
* * *
قال أبو جعفر: فكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول في قوله:"فإن انتهوْا فلا عُدوان إلا على الظالمين" لا يجوز أن يقول:"فإن انتهوا" إلا وقد علم أنهم لا يَنتهون إلا بعضهم، فكأنه قال: فإن انتهى بعضُهم، فلا عُدوان إلا على الظالمين منهم، فأضمر كما قال: (فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) [سورة البقرة: 196] يريد: فعليه ما استيسر من الهدي، وكما يقول:"إلى مَن تقصد أقصد" يعني: إليه.
وكان بعضهم ينكر الإضمار في ذلك ويتأوله: فإن انتهوا فإن الله غفورٌ رحيم لمن انتهى، ولا عُدوان إلا على الظالمين الذين لا ينتهون.
* * *(3/574)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
القول في تأويل قوله تعالى: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ}
قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه:"الشهر الحرام بالشهر الحرام" ذا القعدة، وهو الشهر الذي كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم اعتمر فيه عُمرة الحديبية، فصدّه مشركو أهل مكة عن البيت ودخول مكة، سنة ست من هجرته، وصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم المشركين في تلك السنة، على أن يعود من العام المقبل، فيدخل مكة ويقيم ثلاثا، فلما كان العامُ المقبل، وذلك سنة سبع من هجرته، خرج معتمرا وأصحابه في ذي القَعدة - وهو الشهر الذي كان المشركون صدُّوه عن البيت فيه في سنة ست- وأخلى له أهل مكة البلد حتى دخلها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقضى حاجته منها، وأتم عمرته، وأقام بها ثلاثا، ثم خرج منها منصرفا إلى المدينة، فقال الله جل ثناؤه لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمسلمين مَعه"الشهرُ الحرام" = يعني ذا القَعدة، الذي أوصَلكم الله فيه إلى حَرمَه وبيته، على كراهة مشركي قُريش ذلك، حتى قضيتم منه وَطَركم ="بالشهر الحرام"، الذي صدكم مشركو قريش العامَ الماضيَ قَبله فيه حتى انصرفتم عن كره منكم عن الحرم، فلم تدخلوه، ولم تصلوا إلى بيت الله، فأقصَّكم الله أيها المؤمنون من المشركين بإدخالكم الحرم في الشهر الحرام على كره منهم لذلك، بما كان منهم إليكم في الشهر الحرام من الصدّ والمنْع من الوصول إلى البيت. كما:
3130 - حدثني محمد بن عبد الله بن بزيع قال، حدثنا يوسف - يعني: ابن خالد السَّمْتيّ - قال، حدثنا نافع بن مالك، عن عكرمة، عن ابن عباس في قوله:"والحرمات قصاص" قال: هم المشركون، حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم(3/575)
في ذي القَعدة، فَرَجَعه الله في ذي القَعدة فأدخله البيتَ الحرام، فاقتص له منهم (1) .
3131 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله جل ثناؤه:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرماتُ قِصَاص" قال: فخرت قريش بردِّها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم الحُديبية محرِما في ذي القَعدة عن البلد الحرام، فأدخله الله مكة في العام المقبل من ذي القَعدة، فقضى عُمرته، وأقصَّه بما حيل بينه وبينها يوم الحديبية.
3132- حدثني المثنى قال، حدثني أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3133 - حدثنا بشر بن معاذ، قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قِصَاص" أقبل نبيّ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فاعتمروا في ذي القَعدة ومعهم الهدي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدّهم المشركون، فصالحهم نبيُّ الله صلى الله عليه وسلم على أن يرجع من عامه ذلك، حتى يرجع من العام المقبل فيكون بمكة ثلاثة أيام ولا يدخلها إلا بسلاح راكب ويخرج، ولا يخرج بأحد من أهل مكة، فنحروا الهدْي بالحديبية، وحلَّقوا وَقصَّروا. حتى إذا كان من العام المقبل، أقبل نبيُّ الله وأصحابه حتى دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القَعدة، فأقاموا بها ثلاث ليال، فكان المشركون قد فخروا عليه حين ردُّوه يوم الحديبية، فأقصَّه الله منهم، فأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردُّوه فيه في ذي القَعدة، فقال الله:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قصَاص".
__________
(1) الخبر: 3130- محمد بن عبد الله بن بزيع -بفتح الباء الموحدة وكسر الزاي- شيخ الطبري: ثقة، وثقه أبو حاتم وغيره، وروى عنه مسلم في صحيحه. وقد مضى مثل هذا الإسناد، ولكن حرف فيه اسم جده إلى"زريع"، وذكرنا أنه غير معروف، واحتمال أن يكون صوابه"بن بزيغ" في: 2451- فقد تبين الصواب هنا.
يوسف بن خالد السمتي: ضعيف جدا كذاب، كما ذكرنا في ذاك الإسناد، ووقع في المطبوعة هنا"السهمي"، بدل"السمتي". وهو خطأ.(3/576)
3134 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وعن عثمان، عن مقسم في قوله:"الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحُرمات قصَاص" قالا كان هذا في سَفر الحديبية، صدَّ المشركون النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت في الشهر الحرام، فقاضوا المشركين يومئذ قضيّة: (1) أنّ لكم أن تعتمروا في العام المقبل - في هذا الشهر الذي صدُّوهم فيه، فجعل الله تعالى ذكره لهم شهرًا حرامًا يعتمرون فيه، مكانَ شهرهم الذي صُدُّوا، فلذلك قال:"والحُرمات قصَاص".
3135 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاص" قال: لما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عُمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ستٍّ من مُهاجَره، صدَّه المشركون وأبوا أن يتركوه، ثم إنهم صالحوه في صُلحهم على أن يُخْلوا له مكة من عام قابل ثلاثةَ أيام، يخرجون ويتركونه فيها، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح خَيْبر من السنة السابعة، فخَلَّوْا له مكة ثلاثة أيام، فنكح في عُمرته تلك مَيمونة بنت الحارث الهلالية.
3136 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير عن جويبر، عن الضحاك في قوله:"الشهرُ الحرَام بالشهر الحرام والحرماتُ قِصاص"، أحصَرُوا النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القَعدة عن البيت الحرام (2) فأدخله الله البيت الحرامَ العامَ المقبلَ، واقتصَّ له منهم، فقال:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام والحُرمات قصاص".
3137 - حدثنا المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا ابن أبي جعفر،
__________
(1) قاضي الرجل يقاضيه قضاء وقضية. حاكمه في مخاصمة، وانتهى معه إلى قضاء فصل وحكم يتراضيانه. وفي صدر صلح الحديبية: "هذا ما قاضى عليه محمد" أي صالح. وبذلك سميت عمرة الحديبية هذه"عمرة القضية"، و"عمرة الصلح.
(2) أحصره المرض وغيره: منعه وحبسه.(3/577)
عن أبيه، عن الربيع، قال: أقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فأحرَموا بالعمرة في ذي القَعدة ومعهم الهدْي، حتى إذا كانوا بالحديبية صدهم المشركون، فصالحهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرجع ذلك العامَ حتى يرجع العامَ المقبل، فيقيم بمكة ثلاثة أيام ولا يخرج معه بأحد من أهل مكة. فنحروا الهديَ بالحديبية وحلَّقوا وقصَّروا. حتى إذا كانوا من العام المقبل، أقبل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حتى دخلوا مكة، فاعتمروا في ذي القَعدة، وأقاموا بها ثلاثة أيام، وكان المشركون قد فخروا عليه حين ردُّوه يوم الحديبية، فقاصَّ الله له منهم، وأدخله مكة في ذلك الشهر الذي كانوا ردُّوه فيه في ذي القعدة. قال الله جل ثناؤه:"الشهرُ الحرام بالشهر الحرام والحرمات قصاص".
3138- حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي، قال، حدثني عمي، قال، حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"والحُرمات قصاص" فهم المشركون، كانوا حبسوا محمدا صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة عن البيت، ففخروا عليه بذلك، فرجعه الله في ذي القعدة، فأدخله الله البيت الحرام واقتصَّ له منهم.
3139 - حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام" حتى فرغ من الآية، قال: هذا كله قد نُسخ، أمرَه أن يجاهد المشركين. وقرأ: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36] وقرأ: (قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) [سورة التوبة: 123] العرب، فلما فرغ منهم، قال الله جل ثناؤه: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ) حتى بلغ قوله: (وَهُمْ صَاغِرُونَ) [سورة التوبة: 29] قال: وهم الروم. قال: فوَجَّه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
3140 - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا عبد الوهاب الثقفي قال، حدثنا أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس في هذه الآية:"الشهرُ الحرامُ بالشهر الحرام(3/578)
والحرماتُ قصاص" قال: أمركم الله بالقصاص، [ويأخذ] منكم العدوان (1) .
3141 - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثنا حجاج، عن ابن جريج، قال، قلت لعطاء، وسألته عن قوله:"الشهر الحرام بالشهر الحرام والحُرمات قصاص" قال: نزلت في الحديبية، مُنعوا في الشهر الحرام، فنزلت:"الشهر الحرام بالشهر الحرام": عمرة في شهر حرام، بعمرة في شهر حرام.
* * *
قال أبو جعفر: وإنما سمى الله جل ثناؤه ذا القَعدة"الشهرَ الحرام"، لأن العرب في الجاهلية كانت تحرِّم فيه القتال والقتل، وتضع فيه السلاح، ولا يقتل فيه أحدٌ أحدًا، ولو لقي الرجل قاتل أبيه أو ابنه. وإنما كانوا سموه"ذا القَعدة" لقعودهم فيه عن المغازي والحروب، فسماه الله بالاسم الذي كانت العرب تُسمِّيه به.
* * *
وأما"الحرمات" فإنها جمع"حُرْمة"،"كالظلمات" جمع"ظلمة"،"والحجرات" جمع"حُجرة". وإنما قال جل ثناؤه:"والحرمات قصاص" فجمع، لأنه أراد: الشهرَ الحرام، والبلد الحرام وحُرمة الإحرام.
* * *
فقال جل ثناؤه لنبيه محمد والمؤمنين معه: دخولكم الحرَم، بإحرامكم هذا، في شهركم هذا الحرام، قصاصُ مما مُنعتم من مثله عامَكم الماضي، وذلك هو"الحرمات" التي جعلها الله قصَاصًا.
* * *
وقد بينا أن"القصاص" هو المجازاة من جهة الفعل أو القول أو البَدن، وهو في هذا الموضع من جهة الفعل (2) .
* * *
__________
(1) ما بين القوسين هكذا في الأصل. ولم أجد الخبر في مكان. وهو خطأ لا شك فيه، أو بين الكلامين خرم لم أتبينه. والمعنى على كل حال: أمركم الله بالقصاص، وكره منكم العدوان، أي أمرهم أن يقتصوا ولا يعتدوا. هذا ما أرجحه إن شاء الله.
(2) انظر ما سلف في هذا الجزء 3: 357-366.(3/579)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل فيما نزل فيه قوله:"فمن اعتدَى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم".
فقال بعضهم بما:
3142- حدثني به المثنى قال، حدثنا عبد الله بن صالح، قال، حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" فهذا ونحوه نزل بمكة والمسلمون يومئذ قليل، وليس لهم سلطانٌ يقهرُ المشركين، وكان المشركون يتعاطونهم بالشتم والأذى، فأمر الله المسلمين، مَنْ يجازي منهم أن يجازِيَ بمثل ما أُتي إليه أو يصبر أو يعفوَ فَهو. أمثل فلما هاجر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، وأعزّ الله سلطانه أمرَ المسلمين أن ينتهوا في مظالمهم إلى سُلطانهم، وأن لا يعدوَ بعضهم على بعض كأهل الجاهلية.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فمن قاتلكم أيها المؤمنون من المشركين، فقاتلوهم كما قاتلوكم. وقالوا: أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وبعد عُمرة القضيَّة.
* ذكر من قال ذلك:
3143 - حدثني القاسم قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: قال مجاهد:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" فقاتلوهم فيه كما قاتلوكم.
* * *
قال أبو جعفر: وأشبه التأويلين بما دلّ عليه ظاهر الآية، الذي حُكي عن(3/580)
مجاهد، لأن الآيات قبلها إنما هي أمرٌ من الله للمؤمنين بجهاد عدوهم على صفة، وذلك قوله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يُقاتلونكم" والآيات بعدها، وقوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه" إنما هو في سياق الآيات التي فيها الأمرُ بالقتال والجهاد، واللهُ جل ثناؤه إنما فرض القتال على المؤمنين بعد الهجرة.
فمعلوم بذلك أن قوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" مدنيّ لا مكيّ، إذ كان فرضُ قتال المشركين لم يكن وَجَب على المؤمنين بمكة، وأنّ قوله:"فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم" نظيرُ قوله:"وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم" وأن معناه: فمن اعتدى عليكم في الحَرم فقاتَلكم فاعتدوا عليه بالقتال نحو اعتدائه عليكم بقتاله إياكم، لأني قد جعلتُ الحُرمات قصاصًا، فمن استحلّ منكم أيها المؤمنون من المشركين حُرْمةً في حَرَمي، فاستحلوا منه مثله فيه.
وهذه الآية منسوخة بإذن الله لنبيه بقتال أهل الحرَم ابتداءً في الحرم وقوله: (وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً) [سورة التوبة: 36]
* * *
... (1) على نحو ما ذكرنا، من أنه بمعنى: المجازاة وإتباع لفظٍ لفظًا، وإن
__________
(1) وضعت هذه النقط، وفصلت بين قوله: "وقاتلوا المشركين كافة" وقوله: "على نحو ما ذكرنا" لوجود خرم لا شك فيه. فإنه سيقول بعد أسطر: "والآخر: أن يكون بمعنى العدو". فهو بصدد تفسير قوله: "فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"، من جهة اللغة. ولا صلة بين كلامه في الآية أهي منسوخة أم غير منسوخة. وقوله: "والآخر" دليل على أنه يذكر وجهين من تفسير"اعتدى" أهي من"العدوان"، أم من"العدو". وكأن كلام الطبري في موضع هذا الخرم كان:
[وأما قوله: (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) . ففي"الاعتداء" وجهان من التأويل:
أحدهما: أن يكون"الاعتداء" من"العُدْوَان"، وَهوَ مجاوزة الحدّ ظُلْمًا وَبغيًا. ويكون معنى الآية: فمن جاوز حدّه ظُلْمًا وَبغيًا، فقاتلكم في الشهر الحرام فكافِئُوه بمثل ما فعل بكم، على نحو ما ذكرنا من أنه. .]
هذا ما استظهرته من تفسير الطبري فيما سلف 2: 307، وهذا الجزء 3: 375، 376، 564، 573 ثم يبقى خرم قبل ذلك في كلامه عن الآية، منسوخة هي أم غير منسوخة.(3/581)
اختلف معنياهما، كما قال: (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ) [سورة آل عمران: 54] وقد قال: (فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ) [سورة التوبة: 79] وما أشبه ذلك مما أتبع لفظٌ لفظًا واختلف المعنيان (1) .
* * *
والآخر: أن يكون بمعنى"العدو" الذي هو شدٌّ ووثوب. من قول القائل:"عدا الأسد على فَريسته". فيكون معنى الكلام: فمن عَدا عليكم - أي فمن شد عليكم وَوثب - بظلم، فاعدوا عليه - أي فشُدُّوا عليه وثبُوا نحوَه - قصاصًا لما فعل عليكم لا ظلمًا. ثم تُدخل"التاء""في عدا"، فتقال:"افتعل" مكان"فعل"، كما يقال:"اقترب هذا الأمر" بمعنى"قرب"، و"اجتلب كذلك" بمعنى"جَلب" وما أشبه ذلك.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) }
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بذلك: واتقوا الله أيها المؤمنون في حُرُماته وحدوده أن تعتَدُوا فيها، فتتجاوزوا فيها ما بيَّنه وحدَّه لكم، واعلموا أن الله يُحب المتقين، الذين يتقونه بأداء فَرائضه وتجنب محارمه.
* * *
__________
(1) انظر ما سلف 2: 307، وهذا الجزء 3: 3: 375، 376، 564، 573.(3/582)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) }
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل هذه الآية، ومن عَنى بقوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
فقال بعضهم: عنى بذلك:"وأنفقوا في سبيل الله" - و"سبيل الله" (1) طريقه الذي أمر أن يُسلك فيه إلى عدوِّه من المشركين لجهادهم وَحرْبهم ="ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" - يقول: ولا تتركوا النفقة في سبيل الله، فإن الله يُعوِّضكم منها أجرًا ويرزقكم عاجلا (2) .
* ذكر من قال ذلك:
3144 - حدثني أبو السائب سلم بن جُنادة والحسن بن عرفة قالا حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن سفيان، عن حذيفة:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: يعني في ترك النفقة.
3145- حدثني محمد بن بشار قال، حدثنا عبد الرحمن قال، حدثنا شعبة = وحدثنا ابن المثنى قال، حدثنا ابن أبي عدي، عن شعبة، عن الأعمش، عن أبي وائل، عن حذيفة = وحدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر الرازي، عن الأعمش = وحدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا سفيان، عن عاصم = جميعا، عن شقيق، عن حذيفة، قال: هو ترك النفقة في سبيل الله.
__________
(1) انظر تفسير"سبيل الله" فيما سلف 2: 497، وهذا الجزء 3: 564.
(2) هكذا في المطبوعة: "أجرًا" وأخشى أن تكون محرفة عن"آجلا"، ليكون السياق مطردا على وجهه، وذلك أحب إلي.(3/583)
3146- حدثنا ابن المثنى قال، حدثنا محمد بن جعفر قال، حدثنا شعبة، عن منصور، عن أبي صالح، عن عبد الله بن عباس أنه قال في هذه الآية:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: تنفق في سبيل الله، وإن لم يكن لك إلا مِشْقَصٌ - أو: سَهمٌ - شعبة الذي يشك في ذلك (1) .
3147- حدثنا ابن المثنى، قال، حدثنا ابن أبي عديّ، عن شعبة، عن منصور، عن أبي صالح الذي كان يحدث عنه الكلبي، عن ابن عباس قال: إن لم يكن لَكَ إلا سَهم أو مشقصٌ أنفقته.
3148- حدثني ابن بشار قال، حدثنا يحيى، عن سفيان، عن منصور، عن أبي صالح، عن ابن عباس:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: في النفقة.
3149- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن عمرو بن أبي قيس، عن عطاء، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، قال: ليس التهلكة أن يُقتل الرجل في سبيل الله، ولكن الإمساك عن النفقة في سبيل الله.
3150 - حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا إسماعيل بن أبي خالد، عن عكرمة، قال: نزلت في النفقات في سبيل الله، يعني قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
3151- حدثنا يونس بن عبد الأعلى قال، حدثنا ابن وهب، قال، أخبرني أبو صخر، عن محمد بن كعب القرظي أنه كان يقول في هذه الآية:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التَّهلكة" قال: كان القوم في سبيل الله، فيتزوَّد الرجل، فكان أفضل زادًا من الآخر. أنفقَ البائس من زاده حتى لا يبقى من زاده شيء، أحبَّ أن
__________
(1) المشقص: نصل السهم، إذا كان طويلا غير عريض.(3/584)
يواسيَ صاحبه، فأنزل الله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
3152- حدثني محمد بن خلف العسقلاني قال، حدثنا آدم قال، حدثنا شيبان، عن منصور بن المعتمر، عن أبي صالح مولى أم هانئ، عن ابن عباس في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: لا يقولنَّ أحدكم إنّي لا أجد شيئًا، إن لم يجد إلا مشقصا فليتجهَّز به في سبيل الله.
3153 - حدثنا ابن عبد الأعلى الصنعاني قال، حدثنا المعتمر، قال: سمعت داود - يعني: ابنَ أبي هند - عن عامر: أن الأنصارَ كان احتبس عليهم بعضُ الرزق، وكانوا قد أنفقوا نَفقاتٍ، قال: فَساءَ ظنُّهم (1) وأمسكوا. قال: فأنزل الله:"وأنفقوا في سَبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: وكانت التهلكة سوء ظنهم وإمساكهم.
3154 - حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى = وحدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل = عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: تمنعكم نَفقةً في حقٍّ خيفةُ العَيْلة (2) .
3155 - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: وكان قتادة يحدِّث أن الحسن حَدَّثه -: أنهم كانوا يُسافرون ويَغزُون ولا ينفقون من أموالهم = أو قال: ولا ينفقون في ذلك = فأمرهم الله أن يُنفقوا في مَغازيهم في سبيل الله.
__________
(1) قوله: "ساء ظنهم"، أي خامرتهم الظنون السيئة القبيحة، وشكوا. والعرب تستعمل"ساء ظنه" في مواضع كثيرة للدلالة على معاني مختلفة، وقد بينت ذلك في مجلة الرسالة، العدد: 910 (20 صفر سنة 1370، ديسمبر 1950) وفي طبقات فحول الشعراء: 510، تعليق: 1.
(2) عال الرجل يعيل عيلا وعيلة: افتقر. وفي كتاب الله: (وَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) العائل: الفقير المحتاج.(3/585)
3156 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال، أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، عن قتادة قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يقول: لا تمسكوا بأيديكم عن النفقة في سبيل الله.
3157 - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي:"وأنفقوا في سبيل الله" = أنفق في سبيل الله ولو عقالا ="ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" - تقول: ليس عندي شيء (1) .
3158 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو غسان قال، حدثنا زهير قال، حدثنا خصيف، عن عكرمة في قوله:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: لما أمر الله بالنفقة، فكانوا - أو بَعضُهم - يقولون: ننفق فيذهبُ مالنا ولا يبقى لما شيء! قال: فقال: أنفقوا ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، قال: أنفقوا وأنا أرزقكم.
3159 - حدثني المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون قال، حدثنا هشيم، عن يونس، عن الحسن، قال: نزلت في النفقة.
3160 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، أخبرنا ابن همام الأهوازي، قال، أخبرنا يونس، عن الحسن في"التهلكة" قال: أمرهم الله بالنفقة في سبيل الله، وأخبرهم أن تَرك النفقة في سبيل الله التهلكة.
3161 - حدثنا القاسم، قال، حدثنا الحسين، قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج، قال: سألت عطاء عن قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: يقول: أنفقوا في سبيل الله ما قل وكثر - قال: وقال لي عبد الله بن كثير: نزلت في النفقة في سبيل الله.
3162- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن منصور، عن أبي
__________
(1) العقال: الحبل الذي يعقل به البعير، أي يشد به وظيفه مع ذراعه، حتى لا يقدر على الحركة.(3/586)
صالح، عن ابن عباس، قال: لا يقولنّ الرجل لا أجد شيئا! قد هَلكتُ! فليتجهَّز ولو بمشقَص.
3163- حدثني محمد بن سعد، قال، حدثني أبي قال، حدثنى عمي، قال، حدثنى أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" يقول: أنفقوا مَا كان من قليل أو كثير. ولا تستسلموا ولا تنفقوا شيئا فتهلكوا.
3164- حدثني المثنى، قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا أبو زهير، عن جويبر، عن الضحاك، قال:"التهلكة": أن يمسك الرجل نفسه وماله عن النفقة في الجهاد في سبيل الله.
3165- حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا عبد الواحد بن زياد، عن يونس، عن الحسن في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، فتدعوا النفقة في سبيل الله.
* * *
وقال آخرون ممن وجَّهوا تأويل ذَلك إلى أنه معنيَّة به النفقة: معنى ذلك: وأنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، فتخرجوا في سبيل الله بغير نفقة ولا قوة.
* ذكر من قال ذلك:
3166- حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قوله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: إذا لم يكن عندك ما تنفق، فلا تخرج بنفسك بغير نفقة ولا قوة: فتلقي بيدَيك إلى التهلكة.
* * *
وقال آخرون: بل معناه: أنفقوا في سبيل الله، ولا تلقوا بأيديكم - فيما أصبتم من الآثام - إلى التهلكة، فتيأسوا من رحمة الله، ولكن ارجوا رَحمته واعملوا الخيرات.(3/587)
* ذكر من قال ذلك:
3167 - حدثني محمد بن عبيد المحاربي قال، حدثنا أبو الأحوص، عن أبي إسحاق، عن البراء بن عازب في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: هو الرجل يُصيبُ الذنوبَ فيُلقي بيده إلى التهلكة، يقول: لا توبة لي.
3168- حدثنا أبو كريب قال، حدثنا أبو بكر بن عياش قال، حدثنا أبو إسحاق، عن البراء، قال: سأله رجل: أحْمل على المشركين وَحدي فيقتلوني، أكنت ألقيتُ بيدي إلى التهلكة؟ فقال: لا إنما التهلكة في النفقة. بعثَ الله رسوله، فقال: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ) [سورة النساء: 84] .
3169- حدثنا الحسن بن عرفة وابن وكيع، قالا حدثنا وكيع بن الجراح، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء بن عازب في قول الله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: هو الرجل يُذنب الذنبَ فيقول: لا يغفر الله لهُ.
3170- حدثنا أحمد بن إسحاق قال، حدثنا أبو أحمد قال، حدثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء = وسأله رجل فقال: يا أبا عُمارة، أرأيتَ قول الله:"ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، أهو الرجل يتقدم فيقاتل حَتى يُقتل؟ = قال: لا ولكنه الرجل يعمل بالمعاصي، ثم يلقي بيده ولا يتوب.
3171- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا يحيى بن واضح قال، حدثنا الحسين، عن أبي إسحاق، قال: سمعت البراء، وسأله رَجل فقال: الرجلُ يحمل على كتيبةٍ وحده فيقاتل، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ فقال: لا ولكن التهلكة أن يُذنب الذنبَ فيلقي بيده، فيقول: لا تقبل لي توبة.
3172- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا حكام، عن الجراح، عن أبي إسحاق، قال: قلت للبراء بن عازب: يا أبا عمارة، الرجل يَلقى ألفًا من العدو فيحمل عليهم، وإنما هو وحده، أيكون ممن قال:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"؟(3/588)
فقال: لا ليقاتل حتى يُقتل! قال الله لنبيه صلى الله عليه وسلم: (فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلا نَفْسَكَ) .
3173 - حدثنا مجاهد بن موسى، قال، أخبرنا يزيد، قال، أخبرنا هشام = وحدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، عن هشام = عن محمد قال: وسألت عبيدة عن قول الله:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة" الآية. فقال عبيدة: كان الرجل يذنب الذنبَ - قال: حسبْته قال: العظيم - فيلقي بيده فيستهلك = زاد يعقوب في حديثه: فنُهوا عن ذلك، فقيل:"أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
3174- حدثني يعقوب بن إبراهيم قال، حدثنا هشيم، قال، أخبرنا هشام، عن ابن سيرين، قال: سألت عبيدة السلماني عن ذلك، فقال: هو الرجل يذنب الذنبَ فيستسلم، ويلقي بيده إلى التهلكة، ويقول: لا توبة له! يعني قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
3175- حدثني يعقوب قال، حدثنا ابن علية، قال، أخبرنا أيوب، عن محمد، عن عبيدة في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: كان الرجل يصيب الذنب فيلقي بيده.
3176- حدثنا ابن وكيع قال، حدثنا أبي، عن ابن عون، عن ابن سيرين، عن عبيدة:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: القُنوط.
3177- حدثنا المثنى قال، حدثنا عمرو بن عون، قال: أخبرنا هشيم، عن يونس وهشام، عن ابن سيرين، عن عبيدة السلماني، قال: هو الرجل يذنب الذنب فيستسلم، يقول: لا توبة لي! فيلقي بيده.
3178- حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال، أخبرنا معمر، قال، حدثني أيوب، عن ابن سيرين، عن عبيدة أنه قال: هي في الرجل يصيبُ الذنبَ العظيم فيلقي بيده، ويَرى أنه قد هلك.
* * *(3/589)
وقال آخرون: بل معنى ذلك: وأنفقوا في سبيل الله، ولا تتركوا الجهاد في سبيله.
* ذكر من قال ذلك:
3179 - حدثني يونس، قال، أخبرنا ابن وهب، قال، أخبرني حَيْوَة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن أسلم أبي عمران، قال: غَزونا المدينة، يريد بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عُقبة بن عامر، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد. قال: فصففنا صفَّين لم أر صَفين قط أعرضَ ولا أطولَ منهما، والروم مُلصقون ظهورهم بحائط المدينة، قال: فحمل رجل منا على العدو، فقال الناس: مَهْ! لا إله إلا الله، يلقي بيده إلى التهلكة! قال أبو أيوب الأنصاري: إنما تتأوّلونَ هذه الآية هكذا، أنْ حَمل رجلٌ يُقاتل يلتمس الشهادة، أو يُبلي من نفسه! إنما نزلت هذه الآية فينا مَعشرَ الأنصار! إنا لما نَصرَ الله نبيه وأظهرَ الإسلام، قُلنا بَيننا معشرَ الأنصار خَفيًّا من رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا قد كنا تركنا أهلنا وأموالنا أن نقيم فيها ونصلحها حتى نصر الله نبيه، هلم نقيم في أموالنا ونصلحها! فأنزل الله الخبرَ من السماء:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" الآية، فالإلقاء بالأيدي إلى التهلكة: أن نُقيم في أموالنا ونُصلحها، وندعُ الجهاد. قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يُجاهدُ في سبيل الله حتى دُفن بالقسطنطينية (1) .
3180- حدثني محمد بن عمارة الأسدي، وعبد الله بن أبي زياد قالا حدثنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد، قال، أخبرني حيوة وابن لهيعة، قالا حدثنا يزيد بن أبي حبيب، قال، حدثني أسلم أبو عمران مولى تُجِيب، قال: كنا بالقسطنطينية، وعلى أهل مصر عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله صلى الله
__________
(1) الحديث: 3179- حيوة: هو ابن شريح. أسلم أبو عمران: نسبه التهذيب بأنه"أسلم بن يزيد" وهو تابعي ثقة، كان وجيها بمصر. وهو مولى تجيب. وسيأتي تخريج الحديث، في الرواية التالية.(3/590)
عليه وسلم، وعلى أهل الشام فَضالة بن عبيد صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج من المدينة صفٌّ عظيم من الروم، قال: وصففنا صفًّا عظيمًا من المسلمين، فحمل رجل من المسلمين على صَفّ الروم حتى دخلَ فيهم، ثم خرج إلينا مقبلا فصاح الناس وقالوا: سبحان الله! ألقى بيده إلى التهلكة! فقام أبو أيوب الأنصاري صاحبُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أيها الناس إنكم تتأوّلون هذه الآية على هذا التأويل! وإنما أنزلت هذه الآية فينا معاشر الأنصار! إنا لما أعزّذ الله دينه وكثَّر ناصريه، قلنا فيما بيننا بعضُنا لبعض سرًّا من رسول الله: إن أموالنا قد ضاعت، فلو أنا أقمنا فيها، فأصلحنا ما ضَاع منها! فأنزل الله في كتابه يرُدُّ علينا ما هممنا به، فقال:"وأنفقوا في سبيل الله ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، بالإقامة التي أردنا أن نقيم في الأموال ونصلحها، فأمرنا بالغزو. فما زال أبو أيوب غازيًا في سبيل الله حتى قبضَه الله (1) .
* * *
__________
(1) الحديث: 3180- أبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ: ثقة معروف، من شيوخ أحمد والبخاري، وكان إماما في الحديث، مشهورا في القراءات، أقرأ القرآن بالبصرة 36 سنة، ثم بمكة 35 سنة. وهو مولى آل عمر بن الخطاب. ووهم ابن حزم فيه وهمًا عجيبًا، فأخطأ خطأ طريفا: جعله عربيا حميريا، ثم من"بني سبيع"! ثم نسبه إلى حي زعم أن اسمه"مقر"، بضم الميم وسكون القاف! فقال في جمهرة الأنساب، ص: 409"ومن ولد سبيع المذكور: مقر، حي ضخم، إليه ينسب عبد الله بن يزيد المقري (يعني بدون همزة) ، ولم يكن مقرئا للقراءات، وإنما كان محدثا"!! وأخطأ ابن حزم وشبه له، فأتى بقبيلة لم يذكرها أحد قط - فيما نعلم. وإنما انتقل نظره إلى شيء آخر بعيد، إلى"عبد الرحمن بن عبد القاري" بتشديد الياء دون همزة، من ولد"القارة بن الديش". وهو تابعي، ولم يك مقرئا. فإلى هذا ذهب وهمه. ثم لا ندري كيف وضع القبيل الذي اخترعه، في"بني سبيع"!!
ووقع في المطبوعة هنا"ثنا أبو عبد الرحمن عن عبد الله بن يزيد". وهو خطأ في زيادة"عن". و"أبو عبد الرحمن" كنية"عبد الله بن يزيد"، ليس راويا آخر.
والحديث رواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 599، عن عبد الله بن المبارك، عن حيوة.
ورواه أبو داود السجستاني: 2512، من طريق ابن وهب، عن حيوة وابن لهيعة.
ورواه الترمذي 4: 72-73، من طريق أبي عاصم النبيل، عن حيوة. وقال: "حديث حسن غريب صحيح".
ورواه الحاكم في المستدرك 2: 275، من طريق عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة، وحده. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
ورواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر: 269-270، بإسنادين: رواه عن عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد. ورواه عن عبد الله بن يزيد المقرئ، عن حيوة بن شريح - كلاهما عن يزيد بن أبي حبيب، به.
وقوله في الرواية الماضية"غزونا المدينة، يريد القسطنطينية" - هكذا ثبت في المطبوعة هنا. ولفظ أبي داود السجستاني: "غزونا من المدينة، نريد القسطنطينية". ولعل ما هنا أجود وأصح، فإن أسلم أبا عمران مصري. والظاهر من السياق أن الجيش كان من مصر والشام.
وقوله في تلك الرواية: "وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد" يدل على أن هذه الغزوة كانت في سنة 46 أو قبلها، لأن عبد الرحمن مات تلك السنة. وهذه الغزوة غير الغزوة المشهورة التي مات فيها أبو أيوب الأنصاري. وقد غزاها يزيد بن معاوية بعد ذلك سنة 49، ومعه جماعات من سادات الصحابة. ثم غزاها يزيد سنة 52، وهي التي مات فيها أبو أيوب رضي الله عنه، وأوصى إلى يزيد أن يحملوه إذا مات، ويدخلوه أرض العدو، ويدفنوه تحت أقدامهم حيث يلقون العدو. ففعل يزيد ما أوصى به أبو أيوب. وقبره هناك إلى الآن معروف. انظر طبقات ابن سعد 3/2/49-50، وتاريخ الطبري 6: 128، 130، وتاريخ ابن كثير 8: 30-31، 32، 58-59. وتاريخ الإسلام للذهبي 2: 231، 327-328.
وقوله في هذه الرواية الثانية"وعلى أهل الشام فضالة بن عبيد" - هذا هو الصواب الثابت في رواية الطيالسي، وابن عبد الحكم، والحاكم. ووقع في رواية الترمذي"وعلى الجماعة فضالة بن عبيد". وهو وهم، لعله من الترمذي أو من شيخه عبد بن حميد.
والحديث ذكره ابن كثير 1: 437-438، من رواية الليث بن سعد، ولم ينسبها. ثم خرجه من أبي داود، والترمذي، والنسائي، وعبد بن حميد في تفسيره، وابن أبي حاتم، وابن جرير، وابن مردويه، وأبي يعلى، وابن حبان، والحاكم. ثم ذكر رواية منه، على أنها لفظ أبي داود - ولا توافق لفظه، وفيها تحريف كثير.
وذكره السيوطي 1: 207-208، وزاد نسبته للطبراني، والبيهقي في سننه.(3/591)
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندي أنْ يُقال: إنّ الله جل ثناؤه أمرَ بالإنفاق في سبيله بقوله:"وأنفقوا في سبيل الله" - وسبيلُه: طريقه الذي شَرَعه لعباده وأوضحه لهم. ومعنى ذلك: وأنفقوا في إعزاز ديني الذي شرعتُه لكم، بجهاد عدوّكم الناصبين لكم الحربَ على الكفر بي، ونَهاهم أن يلقوا بأيديهم إلى التهلكة، فقال:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة".
* * *
وذلك مثلٌ، والعرب تقول للمستسلم للأمر:"أعطَى فلان بيديه"، وكذلك(3/592)
يقال للممكن من نفسه مما أريد به:"أعطى بيديه".
* * *
فمعنى قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة"، ولا تستسلموا للهلكة، فتُعطوها أزمَّتكم فتهلكوا.
والتارك النفقةَ في سبيل الله عند وجوب ذلك عليه، مستسلم للهلكة بتركه أداءَ فرضِ الله عليه في ماله. وذلك أن الله جل ثناؤه جَعل أحد سِهام الصدقات المفروضات الثمانية"في سبيله"، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) إلى قوله: (وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ) [سورة التوبة: 60] فمن ترك إنفاق ما لزمه من ذلك في سبيل الله على ما لزمه، كان للهلكة مستسلما، وبيديه للتهلكة ملقيا.
وكذلك الآئسُ من رحمة الله لذنب سلف منه، مُلق بيديه إلى التهلكة، لأن الله قد نهى عن ذلك فقال: (وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [سورة يوسف: 87] .
وكذلك التارك غزوَ المشركين وجهادَهم، في حال وجوب ذلك عليه، في حال حاجة المسلمين إليه، مُضيعٌ فرضا، مُلقٍ بيده إلى التهلكة.
فإذ كانت هذه المعاني كلها يحتملها قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" ولم يكن الله عز وجلّ خصَّ منها شيئًا دون شيء، فالصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله نهى عن الإلقاء بأيدينا لما فيه هلاكنا، والاستسلام للهلكة - وهي العذاب - بترك ما لزمنا من فرائضه، فغيرُ جائز لأحد منا الدخول في شيء يكرهه الله منا، مما نستوجب بدخولنا فيه عَذابَه.
غير أن الأمر وإن كان كذلك، فإن الأغلب من تأويل الآية: وأنفقوا أيها المؤمنون في سبيل الله، ولا تتركوا النفقة فيها، فتهلكوا باستحقاقكم - بترككم ذلك -عذابي. كما:
3181 - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو صالح قال، حدثنا معاوية، عن(3/593)
علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم إلى التهلكة" قال: التهلكة عذابُ الله.
* * *
قال أبو جعفر: فيكون ذلك إعلاما منه لهم - بعد أمره إياهم بالنفقة - ما لمن ترك النفقة المفروضة عليه في سبيله، منَ العقوبة في المعاد.
* * *
فإنْ قال قائل: فما وجه إدخال الباء في قوله:"ولا تلقوا بأيديكم"، وقد علمت أن المعروف من كلام العرب:"ألقيت إلى فلان درهما"، دون"ألقيتُ إلى فلان بدرهم"؟
قيل: قد قيل إنها زيدت نحو زيادة القائل"الباء" في قوله:"جذبتُ بالثوب، وجذبت الثوب""وتعلَّقتُ به وتَعلَّقته"، و (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) [سورة المؤمنون: 20] وإنما هو: تُنبت الدهنَ (1) .
* * *
وقال آخرون:"الباء" في قوله:"ولا تُلقوا بأيديكم" أصلٌ للكنية (2) لأن كل فعل وَاقع كُنِي عنه فهو مضطرٌّ إليها (3) نحو قولك في رجل"كلَّمته" فأردت الكناية عن فعله، فإذا أردت ذلك قلت:"فعلت به" قالوا: فلما كان"الباء" هي الأصل، جاز إدخال"الباء" وإخراجها في كل"فعلٍ" سبيلُه سبيلُ كُنْيته (4) .
* * *
وأما"التهلكة" فإنها"التفعُلة" من"الهلاك".
* * *
__________
(1) انظر الإنصاف لابن الأنباري: 128.
(2) في المطبوعة: "أصل للكلمة"، وهو تحريف، وانظر التعليقات الآتية.
(3) الفعل الواقع: هو الفعل المتعدي، ضريع الفعل اللازم. ويقال له أيضًا "الفعل المجاوز" (انظر بغية الوعاة 2: 81) .
(4) في المطبوعة: "سبيل كلمته"، وهو تحريف كأخيه السالف. وأراد الطبري بالكناية عن الفعل: أن تستبدل به لفظ"فعل". و"الفعل": كناية عن كل عمل. تقول: "ضربت الرجل" ثم تريد الكناية عن الفعل فتقول: "فعلت به"، وهذا الذي تقوله هو"الكنية".(3/594)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}
قال أبو جعفر: يعني جل ثناؤه بقوله:"وأحسنوا" أحسنوا أيها المؤمنون في أداء ما ألزمتكم من فرائضي، وتجنُّب ما أمرتكم بتجنبه من معاصيَّ، ومن الإنفاق في سبيلي، وَعَوْدِ القوي منكم على الضعيف ذي الخَلَّة (1) فإنّي أحبّ المحسنين في ذلك (2) كما:
3182 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا زيد بن الحباب، قال، أخبرنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن رجل من الصحابة في قوله:"وأحسنوا إنّ الله يُحب المحسنين" قال: أداء الفرائض.
* * *
وقال بعضهم: معناه: أحسنوا الظن بالله.
* ذكر من قال ذلك:
3183 - حدثني المثنى قال، حدثنا إسحاق قال، حدثنا حفص بن عمر، عن الحكم بن أبان، عن عكرمة:"وأحسنوا إنّ الله يُحب المحسنين": قال: أحسنوا الظن بالله، يبرَّكم.
* * *
وقال آخرون: أحسنوا بالعَوْد على المحتاج.
* ذكر من قال ذلك:
3184 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد في قوله:"وأحسنوا إنّ الله يحب المحسنين" عودوا على من ليس في يده شيء.
* * *
__________
(1) ذو الخلة: المحتاج والفقير، والمختل الحال بفساد أو وهن.
(2) انظر ما سلف في معنى"الإحسان" 2: 292.(3/595)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
بسم الله الرحمن الرحيم
القول في تأويل قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك:
* * *
فقال بعضهم: معنى ذلك أتِمّوا الحج بمناسكه وسُننِه، وأتموا العُمْرة بحدودها وسُننِها.
* ذكر من قال ذلك:
3185 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهَبّاري، قال. ثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة:" وأتِمّوا الحجّ والعمرة لله" قال: هو في قراءة عبد الله:"وَأَقِيمُوا الْحَجَّ والْعُمْرَةَ إِلى الْبَيْتِ" قال: لا تجاوزُوا بالعمرة البيتَ= قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.
3186 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن إبراهيم أنه قرأ:" وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت".
3187 - حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة أنه قرأ:" وأقِيموا الحجَّ والعمرة إلى البيت".
3188- حدثني المثنى، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثنا معاوية، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" وأتِمّوا الحج والعمرةَ لله"، يقول: من أحرَم بحجّ أو بعُمْرة فليس له أن يَحلّ حتى يُتمَّها تَمامُ الحجِّّ يوم النَّحر إذا رَمَى جَمرةَ العَقبة وزار البيت فقد حَلّ من إحرامه كُلّه، وتمامُ العمرة إذا طاف بِالبيت وبالصفَّا والمروة، فقد حَلّ.(3/7)
3189- حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا عيسى= وحدثني المثنى، قال: ثنا أبو حذيفة قال: ثنا شبل= جميعًا، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قوله:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرةَ لله" قال: ما أمِروا فيهما.
3190- حدثت عن عمار بن الحسن، قال: ثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع قوله:" وأتموا الحَج والعمرة لله" قال: قال إبراهيم عن علقمة بن قيس قال:" الحجُّ": مناسك الحج، و" العمرة": لا يجاوز بها البيت.
3191- حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم:" وأتِموا الحجّ والعمرة لله" قال: قال تَقْضى مناسكَ الحجَّ عرفة والمزدلفة وَمواطنَها، والعمرةُ للبيت أنْ يطوف بالبيت وبين الصفَّا والمروة ثم يَحلُّ.
* * *
وقال آخرون: تمامُهما أن تُحرِم بهما مفردين من دُوَيْرة أهلِك. (1)
*ذكر من قال ذلك:
3193- حدثنا محمد بن المثنى، قال: ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي أنه قال: جاء رَجُل إلى عليّ فقال له في هذه الآية:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله" أن تحرم من دُوَيْرة أهلِك.
3194- حدثنا ابن حميد، قال: ثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: جاء رجل إلى عليّ رضوان الله عليه، فقال: أرأيتَ قَول الله عز وجل:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله"؟ قال: أن تحرم من دُوَيْرة أهلك.
3195- حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن محمد بن سوقة، عن سعيد بن جبير، قال: من تَمام العُمرة أن تحرم من دُوَيرة أهلك.
__________
(1) الدويرة تصغير"الدار": وهو كل موضع حل به قوم، فهو دارهم. هذا، وقد سقط من الترقيم هنا رقم: 3192ن فلم أستطع أن أغير الترقيم كله، فتركته على حاله.(3/8)
3196- حدثنا أبو كريب، قال: ثنا وكيع، عن ثور بن يزيد، عن سليمان بن موسى، عن طاوس، قال: تمامُهما إفرادهما مُؤْتَنَفتين من أهلك. (1)
3197- حدثني المثنى، قال: ثنا سفيان، عن ثور، عن سليمان بن موسى، عن طاوس:" وأتموا الحج والعمرة لله" قال: تفردهما مؤقتتين من أهلك، فذلك تمامهما. (2)
* * *
وقال آخرون: تمام العمرة أن تعمل في غير أشهر الحج، (3) وتمامُ الحج أن يُؤتى بمناسكه كلِّها، حتى لا يلزم عَامِلَه دمٌ بسبب قِران ولا مُتعة.
* ذكر من قال ذلك:
3198 - حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وأتِمُّوا الحجَّ والعمرة لله" قال: وتمام العمرة ما كان في غير أشهر الحج.
ومن كان في أشهر الحج، ثم أقام حتى يَحُجّ، (4) فهي مُتعة. عليه فيها الهْدي إن وُجد، وإلا صَام ثلاثة أيام في الحج وسبعةً إذا رَجع.
3199 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا سعيد، عن قتادة قوله:" وأتموا الحج والعمرة لله" قال: ما كان في غير أشهر الحج فهي عمرة تامة، وما كان في أشهر الحج فهي مُتعة وعليه الهدي.
3200 - حدثني يعقوب، قال: ثنا هشيم، عن ابن عون، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إنّ العمرة في أشهر الحج ليست بتامة. قال: فقيل له:
__________
(1) ائتنف الشيء ائتنافا: أخذه من أوله وابتدأه. ويعني: أفرادهما منذ ابتداء دخوله فيهما. وانظر الأثر الذي يليه والتعليق عليه.
(2) هكذا جاء في هذا الأثر"موقتتين" من التوقيت، وهو التحديد، والميقات: وهو الوقت المضروب للفعل، أو الموضع. يقال: هذا ميقات أهل الشام أو مصر، للموضع الذي يحرمون منه. ويعني أن ميقاتها من عند دويرة أهله.
(3) هكذا في الأصل: "أن تعمل" ولعل الصواب"أن تعتمر".
(4) في المطبوعة: "وما كان في أشهر الحج"، والصواب ما أثبت.(3/9)
العمرة في المحرَّم؟ قال: كانوا يَرَونها تامَّة.
* * *
وقال آخرون: إتمامهما أن تخرج من أهلك لا تريد غيرَهما.
* ذكر من قال ذلك:
3201 - حدثنا القاسم، قال: حدثنا الحسين، قال: حدثني رجل، عن سفيان، قال: هو يعني تمامهما أن تخرُج من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة، وتُهلّ من الميقات. ليس أن تخرُج لتجارةٍ ولا لحاجةً، حتى إذا كنت قريبًا من مكة قلت: لو حججت أو اعتمرت. وذلك يجزئ، ولكن التمَّام أن تخرُج له لا تخرُج لغيره.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: أتموا الحجَّ والعمرةَ لله إذا دخلتم فيهما.
* ذكر من قال ذلك:
3202 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: ليست العمرة واجبة على أحد من الناس. قال: فقلت له: قولُ الله تعالى:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرةَ لله"؟ قال: ليس من الخلقِ أحدٌ ينبغي له إذا دَخَل في أمر إلا أن يتمَّه، فإذا دخل فيها لم يَنْبَغ له أن يهلّ يومًا أو يومين ثم يرجع، كما لو صام يومًا لم ينبغ له أن يفطر في نصف النهار.
* * *
* وكان الشعبي يقرأ ذلك رفعا.
3203 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن شعبة، قال: حدثني سعيد بن أبي بردة أن الشعبي وأبا بردة تذاكرَا العمرة، قال: فقال الشعبي: تطوَّع،" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله". وقال أبو بردة: هي واجبة" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله".
3204- حدثني محمد بن عمرو، قال: ثنا أبو عاصم، قال: ثنا ابن(3/10)
عون، عن الشعبي أنه كان يقرأ:" وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةُ لله".
* * *
وقد روي عن الشعبي خلاف هذا القول، وإن كان المشهور عنه من القول هو هذا. وذلك ما:-
3205 - حدثني به المثنى، قال: ثنا الحجاج بن المنهال، قال: ثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن الشعبي، قال: العمرةُ واجبةٌ.
* * *
فقراءة من قال: العمرة واجبة- نصبُها، بمعنى أقيموا فرضَ الحجّ والعمرةَ، كما:-
3206 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: أخبرنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، قال: سمعت أبا إسحاق، يقول: سمعت مسروقًا يقول: أُمرتم في كتاب الله بأربع: بإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، والحج، والعمرة. قال: ثم تلا هذه الآية: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [سورة آل عمران: 97] "وأتموا الحجَّ والعُمْرةَ لله إلى البيت".
3207 - حدثني أبو السائب، قال: ثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثًا يروي عن الحسن، عن مسروق، قال: أمرنا بإقامة أربعةٍ: الصلاةِ والزكاةِ، والعمرةِ والحجّ، فنزلت العُمْرة من الحج منزلةَ الزكاة من الصلاة.
3208 - حدثنا ابن بشار، قال: أنبأنا محمد بن بكر، قال: ثنا ابن حريج، قال: قال علي بن حسين وسعيد بن جبير، وسُئلا أواجبةٌ. العمرة على الناس؟ فكلاهما قال: ما نعلمها إلا واجبة، كما قال الله:" وأتِمّوا الحجَّ والعمرة لله".
3209 - حدثنا سَوَّار بن عبد الله، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن عبد الملك بن أبي سليمان، قال: سأل رجل سعيد بن جبير عن العمرة فريضَةٌ هي أم تطوعٌ؟ قال: فريضةٌ. قال: فإن الشعبي يقول: هي تطوع. قال: كَذَب(3/11)
الشعبي، وقرأ:" وأتموا الحجَّ والعمرةَ لله" (1)
3210 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن قتادة عمن سمع عطاء يقول في قوله:" وأتمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله"، قال: هما وَاجبان: الحج، والعمرة.
* * *
قال أبو جعفر: فتأويل هؤلاء في قوله تبارك وتعالى:" وأتِمُّوا الحجَّ والعمرةَ لله" أنهما فرضَان واجبان أمرَ الله تبارك وتعالى أمر بإقامتهما، (2) كما أمر بإقامة الصلاة، وأنهما فريضتان، وأوجب العمرة وجوبَ الحج. وهم عدد كثير من الصحابة والتّابعين، ومن بعدهم من الخالفين، (3) كرهنا تطويل الكتاب بذكرهم وذكر الروايات عنهم.
وقالوا: معنى قوله:" وأتموا الحج والعمرة لله" وأقيموا الحج والعمرة.
* ذكر بعض من قال ذلك:
3211 - حدثنا موسى بن هارون، قال: ثنا عمرو بن حماد، قال: ثنا أسباط، عن السدي قوله:" وأتموا الحج والعمرة لله" يقول: أقيموا الحج والعمرة.
3212 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، عن ثُوير، عن أبيه، عن علي:" وأقيموا الحج والعمرة للبيت" ثم هي واجبةٌ مثل الحج. (4)
__________
(1) قوله: "كذب الشعبي"، أي أخطأ. وهو كثير جدا في الأخبار والأحاديث وأشعار العرب، بمعنى الخطأ، لا بمعنى الكذب الذي هو فقيض الصدق. ويعني: أخطأ الشعبي في اجتهاده.
(2) في المطبوعة: "في أنهما" بزيادة"في" وهو خطأ ثم فيها"قرضان واجبان من الله"، والصواب ما أثبت.
(3) يقال: خلف قوم بعد قوم، وسلطان بعد سلطان، يخلفون خلفا. فهم خالفون. تقول: أنا خالفه وخالفته: أي جئت بعده.
(4) الخبر: 3212- أحمد بن حازم بن محمد بن يونس بن قيس بن أبي غرزة الغفاري، شيخ الطبري: مضت الرواية عنه في: 44، 164. ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/48، وذكر أنه كتب إليه. ثوبر بن أبي فاختة: ضعيف جدا، روى البخاري في الكبير 1/2/183، والصغير: 128، عن الثوري، قال: "كان ثوير من أركان الكذب"، وهو بضم الثاء المثلثة مصغرا. أبوه أبو فاختة: اسمه سعيد بن علاقة، وهو مولى أم هانئ بنت أبي طالب. وهو تابعي ثقة، يروى عن علي، وعن ابن مسعود، وغيرهما.(3/12)
3213 - حدثنا أحمد بن حازم، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا إسرائيل، قال: ثنا ثوير، عن أبيه، عن عبد الله:"وأقِيمُوا الحجَّ والعمرةَ إلى البيت" ثم قال عبد الله: والله لولا التحرُّجُ، وأنيّ لم أسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها شيئًا، لقلت إنّ العمرة واجبة مثل الحج. (1)
* * *
قال أبو جعفر: وكأنهم عَنوا بقوله:" أقيمُوا الحج والعمرة": ائتوا بهما، بحدودهما وأحكامِهما، على ما فُرِض عليكم.
* * *
وقال آخرون ممن قرأ قراءة هؤلاء بنصب"العُمْرة": العمرة تطوعٌ = ورأوا أنه لا دلالة على وجوبها في نَصْبهم"العمرة" في القراءة، إذ كان من الأعمال ما قد يلزم العبدَ عمله وإتمامُه بدخوله فيه، ولم يكن ابتداءُ الدخول فيه فرضًا عليه. وذلك كالحج التطوُّع، لا خلاف بين الجميع فيه أنه إذا أحرم به أنّ عليه المضيَّ فيه وإتمامه، ولم يكن فرضًا عليه ابتداء الدخولُ فيه. وقالوا: فكذلك العمرة غيرُ فرضٍ واجب الدخولُ فيها ابتداءً، غير أن على من دخل فيها وأوجبَها على نفسه إتمامَها بعد الدخول فيها. قالوا: فليس في أمر الله بإتمام الحج والعمرة دلالةٌ على وجوب فرضها. قالوا: وإنما أوَجبنا فرضَ الحجّ بقوله عز وجل: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا) [سورة آل عمران: 97] .
وممن قال ذلك جماعة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الخالفين.
* ذكر من قال ذلك:
__________
(1) الخبر: 3213- هو في معنى الذي قبله، بالإسناد نفسه. وزاد في هذا نسبة القراءة لابن مسعود. وهي من القراءات الشاذة المخالفة لرسم المصحف. ورواه البيهقي في السنن الكبرى 4: 351، من طريق عبد الله بن رجاء، عن إسرائيل، به. والإسناد في الخبر بن ضعيف، كما بينا آنفًا.(3/13)
3214 - حدثنا أبو كريب وأبو السائب قالا حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت سعيد بن أبي عروبة، عن أبي معشر عن إبراهيم، قال: قال عبد الله: الحجُّ فريضة، والعمرةُ تطوُّع.
3215 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ابن أبي عروبة، عن أبي معشر، عن النخعي، عن ابن مسعود مثله.
3216- وحدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن عثمة، قال: حدثنا سعيد بن بشير، عن قتادة، عن سعيد بن جبير، قال: العمرة ليست بواجبة.
3217 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيره، عن سماك، قال: سألت إبراهيم عن العمرة فقال: سنة حسنة.
3218 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، مثله.
3219 - حدثني المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا أبو عوانة، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله.
3220 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن المغيرة، عن إبراهيم، مثله.
3221 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: ثنا حماد، قال: حدثنا عبد الله بن عون، عن الشعبي، قال: العمرة تطوع.
* * *
قال أبو جعفر: فأما الذين قرءوا ذلك برفع"العمرة"، فإنهم قالوا: لا وجه لنَصْبها، فالعمرة إنما هي زيارة البيت، ولا يكون مستحقًّا اسم معتمرٍ إلا وهو له زائر. قالوا: وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته= وهو متَى بلغه فطاف به وبالصفا والمروة، فلا عمل يَبقى بعده يؤمَر بإتمامه بعد ذلك، كما يؤمر بإتمامه الحاجُّ بعد بلوغِه والطوافِ به وبالصفا والمروة بإتيان عَرَفة والمزدلفة والوقوفِ بالمواضع التي أمر بالوقوف بها، وعملِ سائرِ أعمال الحج الذي هو من تمامه بعد إتيان البيت(3/14)
= (1) لم يكن لقول القائل للمعتمر:" أتمَّ عمرتك" وجهٌ مفهوم. وإذا لم يكن له وجهٌ مفهوم. فالصواب من القراءة في" العمرة" الرفعُ على أنه من أعمال البِرِّ لله، فتكون مرفوعة بخبرها الذي بعدها، وهو قوله:" لله".
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القراءتين بالصواب في ذلك عندنا، قراءة من قرأ بنصب" العمرة" على العطف بها على" الحجّ"، بمعنى الأمر بإتمامهما له.
ولا معنى لاعتلال من اعتَلّ في رفعها بأن" العمرة" زيارة البيت، فإن المعتمر متى بلغه، فلا عمل بقي عليه يؤمر بإتمامه. وذلك أنه إذا بلغ البيت فقد انقضت زيارته وبقي عليه تمامُ العمل الذي أمره الله به في اعتماره، وزيارَته البيت، وذلك هو الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، وتجنبُ ما أمر الله بتجنبه إلى إتمامه ذلك، وذلك عملٌ - وإن كان مما لزمه بإيجاب الزيارة على نفسه - غيرُ الزيارة. هذا، مع إجماع الحجة على قراءة" العمرة" بالنصب، ومخالفة جميع قرأة الأمصار قراءةَ من قرأ ذلك رفعًا، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على خطأ من قرأ ذلك رفعًا.
* * *
وأما أولى القولين اللذين ذكرنا بالصواب في تأويل قوله:" والعمرةَ لله" على قراءة من قرأ ذلك نصبًا فقولُ عبد الله بن مسعود، ومن قال بقوله من أنّ معنى ذلك: وأتمّوا الحج والعمرة لله إلى البيت بعد إيجابكم إياهما = لا أنَّ ذلك أمرٌ من الله عز وجل - بابتداء عَمَلهما والدخول فيهما وأداء عملهما بتمامه - بهذه الآية.
وذلك أن الآية محتملة للمعنيين اللذين وَصَفْنا: من أن يكون أمرًا من الله عز وجل بإقامتهما ابتداءًا وإيجابًا منه على العبادِ فرضَهما، وأن يكون أمرًا منه بإتمامهما بعد
__________
(1) سياق العبارة: "وإذا كان لا يستحق اسم معتمر إلا بزيارته ... لم يكن لقول قائل ... " وما بينهما فصل طويل(3/15)
الدخول فيهما، وبعد إيجاب موجبِهما على نفسه، فإذ كانت الآية محتملة للمعنيين اللذين وصفنا، فلا حجة فيها لأحد الفريقين على الآخر، إلا وللآخر عليه فيها مثلها. وإذ كان كذلك ولم يكن بإيجاب فرض العمرة خبرٌ عن الحجة للعذرِ قاطعًا، وكانت الأمة في وجوبها متنازعة - لم يكن لقول قائلٍ:" هي فرض" بغير برهان دالّ على صحة قوله - معنى (1) ، إذ كانت الفرُوض لا تلزم العباد إلا بدلالةٍ على لزومها إياهم واضحةٍ.
فإن ظن ظانٌّ أنها واجبة وجوبَ الحج، وأن تأويلَ من تأوّلَ قوله:" وأتمّوا الحج والعمرةَ لله" بمعنى: أقيموا حدُودَهما وفروضهما أوْلى من تأويلنا، (2) بما:-
3222 - حدثني به حاتم بن بكير الضبي، قال: ثنا أشهل بن حاتم الأرطبائي، قال: ثنا ابن عون، عن محمد بن جحادة، عن رجل، عن زميل له، عن أبيه- وكان أبوه يكنى أبا المُنْتَفِق- قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم بعرفة، فدنوتُ منه، حتى اختلفتْ عُنق راحلتي وعُنُق راحلته، فقلت: يا رسول الله أنبئني بعمل يُنجيني من عذاب الله ويُدخلُني جَنتَه! قال:"اعبد الله ولا تشرك به شيئًا، وأقم الصلاة المكتوبة، وأدّ الزكاة المفروضة، وحُجّ واعتَمِر= قال أشهل: وأظنه قال:"وصُمْ رمضان= وانظر ماذا تحبُّ من الناس أن يأتوه إليك فافعله بهم، وما تكرهُ من الناس أن يأتوه إليك فذَرْهم منه". (3)
وما:-
__________
(1) السياق: "لم يكن لقول قائل ... معنى "
(2) سياق المعنى: "وأن تأويل من تأول ... أولى من تأويلنا".
(3) الحديث: 3222- هذا إسناد ضعيف، لإبهام بعض رواته الذين لم يسموا.
حاتم بن بكير الضبي، شيخ الطبري: هو أيضًا من شيوخ ابن ماجه وابن خزيمة، مترجم في التهذيب والخلاصة، دون بيان حاله، وفي التقريب: "مقبول" وثبت اسم أبيه "بكير" بالتصغير هنا وفي الخلاصة. وثبت بالتكبير "بكر" في التهذيب والخلاصة، ولم أجده في مصدر آخر حتى أستطيع الترجيح بينهما.
أشهل- بالشين المعجمة- بن حاتم، ـأبو حاتم البصري الجمحي: مختلف فيه، فضعفه ابن معين. وقال أبو زرعة: "محله الصدق، وليس بالقوي، رأيته يسند عن ابن عون حديثا، الناس يقفونه". وترجمه البخاري في الكبير 1 / 2 / 69 فلم يذكر فيه جرحا. ثم هو قد روى له في الصحيح حديثا متصلا وآخر معلقا. مقدمة الفتح، ص:389.
وأما نسبته هنا "الأرطبائي- فلا أدري ما هي؟ ولا أعرف لها توجيها. إلا أن يكون ممن أكثر الرواية عن شيخه " ابن عون" - وهو "عبد الله بن عون بن أرطبان" بالنون في آخره - فنسب إلى "أرطبان" لذلك، ثم حرفت "الأرطباني" إلى "الأرطبائي". وما وجدت ما يدل على ذلك، ولا ما يشير إلى أنه يكثر الرواية عن ابن عون - وإنما هو ظن ظننته.
محمد بن جحادة: مضت ترجمته: 34.
أبو المنتفق: -ويقال ابن المنتفق- ترجمه ابن الأثير في أسد الغابة 5: 306 - وروى هذا الحديث، بإسناده إلى معاذ بن معاذ، عن ابن عون، بهذا الإسناد، ووقع فيه "ابن عوف" وهو خطأ مطبعي ظاهر.
وترجمه الحافظ في الإصابة 7: 181، وذكر له هذا الحديث من رواية الطبراني، ولكن فيه "محمد بن جحادة"، عن زميل له، بحذف "عن رجل" من بينهما.
وترجمه ابن أبي حاتم 4 / 2 / 327 باسم "ابن المنتفق"، هكذا: "أنه وصف صفة النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى محمد بن جحادة، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن أبيه، عنه "
والحديث ذكره الهيثمي في مجمع الزوائد 1: 43 - 44، من غير هذا الوجه قال: وعن حجير، عن أبيه، وكان يكنى أبا المنتفق" فذكر نحوه، وفيه -كما هنا- "وحج واعتمر". وذكره قبل ذلك 1: 43، من وجهين آخرين، ليس فيهما هذا اللفظ.
وقال الحافظ في الإصابة - بعد أن أشار إلى رواية الطبراني من طريق ابن عون: "قال الطبراني: اضطرب ابن عون في إسناده، ولم يضبطه عن محمد بن جحادة، وضبطه همام. ثم أخرجه من طريق همام. عن محمد بن جحادة، عن المغيرة بن عبد الله اليشكري، عن أبيه، قال: قدمت الكوفة، فدخلت المسجد فإذا رجل من قيس، يقال له ابن المنتفق، فسمعته يقول " ... وهذه الرواية هي التي ذكرها صاحب الزوائد أولا.
وطرق الحديث من أوجه، منها رواية همام، التي ذكرها الحافظ-: في المسند 15948- 15950، (3: 472 - 473 حلبي) ، و 16774 (4: 76 - 77 حلبي) ، و (5: 372- 373، و 6: 383 - 384 حلبي) . ولم أجد في روايات المسند هذه، ذكرا للعمرة.(3/16)
3223 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا عبد الرحمن بن مهدي، ومحمد بن أبي عدي، عن شعبة، عن النعمان بن سالم، عن عمرو بن أوس، عن أبي رزين العقيلي رجل من بني عامر قال: قلت يا رسول الله إن أبي شيخٌ كبير لا يستطيع الحجّ ولا العمرة ولا الظَّعْن، وقد أدركه(3/17)
الإسلام، أفأحج عنه؟ قال:"حُج عن أبيك واعتمر". (1)
=وما:-
3224 - حدثني به يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن أبي قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خَطب فقال: اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحُجُّوا واعتمروا واستقيموا يَستقم لكم. (2)
* * *
= وما أشبه ذلك من الأخبار، فإن هذه أخبار لا يثبت بمثلها في الدين حجة لِوَهْي أسانيدها، وأنها - معَ وَهْيِ أسانيدها- لها في الأخبار أشكالٌ تنبئ عن أنّ العمرة تطوعٌ لا فرض واجب. وهو ما:-
__________
(1) الحديث: 3223- يعقوب بن إبراهيم: هو الدورقي الحافظ، مضى في: 237، 335. وهو يروى عن عبد الرحمن بن مهدي. ووقع في المطبوعة هنا بينهما زيادة "قال خدثنا ابن إبراهيم"، وهي زيادة خطأ من ناسخ أو طابع، ولا معنى لها، فحذفناها.
النعمان بن سالم الطائفي: ثقة، وثقه ابن معين وغيره، وأخرج له مسلم في الصحيح.
عمرو ابن أوس بن أبي أوس الثقفي الطائفي: تابعي ثقة. أخرج له أصحاب الكتب الستة.
أبو رزين العقيلي: هو لقيط بن عامر بن المنتفق بن عامر، وهو صحابي معروف، وغلط من جعله و "لقيط بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق" - واحدا. بل هما صحابيان، وقد فصل بينهما ابن سعد 5: 379، 340.
وهذا الحديث صحيح، خلافا لما قاله الطبري فيما سيأتي بعد أسطر، إذ ضعف هذه الأحاديث كلها وفيما هذا الحديث.
وقد رواه الطيالسي: 1091، عن شعبة. ورواه أحمد في المسند: 16253، عن وكيع عن شعبة، بهذا الإسناد (ج 4ص 10، 11، 12 حلبي) .
ورواه أبو داود: 1810، عن حفص بن عمر ومسلم بن إبراهيم - كلاهما عن شعبة. وقال المنذري: 1736، "وأخرجه الترمذي، والنسائي وابن ماجه. وقال الترمذي: حسن صحيح. وقال الإمام أحمد: لا أعلم في إيجاب العمرة حديثا أجود من هذا، ولا أصح منه"
ورواه البيهقي 4: 350، من طريق أبي داود. ثم روى كلمة أحمد بن حنبل في تصحيحه.
(2) الحديث: 3224- أبو قلابة- بكسر الكاف وتخفيف اللام. وهو عبد الله بن زيد الجرمي، أحد الأعلام، من التابعين(3/18)
3225 - حدثنا به محمد بن حميد، ومحمد بن عيسى الدامغاني، قالا ثنا عبد الله بن المبارك، عن الحجاج بن أرطأة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه سئل عن العمرة أواجبة هي؟، فقال:"لا وأن تعتمروا خيرٌ لكم". (1)
3226 - حدثنا ابن حميد، قال: ثنا جرير= وحدثني يحيى بن طلحة اليربوعي، قال: ثنا شريك=، عن معاوية بن إِسحاق، عن أبي صالح الحنفي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الحجُّ جهادٌ، والعمرة تطوع. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 3225- محمد بن عيسى الدامغاني، شيخ الطبري: روى عنه أبو حاتم، وقال: "يكتب حديثه". وروى عنه أيضًا النسائي، وابن خزيمة، وغيرهم.
والحديث رواه أحمد: 14449 (3: 316 حلبي) ، عن ابن معاوية، عن الحجاج بن أرطاة، بهذا الإسناد، نحوه.
ورواه الترمذي 2: 113، من طريق عمر بن علي، والبيهقي 4: 349، من طريق عبد الواحد بن زياد -كلاهما عن الحجاج، به، نحوه.
وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح ". رجح البيهقي أن المحفوظ روايته موقوفا من كلام جابر، وقد أطال الحافظ ابن حجر، في التلخيص، ص 204، في إعلال المرفوع وترجيح الموقوف.
(2) الحديث: 3226- شريك:: هو ابن عبد الله النخعي، مضت ترجمته: 2527.
معاوية بن إسحاق بن طلحة بن عبيد الله التيمي: تابعي ثقة.
أبو صالح الحنفي: هو عبد الرحمن بن قيس الكوفي، وهو تابعي ثقة. وأخطأ بعضهم فسماه "ماهان"، والصواب أن كنية "ماهان": "أبو سالم الحنفي". انظر الترجمتين في التهذيب. وعلى الرغم من أن الحافظ ابن حجر حقق ذلك في الموضعين من التهذيب - فإنه سها في التلخيص، ص: 204، فقال: "وأبو صالح: ليس ليس هو ذكوان السمان، بل هو أبو صالح ماهان الحنفي"!
وهذا الحديث مرسل. ورواه الشافعي في الأم 2: 113، قال: " فاختلف الناس في العمرة، فقال بعض المشرقيين: العمرة تطوع. وقال سعيد بن سالم، (هو القداح، شيخ الشافعي) واختج بأن سفيان الثوري أخبره عن معاوية بن إسحاق، عن أبي صالح الحنفي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الحج الجهاد، والعمرة تطوع. فقلت له: أتثبت مثل هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال: هو منقطع". ثم ذهب الشافعي يقيم عليه الحجة - أن تكون العمرة واجبة". إلى آخر ما قال.
وقد روى البيهقي 4: 348 هذا الحديث المرسل، من طريق الشافعي. ثم نقل عنه بعض ما نقلته.(3/19)
قال أبو جعفر: وقد زعم بعض أهل الغباء أنه قد صحَّ عنده أن العمرة واجبةٌ، بأنه لم يجد تطوعًا، إلا وله إمامٌ من المكتوبة. فلما صح أنّ العمرة تطوُّع وجب أن يكون لها فَرْضٌ، لأن الفرض إمام التطوع في جميع الأعمال.
فيقال لقائل ذلك: فقد جُعِل الاعتكاف تطوُّعًا، فما الفرض منه الذي هو إمامُ مُتطوَّعه؟
ثم يسأل عن الاعتكاف أواجب هو أم غير واجب؟
فإن قال:" واجبٌ"، خرج من قول جميع الأمة.
وإن قال: تطوع.
قيل: فما الذي أوجب أن يكون الاعتكاف تطوعًا والعمرةُ فرضًا، من الوجه الذي يجب التسليم له؟
فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
=وبما استشهدنا من الأدلة، فإن أولى القراءتين بالصواب في" العمرة" قراءةُ من قرأها نصبًا- وأنّ أولى التأويلين في قوله" وأتموا الحج والعمرة لله"، تأويلُ ابن عباس الذي ذكرنا عنه من رواية علي بن أبي طلحة عنه من أنه أمرٌ من الله بإتمام أعمالهما بعد الدُّخول فيهما وإيجابهما على ما أمِر به من حدودهما وسنَنِهما -وأنّ أولى القولين في" العمرة" بالصواب قول من قال:" هي تطوّع لا فرض" - وإن معنى الآية: وأتموا أيها المؤمنون الحجّ والعمرة لله بعد دخولكم فيهما وإيجابكموهما على أنفسكم، على ما أمركم الله من حدودهما.
* * *
وإنما أنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية على نبيه عليه الصلاة والسلام في عمرة الحديبية التي صُدَّ فيها عن البيت، معرِّفَهُ المؤمنين فيها ما عليهم في إحرامهم إن خُلِّي بينهم وبين البيت ومبيِّنًا لهم فيها ما المُخْرِجَ لهم من إحرامهم إن أحرموا، فصُدوا عن البيت.(3/20)
ولذكر اللازم لهم من الأعمال في عمرتهم التي اعتمروها عام الحديبية، (1) وما يلزمهم فيها بعد ذلك في عمرتهم وحجهم، افتَتح بقوله:" يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالحَجِّ ".
وقد دللنا فيما مضى على معنى" الحج"" والعمرة" بشواهد، فكرهنا تطويل الكتاب بإعادته. (2)
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في" الإحصار" الذي جعل الله على من ابتلي به في حجه وعمرته ما استيسر من الهدي.
* * *
فقال بعضهم: هو كل مانع أو حابس منع المحرم وحبسه عن العمل الذي فرضه الله عليه في إحرامه ووصوله إلى البيت الحرام.
* ذكر من قال ذلك:
3227 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أنه كان يقول: "الحصر" الحبس كله. يقول: أيما رجل اعترض له في حجته أو عمرته فإنه يبعث بهديه من حيث يحبس. قال: وقال مجاهد في قوله:" فإن أحصرتم " فإن أحْصِرتم: يَمرض إنسانٌ أو يُكْسر، أو يحبسه أمرٌ فغلبه كائنًا ما كان، فليرسل بما استيسَر من الهَدْي، ولا يحلِق رأسَه، ولا يحل، حتى يوم النحر.
__________
(1) في المطبوعة: "وبذكر اللام ... "، وكأن الصواب ما أثبت حتى يستقيم الكلام.
(2) انظر ما سلف 3: 228- 229.(3/21)
3228 -حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3229 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو نعيم، قال: حدثنا سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء، قال: الإحصار كل شيء يحبسه.
3230 - وحدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن سعيد، عن قتادة أنه قال: في المحصَر: هو الخوفُ والمرض والحابسُ. إذا أصابه ذلك بَعَث بِهَدْيه، فإذا بلغ الهدي مَحِله حَلّ.
3231 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، عن سعيد، عن قتادة قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدْي" قال: هذا رجل أصابه خوف أو مرض أو حابس حَبَسه عن البيت يبعث بهَديه، فإذا بلغ مَحِله صار حلالا.
3232 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا أبو معاوية، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: كل شيء حَبَس المحرم فهو إحصارٌ.
3233 - حدثني المثنى قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن إبراهيم= قال أبو جعفر: أحسبه عن شريك، عن إبراهيم بن المهاجر، عن إبراهيم=:" فإن أحصِرْتم" قال: مرض أو كسر أو خَوفٌ.
3234- حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي عن ابن عباس قوله:" فإن أحصرتُم فما استيسر من الهدي"، يقول: من أحرم بحج أو بعمرة، ثم حُبس عن البيت بمرض يُجْهده أو عذر يحبسه، فعليه قَضاؤها.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة من قال بهذه المقالة: أن" الإحصار" معناه في كلام العَرب: مَنْع العلة من المرض وأشباهه، غيرِ القهرِ والغلبة من قاهر أو غالبٍ، إلا غلبة علة من مرض أو لدغ أو جراحة، أو ذهاب نفقة، أو كسر راحلة. فأما(3/22)
منعُ العدوّ، وحبس حابس في سجن، وغلبة غالبٍ حائل بين المحرِم والوصول إلى البيت من سُلطان، أو إنسان قاهرٍ مانع، فإن ذلك إنما تسميه العرب" حصرا" لا" إحصارا".
قالوا: ومما يدل على ذلك قول الله جل ثناؤه: (وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) [الإسراء: 8] يعني به: حاصرًا، أي حابسًا.
قالوا: ولو كان حبس القاهر الغالب من غير العلل التي وصفنا، يسمى" إحصارًا" لوجب أن يقال:" قد أُحْصرَ العدوُّ".
قالوا: وفي اجتماع لغات العرب على" حُوصر العدو، والعدوّ محاصر"، دون" أحصر العدو، وهم مُحْصَرون"، و" أحْصِر الرجل" بالعلة من المرض والخوف- أكبر الدلالة على أنّ الله جل ثناؤه إنما عنى بقوله:" فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ " بمرض أو خوف أو علة مانعة.
قالوا: وإنما جعلنا حبس العدو ومنعه المحرم من الوصول إلى البيت بمعنى" حصر المرض" قياسا على ما جعل الله جل ثناؤه من ذلك للمريض الذي منعه المرض من الوصول إلى البيت، لا بدلالة ظاهر قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" إذ كان حبس العدو والسلطان والقاهر علة مانعة، نظيرة العلة المانعة من المرض والكسر.
* * *
وقال آخرون: معنى قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" فإن حبسكم عدو عن الوصول إلى البيت، أو حابس قاهر من بني آدم. قالوا: فأما العلل العارضة في الأبدان كالمرض والجراح وما أشبهها، فإن ذلك غير داخل في قوله:" فإن أحصرتم ".
* ذكر من قال ذلك:
3235 - حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس أنه قال:" الحصْرُ":(3/23)
حصرُ العدو، فيبعثُ الرجل بهديّتِه، فإن كان لا يستطيع أن يَصِل إلى البيت من العدو، فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة، فإنه يبعث بها ويُحْرِم = قال محمد بن عمرو، قال أبو عاصم: لا ندري قال: يُحِرِم، أو يَحِل = من يومٍ يواعد فيه صاحبَ الهدْي إذا اشترى. فإذا أمن فعليه أن يحجَّ أو يعتمر. فإذا أصابه مَرَض يحبسه وليس معه هدْي، فإنه يَحِل حيث يُحبَس، فإن كان معه هدْي فلا يحل حتى يَبلغ الهدي مَحله، فإذا بعث به، فليس عليه أن يحج قابلا ولا يعتمر إلا أن يشاء.
3236 - حدثت عن أبي عبيد القاسم بن سلام، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن ابن جريج، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لا حصر إلا من حَبْس عدو.
3237 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم= إلا أنه قال: فإنه يبعث بها ويحرم من يوم واعَد فيه صاحبَ الهدية إذا اشترى. ثم ذكر سائر الحديث مثل حديث محمد بن عمرو، عن أبي عاصم.
* * *
وقال مالك بن أنس: بلغني أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حَلَّ وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي، وحلقوا رؤوسهم، وحَلّوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يَصِل إليه الهدي. ثم لم نَعْلم أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرَ أحدًا من أصحابه، ولا ممن كان معه، أن يقضوا شيئًا ولا أن يعودوا لشيء. (1)
__________
(1) نص كلام مالك في الموطأ: 360، وسيأتي برقم: 3287.(3/24)
3238 - حدثني بذلك يونس، قال: أخبرنا ابن وهب عنه= قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدو وحيل بينه وبين البيت؟ فقال: يَحلّ من كل شيء، ويَنْحر هَدْيه، ويحلق رأسه حيث يحبس، وليس عليه قضاء، (1) إلا أن يكون لم يحج قَط، فعليه أن يحج حجة الإسلام.
قال: والأمر عندنا فيمن أحصِر بغير عدو بمرض أو ما أشبهه، أنْ يتداوَى بما لا بد منه، ويَفتدي، (2) ثم يجعلها عُمرة، ويحج عامًا قابلا ويُهدِي.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة من قال هذه المقالة - أعني: من قال قولَ مالك - أنّ هذه الآية نزلت في حصر المشركين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، فأمر الله نبيّه ومن معه بنحْر هَداياهم والإحلال.
قالوا: فإنما أنزل الله هذه الآية في حَصْر العدو، فلا يجوز أن يصرف حكمها إلى غير المعنى الذي نزلتْ فيه.
قالوا: وأما المريض، فإنه إذا لم يُطِق لمرضه السَّير حتى فاتته عرفة، فإنما هو رجلٌ فاته الحج، عليه الخروج من إحرامه بما يخرُج به من فَاته الحج - وليس من معنى" المحصر" الذي نزلت هذه الآية في شأنه.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى التأويلين بالصواب في قوله:" فإذا أحصرتم"، تأويل من تأوله بمعنى: فإن أحْصَرَكم خوفُ عَدٍّو أو مرضٌ أو علةٌ عن الوصول إلى البيت أي: صيَّركم خوفكم أو مرضكم تَحصُرون أنفسكم، فتحبسونها عن النفوذ لما أوجبتُموه على أنفسكم من عمل الحج والعمرة. فلذا قيل:" أحصرتم"، لمَّا أسقط ذكِر الخوف والمرض. يقال منه:" أحصرني خوفي من فلان عن لقائك،
__________
(1) إلى هنا نص ما في الموطأ: 360، وما بعده زيادة ليست هناك. وسيأتي في آخر رقم: 3288.
(2) في المطبوعة: "أن يبدأ بما لا بد منه" والصواب ما أثبته، عن الموطأ: 362، فراجعه هناك. وانظر أيضًا ما سيأتي رقم: 3289.(3/25)
ومَرَضي عن فلان"، يراد به: جعلني أحبس نفسي عن ذلك. فأما إذا كان الحابس الرجلُ والإنسانُ، قيل:" حصرَني فلان عن لقائك"، بمعنى حبسني عنه.
فلو كان معنى الآية ما ظنه المتأوِّل من قوله:" فإن أحصِرْتم" فإن حبسكم حابس من العدوّ عن الوصول إلى البيت- لوجب أن يكون: فإن حُصِرْتم.
ومما يُبَيِّن صحةَ ما قلناه من أن تأويل الآية مرادٌ بها إحصارُ غير العدوّ وأنه إنما يراد بها الخوف من العدو، قولُه:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعُمْرة إلى الحج".
و" الأمنُ" إنما يكون بزوال الخوف. وإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الإحصار الذي عنى الله في هذه الآية، هو الخوف الذي يكون بزواله الأمنُ.
وإذ كان ذلك كذلك، لم يكن حَبسُ الحابس الذي ليس مع حَبْسه خوف على النفس من حبسه داخلا في حكم الآية بظاهرها المتْلوّ، وإن كان قد يُلحق حكمه عندنا بحكمه من وجه القياس من أجل أن حَبْس من لا خوف على النفس من حبسه، كالسلطان غير المخوفة عقوبته، والوالدِ، وزوج المرأة، (1) إن كان منهم أو من بعضهم حبس، ومنعٌ عن الشخوص لعمل الحج، أو الوصول إلى البيت بعد إيجاب الممنوع الإحرامَ، (2) غيرُ داخل في ظاهر قوله:" فإذ أحصرتم"، لما وصفنا من أن معناه: فإن أحصركم خوفُ عدوّ- بدلالة قوله:" فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ " وقد بين الخبر الذي ذكرنا آنفا عن ابن عباس أنه قال: الحصر: حصر العدو.
وإذ كان ذلك أولى التأويلين بالآية لما وصفنا، وكان ذلك منعا من الوصول إلى البيت، فكل مانع عرض للمحرم فصده عن الوصول إلى البيت، فهو له نظير في الحكم.
* * *
قال أبو جعفر: ثم اختلف أهل العلم في تأويل قوله:" فما استيسر من الهدي".
__________
(1) في المطبوعة: "وإن كان. . . " والصواب حذف الواو.
(2) قوله: "غير داخل" خبر قوله: "من أجل أن حبس من لا خوف على النفس من حبسه".(3/26)
فقال بعضهم: هو شاة.
* ذكر من قال ذلك:
3239 - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن يونس بن أبي إسحاق السبيعي، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي" شاة.
3240 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن= وحدثنا عبد الحميد، قال: أخبرنا إسحاق= قال: حدثنا سفيان، عن حبيب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة.
3241 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد عن ابن عباس، مثله.
3242 - حدثني ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن النعمان بن مالك، قال: تمتعت فسألت ابن عباس فقال:" ما استيسر من الهدي" قال: قلت شاة؟ قال: شاة.
3243 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن أبي إسحاق، عن النعمان بن مالك، قال: سألت ابن عباس عن" ما استيسر من الهدي"، قال: من الأزواج الثمانية: من الإبل والبقر والمعز والضأن.
3244 - حدثنا أبو كريب ويعقوب بن إبراهيم، قالا حدثنا هشيم، قال الزهري أخبرنا - وسئل عن قول الله جل ثناؤه:" فما استيسر من الهدي" - قال: كان ابن عباس يقول: من الغنم.
3245 -حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا يحيى بن واضح، قال: حدثنا يونس بن أبي إسحاق، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:" ما استيسر من الهدي"، من الأزواج الثمانية.(3/27)
3246 - حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد، قال: قيل للأشعث: ما قول الحسن:" فما استيسر من الهدي"؟ قال: شاة.
2647- حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن قتاده. (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) قال: أعلاه بدنة، وأوسطه بقرة، وأخسه شاة.
3248 - حدثنا بشر بن معاذ، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، مثله = إلا أنه كان يقال: أعلاه بدنة، وذكر سائر الحديث مثله.
3249 - حدثنا ابن بشار قال: حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال: حدثنا همام، عن قتادة، عن زرارة، عن ابن عباس، قال:" فما استيسر من الهدي"، شاة.
3250 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن أبي جمرة، عن ابن عباس، مثله.
3251 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن ابن جريج، عن عطاء:" فما استيسر من الهدي" شاة.
3252 - حدثنا أبو كريب، قال، حدثنا ابن يمان، قال: حدثنا محمد بن نفيع، عن عطاء، مثله.
3253 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي، قال: المحصر يبعث بهدي، شاة فما فوقها.
3254 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا ابن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر، بعث بما استيسر من الهدي شاة. قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.
3255 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية(3/28)
بن صالح، عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس:" ما استيسر من الهدي"، شاة فما فوقها.
3256 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة = وحدثنا المثنى، قاله: حدثنا آدم العسقلاني عن شعبة = قال: حدثنا أبو جمرة، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي"، جزور أو بقرة أو شاة، أو شرك في دم.
3257 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: إن ابن عباس كان يرى أن الشاة" ما استيسر من الهدي".
3258 -حدثنا المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا عبد الوهاب، عن خالد الحذاء، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة.
3259 - حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم، قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة.
3260 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا سهل بن يوسف قال: حدثنا حميد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير قال: قال ابن عباس: الهدي: شاة، فقيل له: أيكون دون بقرة؟ قال: فأنا أقرأ عليكم من كتاب الله ما تدرون به أن الهدي شاة. ما في الظبي؟ قالوا: شاة، قال: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] .
3261 - حدثني المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن قيس بن سعد، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، قال: شاة.
3262 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا وكيع، عن دلهم بن صالح، قال: سألت أبا جعفر، عن قوله:" ما استيسر من الهدي"، فقال: شاة.
3263 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالك(3/29)
بن أنس حدَّثه عن جعفر بن محمد عن أبيه: أن علي بن أبي طالب كان يقول:" ما استيسر من الهدي"، شاة. (1)
3264 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا مطرف بن عبد الله، قال: حدثنا مالك، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن علي رضي الله عنه، مثله.
3265 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك أنه بلغه أن عبد الله بن عباس كان يقول:" ما استيسر من الهدي"، شاة. (2)
3266 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال مالك: وذلك أحب إلي. (3)
3267 - حدثني محمد بن سعد قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس، قال:" فما استيسر من الهدي"، قال: عليه - يعني المحصر - هدي. إن كان موسرا فمن الإبل، وإلا فمن البقر وإلا فمن الغنم.
3268 - حدثني المثنى، قال: حدثنا آدم العسقلاني، قال: حدثنا ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، قال:" ما استيسر من الهدي"، شاة، وما عظمت شعائر الله، فهو أفضل.
3269 - حدثني يونس، قال: أخبرنا أشهب، قال: أخبرنا ابن لهيعة: أن عطاء بن أبي رباح حدثه: أن" ما استيسر من الهدي"، شاة.
* * *
وقال آخرون:" ما استيسر من الهدي": من الإبل والبقر، سن دون سن.
* ذكر من قال ذلك:
3270 - حدثنا محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا معتمر، قال: سمعت
__________
(1) الأثر: 3263 الموطأ: 385.
(2) الأثر: 3265- الموطأ: 385.
(3) الأثر: 3266- الموطأ: 385 ونصه: "وذلك أحب ما سمعته إلي في ذلك"، ثم استدل بآية المائدة التي استدل بها ابن عباس في الأثر: 3260.(3/30)
عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال:" ما استيسر من الهدي": البقرة دون البقرة، والبعير دون البعير.
3271 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي مجلز، قال: سأل رجل ابن عمر:" ما استيسر من الهدي"؟ قال: أترضى شاة؟ = كأنه لا يرضاه.
3272 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب، عن القاسم بن محمد ونافع، عن ابن عمر قال:" ما استيسر من الهدي"، ناقة أو بقرة، فقيل له:" ما استيسر من الهدي"؟ قال: الناقة دون الناقة، والبقرة دون البقرة.
3273 - حدثني المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عمر أنه قال:" فما استيسر من الهدي"، قال: جزور، أو بقرة.
3274 - حدثنا أبو كريب ويعقوب، قالا حدثنا هشيم، قال الزهري أخبرنا - وسئل عن قول الله:" فما استيسر من الهدي" - قال: قال ابن عمر: من الإبل والبقر.
3275 -حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب، عن نافع، عن ابن عمر في قوله جل ثناؤه:" فما استيسر من الهدي" قال: الناقة دون الناقة، والبقرة دون البقرة.
3276 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن أيوب، عن القاسم، عن ابن عمر في قوله:" فما استيسر من الهدي"، قال: الإبل والبقر.
3277 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، قال: سمعت القاسم بن محمد يقول: كان عبد الله بن عمر وعائشة يقولان:" ما استيسر من الهدي": من الإبل والبقر.(3/31)
3278 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا الوليد بن أبي هشام، عن زياد بن جبير، عن أخيه عبد الله أو عبيد الله بن جبير، قال: سألت ابن عمر عن المتعة في الهدي؟ فقال: ناقة، قلت: ما تقول في الشاة؟ قال: أكلكم شاة؟ أكلكم شاة؟ (1)
3279 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد وطاوس قالا" ما استيسر من الهدي"، بقرة.
3280 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني معاوية بن صالح، عن علي بن أبي طلحة:" فما استيسر من الهدي"، قال في قول ابن عمر: بقرة فما فوقها.
3281 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني أبو معشر، عن نافع، عن ابن عمر، قال:" ما استيسر من الهدي"، قال: بدنة أو بقرة، فأما شاة فإنما هي نسك.
3282 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا الحجاج، قال: حدثنا حماد، عن هشام بن عروة، عن أبيه، قال: البدنة دون البدنة، والبقرة دون البقرة، وإنما الشاة نسك، قال: تكون البقرة بأربعين وبخمسين.
3283 - حدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة، عن نافع، عن ابن عمر، كان يقول:" ما استيسر من الهدي"، بقرة.
3284 - وحدثنا الربيع، قال: حدثنا ابن وهب، قال: حدثني أسامة بن زيد أن سعيدا حدثه، قال: رأيت ابن عمر وأهل اليمن يأتونه فيسألونه عن" ما استيسر
__________
(1) الخبر: 3278- الوليد بن أبي هشام زياد، مولى عثمان: ثقة جدا، كما قال الإمام أحمد.
زياد بن جبير بن حية بن مسعود الثقفي: تابعي ثقة. مترجم في التهذيب. والكبير 2 / 1 / 3217. وابن أبي حاتم 1 / 2 / 27، 310. وقال: "عبيد الله بن جبير بن حية، أخو زياد وغبيد الله ابني جبير بن حية الثقفي. وكانوا إخوة ثلاثة."(3/32)
من الهدي" ويقولون: الشاة! الشاة! قال: فيرد عليهم:" الشاة! الشاة! يحضهم - إلا أن الجزور دون الجزور، والبقرة دون البقرة، ولكن ما" استيسر من الهدي"، بقرة.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى القولين بالصواب قول من قال:" ما استيسر من الهدي" شاة. لأن الله جل ثناؤه إنما أوجب ما استيسر من الهدي، وذلك على كل ما تيسر للمهدي أن يهديه كائنا ما كان ذلك الذي يهدي. إلا أن يكون الله جل ثناؤه خص من ذلك شيئا، فيكون ما خص من ذلك خارجا من جملة ما احتمله ظاهر التنزيل، ويكون سائر الأشياء غيره مجزئا إذا أهداه المهدي بعد أن يستحق اسم" هدي".
* * *
فإن قال قائل: فإن الذين أبوا أن تكون الشاة مما استيسر من الهدي، بأنه لا يستحق اسم" هدي" كما أنه لو أهدى دجاجة أو بيضة لم يكن مهديا هديا مجزئا.
قيل: لو كان في المهدي الدجاجة والبيضة من الاختلاف، نحو الذي في المهدي الشاة، لكان سبيلهما واحدة: في أن كل واحد منهما قد أدى ما عليه بظاهر التنزيل إذا لم يكن أحد الهديين مخرجه من أن يكون مؤديا (1) - بإهدائه ما أهدى من ذلك - مما أوجبه الله عليه في إحصاره. ولكن لما أخرج المهدي ما دون الجذع من الضأن، والثني من المعز والإبل والبقر فصاعدا من الأسنان - من أن يكون مهديا ما أوجبه الله عليه في إحصاره أو متعته - بالحجة القاطعة العذر، نقلا عن نبينا صلى الله عليه وسلم وراثة، كان ذلك خارجا من أن يكون مرادا بقوله:" فما استيسر من الهدي" وإن كان مما استيسر لنا من الهدايا.
__________
(1) في المطبوعة: "إذا لم يكن أحد المهديين يخرجه. . . " والصواب ما أثبت.(3/33)
ولما اختلف في الجذع من الضأن والثني من المعِز، كان مجزئًا ذلك عن مهديه لظاهر التنزيل، لأنه مما استيسر من الهدي.
* * *
فإن قال قائل: فما محل" ما" التي في قوله جل وعز:" فما استيسر من الهدي"؟ قيل: رفع.
فإن قال: بماذا؟
قيل: بمتروك. وذلك" فعليه" لأن تأويل الكلام: وأتموا الحج والعمرة أيها المؤمنون لله، فإن حبسكم عن إتمام ذلك حابس من مرض أو كسر أو خوف عدو فعليكم - لإحلالكم، إن أردتم الإحلال من إحرامكم - ما استيسر من الهدي.
وإنما اخترنا الرفع في ذلك، لأن أكثر القرآن جاء برفع نظائره، وذلك كقوله: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ) وكقوله: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ) وما أشبه ذلك مما يطول بإحصائه الكتاب، تركنا ذكره استغناء بما ذكرنا عنه.
ولو قيل موضع" ما" نصب، بمعنى: فإن أحصرتم فأهدوا ما استيسر من الهدي، لكان غير مخطئ قائله. (1)
* * *
وأما" الهدي"، فإنه جمع، وأحدها"هديّه"، على تقدير" جديّه السرج" والجمع" الجَدْي" مخفف. (2)
3285 - حدثت عن أبي عبيدة معمر بن المثنى، عن يونس، قال: كان أبو عمرو بن العلاء يقول: لا أعلم في الكلام حرفا يشبهه. (3)
* * *
__________
(1) انظر معاني القرآن للفراء 1: 118.
(2) "هدية" و"جدية" بتشديد الياء، وقد ضبطها ناشر مجاز القرآن لأبي عبيدة بفتح فسكون، وهو خطأ والجدية: قطعة من الكساء محشوة تكون تحت دفتي السرج وظلفة الرحل، وهما جديتان.
(3) مجاز القرآن لأبي عبيدة: 69.(3/34)
وبتخفيف" الياء" وتسكين" الدال" من" الهدي" قرأه القرأة في كل مصر، إلا ما ذكر عن الأعرج، فإن:-
3286 - أبا هشام الرفاعي، حدثنا، قال: حدثنا يعقوب، عن بشار، عن أسد، عن الأعرج أنه قرأ: (هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [سورة المائدة:95] بكسر" الدال" مثقلا وقرأ:"حتى يبلغ الهدي محله"، بكسر" الدال" مثقلة. واختلف في ذلك عن عاصم، فروي عنه موافقة الأعرج ومخالفته إلى قراءه سائر القرأة.
* * *
و" الهدي" عندي إنما سمي" هديا" لأنه تقرب به إلى الله جل وعز مهديه، بمنزلة الهدية يهديها الرجل إلى غيره متقربا بها إليه، يقال منه:" أهديت الهدي إلى بيت الله، فأنا أهديه إهداء". كما يقال في الهدية يهديها الرجل إلى غيره:" أهديت إلى فلان هدية وأنا أهديها."، ويقال للبدنة" هدية"، ومنه قول زهير بن أبي سلمى، يذكر رجلا أسر، يشبهه في حرمته بالبدنة التي تهدى:
فلم أر معشرا أسروا هديا ... ولم أر جار بيت يستباء! (1)
* * *
__________
(1) ديوانه: 79 من قصيدة كريمة، قالها في ذم بني عليم بن جناب من كلب. وكان رجل من بني عبد الله بن غطفان قد أتاهم فأكرموه وأحسنوا جواره، بيد أنه كان مولعا بالقمار فنهوه عنه، فأبى إلا المقامرة. فقمر مرة فردوا عليه، ثم قمر أخرى فردوا عليه، ثم قمر الثالثة فلم يردوا عليه، وأخذت منه امرأته في قماره. والهدي: الرجل ذو الحرمة المستجير بالقوم فسموه كما قال الطبري بما يهدي إلى البيت، فهو لا يرد عن البيت ولا يصاب، وقوله: "فستباء" أي تؤخذ امرأته وتنكح، ثم قال لهم بعد البيت: وجار البيت والرجل المنادي ... أمام الحي، عهدهما سواء
والمنادي: المجالس في النادي أما بيوت الحي.(3/35)
القول في تأويل قوله تعالى: {وَلا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أحصرتم، فأردتم الإحلال من إحرامكم، فعليكم ما استيسر من الهدي. ولا تحلوا من إحرامكم إذا أحصرتم حتى يبلغ الهدي = الذي أوجبته عليكم لإحلالكم من إحرامكم الذي أحصرتم فيه، قبل تمامه وانقضاء مشاعره ومناسكه = محله. (1) وذلك أن حلق الرأس إحلال من الإحرام الذي كان المحرم قد أوجبه على نفسه. فنهاه الله عن الإحلال من إحرامه بحلاقه، (2) حتى يبلغ الهدي -الذي أباح الله جل ثناؤه له الإحلال جل ثناؤه بإهدائه - محله.
* * *
ثم اختلف أهل العلم في" محل" الهدي الذي عناه الله جل اسمه، الذي متى بلغه كان للمحصر الإحلال من إحرامه الذي أحصر فيه.
فقال بعضهم: محل هدي المحصر الذي يحل به ويجوز له ببلوغه إياه حلق رأسه = إذا كان إحصاره من خوف عدو منعه ذبحه، إن كان مما يذبح، أو نحره إن كان مما ينحر، في الحل ذبح أو نحر أو في الحرم = [حيث حبس] (3)
__________
(1) قال ابن كثير في تفسيره 1: 446"وقوله: "ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله" معطوف على قوله: "وأتموا الحج والعمرة لله" وليس معطوفا على قوله: "فإن احصرتم فما استيسر من الهدي" كما زعمه ابن جرير رحمه الله. لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية، لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم. فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم، فلا يجوز الحلق"حتى يبلغ الهدي محله"، ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة -وإن كان قارنا- أو من فعل أحدهما، إن كان مفردا أو متمتعا، كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت: يا رسول الله، ما شأن الناس؟ حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك! فقال: إني لبدت رأسي وقلدت هديي، فلا أحل حتى انحر".
وفي تخطئة ابن كثير لأبي جعفر، نظر وتفصيل ليس هذا موضعه لأنه يطول.
(2) الحلاق مصدر كالحلق والتحلاق، يقال: رأس جيد الحلاق (بكسر الحاء) وقد أكثر مالك من استعمال هذا المصدر في الموطأ (انظر: 395، 396) .
(3) الزيادة بين القوسين لا بد منها حتى يستقيم الكلام.(3/36)
وإن كان من غير خوف عدو فلا يحل حتى يطوف بالبيت ويسعى بين الصفا والمروة. وهذا قول من قال: الإحصار إحصار العدو دون غيره.
* ذكر من قال ذلك:
3287 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أخبرني مالك بن أنس أنه بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل هو وأصحابه بالحديبية، فنحروا الهدي وحلقوا رءوسهم، وحلوا من كل شيء قبل أن يطوفوا بالبيت، وقبل أن يصل إليه الهدي. ثم لم نعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أحدا من أصحابه ولا ممن كان معه، أن يقضوا شيئا، ولا أن يعودوا لشيء. (1)
3288 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن نافع: أن عبد الله بن عمر خرج إلى مكة معتمرا في الفتنة، فقال: إن صددت عن البيت صنعنا كما صنعنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. فأهل بعمرة من أجل أن النبي كان أهل بعمرة عام الحديبية. ثم إن عبد الله بن عمر نظر في أمره فقال: ما أمرهما إلا واحد. قال: فالتفت إلى أصحابه فقال: ما أمرهما إلا واحد، أشهدكم أني قد أوجبت الحج مع العمرة. قال: ثم طاف طوافا واحدا، ورأى أن ذلك مجز عنه وأهدى=.
قال يونس: قال ابن وهب: قال مالك: وعلى هذا الأمر عندنا فيمن أحصر بعدو كما أحصر نبي الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فأما من أحصر بغير عدو فإنه لا يحل دون البيت.
قال: وسئل مالك عمن أحصر بعدو وحيل بينه وبين البيت، فقال: يحل من كل شيء، وينحر هديه، ويحلق رأسه حيث حبس، وليس عليه قضاء، إلا أن يكون لم يحج قط، فعليه أن يحج حجة الإسلام. (2)
__________
(1) الأثر: 3287- مضى في ص: 24، بغير إسناد.
(2) الأثر: 3288- في الموطأ: 360- 361 مع خلاف يسير في بعض لفظه. ومن أول قوله: "قال: وسئل مالك"، في آخر هذا الأثر، قد مضى برقم: 3238، وهو في الموطأ: 360، قبل النص السالف.(3/37)
3289 - حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرنا مالك، قال: حدثني يحيى بن سعيد، عن سليمان بن يسار: أن عبد الله بن عمر ومروان بن الحكم وعبد الله بن الزبير أفتوا ابن حزابة المخزومي، (1) وصرع في الحج ببعض الطريق، أن يتداوى بما لا بد منه، (2) ويفتدي، ثم يجعلها عمرة، ويحج عاما قابلا ويهدي.
قال يونس: قال ابن وهب: قال مالك: وذلك الأمر عندنا فيمن أحصر بغير عدو. (3)
قال: وقال مالك: وكل من حبس عن الحج بعد ما يحرم إما بمرض، أو خطأ في العدد، أو خفي عليه الهلال، فهو محصر، عليه ما على المحصر - يعني من المقام على إحرامه - حتى يطوف أو يسعى، ثم الحج من قابل والهدي.
3290 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: سمعت يحيى بن سعيد، يقول: أخبرني أيوب بن موسى أن داود بن أبي عاصم أخبره: أنه حج مرة فاشتكى، فرجع إلى الطائف ولم يطف بين الصفا والمروة. فكتب إلى عطاء بن أبي رباح يسأله عن ذلك، وأن عطاء كتب إليه: أن أهرق دما
* * *
وعلة من قال بقول مالك: في أن محل الهدي في الإحصار بالعدو نحره حيث حبس صاحبه، ما:-
3291 - حدثنا به أبو كريب ومحمد بن عمارة الأسدي، قالا حدثنا عبيد الله بن موسى، قال: أخبرنا موسى بن عبيدة، قال: أخبرني أبو مرة مولى أم هانئ، عن ابن عمر، قال: لما كان الهدي دون الجبال التي تطلع على وادي الثنية،
__________
(1) في الموطأ: "سعيد بن حزابة المخزومي".
(2) في المطبوعة: "أن يبدأ بما لا بد منه" والصواب من الموطأ، وقد مضى ذلك كذلك أيضًا في ص: 25، وانظر تعليق رقم: 2.
(3) الموطأ: 362، ومضى بعض ذلك في ص: 25.(3/38)
عرض له المشركون فردوا وجهه، قال: فنحر النبي صلى الله عليه وسلم الهدي حيث حبسوه- وهي الحديبية- وحلق، وتأسى به أناس فحلقوا حين رأوه حلق، وتربص آخرون فقالوا: لعلنا نطوف بالبيت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: رحم الله المحلقين! قيل: والمقصرين! قال: رحم الله المحلقين! قيل: والمقصرين! قال:"والمقصرين". (1)
3292 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا يحيى بن سعيد القطان، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: أخبرنا معمر عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم القضية بينه وبين مشركي قريش-وذلك بالحديبية، عام الحديبية- قال لأصحابه:"قوموا فانحروا واحلقوا. قال: فوالله ما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاث مرات. فلما لم يقم منهم أحد، قام فدخل على أم سلمة، فذكر ذلك لها، فقالت أم سلمة: يا نبي الله اخرج، ثم لا تكلم أحدا منهم بكلمة حتى تنحر بدنك وتدعو حلاقك فتحلق. فقام فخرج، فلم يكلم منهم أحدا حتى فعل ذلك. فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضا غما. (2)
* * *
__________
(1) الحديث: 3291- إسناده ضعيف جدا، من أجل"موسى بن عبيدة". وقد مضى بيان حاله: 1875، 1876.
أبو مرة مولى أم هانئ: اسمه"يزيد" ويقال له أيضًا "مولى عقيل بن أبي طالب"، واشتهر بكنيته. وهو تابعي ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
ومعنى الحديث ثابت معروف من أوجه كثيرة، في دواوين الحديث وكتب السيرة، بل إن نحو هذا المعنى ثابت عن ابن عمر بإسناد صحيح، في المسند: 6067، والبخاري 5: 224، و 7: 391 (من الفتح) . والدعاء للمحلقين والمقصرين ثابت من حديثه أيضًا، صحيح، في المسند: 4657 والموطأ والصحيحين، كما بينا هناك.
(2) الحديث: 3292- هو جزء من حديث طويل، في شأن صلح الحديبية، وهو معروف مشهور.
رواه احمد في المسند 4: 328- 231 (حلبي) عن عبد الرزاق عن معمر بهذا الإسناد ثم رواه عقب ذلك، عن يحيى بن سعيد القطان عن عبد الله بن المبارك. عن معمر ولم يذكر لفظه إحالة على الرواية قبله. وقد رواه الطبري هنا، من طريق يحيى القطان.
ورواه البخاري 5: 241- 260 (فتح الباري) عن عبد الله بن محمد، عن عبد الرزاق كرواية المسند وروي منه قطعة موجزة 3: 433 من طريق عبد الله بن المبارك، عن معمر.(3/39)
قالوا: فنحر النبي صلى الله عليه وسلم هديه حين صده المشركون عن البيت بالحديبية، وحل هو وأصحابه. قالوا: والحديبية ليست من الحرم. قالوا: ففي مثل ذلك دليل واضح على أن معنى قوله:" حتى يبلغ الهدي محله"، حتى يبلغ بالذبح أو النحر محل أكله، والانتفاع به في محل ذبحه ونحره.
3293 - كما روي عن نبي الله عليه الصلاة والسلام في نظيره إذ أتي بلحم - أتته بريرة - من صدقة كان تصدق به عليها، فقال: قربوه فقد بلغ محله. (1)
* * *
يعني: فقد بلغ محل طيبه وحلاله له بالهدية إليه بعد أن كان صدقة على بريرة.
* * *
__________
(1) الحديث: 3293- هذه إشارة من الطبري إلى حديث مشهور معروف. وهو قصة"بريرة" التي اشترتها عائشة من مواليها الذين كاتبوها، وأعتقها فكانت مولاتها، وهي في الصحيحين وغيرهما. واللفظ الثابت في الصحيحين، في شأن اللحم الذي تصدق به على بريرة، وأهدته هي لعائشة وأن النبي صلى الله عليه وسلم أكل منه-: أنه قال: "هو لها صدقة ولنا هدية" أو نحو هذا، من حديث عائشة ومن حديث أنس، ولم أجد لفظ"فقد بلغ محله"، الذي حكاه الطبري في قصة بريرة. ولعله وقع إليه من رواية خفيت علينا.
نعم، جاء نحو هذا اللفظ، في قصتين أخريين في هذا المعنى:
إحداهما: من حديث أم عطية الأنصارية أنها بعثت إلى عائشة من لحم جاءها من الصدقة، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل عن طعام، فأخبروه بذلك -لأن الصدقة لا تحل له- فقال صلى الله عليه وسلم: "إنها قد بلغت محلها". رواه أحمد في المسند 6: 407- 408 (حلبي) والبخاري 3: 245، 281- 282، و 5: 149- 150 (فتح) مسلم 1: 297.
والأخرى: من حديث جويرية بنت الحارث أم المؤمنين قالت: "دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: فقال: هل من طعام؟ قلت: لا إلا أعظما أعطيته مولاة لنا من الصدقة. قال صلى الله عليه وسلم: فقربيه فقد بلغت محلها". رواه أحمد في المسند 6: 429 (حلبي) . ومسلم 1: 296.(3/40)
وقال بعضهم: محل هدي المحصر الحرم لا محل له غيره.
* ذكر من قال ذلك:
3294 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد: أن عمرو بن سعيد النخعي أهل بعمرة، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوفون الناس، فإذا هم بابن مسعود، فذكروا ذلك له، فقال: ليبعث بهدي، واجعلوا بينكم يوم أمارة، فإذا ذبح الهدي فليحل، وعليه قضاء عمرته. (1)
3295 - حدثنا تميم بن المنتصر، قال: حدثنا إسحاق، عن شريك، عن سليمان بن مهران، عن عمارة بن عمير وإبراهيم، عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال: خرجنا مهلين بعمرة فينا الأسود بن يزيد، حتى نزلنا ذات الشقوق، فلدغ صاحب لنا، فشق ذلك عليه مشقة شديدة، فلم ندر كيف نصنع به، فخرج بعضنا إلى الطريق، فإذا نحن بركب فيه عبد الله بن مسعود، فقلنا له: يا أبا عبد الرحمن رجل منا لدغ، فكيف نصنع به؟ قال: يبعث معكم بثمن هدي، فتجعلون بينكم وبينه يوما أمارة، فإذا نحر الهدي فليحل، وعليه عمرة في قابل. (2)
3296 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن
__________
(1) الخبر: 3294- عمارة بن عمير التيمي: ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
عبد الرحمن بن يزيد بن قيس بن عبد الله بن مالك النخعي: تابعي ثقة كثير الحديث.
عمرو بن سعيد النخعي: لم أجد له ذكرا، وليس له شأن في رواية الخبر، بل هو المتحدث عنه، والذي أفتى ابن مسعود في شأنه. وسيأتي اسمه مرة أخرى في الخبر: 3299. وانظر التعليق على الأثر: 3297 وقد روى الطبري هذا الخبر مكررا بأسانيد، كما ترى وانظر التعليق على الأثر: 3297.
ذات الشقوق: منزل بطريق مكة، من الكوفة. وتشوف الشيء: تطاول ينظر إليه.
(2) الخبر: 3295- سليمان بن مهران: هو الأعمش. وهو هنا يروي الخبر عن عمارة بن عمير، كالرواية السابقة، وعن إبراهيم: وهو ابن يزيد بن الأسود بن عمرو النخعي، وهو الفقيه المعروف الثقة، وهو ابن اخت"عبد الرحمن بن يزيد بن قيس". فالأعمش يرويه عنهما عن عبد الرحمن ابن يزيد.
* وسيأتي الخبر من روايته وحده أيضًا، عن خاله عبد الرحمن: 3297.(3/41)
الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: بينا نحن بذات الشقوق فلبى رجل منا بعمرة فلدغ، فمر علينا عبد الله فسألناه، فقال: اجعلوا بينكم وبينه يوم أمار، فيبعث بثمن الهدي، فإذا نحر حل وعليه العمرة. (1)
3297 - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت إبراهيم النخعي يحدث عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: أهل رجل منا بعمرة، فلدغ، فطلع ركب فيهم عبد الله بن مسعود، فسألوه، فقال: يبعث بهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوما أمارا، فإذا كان ذلك اليوم فليحل = وقال عمارة بن عمير: فكان حسبك به عن عبد الرحمن بن يزيد، عن عبد الله = وعليه العمرة من قابل. (2)
3298 - حدثني أبو السائب، قال: حدثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: خرجنا عمارا، فلما كنا بذات الشقوق لدغ صاحب لنا، فاعترضنا للطريق نسأل عما نصنع به، فإذا عبد الله بن مسعود في ركب، فقلنا له: لدغ صاحب لنا؟ فقال: اجعلوا بينكم وبين صاحبكم يوما، وليرسل بالهدي، فإذا نحر الهدي فليحلل، ثم عليه العمرة.
3299 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن الحجاج، قال: حدثني عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود: أن عمرو بن سعيد النخعي
__________
(1) الأمار والأمارة: العلامة والوقت.
(2) الخبر: 3297 -الحكم: هو ابن عتيبة- بضم العين وفتح التاء المثناة من فوق، وبعد التحتية باء موحدة. وهو تابعي ثقة حجة فقيه مشهور. وجعله أحمد بن حنبل أثبت الناس في الرواية عن إبراهيم النخعي.
* وهذا الخبر رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 432، من طريق بشر بن عمر، عن شعبة بهذا الإسناد نحوه وقد سمى فيه الرجل الذي لدغ، فقال: "أهل رجل من النخع بعمرة، يقال له: عمير بن سعيد- إلخ. فإن يكن هذا صوابا يكن هو"عمير بن سعيد النخعي" التابعي وقد مضت ترجمته: 1683. فيكون الاسم"عمرو بن سعيد" في الخبرين: 3294، 3299- محرفا عن هذا. ويرجحه أنه وقع اسمه أيضًا محرفا إلى"عمرو بن سعيد" في المطبوعة، هناك في: 1683.(3/42)
أهل بعمرة، فلما بلغ ذات الشقوق لدغ بها، فخرج أصحابه إلى الطريق يتشوفون الناس، فإذا هم بابن مسعود، فذكروا ذلك له فقال: ليبعث بهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوم أمار، فإذا ذبح الهدي فليحل، وعليه قضاء عمرته. (1)
3300 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، يقول: من أحرم بحج أو عمرة، ثم حبس عن البيت بمرض يجهده أو عذر يحبسه، فعليه ذبح ما استيسر من الهدي، شاة فما فوقها يذبح عنه. فإن كانت حجة الإسلام، فعليه قضاؤها، وإن كانت حجة بعد حجة الفريضة أو عمرة فلا قضاء عليه.
ثم قال:" ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" فإن كان أحرم بالحج فمحله يوم النحر، وإن كان أحرم بعمرة فمحل هديه إذا أتى البيت.
3301 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، فهو الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كان يحبس عن البيت، فيهدي إلى البيت، ويمكث على إحرامه حتى يبلغ الهدي محله. فإذا بلغ الهدي محله حلق رأسه، فأتم الله له حجه. والإحصار أيضا أن يحال بينه وبين الحج، فعليه هدي: إن كان موسرا من الإبل، وإلا فمن البقر، وإلا فمن الغنم، ويجعل حجه عمرة، ويبعث بهديه إلى البيت. فإذا نحر الهدي فقد حل، وعليه الحج من قابل.
3302 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، حدثنا بشر بن السري،
__________
(1) الخبر:، 3299 -الحجاج: هو ابن أرطاة بن ثور بن هيرة النخعي، وهو ثقة على الراجح عندنا. ثم انظر التعليق على الأثر: 3297.
* عبد الرحمن بن الأسود بن يزيد بن قيس النخعي: تابعي ثقة. أبوه الأسود بن يزيد النخعي: هو أخو"عبد الرحمن بن يزيد النخعي، الماضي في الروايات السابقة، وهو تابعي كبير، ثقة من أهل الخير، كما قال أحمد.(3/43)
عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سأل علي رضي الله عنه عن قول الله عز وجل:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي" فإذا أحصر الحاج بعث بالهدي، فإذا نحر عنه حل، ولا يحل حتى ينحر هديه.
3303 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، قال: سمعت عطاء يقول: من حبس في عمرته، فبعث بهدية فاعترض لها فإنه يتصدق بشيء أو يصوم، ومن اعترض لهديته، وهو حاج، فإن محل الهدي والإحرام يوم النحر، وليس عليه شيء.
3304 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، مثله.
3305 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله"، الرجل يحرم ثم يخرج فيحصر، إما بلدغ أو مرض فلا يطيق السير، وإما تنكسر راحلته، فإنه يقيم، ثم يبعث بهدي شاة فما فوقها. فإن هو صح فسار فأدرك فليس عليه هدي، وإن فاته الحج فإنها تكون عمرة، وعليه من قابل حجة. وإن هو رجع لم يزل محرما حتى ينحر عنه يوم النحر.
فإن هو بلغه أن صاحبه لم ينحر عنه عاد محرما وبعث بهدي آخر، فواعد صاحبه يوم ينحر عنه بمكة، فتنحر عنه بمكة، ويحل، وعليه من قابل حجة وعمرة - ومن الناس من يقول: عمرتان. وإن كان أحرم بعمرة ثم رجع وبعث بهديه، فعليه من قابل عمرتان. وأناس يقولون: لا بل ثلاث عمر، نحوا مما صنعوا في الحج حين صنعوا، عليه حجة وعمرتان.
3306 - حدثنا عبد الحميد بن بيان القناد، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن أبي بشر، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وعطاء، عن ابن عباس، قال: إذا أحصر الرجل بعث بهديه إذا كان لا يستطيع أن يصل إلى البيت من العدو.(3/44)
فإن وجد من يبلغها عنه إلى مكة، فإنه يبعث بها مكانه، ويواعد صاحب الهدي. فإذا أمن فعليه أن يحج ويعتمر. فإن أصابه مرض يحبسه وليس معه هدي، فإنه يحل حيث يحبس. وإن كان معه هدي، فلا يحل حتى يبلغ الهدي محله إذا بعث به، وليس عليه أن يحج قابلا ولا يعتمر، إلا أن يشاء.
* * *
وقال أبو جعفر: وعلة من قال هذه المقالة = أن محل الهدايا والبدن الحرم = أن الله عز وجل ذكر البدن والهدايا فقال: (وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ) [الحج: 32-33] فجعل محلها الحرم، ولا محل للهدي دونه.
قالوا: وأما ما ادعاه المحتجون بنحر النبي صلى الله عليه وسلم هداياه بالحديبية حين صد عن البيت، فليس ذلك بالقول المجتمع عليه، وذلك أن:
3307 - الفضل بن سهل حدثني، قال: حدثنا مخول بن إبراهيم، قال: حدثنا إسرائيل، عن مجزأة بن زاهر الأسلمي، عن أبيه، عن ناجية بن جندب الأسلمي، قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم حين صد عن الهدي، فقلت: يا رسول الله ابعث معي بالهدي فلننحره بالحرم! قال: كيف تصنع به؟ قلت: آخذ به أودية فلا يقدرون عليه! فانطلقت به حتى نحرته بالحرم. (1)
__________
(1) الحديث: 3307 -الفضل بن سهل بن إبراهيم الأعرج، شيخ الطبري: أحد الثقات الحفاظ روى عنه الشيخان في الصحيحين. وهو مترجم في التهذيب وابن أبي حاتم 3/1/63، وتاريخ بغداد 12: 364-365. وتذكرة الحفاظ 2: 120.
مخول -بالخاء المعجمة بوزن"محمد"- بن إبراهيم بن مخول بن راشد النهدي الحناط؛ قال الذهبي في الميزان: "رافضي بغيض، صدوق في نفسه". وقال ابن أبي حاتم 4/1/399: "سئل أبي عنه فقال: "هو صدوق" وذكره ابن حبان في الثقات.
إسرائيل: هو ابن يونس بن أبي إسحاق السبيعي. و"مخول" أكثر روايته عن إسرائيل، وقد روى عنه ما لم يرو غيره"، كما قال ابن عدي.
مجزأة بن زاهر: تابعي ثقة، أخرج له الشيخان وغيرهما.
أبوه، زاهر بن أسود بن حجاج بن قيس الأسلمي: صحابي معروف كان ممن بايع تحت الشجرة. ناجية بن جندب الأسلمي: صحابي معروف وكان صاحب بدن رسول اله صلى الله عليه وسلم. وهناك أيضًا "ناجية بن كعب الخزاعي" كان صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم أيضًا. وقد خلط بينهما بعض الرواة. وحقق الحافظ في التهذيب والإصابة أن هذا غير ذاك.
والحديث رواه الطحاوي في شرح معاني الآثار 1: 427، عن إبراهيم بن أبي داود عن مخول ابن إبراهيم بهذا الإسناد إلا أنه جعله"عن مجزأة عن ناجية" مباشرة ليس بينهما"عن أبيه". و"مجزأة" يروى عن ناجية. لكن هذا الحديث بعينه ذكره الحافظ في الإصابة في ترجمة ناجية 6: 222- 223 أنه رواه ابن مندة"من طريق مجزأة بن زاهر، عن أبيه عن ناجية بن جندب"، ثم ذكر أنه"أخرجه الطحاوي من طريق مخول". فلا أدري: أسقط قوله"عن أبيه" من نسخة الطحاوي؟ أم هو اختلاف رواية؟
وقال الحافظ بعد ذكره رواية ابن مندة: "قال اب مندة: تفرد به مخول بن إبراهيم عن إسرائيل عنه (يعني عن مجزأة) ورواه عنه (يعني عن مخول) أبو حاتم الرازي وغيره. كذا قال وقد أخرجه النسائي من طريق عبيد الله بن موسى عن إسرائيل مثله". ولم أجده في النسائي. فالظاهر أنه في السنن الكبرى.(3/45)
قالوا: فقد بين هذا الخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هداياه في الحرم، فلا حجة لمحتج بنحره بالحديبية في غير الحرم.
* * *
وقال آخرون: معنى هذه الآية وتأويلها على غير هذين الوجهين اللذين وصفنا من قول الفريقين اللذين ذكرنا اختلافهم على ما ذكرنا. وقالوا: إنما معنى ذلك: فإن أحصرتم أيها المؤمنون عن حجكم - فمنعتم من المضي لإحرامه لعائق مرض أو خوف عدو - وأداء اللازم لكم وحجكم، حتى فاتكم الوقوف بعرفة، فإن عليكم ما استيسر من الهدي، لما فاتكم من حجكم، مع قضاء الحج الذي فاتكم. فقال أهل هذه المقالة: ليس للمحصر في الحج - بالمرض والعلل غيره - الإحلال إلا بالطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة إن فاته الحج. قالوا: فأما إن أطاق شهود المشاهد، فإنه غير محصر. قالوا: وأما العمرة فلا إحصار فيها، لأن وقتها موجود أبدا. قالوا: والمعتمر لا يحل إلا بعمل آخر ما يلزمه في إحرامه.(3/46)
قالوا: ولم يدخل المعتمر في هذه الآية، وإنما عنى بها الحاج.
* * *
ثم اختلف أهل هذه المقالة. فقال بعضهم: لا إحصار اليوم بعدو، كما لا إحصار بمرض يجوز لمن فاته أن يحل من إحرامه قبل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة.
* ذكر من قال ذلك:
3308 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن مجاهد، عن طاوس، قال: قال ابن عباس: لا إحصار اليوم.
3309 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال سمعت يحيى بن سعيد يقول: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم أن عائشة قالت: لا أعلم المحرم يحل بشيء دون البيت.
3310 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال: لا حصر إلا من حبسه عدو، فيحل بعمرة، وليس عليه حج ولا عمرة.
* * *
وقال آخرون منهم: حصار العدو ثابت اليوم وبعد اليوم، على نحو ما ذكرنا من أقوالهم الثلاثة التي حكينا عنهم.
* ذكر من قال ذلك: وقال: معنى الآية: فإن أحصرتم عن الحج حتى فاتكم، فعليكم ما استيسر من الهدي لفوته إياكم:
3311 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم، قال: كان عبد الله بن عمر ينكر الاشتراط في الحج، ويقول: أليس حسبكم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إن حبس أحدكم عن الحج طاف بالبيت والصفا والمروة، ثم حل من كل شيء حتى يحج عاما(3/47)
قابلا ويهدي أو يصوم إن لم يجد هديا.
3312 - حدثني محمد بن المثنى، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر قال: المحصر لا يحل من شيء حتى يبلغ البيت، ويقيم على إحرامه كما هو، إلا أن تصيبه جراحة - أو جرح - فيتداوى بما يصلحه ويفتدي. فإذا وصل إلى البيت، فإن كانت عمرة قضاها، وإن كانت حجة فسخها بعمرة، وعليه الحج من قابل والهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
3313 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع: أن ابن عمر مر على ابن حزابة وهو بالسقيا، فرأى به كسرا، فاستفتاه، فأمره أن يقف كما هو لا يحل من شيء حتى يأتي البيت إلا أن يصيبه أذى فيتداوى وعليه ما استيسر من الهدي. وكان أهل بالحج. (1)
3314 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله أن عبد الله بن عمر، قال: من أحصر بعد أن يهل بحج، فحبسه خوف أو مرض أو خلأ له ظهر يحمله، (2) أو شيء من الأمور كلها، فإنه يتعالج لحبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه، غير أنه لا يحل من النساء والطيب، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها صيام أو صدقة أو نسك. فإن فاته الحج وهو بمحبسه ذلك، أو فاته أن يقف في مواقف عرفة قبل الفجر من ليلة المزدلفة، فقد فاته الحج، وصارت حجته عمرة: يقدم مكة فيطوف بالبيت وبالصفا والمروة، فإن كان معه هدي نحره بمكة قريبا من
__________
(1) انظر ما سلف رقم: 3289.
(2) خلأت الناقة تخلأ خلاه (بكسر الخاء) فهي خالي: إذا بركت وأبت أن تقوم وأبت أن تقوم وفي الحديث"أن ناقة النبي صلى الله عليه وسلم خلأت به يوم الحديبية فقالوا: خلأت القصواء! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما خلأت! وما هو لها بخلق! ولكن حبسها حابس الفيل". والظهر: الإبل التي يحمل عليها ويركب عليها.(3/48)
المسجد الحرام، ثم حلق رأسه، أو قصر، ثم حل من النساء والطيب وغير ذلك. ثم عليه أن يحج قابلا ويهدي ما تيسر من الهدي.
3315 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني مالك بن أنس، عن ابن شهاب، عن سالم بن عبد الله، عن عبد الله بن عمر أنه قال: المحصر لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة. وإن اضطر إلى شيء من لبس الثياب التي لا بد له منها أو الدواء صنع ذلك وافتدى. (1)
* * *
فهذا ما روي عن ابن عمر في الإحصار بالمرض وما أشبهه، وأما في المحصر بالعدو فإنه كان يقول فيه بنحو القول الذي ذكرناه قبل عن مالك بن أنس أنه كان يقوله. (2)
3316 - حدثني تميم بن المنتصر، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، قال: أخبرنا عبيد الله، عن نافع: أن ابن عمر أراد الحج حين نزل الحجاج بابن الزبير فكلمه ابناه سالم وعبيد الله، فقالا لا يضرك أن لا تحج العام، إنا نخاف أن يكون بين الناس قتال فيحال بينك وبين البيت! قال: إن حيل بيني وبين البيت فعلت كما فعلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حال كفار قريش بينه وبين البيت فحلق ورجع.
* * *
وأما ما ذكرناه عنهم في العمرة من قولهم:" إنه لا إحصار فيها ولا حصر"، فإنه:-
3317 - حدثني به يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثني هشيم، عن أبي بشر، عن يزيد بن عبد الله بن الشخير أنه أهل بعمرة فأحصر، قال: فكتب إلى ابن عباس وابن عمر، فكتبا إليه أن يبعث بالهدي، ثم يقيم حتى يحل من عمرته. قال: فأقام ستة أشهر أو سبعة أشهر.
__________
(1) الموطأ: 361، مع خلاف يسير في لفظه وفيه: "المحصر بمرض لا يحل. . . "
(2) انظر ما سلف رقم: 3238، 3287، 3288.(3/49)
3318 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا يعقوب، عن أبي العلاء بن الشخير، قال: خرجت معتمرا فصرعت عن بعيري، فكسرت رجلي، فأرسلنا إلى ابن عباس وابن عمر نسألهما، فقالا إن العمرة ليس لها وقت كوقت الحج، لا تحل حتى تطوف بالبيت. قال: فأقمت بالدثينة أو قريبا منه سبعة أشهر أو ثمانية أشهر. (1)
3319 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: حدثني مالك، عن أيوب بن أبي تميمة السختياني عن رجل من أهل البصرة كان قديما أنه قال: خرجت إلى مكة، حتى إذا كنت ببعض الطريق كسرت فخذي، فأرسلت إلى مكة إلى عبد الله بن عباس، وبها عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر والناس، فلم يرخص لي أحد أن أحل، فأقمت على ذلك إلى سبعة أشهر، حتى أحللت بعمرة. (2)
3320 - حدثني المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن معمر، عن ابن شهاب في رجل أصابه كسر وهو معتمر، قال: يمكث على إحرامه حتى يأتي البيت ويطوف به وبالصفا والمروة، ويحلق أو يقصر، وليس عليه شيء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بالصواب في تأويل هذه الآية قول من
__________
(1) الدثينة (بفتح أوله وكسر ثانيه) : منزل لبني سليم في طريق البصرة إلى مكة، وكانت تسمى"الدفينة" أيضًا. وقال البكري في معجم ما استعجم: "الدثينة" بفتح أوله وثانيه بعده نون وياء مشددة. ثم نقل عن أبي علي القالي: "الدفينة والدثينة: منزل لبني سليم نفلته من كتاب يعقوب في الإبدال" والصواب ما ذكره ياقوت في ضبطها، لقول النابغة الذبياني:
وعلى الرميثة من سكين حاضر وعلى الدثينة من بني سيار
(2) الموطأ: 361، وفي بعض لفظه خلاف يسير، وفيه أيضًا: "فأقمت على ذلك الماء سبعة أشهر"، وكأنها الصواب.(3/50)
قال: إن الله عز وجل عنى بقوله =:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" = كل محصر في إحرام، بعمرة كان إحرام المحصر أو بحج. وجعل محل هديه الموضع الذي أحصر فيه، وجعل له الإحلال من إحرامه ببلوغ هديه محله-. (1) وتأول بـ "المحل" المنحر أو المذبح، وذلك حين حل نحره أو ذبحه، في حرم كان أو في حل، وألزمه قضاء ما حل منه من إحرامه قبل إتمامه إذا وجد إليه سبيلا وذلك لتواتر الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه صد عام الحديبية عن البيت وهو محرم وأصحابه بعمرة، فنحر هو وأصحابه بأمره الهدي، وحلوا من إحرامهم قبل وصولهم إلى البيت، ثم قضوا إحرامهم الذي حلوا منه في العام الذي بعده. ولم يدع أحد من أهل العلم بالسير ولا غيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أحدا من أصحابه أقام على إحرامه انتظارا للوصول إلى البيت والإحلال بالطواف به وبالسعي بين الصفا والمروة، ولا تحفى وصول هديه إلى الحرم. (2)
فأولى الأفعال أن يقتدى به، فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لم يأت بحظره خبر، ولم تقم بالمنع منه حجة. فإذ كان ذلك كذلك، وكان أهل العلم مختلفين فيما اخترنا من القول في ذلك = فمن متأول معنى الآية تأويلنا، ومن مخالف ذلك، ثم كان ثابتا بما قلنا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم النقل = كان الذي نقل عنه أولى الأمور بتأويل الآية، إذ كانت هذه الآية لا يتدافع أهل العلم أنها يومئذ نزلت وفي حكم صد المشركين إياه عن البيت أوحيت. (3)
__________
(1) قوله: "وتأول. . " معطوف على قوله: ". . . قول من قال. . . "
(2) في المطبوعة: "ولا يخفى وصول هديه إلى الحرم"، وهو لا معنى له. وتحفى: استقصى وبالغ وعنى في معرفة الشيء. من قولهم: "هو به حفى"، أي معنى شديد الاهتمام. هذا ما استظهرته من قراءة هذه الكلمة. والله المسدد للصواب.
(3) في المطبوعة: "أنها يومئذ نزلت في حكم صد المشركين. . . " وزيادة الواو لا بد منها حتى يستقيم الكلام ويعتدل جانباه.(3/51)
وقد روي بنحو الذي قلنا في ذلك خبر.
3321 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثني الحجاج بن أبي عثمان، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، أن عكرمة مولى ابن عباس حدثه، قال: حدثني الحجاج بن عمرو الأنصاري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى" قال: فحدثت ابن عباس وأبا هريرة بذلك، فقالا صدق. (1)
3322 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا مروان، قال: حدثنا حجاج الصواف = وحدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا سفيان بن حبيب، عن الحجاج الصواف = عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحوه، وعن ابن عباس وأبي هريرة. (2)
* * *
ومعنى هذا الخبر الأمر بقضاء الحجة التي حل منها، نظير فعل النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه في قضائهم عمرتهم التي حلوا منها عام الحديبية من القابل في عام عمرة القضية.
* * *
__________
(1) الحديث: 3321 -حجاج بن أبي عثمان الصواف: ثقة حافظ أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث رواه أحمد في المسند: 15796 (3: 450 حلبي) عن يحيى القطان وعن ابن علية كلاهما عن حجاج الصواف بهذا الإسناد.
ورواه أبو داود: 1962 من طريق يحيى عن حجاج قال المنذري: "وأخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجه". وسيأتي عقب هذا بإسناد ثان.
(2) الحديث: 3322 -مروان: هو ابن معاوية الفزاري مضت ترجمته: 1222. والحديث مكرر ما قبله. وقد رواه الحاكم في المستدرك 1: 470 من طريق مروان بن معاوية الفزاري بهذا الإسناد. وقال: "هذا حديث صحيح على شرط البخاري ولم يخرجاه". ووافقه الذهبي.
* ووقع في نسخة المستدرك المطبوعة"مروان حدثنا معاوية الفزاري"! وهو خطأ مطبعي، ينبغي تصحيحه.(3/52)
ويقال لمن زعم أن الذي حصره عدو، إذا حل من إحرامه التطوع فلا قضاء عليه، وأن المحصر بالعلل عليه القضاء: ما العلة التي أوجبت على أحدهما القضاء، وأسقطت عن الآخر، وكلاهما قد حل من إحرام كان عليه إتمامه لولا العلة العائقة؟
فإن قال: لأن الآية إنما نزلت في الذي حصره العدو، فلا يجوز لنا نقل حكمها إلى غير ما نزلت فيه
قيل له: قد دفعك عن ذلك جماعة من أهل العلم، غير أنا نسلم لك ما قلت في ذلك، فهلا كان حكم المنع بالمرض والإحصار له حكم المنع بالعدو، إذ هما متفقان في المنع من الوصول إلى البيت وإتمام عمل إحرامهما، وإن اختلفت أسباب منعهما، فكان أحدهما ممنوعا بعلة في بدنه، والآخر بمنع مانع؟ ثم يسأل الفرق بين ذلك من أصل أو قياس، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *
وأما الذين قالوا: لا إحصار في العمرة، فإنه يقال لهم: قد علمتم أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما صد عن البيت، وهو محرم بالعمرة، فحل من إحرامه؟ فما برهانكم على عدم الإحصار فيها؟ أو رأيتم إن قال قائل: لا إحصار في حج، وإنما فيه فوت، وعلى الفائت الحج المقام على إحرامه حتى يطوف بالبيت، ويسعى بين الصفا والمروة، لأنه لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سن في الإحصار في الحج سنة؟ فقد قال ذلك جماعة من أئمة الدين. فأما العمرة فإن النبي صلى الله عليه وسلم سن فيها ما سن، وأنزل الله تبارك وتعالى في حكمها ما بيّن من الإحلال والقضاء الذي فعله صلى الله عليه وسلم، ففيها الإحصار دون الحج هل بينها وبينه فرق؟ ثم يعكس عليه القول في ذلك، فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
* * *(3/53)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي، ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله، (1) إلا أن يضطر إلى حلقه منكم مضطر، إما لمرض، وإما لأذى برأسه، من هوام أو غيرها، فيحلق هنالك للضرورة النازلة به، وإن لم يبلغ الهدي محله، فيلزمه بحلاق رأسه وهو كذلك، فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك.
* * *
وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
* ذكر من قال ذلك:
3323 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قلت لعطاء: ما" أذى من رأسه"؟ قال: القمل وغيره، والصدع، وما كان في رأسه.
* * *
وقال آخرون: لا يحلق إن أراد أن يفتدي الحج بالنسك، أو الإطعام، إلا بعد التكفير. وإن أراد أن يفتدي بالصوم، حلق ثم صام.
* ذكر من قال ذلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . .
3324 - حدثنا عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن، قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه فإنه يحلق حين يبعث بالشاة، أو يطعم المساكين،
__________
(1) انظر ما سلف ص: 36، والتعليق رقم: 1(3/54)
وإن كان صوم حلق ثم صام بعد ذلك. (1) . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . .
* * *
* ذكر من قال ذلك:
3325 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي، شاة فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله، فحلق رأسه، أو مس طيبا أو تداوى، كان عليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس.
3326 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، قال: من أحصر بمرض أو كسر فليرسل بما استيسر من الهدي، ولا يحلق رأسه، ولا يحل حتى يوم النحر. فمن كان مريضا، أو اكتحل، أو ادهن، أو تداوى، أو كان به أذى من رأسه، فحلق، ففدية من صيام، أو صدقة، أو نسك.
__________
(1) الخبر: 3324 -عبيد الله بن معاذ بن معاذ العنبري الحافظ: ثقة أخرج له الشيخان وغيرهما مات سنة 237. وهو بصري وابن جرير ولد سنة 224 فكانت سنة حين وفاة عبيد الله 13 سنة ولا يبعد سماعه منه، إلا أنه لم يرحل في طلب الحديث في هذه السن. ولم أجد ما يؤيد ظاهر هذا الإسناد: أنه سمع عبيد الله. وسيأتي هذا الإسناد في خبر آخر: 3374 بواسطة بين الطبري وعبيد الله، وليس يمتنع أن يروي الراوي عن شيخ مباشرة تارة وبواسطة تارة أخرى. ولني أشك في صحة مطبوعة الطبري في هذا الموضع خشية أن يكون سقط اسم شيخ بينهما.
وقد وضعت قبل هذا الأثر نقطا وبعده نقطا أخرى ليقيني أن في هذا الموضع خرم وخلط لم أستطع أن أهتدي إليه. ومع ذلك فأنا في شك من نص هذا الأثر، وأخشى أن يكون من كلام الطبري لا من كلام الحسن وسيأتي قول الحسن بهذا الإسناد في رقم: 3374.
هذا والإسناد هناك، "حدثنا ابن أبي عمران قال حدثنا عبيد الله بن معاذ عن أبيه. . . " وكذلك نقله ابن كثير في تفسيره 1: 448 فلا شك أن في هذا الإسناد نقصا أيضًا وصوابه"حدثنا ابن أبي عمران قال حدثنا عبيد الله بن معاذ. . . ".(3/55)
3327 -حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مثله.
3328 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" هذا إذا كان قد بعث بهديه، ثم احتاج إلى حلق رأسه من مرض، وإلى طيب، وإلى ثوب يلبسه، قميص أو غير ذلك: فعليه الفدية.
3329 - وحدثني المثنى، قال: حدثنا أبو صالح كاتب الليث، قال: حدثني الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب قال: من أحصر عن الحج فأصابه في حبسه ذلك مرض أو أذى برأسه، فحلق رأسه في محبسه ذلك، فعليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك.
3330 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثنا عقيل، عن ابن شهاب، قال: أخبرني سالم بن عبد الله، أن عبد الله بن عمر قال: من أحصر بعد أن يهل بحج، فحبسه مرض أو خوف، فإنه يتعالج في حبسه ذلك بكل شيء لا بد له منه، غير أنه لا يحل له النساء والطيب، ويفتدي بالفدية التي أمر الله بها: صيام، أو صدقة، أو نسك.
3331 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثني بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سئل علي رضي الله عنه عن قول الله جل ثناؤه:" فمن كان من منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: هذا قبل أن ينحر الهدي، إن أصابه شيء فعليه الكفارة.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه،(3/56)
فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك قبل الحلاق إذا أراد حلاقه.
* ذكر من قال ذلك:
3332 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فمن اشتد مرضه، أو آذاه رأسه وهو محرم، فعليه صيام، أو إطعام، أو نسك. ولا يحلق رأسه حتى يقدم فديته قبل ذلك.
* * *
وعلة من قال هذه المقالة ما: -
3333 - حدثنا به المثنى، قال: حدثنا سويد، قال: أخبرنا ابن المبارك، عن يعقوب، قال: سألت عطاء، عن قوله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فقال: إن كعب بن عجرة مر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبرأسه من الصئبان والقمل كثير، فقال له النبي عليه السلام:"هل عندك شاة"؟ فقال كعب: ما أجدها! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت فأطعم ستة مساكين، وإن شئت فصم ثلاثة أيام، ثم احلق رأسك. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 3333 -هذا الحديث إلى الحديث: 3358 ثم الحديث: 3364 كلها طرق لحديث كعب بن عجرة من أوجه مختلفة بألفاظ وسياقات ثم الحديث 3359 في قصة كعب أيضًا. فهو 28 حديثا وجدت تخريج أكثرها. ومنها 10 أسانيد لم يقع إلى تخريجها فتستفاد من هذا التفسير العظيم ولعل بعضها موجود في مراجعنا ولكن لم أصل إليه.
وأرقام الأسانيد التي لم أجد تخريجها هي: 3333، 3339، 3343، 3344، 3349، 3350، 3355، 3357، 3358، 3359.
وهذا الإسناد: 3333 -أولها ولم أجده في موضع آخر
وعطاء في هذا الإسناد: الظاهر أنه عطاء بن أبي رباح. ويحتمل أن يكون"عطاء بن عبد الله الخراساني"، لأن الحديث سيأتي من روايته: 3353 عن شيخ مبهم عن كعب بن عجرة.
وأيا ما كان فهذا الإسناد ضعيف لإرساله لأن عطاء يحكي قصة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يدركها، ثم لم يذكر من حدثه بها.
وسيأتي الحديث مرة أخرى 3357 من رواية ابن جريج عن عطاء مرسلا أيضًا.
ومعناه ثابت صحيح من الروايات الموصولة الصحيحة الآتية وفيها كثرة والحمد لله.
الصئبان جمع صاب (بضم بفتح) جمع صؤابة: وهو بيض القمل.(3/57)
قال أبو جعفر: فأما "المرض" الذي أبيح معه العلاج بالطيب وحلق الرأس، فكل مرض كان صلاحه بحلقه كالبرسام الذي يكون من صلاح صاحبه حلق رأسه، وما أشبه ذلك، (1) والجراحات التي تكون بجسد الإنسان التي يحتاج معها إلى العلاج بالدواء الذي فيه الطيب ونحو ذلك من القروح والعلل العارضة للأبدان.
وأما" الأذى" الذي يكون إذا كان برأس الإنسان خاصة له حلقه، فنحو الصداع والشقيقة، وما أشبه ذلك، (2) وأن يكثر صئبان الرأس، وكل ما كان للرأس مؤذيا مما في حلقه صلاحه ودفع المضرة الحالة به، فيكون ذلك بعموم قول الله جل وعز:" أو به أذى من رأسه".
* * *
وقد تظاهرت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن هذه الآية نزلت عليه بسبب كعب بن عجرة، إذ شكا كثرة أذى برأسه من صئبانه، وذلك عام الحديبية.
* ذكر الأخبار التي رويت في ذلك:
3334 - حدثنا محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وحميد بن مسعدة قالا حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا داود، عن الشعبي، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية ولي وفرة فيها هوام ما بين أصل كل شعرة إلى فرعها قمل وصئبان، فقال:"إن هذا لأذى"! قلت: أجل يا رسول الله، شديد! قال: أمعك دم؟ قلت: لا! قال: فإن شئت
__________
(1) البرسام: ورم حار يعرض للحجاب الذي بين الكبد والأمعاء. ثم يتصل إلى الدماغ حتى يهذي صاحبه في علته هذه.
(2) الشقيقة: صداع يأخذ في نصف الرأس والوجه، يداوى بالاحتجام.(3/58)
فصمْ ثلاثة أيام، وإن شئت فتصدق بثلاثة آصع من تمر على ستة مساكين، على كل مسكين نصف صاع. (1)
3335 - حدثني إسحاق بن شاهين الواسطي، قال: حدثنا خالد الطحان، عن داود، عن عامر، عن كعب بن عجرة، عن النبي بنحوه.
3336 - حدثنا محمد بن عبيد المحاربي، قال: حدثنا أسد بن عمرو، عن أشعث، عن عامر، عن عبد الله بن معقل عن كعب بن عجرة، قال: خرجت مع النبي صلى الله عليه وسلم زمن الحديبية ولي وفرة من شعر، قد قملت وأكلني الصئبان. فرآني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:"احلق! " ففعلت، فقال:"هل لك هدي؟ " فقلت: ما أجد! فقال: إنه ما استيسر من الهدي، فقلت: ما أجد! فقال:"صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع.
قال: ففي نزلت هذه الآية:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، إلى آخر الآية (2)
__________
(1) الحديثان: 3334، 3335 -داود: هو ابن أبي هند.
والحديث رواه احمد في المسند 4: 343 وأبو داود: 1858 -كلاهما من طريق داود عن الشعبي.
الوفرة: أعظم من الجمة وهي ما جاوز شحمة الأذنين من الشعر ثم اللمة وهي ما ألم بالمنكبين والهوام واحدها هامة: وهي الحيات وأشباهها مما يهم أي يدب. والهميم الدبيب. وكنوا عن القمل بأنها هوام لأنها تهم في الرأس، أي تدب فيه وتؤذي. وآصع جمع صاع وأصلها"أصؤع" بالهمزة مضمومة (مثل جبل وأجبل) قلبت الهمزة مكان الصاد، كما قالوا في دار أدؤر وآدر (المغرب عن أبي علي الفارسي ومعيار اللغة للشيرازي) والصاع مكيال لأهل المدينة وللفقهاء اختلاف كثير في تقديره، وسيأتي (آصع) في رقم: 3346
(2) الحديث: 3336 -أسد بن عمرو البجلي القاضي: فقيه من أصحاب أبي حنيفة وروى عنه الإمام أحمد وقال: "كان صدوقا". ووثقه ابن سعد 7/2/74. وترجمته في التعجيل. وهو مختلف فيه جدا، بين التوثيق والتكذيب. والعدل ما قال أحمد. أشعث: هو ابن سوار الكندي. وهو ثقة. عامر: هو الشعبي.
عبد الله بن معقل بن مقرن المزني: تابعي ثقة من خيار التابعين. و"معقل": بفتح الميم وسكون العين المهملة وكسر القاف. و"مقرن": بضم الميم وفتح القاف وتشديد الراء المكسورة وآخره نون.
والحديث رواه أحمد 4: 243 (حلبي) عن هشيم عن أشعث بهذا الإسناد. وسيأتي 3364، من طريق هشيم.(3/59)
قال أبو جعفر: وهذا الخبر ينبئ عن أن الصحيح من القول أن الفدية إنما تجب على الحالق بعد الحلق، وفساد قول من قال: يفتدي ثم يحلق; لأن كعبا يخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره بالفدية، بعد ما أمره بالحلق فحلق.
* * *
3337 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا مؤمل، حدثنا سفيان، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل، عن كعب بن عجرة أنه قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام، أو فرق من طعام بين ستة مساكين. (1)
3338 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل، قال: قعدت إلى كعب وهو في المسجد، فسألته عن هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فقال كعب: نزلت في كان بي أذى من رأسي، فحملت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والقمل يتناثر على وجهي، فقال:"ما كنت أرى أن الجهد بلغ منك ما أرى، أتجد شاة؟ " فقلت: لا فنزلت هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: فنزلت في خاصة، وهي لكم عامة. (2)
__________
(1) الحديث: 3337 -مؤمل: هو ابن إسماعيل. سفيان: هو الثوري.
* عبد الرحمن بن الأصبهاني: هو عبد الرحمن بن عبد الله بن الأصبهاني. وهو ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
* والحديث رواه أحمد في المسند 4: 243 (حلبي) عن مؤمل بن إسماعيل، بهذا الإسناد بلفظ أطول مما هنا.
* الفرق (بفتح الراء وسكونها) : مكيال لأهل المدينة يسع ستة عشر رطلا. وفي تقديره أيضًا اختلاف كاختلافهم في الصاع. وانظر ما سيأتي رقم: 3346.
(2) الحديث: 3338 -رواه الطيالسي في مسنده: 1062، عن شعبة بهذا الإسناد. ورواه أحمد في المسند 4: 242 (حلبي) عن محمد بن جعفر وعن عفان وعن بهز -ثلاثتهم عن شعبة.
* وكذلك رواه البخاري 4: 14 (فتح) ومسلم 1: 336- 337، وابن ماجه: 3079- كلهم من طريق شعبة.(3/60)
3339 - حدثني تميم، قال: أخبرنا إسحاق الأزرق، عن شريك، عن عبد الرحمن بن الأصبهاني، قال: سمعت عبد الله بن معقل المزني، يقول: سمعت كعب بن عجرة يقول: حججت مع النبي صلى الله عليه وسلم، فقمل رأسي ولحيتي وشاربي وحاجبي، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فأرسل إلي فقال: ما كنت أرى هذا أصابك"، ثم قال: ادعوا لي حلاقا! فدعوه، فحلقني. ثم قال: أعندك شيء تنسكه عنك؟ قال: قلت لا. قال:"فصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين كل مسكين نصف صاع من طعام. قال كعب: فنزلت هذه الآية في خاصة:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" ثم كانت للناس عامة. (1)
3340 - حدثني نصر بن علي الجهضمي، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثني أيوب، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر، والقمل يتناثر على وجهي، فقال: أتؤذيك هوامّ رأسك؟ قال: قلت نعم! قال: احلقه وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو اذبح شاة. (2)
__________
(1) الحديث: 3339 -تميم: هو ابن المنتصر الواسطي، شيخ الطبري. مضت ترجمته: 891.
* إسحاق الأزرق: هو إسحاق بن يوسف بن مرداس المخزومي الواسطي. ثقة معروف من شيوخ أحمد وابن معين، وأخرج له أصحاب الكتب الستة. وشيوخه شريك: هو ابن عبد الله النخعي.
* عبد الله بن معقل المزني، كما بينا من قبل. ووقع هنا في المطبوعة"المرى" وهو تصحيف.
* وهذا الإسناد مما لم أجده -من طريق شريك- في موضع آخر.
* نسك ينسك (بضم السين) نسكا: ذبح، والمنسك الموضع الذي تذبح فيه النسك. والنسيكة الذبيحة.
(2) الحديث: 3340 -رواه أحمد 4: 244 (حلبي) من طريق معمر. ورواه البخاري 7: 351، ومسلم 1: 336 من طريق حماد بن زيد- كلاهما عن أيوب بهذا الإسناد. وسيأتي عقب هذا، من رواية ابن علية عن أيوب وسيأتي: 3346، من رواية ابن عيينة عن ابن أبي نجيح وأيوب.(3/61)
3341 - حدثنا يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب بإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله = إلا أنه قال: والقمل يتناثر علي- أو قال: على حاجبي. وقال أيضا: أو انسك نسيكة. قال أيوب: لا أدري بأيتهن بدأ. (1)
3342 - حدثنا حميد بن مسعدة، قال: حدثنا يزيد بن زريع، قال: حدثنا عبد الله بن عون، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب، قال: في أنزلت هذه الآية، قال: فقال لي: ادنه. فدنوت، فقال:"أيؤذيك هوامك؟ قال: أظنه قال نعم! قال: فأمرني بصيام، أو صدقة، أو نسك، ما تيسر. (2)
3343 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن صالح أبي الخليل عن مجاهد، عن كعب بن عجرة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى عليه زمن الحديبية وهو يوقد تحت قدر له وهوام رأسه تتناثر على وجهه، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قال: نعم! قال: احلق رأسك، وعليك فدية من صيام أو صدقة أو نسك، تذبح ذبيحة، أو تصوم ثلاثة أيام، أو تطعم ستة مساكين. (3)
__________
(1) الحديث: 3341 -رواه أحمد في المسند 4: 241 (حلبي) عن إسماعيل- وهو ابن عليه- بهذا الإسناد.
* ورواه مسلم 1: 336، عن يعقوب بن إبراهيم -شيخ الطبري هنا- وعن علي بن حجر وزهير ابن حرب ثلاثتهم عن ابن علية.
(2) الحديث: 3342- رواه مسلم 1: 336 من طريق ابن أبي عدي عن ابن عون بهذا الإسناد.
(3) الحديثان: 3343، 3344 -سعيد في الإسنادين: هو ابن أبي عروبة.
* صالح أبو الخليل -وفي الإسناد الثاني"عن أبي الخليل-: هو صالح بن أبي مريم وكنيته"أبو الخليل". مضت ترجمته: 1899. ووقع في المطبوعة هنا في أولهما"عن صالح بن أبي الخليل" وفي ثانيهما"عن ابن أبي الخليل". وهو خطأ ناسخ أو طابع في زياة كلمة"بن".
* وهذان الإسنادان من طريق صالح بن أبي مريم عن مجاهد - مما لم أجده في موضع آخر.(3/62)
3344 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن أبي الخليل، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى على كعب بن عجرة زمن الحديبية، ثم ذكر نحوه.
3345 - حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقي، قال: حدثنا زيد بن الحباب، قال: وأخبرني سيف، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا بالحديبية، ورأسي يتهافت قملا فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال قلت: نعم! قال: فاحلق. قال: ففي نزلت هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك". (1)
3346 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا يحيى بن آدم، قال: حدثنا ابن عيينة، عن ابن أبي نجيح وأيوب السختياني، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: مر بي رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، وأنا أوقد تحت قدر، والقمل يتهافت علي، فقال: أتؤذيك هوامك؟ قال: قلت: نعم! قال: فاحلق، وانسك نسيكة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم فرقا بين ستة مساكين = قال أيوب: انسك نسيكة، وقال ابن أبي نجيح: اذبح شاة=
قال سفيان: والفرق ثلاثة آصع. (2)
__________
(1) الحديث: 3345 -موسى بن عبد الرحمن المسروقي شيخ الطبري: مضت ترجمته في: 174.
* سيف: هو ابن سليمان -ويقال: ابن أبي سليمان- المخزومي المكي. وهو ثقة من شيوخ الثوري والقطان ووكيع، وأخرج له الشيخان وغيرهما.
* والحديث رواه أحمد في المسند 4: 243 (حلبي) عن يحيى القطان عن سيف بهذا الإسناد وكذلك رواه البخاري 4: 13- 14، ومسلم 1: 236 كلاهما من طريق سيف، به.
(2) الحديث: 3346- رواه أحمد في المسند 4: 243 (حلبي) عن سفيان وهو ابن عيينة عن ابن أبي نجيح -وحده- عن مجاهد بهذا الإسناد مختصرا. ورواه أيضًا 4: 242 عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد مطولا. وقد مضى في تخريج الحديثين: 3340، 3341 رواية أحمد إياه من طريق أيوب. وأشرنا إلى هذا هناك.
ورواه مسلم 1: 336 والترمذي 2: 120- 121 كلاهما عن ابن أبي عمر، عن سفيان ابن عيينة وابن أبي نجيح، وحميد الأعرج وعبد الكريم الأربعة عن مجاهد. وقال الترمذي: "هذا حديث حسن صحيح".(3/63)
3347 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثني عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: حدثني عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه وقمله يسقط على وجهه، فقال: أيؤذيك هوامك؟ قال: نعم! فأمره أن يحلق وهو بالحديبية لم يتبين لهم أنهم يحلون بها، وهم على طمع أن يدخلوا مكة، فأنزل الله الفدية، فأمره رسول الله أن يطعم فرقا بين ستة مساكين، أو يهدي شاة، أو يصوم ثلاثة أيام. (1)
3348 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن أبي بشر، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة، قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم بالحديبية، ونحن محرمون، وقد حصرنا المشركون. قال: وكانت لي وفرة، فجعلت الهوام تساقط على وجهي، فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:"أيؤذيك هوام رأسك؟ " قال: قلت نعم! قال ونزلت هذه الآية:" فمن كان من منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك". (2)
__________
(1) الحديث: 3347 -أبو عاصم: هو النبيل الضحاك بن مخلد عيسى: هو ابن ميمون المكي، مضت ترجمته في: 278.
* والحديث رواه البخاري 4: 16 (فتح) من طريق شبل، عن ابن أبي نجيح، ثم من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح، به.
* ورواه البخاري أيضًا 7: 343 من طريق ورقاء عن ابن أبي نجيح.
* وقد مضى في الذي قبله أسانيد أخر عن ابن أبي نجيح.
(2) الحديث: 3348 -يعقوب: هو ابن إبراهيم الدورقي الحافظ. هشيم: هو ابن بشير ابن القاسم أبو معاوية الواسطي.
* أبو بشر: هو جعفر بن إياس وهو ابن أبي وحشية اليشكري الواسطي ثقة معروف، أخرج له أصحاب الكتب الستة.
* والحديث رواه أحمد في المسند 4: 241 (حلبي) عن هشيم، بهذا الإسناد. ورواه أبو داود الطيالسي في مسنده: 1065 عن هشيم وأبي عوانة كلاهما عن أبي بشر، به.(3/64)
3349 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن مجاهد، عن كعب بن عجرة، قال: لفي نزلت، وإياي عنى بها:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم = وهو بالحديبية، وهو عند الشجرة، وأنا محرم =: أيؤذيك هوامه؟ قلت: نعم! - أو كلمة لا أحفظها عنى بها ذاك - فأنزل الله جل وعز:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، والنسك: شاة. (1)
3350 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن مجاهد، قال: قال كعب بن عجرة، والذي نفسي بيده، لفي نزلت هذه الآية، وإياي عنى بها، ثم ذكر نحوه، قال: وأمره أن يحلق رأسه.
3351 - حدثني يونس بن عبد الأعلى، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك بن أنس، عن عبد الكريم بن مالك الجزري، عن مجاهد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجرة: أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآذاه القمل في رأسه، فأمره رسول الله عليه الصلاة والسلام أن يحلق رأسه وقال: صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين لكل إنسان، أو انسك بشاة، أي ذلك فعلت أجزأك". (2)
__________
(1) الحديثان: 3349، 3350 -جرير: هو ابن عبد الحميد الضبي.
* مغيرة: هو ابن مقسم -بكسر الميم وسكون القاف وفتح السين- الضبي الفقيه، ثقة أخرج له الستة.
* وهذان الإسنادان، مما لم أجده في موضع آخر. ومن البين أن فيهما انقطاعا بين مجاهد وكعب بن عجرة بينهما عبد الرحمن بن أبي ليل، كما يتبين من الأسانيد السابقة واللاحقة.
(2) الحديث: 3351 -هو في الموطأ ص: 417ن ولكن حذف فيه"عن مجاهد"- بين عبد الكريم الجزري وابن أبي ليلى. وكذلك هو في الموطأ رواية سويد بن سعيد، ص: 185 (من مصورة عن مخطوطة عتيقة نفيسة منه، عندي) وقال ابن عبد البر في التقصي، رقم: 332"هكذا هذا الحديث في الموطأ عند أكثر الرواة، ليس فيه ذكر مجاهد. وسقوط مجاهد منه خطأ، لأن عبد الكريم إنما رواه عن مجاهد عن ابن أبي ليلى: وقد رواه ابن وهب وابن القاسم في الموطأ -عن مالك عن عبد الكريم، عن مجاهد عن ابن أبي ليلى، عن كعب وهو الصواب". وقد أشار الحافظ في الفتح 4: 11 إلى رواية الموطأ هذه، وقال: "قال الدارقطني: رواه أصحاب الموطأ: عن مالك عن عبد الكريم عن عبد الرحمن لم يذكروا مجاهدا، حتى قال الشافعي: إن مالكا وهم فيه" ثم أشار إلى روايات من رواه عن مالك على الصواب: ابن القاسم عند النسائي. وابن وهب عند الطبري - وهي هذه الرواية. وعبد الرحمن بن مهدي عند أحمد. ورواية ابن مهدي في المسند 4: 241 (حلبي) ورواية ابن القاسم في النسائي 2: 28. وكلاهما على الصواب، كرواية الطبري -هذه- من طريق ابن وهب.(3/65)
3352 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب أن مالك بن أنس حدثه عن حميد بن قيس، عن مجاهد، [عن ابن أبي ليلى] ، عن كعب بن عجرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: لعله آذاك هوامك؟ - يعني القمل - قال: فقلت: نعم يا رسول الله. فقال رسول الله: احلق رأسك، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين، أو انسك بشاة. (1)
3353 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، أن مالك بن أنس حدثه، عن عطاء بن عبد الله الخراساني أنه قال: أخبرني شيخ بسوق البرم بالكوفة، عن كعب بن عجرة أنه قال: جاءني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنفخ تحت قدر لأصحابي، قد امتلأ رأسي ولحيتي قملا فأخذ بجبهتي، ثم قال: احلق هذا، وصم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين! وقد كان رسول الله صلى الله
__________
(1) الحديث: 3352 -حميد بن قيس المكي القارئ، قارئ أهل مكة: ثقة من شيوخ مالك والثوري وأخرج له الستة.
* وقد سقط من إسناد الحديث هنا"ابن أبي ليلى" بين مجاهد وكعب بن عجرة وليس هذا من خطأ الناسخ أو الطابع، بل هو من رواة الموطأ.
* فالحديث في الموطأ ص: 417، على الصواب"مجاهد عن ابن أبي ليلى عن كعب"- في رواية يحيى بن يحيى المعروفة وكذلك هو على الصواب في رواية سويد بن سعيد عن مالك ص: 185.
* وقال ابن عبد البر في التقصي رقم: 43"هذا هو الصحيح في إسناد هذا الحديث. ومن أسقط من إسناده عن مالك، "ابن أبي ليلى"- فقد أفسد إسناده. وممن رواه كما رواه يحيى مجودا: القعنبي والشافعي وابن عبد الحكم وأبو مصعب وابن بكير والزبيري. وسقط لابن القاسم وابن وهب وابن عفير"ابن أبي ليلى" من إسناد هذا الحديث". ونحو ذلك قال الحافظ في الفتح 4: 11. وقد رواه البخاري 4: 10- 12 عن عبد الله بن يوسف، عن مالك على الصواب.(3/66)
عليه وسلم علم أنه ليس عندي ما أنسك به. (1)
3354 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن نافع، قال: حدثني أسامة بن زيد، عن محمد بن كعب القرظي، عن كعب بن عجرة، قال كعب: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حين آذاني القمل أن أحلق رأسي، ثم أصوم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين; وقد علم أنه ليس عندي ما أنسك به. (2)
3355 - حدثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري، قال: حدثنا روح، عن أسامة بن زيد، عن محمد بن كعب، قال: سمعت كعب بن عجرة يقول: أمرني - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم - أن أحلق وأفتدي بشاة. (3)
3356 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون بن المغيرة، عن عنبسة، عن الزبير بن عدي، عن أبي وائل شقيق بن سلمة قال: لقيت كعب بن عجرة في هذه السوق، فسألته عن حلق رأسه؟ فقال: أحرمت فآذاني القمل. فبلغ ذلك
__________
(1) الحديث: 3353 -عطاء بن عبد الله الخراساني: هو عطاء بن أي مسلم واسم أبي مسلم"عبد الله" وهو الراجح الثابت عند مالك والذي اقتصر عليه ابن أبي حاتم 3/1/334- 335. وفي التهذيب قول آخر: أنه"ميسرة". وعطاء هذا: ثقة، تكلم فيه بعضهم بغير حجة.
* والحديث في الموطأ ص: 417- 418. وأشار إليه الحافظ في الفتح ولم ينسبه لغير الموطأ. ونقل عن ابن عبد البر لبيان الشيخ المبهم في الإسناد قال: "يحتمل أن يكون عبد الرحمن بن أبي ليلى، أو عبد الله بن معقل". أقول: ويحتمل أن يكون غيرهما. فالإسناد منقطع حتى نستيقن من هذا المبهم؟
(2) الحديث: 3354 -يونس: هو ابن عبد الأعلى. ابن نافع: هو عبد الله بن نافع بن أبي نافع الصائغ المدني، من أصحاب مالك، وهو ثقة أخرج له مسلم وتكلم بعضهم في حفظه. أسامة بن زيد الليثي المدني: ثقة أخطأ في بعض أحاديث ولكن ذلك لا يدفعه عن الاحتجاج بروايته.
* محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي: تابعي ثقة أخرج له أصحاب الكتب الستة.
* والحديث رواه ابن ماجه: 3080، عن عبد الرحمن بن إبراهيم عن عبد الله بن نافع بهذا الإسناد.
(3) الحديث: 3355 -إبراهيم بن سعيد الجوهري الطبري البغدادي الحافظ: ثقة ثبت روى عنه أصحاب الكتب الستة إلا البخاري مترجم في التهذيب. وتاريخ بغداد 6: 93- 95 روح: هو ابن عبادة مضت ترجمته: 3015.
* والحديث مختصر ما قبله، من هذا الوجه.(3/67)
النبي صلى الله عليه وسلم، فأتاني وأنا أطبخ قدرا لأصحابي، فحك بأصبعه رأسي فانتثر منه القمل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: احلقه، وأطعم ستة مساكين. (1)
3357 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريح، قال: أخبرني عطاء أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بالحديبية عام حبسوا بها، وقمل رأس رجل من أصحابه يقال له كعب بن عجرة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: أتؤذيك هذه الهوام؟ قال: نعم. قال: فاحلق واجزز، ثم صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين مدين مدين. قال: قلت أسمى النبي صلى الله عليه وسلم مدين مدين؟ قال: نعم، كذلك بلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم سمى ذلك لكعب، ولم يسم النسك، قال: وأخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر كعبا بذلك بالحديبية قبل أن يؤذن للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالحلق والنحر، لا يدري عطاءكم بين الحلق والنحر. (2)
3358 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن بن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني الليث، عن ابن مسافر، عن ابن شهاب، عن فضالة بن محمد الأنصاري، أنه أخبره عمن لا يتهم من قومه: أن كعب بن عجرة أصابه أذى في رأسه، فحلق قبل أن يبلغ الهدي محله، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام. (3)
__________
(1) الحديث: 3356 -هارون بن المغيرة بن حكيم البجلي: ثقة وثقه ابن معين وغيره. عنبسة: هو ابن سعيد بن الضريس -بضم الضاد المعجمة- الأسدي: ثقة وثقه ابن معين وأبو زرعة وغيرهما. الزبير بن عدي الهمداني اليامي: ثقة وثقه أحمد وابن معين وغيرهما، وأخرج له أصحاب الكتب الستة.
* والحديث رواه النسائي 2: 28، من طريق عمرو بن أبي قيس عن الزبير بن عدي، بهذا الإسناد.
(2) الحديث: 3357 -عطاء: الظاهر أنه ابن أبي رباح. ويحتمل أن يكون"ابن عبد الله الخراساني"، الماضي في الإسناد: 3353، كما بينا في: 3333.
(3) الحديث: 3358 -ابن مسافر: هو عبد الرحمن بن خالد بن مسافر الفهمي المصرين كان واليا على مصر سنة 118، وهو ثقة ثبت أخرج له الشيخان وغيرهما.
* فضالة بن محمد الأنصاري: ثقة ترجمه البخاري في الكبير 4/1/126، قال: "بعد في أهل المدينة. عمن حدثه عن كعب بن عجرة. روى عنه الزهري". وبنحو ذلك ترجمه بن أبي حاتم 3/2/77.
* والحديث لم أجده في موضع آخر، إلا إشارة البخاري وابن أبي حاتم إليه، بما ذكرنا.
* ولحديث كعب عجرة أسانيد أخر، وزيادة على الأسانيد الكثيرة التي هنا:
* فمنها: رواية شعبة عن الحكم عن أبي ليلى، عن كعب -عند أحمد في المسند 4: 241- 242، 243 (حلبي) .
* ومنها: رواية ابن جريج، عن عمرو بن دينار، عن يحيى بن جعدة، عن كعب -في المسند 4: 242.
* ومنها: رواية وهيب، عن خالد، عن أبي قلابة، عن ابن أبي ليلى. في المسند 4: 242، وصحيح مسلم 1: 336.
* ومنها: رواية سليمان بن قرم عن ابن الأصبهاني، عن عبد الله بن معقل المزني - في المسند 4: 243.
* ومنها: رواية الليث، عن نافع عن رجل من الأنصار عن كعب - عند أبي داود: 1859.
* ومنها: رواية أبان، عن الحكم عن ابن أبي ليلى - عند أبي داود: 1860.
* ومنها رواية ابن أبي زائدة، عن ابن الأصبهاني عن ابن معقل - عند مسلم 1: 337.
* وانظر السنن الكبرى للبيهقي 5: 54- 55، 169- 170، 185، 187، 214، 242. ومجمع الزوائد 3: 234- 235.(3/68)
3359 - حدثني المثنى قال: حدثنا أبو الأسود، قال: أخبرنا ابن لهيعة، عن مخرمة، عن أبيه، قال: سمعت عمرو بن شعيب يقول: سمعت شعيبا يحدث عن عبد الله بن عمرو بن العاص، يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لكعب بن عجرة: أيؤذيك دواب رأسك؟ قال: نعم، قال: فاحلقه وافتد إما بصوم ثلاثة أيام، وإما أن تطعم ستة مساكين، أو نسك شاة" ففعل. (1)
* * *
__________
(1) الحديث: 3359 - هذا إسناد صحيح. مخرمة هو ابن بكير بن عبد الله بن الأشج المدني: وهو ثقة تكلموا في سماعه من أبيه فجزم بعضهم بأنه لم يسمع منه، وإنما يحدث عن كتاب أبيه. وحكى ابن أبي أويس أنه وجد في ظهر كتاب مالك: أنه سأل مخرمة عن ذلك فحلف له أنه سمع من أبيه الأحاديث التي يحدث بها عنه. انظر ترجمته في التهذيب. والكبير 4/2/16؛ وابن أبي حاتم 4/1/363- 364، والمراسيل لابن أبي حاتم، ص: 80.
وهذا الحديث مما لم أجده في موضع آخر. إلا أن الحافظ أشار إليه في الفتح 4: 11، وذكر أنه رواه الطبري والطبراني. ولم أجده في مجمع الزوائد، مع أنه من شرطه، لروايته عند الطبراني.(3/69)
قال أبو جعفر: وقد بينا قبل معنى" الفدية"، وأنها بمعنى الجزاء والبدل. (1)
* * *
قال أبو جعفر: واختلف أهل العلم في مبلغ الصيام والطعام اللذين أوجبهما الله على من حلق شعره من المحرمين في حال مرضه أو من أذى برأسه.
فقال بعضهم: الواجب عليه من الصيام ثلاثة أيام، ومن الطعام ثلاثة آصع بين ستة مساكين، لكل مسكين نصف صاع. واعتلوا بالأخبار التي ذكرناها قبل.
* ذكر من قال ذلك:
3360 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن سفيان، عن السدي، عن أبي مالك:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: الصيام: ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة.
3361 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، قال: حدثنا عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، مثله.
3362 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن يمان، عن عثمان بن الأسود، عن مجاهد، مثله.
3363 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن مغيرة، عن إبراهيم ومجاهد أنهما قالا في قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قالا الصيام ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة فصاعدا.
3364 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن أشعث، عن الشعبي، عن عبد الله بن معقل، عن كعب بن عجرة أنه قال في قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: الصيام ثلاثة أيام، والطعام: إطعام ستة مساكين، والنسك: شاة فصاعدا = إلا أنه قال في إطعام المساكين: ثلاثة آصع من تمر بين ستة مساكين. (2)
__________
(1) انظر ما سلف 3: 438 - 439
(2) الحديث: 3364- مضى: 3336، من رواية أسد بن عمرو عن أشعث وقد أشرنا هناك إلى أنه رواه أحمد في المسند 4: 243، عن هشيم. فهذه رواية هشيم.(3/70)
3365 - حدثني موسى، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" إن صنع واحدا فعليه فدية، وإن صنع اثنين فعليه فديتان، وهو مخير أن يصنع أي الثلاثة شاء. أما الصيام فثلاثة أيام. وأما الصدقة فستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، وأما النسك فشاة فما فوقها. نزلت هذه الآية في كعب بن عجرة الأنصاري كان أحصر فقمل رأسه، فحلقه.
3366 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: فمن كان مريضا أو اكتحل، أو ادهن، أو تداوى، أو كان به أذى من رأسه من قمل فحلق، ففدية من صيام ثلاثة أيام، أو صدقة فرق بين ستة مساكين، أو نسك، والنسك: شاة.
3367 - حدثت عن عمار بن الحسن، عن عبد الله بن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" ولا تحلقوا رءوسكم حتى يبلغ الهدي محله" قال: فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله فحلق، ففدية من صيام أو صدقة، أو نسك. قال: فالصيام ثلاثة أيام، والصدقة: إطعام ستة مساكين، بين كل مسكينين صاع. والنسك: شاة.
3368 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام، عن عنبسة، عن عبد الكريم، عن سعيد بن جبير، قال: يصوم صاحب الفدية مكان كل مدين يوما، قال: مدا لطعامه، ومدا لإدامه.
3369 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة بإسناده مثله.
3370 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، قال: سئل علي رضي الله عنه عن قول الله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: الصيام ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين، والنسك: شاة.(3/71)
3371 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله بن صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب، عن حرب بن قيس مولى يحيى بن أبي طلحة أنه سمع محمد بن كعب، وهو يذكر الرجل الذي نزل فيه:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه"، قال: فأفتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم: أما الصيام: فثلاثة أيام، وأما المساكين فستة، وأما النسك فشاة.
3372 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر بعث بما استيسر من الهدي، شاة. فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله - حلق رأسه، أو مس طيبا، أو تداوى- كان عليه فدية من صيام، أو صدقة، أو نسك. والصيام: ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع، والنسك: شاة.
3373 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن إبراهيم ومجاهد قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قالا الصيام ثلاثة أيام، والصدقة: ثلاثة آصع على ستة مساكين، والنسك: شاة.
* * *
وقال آخرون: الواجب عليه إذا حلق رأسه من أذى، أو تطيب لعلة من مرض، أو فعل ما لم يكن له فعله في حال صحته وهو محرم - من الصوم: صيام عشرة أيام، ومن الصدقة: إطعام عشرة مساكين.
* ذكر من قال ذلك:
3374 - حدثنا ابن أبي عمران، قال: حدثنا عبيد الله بن معاذ، عن أبيه، عن أشعث، عن الحسن في قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: إذا كان بالمحرم أذى من رأسه، حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء. فالصيام:(3/72)
عشرة أيام، والصدقة على عشرة مساكين، كل مسكين مكوكين، مكوكا من تمر، ومكوكا من بر، والنسك: شاة. (1)
3375 - حدثني عبد الملك بن محمد الرقاشي، قال: حدثنا بشر بن عمرو، قال: حدثنا شعبة، عن قتادة، عن الحسن وعكرمة:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" قال: إطعام عشرة مساكين.
* * *
وقاس قائلو هذا القول كل صيام وجب على محرم، أو صدقة جزاء = من نقص دخل في إحرامه، أو فعل ما لم يكن له فعله = بدلا من دم، على ما أوجب الله على المتمتع من الصوم إذا لم يجد الهدي. وقالوا: جعل الله على المتمتع صيام عشرة أيام مكان الهدي إذا لم يجده. قالوا: فكل صوم وجب مكان دم، فمثله.
قالوا: فإذا لم يصم وأراد الإطعام فإن الله جل وعز أقام إطعام مسكين مكان صوم يوم لمن عجز عن الصوم في رمضان. قالوا: فكل من جعل الإطعام له مكان صوم لزمه فهو نظيره. فلذلك أوجبوا إطعام عشرة مساكين في فدية الحلق.
* * *
وقال آخرون: بل الواجب على الحالق النسك شاة إن كانت عنده. فإن
__________
(1) الخبر: 3374- أشرنا إلى هذا الإسناد في الخبر: 3324، وذكرنا هناك أنا نشك في صحة ذلك الموضع، لما فيه من رواية الطبري عن عبيد الله بن معاذ العنبري سماعا دون واسطة.
وها هو ذا يروي عنه هنا بواسطة"ابن أبي عمران". وابن أبي عمران هذا: لم نعرف من هو بعد طول البحث والتتبع. فعسى أن نجد في موضع آخر ما يدل على من هو"ابن أبي عمران" وما يكشف عن سماع الطبري من عبيد الله أو عدم سماعه منه.
والإسنادان يحتاجان إلى تحقيق.
انظر التعليق على رقم 3324= ص 55
المكوك (بفتح الميم وتشديد الكاف المضمومة) مكيال لأهل العراق قدره صاع ونصف صاع.(3/73)
لم تكن عنده قومت الشاة دراهم والدراهم طعاما، فتصدق به، وإلا صام لكل نصف صاع يوما.
* ذكر من قال ذلك:
3376 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا أبو بكر بن عياش، قال: ذكر الأعمش، قال: سأل إبراهيم سعيد بن جبير عن هذه الآية:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك"، فأجابه بقوله: يحكم عليه إطعام، فإن كان عنده اشترى شاة، فإن لم تكن قومت الشاة دراهم فجعل مكانه طعاما فتصدق، وإلا صام لكل نصف صاع يوما. فقال إبراهيم: كذلك سمعت علقمة يذكر. قال: لما قال لي سعيد بن جبير: هذا ما أظرفه! قال: قلت: هذا إبراهيم! قال: ما أظرفه! كان يجالسنا. قال: فذكرت ذلك لإبراهيم، قال: فلما قلت"يجالسنا"، انتفض منها.
3377 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: يحكم على الرجل في الصيد، فإن لم يجد جزاءه قوم طعاما، فإن لم يكن طعام صام مكان كل مدين يوما، وكذلك الفدية.
* * *
وقال آخرون: بل هو مخير بين الخلال الثلاث، يفتدي بأيها شاء.
* ذكر من قال ذلك:
3378 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا يحيى بن سعيد، عن سيف بن سليمان، عن مجاهد، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو"، فهو بالخيار، مثل الجراب فيه الخيط الأبيض والأسود، فأيهما خرج أخذته.
3379 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا ابن مهدي، قال: حدثنا سفيان، عن ليث، عن مجاهد، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو" فصاحبه بالخيار، يأخذ الأولى فالأولى.(3/74)
3380 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت ليثا، عن مجاهد، قال: كل ما كان في القرآن:"كذا، فمن لم يجد فكذا"، فالأول فالأول. وكل ما كان في القرآن"أو كذا"" أو كذا"، فهو فيه بالخيار.
3381 - حدثني نصير بن عبد الرحمن الأودي، قال: حدثنا المحاربي عن يحيى بن أبي أنيسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد - وسئل عن قوله:" ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" فقال مجاهد: إذا قال الله تبارك وتعالى لشيء" أو"" أو"، فإن شئت فخذ بالأول، وإن شئت فخذ بالآخر.
3382 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال لي عطاء وعمرو بن دينار- في قوله:" فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك" - قالا له أيتهن شاء.
3383 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: كل شيء في القرآن"أو""أو"، فلصاحبه أن يختار أيّه شاء.
قال ابن جريج: قال لي عمرو بن دينار: كل شيء في القرآن" أو"" أو"، فلصاحبه أن يأخذ بما شاء.
3384 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا ليث عن عطاء ومجاهد أنهما قالا ما كان في القرآن"أو كذا"،" أو كذا"، فصاحبه بالخيار، أي ذلك شاء فعل.
3385 - حدثنا علي بن سهل، قال: حدثنا يزيد، عن سفيان، عن ليث ومجاهد، عن ابن عباس، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو"، فهو مخير فيه، فإن كان"فمن"" فمن"، فالأول فالأول. (1)
3386 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا أسباط بن محمد، قال: حدثنا داود، عن عكرمة، قال: كل شيء في القرآن"أو"" أو"، فليتخير أي الكفارات
__________
(1) قوله: "فمن، فمن" أي فمن لم يجد، كما سلف في الأثر: 3380، 3386(3/75)
شاء، فإذا كان:"فمن لم يجد"، فالأول فالأول.
3387 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو النعمان عارم، قال: حدثنا حماد بن زيد، عن أيوب، قال: قال: حدثت عن عطاء، قال: كل شيء في القرآن"أو""أو" فهو خيار. (1)
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك عندنا ما ثبت به الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتظاهرت به عنه الرواية أنه أمر كعب بن عجرة بحلق رأسه من الأذى الذي كان برأسه، ويفتدي إن شاء بنسك شاة، أو صيام ثلاثة أيام، أو إطعام فرق من طعام بين ستة مساكين كل مسكين نصف صاع.
وللمفتدي الخيار بين أي ذلك شاء، لأن الله لم يحصره على واحدة منهن بعينها، فلا يجوز له أن يعدوها إلى غيرها، بل جعل إليه فعل أي الثلاث شاء.
ومن أبى ما قلنا من ذلك قيل له: ما قلت في المكفر عن يمينه أمخير -إذا كان موسرا- في أن يكفر بأي الكفارات الثلاث شاء؟ فإن قال:"لا"، خرج من قول جميع الأمة، وإن قال:"بلى"، سئل الفرق بينه وبين المفتدي من حلق رأسه وهو محرم من أذى به. ثم لن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
على أن ما قلنا في ذلك إجماع من الحجة، ففي ذلك مستغنى عن الاستشهاد على صحته بغيره.
وأما الزاعمون أن كفارة الحلق قبل الحلق، فإنه يقال لهم: أخبرونا عن الكفارة للمتمتع قبل التمتع أو بعده؟ فإن زعموا أنها قبله قيل لهم: وكذلك الكفارة عن اليمين قبل اليمين. فإن زعموا أن ذلك كذلك، خرجوا من قول الأمة. وإن قالوا: ذلك غير جائز.
قيل: وما الوجه الذي من قبله وجب أن تكون كفارة
__________
(1) الأثر: 3387: أبو النعمان عارم هو محمد بن الفضل السدوسي عارم لقب له.(3/76)
الحلق قبل الحلق، وهدي المتعة قبل التمتع، ولم يجب أن تكون كفارة اليمين قبل اليمين؟ وهل بينكم وبين من عكس عليكم الأمر في ذلك - فأوجب كفارة اليمين قبل اليمين وأبطل أن تكون كفارة الحلق كفارة له إلا بعد الحلق - فرق من أصل أو نظير؟ فلن يقول في أحدهما شيئا إلا ألزم في الآخر مثله.
فإن اعتل في كفارة اليمين قبل اليمين أنها غير مجزئة قبل الحلف بإجماع الأمة. قيل له: فرد الأخرى قياسا عليها، إذ كان فيها اختلاف. (1)
وأما القائلون إن الواجب على الحالق رأسه من أذى: من الصيام عشرة أيام، ومن الإطعام عشرة مساكين، فمخالفون نص الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. فيقال لهم: أرأيتم من أصاب صيدا فاختار الإطعام أو الصيام، أتسوون بين جميع ذلك بقتله الصيد صغيره وكبيره من الإطعام والصيام، أم تفرقون بين ذلك على قدر افتراق المقتول من الصيد في الصغر والكبر؟ فإن زعموا أنهم يسوون بين جميع ذلك سووا بين ما يجب على من قتل بقرة وحشية، وبين ما يجب على من قتل ولد ظبية - من الإطعام والصيام. وذلك قول إن قالوه لقول الأمة مخالف.
وإن قالوا: بل نخالف بين ذلك، فنوجب ذلك عليه على قدر قيمة المصاب من الطعام والصيام.
قيل: فكيف رددتم الواجب على الحالق رأسه من أذى من الكفارة على الواجب على المتمتع من الصوم، وقد علمتم أن المتمتع غير مخير بين الصيام والإطعام والهدي، ولا هو متلف شيئا وجبت عليه منه الكفارة، وإنما هو تارك عملا من الأعمال، وتركتم رد الواجب عليه وهو متلف بحلق رأسه ما كان ممنوعا من إتلافه، ومخير بين الكفارات الثلاث، نظير مصيب الصيد، الذي هو بإصابته إياه له متلف،
__________
(1) في المطبوعة: "إن كان فيها اختلاف"، والصواب ما أثبت.(3/77)
ومخير في تكفيره بين الكفارات الثلاث؟ وهل بينكم وبين من خالفكم في ذلك = وجعل الحالق قياسا لمصيب الصيد، وجمع بين حكميهما لاتفاقهما في المعاني التي وصفنا، وخالف بين حكمه وحكم المتمتع في ذلك، لاختلاف أمرهما فيما وصفنا = فرق من أصل أو نظير؟
فلن يقولوا في ذلك قولا إلا ألزموا في الآخر مثله، مع أن اتفاق الحجة على تخطئة قائل هذا القول في قوله هذا كفاية عن الاستشهاد على فساده بغيره، فكيف وهو مع ذلك خلاف ما جاءت به الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والقياس عليه بالفساد شاهد؟
* * *
واختلف أهل العلم في الموضع الذي أمر الله أن ينسك نسك الحلق ويطعم فديته.
فقال بعضهم: النسك والإطعام بمكة لا يجزئ بغيرها من البلدان.
* ذكر من قال ذلك:
3388 - حدثني يحيى بن طلحة، قال: حدثنا فضيل بن عياض، عن هشام، عن الحسن، قال: ما كان من دم أو صدقة فبمكة، وما سوى ذلك حيث شاء.
3389 - حدثني يحيى بن طلحة، حدثنا فضيل، عن ليث، عن طاوس، قال: كل شيء من الحج فبمكة، إلا الصوم.
3390 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: سألت عطاء عن النسك، قال: النسك بمكة لا بد.
3391 - حدثنا ابن حميد قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: الصدقة والنسك في الفدية بمكة، والصيام حيث شئت.
3392 - حدثني يعقوب قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا ليث، عن طاوس(3/78)
أنه كان يقول: ما كان من دم أو إطعام فبمكة، وما كان من صيام فحيث شاء.
3393 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا شبل، عن عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: النسك بمكة أو بمنى.
3394 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: النسك بمكة أو بمنى، والطعام بمكة.
* * *
وقال آخرون: النسك في الحلق والإطعام والصوم حيث شاء المفتدي.
* ذكر من قال ذلك:
3395 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، قال: أخبرني أبو أسماء مولى ابن جعفر، قال: حج عثمان ومعه علي والحسين بن علي رضوان الله عليهم، فارتحل عثمان = قال أبو أسماء: وكنت مع ابن جعفر = قال: فإذا نحن برجل نائم وناقته عند رأسه، قال: فقلنا له: أيها النائم! فاستيقظ، فإذا الحسين بن علي. قال: فحمله ابن جعفر حتى أتى به السقيا. قال: فأرسل إلى علي، فجاء ومعه أسماء بنت عميس. قال: فمرضناه نحوا من عشرين ليلة. قال: فقال علي للحسين: ما الذي تجد؟ قال: فأومأ إلى رأسه. قال: فأمر به علي فحلق رأسه، ثم دعا ببدنة فنحرها. (1)
__________
(1) الخبر: 3395 - يحيى بن سعيد: هو الأنصاري النجاري مضت ترجمته: 2154.
يعقوب بن خالد: ترجم في الكبير 4/2/394، وابن أبي حاتم 4/2/207. والتعجيل ص: 456 باسم"يعقوب بن خالد بن المسيب المخزومي"، ولكن سيأتي في الإسناد التالي، أنه: "يعقوب بن خالد بن عبد الله بن المسيب"، فيستفاد منه رفع نسبه، ويكون في تلك الكتب منسوبا لجده الأعلى. وهو ثقة، لم يذكر فيه البخاري ولا ابن أبي حاتم جرحا.
أبو أسماء مولى عبد الله بن جعفر: تابعي ثقة. مترجم في الكنى للبخاري، رقم: 22، وابن أبي حاتم 4/2/333، والتعجيل.
وهذا الخبر نقله ابن كثير 1: 449.(3/79)
3396 - حدثنا مجاهد بن موسى، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد بن عبد الله بن المسيب المخزومي أخبره أنه سمع أبا أسماء مولى عبد الله بن جعفر، يحدث: أنه خرج مع عبد الله بن جعفر يريد مكة مع عثمان، حتى إذا كنا بين السقيا والعرج اشتكى الحسين بن علي، فأصبح في مقيله الذي قال فيه بالأمس. قال أبو أسماء: فصحبته أنا وعبد الله بن جعفر، فإذا راحلة حسين قائمة وحسين مضطجع، فقال عبد الله بن جعفر: إن هذه لراحلة حسين. فلما دنا منه قال له: أيها النائم! وهو يظن أنه نائم; فلما دنا منه وجده يشتكي، فحمله إلى السقيا، ثم كتب إلى علي فقدم إليه إلى السقيا فمرضه قريبا من أربعين ليلة. ثم إن عليا قيل له: هذا حسين يشير إلى رأسه، فدعا علي بجزور فنحرها، ثم حلق رأسه. (1)
3397 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن بكر، قال: حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني يحيى بن سعيد، قال: أقبل حسين بن علي مع عثمان حراما - حسبت أنه اشتكى بالسقيا = فذكر ذلك لعلي: فجاء هو وأسماء بنت عميس، فمرضوه عشرين ليلة، فأشار حسين إلى رأسه، فحلقه ونحر عنه جزورا. قلت: فرجع به؟ قال: لا أدري.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا الخبر يحتمل أن يكون ما ذكر فيه من نحر علي عن الحسين الناقة قبل حلقه رأسه، ثم حلقه رأسه بعد النحر- إن كان على ما رواه مجاهد عن يزيد، كان على وجه الإحلال من الحسين من إحرامه للإحصار عن
__________
(1) الخبر: 3396 -مجاهد بن موسى بن فروخ، شيخ الطبري: مضت ترجمته: 510 ووقع في المطبوعة هنا"مجاهد بن يونس" وهو خطأ يقينا، فليس في التراجم من يسمى بهذا. وشيخه"يزيد": هو يزيد بن هارون.
والخبر مكرر ما قبله، بنحوه.(3/80)
الحج بالمرض الذي أصابه - وإن كان على ما رواه يعقوب، عن هشيم: من نحر علي عنه الناقة بعد حلقه رأسه: أن يكون على وجه الافتداء من الحلق، وأن يكون كان يرى أن نسك الفدية يجزئ نحره دون مكة والحرم.
3398 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الرحمن، قال: حدثنا سفيان، عن منصور، عن مجاهد، قال: الفدية حيث شئت.
3399 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، عن الحكم، عن إبراهيم - في الفدية، في الصدقة والصوم والدم-: حيث شاء.
3400 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا عبيدة، عن إبراهيم أنه كان يقول، فذكر مثله.
* * *
وقال آخرون: ما كان من دم نسك فبمكة، وما كان من إطعام وصيام فحيث شاء المفتدي.
* ذكر من قال ذلك:
3401 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرنا حجاج، وعبد الملك، وغيرهما، عن عطاء أنه كان يقول: ما كان من دم فبمكة، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة من قال:" الدم والإطعام بمكة"، القياس على هدي جزاء الصيد. وذلك أن الله شرط في هديه بلوغ الكعبة، فقال: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ) [المائدة: 95] . قالوا: فكل هدي وجب من جزاء أو فدية في إحرام، فسبيله سبيل جزاء الصيد في وجوب بلوغه الكعبة. قالوا: وإذا كان ذلك حكم الهدي كان حكم الصدقة مثله، لأنها واجبة(3/81)
لمن وجب عليه الهدي، وذلك أن الإطعام فدية وجزاء كالدم، فحكمهما واحد.
وأما علة من زعم أن للمفتدي أن ينسك حيث شاء ويتصدق ويصوم أن الله لم يشترط على الحالق رأسه من أذى هديا، وإنما أوجب عليه نسكا أو إطعاما أو صياما، وحيثما نسك أو أطعم أو صام فهو ناسك ومطعم وصائم، وإذا دخل في عداد من يستحق ذلك الاسم كان مؤديا ما كلفه الله. لأن الله لو أراد من إلزام الحالق رأسه في نسكه بلوغ الكعبة، لشرط ذلك عليه، كما شرط في جزاء الصيد، وفي ترك اشتراط ذلك عليه، دليل واضح، أنه حيث نسك أو أطعم أجزأ.
وأما علة من قال:" النسك بمكة، والصيام والإطعام حيث شاء"، فالنسك دم كدم الهدي، فسبيله سبيل هدي قاتل الصيد.
وأما الإطعام فلم يشترط الله فيه أن يصرف إلى أهل مسكنة مكان، كما شرط في هدي الجزاء بلوغ الكعبة. فليس لأحد أن يدعي أن ذلك لأهل مكان دون مكان، إذ لم يكن الله شرط ذلك لأهل مكان بعينه؛ كما ليس لأحد أن يدعي أن ما جعله الله من الهدي لساكني الحرم لغيرهم، إذ كان الله قد خص أن ذلك لمن به من أهل المسكنة.
* * *
قال أبو جعفر: والصواب من القول في ذلك، أن الله أوجب على حالق رأسه من أذى من المحرمين، فدية من صيام أو صدقة أو نسك، ولم يشترط أن ذلك عليه بمكان دون مكان، بل أبهم ذلك وأطلقه، ففي أي مكان نسك أو أطعم أو صام، فيجزي عن المفتدي. وذلك لقيام الحجة على أن الله إذ حرم أمهات نسائنا فلم يحصرهن على أنهن أمهات النساء المدخول بهن لم يحب أن يكن مردودات الأحكام على الربائب المحصورات على أن المحرمة منهن المدخول بأمها.
فكذلك كل مبهمة في القرآن غير جائز رد حكمها على المفسرة قياسا.(3/82)
ولكن الواجب أن يحكم لكل واحدة منهما بما احتمله ظاهر التنزيل، إلا أن يأتي في بعض ذلك خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم، بإحالة حكم ظاهره إلى باطنه، فيجب التسليم حينئذ لحكم الرسول، إذ كان هو المبين عن مراد الله.
* * *
وأجمعوا على أن الصيام مجزئ عن الحالق رأسه من أذى حيث صام من البلاد.
* * *
واختلفوا فيما يجب أن يفعل بنسك الفدية من الحلق، وهل يجوز للمفتدي الأكل منه أم لا؟
فقال بعضهم ليس للمفتدي أن يأكل منه، ولكن عليه أن يتصدق بجميعه.
* ذكر من قال ذلك:
3402 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا ابن إدريس، قال: سمعت عبد الملك، عن عطاء، قال: ثلاث لا يؤكل منهن: جزاء الصيد، وجزاء النسك، ونذر المساكين.
3403 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهارون، عن عنبسة، عن سالم، عن عطاء قال: لا تأكل من فدية ولا من جزاء، ولا من نذر، وكل من المتعة، ومن الهدي والتطوع.
3404 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن سالم، عن مجاهد، قال: جزاء الصيد والفدية والنذر لا يأكل منها صاحبها، ويأكل من التطوع والتمتع.
3405 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عمرو، عن الحجاج، عن عطاء، قال: لا تأكل من جزاء، ولا من فدية، وتصدق به.
3406 - حدثنا محمد بن بشار، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا ابن جريج، قال: قال عطاء: لا يأكل من بدنته الذي يصيب أهله حراما والكفارات كذلك.(3/83)
3407 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا هشيم، قال: حدثنا عبد الملك والحجاج وغيرهما، عن عطاء أنه كان يقول: لا يؤكل من جزاء الصيد، ولا من النذر، ولا من الفدية، ويؤكل مما سوى ذلك.
3408 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن ليث، عن عطاء وطاوس ومجاهد أنهم قالوا: لا يؤكل من الفدية = وقال مرة: من هدي الكفارة، ولا من جزاء الصيد.
* * *
وقال بعضهم: له أن يأكل منه.
* ذكر من قال ذلك:
3409 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا يحيى، عن عبيد الله، قال: أخبرني نافع، عن ابن عمر قال: لا يؤكل من جزاء الصيد والنذر، ويؤكل مما سوى ذلك.
3410 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، قال: من الفدية وجزاء الصيد والنذر. (1)
3411 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن حماد، قال: الشاة بين ستة مساكين يأكل منه إن شاء، ويتصدق على ستة مساكين.
3412 - حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا هشيم، قال: أخبرني عبد الملك، قال: حدثني من سمع الحسن، يقول: كل من ذلك كله - يعني من جزاء الصيد والنذر والفدية.
3413 - حدثني محمد بن عبد الأعلى، قال: حدثنا خالد بن الحارث، قال: حدثنا الأشعث عن الحسن: أنه كان لا يرى بأسا بالأكل من جزاء الصيد ونذر المساكين.
* * *
__________
(1) يعني: يأكل من الفدية وجزاء الصيد والنذر، كما سيأتي قول الحسن في رقم: 3412، 3413.(3/84)
قال أبو جعفر: وعلة من حظر على المفتدي الأكل من فدية حلاقه وفدية ما لزمته منه الفدية، أن الله أوجب على الحالق والمتطيب ومن كان بمثل حالهم، فدية من صيام أو صدقة أو نسك، فلن يخلو ذلك الذي أوجبه عليه من الإطعام والنسك من أحد أمرين: إما أن يكون أوجبه عليه لنفسه أو لغيره أو له ولغيره.
فإن كان أوجبه لغيره فغير جائز له أن يأكل منه، لأن ما لزمه لغيره فلا يجزيه فيه إلا الخروج منه إلى من وجب له.
= أو يكون له وحده، وما وجب له فليس عليه. لأنه غير مفهوم في لغة أن يقال:" وجب على فلان لنفسه دينار أو درهم أو شاة"، وإنما يجب له على غيره، فأما على نفسه فغير مفهوم وجوبه.
= أو يكون وجب عليه له ولغيره، فنصيبه الذي وجب له من ذلك، غير جائز أن يكون عليه، لما وصفنا.
وإذا كان ذلك كذلك كان الواجب عليه ما هو لغيره وما هو لغيره بعض النسك، وإذا كان ذلك كذلك فإنما وجب عليه بعض النسك لا النسك كله.
قالوا: وفي إلزام الله إياه النسك تاما ما يبين عن فساد هذا القول.
* * *
وعلة من قال:" له أن يأكل من ذلك"، أن الله أوجب على المفتدي نسكا، والنسك في معاني الأضاحي، وذلك هو ذبح ما يجزي في الأضاحي من الأزواج الثمانية. قالوا: ولم يأمر الله بدفعه إلى المساكين. قالوا: فإذا ذبح فقد نسك، وفعل ما أمره الله، وله حينئذ الأكل منه، والصدقة منه بما شاء، وإطعام ما أحب منه من أحب، كما له ذلك في أضحيته.
* * *
قال أبو جعفر: والذي نقول به في ذلك: أن الله أوجب على المفتدي نسكا إن اختار التكفير بالنسك، ولن يخلو الواجب عليه في ذلك من أن يكون ذبحه(3/85)
دون غيره، أو ذبحه والتصدق به. فإن كان الواجب عليه في ذلك ذبحه، فالواجب أن يكون إذا ذبح نسكا فقد أدى ما عليه، وإن أكل جميعه ولم يطعم مسكينا منه شيئا، وذلك ما لا نعلم أحدا من أهل العلم قاله، أو يكون الواجب عليه ذبحه والصدقة به. فإن كان ذلك عليه، فغير جائز له أكل ما عليه أن يتصدق به، كما لو لزمته زكاة في ماله، لم يكن له أن يأكل منها، بل كان عليه أن يعطيها أهلها الذين جعلها الله لهم. ففي إجماعهم - على أن ما ألزمه الله من ذلك فإنما ألزمه لغيره - دلالة واضحة على حكم ما اختلفوا فيه من غيره.
* * *
ومعنى" النسك"، الذبح لله، في لغة العرب، يقال:" نسك فلان لله نسيكة" = بمعنى: ذبح لله ذبيحة =" ينسكها نسكا"، (1) كما:-
3414 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قال: النسك: أن يذبح شاة.
* * *
القول في تأويل قوله تعالى: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ}
قال أبو جعفر: اختلف أهل التأويل في معنى ذلك.
فقال بعضهم: معناه: فإذا برأتم من مرضكم الذي أحصركم عن حجكم أو عمرتكم.
* ذكر من قال ذلك:
3415 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة:" فإذا أمنتم" فإذا برأتم.
__________
(1) وانظر أيضًا ما سلف في الجزء 3: 75- 80، في معنى"المناسك".(3/86)
3416 - حدثنا الحسن بن يحيى، قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن هشام بن عروة، عن أبيه في قوله:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" يقول: فإذا أمنت حين تحصر، إذا أمنت من كسرك، ومن وجعك، فعليك أن تأتي البيت، فيكون لك متعة، فلا تحل حتى تأتي البيت.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فإذا أمنتم من خوفكم. (1)
* ذكر من قال ذلك:
3417 - حدثنا بشر قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فإذا أمنتم" لتعلموا أن القوم كانوا خائفين يومئذ.
3418 - حدثت عن عمار بن الحسن، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع:" فإذا أمنتم" قال: إذا أمن من خوفه، وبرأ من مرضه.
* * *
قال أبو جعفر: وهذا القول أشبه بتأويل الآية. لأن" الأمن" هو خلاف" الخوف"، لا خلاف" المرض"، (2) إلا أن يكون مرضا مخوفا منه الهلاك، فيقال: فإذا أمنتم الهلاك من خوف المرض وشدته، وذلك معنى بعيد.
وإنما قلنا: إن معناه: الخوف من العدو، لأن هذه الآيات نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الحديبية وأصحابه من العدو خائفون، فعرفهم الله بها ما عليهم إذا أحصرهم خوف عدوهم عن الحج، وما الذي عليهم إذا هم أمنوا من ذلك، فزال عنهم خوفهم.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "فإذا أمنتم من وجع خوفكم" ولفظ"وجع" مقحمة ولا شك، وهي تفسد الكلام والتقسيم معا، فذلك طرحتها.
(2) انظر ما سلف في الجزء 3: 29- 30، تفسير معنى"الأمن".(3/87)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فإن أحصرتم أيها المؤمنون، فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فزال عنكم خوفكم من عدوكم أو هلاككم من مرضكم فتمتعتم بعمرتكم إلى حجكم، فعليكم ما استيسر من الهدي.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في صفة" التمتع" الذي عنى الله بهذه الآية.
فقال بعضهم: هو أن يحصره خوف العدو، وهو محرم بالحج، أو مرض، أو عائق من العلل، حتى يفوته الحج، فيقدم مكة، فيخرج من إحرامه بعمل عمرة، ثم يحل فيستمتع بإحلاله من إحرامه ذلك إلى السنة المستقبلة، ثم يحج ويهدي، فيكون متمتعا بالإحلال من لدن يحل من إحرامه الأول إلى إحرامه الثاني من القابل.
* ذكر من قال ذلك:
3419 - حدثنا عمران بن موسى البصري، قال: حدثنا عبد الوارث بن سعيد، قال: حدثنا إسحاق بن سويد، قال: سمعت ابن الزبير وهو يخطب، وهو يقول: يا أيها الناس، والله ما التمتع بالعمرة إلى الحج كما تصنعون، إنما التمتع أن يهل الرجل بالحج فيحصره عدو أو مرض أو كسر أو يحبسه أمر حتى تذهب أيام الحج فيقدم فيجعلها عمرة، فيتمتع بحله إلى العام القابل ثم يحج ويهدي هديا، فهذا التمتع بالعمرة إلى الحج.
3420 - حدثنا الحسن بن يحيى قال: أخبرنا عبد الرزاق، قال: أخبرنا معمر، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء قال: كان ابن الزبير يقول: المتعة لمن أحصر، قال: وقال ابن عباس: هي لمن أحصر ومن خليت سبيله.(3/88)
3421 - حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرني ابن جريج قال: قال عطاء: كان ابن الزبير يقول: إنما المتعة للمحصر وليست لمن خلي سبيله.
* * *
وقال آخرون: بل معنى ذلك: فإن أحصرتم في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم = وقد حللتم من إحرامكم، ولم تقضوا عمرة تخرجون بها من إحرامكم بحجكم ولكن حللتم حين أحصرتم بالهدي وأخرتم العمرة إلى السنة القابلة فاعتمرتم في أشهر الحج، ثم حللتم، فاستمتعتم بإحلالكم إلى حجكم = فعليكم ما استيسر من الهدي.
* ذكر من قال ذلك:
3422 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم عن علقمة: (1) " فإن أحصرتم"، قال: إذا أهل الرجل بالحج فأحصر، قال: يبعث بما استيسر من الهدي، شاة. قال: فإن عجل قبل أن يبلغ الهدي محله وحلق رأسه، أو مس طيبا، أو تداوى، كان عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك =" فإذا أمنتم"، فإذا برأ فمضى من وجهه ذلك حتى أتى البيت، حل من حجه بعمرة وكان عليه الحج من قابل. وإن هو رجع ولم يتم إلى البيت من وجهه ذلك، فإن عليه حجة وعمرة ودما لتأخيره العمرة. فإن هو رجع متمتعا في أشهر الحج، فإن عليه ما استيسر من الهدي، شاة. فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع. قال إبراهيم: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير، فقال: كذلك قال ابن عباس في ذلك كله.
3423 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي"، قال: هذا رجل أصابه خوف
__________
(1) في المطبوعة: "عن إبراهيم بن علقمة" وهو خطأ والصواب ما أثبت وانظر ما سلف قريبا رقم: 3415.(3/89)
أو مرض أو حابس حبسه حتى يبعث بهديه، (1) فإذا بلغت محلها صار حلالا فإن أمن أو برأ ووصل إلى البيت فهي له عمرة، وأحل، وعليه الحج عاما قابلا. وإن هو لم يصل إلى البيت حتى يرجع إلى أهله، فعليه عمرة وحجة وهدي. قال قتادة: [وهي] والمتعة التي لا يتعاجم الناس فيها أن أصلها كان هكذا. (2)
3424 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن مغيرة، عن إبراهيم في قوله:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" إلى:" تلك عشرة كاملة"، قال: هذا المحصر إذا أمن، فعليه المتعة في الحج وهدي المتمتع، فإن لم يجد فالصيام، فإن عجل العمرة قبل أشهر الحج، فعليه فيها هدي.
3425 - حدثني المثنى، قال: حدثنا إسحاق، قال: حدثنا بشر بن السري، عن شعبة، عن عمرو بن مرة، عن عبد الله بن سلمة، عن علي:" فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" فإن أخر العمرة حتى يجمعها مع الحج، فعليه الهدي.
* * *
وقال آخرون: عنى بذلك المحصر وغير المحصر.
* ذكر من قال ذلك:
3426 - حدثني ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع بن يزيد، قال: أخبرني ابن جريج قال: أخبرني عطاء أن ابن عباس كان يقول:
__________
(1) مضى برقم: 3231، بهذا الإسناد، وفي لفظه خلاف، وهو مختصر هذا وفيه: ". . أو حابس حبسه عن البيت، يبعث بهديه".
(2) الزيادة التي بين القوسين، لا بد منها. وقوله: "لا يتعاجم الناس. . . " أي لا يشك الناس ولا يتنازعون ولا يختلفون في بيانها وفي حديث ابن مسعود: "ما كنا نتعاجم أن ملكا ينطق على لسان عمر"، أي كنا نفصح بذلك إفصاحا، فلا نكنى ولا نورى وجاء في حديث على ما يفسره وهو قوله: "كنا أصحاب محمد لا نشك أن السكينة تنطق على لسان عمر". وأصل هذا الحرف من قولهم: "استعجم عليه الأمر" أي: استبهم والتبس، فإذا التبس الأمر صار موضعا للشك والتنازع.(3/90)
المتعة لمن أحصر، ولمن خُلِّي سبيله. وكان ابن عباس يقول: أصابت هذه الآية المحصر ومن خليت سبيله.
* * *
وقال آخرون: معنى ذلك: فمن فسخ حجه بعمرة، فجعله عمرة، واستمتع بعمرته إلى حجه، فعليه ما استيسر من الهدي.
* ذكر من قال ذلك:
3427 - حدثني موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو، قال: حدثنا أسباط، عن السدي قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي"، أما المتعة فالرجل يحرم بحجة، ثم يهدمها بعمرة. وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسلمين حاجا، حتى إذا أتوا مكة قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أحب منكم أن يحل فليحل، قالوا: فما لك يا رسول الله! قال: أنا معي هدي.
* * *
وقال آخرون: بل ذلك: الرجل يقدم معتمرا من أفق من الآفاق في أشهر الحج، فإذا قضى عمرته أقام حلالا بمكة حتى ينشئ منها الحج، فيحج من عامه ذلك، فيكون مستمتعا بإحلاله إلى إحرامه بالحج.
* ذكر من قال ذلك:
3428 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد في قول الله عز وجل:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج"، من يوم الفطر إلى يوم عرفة، فعليه ما استيسر من الهدي.
3429 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3430 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا أيوب = وحدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: حدثنا ابن علية، قال: أخبرنا أيوب = عن نافع، قال: قدم ابن عمر مرة في شوال، فأقمنا حتى حججنا، فقال: إنكم قد(3/91)
استمتعتم إلى حجكم بعمرة، فمن وجد منكم أن يهدي فليهد، ومن لا فليصم ثلاثة أيام، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
3431 - حدثنا ابن بشار، وعبد الحميد بن بيان = قال ابن بشار: حدثنا، وقال عبد الحميد: أخبرنا = يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن نافع، أنه أخبره أنه خرج مع ابن عمر معتمرين في شوال، فأدركهما الحج وهما بمكة، فقال ابن عمر: من اعتمر معنا في شوال ثم حج، فهو متمتع عليه ما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع.
3432 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ليث، عن عطاء في رجل اعتمر في غير أشهر الحج، فساق هديا تطوعا، فقدم مكة في أشهر الحج، قال: إن لم يكن يريد الحج، فلينحر هديه، ثم ليرجع إن شاء، فإن هو نحر الهدي وحل، ثم بدا له أن يقيم حتى يحج، فلينحر هديا آخر لتمتعه، فإن لم يجد فليصم.
3433 - حدثنا ابن حميد، حدثنا هارون، عن عنبسة، عن ابن أبي ليلى، مثل ذلك.
3434 - حدثنا عبد الحميد بن بيان، قال: حدثنا يزيد، قال: أخبرنا يحيى بن سعيد، عن سعيد بن المسيب بأنه كان يقول: من اعتمر في شوال أو في ذي القعدة ثم أقام بمكة حتى يحج، فهو متمتع، عليه ما على المتمتع.
3435 - حدثنا يعقوب، قال: حدثنا هشيم، عن حجاج، عن عطاء مثل ذلك.
3436 - حدثني المثنى، قال: حدثنا عبد الله، قال: حدثني معاوية، عن علي، عن ابن عباس قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي" يقول: من أحرم بالعمرة في أشهر الحج، فما استيسر من الهدي.
3437 - حدثنا ابن البرقي، قال: حدثنا ابن أبي مريم، قال: أخبرنا نافع، قال:(3/92)
أخبرني ابن جريج، قال: كان عطاء يقول: المتعة لخلق الله أجمعين، الرجل، والمرأة، والحر، والعبد، هي لكل إنسان اعتمر في أشهر الحج ثم أقام ولم يبرح حتى يحج، ساق هديا مقلدا أو لم يسق إنما سميت" المتعة"، من أجل أنه اعتمر في شهور الحج، فتمتع بعمرة إلى الحج، ولم تسم" المتعة" من أجل أنه يحل بتمتع النساء.
* * *
قال أبو جعفر: وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عنى بها: فإن أحصرتم أيها المؤمنون في حجكم فما استيسر من الهدي، فإذا أمنتم فمن تمتع ممن حل من إحرامه بالحج - بسبب الإحصار، بعمرة اعتمرها لفوته الحج في السنة القابلة في أشهر الحج - إلى قضاء الحجة التي فاتته حين أحصر عنها ثم دخل في عمرته فاستمتع بإحلاله من عمرته إلى أن يحج = فعليه ما استيسر من الهدي، وإن كان قد يكون متمتعا من أنشأ عمرة في أشهر الحج وقضاها ثم حل من عمرته وأقام حلالا حتى يحج من عامه غير أن الذي هو أولى بالذي ذكره الله في قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" هو ما وصفنا، من أجل أن الله جل وعز أخبر عما على المحصر عن الحج والعمرة من الأحكام في إحصاره. فكان مما أخبر تعالى ذكره: أنه عليه - إذا أمن من إحصاره فتمتع بالعمرة إلى الحج - ما استيسر من الهدي، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. وكان معلوما (1) بذلك أنه معني به اللازم له - عند أمنه من إحصاره - من العمل بسبب الإحلال الذي كان منه في حجه الذي أحصر فيه، دون المتمتع الذي لم يتقدم عمرته ولا حجه إحصار مرض ولا خوف.
* * *
__________
(1) في المطبوعة: "كان معلومًا بذلك" وزيادة الواو واجبة.(3/93)
القول في تأويل قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}
قال أبو جعفر: يعني بذلك جل ثناؤه: فما استيسر من الهدي، فهديه جزاء لاستمتاعه بإحلاله من إحرامه الذي حل منه حين عاد لقضاء حجته التي أحصر فيها، وعمرته التي كانت لزمته بفوت حجته، فإن لم يجد هديا فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج في حجه، وسبعة إذا رجع إلى أهله.
* * *
ثم اختلف أهل التأويل في الثلاثة أيام التي أوجب الله عليه صومهن في الحج: أي في أيام الحج هن.
فقال بعضهم: هن ثلاثة أيام من أيام حجه، أي أيام شاء، بعد أن لا يتجاوز بآخرهن يوم عرفة.
* ذكر من قال ذلك:
3438 - حدثني الحسين بن محمد الذارع، قال: حدثنا حميد بن الأسود، قال: حدثنا جعفر بن محمد، عن أبيه عن علي رضي الله عنه:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.
3439 - حدثنا أبو كريب، قال: حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن نصر، عن ابن أبي حبيبة، عن داود بن حصين، عن عكرمة، عن ابن عباس أنه قال: الصيام للمتمتع ما بين إحرامه إلى يوم عرفة. (1)
__________
(1) الخبر: 3439 -إبراهيم بن إسماعيل بن نصر: هو التبان. ترجمه ابن أبي حاتم 1/1/85، وذكر أنه يروي عن إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة. وستأتي رواية أخرى له، بهذا الإسناد: 3484. ورواية ثالثة: 3521، وزاد في نسبته هناك"السلمي" ولم تذكر هذه في ابن أبي حاتم ولم أجد له ترجمة عند غيره.
ابن أبي حبيبة: هو إبراهيم بن إسماعيل بن أبي حبيبة الأنصاري وهو ثقة تكلم فيه البخاري وغيره، ووثقه أحمد وغيره. ورجحنا في شرح المسند: 2727 أن حديثه حسن على الأقل.(3/94)
3440 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن نافع، عن ابن عمر في قوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: يوم قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة، وإذا فاته صامها أيام منى.
3441 - حدثنا الحسين بن محمد الذارع، قال: حدثنا حميد بن الأسود، عن هشام بن عروة، عن عروة، قال: المتمتع يصوم قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.
3442 - حدثنا ابن بشار، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة، عن الحسن في قوله:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: آخرهن يوم عرفة.
3443 - حدثنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، عن شعبة، قال: سألت الحكم عن صوم ثلاثة أيام في الحج، قال: يصوم قبل التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.
3444 - حدثني عبيد بن إسماعيل الهباري، قال: حدثنا عبد الله بن نمير، عن الأعمش، عن إبراهيم:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام" أنه قال: آخرها يوم عرفة.
3445 - حدثنا أبو كريب قال: حدثنا هُشيم، قال: حدثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير أنه قال في المتمتع إذا لم يجد الهدي: صام يوما قبل يوم التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة.
3446 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام بن سلم، وهارون عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن عطاء، قال: يصوم المتمتع الثلاثة الأيام لمتعته في العشر(3/95)
إلى يوم عرفة.
قال: وسمعت مجاهدا وطاوسا يقولان: إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه.
3447 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، قال: صوم ثلاثة أيام للمتمتع، إذا لم يجد ما يهدي، يصوم في العشر إلى يوم عرفة متى صام أجزأه، فإن صام الرجل في شوال أو ذي القعدة أجزأه.
3448 - حدثني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا بشر بن بكر، عن الأوزاعي، قال: حدثني يعقوب بن عطاء، أن عطاء بن أبي رباح، كان يقول: من استطاع أن يصومهن فيما بين أول يوم من ذي الحجة إلى يوم عرفة فليصم.
3449 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن يونس، عن الحسن في قوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة.
3450 - حدثنا يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، عن داود = وحدثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا عبد الوهاب، قال: حدثنا داود = عن عامر في هذه الآية:" فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: قبل يوم التروية يوما، ويوم التروية، ويوم عرفة.
3451 - حدثني محمد بن عمرو، قال: حدثنا أبو عاصم، قال: حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج" آخرهن يوم عرفة من ذي الحجة.
3452 - حدثني المثنى، قال: حدثنا أبو حذيفة، قال: حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، مثله.
3453 - حدثنا بشر، قال: حدثنا يزيد، قال: حدثنا سعيد، عن قتادة قوله:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: كان يقال عرفة وما قبلها يومين من العشر.(3/96)
3454 - حدثنا موسى بن هارون، قال: حدثنا عمرو بن حماد، قال: حدثنا أسباط، عن السدي:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج"، قال: فآخرها يوم عرفة.
3455 - حدثني أحمد بن إسحاق الأهوازي، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: أخبرنا إسرائيل، عن سالم، عن سعيد بن جبير:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة.
3456 - حدثنا أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا فطر، عن عطاء:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة.
3457 - حدثت عن عمار، قال: حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع في قوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: عرفة وما قبلها من العشر.
3458 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا جرير، عن منصور، عن مجاهد وإبراهيم، قالا" صيام ثلاثة أيام في الحج"، في العشر، آخرهن عرفة.
3459 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، عن يزيد بن خمير، قال: سألت طاوسا عن صيام ثلاثة أيام في الحج، قال: آخرهن يوم عرفة.
3460 - حدثني محمد بن سعد، قال: حدثني أبي، قال: حدثني عمي، قال: حدثني أبي، عن أبيه، عن ابن عباس قوله:" فمن تمتع بالعمرة إلى الحج" إلى:" وسبعة إذا رجعتم"، وهذا على المتمتع بالعمرة إذا لم يجد هديا، فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة، فإن كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله.
3461 - حدثني أحمد بن إسحاق، قال: حدثنا أبو أحمد، قال: حدثنا زياد بن المنذر، عن أبي جعفر:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: آخرها يوم عرفة.
* * *(3/97)
وقال آخرون: بل آخرهن انقضاء يوم منى.
* ذكر من قال ذلك:
3462 - حدثني علي بن سهل، قال: حدثنا مؤمل، قال: حدثنا سفيان، عن جعفر بن محمد، عن أبيه أن عليا كان يقول: من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق.
3463 - حدثني أحمد بن عبد الرحمن ابن أخي ابن وهب، قال: حدثني عمي عبد الله بن وهب، قال: حدثني يونس عن الزهري، عن عروة بن الزبير، قال: قالت عائشة: يصوم المتمتع الذي يفوته الصيام أيام منى.
3464 - حدثني يعقوب، قال: حدثنا ابن علية، قال: حدثنا أيوب، عن نافع، قال: قال ابن عمر: من فاته صيام الثلاثة الأيام في الحج، فليصم أيام التشريق فإنهن من الحج.
3465 - حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: أخبرني عمر بن محمد أن نافعا حدثه: أن عبد الله بن عمر قال: من اعتمر في أشهر الحج فلم يكن معه هدي ولم يصم الثلاثة الأيام قبل أيام التشريق، فليصم أيام منى.
3466 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا محمد بن جعفر، قال: حدثنا شعبة، قال: سمعت عبد الله بن عيسى بن أبي ليلى يحدث عن الزهري، عن عروة، عن عائشة = وعن سالم، عن عبد الله بن عمر = أنهما قالا لم يرخص في أيام التشريق أن يصوم إلا لمن يجد هديا.
3467 - حدثنا ابن المثنى، قال: حدثنا عبد الأعلى، قال: حدثنا هشام، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر قال: إذا لم يصم الثلاثة الأيام قيل النحر صام أيام التشريق، فإنها من أيام الحج.
وذكر هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة قال:
3468 - حدثنا المثنى، قال: حدثنا حجاج، قال: حدثنا حماد عن هشام(3/98)
بن عروة، عن أبيه في هذه الآية:" فصيام ثلاثة أيام في الحج" قال: هي أيام التشريق.
3469 - حدثنا ابن وكيع، قال: حدثنا أبي، عن يونس، عن أبي إسحاق، عن وبرة، عن ابن عمر قال: يصوم يوما قبل التروية، ويوم التروية، ويوم عرفة =. قال: وقال عبيد بن عمير: يصوم أيام التشريق.
* * *
قال أبو جعفر: وعلة من قال:" آخر الثلاثة الأيام التي أوجب الله صومهن في الحج على من لم يجد الهدي من المتمتعين - يوم عرفة"، أن الله جل ثناؤه أوجب صومهن في الحج بقوله:" فصيام ثلاثة أيام في الحج". قالوا: وإذا انقضى يوم عرفة، فقد انقضى الحج، لأن يوم النحر يوم إحلال من الإحرام. قالوا: وقد أجمع الجميع أنه غير جائز له صوم يوم النحر. قالوا: فإن يكن إجماعهم على أن ذلك له غير جائز، من أجل أنه ليس من أيام الحج، فأيام التشريق بعده أحرى أن لا تكون من أيام الحج، لأن أيام الحج متى انقضت من سنة، فلن تعود إلى سنة أخرى بعدها. أو يكون إجماعهم على أن ذلك له غير جائز، من أجل أنه يوم عيد، فأيام التشريق التي بعده في معناه، لأنها أيام عيد، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن صومهن، كما نهى عن صوم يوم النحر.
قالوا: وإذا كان يفوت صومهن بمضي يوم عرفة، لم يكن إلى صيامهن في الحج سبيل; لأن الله شرط صومهن في الحج، فلم يجز عنه إلا الهدي الذي فرضه الله عليه لمتعته.
* * *
وعلة من قال:" آخر الأيام الثلاثة التي ذكرها الله في كتابه انقضاء آخر أيام منى"، أن الله أوجب على المتمتع ما استيسر من الهدي، ثم الصيام إن لم يجد إلى الهدي سبيلا. قالوا: وإنما يجب عليه نحر هدي المتعة يوم النحر، ولو كان له واجدا قبل ذلك. قالوا: فإذا كان ذلك كذلك فإنما رخص له في الصوم يوم يلزمه نحر الهدي فلا يجد إليه سبيلا. قالوا: والوقت الذي يلزمه(3/99)
فيه نحر الهدي يوم النحر والأيام التي بعده من أيام النحر، فأما قبل ذلك فلم يمكن نحره. قالوا: فإذا كان النحر لم يكن له لازما قبل ذلك، وإنما لزمه يوم النحر، فإنما لزمه الصوم يوم النحر، وذلك حين عدم الهدي فلم يجده، فوجب عليه الصوم. قالوا: وإذا كان ذلك كذلك، فالصوم إنما يلزمه أوله في اليوم الذي يلي يوم النحر. وذلك أن النحر إنما كان لزمه من بعد طلوع الفجر. ومن ذلك الوقت إذا لم يجده، يكون له الصوم. قالوا: وإذا طلع فجر يوم لم يلزمه صومه قبل ذلك، إذا كان الصوم لا يكون في بعض نهار يوم في واجب، علم أن الواجب عليه الصوم من اليوم الذي يليه إلى انقضاء الأيام الثلاثة بعد يوم النحر من أيام التشريق.
قالوا: ولا معنى لقول القائل: إن أيام منى ليست من أيام الحج; لأنهن ينسك فيهن بالرمي والعكوف على عمل الحج، كما ينسك غير ذلك من أعمال الحج في الأيام قبلها. قالوا: هذا مع شهادة الخبر الذي:-
3470 - حدثني به محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: حدثنا يحيى بن سلام أن شعبة حدثه عن ابن أبي ليلى، عن الزهري، عن سالم بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، قال: رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتمتع إذا لم يجد الهدي ولم يصم حتى فاتته أيام العشر، أن يصوم أيام التشريق مكانها. (1)
__________
(1) الحديث: 3470 - يحيى بن سلام البصري نزيل مصر: ثقة، قال ابن أبي حاتم 4/2/155: "سألت أبي عنه؟ فقال: كان شيخا بصريا وقع إلى مصر، وهو صدوق". وله ترجمة جيدة في طبقات علماء إفريقية لأبي العرب، ص: 37- 39 وقال أبو العرب: "كان ثقة ثبتا، لقى غير واحد من التابعين وأكثر من لقى الرجال والحمل عنهم. وله مصنفات كثيرة في فنون العلم، وكان من الحفاظ". وذكر أنه مات بمصر سنة 200. وفي لسان الميزان أنه ضعفه الدارقطني. ولكن أهل المغرب أعلم بحال رواتهم وكانت مصر تعتبر من بلاد المغرب.
ابن أبي ليلى: هو عبد الله بن أبي ليلى، وهو ثقة ثبت أخرج له أصحاب الكتب الستة.
والحديث رواه الطحاوي في معاني الآثار 1: 427، بهذا الإسناد نفسه: عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم مع شيء من الاختصار في اللفظ.
وأصل معناه ثابت في البخاري 4: 211، موقوفا. فرواه عن محمد بن بشار عن غندر عن شعبة: "سمعت عبد الله بن عيسى عن الزهري عن عروة عن عائشة - وعن سالم عن ابن عمر قالا: لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لم يجد الهدي". وروى مالك في الموطأ ص: 426 نحو معناه عن ابن شهاب عن عروة عن عائشة - وعن ابن شهاب عن سالم عن أبيه.
وقول عائشة وابن عمر"لم يرخص": هو بضم الياء، كما رواه الحافظ من أصحاب شعبة - فيما ذكر الخافظ في الفتح: وهو عندنا مرفوع حكما، إن لم يكن مرفوعا لفظا. لأن الصحابي إذا قال ذلك فإنما يريد به من له حق الترخيص والمنع، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد بحث الحافظ في هذا الموضع بحثا جيدا في ذلك.
وذكر الحافظ رواية يحيى بن سلام هذه، نقلا عن الدارقطني والطحاوي.(3/100)
= لصحة ما قلنا في ذلك من القول وخطأ قول من خالف قولنا فيه.
3471 - حدثني يعقوب، قال: حدثني هشيم، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، قال: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن حذافة بن قيس، فنادى في أيام التشريق، فقال: إن هذه أيام أكل وشرب وذكرٍ لله، إلا من كان عليه صوم من هدي. (1)
* * *
واختلف أهل العلم في أول الوقت الذي يجب على المتمتع الابتداء في صوم الأيام الثلاثة التي قال الله عز وجل:" فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج"، والوقت الذي يجوز له فيه صومهن، وإن لم يكن واجبا عليه فيه صومهن.
فقال بعضهم: له أن يصومهن من أول أشهر الحج.
* ذكر من قال ذلك:
3472 - حدثنا ابن حميد، قال: حدثنا حكام وهرون، عن عنبسة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد وطاوس: أنهما كانا يقولان: إذا صامهن في أشهر الحج أجزأه. قال: وقال مجاهد: إذا لم يجد المتمتع ما يهدي، فإنه يصوم في العشر إلى يوم عرفة، متى ما صام أجزأه. فإن صام الرجل في شوال أو ذي القعدة أجزأه.
__________
(1) الحديث: 3471 - سفيان بن حسين الواسطي: ثقة، تكلموا في روايته عن الزهري خاصة"فإن فيها تخاليط يجب أن يجانب، وهو ثقة في غير الزهري"- كما قال ابن حبان.
وهذا الحديث مرسل، لم يذكر الزهري من رواه عنه.(3/101)