أَلْقَتْ عَلَيْهِ الْيَهُودُ حَجَرًا فَقَتَلَهُ، ثُمَّ فَتَحَ الْعَمُوصَ، حِصْنَ ابْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ، فَأَصَابَ مِنْهَا سَبَايَا، مِنْهُمْ صَفِيَّةُ بِنْتُ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، جَاءَ بِلَالٌ بِهَا وَبِأُخْرَى مَعَهَا، فَمَرَّ بِهِمَا عَلَى قَتْلَى مِنْ قَتْلَى يَهُودٍ، فَلَمَّا رَأَتْهُمُ الَّتِي مَعَ صَفِيَّةَ صَاحَتْ وَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَحَثَتِ التُّرَابَ عَلَى رَأْسِهَا، فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَعْزِبُوا عَنِّي هَذِهِ الشَّيْطَانَةَ"، وَأَمْرَ بِصَفِيَّةَ فَحِيزَتْ خَلْفَهُ، وَأَلْقَى عَلَيْهَا رِدَاءَهُ فَعَرَفَ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اصْطَفَاهَا لِنَفْسِهِ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ لِبِلَالٍ، لَمَّا رَأَى مِنْ تِلْكَ الْيَهُودِيَّةِ مَا رَأَى: "أَنُزِعَتْ مِنْكَ الرَّحْمَةُ يَا بِلَالُ حَيْثُ تَمُرُّ بِامْرَأَتَيْنِ عَلَى قَتْلَى رِجَالِهِمَا"، وَكَانَتْ صَفِيَّةُ قَدْ رَأَتْ فِي الْمَنَامِ وَهِيَ عَرُوسٌ بِكِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَبِي الْحُقَيْقِ أَنَّ قَمَرًا وَقَعَ فِي حِجْرِهَا، فَعَرَضَتْ رُؤْيَاهَا عَلَى زَوْجِهَا، فَقَالَ: مَا هَذَا إِلَّا أَنَّكِ تَتَمَنِّينَ مَلِكَ الْحِجَازِ مُحَمَّدًا، فَلَطَمَ وَجْهَهَا لَطْمَةً اخْضَرَّتْ عَيْنُهَا مِنْهَا، فَأُتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَا وَبِهَا أَثَرٌ مِنْهَا فَسَأَلَهَا مَا هُوَ؟ فَأَخْبَرَتْهُ هَذَا الْخَبَرَ، وَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِزَوْجِهَا كِنَانَةَ بْنِ الرَّبِيعِ، وَكَانَ عِنْدَهُ كَنْزُ بَنِي النَّضِيرِ فَسَأَلَهُ، فَجَحَدَهُ أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ مَكَانَهُ، فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ كِنَانَةَ يَطُوفُ بِهَذِهِ الْخَرِبَةِ كُلَّ غَدَاةٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكِنَانَةَ: أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْنَاهُ عِنْدَكَ أَنَقْتُلُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ؟ فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَرِبَةِ فَحُفِرَتْ، فَأَخْرَجَ مِنْهَا بَعْضَ كَنْزِهِمْ، ثُمَّ سَأَلَهُ مَا بَقِيَ فَأَبَى أَنْ يُؤَدِّيَهُ، فَأَمْرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ فَقَالَ: عَذِّبْهُ حَتَّى تَسْتَأْصِلَ مَا عِنْدَهُ، فَكَانَ الزُّبَيْرُ يَقْدَحُ بِزَنْدٍ فِي صَدْرِهِ حَتَّى أَشْرَفَ عَلَى نَفْسِهِ، ثُمَّ دَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلَمَةَ فَضَرْبَ عُنُقَهُ بِأَخِيهِ مَحْمُودِ بْنِ مَسْلَمَةَ. (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّةَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَزَا خَيْبَرَ، فَصَلَّيْنَا عِنْدَهَا صَلَاةَ الْغَدَاةِ بِغَلَسٍ، فَرَكِبَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَكِبَ أَبُو طَلْحَةَ، وَأَنَا رَدِيفُ أَبِي طَلْحَةَ، فَأَجْرَى نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زُقَاقِ خَيْبَرَ وَإِنَّ رُكْبَتِي لَتَمَسُّ فَخِذَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ حُسِرَ الْإِزَارُ عَنْ فَخِذِهِ حَتَّى إِنِّي لِأَنْظُرُ إِلَى بَيَاضِ فَخِذِ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْقَرْيَةَ قَالَ: "اللَّهُ أَكْبَرُ خَرِبَتْ خَيْبَرُ، إِنَّا إِذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ"، قَالَهَا ثَلَاثًا، وَخَرَجَ الْقَوْمُ إِلَى أَعْمَالِهِمْ، فَقَالُوا: مُحَمَّدٌ قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ، وَقَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا: وَالْخَمِيسُ يَعْنِي: الْجَيْشَ قَالَ: فَأَصَبْنَاهَا عَنْوَةً، فَجَمَعَ السَّبْيَ فَجَاءَ دِحْيَةُ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ [أَعْطِنِي جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ، قَالَ: اذْهَبْ فَخْذْ جَارِيَةً فَأَخَذَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، فَجَاءَ رَجُلٌ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ] (2) أَعْطَيْتَ دَحْيَةَ صَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ سَيِّدَةَ قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، لَا تَصْلُحُ إِلَّا لَكَ، قَالَ: "ادْعُوهُ بِهَا"، فَجَاءَ بِهَا، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "خُذْ جَارِيَةً مِنَ السَّبْيِ غَيْرَهَا"، قَالَ: فَأَعْتَقَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَزَوَّجَهَا،
__________
(1) انظر: السيرة النبوية لابن هشام: 2 / 336 وما بعدها في غزوة خيبر.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".(7/309)
فَقَالَ لَهُ ثَابِتٌ: يَا أَبَا حَمْزَةَ مَا أَصْدُقُهَا؟ قَالَ: نَفْسَهَا، أَعْتِقْهَا وَتَزَوَّجْهَا، حَتَّى إِذَا كَانَ بِالطَّرِيقِ جَهَّزَتْهَا لَهُ أُمُّ سُلَيْمٍ، فَأَهْدَتْهَا لَهُ مِنَ اللَّيْلِ، فَأَصْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرُوسًا، فَقَالَ: مَنْ كَانَ عنده شيء فليجىء بِهِ، وَبَسَطَ نِطَعًا فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَجِيءُ بِالتَّمْرِ وَجَعَلَ الْآخَرُ يَجِيءُ بالسمن، قال: 131/أوَأَحْسَبُهُ قَدْ ذَكَرَ السَّوِيقَ، قَالَ: فَحَاسُوا حَيْسًا فَكَانَتْ وَلِيمَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الشَّيْبَانِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ أَبِي أَوْفَى يَقُولُ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا فِي الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ فَانْتَحَرْنَاهَا، فَلَمَّا غَلَتِ الْقُدُورُ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اكْفِئُوا الْقُدُورَ وَلَا تَطْعَمُوا مِنْ لُحُومِ الْحُمُرِ شَيْئًا، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ: فَقُلْنَا إِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّهَا لَمْ تُخْمَسْ، وَقَالَ آخَرُونَ: حَرَّمَهَا الْبَتَّةَ، وَسَأَلْتُ سَعِيدَ بْنَ جُبَيْرٍ فَقَالَ: حَرَّمَهَا الْبَتَّةَ. (2)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ حَبِيبٍ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا خَالِدُ بْنُ الْحَارِثِ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ هِشَامِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَنَسٍ أَنْ امْرَأَةً يَهُودِيَّةً أَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَاةٍ مَسْمُومَةٍ، فَأَكَلَ مِنْهَا، فَجِيءَ بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَهَا عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَتْ: أَرَدْتُ لِأَقْتُلَكَ، قَالَ: "مَا كَانَ اللَّهُ لِيُسَلِّطَكِ عَلَى ذَلِكَ، أَوْ قَالَ: عَلَيَّ "، قَالَ: قَالُوا أَلَا نَقْتُلُهَا؟ قَالَ: لَا قَالَ: فَمَا زِلْتُ أَعْرِفُهَا فِي لَهَوَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (3) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: قَالَ يُونُسُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ قَالَ عُرْوَةُ، قَالَتْ عَائِشَةُ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ: "يَا عَائِشَةُ مَا أَزَالُ أَجِدُ أَلَمَ الطَّعَامِ الَّذِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ، فَهَذَا أَوَانٌ وَجَدْتُ انْقِطَاعَ أَبْهَرِي مِنْ ذَلِكَ السُّمِّ" (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، أَخْبَرَنَا حِرَمِيٌّ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ قَالَ: أَخْبَرَنِي عِمَارَةُ، عَنْ عِكْرِمَةَ،
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلاة، باب: ما يذكر في الفخذ: 1 / 479-480، ومسلم في النكاح، باب: فضيلة إعتاقه أمته ثم يتزوجها برقم (1365) : 2 / 1042-1044.
(2) أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة خيبر: 7 / 481.
(3) أخرجه البخاري في الهبة، باب قبول الهدية من المشركين: 5 / 230، ومسلم في السلام، باب السم برقم (2190) : 4 / 1721.
(4) أخرجه البخاري في المغازي، باب مرض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ووفاته: 8 / 131.(7/310)
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: لِمَا فُتِحَتْ خَيْبَرُ قُلْنَا: الْآنَ نَشْبَعُ مِنَ التَّمْرِ (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْمِقْدَامِ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، أَخْبَرَنِي نَافِعٌ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَجْلَى الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى مِنْ أَرْضِ الْحِجَازِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا ظَهَرَ عَلَى أَهْلِ خَيْبَرَ أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الْيَهُودَ مِنْهَا، وَكَانَتِ الْأَرْضُ حِينَ ظَهَرَ عَلَيْهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَسَأَلَ الْيَهُودُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتْرُكَهُمْ عَلَى أَنْ يَكْفُوا الْعَمَلَ وَلَهُمْ نِصْفُ الثَّمَرِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نُقِرُّكُمْ عَلَى ذَلِكَ مَا شِئْنَا". فَأَقَرُّوا حَتَّى أَجْلَاهُمْ عُمَرُ فِي إِمَارَتِهِ إِلَى تَيْمَاءَ وَأَرَيْحَاءَ (2) .
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا سَمِعَ أَهْلُ فَدَكٍ بِمَا صَنَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَيْبَرَ بَعَثُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَهُ أَنْ يُسَيِّرَهُمْ وَيَحْقِنُ لَهُمْ دِمَاءَهُمْ، وَيُخَلُّوا لَهُ الْأَمْوَالَ، فَفَعَلَ. ثُمَّ إِنَّ أَهْلَ خَيْبَرَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُعَامِلَهُمُ الْأَمْوَالَ عَلَى النِّصْفِ، فَفَعَلَ عَلَى أَنَّا إِذَا شِئْنَا أَخْرَجْنَاكُمْ، فَصَالِحَهُ أَهْلُ فَدَكٍ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ، فَكَانَتْ خَيْبَرُ لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانَتْ فَدَكٌ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْلِبُوا عَلَيْهَا بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ.
فَلَمَّا اطْمَأَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَتْ لَهُ زَيْنَبُ بِنْتُ الْحَارِثِ امْرَأَةُ سَلَامِ بْنِ مِشْكَمٍ شَاةً مَصْلِيَّةً، وَقَدْ سَأَلَتْ أَيَّ عُضْوٍ مِنَ الشَّاةِ أَحَبُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقِيلَ لَهَا: الذِّرَاعُ، فَأَكْثَرَتْ فِيهَا السُّمَّ، وَسَمَّمَتْ سَائِرَ الشَّاةِ، ثُمَّ جَاءَتْ بِهَا فَلَمَّا وَضَعَتْهَا بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَنَاوُلَ الذِّرَاعَ فَأَخَذَهَا فَلَاكَ مِنْهَا مُضْغَةً فَلَمْ يَسُغْهَا، وَمَعَهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ بْنُ مَعْرُورٍ، وَقَدْ أَخَذَ مِنْهَا كَمَا أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا بِشْرٌ فَأَسَاغَهَا، وَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَفِظَهَا، ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ هَذَا الْعَظْمَ لِيُخْبِرُنِي أَنَّهُ مَسْمُومٌ"، ثُمَّ دَعَا بِهَا فَاعْتَرَفَتْ، فَقَالَ: "مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ؟ " قَالَتْ: بَلَغْتَ مِنْ قَوْمِي مَا لَمْ يَخْفَ عَلَيْكَ، فَقُلْتُ: إِنْ كَانَ مَلِكًا اسْتَرَحْتُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ نَبِيًّا فَسَيُخْبَرُ، فَتَجَاوَزَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَاتَ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ مِنْ أَكْلَتِهِ الَّتِي أَكَلَ.
قَالَ: وَدَخَلَتْ أُمُّ بِشْرِ بْنِ الْبَرَاءِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَعُودُهُ فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ، فَقَالَ:
__________
(1) أخرجه البخاري في المغازي، باب غزوة خيبر: 7 / 495.
(2) أخرجه البخاري في فرض الخمس، باب: ما كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يعطي المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه: 6 / 252، ومسلم في المساقاة، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع برقم: (1551) : 3 / 1187-1188، والمصنف في شرح السنة: 11 / 183-184.(7/311)
وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)
"يَا أُمَّ بِشْرٍ مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ الَّتِي أَكَلْتُ بِخَيْبَرَ مَعَ ابْنَكِ تُعَاوِدُنِي فَهَذَا أَوَانُ انْقِطَاعِ أَبْهَرِي" (1) ، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ يَرَوْنَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَاتَ شَهِيدًا مَعَ مَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ.
{وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) }
__________
(1) سيرة ابن هشام: 2 / 337-338.(7/312)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} أَيْ وَعْدُكُمُ اللَّهَ فَتَحَ بَلْدَةٍ أُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا، {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} حَتَّى يَفْتَحَهَا لَكُمْ كَأَنَّهُ حَفِظَهَا لَكُمْ وَمَنَعَهَا مِنْ غَيْرِكُمْ حَتَّى تَأْخُذُوهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَفْتَحُهَا لَكُمْ.
وَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: هِيَ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقْدِرُ عَلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ، بَلْ كَانُوا خُوَّلًا لَهُمْ حَتَّى قَدَرُوا عَلَيْهَا بِالْإِسْلَامِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ خَيْبَرُ، وَعْدَهَا اللَّهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا، وَلَمْ يَكُونُوا يَرْجُونَهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَكَّةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حُنَيْنٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا فَتَحُوا حَتَّى الْيَوْمَ.
{وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} .
{وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يعني: أسد، وَغَطَفَانَ، وَأَهْلَ خَيْبَرَ، {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} [لَانْهَزَمُوا] (1) ، {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} .
{سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} أَيْ كَسُنَّةِ اللَّهِ فِي نَصْرِ أَوْلِيَائِهِ وَقَهْرِ أَعْدَائِهِ، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَؤُلَاءِ:
__________
(1) زيادة من "أ".(7/312)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عبد القاهر 131/ب أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهم: أَنَّ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، هَبَطُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ مُتَسَلِّحِينَ يُرِيدُونَ غَدْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهُمْ سِلْمًا فَاسْتَحْيَاهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ: "وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ". (1)
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيُّ: كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحُدَيْبِيَةِ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ الَّتِي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ، وَعَلَى ظَهْرِهِ غُصْنٌ مِنْ أَغْصَانِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَرَفَعْتُهُ عَنْ ظَهْرِهِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ بَيْنَ يَدَيْهِ يَكْتُبُ كِتَابَ الصُّلْحِ، فَخَرَجَ عَلَيْنَا ثَلَاثُونَ شَابًّا عَلَيْهِمُ السِّلَاحُ فَثَارُوا فِي وُجُوهِنَا، فَدَعَا عَلَيْهِمْ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ اللَّهُ بِأَبْصَارِهِمْ فَقُمْنَا إِلَيْهِمْ فَأَخَذْنَاهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "جِئْتُمْ فِي عَهْدٍ؟ أَوْ هَلْ جَعَلَ لَكُمْ أَحَدٌ أَمَانًا؟ " فَقَالُوا: اللَّهُمَّ لَا فَخَلَّى سَبِيلَهُمْ (2) ، [فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَةَ] (3) .
{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} الْآيَةَ. رَوَى الزُّهْرِيُّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، عَنِ الْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ قَالَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَدِينَةِ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي بِضْعَ عَشْرَةَ مِائَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، يُرِيدُونَ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لَا يُرِيدُ قِتَالًا وَسَاقَ مَعَهُ سَبْعِينَ بَدَنَةً، وَالنَّاسُ سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ، وَكَانَتْ كُلُّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةِ نَفَرٍ، فَلَمَّا أَتَى ذَا الْحُلَيْفَةِ قَلَّدَ الْهَدْيَ وَأَشْعَرَهُ وَأَحْرَمَ مِنْهَا بِعُمْرَةٍ، وَبَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ يُخْبِرُهُ عَنْ قُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ قَرِيبًا مِنْ عُسْفَانَ، أَتَاهُ عَيْنَةُ الْخُزَاعِيُّ وَقَالَ: إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الْأَحَابِيشَ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَشِيرُوا عَلَيَّ أَيُّهَا النَّاسُ، أَتَرَوْنَ
__________
(1) أخرجه مسلم في الجهاد، باب قول الله تعالى "وهو الذي كف أيديهم عنكم" الآية برقم: (1808) : 3 / 1442.
(2) أخرجه النسائي في التفسير: 2 / 312-313، والطبري: 26 / 93-94، وصححه الحاكم: 2 / 460 على شرط الشيخين ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن: 6 / 319. قال الهيثمي في المجمع: (6 / 145) : "رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح"، وصححه ابن حجر في الفتح: 5 / 351، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 532 عزوه لأبي نعيم في الدلائل، ولابن مردويه.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".(7/313)
أَنْ أَمِيلَ عَلَى ذَرَارِيِّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَاوَنُوهُمْ فَنُصِيبَهُمْ؟ فَإِنْ قَعَدُوا قَعَدُوا مَوْتُورِينَ، وَإِنْ نَجَوْا تَكُنْ عُنُقًا قَطَعَهَا اللَّهُ؟ أَوْ تَرَوْنَ أَنْ نَؤُمَّ الْبَيْتَ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ؟ ".
فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّمَا خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لَا تُرِيدُ قِتَالَ أَحَدٍ وَلَا حَرْبًا، فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ.
فَقَالَ: "امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ"، فَنَفَرُوا، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ بِالْغَمِيمِ فِي خَيْلٍ لِقُرَيْشٍ طَلِيعَةٍ، فَخُذُوا ذَاتَ الْيَمِينِ"، فَوَاللَّهِ مَا شَعَرَ بِهِمْ خَالِدٌ حَتَّى إِذَا هُمْ بِقِتْرَةِ الْجَيْشِ فَانْطَلَقَ يَرْكُضُ نَذِيرًا لِقُرَيْشٍ، وَسَارَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كَانَ بِالثَّنِيَّةِ الَّتِي يَهْبِطُ عَلَيْهِمْ مِنْهَا بَرَكَتْ بِهِ رَاحِلَتُهُ، فَقَالَ النَّاسُ: حَلَّ حَلَّ، فَأَلَحَّتْ، فَقَالُوا: "خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا خَلَأَتِ الْقَصْوَاءُ وَمَا ذَاكَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ"، ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إِلَى خُطَّةٍ يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ وَفِيهَا صِلَةُ الرَّحِمِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهُ، ثُمَّ زَجَرَهَا فَوَثَبَتْ.
قَالَ: فَعَدَلَ عَنْهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِأَقْصَى الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى ثَمَدٍ قَلِيلِ الْمَاءِ يَتَبَرَّضُهُ النَّاسُ تَبَرُّضًا، فَلَمْ يَلْبَثِ النَّاسُ أَنْ نَزَحُوهُ، وَشَكَا النَّاسُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَطَشَ، فَنَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ وَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ يُقَالُ لَهُ نَاجِيَةُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَهُوَ سَائِقُ بُدْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ فِي الْبِئْرِ فَغَرَزَهُ فِي جَوْفِهِ، فَوَاللَّهِ مَا زَالَ يَجِيشُ لَهُمْ بِالرَّيِّ حَتَّى صَدَّرُوا عَنْهُ، فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيُّ فِي نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِ وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَهْلِ تِهَامَةَ، فَقَالَ: إِنِّي تَرَكْتُ كَعْبَ بْنَ لُؤَيٍّ نَزَلُوا أَعْدَادَ مِيَاهِ الْحُدَيْبِيَةِ مَعَهُمُ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّا لَمْ نَجِئْ لِقِتَالِ أَحَدٍ، وَلَكِنَّا جِئْنَا مُعْتَمِرِينَ، وَإِنَّ قُرَيْشًا قَدْ نَهَكَتْهُمُ الْحَرْبُ وَأَضَرَّتْ بهم، فإن شاؤوا مَادَدْتُهُمْ مُدَّةً وَيُخَلُّوا بَيْنِي وَبَيْنَ النَّاسِ، فَإِنْ أظهر فإن شاؤوا أَنْ يَدْخُلُوا فِيمَا دَخَلَ فِيهِ النَّاسُ فَعَلُوا، وَإِلَّا فَقَدْ جُمُّوا وَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأُقَاتِلَنَّهُمْ عَلَى أَمْرِي هَذَا حَتَّى تَنْفَرِدَ سَالِفَتِي، أَوْ لَيُنْفِذَنَّ اللَّهُ أَمْرَهُ".
فَقَالَ بُدَيْلٌ: سَأُبَلِّغُهُمْ مَا تَقُولُ، فَانْطَلَقَ حَتَّى أَتَى قُرَيْشًا، قَالَ: إِنَّا قَدْ جِئْنَاكُمْ مِنْ عِنْدِ هَذَا الرَّجُلِ، وَسَمِعْنَاهُ يَقُولُ قَوْلًا فَإِنْ شِئْتُمْ أَنْ نَعْرِضَهُ عَلَيْكُمْ فَعَلْنَا، قال: فقال سفاؤهم: لَا حَاجَةَ لَنَا أَنْ تُخْبِرَنَا عَنْهُ بِشَيْءٍ، وَقَالَ ذُو الرَّأْيِ مِنْهُمْ: هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ.
قَالَ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ كَذَا وَكَذَا، فَحَدَّثَهُمْ بِمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَقَامَ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيُّ فَقَالَ: أَيْ قَوْمُ أَلَسْتُمْ بِالْوَالِدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: أَوَلَسْتُ بِالْوَلَدِ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَهَلْ تَتَّهِمُونِي؟ قَالُوا:(7/314)
لَا قَالَ: أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنِّي اسْتَنْفَرْتُ أَهْلَ عُكَاظٍ، فَلَمَّا بَلَحُوا (1) عَلَيَّ جِئْتُكُمْ بِأَهْلِي وَوَلَدِي وَمَنْ أَطَاعَنِي؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: فَإِنَّ هَذَا قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا وَدَعُونِي آتِهِ، قَالُوا: ائْتِهِ. فَأَتَاهُ فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَحْوًا مِنْ قَوْلِهِ لِبُدَيْلٍ. فَقَالَ عُرْوَةُ عِنْدَ ذَلِكَ: يَا مُحَمَّدُ أَرَأَيْتَ إِنِ اسْتَأْصَلْتَ قَوْمَكَ فَهَلْ سَمِعْتَ بِأَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ اجْتَاحَ أَصْلَهُ قَبْلَكَ؟ وَإِنْ تَكُنِ الْأُخْرَى، فَإِنِّي وَاللَّهِ لَأَرَى وُجُوهًا وَأَشْوَابًا مِنَ النَّاسِ خَلِيقًا أَنْ يَفِرُّوا وَيَدَعُوكَ.
فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: امْصُصْ بَظَرَ اللَّاتِ (2) ، أَنْحَنُ نَفِرُّ عَنْهُ وَنَدَعُهُ؟.
فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ قَالُوا: أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: أَمَّا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَكَ عِنْدِي لَمْ أَجْزِكَ بِهَا لَأَجَبْتُكَ.
قَالَ: وَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكلما كلمه 132/أأَخْذَ بِلِحْيَتِهِ، وَالْمُغَيَّرَةُ بْنُ شُعْبَةَ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَعَهُ السَّيْفُ وَعَلَيْهِ الْمِغْفَرُ، فَكُلَّمَا أَهْوَى عُرْوَةُ بِيَدِهِ إِلَى لِحْيَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ضَرَبَ يَدَهُ بِنَعْلِ السَّيْفِ، وَقَالَ: أَخِّرْ يَدَكَ عَنْ لِحْيَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَفَعَ عُرْوَةُ رَأْسَهُ فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَقَالَ: أَيْ غُدَرُ أَلَسْتُ أَسْعَى فِي غُدَرَتِكَ.
وَكَانَ الْمُغِيرَةُ صَحِبَ قَوْمًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقَتَلَهُمْ وَأَخَذَ أَمْوَالَهُمْ ثُمَّ جَاءَ فَأَسْلَمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَّا الْإِسْلَامُ فَأَقْبَلُ، وَأَمَّا الْمَالُ فَلَسْتُ مِنْهُ فِي شَيْءٍ".
ثُمَّ إِنَّ عُرْوَةَ جَعَلَ يَرْمُقُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَوَاللَّهِ-مَا تَنَخَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وُضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يَحُدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ تَعْظِيمًا لَهُ، فَرَجَعَ عُرْوَةُ إِلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ وَاللَّهِ لَقَدْ وَفَدْتُ عَلَى الْمُلُوكِ وَوَفَدْتُ عَلَى قَيْصَرَ وَكِسْرَى وَالنَّجَاشِيِّ، وَاللَّهِ إِنْ رَأَيْتُ مَلِكًا قَطُّ يُعَظِّمُهُ أَصْحَابُهُ مَا يُعَظِّمُ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ مُحَمَّدًا، وَاللَّهِ إِنْ تَنَخَّمَ نُخَامَةً إِلَّا وَقَعَتْ فِي كَفِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ، فَدَلَكَ بِهَا وَجْهَهُ وَجِلْدَهُ، وَإِذَا أَمَرَهُمُ ابْتَدَرُوا أَمْرَهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ كَادُوا يَقْتَتِلُونَ عَلَى وُضُوئِهِ، وَإِذَا تَكَلَّمَ خَفَضُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَمَا يَحُدُّونَ إِلَيْهِ النَّظْرَةَ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ عَرَضَ عَلَيْكُمْ خُطَّةَ رُشْدٍ فَاقْبَلُوهَا.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي كِنَانَةَ: دَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ،
__________
(1) امتنعوا.
(2) البظر: بفتح الموحدة وسكون المعجمة، قطعة تبقى بعد الختان في فرج المرأة، واللات: اسم أحد الأصنام التي كانت قريش وثقيف يعبدونها، وكانت عادة العرب الشتم بذلك لكن بلفظ الأم.(7/315)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَذَا فُلَانٌ وَهُوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ، فَابْعَثُوهَا لَهُ"، فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِهَؤُلَاءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ؟
فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ: رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ.
ثُمَّ بَعَثُوا إِلَيْهِ الْحُلَيْسَ بْنَ عَلْقَمَةَ وَكَانَ يَوْمَئِذٍ سَيِّدُ الْأَحَابِيشِ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلَّهُونَ فَابْعَثُوا بِالْهَدْيِ فِي وَجْهِهِ حَتَّى يَرَاهُ، فَلَمَّا رَأَى الْهَدْيَ يَسِيلُ عَلَيْهِ مِنْ عَرْضِ الْوَادِي فِي قَلَائِدِهِ قَدْ أُكِلَ أَوْبَارُهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ، رَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ وَلَمْ يَصِلْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِعْظَامًا لِمَا رَأَى فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَا لَا يَحِلُّ صُدَّ الْهَدْيُ فِي قَلَائِدِهِ، وَقَدْ أُكِلَ أَوْبَارُهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحِلِّهِ، فَقَالُوا لَهُ: اجْلِسْ إِنَّمَا أَنْتَ رَجُلٌ أَعْرَابِيٌّ لَا عِلْمَ لَكَ، فَغَضِبَ الْحُلَيْسُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللَّهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ، وَلَا عَلَى هَذَا عَاقَدْنَاكُمْ، أَنْ تَصُدُّوا عَنْ بَيْتِ اللَّهِ مَنْ جَاءَهُ مُعَظِّمًا لَهُ، وَالَّذِي نَفْسُ الْحُلَيْسِ بِيَدِهِ لَتُخَلُّنَّ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ، أَوْ لَأَنْفِرَنَّ بِالْأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ، فَقَالُوا لَهُ: مَهْ، كُفَّ عَنَّا يَا حُلَيْسُ حَتَّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا بِمَا نَرْضَى بِهِ.
فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ مِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، فَقَالَ: دَعُونِي آتِهِ، فَقَالُوا: ائْتِهِ، فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَيْهِمْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا مِكْرَزٌ وَهُوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ، فَجَعَلَ يُكَلِّمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَيْنَمَا هُوَ يُكَلِّمُهُ إِذْ جَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَلَمَّا رَآهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: فَجَاءَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، فَقَالَ: هَاتِ نَكْتُبُ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابًا، فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
فَقَالَ سُهَيْلٌ: أَمَّا الرَّحْمَنُ فَوَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا هُوَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، كَمَا كُنْتَ تَكْتُبُ.
فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: وَاللَّهِ لَا نَكْتُبُهَا إِلَّا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَلِيٍّ: " اكْتُبْ بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ: هَذَا مَا قَضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَوْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا صَدَدْنَاكَ عَنِ الْبَيْتِ وَلَا قَاتَلْنَاكَ، وَلَكِنِ اكْتُبْ: مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَاللَّهِ إِنِّي لِرَسُولُ اللَّهِ وَإِنْ كَذَّبْتُمُونِي، اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ.(7/316)
قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ لِقَوْلِهِ: لَا يَسْأَلُونَ خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا، فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَاضَى عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، وَاصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنِ النَّاسِ عَشْرَ سِنِينَ، يَأْمَنُ فِيهِ النَّاسُ وَيَكُفُّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَعَلَى أَنْ تُخَلُّوا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْبَيْتِ، فَنَطُوفَ بِهِ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَاللَّهِ لَا تَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ إِنَّا أُخِذْنَا ضُغْطَةً وَلَكِنْ ذَلِكَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَكَتَبَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ -وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ -إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ كَيْفَ يُرَدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جَاءَ مُسْلِمًا؟.
وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ قِصَّةَ الصلح وَفِيهِ قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا مَنَعْنَاكَ شَيْئًا وَلَكِنْ أَنْتَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: أَنَا رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ قَالَ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: امْحُ رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا أَمْحُوكَ أَبَدًا، قَالَ: "فَأَرِنِيهِ"، فَأَرَاهُ إِيَّاهُ، فَمَحَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ، وَفِي رِوَايَتِهِ: فَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكِتَابَ وَلَيْسَ يُحْسِنُ أَنْ يَكْتُبَ، فَكَتَبَ: هَذَا مَا قَضَى مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ.
قَالَ الْبَرَاءُ: صَالَحَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ، وَمَنْ أَتَاهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لَمْ يَرُدُّوهُ، وَعَلَى أَنْ يَدْخُلَهَا مِنْ قَابِلٍ، وَيُقِيمَ بِهَا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يَدْخُلْهَا إِلَّا بِجُلُبَّانِ السِّلَاحِ السَّيْفِ وَالْقَوْسِ وَنَحْوِهِ.
وَرَوَى ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ: أَنْ قريشًا صالحوا 132/ب النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاشْتَرَطُوا: أَنَّ مَنْ جَاءَنَا مِنْكُمْ لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكُمْ، وَمَنْ جَاءَكُمْ مِنَّا رَدَدْتُمُوهُ عَلَيْنَا، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَكْتُبُ هَذَا؟ قَالَ: "نَعَمْ إِنَّهُ مَنْ ذَهَبَ مِنَّا إِلَيْهِمْ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، وَمَنْ جَاءَنَا مِنْهُمْ سَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ فَرَجًا وَمَخْرَجًا".
رَجَعْنَا إِلَى حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ قَالَ: فَبَيْنَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، يَرْسُفُ فِي قُيُودِهِ قَدِ انْفَلَتَ وَخَرَجَ مِنْ أَسْفَلِ مَكَّةَ، حَتَّى رَمَى بِنَفْسِهِ بَيْنَ أَظْهُرِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ: هَذَا يَا مُحَمَّدُ أَوَّلُ مَنْ أُقَاضِيكَ عَلَيْهِ أَنْ تَرُدَّهُ إِلَيَّ، فَقَالَ النَّبِيُّ: إِنَّا لَمْ نَقْضِ الْكِتَابَ بَعْدُ، قال: فوالله إذا لَا أُصَالِحُكَ عَلَى شَيْءٍ أَبَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَأَجِرْهُ لِي، فَقَالَ: فَمَا أَنَا بِمُجِيرِهِ لَكَ، قَالَ: بَلَى فَافْعَلْ، قَالَ: مَا أَنَا بِفَاعِلٍ، ثُمَّ جَعَلَ سُهَيْلٌ يَجُرُّهُ لِيَرُدَّهُ إِلَى قُرَيْشٍ، قَالَ أَبُو جَنْدَلٍ: أَيْ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَرُدُّ إِلَى الْمُشْرِكِينَ وَقَدْ جِئْتُ مُسْلِمًا أَلَا تَرَوْنَ مَا لَقِيتُ؟ وَكَانَ قَدْ عُذِّبَ عَذَابًا شَدِيدًا فِي اللَّهِ.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا أَبَا جَنْدَلٍ احْتَسِبْ فَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إِنَّا قَدْ عَقَدْنَا بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ عَقْدًا وَصُلْحًا، وَإِنَّا لَا نَغْدِرُ، فَوَثَبَ عُمَرُ يَمْشِي إِلَى جَنْبِ أَبِي جَنْدَلٍ، وَيَقُولُ: اصْبِرْ فَإِنَّمَا هُمُ الْمُشْرِكُونَ وَدَمُ أَحَدِهِمْ كَدَمِ كَلْبٍ، وَيُدْنِي قَائِمَ السَّيْفِ مِنْهُ، قَالَ عُمَرُ: رَجَوْتُ أَنْ يَأْخُذَ السَّيْفَ فَيَضْرِبَ بِهِ أَبَاهُ فَضَنَّ الرَّجُلُ بِأَبِيهِ.(7/317)
وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجُوا وَهُمْ لَا يَشُكُّونَ فِي الْفَتْحِ، لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ دَخَلَ النَّاسَ أَمْرٌ عَظِيمٌ حَتَّى كَادُوا يَهْلَكُونَ، وَزَادَهُمْ أَمْرُ أَبِي جَنْدَلٍ شَرًّا إِلَى مَا بِهِمْ.
قَالَ عُمَرُ: [وَاللَّهِ] (1) مَا شَكَكْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَّا يَوْمَئِذٍ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ [مَرْوَانَ] (2) وَالْمِسْوَرِ، وَرَوَاهُ أَبُو وَائِلٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: أَلَسْتَ نَبِيَّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَنْ؟ قَالَ: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَلَسْتُ أَعْصِيهِ وَهُوَ نَاصِرِي، قُلْتُ: أَوَلَيْسَ كُنْتَ تُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرْتُكَ أَنَّا نَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ، قَالَ: فَأَتَيْتُ أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا بَكْرٍ أَلَيْسَ هَذَا نَبِيُّ اللَّهِ حَقًّا؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَسْنَا عَلَى الْحَقِّ وَعَدُوُّنَا عَلَى الْبَاطِلِ؟ قَالَ: بَلَى. قُلْتُ: أَلَيْسَ قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتْلَاهُمْ فِي النَّارِ؟ قَالَ: بَلَى، قُلْتُ: فَلِمَ نُعْطِي الدَّنِيَّةَ فِي دِينِنَا إِذَنْ؟ قَالَ: أَيُّهَا الرَّجُلُ إِنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ لَيْسَ يَعْصِي رَبَّهُ وَهُوَ نَاصِرُهُ، فَاسْتَمْسِكْ بِغَرْزِهِ فَوَاللَّهِ إِنَّهُ عَلَى الْحَقِّ، قُلْتُ: أَلَيْسَ كَانَ يُحَدِّثُنَا أَنَّا سَنَأْتِي الْبَيْتَ فَنَطُوفُ بِهِ؟ قَالَ: بَلَى، أَفَأَخْبَرَكَ أَنَّكَ تَأْتِيهِ الْعَامَ؟ قُلْتُ: لَا قَالَ: فَإِنَّكَ آتِيهِ وَمُطَوِّفٌ بِهِ.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: قَالَ عُمَرُ: فَعَمِلْتُ لِذَلِكَ أَعْمَالًا.
قَالَ: فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ قَضِيَّةِ الْكِتَابِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: قُومُوا فَانْحَرُوا، ثُمَّ احْلِقُوا، قَالَ: فَوَاللَّهِ مَا قَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، حَتَّى قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا لَمْ يَقُمْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، قَامَ فَدَخَلَ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، فَذَكَرَ لَهَا مَا لَقِيَ مِنَ النَّاسِ، فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟ اخْرُجْ ثُمَّ لَا تُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ كَلِمَةً حَتَّى تَنْحَرَ بُدْنَكَ وَتَدْعُوَ حَالِقَكَ فَيَحْلِقَكَ، فَخَرَجَ فَلَمْ يُكَلِّمْ أَحَدًا مِنْهُمْ حَتَّى فَعَلَ ذَلِكَ، نَحَرَ بُدْنَهُ وَدَعَا حَالِقَهُ فَحَلَقَهُ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَامُوا فَنَحَرُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَحْلِقُ بَعْضًا حَتَّى كَادَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَقْتُلَ بَعْضًا غَمًّا.
قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَصَّرَ آخَرُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ:
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".(7/318)
وَالْمُقَصِّرِينَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَلِمَ ظَاهَرْتَ التَّرَحُّمَ لِلْمُحَلِّقِينَ دُونَ الْمُقَصِّرِينَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُمْ لَمْ يَشُكُّوا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَرَبَّصَ قَوْمٌ وَقَالُوا لَعَلَّنَا نَطُوفُ بِالْبَيْتِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَهْدَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ فِي هَدَايَاهُ جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ فِي رَأْسِهِ بُرَّةٌ مِنْ فِضَّةٍ لِيَغِيظَ الْمُشْرِكِينَ بِذَلِكَ.
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ فِي حَدِيثِهِ: ثُمَّ جَاءَهُ نِسْوَةٌ مُؤْمِنَاتٌ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ"، حَتَّى بَلَّغَ "بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ" (الْمُمْتَحِنَةِ-10) ، فَطَلَّقَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ فِي الشِّرْكِ، فَتَزَوَّجَ إِحْدَاهُمَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَالْأُخْرَى صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ، قَالَ: فَنَهَاهُمْ أَنْ يَرُدُّوا النِّسَاءَ وَأَمَرَ بِرَدِّ الصَّدَاقِ.
قَالَ: ثُمَّ رَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَجَاءَهُ أَبُو بَصِيرٍ عُتْبَةُ بْنُ أُسَيْدٍ، رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَهُوَ مُسْلِمٌ، وَكَانَ مِمَّنْ حُبِسَ بِمَكَّةَ فَكَتَبَ فِيهِ أَزْهَرُ بْنُ عَبْدِ عَوْفٍ وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثَّقَفِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَعَثَا فِي طَلَبِهِ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيٍّ، وَمَعَهُ مَوْلًى لَهُمْ، فَقَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَا الْعَهْدَ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَبَا بَصِيرٍ إِنَّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَا قَدْ عَلِمْتَ، وَلَا يَصِحُّ فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَإِنَّ اللَّهَ جَاعِلٌ لَكَ وَلِمَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، ثُمَّ دَفَعَهُ إِلَى الرَّجُلَيْنِ فَخَرَجَا بِهِ حَتَّى بَلَغَا ذَا الْحُلَيْفَةِ، فَنَزَلُوا يَأْكُلُونَ مِنْ تَمْرٍ لَهُمْ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ لِأَحَدِ الرَّجُلَيْنِ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَى سَيْفَكَ هَذَا جَيِّدًا، فَاسْتَلَّهُ الْآخَرُ، فَقَالَ: أَجَلْ وَاللَّهِ إِنَّهُ لِجَيِّدٌ لَقَدْ جَرَّبْتُ بِهِ ثُمَّ جَرَّبْتُ بِهِ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَرِنِي أنظر إليه، فأخذوه وَعَلَاهُ بِهِ فَضَرَبَهُ حَتَّى بَرَدَ، وَفَرَّ الْآخَرُ حَتَّى أَتَى الْمَدِينَةَ فَدَخَلَ الْمَسْجِدَ يَعْدُو، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُ: لَقَدْ رَأَى هَذَا ذُعْرًا، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ويلك مالك؟ قَالَ: قُتِلَ وَاللَّهِ صَاحِبِي وإني لمقتول، 133/أفَوَاللَّهِ مَا بَرِحَ حَتَّى طَلَعَ أَبُو بَصِيرٍ مُتَوَشِّحًا السَّيْفَ حَتَّى وَقَفَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَوْفَى اللَّهُ ذِمَّتَكَ قَدْ رَدَدْتَنِي إِلَيْهِمْ ثُمَّ أَنْجَانِي اللَّهُ مِنْهُمْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَيْلَ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ، لَوْ كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَلَمَّا سَمِعَ ذَلِكَ عَرَفَ أَنَّهُ سَيَرُدُّهُ إِلَيْهِمْ، فَخَرَجَ حَتَّى أَتَى سِيفَ الْبَحْرِ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا حُبِسُوا بِمَكَّةَ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي بَصِيرٍ: وَيْلُ أُمِّهِ مِسْعَرَ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَخَرَجَ عِصَابَةٌ مِنْهُمْ إِلَيْهِ، وَانْفَلَتَ أَبُو جَنْدَلِ بْنِ سُهَيْلٍ فَلَحِقَ بِأَبِي بَصِيرٍ، حَتَّى اجْتَمَعَ إِلَيْهِ قَرِيبٌ مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا فَوَاللَّهِ مَا يَسْمَعُونَ بِعِيرٍ خَرَجَتْ لِقُرَيْشٍ إِلَى الشَّامِ إِلَّا اعْتَرَضُوا لَهَا فَقَتَلُوهُمْ وَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، فَأَرْسَلَتْ قُرَيْشٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُنَاشِدُهُ اللَّهَ وَالرَّحِمَ لَمَا أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ، فَمَنْ أَتَاهُ فَهُوَ آمِنٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا" حَتَّى بَلَغَ "حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ"،(7/319)
وَكَانَتْ حَمِيَّتُهُمْ أَنَّهُمْ لَمْ يُقِرُّوا أَنَّهُ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَحَالُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَيْتِ (1) .
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أَنْ تَطُوفُوا بِهِ، {وَالْهَدْيَ} أَيْ: وَصَدُّوا الْهَدْيَ، وَهِيَ الْبُدْنُ الَّتِي سَاقَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَتْ سَبْعِينَ بَدَنَةً، {مَعْكُوفًا} مَحْبُوسًا، يُقَالُ: عَكَفْتُهُ عَكْفًا إِذَا حَبَسْتُهُ وَعُكُوفًا لَازِمٌ، كَمَا يُقَالُ: رَجَعَ رَجْعًا وَرُجُوعًا، {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} مَنْحَرَهُ وَحَيْثُ يَحُلُّ نَحْرُهُ يَعْنِي الْحَرَمَ، {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} يَعْنِي الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} لَمْ تعرفوهم، {أَنْ تَطَأوهم} بِالْقَتْلِ وَتُوقِعُوا بِهِمْ، {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعَرَّةٌ إِثْمٌ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: غُرْمُ الدِّيَةِ.
وَقِيلَ: الْكَفَّارَةُ لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَوْجَبَ عَلَى قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِذَا لَمْ يُعْلَمُ إِيمَانُهُ الْكَفَّارَةَ دُونَ الدِّيَةِ، فَقَالَ: "فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ" (النِّسَاءِ-92) .
وَقِيلَ: هُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعِيبُونَكُمْ وَيَقُولُونَ قَتَلُوا أَهْلَ دِينَهُمْ، وَالْمَعَرَّةُ: الْمَشَقَّةُ، يَقُولُ: لولا أن تطؤوا رِجَالًا مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ فَيَلْزَمُكُمْ بِهِمْ كَفَّارَةٌ أَوْ يَلْحَقُكُمْ سُبَّةٌ. وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَأُذِنَ لَكُمْ فِي دُخُولِهَا وَلَكِنَّهُ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ.
{لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} فَاللَّامُ فِي "لِيُدْخِلَ" مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، يَعْنِي: حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بَعْدَ الصُّلْحِ قَبْلَ أَنْ تَدْخُلُوهَا، {لَوْ تَزَيَّلُوا} لَوْ تَمَيَّزُوا يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ بِأَيْدِيكُمْ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام: 5 / 312، وبطوله في باب الشروط في الجهاد والمصالحة مع أهل الحرب وكتابة الشروط: 5 / 329-333. وانظر فتح الباري: 5 / 333 وما بعدها.(7/320)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: "لَعَذَّبْنَا" جَوَابٌ لِكَلَامَيْنِ أَحَدِهِمَا: "لَوْلَا رِجَالٌ"، وَالثَّانِي: "لَوْ تَزَيَّلُوا"، ثُمَّ قَالَ: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ.
وقوله: {فِي رَحْمَتِهِ} أي جنته. وقال قتادة في هذه الآية: إن الله يدفع بالمؤمنين عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة.
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمًا (26) }
{إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} حِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ عَنِ الْبَيْتِ، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَأَنْكَرُوا مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَمِيَّةُ: الْأَنَفَةُ، يُقَالُ: فَلَانَ ذُو حَمِيَّةٍ إِذَا كَانَ ذَا غَضَبٍ وَأَنَفَةٍ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: قَدْ قَتَلُوا أَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا ثُمَّ يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا، [فَتَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا] (1) عَلَى رَغْمِ أَنْفِنَا، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا يَدْخُلُونَهَا عَلَيْنَا، فَهَذِهِ "حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ"، الَّتِي دَخَلَتْ قُلُوبَهُمْ.
{فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} حَتَّى لَمْ يَدْخُلْهُمْ مَا دَخْلَهُمْ مِنَ الْحَمِيَّةِ فَيَعْصُوا اللَّهَ فِي قِتَالِهِمْ، {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَالضَّحَّاكُ، وقَتَادَةُ، وَعِكْرِمَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ زَيْدٍ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَلِمَةُ التَّقْوَى "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ" (2) .
وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا.
وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ: "كَلِمَةُ التَّقْوَى" لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ (3) .
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) انظر: الدر المنثور: 7 / 536-537.
(3) أخرجه الطبري: 26 / 104، وانظر: البحر المحيط: 8 / 99.
(4) أخرجه الطبري: 26 / 105، وانظر: البحر المحيط: 8 / 99.(7/321)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27)
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ (1) .
وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هِيَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) .
{وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ، {وَأَهْلَهَا} أَيْ وَكَانُوا أَهْلَهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لِدِينِهِ وَصُحْبَةِ نَبِيِّهِ أَهْلَ الْخَيْرِ، {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمًا} .
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) }
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُرِيَ فِي الْمَنَامِ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ يَدْخُلُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ آمنين، ويحلقون رؤوسهم وَيُقَصِّرُونَ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ، فَفَرِحُوا وَحَسِبُوا أَنَّهُمْ دَاخِلُو مَكَّةَ عَامَهُمْ ذَلِكَ، فَلَمَّا انْصَرَفُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا شَقَّ عَلَيْهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (3) .
وَرُوِيَ عَنْ مَجْمَعِ بْنِ جَارِيَةَ الْأَنْصَارِيِّ: قَالَ شَهْدِنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، [فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا إِذَا النَّاسُ يَهُزُّونَ الْأَبَاعِرَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: فَخَرَجْنَا نُوجِفُ، فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (4) وَاقِفًا عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ قَرَأَ: "إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا"، فَقَالَ عُمَرُ: أَوَ فَتْحٌ هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ" (5) .
فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَتَحَقُّقُ الرُّؤْيَا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:
"لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ"، أَخْبَرَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي أَرَاهُ إِيَّاهَا فِي مَخْرَجِهِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ يَدْخُلُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ صِدْقٌ وَحَقٌّ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 26 / 106.
(2) أخرجه الطبري: 26 / 106، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 229، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 537 أيضا لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(3) انظر: الطبري: 26 / 107، الدر المنثور: 7 / 538.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(5) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب: من أسهم له سهمًا: 2 / 52-53، والإمام أحمد: 3 / 420، والحاكم: 2 / 131 وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.(7/322)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
قَوْلُهُ: {لَتَدْخُلُنَّ} يَعْنِي وَقَالَ: لَتَدْخُلُنَّ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: "لَتَدْخُلُنَّ" مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ حِكَايَةً عَنْ رُؤْيَاهُ، فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ رَسُولِهِ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وإنما استثنى 133/ب مَعَ عِلْمِهِ بِدُخُولِهَا بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى، تَأَدُّبًا بِآدَابِ اللَّهِ، حَيْثُ قَالَ لَهُ: "وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ" (الْكَهْفِ-23) .
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "إِنْ" بِمَعْنَى إِذْ، مَجَازُهُ: إِذْ شَاءَ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ: "إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ".
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الدُّخُولِ، لِأَنَّ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَتَصْدِيقِهَا سَنَةٌ، وَمَاتَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ نَاسٌ فَمَجَازُ الْآيَةِ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كُلُّكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وَقِيلَ الِاسْتِثْنَاءُ وَاقِعٌ عَلَى الْأَمْنِ لَا عَلَى الدُّخُولِ، لِأَنَّ الدُّخُولَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَكٌّ، كَقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَقْبَرَةِ: "وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ" (1) ، فَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إِلَى اللُّحُوقِ لَا إِلَى الْمَوْتِ.
{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} كُلَّهَا، {وَمُقَصِّرِينَ} بِأَخْذِ بَعْضِ شُعُورِهَا، {لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} أَنَّ الصَّلَاحَ كَانَ فِي الصُّلْحِ وَتَأْخِيرِ الدُّخُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ" الْآيَةَ (الْفَتْحِ-25) . {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أَيْ مِنْ قَبْلِ دُخُولِكُمْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، {فَتْحًا قَرِيبًا} وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَقِيلَ: فَتْحُ خَيْبَرَ.
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28) }
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الجنائز، باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها برقم: (975) : 2 / 671.(7/323)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29) }
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} عَلَى أَنَّكَ نَبِيٌّ صَادِقٌ فِيمَا تُخْبِرُ.
{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} تَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، شَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ قَالَ مُبْتَدِئًا: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} فَالْوَاوُ فِيهِ لِلِاسْتِئْنَافِ، أَيْ: وَالَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} غِلَاظٌ عَلَيْهِمْ كَالْأَسَدِ عَلَى فَرِيسَتِهِ لَا تَأْخُذُهُمْ فِيهِمْ رَأْفَةٌ، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} مُتَعَاطِفُونَ مُتَوَادُّونَ بَعْضُهُمْ(7/323)
لِبَعْضٍ، كَالْوَلَدِ مَعَ الْوَالِدِ، كَمَا قَالَ: "أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ": (الْمَائِدَةِ-54) : {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} أَخْبَرَ عَنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَمُدَاوَمَتِهِمْ عَلَيْهَا، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} أَنْ يُدْخِلَهُمُ الْجَنَّةَ، {وَرِضْوَانًا} أَنْ يَرْضَى عَنْهُمْ، {سِيمَاهُمْ} أَيْ عَلَامَتُهُمْ، {فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} اخْتَلَفُوا فِي هَذِهِ السِّيمَا: فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ نُورٌ وَبَيَاضٌ فِي وُجُوهِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُونَ بِهِ أَنَّهُمْ سَجَدُوا فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: اسْتَنَارَتْ وُجُوهُهُمْ مِنْ كَثْرَةِ مَا صَلُّوا. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: تَكُونُ مَوَاضِعُ السُّجُودِ مِنْ وُجُوهِهِمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ. وَهُوَ رِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ بِالَّذِي تَرَوْنَ لَكِنَّهُ سِيمَاءُ الْإِسْلَامِ وَسَجِيَّتُهُ وَسَمْتُهُ وَخُشُوعُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ السُّجُودَ أَوْرَثَهُمُ الْخُشُوعَ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ الَّذِي يُعْرَفُونَ بِهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ صُفْرَةُ الْوَجْهِ مِنَ السَّهَرِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ مَرْضَى وَمَا هُمْ بِمَرْضَى.
قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ أَثَرُ التُّرَابِ عَلَى الْجِبَاهِ.
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: إِنَّهُمْ يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ لَا عَلَى الْأَثْوَابِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ (1) .
{ذَلِكَ} الَّذِي ذَكَرْتُ، {مَثَلُهُمْ} صِفَتُهُمْ {فِي التَّوْرَاةِ} هَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ، ثُمَّ ذَكَرَ نَعْتَهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، فَقَالَ: {وَمَثَلُهُمْ} صِفَتُهُمْ، {فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ: "شَطَأَهُ" بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِسُكُونِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ كَالنَّهْرِ وَالنَّهَرِ، وَأَرَادَ أَفْرَاخَهُ، يُقَالُ: أَشْطَأَ الزرع فهو مشطىء، إِذَا أَفْرَخَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ نَبْتٌ وَاحِدٌ، فَإِذَا خَرَجَ مَا بَعْدَهُ فَهُوَ شَطْؤُهُ.
__________
(1) أورد هذه الأقوال الإمام الطبري: 26 / 110-112 ثم قال مرجحًا: "وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبرنا أن سيما هؤلاء القوم الذين وصف صفتهم في وجوههم من أثر السجود، ولم يخص ذلك على وقت دون وقت. وإذ كان ذلك كذلك، فذلك على كل الأوقات، فكان سيماهم الذي كانوا يعرفون به في الدنيا أثر الإسلام، وذلك خشوعه وهديه وزهده وسمته، وآثار أداء فرائضه وتطوعه، وفي الآخرة ما أخبر أنهم يعرفون به، وذلك الغرة في الوجه والتحجيل في الأيدي والأرجل من أثر الوضوء، وبياض الوجوه من أثر السجود.(7/324)
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ أَنْ يُخْرِجَ مَعَهُ الطَّاقَةَ الْأُخْرَى.
قَوْلُهُ: {فَآزَرَهُ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: "فَأَزَرَهُ" بِالْقَصْرِ وَالْبَاقُونَ بِالْمَدِّ، أَيْ: قَوَّاهُ وَأَعَانَهُ وَشَدَّ أَزْرَهُ، {فَاسْتَغْلَظَ} غَلُظَ ذَلِكَ الزَّرْعُ، {فَاسْتَوَى} أَيْ تَمَّ وَتَلَاحَقَ نَبَاتُهُ وَقَامَ، {عَلَى سُوقِهِ} أُصُولِهِ، {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} أَعْجَبَ ذَلِكَ زُرَّاعَهُ.
هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيلِ [أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قَلِيلًا ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ.
قَالَ قَتَادَةُ: مَثَلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْإِنْجِيلِ] (1) مَكْتُوبٌ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَنْبُتُونَ نَبَاتَ الزَّرْعِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ (2) .
وَقِيلَ: "الزَّرْعُ" مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، و"الشَّطْءُ": أَصْحَابُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ.
وَرُوِيَ عَنْ مُبَارَكِ بْنِ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: "مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ": أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، "أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ" عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، "رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ" عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، "تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا" عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، "يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ" بَقِيَّةُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ.
وَقِيلَ: "كَمَثَلِ زَرْعٍ" مُحَمَّدٌ، "أَخْرَجَ شَطْأَهُ" أَبُو بَكْرٍ "فَآزَرَهُ" عُمَرُ "فَاسْتَغْلَظَ" عُثْمَانُ، لِلْإِسْلَامِ "فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ" عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ اسْتَقَامَ الْإِسْلَامُ بِسَيْفِهِ، "يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ" قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ.
{لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} قَوْلُ عُمَرَ لِأَهْلِ مَكَّةَ بَعْدَمَا أَسْلَمَ: لَا تَعْبُدُوا اللَّهَ سِرًّا بَعْدَ الْيَوْمِ:
حَدَّثَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشُّجَاعِيُّ السَّرَخْسِيُّ إِمْلَاءً، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الْقَفَّالُ، حَدَّثَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفَضْلُ السَّمَرْقَنْدِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْخِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَلْخِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّرَاوَرْدِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ حُمَيْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: "أَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) أخرجه الطبري: 26 / 114.(7/325)
بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فِي الْجَنَّةِ وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي الْجَنَّةِ" (1) .
حَدَّثَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ قَاسِمٍ حَدَّثَنَا خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَيْدَرَةَ الْأَطْرَابُلْسِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ هَاشِمٍ الْأَنْطَاكِيُّ، حَدَّثَنَا قُطْبَةُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ، عن خالد الخذاء، عَنْ أَبِي قِلَابَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْحَمُ أُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشُدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللَّهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدٌ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيٌّ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ، وَأَمِينُ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ" (2) .
وَرَوَاهُ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ مُرْسَلًا وَفِيهِ: "وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ الْمُخْتَارُ قَالَ خَالِدٌ الْحَذَّاءُ، حُدِّثْنَا عَنْ أَبِي عُثْمَانَ قَالَ حَدَّثَنِي عَمْرُو بن العاص 134/أأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَهُ عَلَى جَيْشِ ذَاتِ السَّلَاسِلِ قَالَ: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: عَائِشَةُ، فَقُلْتُ: مِنَ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: أَبُوهَا، قُلْتُ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَعَدَّ رِجَالًا فَسَكَتُّ مَخَافَةَ أَنْ يَجْعَلَنِي فِي آخِرِهِمْ (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الْمَلِكِ وَأَبُو الْفَتْحِ نَصْرٌ، ابْنَا عَلِيِّ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَنْصُورٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ شَاذَوَيْهِ الطُّوسِيُّ بِهَا قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ كَيْسَانَ النَّحْوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ شَرِيكٍ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هُوَ ابْنُ يَحْيَى بْنِ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْلٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ أَبِيهِ عَنْ سَلَمَةَ عَنْ أَبِي الزَّعْرَاءِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب، مناقب عبد الرحمن بن عوف: 10 / 249 من طريق عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن عبد الرحمن بن عوف، ورواه أيضًا: 10 / 249 من طريق عبد الرحمن بن حميد عن أبيه عن سعيد بن زيد، وقال: هذا أصح من الأول. والإمام أحمد في فضائل الصحابة: 1 / 278 بإسناد حسن، والمصنف في شرح السنة: 14 / 128.
(2) أخرجه ابن ماجه في المقدمة، فضل خباب برقم: (154) : 1 / 55، وأشار إليه الترمذي بقوله: وقد رواه أبو قلابة عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه. والإمام أحمد: 3 / 184، وابن حبان في المناقب باب فضل جماعة من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم (2218) ص (548) ، والحاكم: 3 / 422، والمصنف في شرح السنة: 14 / 131-132.
(3) أخرجه الترمذي في المناقب، باب مناقب معاذ بن جبل وزيد بن ثابت ... : 10 / 293-294 وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث قتادة إلا من هذا الوجه. وقد رواه أبو قلابة عن أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحوه".
(4) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو كنت متخذًا خليلا: 7 / 18، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضائل أبي بكر الصديق رضي الله عنه برقم: (2384) : 4 / 1856، والمصنف في شرح السنة: 14 / 79-80.(7/326)
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "اقْتَدُوا بِاللَّذَيْنِ مِنْ بَعْدِي مِنْ أَصْحَابِي: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، وَاهْتَدُوا بِهَدْيِ عَمَّارٍ، وَتَمَسَّكُوا بِعَهْدِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ أُحُدًا ارْتَجَّ وَعَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُثْمَانُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اثْبُتْ أُحُدُ مَا عَلَيْكَ إِلَّا نَبِيٌّ أَوْ صِدِّيقٌ أَوْ شَهِيدٌ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُوسَى بْنِ الصَّلْتِ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، أَخْبَرَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: عَهِدَ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ لَا يُحِبُّكَ إِلَّا مُؤْمِنٌ، وَلَا يُبْغِضُكَ إِلَّا مُنَافِقٌ (3) .
حَدَّثَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ، أَخْبَرَنَا خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ حَيَّانَ الْمَدَائِنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ عَطِيَّةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُسْلِمٍ عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِي بِأَرْضٍ كَانَ نُورَهُمْ وَقَائِدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةَ" (4) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} أَيْ إِنَّمَا كَثَّرَهُمْ وَقَوَّاهُمْ لِيَكُونُوا غَيْظًا لِلْكَافِرِينَ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في المناقب، مناقب عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: 10 / 308 وقال: "هذا حديث غريب من هذا الوجه، من حديث ابن مسعود لا نعرفه إلا من حديث يحيى بن سلمة بن كهيل، ويحيى بن سلمة يضعف في الحديث، والحاكم: 3 / 75، والبيهقي في السنن: 8 / 153 عن حذيفة، والإمام أحمد في المسند: 5 / 382 وفي فضائل الصحابة: 1 / 187، والمصنف في شرح السنة: 14 / 102. وللحديث طرق وشواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن.
(2) أخرجه الإمام أحمد: 5 / 331، وعبد الرزاق في المصنف: 11 / 229، وابن أبي عاصم في السنة: 2 / 618. قال الهيثمي في المجمع: (9 / 55) : "رواه أبو يعلى ورجاله رجال الصحيح" وأخرجه المصنف في شرح السنة: 14 / 107. وذكره الحافظ ابن حجر في الفتح بهذا اللفظ عن أنس بن مالك: 7 / 49. وانظر مسند أبي يعلى: 3 / 225،242.
(3) أخرجه مسلم في الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعليّ رضي الله عنه من الإيمان وعلاماته برقم: (78) : 1 / 86، والمصنف في شرح السنة: 14 / 113-114.
(4) أخرجه الترمذي في المناقب، باب: من سب أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 10 / 367 وقال: "هذا حديث غريب". وأخرجه ابن عساكر وأبو نعيم في المعرفة. وفيه طيبة، عبد الله بن مسلم، قال أبو حاتم: "لا يحتج به"، وعثمان بن ناجية: مستور، والحديث أخرجه أيضًا الضياء في "المختارة". انظر: كنز العمال: 11 / 537 -538، تحفة الأحوذي: 10 / 367. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 14 / 72.(7/327)
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْ أَصْبَحَ وَفِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَصَابَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّيِّبِ طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَلَاءِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ الْفَضْلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنِي الْهَيْثَمُ بْنُ خَلَفٍ الدُّورِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُفَضَّلُ بْنُ غَسَّانَ بْنِ الْمُفَضَّلِ الْعَلَائِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ أَبِي رَابِطَةَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ الْمُزَنِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، اللَّهَ اللَّهَ فِي أَصْحَابِي، لَا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا بَعْدِي، فَمَنْ أَحَبَّهُمْ فَبِحُبِّي أَحَبَّهُمْ، وَمَنْ أَبْغَضَهُمْ فَبِبُغْضِي أَبْغَضَهُمْ، وَمَنْ آذَاهُمْ فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ فَيُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ" (2) .
حَدَّثَنَا أَبُو الْمُظَفَّرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَامِدٍ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ الْقَاسِمِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَبْسِيُّ الْقَصَّارُ بِالْكُوفَةِ، أَخْبَرَنَا وَكِيعُ بْنُ الْجَرَّاحِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي، فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُرْوَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ إِشْكَابَ، حَدَّثَنَا شَبَابَةُ (4) بْنُ سَوَّارٍ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ مَرْزُوقٍ عَنْ أَبِي خَبَّابٍ عَنْ أَبِي سُلَيْمٍ الْهَمْدَانِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ سَرَّكَ أَنْ تَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَإِنَّ قَوْمًا يتنحلون حبك يقرؤون الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ،
__________
(1) انظر: القرطبي: 16 / 296-297.
(2) أخرجه الترمذي في المناقب، باب: من سب أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 10 / 365 وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، والإمام أحمد: 4 / 87، وفي فضائل الصحابة 1 / 48،49، وابن حبان في المناقب برقم (2284) ص (568-569) ، والخطيب في تاريخ بغداد: 9 / 123، وأبو نعيم في الحلية: 7 / 287، والمصنف في شرح السنة: 14 / 70. وفيه: عبد الرحمن بن زياد، قال الذهبي: لا يعرف. وفي الميزان: في الحديث اضطراب. انظر: فيض القدير: 2 / 98.
(3) أخرجه البخاري في فضائل أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو كنت متخذًا خليلا: 7 / 21، ومسلم في فضائل الصحابة، باب: تحريم سب الصحابة رضي الله عنهم برقم: (2540) 4 / 1967، والمصنف في شرح السنة: 14 / 69.
(4) في"أ": بشارة.(7/328)
نَبَزَهُمُ الرَّافِضَةُ، فَإِنْ أَدْرَكْتَهُمْ فَجَاهِدْهُمْ فَإِنَّهُمْ مُشْرِكُونَ" (1) ، فِي إِسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ نَظَرٌ.
قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي مِنَ الشَّطْءِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الزَّرْعُ، وَهُمُ الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الزَّرْعِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَرَدَّ الْهَاءَ وَالْمِيمَ عَلَى مَعْنَى الشَّطْءِ لَا عَلَى لَفْظِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: "مِنْهُ"، {مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} يَعْنِي الْجَنَّةَ.
__________
(1) عزاه صاحب الكنز: 11 / 324 لابن بشران والحاكم في الكنى.(7/329)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)
سُورَةُ الْحُجُرَاتِ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} قَرَأَ يَعْقُوبُ: "لَا تَقَدَّمُوا" بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ، مِنَ التَّقَدُّمِ أَيْ لَا تَتَقَدَّمُوا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، مِنَ التَّقْدِيمِ، وَهُوَ لَازِمٌ بِمَعْنَى التَّقَدُّمِ، [قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ] (2) : تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا تَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ يَدَيِ الْأَبِ، أَيْ لَا تُعَجِّلْ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ دُونَهُ، وَالْمَعْنَى: بَيْنَ الْيَدَيْنِ الْأَمَامُ. وَالْقُدَّامُ: أَيْ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ أَمْرِهِمَا وَنَهْيِهِمَا. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ: رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ فِي الذَّبْحِ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، أَيْ لَا تَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا ذَبَحُوا قَبْلَ صَلَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذَّبْحَ (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانَ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، عَنْ يَزِيدَ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ، قَالَ: "إِنَّ أَوَّلَ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعَ فَنَنْحَرَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ نُصَلِّيَ فَإِنَّمَا هُوَ لَحْمٌ عَجَّلَهُ لِأَهْلِهِ لَيْسَ مِنَ النُّسُكَ
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 546، لابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة الحجرات بالمدينة.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) أخرجه الطبري: 26 / 117، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 230، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 547 أيضا لعبد بن حميد وابن المنذر. ويلاحظ أن هذا مخالف للروايات المسندة الصحيحة في سبب نزول الآية، فيكون كلام الحسن وجابر إنما هو داخل في عموم الآية لا أنه سبب لنزولها.(7/330)
فِي شَيْءٍ" (1) .
وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ (2) ، أَيْ: لَا تَصُومُوا قَبْلَ أَنْ يَصُومَ نَبِيُّكُمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بن موسى، 134/ب حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ أَخْبَرَهُمْ، أَنَّهُ قَدِمَ رَكْبٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَمِّرِ الْقَعْقَاعَ مَعْبَدَ بْنَ زُرَارَةَ، قَالَ عُمَرُ: بَلْ أَمِّرِ الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا أَرَدْتَ إِلَّا خِلَافِي، قَالَ عُمَرُ: مَا أَرَدْتُ خِلَافَكَ، فَتَمَارَيَا حَتَّى ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُهُمَا، فَنَزَلَتْ فِي ذَلِكَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ" حَتَّى انْقَضَتْ (3) .
وَرَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ أَبِي مَلِيكَةَ، قَالَ فَنَزَلَتْ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" إِلَى قَوْلِهِ: "أَجْرٌ عَظِيمٌ"، وَزَادَ: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: فَمَا كَانَ عُمَرُ يُسْمِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةَ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَنْ أَبِيهِ، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ (4) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي نَاسٍ كَانُوا يَقُولُونَ: لَوْ أُنْزِلَ فِي كَذَا، أَوْ صُنِعَ فِي كَذَا وَكَذَا، فَكَرِهَ اللَّهُ ذَلِكَ (5) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَفْتَاتُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَيْءٍ حَتَّى يَقْضِيَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ (6) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي فِي الْقِتَالِ وَشَرَائِعِ الدِّينِ لَا تَقْضُوا أَمْرًا دُونَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري: في العيدين، باب الخطبة بعد العيد: 2 / 453.
(2) انظر الكافي الشاف ص (155) .
(3) أخرجه البخاري في التفسير: باب (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون) 8 / 592، وفي المغازي، وفي الاعتصام بالكتاب والسنة.
(4) أخرجه البخاري في التفسير، باب (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الآية، 8 / 590.
(5) أخرجه الطبري: 26 / 117، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 230. وانظر: الكافي الشاف ص (155) ، البحر المحيط: 8 / 105، القرطبي: 16 / 301.
(6) أخرجه الطبري: 26 / 116، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 547 عزوه لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه والبيهقي في الشعب. وانظر: البحر المحيط: 8 / 105، القرطبي: 16 / 301.(7/334)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} فِي تَضْيِيعِ حَقِّهِ وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} لِأَقْوَالِكُمْ، {عَلِيمٌ} بِأَفْعَالِكُمْ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَجِّلُوهُ وَيُفَخِّمُوهُ وَلَا يَرْفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَهُ، وَلَا يُنَادُونَهُ كَمَا يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا، {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} لِئَلَّا تَحْبَطَ حَسَنَاتُكُمْ. وَقِيلَ: مَخَافَةَ أَنْ تَحْبَطَ حَسَنَاتُكُمْ، {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ الْبُنَانِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ" الْآيَةَ، جَلَسَ ثَابِتُ بْنُ قَيْسٍ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ: يَا أَبَا عَمْرٍو مَا شَأْنُ ثَابِتٍ أَشْتَكَى؟ فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لِجَارِي وَمَا عَلِمْتُ لَهُ شَكْوَى، قَالَ: فَأَتَاهُ سَعْدٌ فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ ثَابِتٌ: أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ" (1) .
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَعَدَ ثَابِتٌ فِي الطَّرِيقِ يَبْكِي، فَمَرَّ بِهِ عَاصِمُ بْنُ عَدِيٍّ فَقَالَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ثَابِتُ؟ فَقَالَ: هَذِهِ الْآيَةُ أَتَخَوَّفُ أَنْ تَكُونَ نَزَلَتْ فِيَّ، وَأَنَا رَفِيعُ الصَّوْتِ أَخَافُ أَنْ يُحْبَطَ عَمَلِي، وَأَنْ أَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَمَضَى عَاصِمٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَغَلَبَ ثَابِتًا الْبُكَاءُ، فَأَتَى امْرَأَتَهُ جَمِيلَةَ بِنْتَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ سَلُولَ، فَقَالَ لَهَا: إِذَا دَخَلْتُ بَيْتَ فَرَسِي فَشُدِّي عَلَيَّ الضَّبَّةَ بِمِسْمَارٍ، وَقَالَ: لَا أَخْرُجُ حَتَّى يَتَوَفَّانِي اللَّهُ أَوْ يَرْضَى عَنِّي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى عَاصِمٌ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرَهُ خَبَرَهُ فَقَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَادْعُهُ، فَجَاءَ عَاصِمٌ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي رَآهُ فَلَمْ يَجِدْهُ، فَجَاءَ
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب: (لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي) الآية، 8 / 590 ومسلم في الإيمان، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله برقم: (119) : 1 / 110.(7/335)
إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
إِلَى أَهْلِهِ فَوَجَدَهُ فِي بَيْتِ الْفَرَسِ، فَقَالَ لَهُ: إِنْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُوكَ، فَقَالَ: اكْسَرِ الضَّبَّةَ فَكَسَرَهَا، فَأَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا يُبْكِيكَ يَا ثَابِتُ؟ فَقَالَ: أَنَا صَيِّتٌ وَأَتَخَوَّفُ أَنَّ تَكُونَ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا تَرْضَى أَنْ تَعِيشَ حَمِيدًا وَتُقْتَلَ شَهِيدًا وَتَدْخُلَ الْجَنَّةَ؟ فَقَالَ: رَضِيتُ بِبُشْرَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَا أَرْفَعُ صَوْتِي أَبَدًا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} .
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) }
{إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} الْآيَةَ (1) .
قَالَ أَنَسٌ: فَكُنَّا نَنْظُرُ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَمْشِي بَيْنَ أَيْدِينَا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْيَمَامَةِ فِي حَرْبِ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ، رَأَى ثَابِتٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ الِانْكِسَارِ وَانْهَزَمَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ: أُفٍّ لِهَؤُلَاءِ، ثُمَّ قَالَ ثَابِتٌ لِسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ: مَا كُنَّا نُقَاتِلُ (2) أَعْدَاءَ اللَّهِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ هَذَا، ثُمَّ ثَبَتَا وَقَاتَلَا حَتَّى قُتِلَا وَاسْتُشْهِدَ ثَابِتٌ وَعَلَيْهِ دِرْعٌ، فَرَآهُ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ فِي الْمَنَامِ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُ: اعْلَمْ أَنَّ فُلَانًا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَزَعَ دِرْعِي فَذَهَبَ بِهَا وَهِيَ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْمُعَسْكَرِ عِنْدَ فَرَسٍ يَسِيرٍ فِي طِوَلِهِ، وَقَدْ وَضَعَ عَلَى درعي بُرْمَة، فأت خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ وَأَخْبِرْهُ حَتَّى يسترد درعي، وأت أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْ لَهُ: إِنَّ عَلَيَّ دَيْنًا حَتَّى يُقْضَى، وَفُلَانٌ مِنْ رَقِيقِي عَتِيقٌ، فَأَخْبَرَ الرَّجُلُ خَالِدًا فَوَجَدَ دِرْعَهُ وَالْفَرَسَ عَلَى مَا وَصَفَهُ لَهُ، فَاسْتَرَدَّ الدِّرْعَ، وَأَخْبَرَ خَالِدٌ أَبَا بَكْرٍ بِتِلْكَ الرُّؤْيَا فَأَجَازَ أَبُو بَكْرٍ وَصِيَّتَهُ (3) .
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: لَا أَعْلَمَ وَصِيَّةً أُجِيزَتْ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهَا إِلَّا هَذِهِ.
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَانَ أَبُو بَكْرٍ لَا يُكَلِّمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا كَأَخِي السِّرَارِ (4)
__________
(1) أخرجه الطبري: 26 / 118، وابن مردويه من طريق زيد بن الحباب. وأخرجه ابن سعد بإسناد صحيح، انظر: فتح الباري: 6 / 620-621.
(2) ساقط من "أ".
(3) أخرجه الإمام أحمد: 3 / 137، وعبد بن حميد: ص363-364، وابن سعد والطبراني والحاكم، من رواية حماد بن أبي سلمة عن ثابت، وأخرج الحاكم قصة الدرع والوصية مطولة من وجه آخر عن ثابت بن قيس. انظر: فتح الباري: 6 / 52 وذكره ابن حجر في المطالب العالية: 4 / 120 ونسبه لأبي يعلى، وقال البوصيري: وأصله في صحيح البخاري وسنن الترمذي من حديث أنس. وانظر: ابن كثير: 4 / 207، وتفسير عبد الرزاق: 2 / 230.
(4) أخرجه الحاكم: 2 / 462 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 548 لعبد بن حميد والبيهقي في شعب الإيمان. وانظر: فتح الباري: 8 / 591، مجمع الزوائد: 7 / 108.(7/336)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4)
وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مَا حَدَّثَ عُمَرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ فَيَسْمَعُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَلَامَهُ حَتَّى يَسْتَفْهِمَهُ مِمَّا يَخْفِضُ صَوْتَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ" (1) ، يَخْفِضُونَ {أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} إِجْلَالًا لَهُ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ، قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} اخْتَبَرَهَا وَأَخْلَصَهَا كَمَا يُمْتَحَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ فَيَخْرُجُ خَالِصُهُ، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ}
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) }
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير، باب (لا ترفعوا أصواتكم ... ) 8 / 590.(7/337)
وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) }
{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} قَرَأَ الْعَامَّةُ بِضَمِّ الْجِيمِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهِيَ جَمْعُ الْحُجَرِ، وَالْحُجَرُ جُمَعُ الْحُجْرَةِ فَهِيَ جَمْعُ الْجَمْعِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَرِيَّةً إِلَى بَنِي الْعَنْبَرِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّ، فَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَهُمْ هَرَبُوا وَتَرَكُوا عِيَالَهُمْ، فَسَبَاهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ رِجَالُهُمْ يَفْدُونَ الذَّرَارِيَّ، فَقَدِمُوا وَقْتَ الظَّهِيرَةِ، وَوَافَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِلًا فِي أَهْلِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُمُ الذَّرَارِيُّ أَجْهَشُوا إِلَى آبَائِهِمْ يبكون، وكان 135/ألِكُلِّ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [حُجْرَةٌ، فَعَجَّلُوا أَنْ يَخْرُجَ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (1) ، فَجَعَلُوا يُنَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إِلَيْنَا، حَتَّى أَيْقَظُوهُ مِنْ نَوْمِهِ، فَخَرَجَ إِلَيْهِمْ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ فَادِنَا عِيَالَنَا، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ رَجُلًا فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ يَكُونَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ سَبْرَةُ بْنُ عَمْرٍو، وَهُوَ عَلَى دِينِكُمْ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ سَبْرَةُ: أَنَا لَا أَحْكُمُ بَيْنَهُمْ إِلَّا وَعَمِّي شَاهِدٌ، وَهُوَ الْأَعْوَرُ بْنُ بَشَامَةَ، فَرَضُوا بِهِ، فَقَالَ الْأَعْوَرُ: أَرَى أَنَّ تُفَادِيَ نِصْفَهُمْ وَتَعْتِقَ نِصْفَهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَدْ رَضِيتُ، فَفَادَى نِصْفَهُمْ وَأَعْتَقَ نِصْفَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ"، وَصْفَهُمْ بِالْجَهْلِ وَقِلَّةِ الْعَقْلِ (2) .
{وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} قَالَ مُقَاتِلٌ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ لِأَنَّكَ كُنْتَ تَعْتِقُهُمْ جَمِيعًا وَتُطْلِقُهُمْ بِلَا فِدَاءٍ، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) انظر: الكافي الشاف ص (156) .(7/337)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6)
وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَعْرَابِ بني تميم جاؤوا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَادَوْا عَلَى الْبَابِ (1) .
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: جَاءَتْ بْنُو تَمِيمٍ فَنَادَوْا عَلَى الْبَابِ: اخْرُجْ إِلَيْنَا يَا مُحَمَّدُ، فَإِنَّ مَدْحَنَا زَيْنٌ، وَذَمَّنَا شَيْنٌ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَقُولُ: إِنَّمَا ذَلِكُمُ اللَّهُ الَّذِي مَدْحُهُ زَيْنٌ وَذَمُّهُ شَيْنٌ، فَقَالُوا: نَحْنُ نَاسٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ جِئْنَا بِشُعَرَائِنَا وَخُطَبَائِنَا لِنُشَاعِرَكَ وَنُفَاخِرَكَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا بِالشِّعْرِ بُعِثْتُ وَلَا بِالْفِخَارِ أُمِرْتُ، وَلَكِنْ هَاتُوا"، فَقَامَ شَابٌّ مِنْهُمْ فَذَكَرَ فَضْلَهُ وَفَضْلَ قَوْمِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَكَانَ خَطِيبَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قُمْ فَأَجِبْهُ"، فَأَجَابَهُ، وَقَامَ شَاعِرُهُمْ فَذَكَرَ أَبْيَاتًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ: "أَجِبْهُ" فَأَجَابَهُ. فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ، فَقَالَ: إِنَّ مُحَمَّدًا لَمُؤْتًى لَهُ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي هَذَا الْأَمْرَ، تَكَلَّمَ خَطِيبُنَا فَكَانَ خَطِيبُهُمْ أَحْسَنَ قَوْلًا وَتَكَلَّمَ شَاعِرُنَا فَكَانَ شَاعِرُهُمْ أَشْعَرَ وَأَحْسَنَ قَوْلًا ثُمَّ دَنَا مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا يَضُرُّكَ مَا كَانَ قَبْلَ هَذَا" ثُمَّ أَعْطَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَسَاهُمْ، وَقَدْ كَانَ تَخَلَّفَ فِي رِكَابِهِمْ عَمْرُو بْنُ الْأَهْتَمِ لِحَدَاثَةِ سِنِّهِ، فَأَعْطَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ مَا أَعْطَاهُمْ، وَأَزْرَى بِهِ بَعْضُهُمْ وَارْتَفَعْتِ الْأَصْوَاتُ وَكَثُرَ اللَّغَطُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَزَلَ فِيهِمْ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ" الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ إِلَى قَوْلِهِ: "غَفُورٌ رَحِيمٌ". (2)
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: جَاءَ نَاسٌ مِنَ الْعَرَبِ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَإِنْ يَكُنْ نَبِيًّا فَنَحْنُ أَسْعَدُ النَّاسِ بِهِ، وَإِنْ يَكُنْ مَلِكًا نَعِشْ في جنابه، فجاؤوا فَجَعَلُوا يُنَادُونَهُ، يَا مُحَمَّدُ يَا مُحَمَّدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (3) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا} الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 230، وانظر: الطبري: 26 / 122 سيرة ابن هشام: 2 / 516.
(2) أخرجه الواحدي بسنده في أسباب النزول ص (447) ، وقال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص (156) : "أورده الثعلبي من طريق يعلى بن عبد الرحمن عن عبد الحميد بن جعفر عن عمر بن الحكم عن جابر "جاءت بنو تميم فدخلوا ... " فذكره مطولا. وأخرج المقطع الأول منه الترمذي: 9 / 152-153 عن البراء بن عازب وقال: "هذا حديث حسن غريب". وأخرجه الإمام أحمد: 3 / 488 عن الأقرع بن حابس، والهيثمي في المجمع: 7 / 108 عن الأقرع بن حابس ثم قال: "رواه أحمد والطبراني وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح إن كان أبو سلمة سمع من الأقرع وإلا فهو مرسل كإسناد أحمد الآخر".
(3) أخرجه الطبري: 26 / 121. وذكره ابن حجر في المطالب العالية: 3 / 375 ونسبه لمسدد، وإسحاق وأبي يعلى وقال البوصيري: "رجاله ثقات". وقال الهيثمي في المجمع: (7 / 108) : "رواه الطبراني وفيه داود بن راشد الطفاوي وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين". وانظر: الدر المنثور: 7 / 552-553، القرطبي: 16 / 309.(7/338)
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)
بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ مُصَدِّقًا، وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ الْقَوْمُ تَلَقُّوهُ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَحَدَّثَهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ فَهَابَهُمْ فَرَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ مَنَعُوا صَدَقَاتِهِمْ وَأَرَادُوا قَتْلِي، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهَمَّ أَنْ يَغْزُوَهُمْ، فَبَلَغَ الْقَوْمَ رُجُوعُهُ فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ سَمِعْنَا بِرَسُولِكَ فَخَرَجْنَا نَتَلَقَّاهُ وَنُكْرِمُهُ وَنُؤَدِّي إِلَيْهِ مَا قَبِلْنَاهُ مِنْ حَقِّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَبَدَا لَهُ الرُّجُوعُ، فَخَشِينَا أَنَّهُ إِنَّمَا رَدَّهُ مِنَ الطَّرِيقِ كِتَابٌ جَاءَهُ مِنْكَ لِغَضَبٍ غَضِبْتَهُ عَلَيْنَا، وَإِنَّا نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ غَضَبِهِ وَغَضِبِ رَسُولِهِ، فَاتَّهَمَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَيْهِمْ خُفْيَةً فِي عَسْكَرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْفِيَ عَلَيْهِمْ قُدُومَهُ، وَقَالَ لَهُ: انْظُرْ فَإِنْ رَأَيْتَ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِهِمْ فَخُذْ مِنْهُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَرَ ذَلِكَ فَاسْتَعْمِلْ فِيهِمْ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكُفَّارِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ خَالِدٌ، وَوَافَاهُمْ فَسَمِعَ مِنْهُمْ أَذَانَ صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ، وَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ إِلَّا الطَّاعَةَ وَالْخَيْرَ، فَانْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ} يَعْنِي الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ (1) {بِنَبَأٍ} بِخَبَرٍ، {فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا} كَيْ لَا تُصِيبُوا بِالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ، {قَوْمًا} بُرَآءَ، {بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} مِنْ إِصَابَتِكُمْ بِالْخَطَأِ.
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) }
{وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} فَاتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَقُولُوا بَاطِلًا أَوْ تُكَذِّبُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُخْبِرُهُ وَيُعَرِّفُهُ أَحْوَالَكُمْ فَتَفْتَضِحُوا، {لَوْ يُطِيعُكُمْ} أَيِ الرَّسُولُ، {فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} مِمَّا تُخْبِرُونَهُ بِهِ فَيَحْكُمُ بِرَأْيِكُمْ، {لَعَنِتُّمْ} لَأَثِمْتُمْ وَهَلَكْتُمْ، وَالْعَنَتُ: الْإِثْمُ وَالْهَلَاكُ. {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} فَجَعَلَهُ أَحَبَّ الْأَدْيَانِ إِلَيْكُمْ، {وَزَيَّنَهُ} حَسَّنَهُ، {فِي قُلُوبِكُمْ} حَتَّى اخْتَرْتُمُوهُ، وَتُطِيعُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْكَذِبَ، {وَالْعِصْيَانَ} جَمِيعَ مَعَاصِي اللَّهِ. ثُمَّ عَادَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْخَبَرِ، وَقَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} الْمُهْتَدُونَ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 26 / 123، والإمام أحمد: 4 / 279، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 231. قال ابن كثير: 4 / 209-210 "ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية ملك بني المصطلق وهو الحارث بن أبي ضرار ... ثم ساق الحديث وساق روايات أخرى ... وقال الهيثمي: 7 / 111 "رواه الطبراني وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف".(7/339)
فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9)
{فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) }
{فَضْلًا} أَيْ كَانَ هَذَا فَضْلًا {مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ، عَلِيمٌ حَكِيمٌ} .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن إسماعيل، 135/ب حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا مُعْتَمِرٌ قَالَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: إِنَّ أَنَسًا قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَتَيْتَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَكِبَ حِمَارًا وَانْطَلَقَ الْمُسْلِمُونَ يَمْشُونَ مَعَهُ، وَهِيَ أَرْضٌ سَبِخَةٌ، فَلَمَّا أَتَاهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِلَيْكَ عَنِّي، وَاللَّهِ لَقَدْ آذَانِي نَتَنُ حِمَارِكَ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْهُمْ: وَاللَّهِ لِحِمَارُ رَسُولِ اللَّهِ أَطْيَبُ رِيحًا مِنْكَ، فَغَضِبَ لِعَبْدِ اللَّهِ رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ فَتَشَاتَمَا، فَغَضِبَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَصْحَابُهُ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ ضَرْبٌ بِالْجَرِيدِ وَالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَبَلَغَنَا أَنَّهَا نَزَلَتْ: "وَإِنَّ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلَحُوا بَيْنَهُمَا" (1) .
وَيُرْوَى أَنَّهَا لَمَّا نَزَلَتْ قَرَأَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاصْطَلَحُوا وَكَفَّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي رَجُلَيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ كَانَتْ بَيْنَهُمَا مُدَارَاةٌ فِي حَقٍّ بَيْنَهُمَا، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: لَآخُذُنَّ حَقِّي مِنْكَ عَنْوَةً، لِكَثْرَةَ عَشِيرَتِهِ، وَإِنَّ الْآخَرَ دَعَاهُ لِيُحَاكِمَهُ إِلَى نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَبَى أَنْ يَتْبَعَهُ، فَلَمْ يَزَلِ الْأَمْرُ بَيْنَهُمَا حَتَّى تَدَافَعُوا وَتَنَاوَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، وَلَمْ يَكُنْ قِتَالٌ بِالسُّيُوفِ (2) .
وَقَالَ سُفْيَانُ عَنِ السُّدِّيِّ: كَانَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ يُقَالُ لَهَا أُمُّ زَيْدٍ تَحْتَ رَجُلٍ، وَكَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجِهَا شَيْءٌ فَرَقِيَ بِهَا إِلَى عُلِّيَّةٍ وَحَبَسَهَا، فَبَلَغَ ذلك قومها فجاؤوا، وَجَاءَ قَوْمُهُ فَاقْتَتَلُوا بِالْأَيْدِي وَالنِّعَالِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا" بِالدُّعَاءِ إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ وَالرِّضَا بِمَا فِيهِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا (3) {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} تَعَدَّتْ إِحْدَاهُمَا،
__________
(1) أخرجه البخاري في الصلح، باب ما جاء في الإصلاح بين الناس ... : 5 / 297، ومسلم في الجهاد والسير، باب في دعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وصبره على أذى المنافقين برقم: (1799) : 3 / 1424.
(2) أخرجه الطبري: 26 / 129، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 560 نسبته لعبد بن حميد وابن المنذر.
(3) أخرجه الطبري: 26 / 128، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 560-561 لابن أبي حاتم.(7/340)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
{عَلَى الْأُخْرَى} وَأَبَتِ الْإِجَابَةَ إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ، {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ} تَرْجِعَ، {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} فِي كِتَابِهِ، {فَإِنْ فَاءَتْ} رَجَعَتْ إِلَى الْحَقِّ، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} بِحَمْلِهِمَا عَلَى الْإِنْصَافِ وَالرِّضَا بِحُكْمِ اللَّهِ، {وَأَقْسِطُوا} اعْدِلُوا، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} .
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) }
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} فِي الدِّينِ وَالْوِلَايَةِ، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} إِذَا اخْتَلَفَا وَاقْتَتَلَا قَرَأَ يَعْقُوبُ "بَيْنَ إِخْوَتِكُمْ" بِالتَّاءِ عَلَى الْجَمْعِ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} فَلَا تَعْصُوهُ وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} .
[أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ] (1) ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ الْمُخْلِدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةَ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَشْتُمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (2) .
وَفِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْبَغْيَ لَا يُزِيلُ اسْمَ الْإِيمَانِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهُمْ إِخْوَةً مُؤْمِنِينَ مَعَ كَوْنِهِمْ بَاغِينَ، يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ الْحَارِثِ الْأَعْوَرِ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سُئِلَ-وَهُوَ الْقُدْوَةُ-فِي قِتَالِ أَهْلِ الْبَغْيِ، عَنْ أَهْلِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ: أَمُشْرَكُونَ هُمْ؟ فَقَالَ: لَا مِنَ الشِّرْكِ فَرُّوا، فَقِيلَ: أَمُنَافِقُونَ هُمْ؟ فَقَالَ: لَا إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا قِيلَ: فَمَا حَالُهُمْ؟ قَالَ: إِخْوَانُنَا بَغَوْا عَلَيْنَا (3) .
وَالْبَاغِي فِي الشَّرْعِ هُوَ الْخَارِجُ عَلَى الْإِمَامِ الْعَدْلِ، فَإِذَا اجْتَمَعَتْ طَائِفَةٌ لَهُمْ قُوَّةٌ وَمَنَعَةٌ فَامْتَنَعُوا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ الْعَدْلِ بِتَأْوِيلٍ مُحْتَمَلٍ، وَنَصَّبُوا إِمَامًا فَالْحُكْمُ فِيهِمْ أَنْ يَبْعَثَ الْإِمَامُ إِلَيْهِمْ وَيَدْعُوَهُمْ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) أخرجه البخاري في المظالم، باب لا يظلم المسلم المسلم ولا يسلمه: 5 / 97، ومسلم في البر والصلة باب تحريم الظلم برقم: (2580) : 4 / 1996، والمصنف في شرح السنة: 13 / 98.
(3) أخرج محمد بن نصر المروزي في كتابه "تعظيم قدر الصلاة": 2 / 543-544، آثارًا ثلاثة عن علي رضي الله عنه، رواها عنه: طارق بن شهاب، وأبو وائل، وحكيم بن جابر. وانظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية: 5 / 242-248، تفسير القرطبي: 16 / 323-324.(7/341)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
إِلَى طَاعَتِهِ، فَإِنْ أَظْهَرُوا مَظْلَمَةً أَزَالَهَا عَنْهُمْ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرُوا مَظْلَمَةً، وَأَصَرُّوا عَلَى بَغْيِهِمْ، قَاتَلَهُمُ الْإِمَامُ حَتَّى يَفِيئُوا إِلَى طَاعَتِهِ، ثُمَّ الْحُكْمُ فِي قِتَالِهِمْ أَنْ لَا يُتْبَعَ مُدْبِرُهُمْ وَلَا يُقْتَلَ أَسِيرُهُمْ، وَلَا يُذَفَّفَ عَلَى جَرِيحِهِمْ، نَادَى مُنَادِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْجَمَلِ: أَلَا لَا يُتْبَعُ مُدْبِرٌ وَلَا يُذَفَّفُ عَلَى جَرِيحٍ (1) .وَأُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ صِفِّينَ بِأَسِيرٍ فَقَالَ لَهُ: لَا أَقْتُلُكَ صَبْرًا إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. وَمَا أَتْلَفَتْ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى فِي حَالِ الْقِتَالِ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: كَانَتْ فِي تِلْكَ الْفِتْنَةِ دِمَاءٌ يُعْرَفُ فِي بَعْضِهَا الْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ، وَأُتْلِفَ فِيهَا أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، ثُمَّ صَارَ النَّاسُ إِلَى أَنْ سَكَنَتِ الْحَرْبُ بَيْنَهُمْ، وَجَرَى الْحُكْمُ عَلَيْهِمْ، فَمَا عَلِمْتُهُ اقْتَصَّ مِنْ أَحَدٍ وَلَا أَغْرَمَ مَالًا أَتْلَفَهُ.
أَمَّا مَنْ لَمْ يَجْتَمِعْ فِيهِمْ هَذِهِ الشَّرَائِطُ الثَّلَاثُ بِأَنْ كَانُوا جَمَاعَةً قَلِيلِينَ لَا مَنَعَةَ لَهُمْ، أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ تَأْوِيلٌ، أَوْ لَمْ يُنَصِّبُوا إِمَامًا فَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُمْ إِنْ لَمْ يَنْصِبُوا قِتَالًا وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ فَعَلُوا فَهُمْ كَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ.
رُوِيَ أَنْ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ: لَا حُكْمَ إِلَّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَمْنَعُكُمُ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَ أَيْدِينَا، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ (2) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) }
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ} الْآيَةَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ فِي أُذُنِهِ وَقْرٌ، فَكَانَ إِذَا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سَبَقُوهُ بِالْمَجْلِسِ أَوْسَعُوا لَهُ حَتَّى يَجْلِسَ إِلَى جَنْبِهِ، فَيَسْمَعَ مَا يَقُولُ، فَأَقْبَلَ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ فَاتَتْهُ [رَكْعَةٌ مِنْ صَلَاةِ
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن موقوفًا على علي: 8 / 181، وصححه الحاكم في المستدرك: 2 / 155 ووافقه الذهبي، ورواه ابن أبي شيبة وعبد الرزاق وسعيد بن منصور، وصححه الحافظ ابن حجر في بلوغ المرام. وأخرجه الحاكم والبيهقي والبزار عن ابن مسعود مرفوعًا بسند ضعيف، فيه كوثر بن حكيم وهو متروك. انظر: نصب الراية: 3 / 463، تلخيص الحبير: 4 / 43، سبل السلام للصنعاني: 3 / 259، إرواء الغليل: 8 / 113.
(2) أخرجه البيهقي في السنن: 8 / 184 موصولا من طرق، ورواه عن الشافعي بلاغًا قال: "قال الشافعي رحمه الله: بلغنا أن عليا ... " وقال ابن حجر في تلخيص الحبير: 4 / 45 "أخرجه الشافعي بلاغًا، وابن أبي شيبة والبيهقي موصولا، وأصله في صحيح مسلم من حديث عبيد الله بن أبي رافع". وانظر: إرواء الغليل للألباني: 8 / 117.(7/342)
الْفَجْرِ] (1) ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ أَخَذَ أَصْحَابُهُ مَجَالِسَهُمْ، فَضَنَّ كُلُّ رَجُلٍ بِمَجْلِسِهِ فَلَا يَكَادُ يُوَسِّعُ أَحَدٌ لِأَحَدٍ، فَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا جَاءَ فَلَمْ يَجِدْ مَجْلِسًا يَجْلِسُ فِيهِ قَامَ قَائِمًا كَمَا هُوَ، فَلَمَّا فَرَغَ ثَابِتٌ مِنَ الصَّلَاةِ أَقْبَلَ نَحْوَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ، وَيَقُولُ: تَفَسَّحُوا تَفَسَّحُوا، فَجَعَلُوا يَتَفَسَّحُونَ لَهُ حَتَّى انْتَهَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ لَهُ: تَفَسَّحْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: قَدْ أَصَبْتَ مَجْلِسًا فَاجْلِسْ، فَجَلَسَ ثَابِتٌ خَلْفَهُ مُغْضَبًا، فَلَمَّا انْجَلْتِ الظُّلْمَةُ غَمَزَ ثَابِتٌ الرَّجُلَ، فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا فُلَانٌ، فَقَالَ ثَابِتٌ: ابْنُ فلانة، وذكر 136/أأُمًّا لَهُ كَانَ يُعَيَّرُ بِهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَنَكَّسَ الرَّجُلُ رَأَسَهُ وَاسْتَحْيَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي وَفْدِ بَنِي تَمِيمٍ الَّذِينَ ذكرناهم، كانوا يستهزؤون بِفُقَرَاءِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلِ عَمَّارٍ وَخَبَّابٍ وَبِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَسَلْمَانَ وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، لَمَّا رَأَوْا مِنْ رَثَاثَةِ حَالِهِمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ (3) : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرُ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ} أَيْ رِجَالٌ مِنْ رِجَالٍ. وَ"الْقَوْمُ": اسْمٌ يَجْمَعُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَقَدْ يَخْتَصُّ بِجَمْعِ الرِّجَالِ، {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ} .
رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي نِسَاءِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ عَيَّرْنَ أُمَّ سَلَمَةَ بِالْقِصَرِ (4) .
وَعَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ، قَالَ لَهَا النِّسَاءُ: يَهُودِيَّةٌ بِنْتُ يَهُودِيَّيْنِ (5) . {وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} أَيْ لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَطْعَنْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} التَّنَابُزُ: التَّفَاعُلُ مِنَ النَّبْزِ، وَهُوَ اللَّقَبُ، وَهُوَ أَنْ يُدْعَى الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ مَا سُمِّيَ بِهِ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: هُوَ قَوْلُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: يَا فَاسِقُ يَا مُنَافِقُ يَا كَافِرُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ يُسْلِمُ، فَيُقَالُ لَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ يَا يَهُودِيُّ يَا نَصْرَانِيُّ، فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ (6) .
__________
(1) في "ب" (ركعتا الفجر) .
(2) ذكره الواحدي في أسباب النزول صفحة: (453) .
(3) أورده السيوطي في الدر: 7 / 563 عن مقاتل وعزاه لابن أبي حاتم.
(4) ذكره الواحدي في أسباب النزول صفحة: (454) .
(5) ذكره الواحدي في أسباب النزول صفحة: (454) ، القرطبي: 16 / 326.
(6) أخرج الطبري هذين القولين لعكرمة والحسن: 26 / 132-133 ثم قال: "والذي هو أولى الأقوال في تأويل ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب، والتنابز بالألقاب: هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعم الله بنهيه ذلك ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه، أو صفة يكرهها، وإذا كان ذلك كذلك صحت الأقوال التي قالها أهل التأويل في ذلك التي ذكرناها كلها، ولم يكن بعض ذلك أولى بالصواب من بعض، لأن كل ذلك مما ينهى الله المسلمين أن ينبز بعضهم بعضا".(7/343)
قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ أَنْ تَقُولَ لِأَخِيكَ: يَا كَلْبُ يَا حِمَارُ يَا خِنْزِيرُ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ": أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عَمِلَ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابَ عَنْهَا فَنُهِيَ أَنْ يُعَيَّرَ بما سلف عن عَمَلِهِ. (1)
{بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ، بَعْدَ الْإِيمَانِ} . أَيْ بِئْسَ الِاسْمُ أَنْ يَقُولَ: يَا يَهُودِيُّ أَوْ يَا فَاسِقُ بَعْدَ مَا آمَنَ وَتَابَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّ مَنْ فَعَلَ مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالنَّبْزِ فَهُوَ فَاسِقٌ، وَبِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَلَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَتَسْتَحِقُّوا اسْمَ الْفُسُوقِ، {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} مِنْ ذَلِكَ، {فَأُولَئِكَ هُمُ، الظَّالِمُونَ}
__________
(1) أخرجه الطبري: 26 / 133. وانظر: الدر المنثور: 7 / 564.(7/344)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} قِيلَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي رَجُلَيْنِ اغْتَابَا رَفِيقَهُمَا، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا غَزَا أَوْ سَافَرَ ضَمَّ الرَّجُلَ الْمُحْتَاجَ إِلَى رَجُلَيْنِ مُوسِرَيْنِ يَخْدِمُهُمَا، وَيَتَقَدَّمُ لَهُمَا إِلَى الْمَنْزِلِ فَيُهَيِّئُ لَهُمَا مَا يُصْلِحُهُمَا مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، فَضَمَّ سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ إِلَى رَجُلَيْنِ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَتَقَدَّمَ سَلْمَانُ إِلَى الْمَنْزِلِ فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ فَنَامَ فَلَمْ يُهَيِّئْ لَهُمَا شَيْئًا، فَلَمَّا قَدِمَا قَالَا لَهُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا؟ قَالَ: لَا غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ، قَالَا لَهُ: انْطَلِقْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطْلُبْ لَنَا مِنْهُ طَعَامًا، فَجَاءَ سَلْمَانُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَأَلَهُ طَعَامًا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: انْطَلِقْ إِلَى أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَقُلْ لَهُ: إِنْ كَانَ عِنْدَهُ فَضْلٌ مِنْ طَعَامٍ وَإِدَامٍ فَلْيُعْطِكَ، وَكَانَ أُسَامَةُ خَازِنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى رَحْلِهِ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: مَا عِنْدِي شَيْءٌ، فَرَجَعَ سَلْمَانُ إِلَيْهِمَا وَأَخْبَرَهُمَا، فَقَالَا كَانَ عِنْدَ أُسَامَةَ طَعَامٌ وَلَكِنْ بَخِلَ، فَبَعَثَا سَلْمَانَ إِلَى طَائِفَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ فَلَمْ يَجِدْ عِنْدَهُمْ شَيْئًا، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَا لَوْ بَعَثْنَاكَ إِلَى بِئْرِ سُمَيْحَةَ لَغَارَ مَاؤُهَا، ثُمَّ انْطَلَقَا يَتَجَسَّسَانِ، هَلْ عِنْدَ أُسَامَةَ مَا أَمَرَ لَهُمَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَلَمَّا جَاءَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لهما: "مالي أَرَى خُضْرَةَ اللَّحْمِ فِي أَفْوَاهِكُمَا"، قَالَا وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا تَنَاوَلْنَا يَوْمَنَا هَذَا لَحْمًا، قَالَ: بَلْ ظَلَلْتُمْ تَأْكُلُونَ لَحْمَ سَلْمَانَ(7/344)
وَأُسَامَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ" (1) ، وَأَرَادَ: أَنْ يُظَنَّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ سُوءًا {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الظَّنُّ ظَنَّانِ: أَحَدُهُمَا إِثْمٌ، وَهُوَ أَنْ تَظُنَّ وَتَتَكَلَّمَ بِهِ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِإِثْمٍ وَهُوَ أَنْ تَظُنَّ وَلَا تَتَكَلَّمَ.
{وَلَا تَجَسَّسُوا} التَّجَسُّسُ: هُوَ الْبَحْثُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ الْبَحْثِ عَنِ الْمَسْتُورِ مِنْ أُمُورِ النَّاسِ وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ حَتَّى لَا يَظْهَرَ عَلَى مَا سَتَرَهُ اللَّهُ مِنْهَا.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ، وَلَا تَجَسَّسُوا، وَلَا تَنَافَسُوا، وَلَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا" (2)
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحَسَنِ الطُّوسِيُّ بِهَا، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْفَرَايِينِي، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الله بن ناحية، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَكْثَمَ، أَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ مُوسَى الشَّيْبَانِيُّ، عَنِ الْحُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ، عَنْ أَوْفَى ابن دَلْهَمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، يَتَتَبَّعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَتَبَّعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ".
قَالَ: وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ فَقَالَ: مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ (3) .
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ وَهْبٍ: قِيلَ لِابْنِ مَسْعُودٍ: هَلْ لَكَ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ تَقْطُرُ لِحْيَتُهُ خَمْرًا، فَقَالَ: إِنَّا قَدْ نُهِينَا عَنِ التَّجَسُّسِ، فَإِنْ يَظْهَرْ لَنَا شَيْءٌ نَأْخُذْهُ بِهِ (4) {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} يَقُولُ:
__________
(1) ذكره القرطبي: 16 / 330-331.
(2) أخرجه البخاري في الأدب، باب (يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن) الآية، 10 / 484، ومسلم في البر والصلة، باب تحريم الظن برقم: (2563) : 4 / 1985، والمصنف في شرح السنة: 13 / 109-110.
(3) أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في تعظيم المؤمن: 6 / 180-181 وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الحسين بن واقد، وقد روى إسحاق بن إبراهيم السمرقندي عن حسين بن واقد نحوه، وقد روي عن أبي برزة الأسلمي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نحو هذا"، والإمام أحمد: 4 / 421، والمصنف في شرح السنة 13 / 104. وأخرجه أبو داود في الأدب، باب في الغيبة: 7 / 213-214 عن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه.
(4) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في النهي عن التجسس: 7 / 219، وعبد الرزاق في المصنف: 10 / 232، ومن طريق البيهقي في السنن: 8 / 334.(7/345)
لَا يَتَنَاوَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِمَا يَسُوءُهُ مِمَّا هُوَ فِيهِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرْقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَتَدْرُونَ مَا الْغَيْبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فقد اغتبته، 136/ب وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ". (1)
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الطَّاهِرِ الْحَارِثِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ الْمُثَنَّى بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا فَقَالُوا: لَا يَأْكُلُ حَتَّى يُطْعَمَ، وَلَا يَرْحَلُ حَتَّى يُرَحَّلَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اغْتَبْتُمُوهُ" فَقَالُوا: إِنَّمَا حَدَّثْنَا بِمَا فِيهِ، قَالَ: "حَسْبُكَ إِذَا ذَكَرْتَ أَخَاكَ بِمَا فِيهِ" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا قِيلَ لَهُمْ "أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا" قَالُوا: لَا قِيلَ: {فَكَرِهْتُمُوهُ} أَيْ فَكَمَا كَرِهْتُمْ هَذَا فَاجْتَنِبُوا ذِكْرَهُ بِالسُّوءِ غَائِبًا.
قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ: إِنَّ ذِكْرَكَ مَنْ لَمْ يَحْضُرْكَ بِسُوءٍ بِمَنْزِلَةِ أَكْلِ لَحْمِ أَخِيكَ، وَهُوَ مَيِّتٌ لَا يُحِسُّ بِذَلِكَ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّرِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُصَفَّى، حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ عَبْدُ الْقُدُّوسِ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي صَفْوَانُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا رَاشِدُ بْنُ سَعْدٍ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ جُبَيْرٍ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمَّا عُرِجَ بِي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمُشُونَ بِهَا وُجُوهَهُمْ وَلُحُومَهُمْ، فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ" (3)
__________
(1) أخرجه مسلم في البر والصلة، باب تحريم الغيبة برقم (2589) : 4 / 2001، والمصنف في شرح السنة: 13 / 138-139.
(2) قال المنذري في الترغيب والترهيب: 3 / 506: "رواه الأصبهاني بإسناد حسن".
(3) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في الغيبة: 7 / 213 وقال المنذري: "وذكر أن بعضهم رواه مرسلا"، والإمام أحمد: 3 / 224. قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: 4 / 215 بعد أن ساق الحديث: "تفرد به أبو داود".(7/346)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
قَالَ مَيْمُونُ بْنُ سِياهٍ (1) : بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ إِذَا أَنَا بِجِيفَةِ زِنْجِيٍّ وَقَائِلٍ يَقُولُ: كُلْ، قُلْتُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ وَلِمَ آكُلْ؟ قَالَ: بِمَا اغْتَبْتَ عَبْدَ فَلَانٍ، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا ذَكَرْتُ فِيهِ خَيْرًا وَلَا شَرًّا، قَالَ: لَكِنَّكَ اسْتَمَعْتَ وَرَضِيتَ بِهِ، فَكَانَ مَيْمُونٌ لَا يَغْتَابُ أَحَدًا وَلَا يَدَعُ أَحَدًا يَغْتَابُ عِنْدَهُ أَحَدًا (2) .
{وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) }
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الْآيَةَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَقَوْلُهُ لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يُفْسِحْ لَهُ: ابْنُ فُلَانَةٍ، يُعَيِّرُهُ بِأُمِّهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنِ الذَّاكِرُ فُلَانَةً؟ فَقَالَ ثَابِتٌ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: انْظُرْ فِي وُجُوهِ الْقَوْمِ فَنَظَرَ فَقَالَ: مَا رَأَيْتَ يَا ثَابِتُ؟ قَالَ: رَأَيْتُ أَبْيَضَ وَأَحْمَرَ وَأَسْوَدَ، قَالَ: فَإِنَّكَ لَا تَفْضُلُهُمْ إِلَّا فِي الدِّينِ وَالتَّقْوَى، فَنَزَلَتْ فِي ثَابِتٍ هَذِهِ الْآيَةُ، وَفِي الَّذِي لَمْ يَتَفَسَّحْ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا" (3) (الْمُجَادَلَةِ-11) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلَالًا حَتَّى عَلَا ظَهْرَ الْكَعْبَةِ وَأَذَّنَ، فَقَالَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ أَبِي الْعِيصِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي قَبَضَ أَبِي حَتَّى لَمْ يَرَ هَذَا الْيَوْمَ، وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ: أَمَا وَجَدَ مُحَمَّدٌ غَيْرَ هَذَا الْغُرَابِ الْأَسْوَدِ مُؤَذِّنًا، وَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: إِنْ يُرِدِ الله شيئًا يعيره. وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: إِنِّي لَا أَقُولُ شَيْئًا أَخَافُ أَنْ يُخْبِرَ بِهِ رَبُّ السَّمَاءِ، فَأَتَى جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا قَالُوا، فَدَعَاهُمْ وَسَأَلَهُمْ عَمَّا قَالُوا فَأَقَرُّوا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (4) وَزَجَرَهُمْ عَنِ التَّفَاخُرِ بِالْأَنْسَابِ وَالتَّكَاثُرِ بِالْأَمْوَالِ وَالْإِزْرَاءِ بِالْفُقَرَاءِ فَقَالَ:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ أَيْ إِنَّكُمْ مُتَسَاوُونَ فِي النَّسَبِ. {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا} جَمْعُ شَعْبٍ بِفَتْحِ الشين، وهي رؤوس الْقَبَائِلِ مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَالْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، سُمُّوا شُعُوبًا لِتَشَعُّبِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ، كَشُعَبِ أَغْصَانِ الشَّجَرِ، وَالشَّعْبُ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ: شَعَبَ، أَيْ: جَمَعَ، وَشَعَبَ أَيْ: فَرَّقَ. {وَقَبَائِلَ} وَهِيَ دُونُ الشُّعُوبِ، وَاحِدَتُهَا قَبِيلَةٌ وَهِيَ كَبَكْرٍ مِنْ رَبِيعَةَ وَتَمِيمٍ مِنْ مُضَرَ، وَدُونَ الْقَبَائِلِ الْعَمَائِرُ، وَاحِدَتُهَا عَمَارَةٌ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ، وَهُمْ كَشَيْبَانَ مِنْ بِكْرٍ، وَدَارِمٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَدُونَ الْعَمَائِرِ الْبُطُونُ، وَاحِدَتُهَا بَطْنٌ، وَهُمْ كَبَنِي غَالِبٍ وَلُؤَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ
__________
(1) في "أ": شياه، وفي "ب": سيار. والتصويب من "التهذيب" وغيره.
(2) انظر حلية الأولياء: 3 / 107 فقد ذكر القطعة الأخيرة عنه.
(3) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص (455) ، القرطبي: 16 / 341. وانظر فيما سبق ص 343.
(4) المرجع السابق.(7/347)
وَدُونَ الْبُطُونِ الْأَفْخَاذُ وَاحِدَتُهَا فَخِذٌ، وَهُمْ كَبَنِي هَاشِمٍ وَأُمَيَّةَ مِنْ بَنِي لُؤَيٍّ، ثُمَّ الْفَصَائِلُ، وَالْعَشَائِرُ وَاحِدَتُهَا فَصِيلَةٌ وَعَشِيرَةٌ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْعَشِيرَةِ حَيٌّ يُوصَفُ بِهِ.
وَقِيلَ: الشُّعُوبُ مِنَ الْعَجَمِ، وَالْقَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْأَسْبَاطُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَالَ أَبُو رَوْقٍ: "الشُّعُوبُ" الَّذِينَ لَا يَعْتَزُّونَ إِلَى أَحَدٍ، بَلْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، "وَالْقَبَائِلُ": الْعَرَبُ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَى آبَائِهِمْ.
{لِتَعَارَفُوا} لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي قُرْبِ النَّسَبِ وَبُعْدِهِ، لَا لِيَتَفَاخَرُوا. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ أَرْفَعَهُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ فَقَالَ:
{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ أَكْرَمَ الْكَرَمِ التَّقْوَى، وَأَلْأَمُ اللُّؤْمِ الْفُجُورُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْهَيْثَمِ التُّرَابِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُزَيْمٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سَلَامُ بْنُ أَبِي مُطِيعٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْحَسَبُ الْمَالُ، وَالْكَرْمُ التَّقْوَى" (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَرَمُ الدُّنْيَا الْغِنَى، وَكَرَمُ الْآخِرَةِ التَّقْوَى.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الْهَيْثَمِ، أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ خُزَيْمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا الضَّحَّاكُ بْنُ مَخْلَدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَافَ يَوْمَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ يَسْتَلِمُ الْأَرْكَانَ بِمِحْجَنِهِ، فَلَمَّا خَرَجَ لَمْ يَجِدْ مَنَاخًا، فَنَزَلَ عَلَى أَيْدِي الرِّجَالِ، ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَهُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَتَكَبُّرَهَا [بِآبَائِهَا] (2) ، النَّاسُ رَجُلَانِ بَرٌّ تَقِيُّ كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير (تفسير سورة الحجرات) 9 / 156-157 وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح من حديث سمرة لا نعرفه إلا من حديث سلام بن أبي مطيع"، وابن ماجه في الزهد، باب الورع والتقوى، برقم (4219) : 2 / 1410-1411، والإمام أحمد: 5 / 10، والحاكم: 2 / 163 و4 / 325 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه" ووافقه الذهبي، والبيهقي في السنن: 7 / 136، والدارقطني في السنن: 3 / 302، وله شواهد عنده أيضًا عن أبي هريرة في الموضع نفسه. وانظر: إرواء\ الغليل: 6 / 271-272، فتح الباري: 9 / 135.
(2) ساقط من "ب".(7/348)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
ثُمَّ تَلَا "يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى"، ثُمَّ قَالَ: أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ هُوَ ابن سلام 137/أحَدَّثَنَا عَبْدَةُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ النَّاسِ أَكْرَمُ؟ قَالَ: أَكْرَمُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ، قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَأَكْرَمُ النَّاسِ يُوسُفُ نَبِيُّ اللَّهِ ابْنُ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ نَبِيِّ اللَّهِ ابْنِ خَلِيلِ اللَّهِ. قَالُوا: لَيْسَ عَنْ هَذَا نَسْأَلُكَ، قَالَ: فَعَنْ مَعَادِنِ الْعَرَبِ تَسْأَلُونِي؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: "فَخِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا" (2) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عَمْرٌو النَّاقِدُ، حَدَّثَنَا كَثِيرُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بَرْقَانَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ" (3)
{قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي سَنَةٍ جَدْبَةٍ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فِي السِّرِّ، فَأَفْسَدُوا طُرُقَ الْمَدِينَةِ بِالْعَذِرَاتِ وَأَغْلَوْا أَسْعَارَهَا وَكَانُوا يَغْدُونَ وَيَرُوحُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيَقُولُونَ: أَتَتْكَ الْعَرَبُ بِأَنْفُسِهَا عَلَى ظُهُورِ رَوَاحِلِهَا، وَجِئْنَاكَ بِالْأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ وَالذَّرَارِيِّ، وَلَمْ نُقَاتِلْكَ كَمَا قَاتَلَكَ بْنُو فُلَانٍ وَبْنُو فُلَانٍ، يُمَنُّونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُرِيدُونَ الصَّدَقَةَ، وَيَقُولُونَ: أَعْطِنَا، فَأَنْزِلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ (4) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير: 9 / 155-156 وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث عبد الله بن دينار عن ابن عمر إلا من هذا الوجه، وعبد الله بن جعفر يضعف، ضعفه يحيى بن معين وغيره، وهو والد علي بن المديني"، وأخرجه عبد بن حميد في المنتخب من المسند ص (253-254) والمصنف في شرح السنة: 13 / 124. وقال: هذا حديث غريب. وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 579 نسبته لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه.
(2) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب قول الله تعالى: (واتخذ الله إبراهيم خليلا) 6 / 387، ومسلم في الفضائل، باب من فضائل يوسف عليه السلام برقم: (2378) : 4 / 1846-1847.
(3) أخرجه مسلم في البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله برقم (2564) 4 / 1986-1987، والمصنف في شرح السنة: 14 / 340-341.
(4) انظر: تفسير عبد الرزاق: 2 / 235، البحر المحيط: 8 / 117، الدر المنثور: 7 / 585، القرطبي: 16 / 348.(7/349)
وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ، وَهُمْ أَعْرَابُ جُهَيْنَةَ وَمُزَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَأَشْجَعَ وَغِفَارٍ، كَانُوا يَقُولُونَ: آمَنَّا لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا اسْتُنْفِرُوا إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ تَخَلَّفُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ "قَالْتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا" (1) صَدَّقْنَا.
{قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} انْقَدْنَا وَاسْتَسْلَمْنَا مَخَافَةَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ، فِي قُلُوبِكُمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَأَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ وَإِظْهَارِ شَرَائِعِهِ بِالْأَبْدَانِ لَا يَكُونُ إِيمَانًا دُونَ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالْإِخْلَاصِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ غُرَيْرٍ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عَامِرُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَهْطًا وَأَنَا جَالِسٌ فِيهِمْ، قَالَ: فَتَرَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِمْ رَجُلًا لَمْ يُعْطِهِ وَهُوَ أَعْجَبُهُمْ إِلَيَّ، فَقُمْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [فساررته] (2) ، فقلت: مالك عَنْ فُلَانٍ؟ وَاللَّهِ إِنِّي لِأَرَاهُ مُؤْمِنًا، قَالَ: أَوْ مُسْلِمًا، قَالَ: فَسَكَتَ قَلِيلًا ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَعْلَمُ مِنْهُ، فَقُلْتُ: يَا رسول الله مالك عَنْ فُلَانٍ فَوَاللَّهِ إِنِّي لِأَرَاهُ مُؤْمِنًا؟ قَالَ: أَوْ مُسْلِمًا، قَالَ: "إِنِّي لِأُعْطِي الرَّجُلَ وَغَيْرُهُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْهُ خَشْيَةَ أَنْ يُكَبَّ فِي النَّارِ عَلَى وَجْهِهِ" (3) .
فَالْإِسْلَامُ هُوَ الدُّخُولُ فِي السِّلْمِ وَهُوَ الِانْقِيَادُ وَالطَّاعَةُ، يُقَالُ: أَسْلَمَ الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي السِّلْمِ كَمَا يُقَالُ: أَشْتَى الرَّجُلُ إِذَا دَخَلَ فِي الشِّتَاءِ، وَأَصَافَ إِذَا دَخَلَ فِي الصَّيْفِ، وَأَرْبَعَ إِذَا دَخَلَ فِي الرَّبِيعِ، فَمِنَ الْإِسْلَامِ مَا هُوَ طَاعَةٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ بِاللِّسَانِ، وَالْأَبْدَانِ وَالْجَنَانِ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ لِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ" (الْبَقَرَةِ-131) ، وَمِنْهُ مَا هُوَ انْقِيَادٌ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ، فِي قُلُوبِكُمْ} .
{وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} ظَاهِرًا وَبَاطِنًا سِرًّا وَعَلَانِيَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ تُخْلِصُوا الْإِيمَانَ، {لَا يَلِتْكُمْ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو "يَأْلِتْكُمْ" بِالْأَلْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَا أَلَتْنَاهُمْ" (الطُّورِ-21) وَالْآخَرُونَ بِغَيْرِ أَلْفٍ، وَهُمَا لُغَتَانِ، مَعْنَاهُمَا: لَا يَنْقُصُكُمْ، يُقَالُ: أَلِتَ يَأْلِتُ أَلْتًا وَلَاتَ يَلِيتُ لَيْتًا إِذَا نَقُصَ،
__________
(1) انظر: البحرالمحيط: 8 / 117، القرطبي: 16 / 348.
(2) ساقط من "ب".
(3) أخرجه البخاري في الزكاة، باب قول الله تعالى "لا يسألون الناس إلحافا": 3 / 340 وفي الإيمان 1 / 79. ومسلم في المسافرين، باب تألف قلب من يخاف على إيمانه لضعفه والنهي عن القطع بالإيمان من غير دليل قاطع برقم: (150) : 1 / 132.(7/350)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
{مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} أَيْ لَا يَنْقُصُ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) }
ثُمَّ بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ، فَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} لَمْ يَشُكُّوا فِي دِينِهِمْ، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فِي إِيمَانِهِمْ.
فَلَمَّا نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَتَتِ الْأَعْرَابُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُونَ، وَعَرَفَ اللَّهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} ، وَالتَّعْلِيمُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "بِدِينِكُمْ" وَأَدْخَلَ الْبَاءَ فِيهِ، يَقُولُ: أَتُخْبِرُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِ شَيْءٍ عَلِيمٌ} لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِخْبَارِكُمْ.
{يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} أَيْ بِإِسْلَامِكُمْ، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ، عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ} وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ "إِذْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ" {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} إِنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ.
{إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "يَعْمَلُونَ" بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ.(7/351)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1)
سُورَةُ ق مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) }
{ق} [قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ قَسَمٌ، وَقِيلَ:] (2) هُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَقِيلَ هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ.
وَقَالَ الْقُرَظِيُّ (3) : هُوَ مِفْتَاحُ اسْمِهِ "الْقَدِيرِ"، وَ"الْقَادِرِ" وَ"الْقَاهِرِ" وَ"الْقَرِيبِ" وَ"الْقَابِضِ".
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ جَبَلٌ مُحِيطٌ بِالْأَرْضِ مِنْ زُمُرُّدَةٍ خَضْرَاءَ، مِنْهُ خُضْرَةُ السَّمَاءِ وَالسَّمَاءُ مَقْبِيَّةٌ عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ كَتِفَاهَا (4) ، وَيُقَالُ هُوَ وَرَاءِ الْحِجَابِ الَّذِي تَغِيبُ الشمس من 137/ب وَرَائِهِ بِمَسِيرَةِ سَنَةٍ (5) .
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قُضِيَ الْأَمْرُ، أَوْ قُضِيَ مَا هُوَ كَائِنٌ، كَمَا قَالُوا فِي حم (6) .
{وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} الشَّرِيفِ الْكَرِيمِ عَلَى اللَّهِ، الْكَثِيرِ الْخَيْرِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: جَوَابُهُ: "بَلْ عَجِبُوا"، وَقِيلَ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ،
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة ق بمكة. انظر الدر المنثور: 7 / 587.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) في "أ" القرطبي، والصحيح ما أثبتناه.
(4) في "أ" أكنافها.
(5) قال الحافظ ابن كثير في تفسيره: 4 / 222 "وقد روي عن بعض السلف أنهم قالوا: ق جبل محيط بجميع الأرض، يقال له جبل قاف، وكأن هذا والله أعلم من خرافات بني إسرائيل التي أخذها عنهم بعض الناس لما رأى من جواز الرواية عنهم مما لا يصدق ولا يكذب، وعندي أن هذا وأمثاله وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم يلبسون به على الناس أمر دينهم ". وانظر: الإسرائليات والموضوعات في كتب التفسير للشيخ محمد بن محمد أبو شهبة: (302-304) .
(6) انظر فيما سبق ص 137.(7/352)
بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
مَجَازُهُ: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) لَتُبْعَثُنَّ. وَقِيلَ: جَوَابُهُ قَوْلُهُ: "مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ". وَقِيلَ: "قَدْ عَلِمْنَا (2) " وَجَوَابَاتُ الْقَسَمِ سَبْعَةٌ: "إِنَّ" الشَّدِيدَةُ كَقَوْلِهِ: "وَالْفَجْرِ-إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ" (الْفَجْرِ-14) ، وَ"مَا" النَّفْيِ كَقَوْلِهِ: "وَالضُّحَى -مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ" (الضُّحَى-1-3) ، وَ"اللَّامُ" الْمَفْتُوحَةُ كَقَوْلِهِ: "فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ" (الْحِجْرِ-92) وَ"إِنْ" الْخَفِيفَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ" (الشُّعَرَاءِ -38) وَ"لَا" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ" (النَّحْلِ-38) ، وَ"قَدْ" كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا -قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا" (الشَّمْسِ-1-9) .
{بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) }
وَ"بَلْ" كَقَوْلِهِ: "وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ -بَلْ عَجِبُوا".
{أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ} مُخَوِّفٌ، {مِنْهُمْ} يَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} غَرِيبٌ.
{أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} نُبْعَثُ، تَرَكَ ذِكْرَ الْبَعْثِ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، {ذَلِكَ رَجْعٌ} أَيْ رَدٌّ إِلَى الْحَيَاةِ {بَعِيدٌ} وَغَيْرُ كَائِنٍ، أَيْ: يَبْعُدُ أَنْ نُبْعَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} أَيْ تَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَعِظَامِهِمْ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ. قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْمَوْتُ، يَقُولُ: قَدْ عَلِمْنَا مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ وَمَنْ يَبْقَى، {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمِنْ أَنْ يَدْرُسَ وَيَتَغَيَّرَ وَهُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقِيلَ: حَفِيظٌ] (3) أَيْ: حَافِظٌ لِعِدَّتِهِمْ وَأَسْمَائِهِمْ.
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} بِالْقُرْآنِ، {لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} مُخْتَلِطٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مُلْتَبِسٌ. قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مُرِجَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ دِينُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْحَقَّ إِلَّا مُرِجَ أَمْرُهُمْ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ مَعْنَى اخْتِلَاطِ أَمْرِهِمْ، فَقَالَ: هُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَرَّةً شَاعِرٌ، وَمَرَّةً سَاحِرٌ، وَمَرَّةً مُعَلَّمٌ، وَيَقُولُونَ لِلْقُرْآنِ مَرَّةً سِحْرٌ، وَمَرَّةً
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: البيان في غريب إعراب القرآن لابن الأنباري: 2 / 384.
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".(7/356)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
رَجَزٌ، وَمَرَّةً مُفْتَرًى، فَكَانَ أَمْرُهُمْ مُخْتَلِطًا مُلْتَبِسًا عَلَيْهِمْ.
{أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11) }
ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ، فَقَالَ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} بِغَيْرِ عَمَدٍ، {وَزَيَّنَّاهَا} بِالْكَوَاكِبِ، {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} شُقُوقٍ وَفُتُوقٍ وَصُدُوعٍ، وَاحِدُهَا فَرْجٌ.
{وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} بَسَطْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ، {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} جِبَالًا ثَوَابِتَ، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} حَسَنٍ كَرِيمٍ يُبْهَجُ بِهِ، أَيْ: يَسُرُّ.
{تَبْصِرَةً} [أَيْ جَعَلْنَا ذَلِكَ تَبْصِرَةً] (1) {وَذِكْرَى} أَيْ تَبْصِيرًا وَتَذْكِيرًا، {لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أَيْ: لِيُبْصِرَ بِهِ وَيَتَذَكَّرَ بِهِ.
{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} كَثِيرَ الْخَيْرِ وَفِيهِ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ، وَهُوَ الْمَطَرُ، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} يَعْنِي الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ وَسَائِرَ الْحُبُوبِ الَّتِي تَحْصُدُ، فَأَضَافَ الْحَبَّ إِلَى الْحَصِيدِ، وَهُمَا وَاحِدٌ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَرَبِيعُ الْأَوَّلِ. وَقِيلَ: "وَحَبُّ الْحَصِيدِ" أَيْ: وَحَبُّ النَّبْتِ [الْحَصِيدِ] (2) .
{وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وقَتَادَةُ: طِوَالًا يُقَالُ: بَسَقَتِ [النَّخْلَةُ] (3) بُسُوقًا إِذَا طَالَتْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُسْتَوِيَاتٌ. {لَهَا طَلْعٌ} ثَمَرٌ وَحَمْلٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَطَّلِعُ، وَالطَّلْعُ أَوَّلُ مَا يَظْهَرُ قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ (4) {نَضِيدٌ} مُتَرَاكِبٌ مُتَرَاكِمٌ مَنْضُودٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فِي أَكْمَامِهِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامِهِ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ.
{رِزْقًا لِلْعِبَادِ} أَيْ جَعَلْنَاهَا رِزْقًا لِلْعِبَادِ، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} أَيْ بِالْمَطَرِ، {بَلْدَةَ مَيْتًا} أَنْبَتْنَا فِيهَا الْكَلَأَ {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} مِنَ الْقُبُورِ.
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) ساقط من "أ".
(4) في "ب" يتشقق.(7/357)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) }(7/358)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17)
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةَ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} وَهُوَ تُبَّعٌ الْحِمْيَرِيُّ، وَاسْمُهُ أَسْعَدُ أَبُو كَرِبٍ، قَالَ قَتَادَةُ: ذَمَّ اللَّهُ تَعَالَى قَوْمَ تُبَّعٍ وَلَمْ يَذُمَّهُ، ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ (1) .
{كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} أَيْ: كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كَذَّبَ الرُّسُلَ، {فَحَقَ وَعِيدِ} وَجَبَ لَهُمْ عَذَابِي. ثُمَّ أَنْزَلَ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ "ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ":
{أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} يَعْنِي: أَعَجَزْنَا حِينَ خَلَقْنَاهُمْ أَوَّلًا [فَنَعْيَا] (2) بِالْإِعَادَةِ. وَهَذَا تَقْرِيرٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ شَيْءٍ: عَيِيَ بِهِ. {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} أَيْ: فِي شَكٍّ، {مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} وَهُوَ الْبَعْثُ.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} يُحَدِّثُ بِهِ قَلْبُهُ وَلَا يَخْفَى عَلَيْنَا سَرَائِرُهُ وَضَمَائِرُهُ، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} أَعْلَمُ بِهِ، {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} لِأَنَّ أَبْعَاضَهُ وَأَجْزَاءَهُ يَحْجُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا يَحْجُبُ عِلْمَ اللَّهِ شَيْءٌ، وَ"حَبْلِ الْوَرِيدِ": عِرْقُ الْعُنُقِ، وَهُوَ عِرْقٌ بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْعِلْبَاوَيْنِ، يَتَفَرَّقُ فِي الْبَدَنِ، وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ، فَأُضِيفَ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ.
{إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} أَيْ: يَتَلَقَّى وَيَأْخُذُ الْمَلَكَانِ الْمُوَكَّلَانِ بِالْإِنْسَانِ عَمَلَهُ وَمَنْطِقَهُ يَحْفَظَانِهِ وَيَكْتُبَانِهِ، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} أَيْ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَالَّذِي عَنِ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالَّذِي عَنِ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ. {قَعِيدٌ} أَيْ: قَاعِدٌ، وَلَمْ يَقُلْ: قَعِيدَانِ، لِأَنَّهُ أَرَادَ: عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، فَاكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ. وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: أَرَادَ: قُعُودًا، كَالرَّسُولِ فَجُعِلَ لِلِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الِاثْنَيْنِ: "فَقُولَا
__________
(1) انظر فيما سبق ص 233-235.
(2) في "أ" فعيينا.(7/358)
مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)
إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ" (الشُّعَرَاءِ-16) ، وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْقَعِيدِ الْمُلَازِمَ الَّذِي لَا يَبْرَحُ، لَا الْقَاعِدَ الَّذِي هُوَ ضِدُّ الْقَائِمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْقَعِيدُ الرَّصِيدُ.
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) }
{مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ كَلَامٍ فَيَلْفِظُهُ أَيْ: يَرْمِيهِ مِنْ فِيهِ، {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} حَافِظٌ، {عَتِيدٌ} حَاضِرٌ أَيْنَمَا كان. قال 138/أالْحَسَنُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَجْتَنِبُونَ الْإِنْسَانَ عَلَى حَالَيْنِ: عِنْدُ غَائِطِهِ وَعِنْدَ جِمَاعِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَكْتُبَانِ عَلَيْهِ حَتَّى أَنِينَهُ فِي مَرَضِهِ (1) . وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا يَكْتُبَانِ إِلَّا مَا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ أَوْ يُؤْزَرُ فِيهِ (2) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَجْلِسُهُمَا تَحْتَ الضِّرْسِ (3) عَلَى الْحَنَكِ، وَمِثْلُهُ عَنِ الْحَسَنِ، وَكَانَ الْحَسَنُ يُعْجِبُهُ أَنْ يُنَظِّفَ عَنْفَقَتَهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشَّرِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدِّينَوَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، حَدَّثَنَا الْفَضْلُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ مِهْرَانَ، حَدَّثَنَا طَالُوتُ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، أَخْبَرَنَا جَعْفَرُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَاتِبُ الْحَسَنَاتِ عَلَى يَمِينِ الرَّجُلِ، وَكَاتِبُ السَّيِّئَاتِ عَلَى يَسَارِ الرَّجُلِ، وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِيرٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئَاتِ، فَإِذَا عَمِلَ حَسَنَةً كَتَبَهَا صَاحِبُ الْيَمِينِ عَشْرًا؛ وَإِذَا عَمِلَ سَيِّئَةً قَالَ صَاحِبُ الْيَمِينِ لِصَاحِبِ الشِّمَالِ: دَعْهُ سَبْعَ سَاعَاتٍ لَعَلَّهُ يُسَبِّحُ أَوْ يَسْتَغْفِرُ" (4) .
{وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} غَمْرَتُهُ وَشِدَّتُهُ الَّتِي تَغْشَى الْإِنْسَانَ وَتَغْلِبُ عَلَى عَقْلِهِ، {بِالْحَقِّ} أَيْ بِحَقِيقَةِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: بِالْحَقِّ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَهُ الْإِنْسَانُ وَيَرَاهُ بِالْعِيَانِ. وقيل: بما يؤول
__________
(1) ذكره صاحب البحر المحيط: 8 / 123.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 6 / 593 لابن المنذر.
(3) في "ب" الشعر.
(4) قال الهيثمي في "المجمع": (10 / 208) "رواه الطبراني، وفيه جعفر بن الزبير وهو كذاب". ورواه عن أبي أمامة أيضًا من طريق أخرى بلفظ آخر. ابن راهويه في "مسنده"، والبيهقي في "شعب الإيمان"، وأبو نعيم في "الحلية": (6 / 124) وقال الهيثمي: "رواه الطبراني بأسانيد، ورجال أحدها وثقوا"، وحسنه الألباني في "الصحيحة": (3 / 210) ، فهو شاهد حسن للرواية الأولى فهي توافقها وليس في الأولى شيء زائد غير أن الحسنة بعشر أمثالها، وقد دل القرآن والسنة على ذلك -كما قال الهيثمي. وانظر: الكافي الشاف لابن حجر ص (159) ، الفتح السماوي للمناوي: 3 / 1007.(7/359)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)
إِلَيْهِ أَمْرُ الْإِنْسَانِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَيُقَالُ لِمَنْ جَاءَتْهُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ: {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} تَمِيلُ، قَالَ الْحَسَنُ: تَهْرُبُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكْرَهُ، وَأَصْلُ الْحَيْدِ الْمَيْلُ، يُقَالُ: حِدْتُ عَنِ الشَّيْءِ أَحِيدُ حَيْدًا ومَحِيدًا: إِذَا مِلْتُ عَنْهُ.
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) }
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} يَعْنِي نَفْخَةَ الْبَعْثِ، {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} أَيْ: ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْوَعِيدِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِيهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْوَعِيدِ الْعَذَابَ، أَيْ: يَوْمَ وُقُوعِ الْوَعِيدِ.
{وَجَاءَتْ} ذَلِكَ الْيَوْمَ، {كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ} يَسُوقُهَا إِلَى الْمَحْشَرِ {وَشَهِيدٌ} يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا عَمِلَتْ، قَالَ الضَّحَّاكُ: السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّاهِدُ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) . وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُمَا جَمِيعًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ:
{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} . {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} الْيَوْمِ فِي الدُّنْيَا، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِكَ وَسَمْعِكَ وَبَصَرِكَ، {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} نَافِذٌ تُبْصِرُ مَا كُنْتَ تُنْكِرُ فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَعْنِي نَظَرَكَ إِلَى لِسَانِ مِيزَانِكَ حِينَ تُوزَنُ حَسَنَاتُكَ وَسَيِّئَاتُكَ.
{وَقَالَ قَرِينُهُ} الْمَلِكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ، {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} مُعَدٌّ مَحْضَرٌ، وَقِيلَ: "مَا" بِمَعْنَى {مِنْ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ هَذَا الَّذِي وَكَّلَتْنِي بِهِ مِنَ ابْنِ آدَمَ حَاضِرٌ عِنْدِي قَدْ أَحْضَرْتُهُ وَأَحْضَرْتُ دِيوَانَ أَعْمَالِهِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِقَرِينِهِ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} هَذَا خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ، تَقُولُ: وَيْحَكَ وَيْلَكَ ارْحَلَاهَا وَازْجُرَاهَا وَخُذَاهَا وَأَطْلِقَاهَا، لِلْوَاحِدِ، قَالَ الْفَرَّاءُ (2) : وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ أَدْنَى أَعْوَانِ الرَّجُلِ فِي إِبِلِهِ وَغَنَمِهِ وَسِفْرِهِ اثْنَانِ، فَجَرَى كَلَامُ الْوَاحِدِ عَلَى صَاحِبَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الشِّعْرِ لِلْوَاحِدِ: خَلِيلَيَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا أَمْرٌ لِلسَّائِقِ وَالشَّهِيدِ، وَقِيلَ: لِلْمُتَلَقِّيَيْنِ. {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ}
عَاصٍ مُعْرِضٍ عَنِ
__________
(1) أخرجه الطبري: 26 / 162. وانظر: القرطبي: 17 / 14، الدر المنثور: 7 / 599.
(2) انظر: معاني القرآن للفراء: 3 / 78-79.(7/360)
مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)
الْحَقِّ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: مُجَانِبٌ لِلْحَقِّ مُعَانِدٌ لِلَّهِ.
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) }
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} أَيْ لِلزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَكُلِّ حَقٍّ وَجَبَ فِي مَالِهِ، {مُعْتَدٍ} ظَالِمٍ لَا يُقِرُّ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، {مُرِيبٍ} شَاكٍّ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَعْنَاهُ: دَاخِلٌ فِي الرَّيْبِ.
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} وَهُوَ النَّارُ.
{قَالَ قَرِينُهُ} يَعْنِي الشَّيْطَانَ الَّذِي قُيِّضَ لِهَذَا الْكَافِرِ: {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} مَا أَضْلَلْتُهُ وَمَا أَغْوَيْتُهُ، {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} عَنِ الْحَقِّ فَيَتَبَرَّأُ عَنْهُ شَيْطَانُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٌ: "قَالَ قَرِينُهُ" يَعْنِي: الْمَلِكَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَقُولُ الْكَافِرُ يَا رَبِّ إِنَّ الْمَلِكَ زَادَ عَلَيَّ فِي الْكِتَابَةِ، فَيَقُولُ الْمَلِكُ "رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ"، يَعْنِي مَا زِدْتُ عَلَيْهِ وَمَا كَتَبْتُ إِلَّا مَا قَالَ وَعَمِلَ (1) ، وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ، طَوِيلٍ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ إِلَى الْحَقِّ.
{قَالَ} فَيَقُولُ اللَّهُ {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} فِي الْقُرْآنِ وَأَنْذَرَتْكُمْ وَحَذَّرَتْكُمْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، وَقَضَيْتُ عَلَيْكُمْ مَا أَنَا قَاضٍ.
{مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} لَا تَبْدِيلَ لِقَوْلِي، وَهُوَ قَوْلُهُ: "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (السَّجْدَةِ-13) ، وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَى قَوْلِهِ: "مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ" أَيْ: لَا يُكْذَبُ عِنْدِي، وَلَا يُغَيَّرُ الْقَوْلُ عَنْ وَجْهِهِ لِأَنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ. وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ، وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ (2) ، لِأَنَّهُ قَالَ: "مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ" وَلَمْ يَقُلْ مَا يُبَدَّلُ قَوْلِي.
{وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} فَأُعَاقِبُهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ.
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ "يَقُولُ" بِالْيَاءِ، أَيْ: يَقُولُ اللَّهُ، لِقَوْلِهِ: "قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ، {هَلِ امْتَلَأْتِ} وَذَلِكَ لِمَا سَبَقَ لَهَا مِنْ وَعْدِهِ إِيَّاهَا أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا
__________
(1) ذكره القرطبي: 17 / 17.
(2) معاني القرآن: 3 / 79.(7/361)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32)
مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، وَهَذَا السُّؤَالُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِتَصْدِيقِ خَبَرِهِ وَتَحْقِيقِ وَعْدِهِ، {وَتَقُولُ} جَهَنَّمُ، {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} قِيلَ: مَعْنَاهُ قَدِ امْتَلَأْتُ وَلَمْ يَبْقَ فِيَّ موضع لم يمتلىء، فَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ. وَقِيلَ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الِاسْتِزَادَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ السُّؤَالُ بِقَوْلِهِ: "هَلِ امْتَلَأَتِ"، قَبْلَ دُخُولِ جَمِيعِ أَهْلِهَا فِيهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَبَقَتْ كَلِمَتُهُ "لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (السَّجْدَةِ-13) ، فَلَمَّا سِيقَ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَيْهَا لَا يُلْقَى فِيهَا فَوْجٌ إِلَّا ذَهَبَ فِيهَا وَلَا يَمْلَؤُهَا شَيْءٌ، فَتَقُولُ: ألست قد 138/ب أَقْسَمْتَ لَتَمْلَأَنِّي؟ فَيَضَعُ قَدَمَهُ عَلَيْهَا، ثُمَّ يَقُولُ: هَلِ امْتَلَأَتِ؟ فَتَقُولُ: قَطْ قَطْ قَدِ امْتَلَأْتُ فَلَيْسَ فِيَّ مَزِيدٌ (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا [أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ] (2) حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَيُّوبَ الطُّوسِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَاتِمٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِدْرِيسَ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ الْعَسْقَلَانِيُّ، حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تَزَالُ جَهَنَّمُ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ، حَتَّى يَضَعَ رَبُّ الْعِزَّةِ فِيهَا قَدَمَهُ، فَتَقُولُ قَطْ قَطْ وَعِزَّتِكَ، وَيَزْوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَزَالُ فِي الْجَنَّةِ فَضْلٌ حَتَّى يُنْشِئَ اللَّهُ خَلْقًا فَيُسْكِنَهُ فُضُولَ الْجَنَّةِ" (3) .
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةَ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) }
{وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} قُرِّبَتْ وَأُدْنِيَتْ، {لِلْمُتَّقِينَ} الشِّرْكَ، {غَيْرَ بَعِيدٍ} يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوهَا.
{هَذَا مَا تُوعَدُونَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، يُقَالُ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ مَا تُوعَدُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، {لِكُلِّ أَوَّابٍ} رَجَّاعٍ إِلَى الطَّاعَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: هُوَ الَّذِي يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ فِي الْخَلَاءِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ التَّوَّابُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٌ: الْمُسَبِّحُ، مِنْ قَوْلِهِ:
__________
(1) انظر: الطبري: 26 / 169، ابن كثير: 4 / 228.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب الحلف بعزة الله: 11 / 545، ومسلم في الجنة، باب النار يدخلها الجبارون، برقم: (2848) : 4 / 2187، والمصنف في شرح السنة: 15 / 255-256.(7/362)
مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
"يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ" (سَبَأٍ-10) وَقَالَ قَتَادَةُ: الْمُصَلِّي. {حَفِيظٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَافِظُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ ذُنُوبَهُ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهَا وَيَسْتَغْفِرَ مِنْهَا. قَالَ قَتَادَةُ حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: الْحَافِظُ عَلَى نَفْسِهِ الْمُتَعَهِّدُ لَهَا. قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْمُرَاقِبُ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: الْمُحَافِظُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْأَوَامِرِ.
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35) }(7/363)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37)
{وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) }
{مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} مَحَلُّ "مَنْ" جَرٌّ (1) عَلَى نَعْتِ الْأَوَّابِ. وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ خَافَ الرَّحْمَنَ وَأَطَاعَهُ بِالْغَيْبِ وَلَمْ يَرَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي فِي الْخَلْوَةِ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَرْخَى السِّتْرَ وَأَغْلَقَ الْبَابَ. {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} مُخْلِصٍ مُقْبِلٍ إِلَى طَاعَةَ اللَّهِ.
{ادْخُلُوهَا} [أَيْ: يُقَالُ لِأَهْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ: ادْخُلُوهَا] (2) أَيِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ {بِسَلَامٍ} بِسَلَامَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَالْهُمُومِ. وَقِيلَ بِسَلَامٍ مِنَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: بِسَلَامَةٍ مِنْ زَوَالِ النِّعَمِ، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} .
{لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَنْتَهِيَ مَسْأَلَتُهُمْ فيعطون ما شاؤوا، ثُمَّ يَزِيدُهُمُ اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ مَا لَمْ يَسْأَلُوهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} ، يَعْنِي الزِّيَادَةَ لَهُمْ فِي النَّعِيمِ مَا لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ. وَقَالَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ: هُوَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} ، ضَرَبُوا وَسَارُوا وَتَقَلَّبُوا وَطَافُوا، وَأَصْلُهُ مِنَ النَّقْبِ، وَهُوَ الطَّرِيقُ كَأَنَّهُمْ سَلَكُوا كُلَّ طَرِيقٍ، {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} فَلَمْ يَجِدُوا مَحِيصًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: "هَلْ مِنْ مَحِيصٍ" مَفَرٍّ مِنَ الْمَوْتِ؟ فَلَمْ يَجِدُوا [مِنْهُ مَفَرًّا، وَهَذَا إِنْذَارٌ] (3) لِأَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَّهُمْ عَلَى مِثْلِ سَبِيلِهِمْ لَا يَجِدُونَ مَفَرًّا عَنِ الْمَوْتِ يَمُوتُونَ، فَيَصِيرُونَ إِلَى عَذَابِ اللَّهِ.
{إِنَّ فِي ذَلِكَ} ، فِيمَا ذَكَرْتُ مِنَ الْعِبَرِ وَإِهْلَاكِ الْقُرَى، {لَذِكْرَى} ، تَذْكِرَةً وَعِظَةً، {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ}
__________
(1) في "أ" رفع.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) في "أ": فيه إنذارا.(7/363)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ عَقْلٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ (1) : هَذَا جَائِزٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ، تَقُولُ: مَا لَكَ قَلْبٌ، وَمَا قَلْبُكَ مَعَكَ، أَيْ مَا عَقْلُكَ مَعَكَ، وَقِيلَ: لَهُ قَلْبٌ حَاضِرٌ مَعَ اللَّهِ. {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} ، اسْتَمَعَ الْقُرْآنَ، وَاسْتَمَعَ مَا يُقَالُ لَهُ، لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَلْقِ إِلَيَّ سَمْعَكَ، أَيِ اسْتَمِعْ، {وَهُوَ شَهِيدٌ} ، أَيْ حَاضِرُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِغَافِلٍ وَلَا سَاهٍ.
{وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} ، إِعْيَاءٌ وَتَعَبٌ.
نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حَيْثُ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنَا بِمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنَ الْخَلْقِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ السِّتَّةِ؟ فَقَالَ: "خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ، وَالْجِبَالَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَالْمَدَائِنَ وَالْأَنْهَارَ وَالْأَقْوَاتَ يوم الأربعاء، والسموات وَالْمَلَائِكَةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ إِلَى ثَلَاثِ سَاعَاتٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَخَلَقَ فِي أَوَّلِ الثَّلَاثِ السَّاعَاتِ الْآجَالِ، وَفِي الثَّانِيَةِ الْآفَةَ، وَفِي الثَّالِثَةِ آدَمَ"، قَالُوا: صَدَقْتَ إِنْ أَتْمَمْتَ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: ثُمَّ اسْتَرَاحَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَاسْتَلْقَى عَلَى الْعَرْشِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ رَدًّا عَلَيْهِمْ (2) .
{فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} ، مِنْ كَذِبِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَهَذَا قَبْلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} ، أَيْ: صَلِّ حَمْدًا لِلَّهِ، {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} ، يَعْنِي: صَلَاةَ الصُّبْحِ، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} ، يَعْنِي: صَلَاةَ الْعَصْرِ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: "قَبْلَ الْغُرُوبِ" الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ.
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} ، يَعْنِي: صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: "وَمِنَ اللَّيْلِ" أَيْ: صَلَاةِ اللَّيْلِ أَيَّ وَقْتٍ صَلَّى. {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَحَمْزَةَ "وَإِدْبَارَ السُّجُودِ" بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، مَصْدَرُ أَدْبَرَ إِدْبَارًا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى جَمْعِ الدُّبُرِ.
__________
(1) معاني القرآن: 3 / 80.
(2) أخرجه الطبري: 26 / 178-179، والواحدي في أسباب النزول. وانظر: الدر المنثور: 7 / 609، ابن كثير: 4 / 230.(7/364)
قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَالْحَسَنُ، وَالشَّعْبِيُّ، وَالنَّخَعِيُّ، وَالْأَوْزَاعِيُّ: "أَدْبَارَ السُّجُودِ" الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَأَدْبَارُ النُّجُومِ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةَ الْفَجْرِ. وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) . وَرُوِيَ عَنْهُ مَرْفُوعًا (2) ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ النَّوَافِلِ أَشَدَّ مُعَاهَدَةً مِنْهُ عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ أَمَامَ الصُّبْحِ (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ سَعِيدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْجَبَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا صَالِحُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى، عَنْ سعيد بن 139 /أهِشَامٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "رَكْعَتَا الْفَجْرِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا بَدَلُ بْنُ الْمُحَبَّرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَعْدَانَ عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَحْصَى مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ وَفِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ [صلاة الفجر] (5) : بقل يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وقل هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (6) .
__________
(1) عزاه صاحب كنز العمال: 2 / 510 للطبراني في الصغير وابن أبي شيبة ومحمد بن نصر في قيام الليل، صفحة (64) من مختصر المقريزي. وانظر: القرطبي: 17 / 25، الدر المنثور: 7 / 610-611.
(2) عزاه الحافظ ابن حجر في المطالب العالية: 3 / 377 لمسدد عن علي مرفوعًا.
(3) أخرجه البخاري في التهجد في الليل، باب تعاهد ركعتي الفجر: 3 / 45، ومسلم في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي الفجر برقم: (724) : 1 / 501، والمصنف في شرح السنة: 3 / 452.
(4) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب ما جاء في ركعتي الفجر من الفضل: 2 / 469 وقال: "حديث عائشة حديث حسن صحيح".
(5) في "ب" الصبح.
(6) أخرجه الترمذي في صلاة، باب ما جاء في الركعتين بعد المغرب والقراءة فيهما: 2 / 506-507 وقال: " حديث ابن مسعود حديث غريب، لا نعرفه إلا من حديث عبد الملك بن معدان عن عاصم". والحديث ضعيف لضعف عبد الملك بن الوليد بن معدان الضبعي (تقريب) . ويشهد له ما أخرجه مسلم في صلاة المسافرين، باب استحباب ركعتي الفجر..برقم: (726) 1 / 502، عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ في ركعتي الفجر: قل يا أيها الكافرون وقل هو الله أحد. وأخرجه المصنف في شرح السنة: 3 / 456.(7/365)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)
قَالَ مُجَاهِدٌ: "وَأَدْبَارَ السُّجُودِ" هُوَ التَّسْبِيحُ بِاللِّسَانِ فِي أَدْبَارِ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَاتِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ طَاهِرُ بْنُ الْحُسَيْنِ الرُّوقِيُّ الطُّوسِيُّ بِهَا، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ هُوَ ابْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُهَيْلٌ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ سَبَّحَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَكَبَّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَحَمِدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَذَلِكَ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، ثُمَّ قَالَ تَمَامُ الْمِائَةِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، غُفِرَتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ عَنْ سُمَيٍّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، قَالَ: كَيْفَ ذَاكَ؟ قَالُوا: صَلَّوْا كَمَا صَلَّيْنَا وَجَاهَدُوا كَمَا جَاهَدْنَا، وَأَنْفَقُوا مِنْ فُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَلَيْسَتْ لَنَا أَمْوَالٌ، قَالَ: "أَفَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَمْرٍ تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ وَتَسْبَقُونَ مَنْ جَاءَ بَعْدَكُمْ، وَلَا يَأْتِي أَحَدٌ بِمِثْلِ مَا جِئْتُمْ بِهِ إِلَّا مَنْ جَاءَ بِمِثْلِهِ: تُسَبِّحُونَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ عَشْرًا، وَتَحْمَدُونَ عَشْرًا، وَتُكَبِّرُونَ عَشْرًا" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) }
{وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي} ، أَيْ: وَاسْتَمِعْ يَا مُحَمَّدُ صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ وَالنُّشُورِ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي إِسْرَافِيلَ يُنَادِي بِالْحَشْرِ يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَالْأَوْصَالُ الْمُتَقَطِّعَةُ وَاللُّحُومُ الْمُتَمَزِّقَةُ وَالشُّعُورُ الْمُتَفَرِّقَةُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُنَّ أَنْ تَجْتَمِعْنَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ {مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} مِنْ صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَهِيَ وَسَطُ الْأَرْضِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ أَقْرَبُ الْأَرْضِ إِلَى السَّمَاءِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ مِيلًا.
{يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} ، وَهِيَ الصَّيْحَةُ الْأَخِيرَةُ، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} ، مِنَ الْقُبُورِ.
__________
(1) أخرجه مسلم في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة، برقم: (597) : 1 / 418، والمصنف في شرح السنة: 3 / 228-229.
(2) أخرجه البخاري في الدعوات، باب الدعاء بعد الصلاة: 11 / 132-133، وفي الصلاة، باب الذكر بعد الصلاة: 2 / 325، والمصنف في شرح السنة: 3 / 230-231.(7/366)
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45) }
{إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} جَمْعُ سَرِيعٍ، أَيْ: يَخْرُجُونَ سِرَاعًا، {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا} ، جَمْعٌ عَلَيْنَا {يَسِيرٌ} .
{نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} ، يَعْنِي: كَفَّارَ مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِكَ، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} ، بِمُسَلَّطٍ تُجْبِرُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ إِنَّمَا بُعِثْتَ مُذَكِّرًا، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} أَيْ: مَا أَوْعَدْتُ بِهِ مَنْ عَصَانِي مِنَ الْعَذَابِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ خَوَّفَتْنَا، فَنَزَلَتْ (1) "فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ".
__________
(1) أخرجه الطبري: 26 / 185. وانظر: القرطبي: 17 / 28، الدر المنثور: 7 / 613.(7/367)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6)
سُورَةُ الذَّارِيَاتِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) }
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة الذاريات بمكة. انظر الدر المنثور: 7 / 613.(7/368)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7)
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) }
{وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} يَعْنِي: الرِّيَاحَ الَّتِي تَذْرُو التُّرَابَ ذَرْوًا، يُقَالُ: ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وَأَذْرَتْ.
{فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} يَعْنِي: السَّحَابَ تَحْمِلُ ثُقْلًا مِنَ الْمَاءِ.
{فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} هِيَ السُّفُنُ تَجْرِي فِي الْمَاءِ جَرْيًا سَهْلًا.
{فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} هِيَ الْمَلَائِكَةُ يُقَسِّمُونَ الْأُمُورَ بَيْنَ الْخَلْقِ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ، أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صُنْعِهِ وَقُدْرَتِهِ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ، {لَصَادِقٌ} .
{وَإِنَّ الدِّينَ} [الْحِسَابَ وَالْجَزَاءَ] (1) {لَوَاقِعٌ} لِكَائِنٌ. ثُمَّ ابْتَدَأَ قَسَمًا آخَرَ فَقَالَ:
{وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: ذَاتِ الْخَلْقِ الْحَسَنِ الْمُسْتَوِي، يُقَالُ لِلنَّسَّاجِ إِذَا نَسَجَ الثَّوْبَ فَأَجَادَ: مَا أَحْسَنَ حَبْكَهُ! قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ذَاتُ الزِّينَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: حُبِكَتْ بِالنُّجُومِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْمُتْقَنَةُ الْبُنْيَانِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: ذَاتُ الطَّرَائِقِ
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".(7/371)
إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
كَحُبُكِ الْمَاءِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ، وَحُبُكِ الرَّمْلِ وَالشَّعْرِ الْجَعْدِ، وَلَكِنَّهَا لَا تُرَى لِبُعْدِهَا مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ جَمْعُ حِبَاكٍ وَحَبِيكَةٍ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ:
{إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) }
{إِنَّكُمْ} أَيْ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ، {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} فِي الْقُرْآنِ وَفِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ: سِحْرٌ وَكِهَانَةٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَفِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَمَجْنُونٌ. وَقِيلَ: "لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ" أَيْ: مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ.
{يُؤْفَكَ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يُصْرَفُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ صُرِفَ حَتَّى يُكَذِّبَهُ، يَعْنِي: مَنْ حَرَمَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ. وَقِيلَ "عَنْ" بِمَعْنَى: مِنْ أَجْلِ، أَيْ يُصْرَفُ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ أَوْ بِسَبَبِهِ عَنِ الْإِيمَانِ مَنْ صَرَفَ. وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ الْإِيمَانَ فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ، فَيَصْرِفُونَهُ عَنِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ.
{قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} لُعِنَ الْكَذَّابُونَ، يُقَالُ: تَخَرَّصَ عَلَى فُلَانٍ الْبَاطِلَ، وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ اقْتَسَمُوا عِقَابَ مَكَّةَ، وَاقْتَسَمُوا الْقَوْلَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْكَهَنَةُ.
{الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} غَفْلَةٍ وَعَمًى وَجَهَالَةٍ، {سَاهُونَ} لَاهُونَ غَافِلُونَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالسَّهْوُ: الْغَفْلَةُ عَنِ الشَّيْءِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْقَلْبِ عَنْهُ.
{يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ مَتَى يَوْمُ الْجَزَاءِ، يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَكْذِيبًا وَاسْتِهْزَاءً.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ هُمْ} أَيْ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ فِي يَوْمٍ هُمْ، {عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أَيْ: يُعَذَّبُونَ وَيُحْرَقُونَ بِهَا كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ. وَقِيلَ: "عَلَى" بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ بِالنَّارِ، وَتَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} .
{ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} عَذَابَكُمْ، {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} فِي الدُّنْيَا تَكْذِيبًا بِهِ.(7/372)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18)
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) }
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ} أَعْطَاهُمْ، {رَبُّهُمْ} مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} قبل 139/ب دُخُولِهِمُ الْجَنَّةَ، {مُحْسِنِينَ} فِي الدُّنْيَا.
{كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} وَالْهُجُوعُ النَّوْمُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، "وَمَا" صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى: كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ، أَيْ يُصَلُّونَ أَكْثَرَ اللَّيْلِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَانَ اللَّيْلُ الَّذِي يَنَامُونَ فِيهِ كُلُّهُ قَلِيلًا وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَعْنِي: كَانُوا قَلَّ لَيْلَةٌ تَمُرُّ بِهِمْ إِلَّا صَلَّوْا فِيهَا شَيْئًا، إِمَّا مِنْ أَوَّلِهَا أَوْ مِنْ أَوْسَطِهَا. قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: كَانُوا يُصَلُّونَ مَا بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ (1) . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: كَانُوا لَا يَنَامُونَ حَتَّى يُصَلُّوا الْعَتَمَةَ (2) . قَالَ مُطْرِفُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الشِّخِّيرِ: قَلَّ لَيْلَةٌ أَتَتْ عَلَيْهِمْ هَجَعُوهَا كُلَّهَا (3) . قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا لَا يَنَامُونَ كُلَّ اللَّيْلِ (4) .
وَوَقَفَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: "قَلِيلًا" أَيْ: كَانُوا مِنَ النَّاسِ قَلِيلًا ثُمَّ ابْتَدَأَ: "مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ"، وَجَعَلَهُ جَحْدًا أَيْ: لَا يَنَامُونَ بِاللَّيْلِ الْبَتَّةَ، بَلْ يَقُومُونَ لِلصَّلَاةِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ. {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَنَامُونَ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا أَقَلَّهُ، وَرُبَّمَا نَشِطُوا فَمَدُّوا إِلَى السَّحَرِ، ثُمَّ أَخَذُوا بِالْأَسْحَارِ فِي الِاسْتِغْفَارِ (5) . وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: وَبِالْأَسْحَارِ يُصَلُّونَ، وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاتَهُمْ بِالْأَسْحَارِ لِطَلَبِ الْمَغْفِرَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُخْلِدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَنْزِلُ اللَّهُ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ
__________
(1) أخرجه أبو داود: 2 / 95، الطبري: 26 / 196، محمد بن نصر المروزي في قيام الليل ص (71) من مختصر المقريزي. والبيهقي في السنن: 3 / 19، وذكره ابن كثير في التفسير: 4 / 234.
(2) أخرجه الطبري: 26 / 196، ومحمد بن نصر المروزي في قيام الليل ص (25) من مختصر المقريزي وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 615 أيضًا لابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه.
(3) أخرجه الطبري: 26 / 197، ومحمد بن نصر في قيام الليل صفحة: (25) من مختصر المقريزي، وابن كثير: 4 / 234.
(4) أخرجه محمد بن نصر المرزوي في قيام الليل صفحة (24) من مختصر المقريزي.
(5) أخرجه الطبري: 26 / 198؛ ومحمد بن نصر المروزي في قيام الليل ص (81) من مختصر المقريزي.(7/372)
وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)
لَيْلَةٍ حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَنَا الْمَلِكُ، مَنِ الَّذِي يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَنِ الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ؟ مَنِ الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ؟ " (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانَ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ عَنْ طَاوُسٍ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ يَتَهَجَّدُ، قَالَ: "اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ أنت قَيِّمُ السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، [وَلَكَ الْحَمْدُ أنت نور السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَلَكَ الْحَمْدُ أنت ملك السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ] (2) وَلَكَ الْحَمْدُ أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الْحَقُّ، وَلِقَاؤُكَ حَقٌّ، وَقَوْلُكَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَالنَّارُ حَقٌّ، وَالنَّبِيُّونَ حَقٌّ، وَمُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ، وَالسَّاعَةُ حَقٌّ، اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ وَإِلَيْكَ حَاكَمْتُ، فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْتُ وَمَا أَخَّرْتُ وَمَا أَسْرَرْتُ وَمَا أَعْلَنْتُ، أَنْتَ الْمُقَدِّمُ وَأَنْتَ الْمُؤَخِّرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ". قَالَ سُفْيَانُ: وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيمِ أَبُو أُمَيَّةَ: "وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي عمير بن هانىء، حَدَّثَنِي جُنَادَةُ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ، حَدَّثَنِي عُبَادَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ تَعَارَّ مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي، أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ، فَإِنْ تَوَضَّأَ وَصَلَّى قُبِلَتْ صَلَاتُهُ". (4)
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} السَّائِلُ: الَّذِي يَسْأَلُ النَّاسَ، وَالْمَحْرُومُ: الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الْغَنَائِمِ سَهْمٌ، وَلَا يُجْرَى عَلَيْهِ مِنَ الْفَيْءِ شَيْءٌ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَسَعِيدِ بْنِ
__________
(1) أخرجه الترمذي من طريق قتيبة، باب في نزول الرب تبارك وتعالى إلى السماء الدنيا كل ليلة: 2 / 524 وقال: "حديث صحيح، وقد روي هذا الحديث من أوجه كثيرة عن أبي هريرة.. وهذه أصح الروايات". وأخرجه البخاري في التهجد، باب الدعاء والصلاة من آخر الليل: 3 / 29، ومسلم في صلاة المسافرين، باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل والإجابة فيه برقم: (758) : 1 / 521، والمصنف في شرح السنة: 4 / 63-64.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه البخاري في التهجد، باب التهجد بالليل: 3 / 3، ومسلم في صلاة المسافرين باب الدعاء في صلاة الليل: برقم (769) : 1 / 533، والمصنف في شرح السنة: 4 / 68.
(4) أخرجه البخاري في التهجد، باب فضل من تعار من الليل فصلى: 3 / 39، والمصنف في شرح السنة: 4 / 71-72.(7/374)
وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
الْمُسَيِّبِ، قَالَا [الْمَحْرُومُ الَّذِي] (1) لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَهْمٌ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الَّذِي مُنِعَ الْخَيْرَ وَالْعَطَاءَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: "الْمَحْرُومُ" الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ الْمُصَابُ ثَمَرُهُ أَوْ زَرْعُهُ أَوْ نَسْلُ مَاشِيَتِهِ. وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: الْمَحْرُومُ صَاحِبُ الْجَائِحَةِ (2) ثُمَّ قَرَأَ: "إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ" (الْوَاقِعَةِ-66-67) .
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) }
{وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ} عِبَرٌ، {لِلْمُوقِنِينَ} إِذَا سَارُوا فِيهَا مِنَ الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَأَنْوَاعِ النَّبَاتِ. {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} آيَاتٌ، إِذْ كَانَتْ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عَظْمًا إِلَى أَنْ نُفِخَ فِيهَا الرُّوحُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ اخْتِلَافَ الْأَلْسِنَةِ وَالصُّوَرِ وَالْأَلْوَانِ وَالطَّبَائِعِ.
وَقَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: يُرِيدُ سَبِيلَ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مِنْ مَدْخَلٍ وَاحِدٍ وَيُخْرِجُ مِنْ سَبِيلَيْنِ.
{أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [قَالَ مُقَاتِلٌ] (3) أَفَلَا تُبْصِرُونَ كَيْفَ خَلَقَكُمْ فَتَعْرِفُوا قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ.
{وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْمَطَرَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الْأَرْزَاقِ، {وَمَا تُوعَدُونَ} قَالَ عَطَاءٌ: مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَمَا تُوعَدُونَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ:
{فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} أَيْ: مَا ذَكَرْتُ مِنْ أَمْرِ الرِّزْقِ لِحَقٌّ، {مِثْلَ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: "مِثْلُ" بِرَفْعِ اللَّامِ بَدَلًا مِنْ "الْحَقِّ"، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ أَيْ كَمِثْلِ، {مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} فَتَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: شَبَّهَ تَحْقِيقَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِتَحْقِيقِ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في "ب" الحاجة.
(3) ساقط من " أ ".(7/375)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29)
نُطْقِ الْآدَمِيِّ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّهُ لِحَقٌّ كَمَا أَنْتَ هَا هُنَا، وَإِنَّهُ لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ تَتَكَلَّمُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ فِي صِدْقِهِ وَوُجُودِهِ كَالَّذِي تَعْرِفُهُ ضَرُورَةً. قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: يَعْنِي: كَمَا أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَنْطِقُ بِلِسَانِ نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْطِقَ بِلِسَانِ غَيْرِهِ فَكَذَلِكَ كَلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ رِزْقَ نَفْسِهِ الَّذِي قُسِمَ لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَنْ يَأْكُلَ رِزْقَ غَيْرِهِ.
{هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} ، ذَكَرْنَا عَدَدَهُمْ فِي سُورَةِ هُودٍ (1) {الْمُكْرَمِينَ} ، [قِيلَ: سَمَّاهُمْ مُكْرَمِينَ] (2) لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَلَائِكَةً كِرَامًا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ: "بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ" (الْأَنْبِيَاءِ -26) وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضَيْفَ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَكْرَمَ الْخَلِيقَةِ، وَضَيْفُ الْكِرَامِ مُكْرَمُونَ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السلام أكرمهم 140/أبِتَعْجِيلِ قِرَاهُمْ، وَالْقِيَامِ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ بِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: خِدْمَتُهُ إِيَّاهُمْ بِنَفْسِهِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمَّاهُمْ مكرمين لأنهم جاؤوا غَيْرَ مَدْعُوِّينَ. وَرُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ" (3) .
{إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} ، أَيْ: غُرَبَاءُ لَا نَعْرِفُكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ فِي نَفْسِهِ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا نَعْرِفُهُمْ. وَقِيلَ: إِنَّمَا أَنْكَرَ أَمْرَهُمْ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَنْكَرَ سَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَفِي تِلْكَ الْأَرْضِ.
{فَرَاغَ} ، فَعَدَلَ وَمَالَ، {إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} ، مَشْوِيٍّ.
{فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} ، لِيَأْكُلُوا فَلَمْ يَأْكُلُوا، {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} ، أَيْ: صَيْحَةٍ، قِيلَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِقْبَالًا مِنْ مَكَانٍ
__________
(1) انظر فيما سبق: 4 / 187.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الرقاق، باب حفظ اللسان: 11 / 308، ومسلم من الإيمان، باب الحث على إكرام الجار برقم: (47) : 1 / 68 والمصنف في شرح السنة: 14 / 312.(7/376)
قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
إِلَى مَكَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَقْبَلَ يَشْتُمُنِي، بِمَعْنَى أَخَذَ فِي شَتْمِي، أَيْ أَخَذَتْ تُوَلْوِلُ كَمَا قَالَ: "قالت يا ويلتي"، (هُودٍ-72) ، {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَطَمَتْ وَجْهَهَا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: جَمَعَتْ أَصَابِعَهَا فَضَرَبَتْ جَبِينَهَا تَعَجُّبًا، كَعَادَةِ النِّسَاءِ إِذَا أَنْكَرْنَ شَيْئًا، وَأَصْلُ الصَّكِّ: ضَرْبُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ الْعَرِيضِ.
{وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} ، مَجَازُهُ: أَتَلِدُ عَجُوزٌ عَقِيمٌ؟ وَكَانَتْ سَارَةُ لَمْ تَلِدْ قَبْلَ ذَلِكَ.
{قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) }(7/377)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
{قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37) }
{قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ} ، أَيْ كَمَا قُلْنَا لَكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّكَ سَتَلِدِينَ غُلَامًا، {إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} .
{قَالَ} [يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ] (1) {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ} . {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} ، يَعْنِي: قَوْمَ لُوطٍ.
{لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً} ، مُعَلَّمَةً، {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْمُشْرِكِينَ، وَالشِّرْكُ أَسْرَفُ الذُّنُوبِ وَأَعْظَمُهَا.
{فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا} ، أَيْ: فِي قُرَى قَوْمِ لُوطٍ، {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: "فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقَطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ" (هُودٍ-81) .
{فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ} ، أَيْ غَيْرَ أَهْلِ بَيْتٍ، {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} ، يَعْنِي لُوطًا وَابْنَتَيْهِ، وَصْفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ مُسْلِمٌ.
{وَتَرَكْنَا فِيهَا} ، أَيْ فِي مَدِينَةِ قَوْمِ لُوطٍ، {آيَةً} ، عِبْرَةً، {لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} ، أَيْ: عَلَامَةً لِلْخَائِفِينَ تَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ فَيَخَافُونَ مِثْلَ عَذَابِهِمْ.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".(7/377)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45)
{وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) }
{وَفِي مُوسَى} ، أَيْ: وَتَرَكْنَا فِي إِرْسَالِ مُوسَى آيَةً وَعِبْرَةً. وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ"، [وَفِي مُوسَى] (1) {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} ، بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ.
{فَتَوَلَّى} ، فَأَعْرَضَ وَأَدْبَرَ عَنِ الْإِيمَانِ، {بِرُكْنِهِ} ، أَيْ بِجَمْعِهِ وَجُنُودِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَتَقَوَّى بِهِمْ، كَالرُّكْنِ الَّذِي يُقَوَّى بِهِ الْبُنْيَانُ، نَظِيرُهُ: "أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ" (هُودٍ-80) ، {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: "أَوْ" بِمَعْنَى الْوَاوِ.
{فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} ، أَغْرَقْنَاهُمْ فِيهِ، {وَهُوَ مُلِيمٌ} أَيْ: آتٍ بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ مِنْ دَعْوَى الرُّبُوبِيَّةَ وَتَكْذِيبِ الرَّسُولِ.
{وَفِي عَادٍ} ، أَيْ: وَفِي إِهْلَاكِ عَادٍ أَيْضًا آيَةٌ، {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} ، وَهِيَ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا بَرَكَةَ وَلَا تُلَقِّحُ شَجَرًا وَلَا تَحْمِلُ مَطَرًا.
{مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} ، مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، {إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} ، كَالشَّيْءِ الْهَالِكِ الْبَالِي، وَهُوَ نَبَاتُ الْأَرْضِ إِذَا يَبِسَ وَدِيسَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَالتِّبْنِ الْيَابِسِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَرَمِيمِ الشَّجَرِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَالتُّرَابِ الْمَدْقُوقِ. وَقِيلَ: أَصِلُهُ مِنَ الْعَظْمِ الْبَالِي.
{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} ، يَعْنِي وَقْتَ فَنَاءِ آجَالِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ قِيلَ لَهُمْ: تَمَتَّعُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
{فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} ، يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الْمَوْتُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْعَذَابَ، وَ"الصَّاعِقَةُ": كُلُّ عَذَابٍ مُهْلِكٌ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ: "الصَّعْقَةُ"، وَهِيَ الصَّوْتُ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الصَّاعِقَةِ، {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} ، يَرَوْنَ ذَلِكَ عِيَانًا.
__________
(1) زيادة من "ب".(7/378)
وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
{فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} ، فَمَا قَامُوا بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَلَا قَدَرُوا عَلَى نُهُوضٍ. قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَنْهَضُوا مِنْ تِلْكَ الصَّرْعَةِ، {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} ، مُمْتَنِعِينَ مِنَّا. قَالَ قَتَادَةُ: مَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ قُوَّةٌ يَمْتَنِعُونَ بِهَا مِنَ اللَّهِ.
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46) وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) }(7/379)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52)
{كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) }
{وَقَوْمَ نُوحٍ} ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "وَقَوْمِ" بِجَرِّ الْمِيمِ، أَيْ: وَفِي قَوْمِ نُوحٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنَصْبِهَا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: "فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ"، مَعْنَاهُ: أَغْرَقْنَاهُمْ وَأَغْرَقْنَا قَوْمَ نُوحٍ. {مِنْ قَبْلُ} ، أَيْ: مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} .
{وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} ، بِقُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ، {وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: قَادِرُونَ. وَعَنْهُ أَيْضًا: لَمُوسِعُونَ الرِّزْقَ عَلَى خَلْقِنَا. وَقِيلَ: ذُو سَعَةٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: أَغْنِيَاءُ، دَلِيلُهُ: قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "عَلَى الْمُوسِعِ قَدْرُهُ" (الْبَقَرَةِ -236) ، قَالَ الْحَسَنُ: مُطِيقُونَ.
{وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} ، بَسَطْنَاهَا وَمَهَّدْنَاهَا لَكُمْ، {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} ، الْبَاسِطُونَ نَحْنُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نِعْمَ مَا وَطَّأْتُ لِعِبَادِي.
{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} ، صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالسَّهْلِ وَالْجَبَلِ، وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحُلْوِ وَالْمُرِّ. {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ، فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ فَرْدٌ.
{فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} ، فَاهْرُبُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَى ثَوَابِهِ، بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِرُّوا مِنْهُ إِلَيْهِ وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ. وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فِرُّوا مِمَّا سِوَى اللَّهِ إِلَى اللَّهِ، {إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} .
{كَذَلِكَ} ، أَيْ: كَمَا كَذَّبَكَ قَوْمُكَ وَقَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ كَذَلِكَ، {مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}(7/379)
أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)
مِنْ قَبْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ، {مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} . 140/ب
{أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) }
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} ، أَيْ: أَوْصَى أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ وَبَعْضُهُمْ بعضًا بالتكذيب وتواطؤا عَلَيْهِ؟ وَالْأَلْفُ فِيهِ لِلتَّوْبِيخِ، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَمَلَهُمُ الطُّغْيَانُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُمْ وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ، {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} ، فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} ، لَا لَوْمَ عَلَيْكَ فَقَدْ أَدَّيْتَ الرِّسَالَةَ وَمَا قَصَّرْتَ فِيمَا أُمِرْتَ بِهِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَضَرَ إِذْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَوَلَّى عَنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} ، فَطَابْتُ أَنْفُسُهُمْ (1) .
قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ عِظْ بِالْقُرْآنِ كُفَّارَ مَكَّةَ، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ مَنْ [سَبَقَ] (2) فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يُؤْمِنَ مِنْهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عِظْ بِالْقُرْآنِ مَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِكَ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُهُمْ.
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ: هَذَا خَاصٌّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ -مِنَ الْمُؤْمِنِينَ -إِلَّا لِيَعْبُدُونِ"، ثُمَّ قَالَ فِي أُخْرَى: "وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ"، (الْأَعْرَافِ-79) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا خَلَقْتُ السُّعَدَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلَّا لِعِبَادَتِي وَالْأَشْقِيَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا لِمَعْصِيَتِي، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: هُوَ عَلَى مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: "إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" أَيْ إِلَّا لِآمُرَهُمْ أَنْ يَعْبُدُونِي وَأَدْعُوَهُمْ إِلَى عِبَادَتِي، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا". (التَّوْبَةِ-31) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا لِيَعْرِفُونِي. وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمْ يُعْرَفْ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ، دَلِيلُهُ: قَوْلُهُ
__________
(1) أخرجه إسحاق بن راهويه في مسنده عن مجاهد، وسكت عنه البوصيري وقال: "رواه أحمد بن منيع بسند رواته ثقات"، وأخرجه الطبري عن قتادة. انظر: المطالب العالية: 3 / 378 مع حاشية المحقق، تفسير الطبري: 27 / 11.
(2) ساقط من "أ".(7/380)
مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
تَعَالَى: "وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ" (الزُّخْرُفِ-87) .
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا لِيَخْضَعُوا إِلَيَّ وَيَتَذَلَّلُوا، وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ: التَّذَلُّلُ وَالِانْقِيَادُ، فَكُلُّ مَخْلُوقٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ خَاضِعٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ، مُتَذَلِّلٌ لِمَشِيئَتِهِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ خُرُوجًا عَمَّا خُلِقَ عَلَيْهِ.
وَقِيلَ: "إِلَّا لِيَعْبُدُونِ" إِلَّا لِيُوَحِّدُونِي، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ دُونَ النِّعْمَةِ وَالرَّخَاءِ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ". (الْعَنْكَبُوتِ-65) .
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60) }
{مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} ، أَيْ: أَنْ يَرْزُقُوا أَحَدًا مِنْ خَلْقِي وَلَا أَنْ يَرْزُقُوا أَنْفُسَهُمْ، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} ، أَيْ: أَنْ يُطْعِمُوا أَحَدًا مِنْ خَلْقِي، وَإِنَّمَا أَسْنَدَ الْإِطْعَامَ إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْخَلْقَ عِيَالُ اللَّهِ وَمَنْ أَطْعَمَ عِيَالَ أَحَدٍ فَقَدْ أَطْعَمَهُ. كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: "اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْنِي" (1) أَيْ: لَمْ تُطْعِمْ عَبْدِي، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ الرَّازِقَ هُوَ لَا غَيْرُهُ فَقَالَ:
{إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} ، يَعْنِي: لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} ، وَهُوَ الْقَوِيُّ الْمُقْتَدِرُ الْمُبَالِغُ فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ.
{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} ، كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، {ذَنُوبًا} ، نَصِيبًا مِنَ الْعَذَابِ {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} ، مِثْلَ نَصِيبِ أَصْحَابِهِمُ الَّذِينَ هَلَكُوا مَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَأَصْلُ "الذَّنُوبِ" فِي اللُّغَةِ: الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ الْمَمْلُوءَةُ مَاءً، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ، {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} ، بِالْعَذَابِ يَعْنِي أَنَّهُمْ أُخِّرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} . يَعْنِي: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: يَوْمُ بَدْرٍ.
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض، برقم: (2569) : 4 / 1990.(7/381)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5)
سُورَةُ الطُّورِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) }
{وَالطُّورِ} أَرَادَ بِهِ الْجَبَلَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ.
{وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} مَكْتُوبٍ.
{فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} "وَالرَّقُّ": مَا يُكْتَبُ فِيهِ، وَهُوَ أَدِيمُ الصُّحُفِ، وَ"الْمَنْشُورُ": الْمَبْسُوطُ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْكِتَابِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ مَا كَتَبَ اللَّهُ بِيَدِهِ لِمُوسَى مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُوسَى يَسْمَعُ صَرِيرَ الْقَلَمِ.
وَقِيلَ: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. وَقِيلَ: دَوَاوِينُ الْحَفَظَةِ تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْشُورَةً، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ. دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا"، (الْإِسْرَاءِ-13) .
{وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} بِكَثْرَةِ الْغَاشِيَةِ وَالْأَهْلِ، وَهُوَ بَيْتٌ فِي السَّمَاءِ حِذَاءَ الْعَرْشِ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ يُقَالُ لَهُ: الضُّرَاحُ، حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْأَرْضِ، يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُصَلُّونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا (2) .
{وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} يَعْنِي: السَّمَاءَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا". (الْأَنْبِيَاءِ-32)
__________
(1) أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة الطور بمكة. انظر: الدر المنثور: 7 / 626.
(2) انظر: الطبري: 27 / 16، وقال الهيثمي في "المجمع" (7 / 114) : "رواه الطبراني -عن ابن عباس مرفوعًا- وفيه بشر أبو حذيفة وهو متروك".(7/382)
وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)
{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) }
{وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْمُوقَدَ الْمُحْمَى بِمَنْزِلَةِ التَّنُّورِ الْمَسْجُورِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَجْعَلُ الْبِحَارَ كُلَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَارًا فَيُزَادُ بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ"، (التَّكْوِيرِ-6) وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَرْكَبَنَّ رَجُلٌ بَحْرًا إِلَّا غَازِيًا أَوْ مُعْتَمِرًا أَوْ حَاجًّا، فَإِنَّ تَحْتَ الْبَحْرِ نَارًا وَتَحْتَ النَّارِ بَحْرًا" (1) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: "الْمَسْجُورُ": الْمَمْلُوءُ، يُقَالُ: سَجَّرْتُ الْإِنَاءَ إِذَا مَلَأْتُهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ، وقَتَادَةُ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ الْيَابِسُ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ مَاؤُهُ وَنَضَبَ
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: الْمُخْتَلِطُ الْعَذْبُ بِالْمَالِحِ.
وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ: هُوَ بَحْرٌ تَحْتَ الْعَرْشِ، غَمْرُهُ (2) كَمَا بَيْنَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ إِلَى سَبْعِ أَرْضِينَ، فِيهِ مَاءٌ غَلِيظٌ يُقَالُ لَهُ: بَحْرُ الْحَيَوَانِ. يُمْطِرُ الْعِبَادَ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى مِنْهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَيَنْبُتُونَ فِي قُبُورِهِمْ (3) . هَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ. {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} نَازِلٌ كَائِنٌ.
{مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} مَانِعٍ (4) قَالَ جُبَيْرُ بْنُ مُطْعِمٍ: قَدِمْتُ الْمَدِينَةَ لِأُكَلَّمَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أُسَارَى بَدْرٍ فَدَفَعْتُ إِلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي بِأَصْحَابِهِ الْمَغْرِبَ، وَصَوْتُهُ يَخْرُجُ من المسجد 141/أفَسَمِعْتُهُ يَقْرَأُ "وَالطُّورِ" إِلَى قَوْلِهِ "إِنَّ عَذَابَ ربك لواقع ماله مِنْ دَافِعٍ"، فَكَأَنَّمَا صُدِعَ قَلْبِي حِينَ سَمِعْتُهُ، وَلَمْ يَكُنْ أَسْلَمَ يَوْمَئِذٍ، قَالَ: فَأَسْلَمْتُ خَوْفًا مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ، وَمَا كُنْتُ أَظُنُّ أَنِّي أَقُومُ مِنْ مَكَانِي حَتَّى يَقَعَ بِيَ الْعَذَابُ (5) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الجهاد، باب في ركوب البحر: 3 / 359 عن بشير بن مسلم عن عبد الله بن عمرو. وقال: "وفي هذا الحديث اضطراب، روي عن بشير هكذا، وروي عنه: أنه بلغه عن عبد الله بن عمرو، وروي عنه عن رجل عن عبد الله بن عمرو وقيل غير ذلك وذكره البخاري في تاريخه وذكر له هذا الحديث، وذكر اضطرابه وقال: لم يصح حديثه". وقال الخطابي: "وقد ضعفوا إسناد هذا الحديث". وانظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني رقم (478) .
(2) ساقط من "أ".
(3) أخرجه الطبري: 27 / 20، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 629 لابن أبي حاتم وعبد الرزاق وسعيد بن منصور.
(4) زيادة من "ب".
(5) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الطور: 8 / 603.(7/386)
يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)
{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) }(7/387)
أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18)
{أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) }
ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مَتَى يَقَعُ فَقَالَ:
{يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} أَيْ: تَدُورُ كَدَوَرَانِ الرَّحَى وَتَتَكَفَّأُ بِأَهْلِهَا تَكَفُّؤَ السَّفِينَةِ. قَالَ قَتَادَةُ: تَتَحَرَّكُ. قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهَا بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ. وَقِيلَ: تَضْطَرِبُ، وَ"الْمَوْرُ" يَجْمَعُ هَذِهِ الْمَعَانِي، فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ وَالتَّرَدُّدُ وَالدَّوَرَانُ وَالِاضْطِرَابُ.
{وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} فَتَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَتَصِيرُ هَبَاءً مَنْثُورًا.
{فَوَيْلٌ} فَشِدَّةُ عَذَابٍ، {يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} يَخُوضُونَ (1) فِي الْبَاطِلِ يَلْعَبُونَ غَافِلِينَ لَاهِينَ.
{يَوْمَ يُدَعُّونَ} يُدْفَعُونَ، {إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} دَفْعًا بِعُنْفٍ وَجَفْوَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ يَغُلُّونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، وَيَجْمَعُونَ نَوَاصِيَهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، ثُمَّ يَدْفَعُونَ بِهِمْ إِلَى النَّارِ دَفْعًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَزَجًّا فِي أَقْفِيَتِهِمْ حَتَّى يَرِدُوا النَّارَ، فَإِذَا دَنَوْا مِنْهَا قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا:
{هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} فِي الدُّنْيَا. {أَفَسِحْرٌ هَذَا} وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْسُبُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السِّحْرِ، وَإِلَى أَنَّهُ يُغَطِّي عَلَى الْأَبْصَارِ بِالسِّحْرِ، فَوُبِّخُوا بِهِ، وَقِيلَ لَهُمْ: {أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} .
{اصْلَوْهَا} قَاسُوا شِدَّتَهَا، {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} الصَّبْرُ وَالْجَزَعُ، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ} مُعْجَبِينَ بِذَلِكَ نَاعِمَيْنِ {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} وَيُقَالُ لَهُمْ:
__________
(1) في "أ" يخرصون.(7/387)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21)
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) }
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} مَأْمُونُ الْعَاقِبَةِ مِنَ التُّخَمَةِ وَالسَّقَمِ، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .
{مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} مَوْضُوعَةٍ بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ، {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} .
{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "وَأَتْبَعْنَاهُمْ"، بِقَطْعِ الْأَلْفِ عَلَى التَّعْظِيمِ، "ذُرِّيَّاتِهِمْ"، بِالْأَلْفِ وَكَسْرِ التَّاءِ فِيهِمَا لِقَوْلِهِ: "أَلْحَقَنَا بِهِمْ" "وَمَا أَلَتْنَاهُمْ"، لِيَكُونَ الْكَلَامُ عَلَى نَسَقٍ وَاحِدٍ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "وَاتَّبَعَتْهُمْ" بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَتَشْدِيدِ التَّاءِ بَعْدَهَا وَسُكُونِ التَّاءِ الْأَخِيرَةِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي "ذُرِّيَّتُهُمْ": قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ الْأُولَى (1) بِغَيْرِ أَلْفٍ وَضَمِّ التَّاءِ، وَالثَّانِيَةَ بِالْأَلْفِ وَكَسْرِ التَّاءِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ وَيَعْقُوبُ كِلَاهُمَا بِالْأَلْفِ وَكَسْرِ التَّاءِ فِي الثَّانِيَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِغَيْرِ أَلْفٍ فِيهِمَا وَرَفْعِ التَّاءِ فِي الْأُولَى وَنَصْبِهَا فِي الثَّانِيَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ، يَعْنِي: أَوْلَادَهُمُ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ، فَالْكِبَارُ بِإِيمَانِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَالصِّغَارُ بِإِيمَانِ آبَائِهِمْ، فَإِنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ {أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} الْمُؤْمِنِينَ [فِي الْجَنَّةِ بِدَرَجَاتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا بِأَعْمَالِهِمْ دَرَجَاتِ آبَائِهِمْ] (2) تَكْرِمَةً لِآبَائِهِمْ لِتَقَرَّ بِذَلِكَ أَعْيُنُهُمْ. وَهِيَ رِوَايَةُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمُ الْبَالِغُونَ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمُ الصِّغَارَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْإِيمَانَ بِإِيمَانِ آبَائِهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ، وَرِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ يَجْمَعُ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ ذُرِّيَّتَهُ فِي الْجَنَّةِ كَمَا كَانَ يُحِبُّ فِي الدُّنْيَا أَنْ يَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ، يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَيُلْحِقُهُمْ بِدَرَجَتِهِ بِعَمَلِ أَبِيهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ الْآبَاءَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِ اللَّامِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا أَيْ مَا نَقَصْنَاهُمْ يَعْنِي الْآبَاءَ {مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".(7/388)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّرِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْحَدِيثِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الصَّيْرَفِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا جُبَارَةُ بْنُ الْمُغَلِّسِ، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ يَرْفَعُ ذُرِّيَّةَ الْمُؤْمِنِ فِي دَرَجَتِهِ وَإِنْ كَانُوا دُونَهُ فِي الْعَمَلِ، لِتَقَرَّ بِهِمْ عَيْنُهُ"، ثُمَّ قَرَأَ: "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ"، إِلَى آخَرِ الْآيَةِ (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشَّرِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ فَنْجَوَيْهِ الدِّينَوَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ الْقُطَيْعِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي عُثْمَانُ ابن أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ عَنْ زَاذَانَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلَتْ خَدِيجَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ وَلَدَيْنِ مَاتَا لَهَا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُمَا فِي النَّارِ"، فَلَمَّا رَأَى الْكَرَاهَةَ فِي وَجْهِهَا، قَالَ: "لَوْ رَأَيْتِ مَكَانَهُمَا لَأَبْغَضْتِهِمَا"، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَوَلَدِي مِنْكَ؟ قَالَ: "فِي الْجَنَّةِ" ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ وَأَوْلَادَهُمْ فِي النَّارِ"، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ" (2) .
{كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} قَالَ مُقَاتِلٌ: كُلُّ امْرِئٍ كَافِرٍ بِمَا عَمِلَ مِنَ الشِّرْكِ مُرْتَهَنٌ فِي النَّارِ، وَالْمُؤْمِنُ لَا يَكُونُ مُرْتَهَنًا، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ"، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَزِيدُهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ فَقَالَ:
__________
(1) روي من طرق عدة، فأخرجه الطبري: 27 / 24-25، والحاكم: 2 / 468، والبزار: 3 / 70 (كشف الأستار) ، والطحاوي في مشكل الآثار: 2 / 14و15 وهناد في الزهد: 1 / 270، وابن عدي في الكامل: 6 / 2066، وأبو نعيم في الحلية: 4 / 302. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 114: "رواه البزار وفيه قيس بن الربيع، وثقه شعبة والثوري وفيه ضعف". وقال في التقريب: "صدوق تغير لما كبر وأدخل عليه ابنه ما ليس من حديثه فحدث به". وأخرجه أيضًا: ابن مردويه وسعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه. وانظر: الكافي الشاف ص (160) ، الفتح السماوي للمناوي: 3 / 1010 مع حاشية المحقق، الزهد لهناد: 1 / 270-71 مع حاشية المحقق، الدر المنثور: 7 / 632.
(2) أخرجه عبد الله بن الإمام أحمد في زوائد المسند: 1 / 134،135، وابن أبي عاصم في السنة: 1 / 94. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 217 بعد عزوه لعبد الله: "فيه محمد بن عثمان، ولم أعرفه وبقية رجاله رجال الصحيح". وأنكره الذهبي في "الميزان": 3 / 642 في ترجمة محمد بن عثمان وقال: "محمد بن عثمان لا يدري من هو، فتشت عنه في أماكن وله خبر منكر" ثم ساق الحديث. ورواه أبو يعلي في مسنده من طريق سهل بن زياد: 6 / 310 عن عبد الله بن نوفل أو عن عبد الله بن بريدة - شك سهل- عن خديجة، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 217-218 "رواه الطبراني وأبو يعلي، ورجالهما ثقات إلا أن عبد الله بن الحارث بن نوفل وابن بريدة لم يدركا خديجة". فهو منقطع. وانظر: ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني: 1 / 94-95.(7/389)
وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26)
{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) }
{وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ لَهُمْ، {وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} مِنْ أَنْوَاعِ اللُّحْمَانِ.
{يَتَنَازَعُونَ} يَتَعَاطَوْنَ وَيَتَنَاوَلُونَ، {فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا} وَهُوَ الْبَاطِلُ، وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَا فُضُولَ فِيهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَا رَفَثَ فِيهَا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا سِبَابَ وَلَا تَخَاصُمَ فِيهَا. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ فَيَلْغُوا وَيَرْفُثُوا، {وَلَا تَأْثِيمٌ} أَيْ لَا يَكُونُ مِنْهُمْ مَا يُؤَثِّمُهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مَا يُلْغِي وَلَا مَا فِيهِ إِثْمٌ كَمَا يَجْرِي فِي الدُّنْيَا لشربة الخمر. 141/ب وَقِيلَ: لَا يَأْثَمُونَ فِي شُرْبِهَا.
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} بِالْخِدْمَةِ، {غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ} فِي الْحُسْنِ وَالْبَيَاضِ وَالصَّفَاءِ، {لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} مَخْزُونٌ مَصُونٌ لَمْ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي فِي الصَّدَفِ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: وَمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِلَّا يَسْعَى عَلَيْهِ أَلْفُ غُلَامٍ، وَكُلُّ غُلَامٍ عَلَى عَمَلٍ مَا عَلَيْهِ صَاحِبُهُ (1) .
وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ لَمَّا تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ قَالَ: قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: الْخَادِمُ كَاللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ، فَكَيْفَ الْمَخْدُومُ؟ (2) .
وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ هَذَا الْخَادِمُ فَكَيْفَ الْمَخْدُومُ؟ قَالَ: "فَضْلُ الْمَخْدُومِ عَلَى الْخَادِمِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ" (3) .
{وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْجَنَّةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَذَاكَرُونَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ التَّعَبِ وَالْخَوْفِ فِي الدُّنْيَا.
{قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا} فِي الدُّنْيَا {مُشْفِقِينَ} خَائِفِينَ مِنَ الْعَذَابِ.
__________
(1) انظر: القرطبي: 17 / 69.
(2) انظر: القرطبي: 17 / 69.
(3) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 248، والطبري: 27 / 29.(7/390)
فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31)
{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28) فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) }(7/391)
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32)
{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) }
{فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} بِالْمَغْفِرَةِ، {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَذَابَ النَّارِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "السَّمُومُ" اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ.
{إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ} فِي الدُّنْيَا، {نَدْعُوهُ} نُخْلِصُ لَهُ الْعِبَادَةَ، {إِنَّهُ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ [وَالْكِسَائِيُّ] (1) "أَنَّهُ" بِفَتْحِ الْأَلِفِ، أَيْ: لِأَنَّهُ أَوْ بِأَنَّهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ، {هُوَ الْبَرُّ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّطِيفُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الصَّادِقُ فِيمَا وَعَدَ {الرَّحِيمُ} .
{فَذَكِّرْ} يَا مُحَمَّدُ بِالْقُرْآنِ أَهْلَ مَكَّةَ، {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} بِرَحْمَتِهِ وَعِصْمَتِهِ، {بِكَاهِنٍ} تَبْتَدِعُ الْقَوْلَ وَتُخْبِرُ بِمَا فِي غَدٍ مِنْ غَيْرِ وَحْيٍ، {وَلَا مَجْنُونٍ} نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ اقْتَسَمُوا عِقَابَ مَكَّةَ يَرْمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِهَانَةِ وَالسِّحْرِ وَالْجُنُونِ وَالشِّعْرِ.
{أَمْ يَقُولُونَ} بَلْ يَقُولُونَ، يَعْنِي: هَؤُلَاءِ الْمُقْتَسِمِينَ الْخَرَّاصِينَ، {شَاعِرٌ} أَيْ: هُوَ شَاعِرٌ، {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} حَوَادِثَ الدَّهْرِ وَصُرُوفَهُ فَيَمُوتُ وَيَهْلَكُ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ، وَيَتَفَرَّقُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّ أَبَاهُ مَاتَ شَابًّا وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ كَمَوْتِ أَبِيهِ، وَ"الْمَنُونُ" يَكُونُ بِمَعْنَى الدَّهْرِ، وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَوْتِ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَقْطَعَانِ الْأَجَلَ.
{قُلْ تَرَبَّصُوا} انْتَظَرُوا بِيَ الْمَوْتَ، {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ] (2) حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ فِيكُمْ، فَعُذِّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ بِالسَّيْفِ.
{أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ} عُقُولُهُمْ، {بِهَذَا} وَذَلِكَ أَنَّ عُظَمَاءَ قُرَيْشٍ كَانُوا يُوصَفُونَ بِالْأَحْلَامِ وَالْعُقُولِ، فَأَزْرَى اللَّهُ بِعُقُولِهِمْ حِينَ لَمْ تَتَمَيَّزْ لَهُمْ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، {أَمْ هُمْ} بَلْ هُمْ {قَوْمٌ طَاغُونَ} .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ساقط من "أ".(7/391)
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37)
{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ (37) }
{أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} أَيْ: يَخْلُقُ الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، "وَالتَّقَوُّلُ"، تَكَلُّفُ الْقَوْلِ، وَلَا يُسْتَعْمَلُ إِلَّا فِي الْكَذِبِ، لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، {بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} بِالْقُرْآنِ اسْتِكْبَارًا. ثُمَّ أَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ فَقَالَ: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} ،أَيْ: مِثْلَ الْقُرْآنِ وَنَظْمِهِ وَحُسْنِ بَيَانِهِ، {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} أَنْ مُحَمَّدًا يَقُولُهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ.
{أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ غَيْرِ رَبٍّ، وَمَعْنَاهُ: أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ خَلَقَهُمْ فَوُجِدُوا بِلَا خَالِقٍ؟ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْخَلْقِ بِالْخَالِقِ مِنْ ضَرُورَةِ الِاسْمِ، فَإِنْ أَنْكَرُوا الْخَالِقَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوجَدُوا بِلَا خَالِقٍ، {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} لِأَنْفُسِهِمْ وَذَلِكَ فِي الْبُطْلَانِ أَشَدُّ، لِأَنَّ مَا لَا وُجُودَ لَهُ كَيْفَ يَخْلُقُ؟
فَإِذَا بَطَلَ الْوَجْهَانِ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَهُمْ خَالِقًا فَلْيُؤْمِنُوا بِهِ، ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو سُلَيْمَانَ الْخَطَّابِيُّ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ: أَخُلِقُوا بَاطِلًا لَا يُحَاسَبُونَ وَلَا يُؤْمَرُونَ؟ وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَخُلِقُوا عَبَثًا وَتُرِكُوا سُدًى لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ، فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَيْ: لِغَيْرِ شَيْءٍ، أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فَلَا يَجِبْ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ أَمْرٌ؟
{أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فَيَكُونُوا هُمُ الْخَالِقِينَ، لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، {بَلْ لَا يُوقِنُونَ} .
{أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} قَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي النُّبُوَّةَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: أَبِأَيْدِيهِمْ مَفَاتِيحُ رَبِّكَ بِالرِّسَالَةِ فيضعونها حيث شاؤوا؟ قَالَ الْكَلْبِيُّ: خَزَائِنُ الْمَطَرِ وَالرِّزْقِ، {أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} الْمُسَلَّطُونَ الْجَبَّارُونَ، قَالَ عَطَاءٌ: أَرْبَابٌ قَاهِرُونَ فَلَا يَكُونُوا تَحْتَ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، يفعلون ما شاؤوا. وَيَجُوزُ بِالسِّينِ وَالصَّادِ جَمِيعًا، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِالسِّينِ هَاهُنَا وَقَوْلُهُ: "بِمُسَيْطِرٍ"، وَقَرَأَ حَمْزَةُ بِإِشْمَامِ الزَّايِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ هَاهُنَا بِالسِّينِ وَ"بِمُصَيْطِرٍ" بِالصَّادِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالصَّادِ فِيهِمَا.(7/392)
أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42)
{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبْنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) }
{أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} مَرْقًى وَمِصْعَدٌ إِلَى السَّمَاءِ، {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} أَيْ يَسْتَمِعُونَ عَلَيْهِ الْوَحْيَ، كَقَوْلِهِ: "وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ" (طه-71) أَيْ: عَلَيْهَا، مَعْنَاهُ: أَلَهُمْ سُلَّمٌ يَرْتَقُونَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ بِالْوَحْيِ، فَهُمْ مُسْتَمْسِكُونَ بِهِ كَذَلِكَ؟ {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ} إِنِ ادَّعَوْا ذَلِكَ، {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} حُجَّةٍ بَيِّنَةٍ.
{أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} هَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ حِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ، كَقَوْلِهِ: "فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبْنُونَ" (الصَّافَّاتِ-149) .
{أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} جُعْلًا عَلَى مَا جِئْتَهُمْ بِهِ وَدَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} أَثْقَلَهُمْ ذَلِكَ الْمَغْرَمُ الَّذِي تَسْأَلُهُمْ، فَمَنَعَهُمْ مِنْ ذَلِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ.
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} أَيْ: عِلْمُ مَا غَابَ عَنْهُمْ، حَتَّى عَلِمُوا أَنَّ مَا يُخْبِرُهُمُ الرَّسُولُ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ بَاطِلٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: "نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ"، يَقُولُ: أَعِنْدَهُمْ عِلْمُ الْغَيْبِ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُوتُ قَبْلَهُمْ؟ {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} أَيْ: يَحْكُمُونَ، وَالْكِتَابُ: الْحُكْمُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَخَاصَمَا إِلَيْهِ: "أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ" (1) أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَمْ عِنْدَهُمُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ مَا فِيهِ وَيُخْبِرُونَ النَّاسَ بِهِ؟
{أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} مَكْرًا بِكَ لِيُهْلِكُوكَ؟ {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} أَيْ: هُمُ الْمَجْزِيُّونَ بِكَيْدِهِمْ، يُرِيدُ أَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَيَحِيقُ مَكْرُهُمْ بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَكَرُوا بِهِ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ.
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في الصلح، باب إذا اصطلحوا على صلح جور فالصلح مردود: 5 / 301، ومسلم في الحدود، باب من اعترف على نفسه بالزنا برقم (1697-1698) 3 / 1324-1325، والمصنف في شرح السنة: 10 / 274-275.(7/393)
أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)
{أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) }
{أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} 142/أيَرْزُقُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ؟ {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} قَالَ الْخَلِيلُ: مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ ذِكْرِ "أَمْ" كُلُّهُ اسْتِفْهَامٌ وَلَيْسَ بِعَطْفٍ.
{وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا} قِطْعَةً، {مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: "فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ"، يَقُولُ: لَوْ عَذَّبْنَاهُمْ بِسُقُوطِ بَعْضٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنْ كُفْرِهِمْ، {يَقُولُوا} -لِمُعَانَدَتِهِمْ-هَذَا، {سَحَابٌ مَرْكُومٌ} بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ يَسْقِينَا.
{فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا} يعاينوا، {يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} أَيْ: يموتون، حتى يعاينوا الْمَوْتَ، قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَعَاصِمٌ يُصْعَقُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ، أَيْ: يُهْلَكُونَ.
{يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أَيْ: لَا يَنْفَعُهُمْ كَيْدُهُمْ يَوْمَ الْمَوْتِ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ مَانِعٌ.
{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [كَفَرُوا] (1) {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} أَيْ: عَذَابًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْقَتْلَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْجُوعُ وَالْقَحْطُ سَبْعَ سِنِينَ. وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ.
{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} إِلَى أَنْ يَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أَيْ بِمَرْأًى مِنَّا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَرَى مَا يُعْمَلُ بِكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّكَ بِحَيْثُ نَرَاكَ وَنَحْفَظُكَ فَلَا يَصِلُونَ إِلَى مَكْرُوهِكَ. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: أَيْ: قُلْ حِينَ تَقُومُ مِنْ مَجْلِسِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْلِسُ خَيْرًا ازْدَدْتَ فِيهِ إِحْسَانًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ كَانَ كَفَّارَةً لَهُ (2) .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) ذكره القرطبي: 17 / 78، وابن الجوزي في زاد المسير: 8 / 60.(7/394)
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ الْقَفَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ أَحْمَدُ بْنُ الْفَضْلِ الْبَرْوَنْجِرْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بَكْرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّيْرَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقُرَشِيُّ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا وَكَثُرَ فِيهِ لَغَطُهُ، فَقَالَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ، إِلَّا كَانَ كَفَّارَةً لِمَا بَيْنَهُمَا" (1) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: مَعْنَاهُ صَلِّ لِلَّهِ حِينَ تَقُومُ مِنْ مَقَامِكَ (2) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ فَقُلْ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِي، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ وَيَحْيَى بْنُ مُوسَى قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنْ حَارِثَةَ بْنِ أَبِي الرِّجَالِ، عَنْ عَمْرَةَ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ قَالَ: "سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ" (4) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ بِاللِّسَانِ حِينَ تَقُومُ مِنَ الْفِرَاشِ إِلَى أَنْ تَدْخُلَ فِي الصَّلَاةِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاشَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ الْقَاسِمُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بن عمر اللؤلؤي، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ، حَدَّثَنَا
__________
(1) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب ما يقول إذا قام من مجلسه: 9 / 392-394 وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب من هذا الوجه، لا نعرفه من حديث سهيل إلا من هذا الوجه". وصححه ابن حبان برقم: (2366) ص (588) ، والحاكم: 1 / 536-537، والمصنف في شرح السنة: 5 / 134. قال الحافظ ابن كثير: 4 / 264: "وأخرجه الحاكم في مستدركه وقال: إسناده على شرط مسلم إلا أن البخاري علله، قلت: علله الإمام أحمد والبخاري ومسلم وأبو حاتم وأبو زرعة والدارقطني وغيرهم، ونسبوا الوهم فيه إلى ابن جريج" وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم (6192) وفي تعليقه على المشكاة (2433) .
(2) انظر: البحر المحيط: 8 / 153، زاد المسير: 8 / 60 وكلها: "حين تقوم من منامك".
(3) أخرجه الطبري: 27 / 38. وذكره ابن كثير: 4 / 246، أبو حيان في البحر المحيط: 8 / 153، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 637 نسبته لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وابن المنذر عن الضحاك.
(4) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب ما يقول عند افتتاح الصلاة: 2 / 50-51 وقال أبو عيسى: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وحارثة تكلم فيه من قبل حفظه"، وابن ماجه في الإقامة، باب افتتاح الصلاة برقم: (806) : 1 / 265. وأخرجه النسائي في الصلاة، باب الذكر والدعاء بين التكبير والقراءة: 2 / 132، والإمام أحمد: 3 / 69 كلاهما عن أبي سعيد.(7/395)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ حُبَابٍ، أَخْبَرَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، أَخْبَرَنَا أَزْهَرُ بْنُ سَعِيدٍ الْحُرَّازِيُّ عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يَفْتَتِحُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامَ اللَّيْلِ؟ فَقَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ كَبَّرَ اللَّهَ عَشْرًا، وَحَمِدَ اللَّهَ عَشْرًا، وَسَبَّحَ اللَّهَ عَشْرًا، وَهَلَّلَ عَشْرًا، وَاسْتَغْفَرَ عَشْرًا، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَاهْدِنِي وَارْزُقْنِي وَعَافِنِي، وَيَتَعَوَّذُ مِنْ ضِيقِ الْمَقَامِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" (1) .
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49) }
{وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} أَيْ: صَلِّ لَهُ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ. {وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} يَعْنِي الرَّكْعَتَيْنِ قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَذَلِكَ حِينَ تُدْبِرُ النُّجُومُ أَيْ تَغِيبُ بِضَوْءِ الصُّبْحِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ فَرِيضَةُ صَلَاةِ الصُّبْحِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ (2) .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء: 1 / 373، والنسائي في قيام الليل، باب ذكر ما يستفتح به القيام: 3 / 208-209، وابن ماجه في الإقامة، باب ما جاء في الدعاء إذا قام الرجل من الليل برقم: (1356) : 1 / 431.
(2) أخرجه مالك في الموطأ كتاب الصلاة، باب القراءة في المغرب والعشاء: 1 / 78، والبخاري في الأذان، باب الجهر في المغرب 2 / 247، ومسلم في الصلاة، باب القراءة في الصبح برقم (463) : 1 / 338. وانظر فيما سبق ص 386 مع التعليق رقم (5) .(7/396)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)
سُورَةُ النَّجْمِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) }
{وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ وَالْعَوْفِيِّ: يَعْنِي الثُّرَيَّا إِذَا سَقَطَتْ وَغَابَتْ، وَهُوِيُّهُ مَغِيبُهُ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الثُّرَيَّا نَجْمًا.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: "مَا طَلَعَ النَّجْمُ قَطُّ وَفِي الْأَرْضِ مِنَ الْعَاهَةِ شَيْءٌ إِلَّا رُفِعَ" (2) وَأَرَادَ بِالنَّجْمِ الثُّرَيَّا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ نُجُومُ السَّمَاءِ كُلُّهَا حِينَ تَغْرُبُ لَفْظُهُ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ، سُمِّيَ الْكَوْكَبُ نَجْمًا لِطُلُوعِهِ، وَكُلُّ طَالِعٍ نَجْمٌ، يُقَالُ: نَجَمَ السِّنُّ وَالْقَرْنُ وَالنَّبْتُ: إِذَا طَلَعَ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ الرُّجُومُ مِنَ النُّجُومِ يَعْنِي مَا تُرْمَى بِهِ الشَّيَاطِينُ عِنْدَ اسْتِرَاقِهِمُ السَّمْعَ.
__________
(1) أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت سورة النجم بمكة. انظر: الدر المنثور: 7 / 639.
(2) أخرجه الإمام أحمد: 2 / 341 و388 بلفظ: (إذا طلع النجم ذا صباح رفعت العاهة) . ورمز السيوطي لحسنه في الجامع الصغير (5 / 454) مع فيض القدير. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 4 / 103 "رواه كله أحمد والطبراني في الصغير ولفظه: "إذا ارتفع النجم رفعت العاهة عن كل بلد" وبنحوه في الأوسط، وفيه عسل بن صفوان: وثقه ابن حبان وقال: يخطئ ويخالف، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح". وأخرجه الإمام محمد بن الحسن الشيباني بسند رجاله ثقات في كتاب الآثار صفحة: (159) ، والطحاوي في مشكل الآثار: (3 / 91) . وأخرجه ابن عدي في الكامل: 7 / 2478. وانظر: مشكل الآثار:3 / 92، شرح مسند أبي حنيفة لملا على القاري صفحة: (141) ، سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني: 1 / 389-390.(7/397)
مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7)
وَقَالَ أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَّالِيُّ: هِيَ النُّجُومُ إِذَا انْتَثَرَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الْقُرْآنُ سَمِّيَ نَجْمًا لِأَنَّهُ نُزِّلَ نُجُومًا مُتَفَرِّقَةً فِي عِشْرِينَ سَنَةً، وَسُمِّي التَّفْرِيقُ: تَنْجِيمًا، وَالْمُفَرَّقُ: مُنَجَّمًا، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيُّ.
"الْهُوِّيُّ": النُّزُولُ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: "النَّجْمُ" هُوَ النَّبْتُ الَّذِي لَا سَاقَ لَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ" (الرَّحْمَنِ-6) ، وَهُوِيُّهُ سُقُوطُهُ عَلَى الْأَرْضِ. وَقَالَ جَعْفَرٌ الصَّادِقُ: يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَزَلَ مِنَ السَّمَاءِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، وَ"الْهُوِيُّ": النُّزُولُ، يُقَالُ: هَوَى يَهْوِي هُوِيًّا [إِذَا نَزَلَ] (1) مِثْلُ مَضَى يَمْضِي مُضِيًّا.
{مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) }
وَجَوَابُ الْقَسَمِ: قَوْلُهُ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى {وَمَا غَوَى.} {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} أَيْ: بِالْهَوَى يُرِيدُ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
{إِنْ هُوَ} مَا نُطْقُهُ فِي الدِّينِ، وَقِيلَ: الْقُرْآنُ {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} أَيْ: وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ يوحى إليه.
142/ب {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} جِبْرِيلُ، وَالْقُوَى جَمْعُ الْقُوَّةِ.
{ذُو مِرَّةٍ} قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ فِي خَلْقِهِ يَعْنِي جِبْرِيلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُو مِرَّةٍ يَعْنِي: ذُو مَنْظَرٍ حَسَنٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ذُو خَلْقٍ طَوِيلٍ حَسَنٍ. {فَاسْتَوَى} يَعْنِي: جِبْرِيلَ.
{وَهُوَ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَكْثَرُ كَلَامِ الْعَرَبِ إِذَا أَرَادُوا الْعَطْفَ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يُظْهِرُوا كِنَايَةَ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، فَيَقُولُونَ (2) اسْتَوَى هُوَ وَفُلَانٌ، وَقَلَّمَا يَقُولُونَ: اسْتَوَى وَفُلَانٌ نَظِيرُ هَذَا قَوْلُهُ: "أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا" (النَّمْلِ-67) عَطَفَ الْآبَاءَ عَلَى الْمُكَنَّى فِي "كُنَّا" مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ نَحْنُ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: اسْتَوَى جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ {بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} وَهُوَ أَقْصَى الدُّنْيَا عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: "فَاسْتَوَى" يَعْنِي جِبْرِيلَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ جِبْرِيلَ أَيْضًا أَيْ: قَامَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) في النسختين: فيقول.(7/400)
ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9)
اللَّهُ، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَذَلِكَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَأْتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ كَمَا كَانَ يَأْتِي النَّبِيِّينَ، فَسَأَلَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُ نَفْسَهُ عَلَى الصُّورَةِ الَّتِي جُبِلَ عَلَيْهَا فَأَرَاهُ نَفْسَهُ مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً فِي الْأَرْضِ وَمَرَّةً فِي السَّمَاءِ، فَأَمَّا فِي الْأَرْضِ فَفِي الْأُفُقِ الْأَعْلَى، وَالْمُرَادُ بِالْأَعْلَى جَانِبُ الْمَشْرِقِ، وَذَلِكَ أَنْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ بِحِرَاءٍ فَطَلَعَ لَهُ جِبْرِيلُ مِنَ الْمَشْرِقِ فَسَدَّ الْأُفُقَ إِلَى الْمَغْرِبِ، فَخَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ الْآدَمِيِّينَ فَضَمَّهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَجَعَلَ يَمْسَحُ الْغُبَارَ عَنْ وَجْهِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى" وَأَمَّا فِي السَّمَاءِ فَعِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَلَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى تِلْكَ الصُّورَةِ إِلَّا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
{ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنَا زَكَرِيَّا بْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنِ ابْنِ الْأَشْوَعِ عَنِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ فَأَيْنَ قَوْلُهُ: "ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى"؟ قَالَتْ: "ذَلِكَ جِبْرِيلُ كَانَ يَأْتِيهِ فِي صُورَةِ الرَّجُلِ، وَإِنَّهُ أَتَاهُ هَذِهِ الْمَرَّةَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي هِيَ صُورَتُهُ، فَسَدَّ الْأُفُقَ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا طَلْقُ بْنُ غَنَّامٍ، حَدَّثَنَا زَائِدَةُ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ قَالَ: سَأَلْتُ زِرًّا عَنْ قَوْلِهِ: "فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى"، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ-أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ (3) .
فَمَعْنَى الْآيَةِ: ثُمَّ دَنَا جِبْرِيلُ بَعْدَ اسْتِوَائِهِ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى مِنَ الْأَرْضِ "فَتَدَلَّى" فَنَزَلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ مِنْهُ "قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى"، بَلْ أَدْنَى، وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وقَتَادَةُ، قِيلَ: فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: ثُمَّ تَدَلَّى فَدَنَا؛ لِأَنَّ التَّدَلِّيَ سَبَبُ الدُّنُوِّ (4) .
وَقَالَ آخَرُونَ: ثُمَّ دَنَا الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَدَلَّى، فَقَرُبَ مِنْهُ حَتَّى كَانَ قَابَ
__________
(1) انظر: القرطبي: 17 / 87.
(2) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم "آمين" والملائكة في السماء فوافقت إحداهما الأخرى غفر له ما تقدم من ذنبه: 6 / 313.
(3) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة النجم، باب (فأوحى إلى عبده ما أوحى) 8 / 610 وفي بدء الخلق: 6 / 313.
(4) انظر: الأسماء والصفات للبيهقي:2 / 187-188، معاني القرآن للفراء: 3 / 95-96.(7/401)
فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10)
قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. وَرُوِّينَا فِي قِصَّةِ الْمِعْرَاجِ عَنْ شَرِيكِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَنَسٍ: وَدَنَا الْجَبَّارُ رَبُّ الْعِزَّةِ فَتَدَلَّى حَتَّى كَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (1) . وَهَذَا رِوَايَةُ ابْنِ سَلَمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، "وَالتَّدَلِّي" هُوَ النُّزُولُ إِلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَقْرَبَ مِنْهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: دَنَا جِبْرِيلُ مِنْ رَبِّهِ (2) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: دَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَبِّهِ فَتَدَلَّى فَأَهْوَى لِلسُّجُودِ، فَكَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "قَابَ قَوْسَيْنِ" أَيْ قَدْرَ قَوْسَيْنِ، وَ"الْقَابُ" وَ"الْقَيْبُ" وَ"الْقَادُ" وَ"الْقَيْدُ": عِبَارَةٌ عَنِ الْمِقْدَارِ، وَ"الْقَوْسُ": مَا يُرْمَى بِهِ فِي قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَعَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ جِبْرِيلَ وَبَيْنَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مِقْدَارُ قَوْسَيْنِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَاهُ حَيْثُ الْوَتَرُ مِنَ الْقَوْسِ، وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى تَأْكِيدِ الْقُرْبِ. وَأَصْلُهُ: أَنَّ الْحَلِيفَيْنِ مِنَ الْعَرَبِ كَانَا إِذَا أَرَادَا عَقْدَ الصَّفَاءِ وَالْعَهْدِ خَرَجَا بِقَوْسَيْهِمَا فَأَلْصَقَا بَيْنَهُمَا، يُرِيدَانِ بِذَلِكَ أَنَّهُمَا مُتَظَاهِرَانِ يُحَامِي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "قَابَ قَوْسَيْنِ" أَيْ: قَدْرَ ذِرَاعَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَشَقِيقِ بْنِ سَلَمَةَ، وَ"الْقَوْسُ": الذِّرَاعُ يُقَاسُ بِهَا كُلُّ شَيْءٍ، "أَوْ أَدْنَى": بَلْ أَقْرَبُ.
{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) }
{فَأَوْحَى} أَيْ: أَوْحَى اللَّهُ {إِلَى عَبْدِهِ} مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَوْحَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ، وَالْكَلْبِيِّ، وَالْحَسَنِ، وَالرَّبِيعِ، وَابْنِ زَيْدٍ: مَعْنَاهُ: أَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ (3) .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَوْحَى إِلَيْهِ: "أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى" (الضُّحَى-6) إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَرَفَعَنَا لَكَ ذِكْرَكَ"، (الشَّرْحِ-4) وَقِيلَ: أَوْحَى إِلَيْهِ: إِنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أَنْتَ، وَعَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتُكَ (4) .
__________
(1) لمعرفة ما قاله أهل العلم في رواية شريك بن عبد الله وأوهامه في ألفاظ حديث المعراج انظر: فتح الباري، كتاب التوحيد، باب ما جاء في قوله عز وجل: (وكلم الله موسى تكليما) : 13 / 478-480، ابن كثير: 4 / 250، الأسماء والصفات للبيهقي: 2 / 187.
(2) انظر: الأسماء والصفات: 2 / 188.
(3) انظر: الطبري:27 / 47، الأسماء والصفات: 2 / 182.
(4) ذكر القولين الحافظ ابن كثير: 4 / 250.(7/402)
مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11)
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) }
{مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "مَا كَذَّبَ الْفُؤَادُ" بِتَشْدِيدِ الذَّالِ أَيْ: مَا كَذَّبَ قَلْبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى بِعَيْنِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، بَلْ صَدَّقَهُ وَحَقَّقَهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ: مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَأَى بَلْ صَدَقَهُ، يُقَالُ: كَذَبَهُ إِذَا قَالَ لَهُ الْكَذِبَ مَجَازُهُ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ فِيمَا رَأَى، وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي رَآهُ، فَقَالَ قَوْمٌ: رَأَى جِبْرِيلَ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَائِشَةَ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصٌ هُوَ ابْنُ غِيَاثٍ عَنِ الشَّيْبَانِيِّ عَنْ زِرٍّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى" قَالَ: رَأَى جِبْرِيلَ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ (1) .
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الرُّؤْيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَعَلَ بَصَرَهُ فِي فُؤَادِهِ فَرَآهُ بِفُؤَادِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ حَجَّاجٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ زِيَادِ بْنِ الْحُصَيْنِ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى". "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى" قَالَ: رَآهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ (2) .
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ رآه بعينه 143/أوَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ، قَالُوا: رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ (3) ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى إِبْرَاهِيمَ بِالْخُلَّةِ وَاصْطَفَى مُوسَى بِالْكَلَامِ وَاصْطَفَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّؤْيَةِ (4) .
وَكَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَقُولُ: لَمْ يَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ، وَتَحْمِلُ الْآيَةَ عَلَى رُؤْيَتِهِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب ذكر سدرة المنتهى برقم: (174) : 1 / 158، والبخاري في التفسير - تفسير سورة النجم، باب (فأوحى إلى عبده ما أوحى) : 8 / 610.
(2) أخرجه مسلم في الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه نزلة أخرى000) برقم: (176) : 1 / 158.
(3) ذكر ذلك ابن كثير:4 / 251 وقال: "فيه نظر والله أعلم" وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 647 لابن مردويه.
(4) أخرجه الطبري: 27 / 48.(7/403)
أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ ابن يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ عَنْ عَامِرٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ يَا أُمَّاهُ هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَفَّ شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ: أَيْنَ أَنْتَ مِنْ ثَلَاثٍ مَنْ حَدَّثَكَهُنَّ فَقَدْ كَذَبَ؟ مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: "لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ"، (الْأَنْعَامِ-103) "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ" (الشُّورَى-51) وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: "وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا" (لُقْمَانَ-34) وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ كَتَمَ شَيْئًا فَقَدْ كَذَبَ، ثُمَّ قَرَأَتْ: "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ" (الْمَائِدَةِ-67) الْآيَةَ، وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ (1) .
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ يَزِيدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ [شَقِيقٍ] (2) عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: "نُورٌ أَنَّى أَرَاهُ" (3) .
{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) }
{أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: "أَفَتَمْرُونَهُ" بِفَتْحِ التَّاءِ [وَسُكُونِ الْمِيمِ] (4) بِلَا أَلْفٍ، أَيْ: أَفَتَجْحَدُونَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرَيْتُ الرَّجُلَ حَقَّهُ إِذَا جَحَدْتُهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "أَفَتُمَارُونَهُ" بِالْأَلْفِ وَضَمِّ التَّاءِ عَلَى مَعْنَى أَفَتُجَادِلُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَادَلُوهُ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، فَقَالُوا: صِفْ لَنَا بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَأَخْبِرْنَا عَنْ عِيرِنَا فِي الطَّرِيقِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا جَادَلُوهُ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَفَتُجَادِلُونَهُ جِدَالًا تَرُومُونَ بِهِ دَفْعَهُ عَمَّا رَآهُ وَعَلِمَهُ.
{وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} يَعْنِي: رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ نَزْلَةً أُخْرَى، وَذَلِكَ أَنَّهُ رَآهُ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً فِي الْأَرْضِ وَمَرَّةً فِي السَّمَاءِ.
{عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَى: "نَزْلَةً أُخْرَى" هُوَ أَنَّهُ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَجَاتٌ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ لِمَسْأَلَةِ التَّخْفِيفِ مِنْ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ عَرْجَةٍ نَزْلَةٌ، فَرَأَى رَبَّهُ
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير-تفسير سورة النجم: 8 / 606.
(2) في "أ" سفيان وهو خطأ.
(3) أخرجه مسلم في الإيمان، باب في قوله عليه السلام: نور أنى أراه، وفي قوله: رأيت نورًا. برقم: (178) : 1 / 161.
(4) زيادة من "ب".(7/404)
فِي بَعْضِهَا، وَرُوِّينَا عَنْهُ: "أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِفُؤَادِهِ مَرَّتَيْنِ" (1) وَعَنْهُ: "أَنَّهُ رَأَى بِعَيْنِهِ" (2) قَوْلُهُ: "عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى" رُوِّينَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ انْتَهَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا، قَالَ تَعَالَى: "عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى"، قَالَ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ (3) .
وَرُوِّينَا فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ: "ثُمَّ صَعِدَ بِي إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ، ثُمَّ رُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلَالِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الْفِيَلَةِ" (4) .
"وَالسِّدْرَةُ" شَجْرَةُ النَّبْقِ، وَقِيلَ لَهَا: سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى لِأَنَّهُ إِلَيْهَا يَنْتَهِي عِلْمُ الْخَلْقِ. قَالَ هِلَالُ بْنُ [يَسَافَ] (5) : سَأَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كَعْبًا عَنْ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَأَنَا حَاضِرٌ، فَقَالَ كَعْبٌ: إِنَّهَا سِدْرَةٌ فِي أَصْلِ العرش على رؤوس حَمَلَةِ الْعَرْشِ وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي عِلْمُ الْخَلَائِقِ، وَمَا خَلْفَهَا غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ (6) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشَّرِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا الْمَسُوحِيُّ، حَدَّثَنَا عَبِيدُ بْنُ يَعِيشَ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ بُكَيْرٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ يَحْيَى بْنِ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدَّتِهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَذْكُرُ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، قَالَ: "يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّ الْفَنَنِ مِنْهَا مِائَةَ عَامٍ وَيَسْتَظِلُّ فِي الْفَنَنِ مِنْهَا مِائَةُ أَلْفِ رَاكِبٍ، فِيهَا فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، كَأَنَّ ثَمَرَهَا الْقِلَالُ" (7) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ شَجَرَةٌ تَحْمِلُ الْحُلِيَّ وَالْحُلَلَ وَالثِّمَارَ مِنْ جَمِيعِ الْأَلْوَانِ، لَوْ أَنَّ وَرَقَةً وُضِعَتْ مِنْهَا فِي الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ لِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَهِيَ طُوبَى الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الرَّعْدِ.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب معنى قول الله عز وجل: (ولقد رآه نزلة أخرى00) برقم: (176) :1 / 158.
(2) ساق الحافظ ابن كثير رواية الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما "رأيت ربي عز وجل" وقال: "حديث إسناده على شرط الصحيح لكنه مختصر من حديث المنام": 4 / 252، ثم قال في الصفحة التالية: "وتقدم أن ابن عباس -رضي الله عنهما- كان يثبت الرؤية ليلة الإسراء، ويستشهد بهذه الآية (ولقد رآه نزلة أخرى) وتابعه جماعة من السلف والخلف وقد خالفه جماعات من الصحابة رضي الله عنهم والتابعين وغيرهم".
(3) أخرجه مسلم في الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى برقم: (173) : 1 / 157.
(4) قطعة من حديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه في المعراج، أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ذكر الملائكة،6 / 302-303، ومسلم في الإيمان، باب الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى السموات وفرض الصلوات برقم: (162) : 1 / 145-147.
(5) في "ب" يسار والصحيح ما أثبتناه.
(6) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 650 لابن أبي شيبة.
(7) أخرجه الترمذي في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة ثمار الجنة: 7 / 248-249 وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب"، والطبري: 27 / 54-55، والحاكم: 2 / 469 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه". وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 650 عزوه لابن مردويه.(7/405)
عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
{عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18) }
{عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جَنَّةٌ يَأْوِي إِلَيْهَا جِبْرِيلُ وَالْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: يَأْوِي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ.
{إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ.
وَرُوِّينَا فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ عَنْ أَنَسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى فَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ، وَإِذَا ثَمَرُهَا كَالْقِلَالِ، فَلَمَّا غَشَّى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا غَشَّى تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌّ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، وَأَوْحَى إِلَيَّ مَا أَوْحَى فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ" (1) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَغْشَاهَا الْمَلَائِكَةُ أَمْثَالَ الْغِرْبَانِ وَقَالَ السُّدِّيُّ: مِنَ الطُّيُورِ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوْ غَيْرِهِ قَالَ: غَشِيَهَا نُورُ الْخَلَائِقِ وَغَشِيَتْهَا الْمَلَائِكَةُ مِنْ حُبِّ اللَّهِ أَمْثَالَ الْغِرْبَانِ حِينَ يَقَعْنَ عَلَى الشَّجَرَةِ. قَالَ: فَكَلَّمَهُ عِنْدَ ذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ: سَلْ (2) . وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: غَشِيَهَا نُورُ رَبِّ الْعِزَّةِ فَاسْتَنَارَتْ. وَيُرْوَى فِي الْحَدِيثِ: "رَأَيْتُ عَلَى كُلِّ وَرَقَةٍ مِنْهَا مَلَكًا قَائِمًا يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى" (3) .
{مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} أَيْ: مَا مَالَ بَصَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَمَا طَغَى، أَيْ مَا جَاوَزَ مَا رَأَى. وَقِيلَ: مَا جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِهِ وَهَذَا وَصْفُ أَدَبِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ إِذْ لَمْ يَلْتَفِتْ جَانِبًا.
{لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} يَعْنِي: الْآيَاتِ الْعِظَامِ. وَقِيلَ: أَرَادَ مَا رَأَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي مَسِيرِهِ وَعَوْدِهِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ: "لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا"، (الْإِسْرَاءِ-1) وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْآيَةَ الْكُبْرَى.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُعَاذٍ الْعَنْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الإيمان، باب الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ000 برقم: (162) : 1 / 145-146.
(2) أخرجه الطبري: 27 / 56، وانظر تفسير ابن كثير: 4 / 253.
(3) أخرجه الطبري: 27 / 56.(7/406)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19)
شُعْبَةُ عَنْ سُلَيْمَانَ الشَّيْبَانِيِّ سَمِعَ زِرَّ بْنَ حُبَيْشٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى قَالَ: رَأَى (1) جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ (2) .
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الواحد المليحي، 143/ب أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عَمْرٍو، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ [عَنْ عَبْدِ اللَّهِ] (3) "لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى"؟ قَالَ: رَأَى رَفْرَفًا أَخْضَرَ سَدَّ أُفُقَ السَّمَاءِ (4) .
{أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} هَذِهِ أَسْمَاءُ (5) أَصْنَامٍ اتَّخَذُوهَا آلِهَةً يَعْبُدُونَهَا، اشْتَقُّوا لَهَا أَسْمَاءً مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فَقَالُوا مِنَ اللَّهِ: اللَّاتُ، وَمِنَ الْعَزِيزِ: الْعُزَّى. وَقِيلَ: الْعُزَّى: تَأْنِيثُ الْأَعَزِّ، أَمَّا "اللَّاتُ" قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتْ بِالطَّائِفِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَيْتٌ بِنَخْلَةَ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَعْبُدُهُ (6) .
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ: "اللَّاتَّ" بِتَشْدِيدِ التَّاءِ، وَقَالُوا: كَانَ رَجُلًا يَلُتُّ السَّوِيقَ لِلْحَاجِّ، فَلَمَّا مَاتَ عَكَفُوا عَلَى قَبْرِهِ يَعْبُدُونَهُ (7) .
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ فِي رَأْسِ جَبَلٍ لَهُ غُنَيْمَةٌ يَسْلَأُ مِنْهَا السَّمْنَ وَيَأْخُذُ مِنْهَا الْأَقِطَ، وَيَجْمَعُ رِسْلَهَا (8) ثُمَّ يَتَّخِذُ مِنْهَا حَيْسًا فَيُطْعِمُ مِنْهُ الْحَاجَّ، وَكَانَ بِبَطْنِ نَخْلَةَ، فَلَمَّا مَاتَ عَبَدُوهُ، وَهُوَ اللَّاتُّ (9) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ رَجُلًا مِنْ ثَقِيفٍ يُقَالُ لَهُ صِرْمَةُ بْنُ غَنْمٍ، وَكَانَ يَسْلَأُ السَّمْنَ فَيَضَعُهَا عَلَى صَخْرَةٍ ثُمَّ تَأْتِيهِ الْعَرَبُ فَتَلُتُّ بِهِ أَسْوِقَتَهُمْ، فَلَمَّا مَاتَ الرَّجُلُ حَوَّلَتْهَا ثَقِيفُ إِلَى مَنَازِلِهَا فَعَبَدَتْهَا، فَسِدْرَةُ الطَّائِفِ عَلَى مَوْضِعِ اللَّاتِ.
وَأَمَّا "الْعُزَّى": قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ شَجَرَةٌ بِغَطَفَانَ كَانُوا يَعْبُدُونَهَا، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ فَقَطَعَهَا فَجَعَلَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَضْرِبُهَا بِالْفَأْسِ وَيَقُولُ:
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أخرجه مسلم في الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى برقم: (174) : 1 / 158.
(3) ساقط من "أ".
(4) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة النجم، باب: (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) 8 / 611.
(5) ساقط من "أ".
(6) ذكر هذين القولين الطبري: 27 / 58-59.
(7) أخرج البخاري في التفسير - تفسير سورة النجم، باب: (أفرأيتم اللات والعزى) : 8 / 611 المقطع الأول (كان اللات رجلا يلت سويق الحاج) .
(8) الرسل: اللبن.
(9) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 653 لسعيد بن منصور والفاكهي.(7/407)
وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20)
يَا عِزُّ كُفْرَانَكَ لَا سُبْحَانَكْ
إِنِّي رَأَيْتُ اللَّهَ قَدْ أَهَانَكْ
فَخَرَجَتْ مِنْهَا شَيْطَانَةٌ نَاشِرَةً شَعْرَهَا دَاعِيَةً وَيْلَهَا وَاضِعَةً يَدَهَا عَلَى رَأْسِهَا.
وَيُقَالُ: إِنْ خَالِدًا رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَدْ قَلَعْتُهَا، فَقَالَ: مَا رَأَيْتَ؟ قَالَ: مَا رَأَيْتُ شَيْئًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا قَلَعْتَ، فَعَاوِدْهَا فَعَادَ إِلَيْهَا وَمَعَهُ الْمِعْوَلُ فَقَلَعَهَا وَاجْتَثَّ أَصْلَهَا فَخَرَجَتْ مِنْهَا امْرَأَةٌ عُرْيَانَةٌ، فَقَتَلَهَا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ: "تِلْكَ الْعُزَّى وَلَنْ تُعْبَدَ أَبَدًا" (1) .
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ صَنَمٌ لِغَطَفَانَ وَضَعَهَا لَهُمْ سَعْدُ بْنُ ظَالِمٍ الْغَطَفَانِيُّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ قَدِمَ مَكَّةَ فَرَأَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ، وَرَأَى أَهْلَ مَكَّةَ يَطُوفُونَ بَيْنَهُمَا، فَعَادَ إِلَى بَطْنِ نَخْلَةَ، وَقَالَ لِقَوْمِهِ: إِنَّ لِأَهْلِ مَكَّةَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةُ وَلَيْسَتَا لَكُمْ، وَلَهُمْ إِلَهٌ يَعْبُدُونَهُ وَلَيْسَ لَكُمْ، قَالُوا: فَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: أَنَا أَصْنَعُ لَكُمْ كَذَلِكَ، فَأَخَذَ حَجَرًا مِنْ الصَّفَا وَحَجَرًا مِنْ الْمَرْوَةِ وَنَقْلَهُمَا إِلَى نَخْلَةَ، فَوَضْعَ الَّذِي أَخَذَ مِنَ الصَّفَا، فَقَالَ: هَذَا الصَّفَا، ثُمَّ وَضَعَ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَ الْمَرْوَةِ، فَقَالَ: هَذِهِ الْمَرْوَةُ، ثُمَّ أَخَذَ ثَلَاثَةَ أَحْجَارٍ فَأَسْنَدَهَا إِلَى شَجَرَةٍ، فَقَالَ: هَذَا رَبُّكُمْ، فَجَعَلُوا يَطُوفُونَ بَيْنَ الْحَجَرَيْنِ وَيَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ، حَتَّى افْتَتَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ، فَأَمَرَ بِرَفْعِ الْحِجَارَةِ، وَبَعْثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى الْعُزَّى فَقَطَعَهَا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ بَيْتٌ بِالطَّائِفِ كَانَتْ تَعْبُدُهُ ثَقِيفٌ.
{وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) }
{وَمَنَاةَ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِالْقَصْرِ غَيْرِ مَهْمُوزٍ، لِأَنَّ الْعَرَبَ سَمَّتْ زَيْدَ مَنَاةَ وَعَبْدَ مَنَاةَ، وَلَمْ يُسْمَعْ فِيهَا الْمَدُّ. قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ لِخُزَاعَةَ كَانَتْ بِقُدَيْدٍ، قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فِي الْأَنْصَارِ: كَانُوا يُهِلُّونَ لِمَنَاةَ، وَكَانَتْ حَذْوَ قُدَيْدٍ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: بَيْتٌ كَانَ بِالْمُشَلَّلِ يَعْبُدُهُ بْنُو كَعْبٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: مَنَاةُ صَنَمٌ لِهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ يَعْبُدُهَا أَهْلُ مَكَّةَ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ: أَصْنَامٌ مِنْ حِجَارَةٍ كَانَتْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَعْبُدُونَهَا (2) .
وَاخْتَلَفَ الْقُرَّاءُ فِي الْوَقْفِ عَلَى اللَّاتِ وَمَنَاةَ: فَوَقَفَ بَعْضُهُمْ عَلَيْهِمَا بِالْهَاءِ وَبَعْضُهُمْ بِالتَّاءِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ بِالتَّاءِ يُوقَفُ عَلَيْهِ بِالتَّاءِ، وَمَا كَتَبَ بِالْهَاءِ فَيُوقَفُ عَلَيْهِ بِالْهَاءِ.
__________
(1) عزاه صاحب الفتح السماوي: 3 / 907 لابن مردويه.
(2) ذكر بعض هذه الأقوال: الطبري"27 / 59-60، البحر المحيط: 8 / 161، زاد المسير: 8 / 72، ثم قال صاحب البحر المحيط: 8 / 161 بعد أن ذكر ما قيل في مواضع هذه الأصنام: "هذا اضطراب كثير في هذه الأوثان ومواضعها والذي يظهر أنها كانت ثلاثتها في الكعبة لأن المخاطب بذلك في قوله (أفرأيتم) هم قريش".(7/408)
أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23)
وَأُمًّا قَوْلُهُ: {الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [فَالثَّالِثَةُ] (1) نَعْتٌ لِمَنَاةَ، أَيِ: الثَّالِثَةَ لِلصَّنَمَيْنِ فِي الذِّكْرِ، وَأَمَّا الْأُخْرَى فَإِنَّ الْعَرَبَ لَا تَقُولُ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى، إِنَّمَا الْأُخْرَى هَاهُنَا نَعْتٌ لِلثَّانِيَةِ. قَالَ الْخَلِيلُ: فالياء لوفاق رؤوس الْآيِ، كَقَوْلِهِ: "مَآرِبُ أُخْرَى" (طه-18) وَلَمْ يَقُلْ: أُخَرُ. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهَا: أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى الْأُخْرَى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: "أَفَرَأَيْتُمْ": أَخْبِرُونَا يَا أَيُّهَا الزَّاعِمُونَ أَنَّ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ بَنَاتُ اللَّهِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِمَكَّةَ يَقُولُونَ: الْأَصْنَامُ وَالْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ إِذَا بُشِّرَ بِالْأُنْثَى كَرِهَ ذَلِكَ.
{أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) }
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ: أَيْ قِسْمَةٌ جَائِرَةٌ حَيْثُ جَعَلْتُمْ لِرَبِّكُمْ مَا تَكْرَهُونَ لِأَنْفُسِكُمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: قِسْمَةٌ عَوْجَاءُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: غَيْرُ مُعْتَدِلَةٍ.
قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "ضِئْزَى" بِالْهَمْزِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِغَيْرِ هَمْزٍ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: يُقَالُ مِنْهُ ضَازَ يَضِيزُ ضَيْزًا، وَضَازَ يَضُوزُ ضَوْزًا، وَضَازَ يُضَازُ ضَازًا إِذَا ظَلَمَ وَنَقَصَ، وَتَقْدِيرُ ضِيزَى مِنَ الْكَلَامِ فُعْلَى بِضَمِّ الْفَاءِ، لِأَنَّهَا صِفَةٌ وَالصِّفَاتُ لَا تَكُونُ إِلَّا عَلَى فُعْلَى بِضَمِّ الْفَاءِ، نَحْوَ حُبْلَى وَأُنْثَى وَبُشْرَى، أَوْ فَعْلَى بِفَتْحِ الْفَاءِ، نَحْوَ غَضْبَى وَسَكْرَى وَعَطْشَى، وَلَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فِعْلَى بِكَسْرِ الْفَاءِ فِي النُّعُوتِ، إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْأَسْمَاءِ، مِثْلُ: ذِكْرَى وَشِعْرَى، وَكَسْرِ الضَّادِ هَاهُنَا لِئَلَّا تَنْقَلِبَ الْيَاءُ وَاوًا وَهِيَ مِنْ بَنَاتِ الْيَاءِ كَمَا قَالُوا فِي جَمْعِ أَبْيَضَ بِيضٌ، وَالْأَصْلُ بُوضٌ مِثْلُ حُمْرٌ وَصُفْرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: ضَازَ يَضُوزُ فَالِاسْمُ مِنْهُ ضُوزَى مِثْلَ شُورَى.
{إِنْ هِيَ} مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ {إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} حُجَّةً بِمَا تَقُولُونَ إِنَّهَا آلِهَةً. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْخَبَرِ بَعْدَ الْمُخَاطَبَةِ فَقَالَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهَا آلِهَةً {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} وَمَا زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} الْبَيَانُ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِآلِهَةٍ، فَإِنَّ الْعِبَادَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
__________
(1) زيادة من "ب".(7/409)
أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26) }(7/410)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30) }
{أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} أَيُظَنُّ الْكَافِرُ أَنَّ لَهُ مَا يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي مِنْ شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ؟
{فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} لَيْسَ كَمَا ظَنَّ الْكَافِرُ وَتَمَنَّى، بَلْ لِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأَوْلَى، لَا يَمْلِكَ أَحَدٌ فِيهِمَا شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِهِ.
{وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} يَعْبُدُهُمْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ وَيَرْجُونَ شَفَاعَتَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ {لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} فِي الشَّفَاعَةِ {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} أَيْ: مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ لَا تَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا لِمَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَجَمَعَ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ: "شَفَاعَتُهُمْ" وَالْمَلَكُ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: "وَكَمْ من ملك" 144/أالْكَثْرَةُ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: "فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ" (الْحَاقَّةِ-47) .
{إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} أَيْ: بِتَسْمِيَةِ الْأُنْثَى حِينَ قَالُوا: إِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.
{وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} قَالَ مُقَاتِلٌ: [مَعْنَاهُ] (1) مَا يَسْتَيْقِنُونَ أَنَّهُمْ [بَنَاتُ اللَّهُ] (2) {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} "وَالْحَقُّ" بِمَعْنَى الْعِلْمِ، أَيْ: لَا يَقُومُ الظَّنُّ مَقَامَ الْعِلْمِ. وَقِيلَ: "الْحَقُّ" بِمَعْنَى الْعَذَابِ، [أَيْ: أَظُنُّهُمْ لَا يُنْقِذُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ شَيْءٌ] (3) .
{فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} يَعْنِي الْقُرْآنَ. وَقِيلَ: الْإِيمَانُ {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا.} .
ثُمَّ صَغَّرَ رَأْيَهُمْ فَقَالَ: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أَيْ: ذَلِكَ نِهَايَةُ عِلْمِهِمْ وَقَدْرُ عُقُولِهِمْ أَنْ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) في "ب" إناث.
(3) في "ب": (إن ظنهم لا ينقذهم من العذاب) .(7/410)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
آثَرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: لَمْ يَبْلُغُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا ظَنَّهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ، فَاعْتَمَدُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} أَيْ: هُوَ عَالِمٌ بِالْفَرِيقَيْنِ فَيُجَازِيهِمْ.
{وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) }
{وَلِلَّهِ ما في السموات وما فِي الْأَرْضِ} وَهَذَا مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: "لِيَجْزِيَ" مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَعْلَمَ بِهِمْ جَازَى كُلًّا بِمَا يستحقه، الذين أساؤوا وَأَشْرَكُوا: بِمَا عَمِلُوا مِنَ الشِّرْكِ {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} وَحَّدُوا رَبَّهُمْ: "بِالْحُسْنَى" بِالْجَنَّةِ. وَإِنَّمَا يُقَدَّرُ عَلَى مُجَازَاةِ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْمُلْكِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: "وَلِلَّهِ ما في السموات وما فِي الْأَرْضِ".
ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ، وَاللَّمَمُ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِلَّا أَنْ يُلِمَّ بِالْفَاحِشَةِ مَرَّةً ثُمَّ يَتُوبُ، وَيَقَعُ الْوَقْعَةَ ثُمَّ يَنْتَهِي وَهُوَ قَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ [وَمُجَاهِدٍ، وَالْحَسَنِ] (1) ، وَرِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) .
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ: اللَّمَمُ مَا دُونُ الشِّرْكَ (3) .
وَقَالَ السُّدِّيُّ قَالَ أَبُو صَالِحٍ: سُئِلْتُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "إِلَّا اللَّمَمَ"، فَقُلْتُ: هُوَ الرَّجُلُ يُلِمُّ بِالذَّنْبِ ثُمَّ لَا يُعَاوِدُهُ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِابْنِ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَقَدْ أَعَانَكَ عَلَيْهَا مَلَكٌ كَرِيمٌ (4) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) انظر: ابن كثير: 4 / 257، القرطبي: 17 / 107، زاد المسير: 8 / 76.
(3) أخرجه الطبري: 27 / 67، وذكره القرطبي: 17 / 108.
(4) أخرجه عبد بن حميد انظر: ابن كثير: 4 / 257.(7/411)
وَرُوِّينَا عَنْ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: "إِلَّا اللَّمَمَ"، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا" (1) .
وَأَصْلُ "اللَّمَمِ وَالْإِلْمَامِ": مَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ، وَلَا يَكُونُ إِعَادَةً، وَلَا إِقَامَةً.
وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، مَجَازُهُ: لَكِنِ اللَّمَمَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا اللَّمَمَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا يُؤَاخِذُهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: إِنَّهُمْ كَانُوا بِالْأَمْسِ يَعْمَلُونَ مَعَنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَهَذَا قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ (2) .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صِغَارُ الذُّنُوبِ كَالنَّظْرَةِ وَالْغَمْزَةِ وَالْقُبْلَةِ وَمَا كَانَ دُونَ الزِّنَا، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَأَبِي هُرَيْرَةَ، وَمَسْرُوقٍ، والشعبي، ورواية طاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عن ابن طاووس عَنِ أَبِيهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا رَأَيْتُ أَشْبَهَ بِاللَّمَمِ مِمَّا قَالَهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَى ابْنِ آدَمَ حَظَّهُ مِنَ الزِّنَا أَدْرَكَ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ، فَزِنَا الْعَيْنِ النَّظَرُ، وَزِنَا اللِّسَانِ النُّطْقُ، وَالنَّفْسُ تَتَمَنَّى وَتَشْتَهِي، وَالْفَرْجُ يُصَدِّقُ ذَلِكَ وَيُكَذِّبُهُ" (4) .
وَرَوَاهُ سُهَيْلُ بْنُ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَزَادَ: "الْعَيْنَانِ زِنَاهُمَا النَّظَرُ، وَالْأُذُنَانِ زِنَاهُمَا الِاسْتِمَاعُ، وَاللِّسَانُ زِنَاهُ الْكَلَامُ، وَالْيَدُ [زِنَاهَا] (5) الْبَطْشُ، وَالرِّجْلُ زِنَاهَا الْخُطَى" (6) .
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير - تفسير سورة والنجم: 9 / 172 وقال: "هذا حديث حسن صحيح غريب لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق"، والطبري: 27 / 66، والحاكم: 2 / 469-470 وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه"، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 656 أيضًا لسعيد بن منصور، والبيهقي في الشعب، والبزار وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. والبيت لأمية بن أبي الصلت.
(2) ذكره الطبري: 27 / 64 عن ابن زيد، وذكر عن زيد بن أسلم: 27 / 65 قوله: "كبائر الشرك والفواحش: والزنى، تركوا ذلك حين دخلوا في الإسلام، فغفر الله لهم ما كانوا ألموا به وأصابوا من ذلك قبل الإسلام". وانظر: ابن كثير: 4 / 257، البحر المحيط: 8 / 164، القرطبي: 17 / 108.
(3) انظر: زاد المسير: 8 / 76.
(4) أخرجه البخاري في الاستئذان، باب زنا الجوارح دون الفرج: 11 / 26، ومسلم في القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره برقم: (2657) : 4 / 2046 والمصنف في شرح السنة: 1 / 136-137.
(5) ساقط من "ب".
(6) أخرجه مسلم في القدر، باب قدر على ابن آدم حظه من الزنا وغيره، برقم: (2657) : 4 / 2047.(7/412)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33)
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: "اللَّمَمُ" عَلَى وَجْهَيْنِ: كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا وَلَا عَذَابًا فِي الْآخِرَةِ، فَذَلِكَ الَّذِي تُكَفِّرُهُ الصَّلَوَاتُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ (1) ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ: الذَّنْبُ الْعَظِيمُ يُلِمُّ بِهِ الْمُسْلِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ فَيَتُوبُ مِنْهُ (2) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: هُوَ مَا لَمَّ عَلَى الْقَلْبِ أَيْ خَطَرَ (3) .
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: "اللَّمَمُ" النَّظْرَةُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ، فَهُوَ مَغْفُورٌ، فَإِنْ أَعَادَ النَّظْرَةَ فَلَيْسَ بِلَمَمٍ وَهُوَ ذَنْبٌ (4) .
{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَابَ، تَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا، ثُمَّ قَالَ: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أَيْ خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنَ التُّرَابِ {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ} جَمْعُ جَنِينٍ، سُمِّيَ جَنِينًا لِاجْتِنَانِهِ فِي الْبَطْنِ {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَمْدَحُوهَا. قَالَ الْحَسَنُ: عَلِمَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ نَفْسٍ مَا هِيَ صَانِعَةٌ وَإِلَى مَا هِيَ صَائِرَةٌ، فَلَا تُزَكُّوا أنفسكم، لا تبرؤوها عَنِ الْآثَامِ، وَلَا تَمْدَحُوهَا بِحُسْنِ أَعْمَالِهَا (5) .
قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ النَّاسُ يَعْمَلُونَ أَعْمَالًا حَسَنَةً ثُمَّ يَقُولُونَ: صَلَاتُنَا وَصِيَامُنَا وَحَجُّنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ (6) {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} أَيْ: بَرَّ وَأَطَاعَ وَأَخْلَصَ الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، كَانَ قَدِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِينِهِ فَعَيَّرَهُ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ وَقَالَ لَهُ: أَتَرَكْتَ دِينَ الْأَشْيَاخِ وَضَلَلْتَهُمْ؟ قَالَ: إِنِّي خَشِيتُ عَذَابَ اللَّهِ، فَضَمِنَ الَّذِي عَاتَبَهُ إِنْ هُوَ [وَافَقَهُ] (7) أَعْطَاهُ كَذَا مِنْ مَالِهِ وَرَجَعَ إِلَى شِرْكِهِ أَنْ يَتَحَمَّلَ
__________
(1) ذكره صاحب البحر المحيط: 8 / 164، وانظر: الطبري: 27 / 68، جزء تفسير القرآن ليحيى بن يمان ونافع ومسلم بن خالد الزنجي ص (61) .
(2) ذكره القرطبي: 17 / 108.
(3) انظر: القرطبي: 17 / 108، زاد المسير: 8 / 76.
(4) انظر: زاد المسير: 8 / 76.
(5) ذكره القرطبي: 17 / 110، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 658 لابن أبي شيبة.
(6) انظر زاد المسير: 8 / 77.
(7) ساقط من "أ".(7/413)
وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)
عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ، فَرَجَعَ الْوَلِيدُ إِلَى الشِّرْكِ وَأَعْطَى الَّذِي عَيَّرَهُ بَعْضَ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي ضَمِنَ وَمَنْعَهُ تَمَامَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (1) "أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى" أَدْبَرَ عَنِ الْإِيمَانِ.
{وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) }
{وَأَعْطَى} صَاحِبَهُ {قَلِيلًا وَأَكْدَى} بَخِلَ بِالْبَاقِي.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: "أَعْطَى" يَعْنِي الْوَلِيدَ "قَلِيلًا" مِنَ الْخَيْرِ بِلِسَانِهِ، ثُمَّ "أَكْدَى": يَعْنِي قَطَعَهُ وَأَمْسَكَ وَلَمْ يَقُمْ عَلَى الْعَطِيَّةِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ السَّهْمِيِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ رُبَّمَا يُوَافِقُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ (2) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بن كعب 144/ب الْقُرَظِيُّ نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ وَذَلِكَ أَنَّهُ قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَأْمُرُنَا مُحَمَّدٌ إِلَّا بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ (3) ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى" أَيْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ، وَمَعْنَى "أَكْدَى": يَعْنِي قَطَعَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْكُدْيَةِ، وَهِيَ حَجَرٌ يَظْهَرُ فِي الْبِئْرِ يَمْنَعُ مِنَ الْحَفْرِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَكْدَى الْحَافِرَ وَأَجْبَلَ، إِذَا بَلَغَ فِي الْحَفْرِ الْكُدْيَةَ وَالْجَبَلَ.
{أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} مَا غَابَ عَنْهُ وَيَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَذَابَهُ.
{أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ} لَمْ يُخْبَرْ {بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} يَعْنِي: أَسْفَارَ التَّوْرَاةِ.
{وَإِبْرَاهِيمَ} فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {الَّذِي وَفَّى} تَمَّمَ وَأَكْمَلَ مَا أُمِرَ بِهِ.
قَالَ الْحَسَنُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وقَتَادَةُ: عَمِلَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَبَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ إِلَى خَلْقِهِ (4)
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَفَّى بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ (5) .
__________
(1) ذكره الطبري: 27 / 70، الواحدي في أسباب النزول صفحة: (461) ، القرطبي: 17 / 111.
(2) ذكره صاحب البحر المحيط: 8 / 166، القرطبي: 17 / 111-112، زاد المسير: 8 / 78.
(3) في المواضع السابقة.
(4) ذكره الطبري: 27 / 72. وانظر: ابن كثير:4 / 258، البحر المحيط: 8 / 167، القرطبي: 17 / 113.
(5) أخرجه الطبري: 27 / 73. وانظر: الدر المنثور: 7 / 660، زاد المسير: 8 / 80.(7/414)
أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38)
قَالَ الرَّبِيعُ: وَفَّى رُؤْيَاهُ وَقَامَ بِذَبْحِ ابْنِهِ (1) .
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: اسْتَكْمَلَ الطَّاعَةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: وَفَّى سِهَامَ الْإِسْلَامِ. وَهُوَ قَوْلُهُ: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ"، (الْبَقَرَةِ-124) وَالتَّوْفِيَةُ الْإِتْمَامُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَفَّى مِيثَاقِ الْمَنَاسِكِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْخَيْرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الزُّهْرِيُّ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنْ إِسْرَائِيلَ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى [صَلَّى] (2) أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوَّلَ النَّهَارِ" (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجِرَاحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مِسْهَرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَيَّاشٍ عَنْ بُحَيْرِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ خَالِدِ بْنِ مَعْدَانَ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ وَأَبِي ذَرٍّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قَالَ: "ابْنَ آدَمَ ارْكَعْ لِي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ أَكْفِكَ آخِرَهُ" (4) .
{أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) }
ثُمَّ بَيَّنَ مَا فِي صُحُفِهِمَا فَقَالَ: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أَيْ: لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةٌ حِمْلَ أُخْرَى، وَمَعْنَاهُ: لَا تُؤْخَذُ نَفْسٌ بِإِثْمِ غَيْرِهَا. وَفِي هَذَا إِبْطَالُ قَوْلِ مَنْ ضَمِنَ لِلْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ بِأَنَّهُ يَحْمِلُ عَنْهُ الْإِثْمَ.
__________
(1) ذكره صاحب البحر المحيط: 8 / 167.
(2) ساقط من "ب".
(3) أخرجه الطبري: 27 / 73، قال ابن كثير:4 / 259 "رواه ابن جرير من حديث جعفر بن الزبير وهو ضعيف". وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 660 أيضا لسعيد بن منصور وعبد بن حميد.
(4) أخرجه الترمذي في الوتر، باب ما جاء في صلاة الضحى: 2 / 585، قال أبو عيسى: "هذا حديث غريب"، وأخرجه أبو داود في التطوع: 2 / 85 عن نعيم بن همار، قال المنذري: "أخرجه الترمذي من حديث أبي الدرداء وأبي ذر، وقال حسن غريب، هذا آخر كلامه، وفي إسناده إسماعيل بن عياش وفيه مقال، ومن الأئمة من يصحح حديثه عن الشاميين، وهذا الحديث شامي الإسناد وحديث نعيم بن همار: قد اختلف الرواة فيه اختلافًا كثيرًا، وقد جمعت طرقه في جزء مفرد". وعلم من كلام المنذري هذا أن في نسخة الترمذي التي كانت عنده كان فيها: "هذا حديث حسن غريب". انظر: تحفة الأحوذي: 2 / 585-586. وأخرجه الإمام أحمد: 5 / 286 عن نعيم بن همار الغطفاني.(7/415)
وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39)
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا قَبْلَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْخُذُونَ الرَّجُلَ بِذَنْبِ غَيْرِهِ، كَانَ الرَّجُلُ يُقْتَلُ بِقَتْلِ أَبِيهِ وَابْنِهِ وَأَخِيهِ وَامْرَأَتِهِ وَعَبْدِهِ، حَتَّى كَانَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَنَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَبَلَّغَهُمْ عَنِ اللَّهِ: "أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى".
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) }
{وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} أَيْ: عَمِلَ، كَقَوْلِهِ: "إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى"، (اللَّيْلِ-4) وَهَذَا أَيْضًا فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا مَنْسُوخُ الْحُكْمِ فِي هَذِهِ الشَّرِيعَةِ، بِقَوْلِهِ: "أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ"، (الطُّورِ-21) فَأَدْخَلَ الْأَبْنَاءَ الْجَنَّةَ بِصَلَاحِ الْآبَاءِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَانَ ذَلِكَ لِقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى، فَأَمَّا هَذِهِ الْأُمَّةُ فَلَهُمْ مَا سَعَوْا وَمَا سَعَى لَهُمْ غَيْرُهُمْ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً رَفَعَتْ صَبِيًّا لَهَا فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: "نَعَمْ وَلَكِ أَجْرٌ" (1) .
وَقَالَ رَجُلٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ" (2) .
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: "وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى" يَعْنِي الْكَافِرَ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَلَهُ مَا سَعَى وَمَا سُعِيَ لَهُ (3) .
وَقِيلَ: لَيْسَ لِلْكَافِرِ مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا مَا عَمِلَ هُوَ، فَيُثَابُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا حَتَّى لَا يَبْقَى لَهُ فِي الْآخِرَةِ خَيْرٌ
__________
(1) أخرجه مسلم في الحج، باب صحة حج الصبي وأجر من حج به، برقم: (1336) : 2 / 974.
(2) أخرجه البخاري في الجنائز، باب موت الفجأة: 3 / 254، ومسلم في الزكاة، باب وصول ثواب الصدقة عن الميت إليه، برقم: (1004) : 2 / 696، والمصنف في شرح السنة: 6 / 199.
(3) انظر: البحر المحيط: 8 / 168، القرطبي:17 / 114.(7/416)
وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42)
وَيُرْوَى أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ كَانَ أَعْطَى الْعَبَّاسَ قَمِيصًا أَلْبَسَهُ إِيَّاهُ، فَلَمَّا مَاتَ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ لِيُكَفِّنَهُ فِيهِ، فَلَمْ يَبْقَ لَهُ حَسَنَةٌ فِي الْآخِرَةِ يُثَابُ عَلَيْهَا (1) .
{وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41) وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) }
{وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، [مَأْخُوذَةٌ] (2) مِنْ: أَرَيْتُهُ الشَّيْءَ.
{ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} الْأَكْمَلَ وَالْأَتَمَّ أَيْ: يُجْزَى الْإِنْسَانُ بِسَعْيهِ، يُقَالُ: جَزَيْتُ فُلَانًا سَعْيَهُ وَبِسَعْيِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ: إِنْ أَجْزِ عَلْقَمَةَ بْنَ سَعْدٍ سَعْيَهُ
لَمْ أَجْزِهِ بِبَلَاءِ يَوْمٍ وَاحِدِ
فَجَمَعَ بَيْنَ اللُّغَتَيْنِ.
{وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} أَيْ: مُنْتَهَى الْخَلْقِ وَمَصِيرُهُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: مِنْهُ ابْتِدَاءُ الْمِنَّةِ وَإِلَيْهِ انْتِهَاءُ الْآمَالِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشَّرِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الشَّيْبَانِيُّ (3) أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ الْفَتْحِ الْحَنْبَلِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمِصْرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ ابن مَنْصُورٍ الصَّعْدِيُّ (4) ، أَخْبَرَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ زُفَرَ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الرَّازِيِّ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ، عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى"، قَالَ: "لَا فِكْرَةَ فِي الرَّبِّ" (5) ، وَهَذَا مِثْلُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: "تَفَكَّرُوا فِي الْخَلْقِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الْخَالِقِ" (6) فَإِنَّهُ لَا تُحِيطُ بِهِ الْفِكْرَةُ.
__________
(1) راجع فيما سبق: 4 / 82.
(2) ساقط من "ب".
(3) في "ب": السفياني، أخبرنا محمد بن سيماء بن الفتح.
(4) في "ب": إسحاق بن منصور الصفدي.
(5) عزاه السيوطي في الدر المنثور: (7 / 662) والمتقي في كنز العمال: (3 / 369) للدارقطني في الأفراد وذكره القرطبي: 17 / 115.
(6) أخرجه ابن النجار في " ذيل تاريخ بغداد" عن أبي هريرة، بإسناد ضعيف جدًّا، وبنحوه عن ابن عباس أخرجه: أبو الشيخ في "العظمة" وأبو نعيم في "الحلية"، والبيهقي في "الأسماء والصفات". وأخرجه أيضًا الهروي في "الأربعين" والأصبهاني في "الترغيب والترهيب" وطرقه كلها ضعيفة. وحسنه الألباني فقال في "الصحيحة" (4 / 397) : "وبالجملة فالحديث بمجموع طرقه حسن عندي. والله أعلم": وانظر: كشف الخفاء: 1 / 371-372، تمييز الطيب من الخبيث ص (68) ، فيض القدير للمناوي: 3 / 362. ضعيف الجامع الصغير برقم (2470) ، دلائل التوحيد للشيخ محمد جمال الدين القاسمي ص (90) .(7/417)
وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44)
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) }(7/418)
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47)
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) }
{وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ فَبِقَضَائِهِ وَخَلْقِهِ حَتَّى الضَّحِكُ وَالْبُكَاءُ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: أَضْحَكَ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبْكَى أَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَضْحَكَ الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ، وَأَبْكَى السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ.
قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ: يَعْنِي أَفْرَحُ وَأَحْزَنُ، لِأَنَّ الْفَرَحَ يَجْلِبُ الضَّحِكَ، وَالْحُزْنَ يَجْلِبُ الْبُكَاءَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا قَيْسٌ، هُوَ ابْنُ الرَّبِيعِ الْأَسَدِيُّ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ: قُلْتُ لِجَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ: أَكَنْتَ تُجَالِسُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَكَانَ أَصْحَابُهُ يَجْلِسُونَ وَيَتَنَاشَدُونَ الشِّعْرَ، وَيَذْكُرُونَ أَشْيَاءَ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، فَيَضْحَكُونَ وَيَتَبَسَّمُ مَعَهُمْ إِذَا ضَحِكُوا (1) -يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
وَقَالَ مَعْمَرٌ عَنْ قَتَادَةَ: سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ هَلْ كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَضْحَكُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ أَعْظَمُ مِنَ الْجَبَلِ (2) .
{وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أَيْ: أَمَاتَ فِي الدُّنْيَا وَأَحْيَا لِلْبَعْثِ. وَقِيلَ: أَمَاتَ الْآبَاءَ وَأَحْيَا الْأَبْنَاءَ. وَقِيلَ: أَمَاتَ الْكَافِرَ بِالنَّكِرَةِ وَأَحْيَا الْمُؤْمِنَ بِالْمَعْرِفَةِ.
{وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ.
{مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} أَيْ: تُصَبُّ فِي الرَّحِمِ، يُقَالُ: مَنَى الرَّجُلُ وَأَمْنَى. قَالَهُ الضَّحَّاكُ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ. وَقَالَ آخَرُونَ: تُقَدَّرُ، يُقَالُ: مَنَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرْتُهُ.
{وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} أَيِ: الْخَلْقَ الثَّانِي لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في الآداب، باب ما جاء في إنشاد الشعر: 8 / 142-143 وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والإمام أحمد: 5 / 91. وأخرجه مسلم في الفضائل، باب تبسمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحسن عشرته برقم: (2322) : 4 / 1810 بلفظ: "أكنت تجالس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: نعم. كثيرًا. كان لا يقوم من مصلاه الذي يصلي فيه الصبح حتى تطلع الشمس. فإذا طلعت قام. وكانوا يتحدثون فيأخذون في أمر الجاهلية فيضحكون ويتبسم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
(2) أخرجه عبد الرزاق في "المصنف": 11 / 451.(7/418)
وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50)
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) }
{وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} قَالَ أَبُو صَالِحٍ: أَغْنَى النَّاسَ بِالْأَمْوَالِ وَأَقْنَى أَيْ: أَعْطَى الْقِنْيَةَ وَأُصُولَ الْأَمْوَالِ وَمَا يَدَّخِرُونَهُ بَعْدَ الْكِفَايَةِ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: أَغْنَى بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَصُنُوفِ الْأَمْوَالِ، وَأَقْنَى بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ.
وَقَالَ قتادة والحسن: 145/أ "أَقْنَى": أَخْدَمَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "أَغْنَى وَأَقْنَى": أَعْطَى فَأَرْضَى.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: "أَقْنَى": أَرْضَى بِمَا أَعْطَى وَقَنَعَ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: "أَغْنَى": أَكْثَرَ "وَأَقْنَى": أَقَلَّ وَقَرَأَ: "يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ"، (الْإِسْرَاءِ-30) وَقَالَ الْأَخْفَشُ: "أَقْنَى": أَفْقَرَ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَوْلَدَ.
{وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} وَهُوَ كَوْكَبٌ خَلْفَ الْجَوْزَاءِ وَهُمَا شِعْرِيَّانِ، يُقَالُ لِإِحْدَاهُمَا الْعَبُورُ وَلِلْأُخْرَى الْغُمَيْصَاءُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا أَخْفَى مِنَ الْأُخْرَى، وَالْمَجَرَّةُ بَيْنَهُمَا. وَأَرَادَ هَاهُنَا الشِّعْرَى الْعَبُورُ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ تَعْبُدُهَا، وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّ لَهُمْ ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ يُقَالُ لَهُ أَبُو كَبْشَةَ عَبَدَهَا، وَقَالَ: لِأَنَّ النُّجُومَ تَقْطَعُ السَّمَاءَ عَرْضًا وَالشِّعْرَى طُولًا فَهِيَ مُخَالِفَةٌ لَهَا، فَعَبَدَتْهَا خُزَاعَةُ، فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِلَافِ الْعَرَبِ فِي الدِّينِ سَمَّوْهُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ لِخِلَافِهِ إِيَّاهُمْ، كَخِلَافِ أَبِي كَبْشَةِ فِي عِبَادَةِ الشِّعْرَى (1) .
{وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ بِلَامٍ مُشَدَّدَةٍ بَعْدَ الدَّالِّ، وَيَهْمِزُ وَاوَهُ قَالُونُ عَنْ نَافِعٍ، وَالْعَرَبُ تَفْعَلُ ذَلِكَ فَتَقُولُ: قُمْ لَانَ عَنَّا، تُرِيدُ: قُمِ الْآنَ، وَيَكُونُ الْوَقْفُ عِنْدَ "عَادًا"، وَالِابْتِدَاءُ "أولى"، بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ مَفْتُوحَةٍ بَعْدَهَا لَامٌ مَضْمُومَةٌ، [وَيَجُوزُ الِابْتِدَاءُ: لُولَى] (2) بِحَذْفِ الْهَمْزَةِ الْمَفْتُوحَةِ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "عَادًا الْأُولَى"، وَهُمْ قَوْمُ هُودٍ أُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ، فَكَانَ لَهُمْ عَقِبٌ، فَكَانُوا عَادًا الْأُخْرَى.
__________
(1) قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف صفحة (161) بعد أن ساق هذه الرواية: "وكانت قريش تقول لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أبو كبشة تشبيهًا له برجل من أشرافهم يقال له أبو كبشة": هذا وهم، والمعروف أنهم كانوا يقولون له: ابن أبي كبشة كما في حديث أبي سفيان الطويل في الصحيحين حيث قال: "لقد أمر أمر ابن أبي كبشة أن يخافه ملك بني الأصفر يعني هرقل".
(2) في "ب" ويجوز ابتداء أولى.(7/419)
وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60)
{وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55) هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) }
{وَثَمُودَ} قَوْمُ صَالِحٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالصَّيْحَةِ {فَمَا أَبْقَى} مِنْهُمْ أَحَدًا.
{وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} أَيْ: أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلِ عَادٍ وَثَمُودَ {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} لِطُولِ دَعْوَةِ نُوحٍ إِيَّاهُمْ وَعُتُوِّهُمْ عَلَى اللَّهِ بِالْمَعْصِيَةِ وَالتَّكْذِيبِ.
{وَالْمُؤْتَفِكَةَ} قُرَى قَوْمِ لُوطٍ {أَهْوَى} أَسْقَطَ أَيْ: أَهْوَاهَا جِبْرِيلُ بَعْدَمَا رَفَعَهَا إِلَى السَّمَاءِ.
{فَغَشَّاهَا} أَلْبَسَهَا اللَّهُ {مَا غَشَّى} يَعْنِي: الْحِجَارَةَ الْمَنْضُودَةَ الْمُسَوَّمَةَ.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ} نِعَمِ رَبِّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةَ {تَتَمَارَى} تَشُكُّ وَتُجَادِلُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكْذِبُ.
{هَذَا نَذِيرٌ} يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} أَيْ: رَسُولٌ مِنَ الرُّسُلِ إِلَيْكُمْ كَمَا أُرْسِلُوا إِلَى أَقْوَامِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ: أَنْذَرَ مُحَمَّدٌ كَمَا أَنْذَرَ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ.
{أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} دَنَتِ الْقِيَامَةُ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ.
{لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} أَيْ: مُظْهِرَةٌ مُقِيمَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ"، (الْأَعْرَافِ-187) وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ: نَفْسٌ كَاشِفَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْكَاشِفَةُ مَصْدَرًا كَالْخَافِيَةِ وَالْعَافِيَةِ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفٌ أَيْ: لَا يَكْشِفُ عَنْهَا وَلَا يُظْهِرُهَا غَيْرُهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: لَيْسَ لَهَا رَادٌّ يَعْنِي: إِذَا غَشِيَتِ الْخَلْقَ أَهْوَالُهَا وَشَدَائِدُهَا لَمْ يَكْشِفْهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا عَنْهُمْ أَحَدٌ، وَهَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَقَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ.
{أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {تَعْجَبُونَ وَتَضْحَكُونَ} يَعْنِي: اسْتِهْزَاءً {وَلَا تَبْكُونَ} مِمَّا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ.(7/420)
وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
{وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) }
{وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} لَاهُونَ غَافِلُونَ، وَ"السُّمُودُ": الْغَفْلَةُ عَنِ الشَّيْءِ وَاللَّهْوُ، يُقَالُ: دَعْ عَنْكَ سُمُودَكَ أَيْ لَهْوَكَ، هَذَا رِوَايَةُ الْوَالِبِيُّ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (1) وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْهُ: هُوَ الْغِنَاءُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَغَنَّوْا وَلَعِبُوا (2) . وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَشِرُونَ بَطِرُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غِضَابٌ مُبَرْطِمُونَ. فَقِيلَ لَهُ: مَا الْبَرْطَمَةُ؟ قَالَ: الْإِعْرَاضُ (3) .
{فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} أَيْ: وَاعْبُدُوهُ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سَجَدَ بِالنَّجْمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُسْلِمُونَ وَالْمُشْرِكُونَ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا نَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ، أَخْبَرَنِي أَبُو أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَوَّلُ سُورَةٍ أُنْزِلَتْ فِيهَا سَجْدَةٌ: النَّجْمُ، قَالَ: فَسَجَدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَجَدَ مَنْ خَلْفَهُ إِلَّا رَجُلًا رَأَيْتُهُ أَخَذَ كَفًّا مِنْ تُرَابٍ فَسَجَدَ عَلَيْهِ، فَرَأَيْتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ قُتِلَ كَافِرًا، وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ (5) .
وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا آدَمُ بْنُ أَبِي إِيَاسٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَالنَّجْمِ" فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا (6) .
قُلْتُ (7) : فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنْ سُجُودَ التِّلَاوَةِ غَيْرُ وَاجِبٍ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
__________
(1) انظر: الدر المنثور: 7 / 667.
(2) أخرجه الطبري: 27 / 82، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 667 لسعيد بن منصور، وعبد بن حميد.
(3) أخرجه الطبري: 27 / 82، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 667 لعبد بن حميد، وابن المنذر.
(4) أخرجه البخاري في سجود القرآن، باب سجود المسلمين مع المشركين: 2 / 553 وفي تفسير سورة (النجم) 8 / 614، والمصنف في شرح السنة:3 / 301.
(5) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة (والنجم) ،: باب (فاسجدوا لله واعبدوا) : 8 / 614 واللفظ له، ومسلم في المساجد، باب سجود التلاوة برقم: (576) : 1 / 405.
(6) أخرجه البخاري في سجود التلاوة، باب من قرأ السجدة ولم يسجد: 2 / 554 واللفظ له، ومسلم في المساجد برقم: (577) : 1 / 406، والمصنف في شرح السنة: 3 / 310.
(7) في "ب" قال الشيخ الإمام رحمه الله.(7/421)
إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَكْتُبْهَا عَلَيْنَا إِلَّا أَنْ نَشَاءَ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ وُجُوبَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ عَلَى الْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ جَمِيعًا، وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.(7/422)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1)
سُورَةُ الْقَمَرِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) }
{اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} دَنَتِ الْقِيَامَةُ {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْمُفَضَّلِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ ابن أَبِي عَرُوبَةَ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شَقَّتَيْنِ حَتَّى رَأَوْا حِرَاءً بَيْنَهُمَا (2) .
وَقَالَ شَيَّبَانُ عَنْ قَتَادَةَ: فَأَرَاهُمْ انْشِقَاقَ الْقَمَرِ مَرَّتَيْنِ (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ، حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ شُعْبَةَ وَسُفْيَانُ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِي مَعْمَرٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِرْقَتَيْنِ، فِرْقَةٍ فَوْقَ الْجَبَلِ وفرقة دونه، 145/ب فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اشْهَدُوا" (4) .
__________
(1) أخرج النحاس وابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت بمكة سورة (اقتربت الساعة) . انظر: الدر المنثور: 7 / 669.
(2) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب انشقاق القمر: 7 / 187.
(3) قطعة من حديث أخرجه مسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر برقم: (2802) : 4 / 2159.
(4) أخرجه البخاري في التفسير- تفسير سورة القمر باب (وانشق القمر، وإن يروا آية يعرضوا) : 8 / 617، ومسلم في صفات المنافقين وأحكامهم، باب انشقاق القمر، برقم: (2800) : 4 / 2158.(7/425)
وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3)
وَقَالَ أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: انْشَقَّ الْقَمَرُ بِمَكَّةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: انْشَقَّ الْقَمَرُ ثُمَّ الْتَأَمَ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَرَوَى أَبُو الضُّحَى عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: [انْشَقَّ الْقَمَرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (1) فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: سَحَرَكُمُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ، فَاسْأَلُوا السُّفَّارَ، فَسَأَلُوهُمْ فَقَالُوا: نَعَمْ قَدْ رَأَيْنَاهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "اقْتَرَبْتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ" (2) .
{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) }
{وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} أَيْ: ذَاهِبٌ وَسَوْفَ يَذْهَبُ وَيَبْطُلُ مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَّ الشَّيْءُ وَاسْتَمَرَّ إِذَا ذَهَبَ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: قَرَّ وَاسْتَقَرَّ، قَالَ هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ [وَالضَّحَّاكُ] (3) : "مُسْتَمِرٌّ" أَيْ: قَوِيٌّ شَدِيدٌ يَعْلُو كُلَّ سِحْرٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَّ الْحَبْلُ إِذَا صَلُبَ وَاشْتَدَّ وَأَمْرَرْتُهُ إِذَا أَحْكَمْتُ فَتْلَهُ وَاسْتَمَرَّ الشَّيْءُ إِذَا قَوِيَ وَاسْتَحْكَمَ.
{وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} أَيْ: كَذَّبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا عَايَنُوا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَاتَّبَعُوا مَا زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْبَاطِلِ. {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: لِكُلِّ أَمْرٍ حَقِيقَةٌ مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا فَسَيَظْهَرُ، وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ فَسَيُعْرَفُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ فَالْخَيْرُ مُسْتَقِرُّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، [وَالشَّرُّ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِ الشَّرِّ] (4) .
وَقِيلَ: كُلُّ أَمْرٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مُسْتَقِرٌّ قَرَارُهُ، فَالْخَيْرُ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّرُّ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ فِي النَّارِ.
وَقِيلَ: يَسْتَقِرُّ قَوْلُ الْمُصَدِّقِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ حَتَّى يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِكُلِّ حَدِيثٍ مُنْتَهَى. وَقِيلَ: كُلُّ مَا قُدِّرَ كَائِنٌ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ.
وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ "مُسْتَقِرٍّ" بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ.
__________
(1) في "ب" (لما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اشهدوا) .
(2) أخرجه الطبري: 27 / 85، ابن كثير: 4 / 263، وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 670 لابن المنذر وابن مردويه، وأبي نعيم والبيهقي كلاهما في الدلائل.
(3) ساقط من "ب".
(4) ما بين القوسين زيادة من "ب".(7/426)
وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6)
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِيَ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) }(7/427)
خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7)
{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) }
{وَلَقَدْ جَاءَهُمْ} يَعْنِي: أَهَّلَ مَكَّةَ {مِنَ الْأَنْبَاءِ} أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ فِي الْقُرْآنِ {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [مُتَنَاهًى] ، مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الِازْدِجَارِ، أَيْ نَهْيٌ وَعِظَةٌ، يُقَالُ: زَجَرْتُهُ وَازْدَجَرْتُهُ إِذَا نَهَيْتُهُ عَنِ السُّوءِ، وَأَصْلُهُ: مُزْتَجَرٌ، قُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا.
{حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} يَعْنِي: الْقُرْآنُ حِكْمَةٌ تَامَّةٌ قَدْ بَلَغَتِ الْغَايَةَ {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ "مَا" نَفْيًا عَلَى مَعْنَى: فَلَيْسَتْ تُغْنِي النُّذُرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا وَالْمَعْنَى: فَأَيَّ شَيْءٍ تُغْنِي النُّذُرُ إِذَا خَالَفُوهُمْ وَكَذَّبُوهُمْ؟ كَقَوْلِهِ: "وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ" (يُونُسَ -101) و"النُّذُرُ": جَمْعُ نَذِيرٍ.
{فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} أَعْرِضْ عَنْهُمْ نَسَخَتْهَا آيَةُ القتال. قيل: ها هنا وَقَفٌ تَامٌّ. وَقِيلَ: {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِي} أَيْ: إِلَى يَوْمِ الدَّاعِي، قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ إِسْرَافِيلُ يَنْفُخُ قَائِمًا عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ {إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [مُنْكَرٍ] فَظِيعٍ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ فَيُنْكِرُونَهُ اسْتِعْظَامًا، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: "نُكْرٍ" بِسُكُونِ الْكَافِ، وَالْآخَرُونَ بِضَمِّهَا.
{خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو، وَيَعْقُوبُ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: "خَاشِعًا" عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "خُشَّعًا" -بِضَمِّ الْخَاءِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ -عَلَى الْجَمْعِ. وَيَجُوزُ فِي أَسْمَاءِ الْفَاعِلِينَ إِذَا تَقَدَّمَتْ عَلَى الْجَمَاعَةِ التَّوْحِيدُ وَالْجَمْعُ وَالتَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، تَقُولُ: مَرَرْتُ بِرِجَالٍ حَسَنٌ أَوْجُهُهُمْ، وَحَسَنَةٌ أَوْجُهُهُمْ، وَحِسَانٌ أَوْجُهُهُمْ، قَالَ الشَّاعِرُ: وَرِجَالٍ حَسَنٌ أَوَجُهُهُمْ
مِنْ إِيَادِ بْنِ نِزَارِ بْنِ مَعْدٍ.
وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: "خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ" أَيْ: ذَلِيلَةً خَاضِعَةً عِنْدَ رُؤْيَةِ الْعَذَابِ.
{يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} مِنَ الْقُبُورِ {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} مُنْبَثٌّ حَيَارَى، وَذَكَرَ الْمُنْتَشِرَ(7/427)
مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)
عَلَى لَفْظِ الْجَرَادِ، نَظِيرُهُا: "كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ"، (الْقَارِعَةِ -4) وَأَرَادَ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فَزِعِينَ لَا جِهَةَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ يَقْصِدُهَا، كَالْجَرَادِ لَا جِهَةَ لَهَا، تَكُونُ مُخْتَلِطَةً بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ.
{مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِي يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) }
{مُهْطِعِينَ} مُسْرِعِينَ مُقْبِلِينَ {إِلَى الدَّاعِي} إِلَى صَوْتِ إِسْرَافِيلَ {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} يَوْمٌ صَعْبٌ شَدِيدٌ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} أَيْ: قَبْلَ أَهْلِ مَكَّةَ {قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} نُوحًا {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} أَيْ: زَجَرُوهُ عَنْ دَعْوَتِهِ وَمَقَالَتِهِ بِالشَّتْمِ وَالْوَعِيدِ، وَقَالُوا: "لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ" (الشُّعَرَاءِ -116) وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى: ازْدُجِرَ أَيِ: اسْتُطِيرَ جُنُونًا.
{فَدَعَا} نُوحٌ {رَبَّهُ} وَقَالَ {أَنِّي مَغْلُوبٌ} مَقْهُورٌ {فَانْتَصِرْ} فَانْتَقِمْ لِي مِنْهُمْ.
{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} مُنْصَبٍّ انْصِبَابًا شَدِيدًا، لَمْ يَنْقَطِعْ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَقَالَ يَمَانُ: قَدْ طَبَّقَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
{وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ} يَعْنِي مَاءَ السَّمَاءِ وَمَاءَ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا قَالَ: "فَالْتَقَى الْمَاءُ" وَالِالْتِقَاءُ لَا يَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ، إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا؛ لِأَنَّ الْمَاءَ يَكُونُ جَمْعًا وَوَاحِدًا. وَقَرَأَ عَاصِمٌ الجحدري: فالتقى الماآن. {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} أَيْ: قُضِيَ عَلَيْهِمْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَدَّرَ اللَّهُ أن يكون الماآن سَوَاءً فَكَانَا عَلَى مَا قُدِرَ.
{وَحَمَلْنَاهُ} يَعْنِي: نُوحًا {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} أَيْ سَفِينَةٍ ذَاتِ أَلْوَاحٍ، ذَكَرَ النَّعْتَ وَتَرَكَ الِاسْمَ، أَرَادَ بِالْأَلْوَاحِ خَشَبَ السَّفِينَةِ الْعَرِيضَةِ {وَدُسُرٍ} أَيِ: الْمَسَامِيرُ الَّتِي تُشَدُّ بِهَا الْأَلْوَاحُ، وَاحِدُهَا دِسَارٌ وَدَسِيرٌ، يُقَالُ: دَسَرْتُ السَّفِينَةَ إِذَا شَدَدْتُهَا بِالْمَسَامِيرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الدُّسُرُ صَدْرُ السَّفِينَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تدسر الماء بجؤجؤها، أَيْ تَدْفَعُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ عَوَارِضُ السَّفِينَةِ. وَقِيلَ: أَضْلَاعُهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَلْوَاحُ جَانِبَاهَا، وَالدُّسُرُ أَصْلُهَا وَطَرَفَاهَا.(7/428)
تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) }
{تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} أَيْ: بِمَرْأًى مِنَّا. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: بِحِفْظِنَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلْمُوَدَّعِ: عَيْنُ اللَّهِ عَلَيْكَ. وَقَالَ سُفْيَانُ: بِأَمْرِنَا {جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ] : يَعْنِي: فِعْلَنَا بِهِ وَبِهِمْ مِنْ إِنْجَاءِ نُوحٍ وَإِغْرَاقِ قَوْمِهِ ثَوَابًا لِمَنْ كَانَ كُفِرَ بِهِ وَجُحِدَ أَمْرُهُ، وَهُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: "مَنْ" بِمَعْنَى مَا أَيْ: جَزَاءً لِمَا كَانَ كُفِرَ مِنْ أَيَادِي اللَّهِ وَنِعَمِهِ عِنْدَ الَّذِينَ أَغْرَقَهُمْ، أَوْ جَزَاءً لِمَا [صُنْعَ] بِنُوحٍ وَأَصْحَابِهِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: "جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ" بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْفَاءِ، يَعْنِي كَانَ الْغَرَقُ جَزَاءً / لِمَنْ كَانَ كَفَرَ بِاللَّهِ وكذب رسوله.
146/أ {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا} يَعْنِي: [الْفِعْلَةَ الَّتِي] فَعَلْنَا {آيَةً} يُعْتَبَرُ بِهَا. وَقِيلَ: أَرَادَ السَّفِينَةَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَاهَا اللَّهُ [بِبَاقِرِ دِي] مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ. عِبْرَةً وَآيَةً حَتَّى نَظَرَتْ إِلَيْهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} أَيْ: مُتَذَكِّرٍ مُتَّعِظٍ مُعْتَبِرٍ خَائِفٍ مِثْلَ عُقُوبَتِهِمْ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا سَأَلَ الْأَسْوَدَ عَنْ قَوْلِهِ: "فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" أَوْ مُذَكِّرٍ؟ قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ يَقْرَؤُهَا "فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ"، وَقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهَا: "فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" دَالًّا.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} أَيْ: إِنْذَارِي. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِنْذَارُ وَالنُّذُرُ مَصْدَرَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنْذَرْتُ إِنْذَارًا وَنُذُرًا، كَقَوْلِهِمْ أَنْفَقْتُ إِنْفَاقًا وَنَفَقَةً، وَأَيْقَنْتُ إِيقَانًا وَيَقِينًا، أُقِيمَ الِاسْمُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ.
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا} سَهَّلْنَا {الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} لِيُتَذَكَّرَ وَيُعْتَبَرَ بِهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَسَّرْنَاهُ لِلْحِفْظِ وَالْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ يُقْرَأُ كُلُّهُ ظَاهِرًا إِلَّا الْقُرْآنَ "فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ"، مُتَّعِظٍ بِمَوَاعِظِهِ.(7/429)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27)
{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) }
{كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} شَدِيدَةَ الْهُبُوبِ {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} شَدِيدٍ دَائِمِ الشُّؤْمِ، اسْتَمَرَّ عَلَيْهِمْ بِنَحْوِ سَنَةٍ فَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أَحَدًا إِلَّا أَهْلَكَهُ. قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ.
{تَنْزِعُ النَّاسَ} تَقْلَعُهُمْ ثُمَّ تَرْمِي بهم على رؤوسهم فَتَدُقُّ رِقَابَهُمْ. وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَنْزِعُ النَّاسَ مِنْ قُبُورِهِمْ {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُصُولُهَا، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَوْرَاكُ نَخْلٍ. {مُنْقَعِرٍ} [مُنْقَطِعٍ] مِنْ مَكَانِهِ سَاقِطٍ عَلَى الْأَرْضِ. وَوَاحِدُ الْأَعْجَازِ عَجُزٍ، مِثْلَ عَضُدٍ وَأَعْضَادُ وَإِنَّمَا قَالَ: "أَعْجَازُ نَخْلٍ" وَهِيَ أُصُولُهَا الَّتِي قُطِّعَتْ فُرُوعُهُا؛ لِأَنَّ الرِّيحَ كانت تبين رؤوسهم مِنْ أَجْسَادِهِمْ، فَتُبْقِي أجسادهم بلا رؤوس.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبْتُ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} بِالْإِنْذَارِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ صَالِحٌ.
{فَقَالُوا أَبَشَرًا} آدَمِيًّا {مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَهُوَ وَاحِدٌ {إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ} خَطَأٍ وَذَهَابٍ عَنِ الصَّوَابِ {وَسُعُرٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَذَابٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ: شِدَّةُ عَذَابٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنَاءٌ، يَقُولُونَ: إِنَّا إِذًا لَفِي عَنَاءٍ وَعَذَابٍ مِمَّا يَلْزَمُنَا مِنْ طَاعَتِهِ. قَالَ سُفْيَانُ ابن عُيَيْنَةَ: هُوَ جَمْعُ سَعِيرٍ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جُنُونٌ، يُقَالُ نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ إِذَا كَانَتْ خَفِيفَةَ الرَّأْسِ هَائِمَةً عَلَى وَجْهِهَا. وَقَالَ وَهْبٌ: وَسُعُرٍ: أَيْ: بُعْدٍ عَنِ الْحَقِّ.
{أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ} أَأُنْزِلَ الذِّكْرُ الْوَحْيُ {مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} بَطِرٌ مُتَكَبِّرٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَظَّمَ عَلَيْنَا بِادِّعَائِهِ النُّبُوَّةِ، "وَالْأَشَرُ": الْمَرَحُ وَالتَّجَبُّرُ.
{سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) }(7/430)
وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)
{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) }
{سَيَعْلَمُونَ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ: "سَتَعْلَمُونَ" بِالتَّاءِ عَلَى مَعْنَى قَالَ صَالِحٌ لَهُمْ، وَقَرَأَ(7/430)
الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} حِينَ يَنْزِلُ بِهِمُ الْعَذَابُ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَذِكْرُ "الْغَدِ" لِلتَّقْرِيبِ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ، يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَ الْيَوْمِ غَدًا {مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} .
{إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} أَيْ: بَاعِثُوهَا وَمُخْرِجُوهَا مِنَ الْهَضْبَةِ الَّتِي سَأَلُوا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَعَنَّتُوا عَلَى صَالِحٍ، فَسَأَلُوهُ أَنْ يُخْرِجَ لَهُمْ مِنْ صَخْرَةٍ نَاقَةً حَمْرَاءَ عَشْرَاءَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ} مِحْنَةً وَاخْتِبَارًا لَهُمْ {فَارْتَقِبْهُمْ} فَانْتَظَرَ مَا هُمْ صَانِعُونَ {وَاصْطَبِرْ} وَاصْبِرْ عَلَى ارْتِقَابِهِمْ، وَقِيلَ: عَلَى مَا يُصِيبُكَ مِنَ الْأَذَى.
{وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} وَبَيْنَ النَّاقَةِ يَوْمٌ لَهَا وَيَوْمٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ بَيْنَهُمْ لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَخْبَرَتْ عَنْ بَنِي آدَمَ وَعَنِ الْبَهَائِمِ غَلَّبَتْ بَنِي آدَمَ عَلَى الْبَهَائِمِ {كُلُّ شِرْبٍ} نَصِيبٍ مِنَ الْمَاءِ {مُحْتَضَرٌ} يَحْضُرُهُ مَنْ كَانَتْ نَوْبَتُهُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُهَا حَضَرَتْ شِرْبَهَا، وَإِذَا كَانَ يَوْمُهُمْ حَضَرُوا شِرْبَهُمْ، وَحَضَرَ وَاحْتَضَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي يَحْضُرُونَ الْمَاءَ إِذَا غَابَتِ النَّاقَةُ، فَإِذَا جَاءَتِ النَّاقَةُ حَضَرُوا اللَّبَنَ.
{فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} وَهُوَ قِدَارُ بْنُ سَالِفٍ {فَتَعَاطَى} فَتَنَاوُلَ النَّاقَةَ بِسَيْفِهِ {فَعَقَرَ} أَيْ: فَعَقَرَهَا.
{فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} ثُمَّ بَيَّنَ عَذَابَهُمْ فَقَالَ:
{إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ صَيْحَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الرَّجُلُ يَجْعَلُ لِغَنَمِهِ حَظِيرَةً مِنَ الشَّجَرَةِ وَالشَّوْكِ دُونَ السِّبَاعِ، فَمَا سَقَطَ مِنْ ذَلِكَ فَدَاسَتْهُ الْغَنَمُ فَهُوَ الْهَشِيمُ (1) .
__________
(1) انظر القرطبي: 17 / 142.(7/431)
وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37)
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الشَّجَرُ الْبَالِي الَّذِي تَهَشَّمَ حَتَّى ذَرَتْهُ الرِّيحُ (1) . وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ صَارُوا كَيَبَسِ الشَّجَرِ إِذَا تَحَطَّمَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ كَانَ رَطْبًا فَيَبِسَ: هَشِيمًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَالْعِظَامِ النَّخِرَةِ الْمُحْتَرِقَةِ (2) . وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ التُّرَابُ الَّذِي يَتَنَاثَرُ مِنَ الْحَائِطِ (3) .
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) }
{وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} رِيحًا تَرْمِيهِمْ بِالْحَصْبَاءِ، وَهِيَ الْحَصَى وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي صِغَارَ الْحَصَى. وَقِيلَ: "الْحَصْبَاءُ" هِيَ الْحَجَرُ الَّذِي دُونَ مِلْءِ الْكَفِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَاصِبُ الرَّامِي فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أَرْسَلَنَا عَلَيْهِمْ عَذَابًا يَحْصِبُهُمْ أَيْ: يَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: {إِلَّا آلَ لُوطٍ} يَعْنِي لُوطًا وَابْنَتَيْهِ {نَجَّيْنَاهُمْ} مِنَ الْعَذَابِ {بِسَحَرٍ} .
{نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أَيْ: جَعَلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا عَلَيْهِمْ حَيْثُ أَنْجَيْنَاهُمْ {كَذَلِكَ} كَمَا أَنْعَمَنَا عَلَى آلِ لُوطٍ {نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} قَالَ مُقَاتِلٌ: مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ لَمْ يُعَذِّبْهُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ.
{وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ} لُوطٌ {بَطْشَتَنَا} أَخْذَنَا إِيَّاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} شَكُّوا بِالْإِنْذَارِ وَكَذَّبُوا وَلَمْ يُصَدِّقُوا.
{وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} طَلَبُوا أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ أَضْيَافَهُ {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا دَارَ لُوطٍ وَعَالَجُوا الْبَابَ لِيَدْخُلُوا، قَالَتِ الرُّسُلُ [لِلُوطٍ] (4) : خَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الدُّخُولِ فَإِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فدخلوا الدار 146/ب فَصَفَقَهُمْ جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ فَتَرَكَهُمْ عُمْيًا يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْبَابِ، فَأَخْرَجَهُمْ لُوطٌ عُمْيًا لَا يُبْصِرُونَ. قَوْلُهُ: "فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ" أَيْ: صَيَّرْنَاهَا
__________
(1) انظر: ابن كثير: 4 / 266.
(2) انظر: الطبري: 27 / 103، البحر المحيط: 8 / 181.
(3) أخرجه الطبري: 27 / 103، وقال ابن كثير: 4 / 266 "هذا قول غريب" وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 680 لعبد بن حميد.
(4) ساقط من "ب".(7/432)
وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45)
كَسَائِرِ الْوَجْهِ لَا يُرَى لَهَا شَقٌّ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: طَمَسَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ فَلَمْ يَرَوُا الرُّسُلَ، فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَاهُمْ حِينَ دَخَلُوا الْبَيْتَ فَأَيْنَ ذَهَبُوا، فَلَمْ يَرَوْهُمْ فَرَجَعُوا. {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} أَيْ: [مَا أَنْذَرَكُمْ] (1) بِهِ لُوطٌ مِنَ الْعَذَابِ.
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) }
{وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً} جَاءَهُمْ وَقْتَ الصُّبْحِ {عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} دَائِمٌ اسْتَقَرَّ فِيهِمْ حَتَّى أَفْضَى بِهِمْ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: عَذَابٌ حَقٌّ.
{فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} يَعْنِي: مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقِيلَ: هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي أَنْذَرَهُمْ بِهَا مُوسَى.
{كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} وَهِيَ الْآيَاتُ التِّسْعُ {فَأَخَذْنَاهُمْ} بِالْعَذَابِ {أَخْذَ عَزِيزٍ} غَالِبٍ فِي انْتِقَامِهِ {مُقْتَدِرٍ} قَادِرٍ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ، لَا يُعْجِزُهُ مَا أَرَادَ، ثُمَّ خَوَّفَ أَهْلَ مَكَّةَ فَقَالَ:
{أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} أَشَدُّ وَأَقْوَى مِنَ الَّذِينَ أَحْلَلْتُ بِهِمْ نِقْمَتِي مَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ لُوطٍ وَآلِ فِرْعَوْنَ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ أَيْ: لَيْسُوا بِأَقْوَى مِنْهُمْ {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ} الْعَذَابُ {فِي الزُّبُرِ} فِي الْكُتُبِ، أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ.
{أَمْ يَقُولُونَ} يَعْنِي: كُفَّارُ مَكَّةَ {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَحْنُ جَمِيعُ أَمْرِنَا [مُنْتَصِرٌ] (2) مِنْ أَعْدَائِنَا الْمَعْنَى: نَحْنُ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفْنَا مُنْتَصِرٌ مِمَّنْ عَادَانَا، وَلَمْ يَقِلْ منتصرون لموافقة رؤوس الْآيِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} قَرَأَ يَعْقُوبُ: "سَنَهْزِمُ" بِالنُّونِ "الْجَمْعَ" نَصْبٌ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَضَمِّهَا، "الْجَمْعُ" رَفْعٌ عَلَى غَيْرِ تَسْمِيَةِ الْفَاعِلِ، يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ}
__________
(1) في"ب" ما أنذرهم.
(2) في "أ" مستقر.(7/433)
بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48)
يَعْنِي: الْأَدْبَارَ فَوَحَّد لأجل رؤوس الْآيِ، كَمَا يُقَالُ: ضربنا منهم الرؤوس وضربنا مِنْهُمُ الرَّأْسَ إِذَا كَانَ الْوَاحِدُ يُؤَدِّي مَعْنَى الْجَمْعِ، أَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُمْ يُوَلُّونَ أَدْبَارَهُمْ مُنْهَزِمِينَ فَصَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَهَزَمَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا خَالِدٌ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي قُبَّتِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ، اللَّهُمَّ إِنْ شِئْتَ لَمْ تُعْبَدْ بَعْدَ الْيَوْمِ"، فَأَخَذَ أَبُو بَكْرٍ بِيَدِهِ، فَقَالَ: حَسْبُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ أَلْحَحْتَ عَلَى رَبِّكَ -وَهُوَ فِي الدِّرْعِ -فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ" (1) .
{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) }
{بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ" كُنْتُ لَا أَدْرِي أَيَّ جَمْعٍ يُهْزَمُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثِبُ فِي دِرْعِهِ وَيَقُولُ: "سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ" جَمِيعًا "وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ" (2) أَعْظَمُ دَاهِيَةً وَأَشَدُّ مَرَارَةً مِنَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ يَوْمَ بَدْرٍ.
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} الْمُشْرِكِينَ {فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} قِيلَ: "فِي ضَلَالٍ" بُعْدٍ عَنِ الْحَقِّ. قَالَ الضَّحَّاكُ: "وَسُعُرٍ" أَيْ: نَارٌ تُسَعَّرُ عَلَيْهِمْ: وَقِيلَ: "ضَلَالٌ" ذَهَابٌ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، "وَسُعُرٍ": نَارٌ مُسَعَّرَةٌ، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ فِي الدُّنْيَا وَنَارٍ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي عَنَاءٍ وَعَذَابٍ (3) .
ثُمَّ بَيَّنَ عَذَابَهُمْ فَقَالَ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} يُجَرُّونَ {فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} وَيُقَالُ لَهُمْ {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} .
__________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد، باب ما قيل في درع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والقميص في الحرب:6 / 99، وفي المغازي، وفي التفسير، والمصنف في شرح السنة:10 / 400.
(2) أخرجه عبد الرزاق:2 / 259، والطبري:27 / 108،والإمام أحمد:1 / 329. ورواه إسحاق بن راهويه عن قتادة، وفيه انقطاع، انظر المطالب العالية: 3 / 381. قال الحافظ في الفتح: 7 / 289-290: "أخرجه الطبري وابن مردويه عن عكرمة عن ابن عباس: لما نزلت....قال عمر:....، وأخرجه ابن مردويه أيضًا عن أبي هريرة..".
(3) انظر الطبري: 27 / 109.(7/434)
إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49)
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) }
{إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} أَيْ: مَا خَلَقْنَاهُ فَمَقْدُورٌ وَمَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، قَالَ الْحَسَنُ: قَدَّرَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ قَدَرَهُ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقُرَشِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُسْلِمٍ غَالِبُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو [مَعْشَرٍ] (1) يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الْجَلِيلِ بْنِ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَزِيدَ حَاتِمُ بْنُ مَحْبُوبٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ نَصْرٍ النَّيْسَابُورِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ، أَخْبَرَنَا الثَّوْرِيُّ عَنْ زِيَادِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ السَّهْمِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادٍ الْمَخْزُومِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَتْ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاصِمُونَهُ فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ" إِلَى قَوْلِهِ: "إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَرِيكٍ الشَّافِعِيُّ الْخُدْشَاهِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ أَبُو بَكْرٍ الْجَوْرَبَذِيُّ، أَخْبَرَنَا يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى الصَّدَفِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ، أخبرني أبو هانيء الْخَوْلَانِيُّ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ [الْحُبُلِيُّ] (3) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أن يخلق السموات وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ" (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ زِيَادِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ مسلم عن طاووس الْيَمَانِيِّ قَالَ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُونَ: "كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرِ اللَّهِ"، قَالَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ [عُمَرَ] (5) رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ، أَوِ الْكَيْسُ وَالْعَجْزُ" (6) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ
__________
(1) في"أ" مشعر والصحيح ما أثبتناه من "ب".
(2) أخرجه مسلم في القدر، باب كل شيء بقدر، برقم: (2656) : 4 / 2046، والمصنف في شرح السنة:1 / 150.
(3) في "أ" الجبلي، وهو تصحيف.
(4) أخرجه مسلم في القدر، باب حجاج آدم وموسى عليهما السلام، برقم: (2653) : 4 / 2044، والمصنف في شرح السنة:1 / 123.
(5) في "ب"عمرو، والصحيح ما أثبتناه.
(6) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب القدر، باب النهي عن القول بالقدر:2 / 899، ومسلم في القدر، باب كل شيء بقدر، برقم: (2655) : 4 / 2045، والمصنف في شرح السنة: 1 / 134.(7/435)
مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ دُحَيْمٍ الشَّيْبَابِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَازِمِ بْنِ أَبِي غَرَزَةَ، أَخْبَرَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، [وَعُبَيْدُ اللَّهِ] (1) بْنُ مُوسَى وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ رِبْعِيِّ بْنِ حِرَاشٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، ويؤمن بالبعث 147/أبَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ -زَادَ [عُبَيْدُ اللَّهِ] (2) : خَيْرِهِ وَشَرِّهِ" (3) .
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مَنْصُورٍ وَقَالَ: عَنْ رِبْعِيٍّ عَنْ عَلِيٍّ وَلَمْ يَقُلْ: عَنْ رَجُلٍ، وَهَذَا أَصَحُّ (4) .
__________
(1) في "أ" عبد الله والصحيح ما أثبتناه.
(2) في "أ" عبد الله والصحيح ما أثبتناه.
(3) أخرجه الترمذي في القدر، باب ما جاء أن الإيمان بالقدر خيره وشره: 6 / 358، وابن حبان في موارد الظمآن برقم: (23) ص37، والإمام أحمد: 1 / 233، والمصنف في شرح السنة: 1 / 122.
(4) أخرجه أبو داود الطيالسي1 / 22 (106) ومن طريقه الترمذي في القدر، باب أن ما جاء في الإيمان بالقدر خيره وشره: 6 / 357، وابن ماجه في المقدمة، باب في القدر، برقم (81) : 1 / 32، وابن أبي عاصم: 1 / 59، واللالكائي في أصول اعتقاد أهل السنة: 3 / 620، وصححه الحاكم: 1 / 32 ووافقه الذهبي، والإمام أحمد: 1 / 97. والمصنف في شرح السنة 1 / 122. وانظر: صحيح الجامع الصغير وزيادته برقم: (7584) .(7/436)
وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53)
{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) }
{وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} {وَاحِدَةٌ} . يَرْجِعُ إِلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ أَيْ: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: وَمَا أَمْرُنَا لِلشَّيْءِ إِذَا أَرَدْنَا تَكْوِينَهُ إِلَّا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ: كُنْ فَيَكُونُ لَا مُرَاجَعَةَ فِيهَا كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ. قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَنَّ قَضَائِي فِي خَلْقِي أَسْرَعُ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْهُ: وَمَا أَمْرُنَا لِمَجِيءِ السَّاعَةِ فِي السُّرْعَةِ إِلَّا كَطَرَفِ الْبَصَرِ.
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} أَشْبَاهَكُمْ وَنُظَرَاءَكُمْ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ.
{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} مُتَّعِظٍ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ فَيَخَافُ وَيْعَتَبِرُ.
{وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ} يَعْنِي فَعَلَهُ الْأَشْيَاعُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ {فِي الزُّبُرِ} فِي كِتَابِ الْحَفَظَةِ، وَقِيلَ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
{وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} مِنَ الْخَلْقِ وَأَعْمَالِهِمْ وَآجَالِهِمْ {مُسْتَطَرٌ} مَكْتُوبٌ، يُقَالُ: سَطَّرْتُ(7/436)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
وَاسْتَطَرْتُ وَكَتَبْتُ وَاكْتَتَبْتُ.
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) }
{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} بَسَاتِينَ {وَنَهَرٍ} أَيْ أَنْهَارٍ، ووحَّده لأجل رؤوس الْآيِ، وَأَرَادَ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ مِنَ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي فِي ضِيَاءٍ وَسَعَةٍ وَمِنْهُ النَّهَارُ. وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ "وَنُهُرٍ"، بِضَمَّتَيْنِ جَمْعُ نَهَارٍ يَعْنِي: نَهَارًا لَا لَيْلَ لَهُمْ.
{فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} فِي مَجْلِسِ حَقٍّ لَا لَغْوَ فِيهِ وَلَا تَأْثِيمَ {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} مَلِكٍ قَادِرٍ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ. قَالَ [جَعْفَرٌ] (1) الصَّادِقُ: مَدَحَ اللَّهُ الْمَكَانَ بِالصِّدْقِ فَلَا يَقْعُدُ، فِيهِ إِلَّا أَهْلُ الصِّدْقِ.
__________
(1) ساقط من "ب".(7/437)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4)
سُورَةُ الرَّحْمَنِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) }
{الرَّحْمَنُ} قِيلَ: نَزَلَتْ حِينَ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ (2) . وَقِيلَ: هُوَ جَوَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قالوا: إنما يعمله بَشَرٌ.
{عَلَّمَ الْقُرْآنَ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ مُحَمَّدًا. وَقِيلَ: "عَلَّمَ الْقُرْآنَ" يَسَّرَهُ لِلذِّكْرِ.
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ} يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ. {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَقِيلَ:عَلَّمَهُ اللُّغَاتِ كُلَّهَا، وَكَانَ آدَمُ يَتَكَلَّمُ بِسَبْعِمِائَةِ [أَلْفِ] (3) لُغَةٍ أَفْضَلُهَا الْعَرَبِيَّةُ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: "الْإِنْسَانُ" اسْمُ جِنْسٍ، وَأَرَادَ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ "عَلَّمَهُ الْبَيَانَ" النُّطْقَ وَالْكِتَابَةَ وَالْفَهْمَ وَالْإِفْهَامَ، حَتَّى عَرَفَ مَا يَقُولُ وَمَا يُقَالُ لَهُ. هَذَا قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَّمَ كُلَّ قَوْمٍ لِسَانَهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: "خَلَقَ الْإِنْسَانَ" يَعْنِي: مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عَلَّمَهُ الْبَيَانَ" يَعْنِي بَيَانَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ لِأَنَّهُ كَانَ يُبِينُ [عَنِ] (4) الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَعَنْ يَوْمِ الدِّينِ.
__________
(1) أخرج النحاس عن ابن عباس -رضي الله عنهما- نزلت سورة الرحمن بمكة، وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- قال: أنزل بمكة سورة الرحمن، وأخرج بن مردويه عن عائشة -رضي الله عنهما- قالت: نزلت سورة الرحمن بمكة. انظر: الدر المنثور: 7 / 689، القرطبي: 17 / 151.
(2) انظر البحر المحيط: 8 / 187-188.
(3) ساقط من "أ".
(4) زيادة من "ب".(7/438)
الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11)
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) }
{الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كَحُسْبَانِ الرَّحَى. وَقَالَ غَيْرُهُ:أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ لَا يَعْدُوَانِهَا، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي بِهِمَا تُحْسَبُ الْأَوْقَاتُ وَالْآجَالُ لَوْلَا اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَمْ يَدْرِ أَحَدٌ كَيْفَ يَحْسِبُ شَيْئًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَجْرِيَانِ بِقَدَرٍ، وَالْحُسْبَانُ يَكُونُ مَصْدَرُ حَسَبْتُ حِسَابًا وَحُسْبَانًا، مِثْلُ الْغُفْرَانِ وَالْكُفْرَانِ، وَالرُّجْحَانِ وَالنُّقْصَانِ، وَقَدْ يَكُونُ جَمْعُ الْحِسَابِ كَالشُّبْهَانِ وَالرُّكْبَانِ.
{وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} ، النَّجْمُ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ مِنَ النَّبَاتِ، وَالشَّجَرُ مَا لَهُ سَاقٌ يَبْقَى فِي الشِّتَاءِ، وَسُجُودُهُمَا سُجُودُ ظِلِّهِمَا كَمَا قَالَ:"يَتَفَيَّؤُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ" (النَّحْلِ-48) قَالَ مُجَاهِدٌ: النَّجْمُ هُوَ الْكَوْكَبُ وَسُجُودُهُ طُلُوعُهُ.
{وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} ، فَوْقَ الْأَرْضِ، {وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} ، قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْمِيزَانِ الْعَدْلَ. الْمَعْنَى: أَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} ، أَيْ لَا تُجَاوِزُوا الْعَدْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَرَادَ بِهِ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ لِيُوصَلَ بِهِ إِلَى الْإِنْصَافِ وَالِانْتِصَافِ، وَأَصْلُ الْوَزْنِ التَّقْدِيرُ "أَلَّا تَطْغَوْا" يَعْنِي لِئَلَّا تَمِيلُوا وَتَظْلِمُوا وَتُجَاوِزُوا الْحَقَّ فِي الْمِيزَانِ.
{وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} ، بِالْعَدْلِ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَعَطَاءٌ: مَعْنَاهُ أَقِيمُوا لِسَانَ الْمِيزَانِ بِالْعَدْلِ. قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الْإِقَامَةُ بِالْيَدِ وَالْقِسْطُ بِالْقَلْبِ، {وَلَا تُخْسِرُوا} ، وَلَا تَنْقُصُوا {الْمِيزَانَ} ، وَلَا تُطَفِّفُوا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.
{وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} ، لِلْخَلْقِ الَّذِينَ بَثَّهُمْ فِيهَا.
{فِيهَا فَاكِهَةٌ} ، يَعْنِي: أَنْوَاعَ الْفَوَاكِهِ، قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي مَا يَتَفَكَّهُونَ بِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} ، الْأَوْعِيَةُ الَّتِي يَكُونُ فِيهَا الثَّمَرُ لِأَنَّ ثَمَرَ النَّخْلِ يَكُونُ فِي غِلَافٍ مَا لَمْ يَنْشَقَّ، وَاحِدُهَا كِمٌّ، وَكُلُّ مَا سَتَرَ شَيْئًا فَهُوَ كِمٌّ وَكِمَّةٌ، وَمِنْهُ كُمُّ الْقَمِيصِ، وَيُقَالُ لِلْقَلَنْسُوَةِ كُمَّةٌ، قَالَ الضَّحَّاكُ: "ذَاتُ الْأَكْمَامِ" أَيْ ذَاتُ الْغُلُفِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَكْمَامُهَا: لَفِيفُهَا. [وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ:(7/442)
وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
هُوَ الطَّلْعُ قَبْلَ أَنْ يَنْشَقَّ] (1) .
{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13) }
{وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} ، أَرَادَ بِالْحَبِّ جَمِيعَ الْحُبُوبِ الَّتِي تُحْرَثُ فِي الْأَرْضِ قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ وَرَقُ الزَّرْعِ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: "الْعَصْفُ "وَرَقُ كُلِّ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْهُ الْحَبُّ، يَبْدُو أَوَّلًا وَرَقًا وَهُوَ الْعَصْفُ ثُمَّ يَكُونُ سُوقًا، ثُمَّ يُحْدِثُ اللَّهُ فِيهِ أَكْمَامًا ثُمَّ يُحْدِثُ فِي الْأَكْمَامِ الْحَبَّ.وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ: هُوَ التِّبْنُ. وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنْهُ:هُوَ وَرَقُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ إذا قطع رؤوسه وَيَبِسَ، نَظِيرُهُ: "كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ" (الْفِيلِ-5) .
{وَالرَّيْحَانُ} ، هُوَ الرِّزْقُ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ رَيْحَانٍ فِي الْقُرْآنِ فَهُوَ رِزْقٌ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ هُوَ رَيْحَانُكُمُ الَّذِي يُشَمُّ، قَالَ الضَّحَّاكُ: "الْعَصْفُ":هُوَ التِّبْنُ. وَ"الرَّيْحَانُ" ثَمَرَتُهُ.
وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ: "وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ"، كُلُّهَا مَرْفُوعَاتٌ بِالرَّدِّ عَلَى الْفَاكِهَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عامر "والحب ذو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانَ" بِنَصْبِ الْبَاءِ وَالنُّونِ وَذَا بِالْأَلِفِ عَلَى مَعْنَى: خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَخَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ" وَالرَّيْحَانِ" بِالْجَرِّ عَطْفًا عَلَى الْعَصْفِ فَذَكَرَ قُوتَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ، ثم خاطب 147/ب الْجِنَّ وَالْإِنْسَ فَقَالَ:
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، أَيُّهَا الثَّقَلَانِ، يُرِيدُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ. وَكَرَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ وَتَأْكِيدًا فِي التَّذْكِيرِ بِهَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِبْلَاغِ وَالْإِشْبَاعِ، يُعَدِّدُ عَلَى الْخَلْقِ آلَاءَهُ وَيَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ نِعْمَتَيْنِ بِمَا يُنَبِّهُهُمْ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ الرِّجْلِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَتَابَعَ عَلَيْهِ بِالْأَيَادِي وَهُوَ يُنْكِرُهَا وَيَكْفُرُهَا: أَلَمْ تَكُنْ فَقِيرًا فَأَغْنَيْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ تَكُنْ عُرْيَانًا فَكَسَوْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ تَكُ خَامِلًا؟ فَعَزَّزْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ وَمِثْلُ هَذَا التِّكْرَارِ شَائِعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَسَنٌ تَقْرِيرًا.
وَقِيلَ: خَاطَبَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ تُخَاطِبُ الْوَاحِدَ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: "أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ" (ق-24) .
وَرُوِيَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: قَرَأَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ الرَّحْمَنِ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ:"مَا لِي أَرَاكُمْ سُكُوتًا لَلْجِنُّ، [كَانُوا] (2) أَحْسَنَ مِنْكُمْ رَدًّا، مَا قَرَأْتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".(7/443)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16)
الْآيَةَ مَرَّةً "فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ" إِلَّا قَالُوا: وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ، فَلَكَ الْحَمْدُ" (1) .
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) }
__________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير -تفسير سورة الرحمن-:9 / 177 بلفظ: (خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أصحابه فقرأ عليهم..) وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث الوليد بم مسلم عن زهير، قال أحمد بن حنبل: كأن زهير بن محمد الذي وقع بالشام ليس هو الذي يروى عنه بالعراق، كأنه رجل آخر قلبوا اسمه، يعني لما يروون عنه من المناكير، وسمعت محمد بن إسماعيل يقول: أهل الشام يروون عن زهير بن محمد مناكيروأهل العراق يروون عنه أحاديث مقلوبة". وذكره الذهبي في الميزان في ترجمة زهير: 2 / 84 وقال: تفرد به هشام بن عمار عن الوليد. وأخرجه الحاكم:2 / 473 وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. قال المباركفوري: "حديث جابر هذا رواه الوليد بن مسلم عن زهير بن محمد وهو من أهل الشام، ففي الحديث ضعف، ولكن له شاهد من حديث ابن عمر أخرجه ابن جرير والبزار والدارقطني في الأفراد وغيرهم، وصحح السيوطي إسناده كما في فتح البيان" انظر: تحفة الأحوذي: 9 / 179، مجمع الزوائد: 7 / 117.(7/444)
رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21)
{رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) }
{خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} .
{وَخَلَقَ الْجَانَّ} وَهُوَ أَبُو الْجِنِّ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ إِبْلِيسُ، {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} وَهُوَ الصَّافِي مِنْ لَهَبِ النَّارِ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ مَا اخْتَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مِنَ اللَّهَبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَخْضَرِ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إِذَا أُوقِدَتْ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَجَ أَمْرُ الْقَوْمِ، إِذَا اخْتَلَطَ.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ} مَشْرِقِ الصَّيْفِ وَمَشْرِقِ الشِّتَاءِ. {وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} مَغْرِبِ الصَّيْفِ وَمَغْرِبِ الشِّتَاءِ. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
{مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} الْعَذْبَ وَالْمَالِحَ أَرْسَلَهُمَا وَخَلَّاهُمَا {يَلْتَقِيَانِ} .
{بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، {لَا يَبْغِيَانِ} لَا يَخْتَلِطَانِ وَلَا يَتَغَيَّرَانِ وَلَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ.وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَطْغَيَانِ عَلَى النَّاسِ بِالْغَرَقِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ" بَحْرَ الرُّومِ وَبَحْرَ الْهِنْدِ، وَأَنْتُمُ الْحَاجِزُ بَيْنَهُمَا. وَعَنْ قَتَادَةَ أَيْضًا: بَحْرُ فَارِسٍ وَبَحْرُ الرُّومِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ يَعْنِي الْجَزَائِرَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: بَحْرُ السَّمَاءِ وَبَحْرُ الْأَرْضِ يَلْتَقِيَانِ كُلَّ عَامٍ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .(7/444)
يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29)
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِي الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) }
{يَخْرُجُ مِنْهُمَا} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ: "يُخْرَجُ" بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، {اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَالِحِ دُونَ الْعَذْبِ وَهَذَا جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئَانِ ثُمَّ يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِفِعْلٍ، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ" (الْأَنْعَامِ -130) . وَكَانَتِ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ يَخْرُجُ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَمَاءِ الْبَحْرِ. قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِذَا أَمْطَرْتِ السَّمَاءُ فَتَحَتِ الْأَصْدَافُ أَفْوَاهَهَا فَحَيْثُمَا وَقَعَتْ قَطْرَةٌ كَانَتْ لُؤْلُؤَةً، وَاللُّؤْلُؤَةُ: مَا عَظُمَ مِنَ الدُّرِّ، وَالْمَرْجَانُ: صِغَارُهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ عَلَى الضِّدِّ مِنْ هَذَا. وَقِيلَ: "الْمَرْجَانُ" الْخَرَزُ الْأَحْمَرُ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هُوَ الْيُسْرُ (1) . {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
{وَلَهُ الْجَوَارِي} السُّفُنُ الْكِبَارُ، {الْمُنْشَآتُ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ: "الْمُنْشِئَاتُ" بِكَسْرِ الشِّينِ، أَيِ: الْمُنْشِئَاتُ لِلسَّيْرِ [يَعْنِي اللَّاتِي ابْتَدَأْنَ وَأَنْشَأْنَ السَّيْرَ] (2) . وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الشِّينِ أَيِ الْمَرْفُوعَاتُ، وَهِيَ الَّتِي رُفِعَ خَشَبُهَا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: هِيَ مَا رُفِعَ قَلْعُهُ مِنَ السُّفُنِ وَأَمَّا مَا لَمْ يُرْفَعْ قَلْعُهُ فَلَيْسَ مِنَ الْمُنْشِئَاتِ. وَقِيلَ الْمَخْلُوقَاتُ الْمُسَخَّرَاتُ، {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} كَالْجِبَالِ جَمْعُ عَلَمٍ وَهُوَ الْجَبَلُ الطَّوِيلُ، شَبَّهَ السُّفُنَ فِي الْبَحْرِ، بِالْجِبَالِ فِي الْبَرِّ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
{كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} أَيْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ فَإِنَّهُ هَالِكٌ {فَانٍ} .
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ} ، ذُو الْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ {وَالْإِكْرَامِ} ، أَيْ مُكْرِمُ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِلُطْفِهِ مَعَ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) }
{يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} ، مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسٍ وَجِنٍّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. قَالَ ابْنُ عباس: فأهل السموات يَسْأَلُونَهُ الْمَغْفِرَةَ وَأَهْلُ الْأَرْضِ يَسْأَلُونَهُ الرَّحْمَةَ [وَالرِّزْقَ وَالتَّوْبَةَ وَالْمَغْفِرَةَ] (3) وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُسْأَلُهُ أَهْلُ الْأَرْضِ الرِّزْقَ
__________
(1) في "أ" البسد.
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".(7/445)
وَالْمَغْفِرَةَ وَتَسْأَلُهُ الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا لَهُمُ الرِّزْقَ وَالْمَغْفِرَةَ.
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ، قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْضِي يَوْمَ السَّبْتَ شَيْئًا (1) .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُحْيِيَ وَيُمِيتَ، وَيَرْزُقَ، وَيُعِزَّ قَوْمًا، وَيُذِلَّ قَوْمًا، وَيَشْفِيَ مَرِيضًا، وَيَفُكَّ عَانِيًا وَيُفَرِّجَ مَكْرُوبًا، وَيُجِيبَ دَاعِيًا، وَيُعْطِيَ سَائِلًا وَيَغْفِرَ ذَنْبًا إِلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَحْدَاثِهِ فِي خَلْقِهِ مَا يَشَاءُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشَّرِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدُوسَ الْمُزَكِّي -إِمْلَاءً-أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ الرَّبِيعِ الْمَكِّيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو حَمْزَةَ الثُّمَالِيُّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ مِمَّا خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَوْحًا مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، دَفَّتَاهُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ، قَلَمُهُ نُورٌ وَكِتَابُهُ نُورٌ، يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِ كل يوم ثلاث مائة وَسِتِّينَ نَظْرَةً، يَخْلُقُ وَيَرْزُقُ وَيُحْيِي وَيُمِيتُ وَيُعِزُّ وَيُذِلُّ وَيَفْعَلُ مَا يَشَاءُ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ" (2) .
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: الدَّهْرُ كُلُّهُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَانِ أَحَدُهُمَا مُدَّةُ أَيَّامِ الدُّنْيَا وَالْآخَرُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، فَالشَّأْنُ الَّذِي هُوَ فِيهِ الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ مُدَّةُ الدُّنْيَا: الْإِخْبَارُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ، وَالْإِعْطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَشَأْنُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ: الْجَزَاءُ وَالْحِسَابُ، وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ (3) .
وَقِيلَ: شَأْنُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ أَنَّهُ يُخْرِجُ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ثَلَاثَةَ عَسَاكِرَ، عَسْكَرًا مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِلَى أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ، وَعَسْكَرًا مِنَ الْأَرْحَامِ إِلَى الدُّنْيَا، وَعَسْكَرًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَى الْقُبُورِ، ثُمَّ يَرْتَحِلُونَ جَمِيعًا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
__________
(1) انظر البحر المحيط: 8 / 193، زاد المسير: 8 / 114.
(2) أخرجه عبد الرازق: 2 / 263-264، والطبري:27 / 135، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 699 عزوه لابن المنذر والطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن مردويه وأبي نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء والصفات. وأخرجه الحاكم: 2 / 474 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. وانظر ابن كثير: 4 / 274.
(3) انظر البحر المحيط: 8 / 193، القرطبي:17 / 166-167.(7/446)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33)
قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هُوَ سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ (1) . وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدَّارَانِيُّ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: كُلُّ يَوْمٍ لَهُ إِلَى الْعَبِيدِ بر جديد 148/أ.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ سَنَفْرُغُ لَكُمْ} ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: سَيَفْرُغُ بِالْيَاءِ لِقَوْلِهِ: "يَسْأَلُهُ من في السموات وَالْأَرْضِ"، "وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ" "وَلَهُ الْجَوَارِ" فَأَتْبَعَ الْخَبَرَ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ الْفَرَاغُ عَنْ شُغْلٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَشْغَلُهُ شَأْنٌ عَنْ شَأْنٍ، وَلَكِنَّهُ وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى [لِلْخَلْقِ] (2) بِالْمُحَاسَبَةِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَأَتَفَرَّغَنَّ لَكَ، وَمَا بِهِ شُغْلٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْفَرَاغُ لِسَبْقِ ذِكْرِ الشَّأْنِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ: سَنَقْصِدُكُمْ بَعْدَ التَّرْكَ وَالْإِمْهَالِ وَنَأْخُذُ فِي أَمْرِكُمْ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لِلَّذِي لَا شُغْلَ لَهُ: قَدْ فَرَغْتَ لِي. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَ أَهْلَ التَّقْوَى وَأَوْعَدَ أَهْلَ الْفُجُورِ، ثُمَّ قَالَ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ مِمَّا وَعَدْنَاكُمْ وَأَخْبَرَنَاكُمْ، فَنُحَاسِبُكُمْ وَنُجَازِيكُمْ وَنُنْجِزُ لَكُمْ مَا وَعَدْنَاكُمْ، فَيُتِمُّ ذَلِكَ وَيَفْرُغُ مِنْهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ.
{أَيُّهَا الثَّقَلَانِ} ، أَيِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، سُمِّيَا ثَقَلَيْنِ لِأَنَّهُمَا ثِقَلٌ عَلَى الْأَرْضِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا"، (الزَّلْزَلَةِ-2) وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: كُلُّ شَيْءٍ لَهُ قَدْرٌ وَوَزْنٌ يُنَافَسُ فِيهِ فَهُوَ ثِقَلٌ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنِّي تَارِكٌ فِيكُمُ الثَّقَلَيْنِ كِتَابَ اللَّهِ وَعِتْرَتِي" (3) فَجَعَلَهُمَا ثَقَلَيْنِ إِعْظَامًا لِقَدْرِهِمَا.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: سُمِّيَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ ثَقَلَيْنِ لِأَنَّهُمَا مُثْقَلَانِ بِالذُّنُوبِ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
{يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} ، أَيْ تَجُوزُوا وَتَخْرُجُوا،
__________
(1) انظر زاد المسير: 8 / 114.
(2) في "أ" للمخلوق.
(3) أخرجه الإمام أحمد: 3 / 14، 17. راجع صحيح الجامع رقم: (2457) .(7/447)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35)
{مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أَيْ مِنْ جَوَانِبِهِمَا وَأَطْرَافِهِمَا، {فَانْفُذُوا} مَعْنَاهُ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْمَوْتِ بِالْخُرُوجِ من أقطار السموات وَالْأَرْضِ: فَاهْرُبُوا وَاخْرُجُوا مِنْهَا. [وَالْمَعْنَى] (1) حَيْثُمَا كُنْتُمْ أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ"، (النِّسَاءِ-78) وَقِيلَ: يُقَالُ لَهُمْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تجوزوا أطراف السموات وَالْأَرْضِ فَتُعْجِزُوا رَبَّكُمْ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَيْكُمْ فَجُوزُوا، {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} أَيْ: بِمُلْكٍ، وَقِيلَ بِحُجَّةٍ، وَالسُّلْطَانُ: الْقُوَّةُ الَّتِي يَتَسَلَّطُ بِهَا عَلَى الْأَمْرِ، فَالْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ وَالْحُجَّةُ كُلُّهَا سُلْطَانٌ، يُرِيدُ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتُمْ كُنْتُمْ فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَعْنَاهُ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا ما في السموات وَالْأَرْضِ فَاعْلَمُوا وَلَنْ تَعْلَمُوهُ إِلَّا بِسُلْطَانٍ أَيْ بِبَيِّنَةٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (2) . وَقِيلَ قَوْلُهُ: "إِلَّا بِسُلْطَانٍ" أَيْ إِلَّا إِلَى سُلْطَانٍ كَقَوْلِهِ: "وَقَدْ أَحْسَنَ بِي" (يُوسُفَ-100) أَيْ إِلَيَّ.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ، وَفِي الْخَبَرِ: يُحَاطُ عَلَى الْخَلْقِ بِالْمَلَائِكَةِ وَبِلِسَانٍ مِنْ نَارٍ ثُمَّ يُنَادَوْنَ {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} الْآيَةَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} . {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ: بِكَسْرِ الشِّينِ وَالْآخَرُونَ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، مِثْلَ صِوَارٍ مِنَ الْبَقَرِ وَصُوَارٍ. وَهُوَ اللَّهِيبُ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ اللَّهَبُ الْأَخْضَرُ الْمُنْقَطِعُ مِنَ النَّارِ، {وَنُحَاسٌ} ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو "وَنُحَاسٍ" بِجَرُّ السِّينِ عَطْفًا عَلَى النَّارِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِرَفْعِهَا عَطْفًا عَلَى الشُّوَاظِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْكَلْبِيُّ: "النُّحَاسُ": الدُّخَانُ وَهُوَ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَمَعْنَى الرَّفْعِ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ، وَيُرْسَلُ نُحَاسٌ، أَيْ يُرْسَلُ هَذَا مَرَّةً وَهَذَا مَرَّةً، وَيَجُوزُ أَنْ يُرْسَلَا مَعًا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَمْتَزِجَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ، وَمَنْ كَسَرَ بِالْعَطْفِ عَلَى النَّارِ يَكُونُ ضَعِيفًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَكُونُ شُوَاظٌ مِنْ نُحَاسٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرُهُ: شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَشَيْءٌ مِنْ نُحَاسٍ، عَلَى أَنَّهُ حُكِيَ أَنَّ الشُّوَاظَ لَا يَكُونُ مِنَ النَّارِ وَالدُّخَانِ جَمِيعًا.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أخرجه الطبري: 27 / 137. وذكره القرطبي: 17 / 170.(7/448)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39)
قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: النُّحَاسُ هُوَ الصُّفْرُ الْمُذَابُ يصب على رؤوسهم، وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: هُوَ الْمُهْلُ.
{فَلَا تَنْتَصِرَانِ} ، أَيْ فَلَا تَمْتَنِعَانِ مِنَ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ لَكُمْ نَاصِرٌ مِنْهُ.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} {فَإِذَا انْشَقَّتِ} ، [انْفَرَجَتِ] (1) {السَّمَاءُ} ، فَصَارَتْ أَبْوَابًا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} ، أَيْ كَلَوْنِ الْفَرَسِ الْوَرِدِ، وَهُوَ الْأَبْيَضُ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ وَالصُّفْرَةِ، قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّهَا الْيَوْمَ خَضْرَاءُ، وَيَكُونُ لَهَا يَوْمَئِذٍ لَوْنٌ آخَرُ يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ.
وَقِيلَ: إِنَّهَا تَتَلَوَّنُ أَلْوَانًا يَوْمَئِذٍ كَلَوْنِ الْفَرَسِ الْوَرِدِ يَكُونُ فِي الرَّبِيعِ أَصْفَرَ وَفِي أَوَّلِ الشِّتَاءِ أَحْمَرَ فَإِذَا اشْتَدَّ الشِّتَاءُ كَانَ أَغْبَرَ فَشَبَّهَ السَّمَاءَ فِي تَلَوُّنِهَا عِنْدَ انْشِقَاقِهَا بِهَذَا الْفَرَسِ فِي تَلَوُّنِهِ.
{كَالدِّهَانِ} ، جَمْعُ دُهْنٍ. شَبَّهَ تَلَوُّنَ السَّمَاءِ بِتَلَوُّنِ الْوَرْدِ مِنَ الْخَيْلِ، وَشَبَّهَ الْوَرْدَةَ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا بِالدُّهْنِ وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: "كَالدِّهَانِ" كَعَصِيرِ الزَّيْتِ يَتَلَوَّنُ فِي السَّاعَةِ أَلْوَانًا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَدُهْنِ الْوَرْدِ الصَّافِي. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: تَصِيرُ السَّمَاءُ كَالدُّهْنِ الذَّائِبِ وَذَلِكَ حِينَ يُصِيبُهَا حَرُّ جَهَنَّمَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَالدِّهَانِ أَيْ كَالْأَدِيمِ الْأَحْمَرِ وَجَمْعُهُ أَدْهِنَةٌ وَدُهُنٌ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} . {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} ، قَالَ الْحَسَنُ وقتادة: لا يسئلون عَنْ ذُنُوبِهِمْ لِتُعْلَمَ مِنْ جِهَتِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلِمَهَا مِنْهُمْ، وَكَتَبَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر الطبري: 27 / 142، القرطبي: 17 / 174.(7/449)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)
وَعَنْهُ أَيْضًا: لَا تَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ. دَلِيلُهُ: مَا بَعْدَهُ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٌ (1) .
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قوله: "فوربك لنسئلنهم أَجْمَعِينَ"، (الْحِجْرِ -92) ، قَالَ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَسْأَلُهُمْ لِمَ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟
وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا مَوَاطِنُ، يَسْأَلُ فِي بَعْضِهَا وَلَا يَسْأَلُ فِي بَعْضِهَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: لَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ شَفَقَةٍ وَرَحْمَةٍ وَإِنَّمَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُسْأَلُ غَيْرُ الْمُجْرِمِ عَنْ ذَنْبِ الْمُجْرِمِ (2) .
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40)
__________
(1) أخرجه الطبري: 27 / 143، ابن كثير:4 / 276. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 704 لعبد بن حميد وابن جرير وآدم وابن المنذر والبيهقي في الشعب.
(2) انظر البحر المحيط: 8 / 195.(7/450)
يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
{يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} {يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} ، وَهُوَ سَوَادُ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةُ الْعُيُونِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: "يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ"، (آلِ عِمْرَانَ-106) {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} ، تُجْعَلُ الْأَقْدَامُ مَضْمُومَةً إِلَى النَّوَاصِي مِنْ خَلْفٍ وَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} المشركون 148/ب {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنَى يَأْنَى فَهُوَ آنٌ إِذَا انْتَهَى فِي النُّضْجِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ بَيْنَ الْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ فَإِذَا اسْتَغَاثُوا مِنْ حَرِّ النَّارِ جُعِلَ عَذَابُهُمُ الْحَمِيمَ الْآنِيَ الَّذِي صَارَ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ "وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ"، (الْكَهْفِ-29) وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: "آنٍ" وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ فَيُنْطَلَقُ بِهِمْ فِي الْأَغْلَالِ فَيُغْمَسُونَ فِي ذَلِكَ الْوَادِي حَتَّى تَنْخَلِعَ أَوْصَالُهُمْ، ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهُ وَقَدْ أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ خَلْقًا جَدِيدًا فَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ (1) وَذَلِكَ قَوْلُهُ: "يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ".
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} وَكُلُّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فان" إلى
__________
(1) انظر: القرطبي: 17 / 175-176.(7/450)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47)
ههنا مَوَاعِظُ وَزَوَاجِرُ وَتَخْوِيفٌ. وَكُلُّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، لِأَنَّهَا تَزْجُرُ عَنِ الْمَعَاصِي وَلِذَلِكَ خَتَمَ كُلَّ آيَةٍ بِقَوْلِهِ: {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
{وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) }
ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ لِمَنِ اتَّقَاهُ وَخَافَهُ فَقَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} أَيْ: مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ لِلْحِسَابِ فَتَرَكَ الْمَعْصِيَةَ وَالشَّهْوَةَ. وَقِيلَ: قِيَامُ رَبِّهِ عَلَيْهِ، بَيَانُهُ قَوْلُهُ: "أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ" (الرَّعْدِ-33) ، وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَدَعَهَا مِنْ مَخَافَةِ اللَّهِ (1) . {جَنَّتَانِ} ، قَالَ مُقَاتِلٌ: جَنَّةُ عَدْنٍ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (2) . قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: جَنَّةٌ لِخَوْفِهِ رَبَّهُ وَجَنَّةٌ لِتَرْكِهِ شَهْوَتَهُ (3) .
قَالَ الضَّحَّاكُ: هَذَا لِمَنْ رَاقَبَ اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ بِعِلْمِهِ مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ مُحَرَّمٍ تَرَكَهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ أَفْضَى بِهِ إِلَى اللَّهِ، لَا يُحِبُّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ خَافُوا ذَلِكَ الْمَقَامَ فَعَمِلُوا لِلَّهِ وَدَأَبُوا بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقُرَشِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُسْلِمٍ غَالِبُ بْنُ عَلِيٍّ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يُونُسَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى بْنِ عِيسَى الْحُلْوَانِيُّ، وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُبَيْدٍ الْهَمْدَانِيُّ، أَخْبَرَنَا هَاشِمُ بْنُ الْقَاسِمِ عَنْ أَبِي عَقِيلٍ هُوَ الثَّقَفِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ سِنَانَ سَمِعْتُ [بُكَيْرَ] (5) بْنَ فَيْرُوزَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ خَافَ أَدْلَجَ وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ" (6) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ،
__________
(1) أخرجه الطبري: 27 / 146. وانظر: الدر المنثور: 7 / 706، القرطبي: 17 / 176.
(2) انظر: البحر المحيط: 8 / 196.
(3) انظر: القرطبي: 17 / 176.
(4) أخرجه الطبري: 27 / 147، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 706 عزوه لعبد بن حميد.
(5) في "أ" بكر، والصحيح ما أثبتناه من "ب".
(6) أخرجه الترمذي في صفة القيامة، باب من خاف أدلج:7 / 146-147 قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من حديث أبي النضر". وصححه الحاكم: 4 / 307-308 ووافقه الذهبي. وله شاهد عند الحاكم من حديث أبي بن كعب،والمصنف في شرح السنة: 14 / 271. وانظر: الجامع الصغير وزيادته برقم: (6222) .(7/451)
ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِهَينِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ مَوْلَى حُوَيْطِبِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُصُّ عَلَى الْمِنْبَرِ وَهُوَ يَقُولُ: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ" قُلْتُ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ" فَقُلْتُ الثَّانِيَةَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ". فَقُلْتُ الثَّالِثَةَ: وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي الدَّرْدَاءِ" (1) .
{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ثُمَّ وَصَفَ الْجَنَّتَيْنِ فَقَالَ:
{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} ، أَغْصَانٍ، وَاحِدُهَا فَنَنٌ، وَهُوَ الْغُصْنُ الْمُسْتَقِيمُ طُولًا. وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْكَلْبِيِّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ظِلُّ الْأَغْصَانِ عَلَى الْحِيطَانِ. قَالَ الْحَسَنُ: ذَوَاتَا ظِلَالٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَلْوَانٌ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ: أَلْوَانُ الْفَاكِهَةِ، وَاحِدُهَا فَنٌّ مِنْ قَوْلِهِمْ أَفْنَنَ فُلَانٌ فِي حَدِيثِهِ إِذَا أَخَذَ فِي فُنُونٍ مِنْهُ وَضُرُوبٍ. وَجَمَعَ عَطَاءٌ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فَقَالَ: فِي كُلِّ غُصْنٍ فُنُونٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَوَاتَا فَضْلٍ وَسَعَةٍ عَلَى مَا سِوَاهُمَا {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْكَرَامَةِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ. قَالَ الْحَسَنُ: تَجْرِيَانِ بِالْمَاءِ الزُّلَالِ، إِحْدَاهُمَا التَّسْنِيمُ وَالْأُخْرَى السَّلْسَبِيلُ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: إِحْدَاهُمَا مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَالْأُخْرَى مَنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
{فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} صِنْفَانِ وَنَوْعَانِ قِيلَ: مَعْنَاهُ: إِنَّ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ مَا يُتَفَكَّهُ
__________
(1) أخرجه النسائي في كتابه " التفسير": 2 / 374-375، والإمام أحمد: 2 / 357، وابن أبي عاصم في السنة:2 / 472، والطبري: 27 / 146، وابن خزيمة في التوحيد ص 223، والمصنف في شرح السنة: 14 / 386. وعزاه ابن حجر في المطالب العالية:3 / 382 لابن منيع. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: (7 / 118) : "رواه أحمد والطبراني، ولفظه: عن عروة بن الأسود أنه خرج.." وساق الحديث - ثم قال: "ورجال أحمد رجال الصحيح". وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 707 لابن منيع والحكيم الترمذي في نوادر الأصول والبراز وأبي يعلى وابن أبي حاتم وابن المنذر والطبراني وابن مردويه. وصححه الألباني في ظلال الجنة: 2 / 472-473.(7/452)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56)
بِهِ ضَرْبَيْنِ رَطْبًا وَيَابِسًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فِي الدُّنْيَا ثَمَرَةٌ حُلْوَةٌ وَلَا مُرَّةٌ إِلَّا وَهِيَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى الْحَنْظَلُ إِلَّا أَنَّهُ حُلْوٌ (1) .
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ} ، جَمْعُ فِرَاشٍ، {بَطَائِنُهَا} ، جَمْعُ بِطَانَةٍ، وَهِيَ الَّتِي تَحْتَ الظِّهَارَةِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَهِيَ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ. {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: هَذِهِ الْبَطَائِنُ فَمَا ظَنَّكُمْ بِالظَّوَاهِرِ (2) ؟ وَقِيلَ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: الْبَطَائِنُ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، فَمَا الظَّوَاهِرُ؟ قَالَ: هَذَا مِمَّا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ" (السَّجْدَةِ -17) (3) وَعَنْهُ أَيْضًا قَالَ: بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ فَظَوَاهِرُهَا مِنْ نُورٍ جَامِدٍ (4) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَفَ الْبَطَائِنَ وَتَرَكَ الظَّوَاهِرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَا الظَّوَاهِرُ (5) .
{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} ، الْجَنَى مَا يُجْتَنَى مِنَ الثِّمَارِ، يُرِيدُ: ثَمَرُهَا دَانٍ قَرِيبٌ يَنَالُهُ الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَالنَّائِمُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَدْنُو الشَّجَرَةُ حَتَّى يَجْتَنِيَهَا وَلِيُّ اللَّهِ، إِنْ شَاءَ قَائِمًا وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا (6) . قَالَ قَتَادَةُ: لَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ عَنْهَا بُعْدٌ وَلَا شَوْكٌ. {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} .
{فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} غَاضَّاتُ الْأَعْيُنِ، قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ. وَلَا يُرِدْنَ غَيْرَهُمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تَقُولُ لِزَوْجِهَا: وَعِزَّةِ رَبِّي مَا أَرَى فِي الْجَنَّةِ شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْكَ، فَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَكَ زَوْجِي وَجَعَلَنِي زَوْجَتَكَ (7) . {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} لَمْ يُجَامِعْهُنَّ وَلِمَ [يَفْتَرِعْهُنَّ] (8)
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 709 لعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم. وانظر: البحر المحيط: 8 / 196-197، ابن كثير: 4 / 278.
(2) لم أجد القول منسوبًا لأبي هريرة وإنما هو لهبيرة كما ذكر الطبري: 27 / 149 أو عن هبيرة بن مريم عن عبد الله بن مسعود كما ذكر ابن كثير: 4 / 278.
(3) أخرجه الطبري: 27 / 149. وانظر: القرطبي: 17 / 179.
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 710 لأبي نعيم في الحلية.
(5) انظر: القرطبي: 17 / 179.
(6) انظر: البحر المحيط: 8 / 197.
(7) أخرجه الطبري:27 / 150.
(8) الافتراع: إزالة البكارة.(7/453)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58)
وَأَصْلُهُ مِنَ الطَّمْثِ، وَهُوَ الدَّمُ وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَائِضِ: طَامِثٌ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَمْ تُدْمِهِنَّ بِالْجِمَاعِ، {إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} ، قَالَ الزَّجَّاجُ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجِنِّيَّ يَغْشَى كما يغشى 149/أالْإِنْسِيُّ. قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا جَامِعَ الرَّجُلُ وَلَمْ يُسَمِّ انْطَوَى الْجَانُّ عَلَى إِحْلِيلِهِ فَجَامَعَ مَعَهُ (1) .
قَالَ مُقَاتِلٌ فِي قَوْلِهِ: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} ، لِأَنَّهُنَّ خُلِقْنَ فِي الْجَنَّةِ. فَعَلَى قَوْلِهِ: هَؤُلَاءِ مِنْ حُورِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُنَّ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا لَمْ يُمْسَسْنَ مُنْذُ أُنْشِئْنَ خَلْقًا، وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ (2) يعني: لم يجامعن فِي هَذَا الْخَلْقِ الَّذِي أُنْشِئْنَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ.
وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: "لَا يَطْمُثْهُنَّ" بِضَمِّ الْمِيمِ فِيهِمَا.
وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ إِحْدَاهُمَا بِالضَّمِّ، فَإِنْ كَسَرَ الْأُولَى ضَمَّ الثَّانِيَةَ وَإِنْ ضَمَّ الْأُولَى كَسَرَ الثَّانِيَةَ، لِمَا رَوَى أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي خَلْفَ أَصْحَابِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه فأسمعهم يقرؤون: لَمْ يَطْمُثْهُنَّ بِالرَّفْعِ، وَكُنْتُ أُصَلِّي خَلْفَ أَصْحَابِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود فأسمعهم يقرؤون بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَكَانَ الْكِسَائِيُّ يَضُمُّ إِحْدَاهُمَا وَيَكْسِرُ الْأُخْرَى لِئَلَّا يَخْرُجَ عَنْ هَذَيْنَ الْأَثَرَيْنِ (3) .
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} ، قَالَ قَتَادَةُ: صَفَاءُ الْيَاقُوتِ فِي بَيَاضِ الْمَرْجَانِ.
وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لِكُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ عَلَى كُلِّ زَوْجَةٍ سَبْعُونَ حُلَّةً، يُرَى مُخُّ سُوقِهِنَّ دُونَ لَحْمِهِمَا وَدِمَائِهِمَا وَجِلْدِهِمَا" (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَنَا شُعَيْبٌ، أَخْبَرَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَوَّلُ زُمْرَةٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ وَالَّذِينَ عَلَى إِثْرِهِمْ كَأَشَدِّ
__________
(1) أخرجه الطبري: 27 / 151، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 7 / 711 عزوه للحكيم الترمذي في نوادر الأصول.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 711 لسعيد بن منصور وابن المنذر وأبي الشيخ في العظمة.
(3) معاني القرآن للفراء: 3 / 119.
(4) قطعة من حديث أخرجه الترمذي في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة نساء أهل الجنة: 7 / 239-240 وقال: "هذا حديث حسن صحيح" والإمام أحمد: 3 / 16، والمصنف في شرح السنة: 15 / 212.(7/454)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)
كَوْكَبٍ إِضَاءَةً، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ، لَا اخْتِلَافَ بَيْنِهِمْ وَلَا تباغض، لكل امرىء مِنْهُمْ زَوْجَتَانِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا يُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ لَحْمِهَا مِنَ الْحُسْنِ، يُسَبِّحُونَ اللَّهَ بِكُرَةً وَعَشِيًّا لَا يَسْقَمُونَ وَلَا يَبُولُونَ وَلَا يَتَغَوَّطُونَ، وَلَا يَتْفُلُونَ، وَلَا يَتَمَخَّطُونَ، آنِيَتُهُمُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَأَمْشَاطُهُمُ الذَّهَبُ، وَوَقُودُ مَجَامِرِهِمُ الْأَلُوَّةُ، وَرَشْحُهُمُ الْمِسْكُ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، أَخْبَرَنَا هَارُونُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا حَازِمُ بْنُ يَحْيَى الْحُلْوَانِيُّ، أَخْبَرَنَا سُهَيْلُ بْنُ عُثْمَانَ الْعَسْكَرِيُّ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ ابن مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَيُرَى بَيَاضُ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً مِنْ حَرِيرٍ، وَمُخُّهَا، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ، فَأَمَّا الْيَاقُوتُ فَإِنَّهُ حَجَرٌ لَوْ أَدْخَلْتَ فِيهِ سِلْكًا ثُمَّ اسْتَصْفَيْتُهُ لَرَأَيْتَهُ مِنْ وَرَائِهِ" (2) .
وَقَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: "إِنَّ الْمَرْأَةَ مِنَ الْحُورِ الْعِينِ لَتَلْبَسُ سَبْعِينَ حُلَّةً فَيُرَى مُخُّ سَاقِهَا مِنْ وَرَائِهَا كَمَا يُرَى الشَّرَابُ الْأَحْمَرُ فِي الزُّجَّاجَةِ الْبَيْضَاءِ" (3) .
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} ،أَيْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَمِلَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْجَنَّةُ؟ (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة 6 / 318، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر..برقم: (2834) : 4 / 2179، والمصنف في شرح السنة: 15 / 211.
(2) أخرجه هناد في الزهد: 1 / 96، والترمذي في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة نساء أهل الجنة: 7 / 238-239، والطبري: 27 / 152، وابن حبان: برقم: (2632) ص 654. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10 / 418: "رواه الطبراني وسقط من إسناده رجلان". وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 712 أيضًا لابن أبي الدنيا في "وصف الجنة" وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة"، وابن مردويه. وفيه عطاء بن السائب وقد اختلط.
(3) أخرجه الطبري: 27 / 152 موقوفًا على عمرو بن ميمون، وهناد في "الزهد" مثله: 1 / 97، وأخرجه عبد الرزاق في المصنف: 11 / 414. وانظر تعليق المحقق على كتاب الزهد لهناد: 1 / 97-98.
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 714 لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه. وانظر: القرطبي: 17 / 182.(7/455)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا [ابْنُ شَيْبَةَ] (1) ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ بَهْرَامَ، أَخْبَرَنَا الْحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفَ الْمُكْتِبُ، أَخْبَرَنَا بِشْرُ بْنُ الْحُسَيْنِ، عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ" ثُمَّ قَالَ: [هَلْ تَدْرُونَ مَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ " قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ] (2) قَالَ: "يَقُولُ هَلْ جَزَاءُ مَنْ أَنْعَمْتُ عَلَيْهِ بِالتَّوْحِيدِ إِلَّا الْجَنَّةُ" (3) .
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61) وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} ، أَيْ مِنْ دُونِ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ جَنَّتَانِ أُخْرَيَانِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ دُونِهِمَا فِي الدَّرَجِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ دُونِهِمَا فِي الْفَضْلِ. وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِلتَّابِعِينَ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: هُنَّ أَرْبَعٌ جَنَّتَانِ لِلْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ فِيهِمَا من كل مِنْ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، وَجَنَّتَانِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ وَالتَّابِعِينَ {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ إِلَّا رِدَاءُ الْكِبْرِيَاءِ عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ" (4) .
وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: "وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ" أَيْ أَمَامَهُمَا وَقَبْلَهُمَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الضَّحَّاكِ: الْجَنَّتَانِ
__________
(1) في "أ" أبو شيبة، والصحيح ما أثبتناه من "ب". قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: 17 / 384 في ترجمة ابن فنجويه: "وقد حدث عنه أبو إسحاق الثعلبي في التفسير، وتكلم فيه الحافظ أبو الفضل الفلكي، وقال: ما سمع من عبيد الله بن شيبة. فخرج ساخطًا من همذان فتبعه الفلكي واعتذر، ورجع عن مقالته".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 714 للحكيم الترمذي في "نوادر الأصول"، والديلمي في "مسند الفردوس"، وابن النجارفي تاريخه. وفيه بشر بن الحسين الأصبهاني، قال ابن حبان في المجروحين والضعفاء: (1 / 190) : "يروي عن الزبير عن عدي بنسخة موضوعة، ما لكثير حديث فيها أصل، يرويها عن الزبير عن أنس شبيهًا بمائة وخمسين حديثًا مسانيد كلها، وإنما سمع الزبير من أنس حديثًا واحدًا.." وانظر: ميزان الاعتدال للذهبي: 1 / 315-316.
(4) أخرجه البخاري في التفسير-تفسير سورة الرحمن- باب (ومن دونهما جنتان) 8 / 623-624، ومسلم في الإيمان، باب إثبات رؤية المؤمنين في الآخرة ربهم سبحانه وتعالى برقم: (180) : 1 / 163، والمصنف في شرح السنة: 15 / 216.(7/456)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67)
الْأُولَيَانِ مِنْ ذَهَبٍ وَفِضَّةٍ وَالْأُخْرَيَانِ مِنْ يَاقُوتٍ.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) }(7/457)
فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)
{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُدْهَامَّتَانِ} ، نَاعِمَتَانِ سَوْدَاوَانِ مِنْ رَيِّهِمَا وَشِدَّةِ خُضْرَتِهِمَا، لِأَنَّ الْخُضْرَةَ إِذَا اشْتَدَّتْ ضَرَبَتْ إِلَى السَّوَادِ، يُقَالُ: إِدْهَامَّ الزَّرْعُ إِذَا عَلَاهُ السَّوَادُ رَيًّا ادْهِيمَامًا فَهُوَ مُدْهَامٌّ.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} ، فَوَّارَتَانِ بِالْمَاءِ لَا تَنْقَطِعَانِ. "وَالنَّضْخُ": فَوَرَانُ الْمَاءِ مِنَ الْعَيْنِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَنْضَخَانِ بِالْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ (1) ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَنْضَخَانِ بِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ (2) . وَقَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ: تَنْضَخَانِ بِالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ فِي دُورِ أَهْلِ الْجَنَّةِ كَطَشِّ الْمَطَرِ (3) .
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} ، قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ مِنَ الْفَاكِهَةِ وَالْعَامَّةُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْفَاكِهَةِ، وَإِنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ النَّخْلِ وَالرُّمَّانِ وَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْفَوَاكِهِ لِلتَّخْصِيصِ وَالتَّفْصِيلِ (4) ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: "مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ" (الْبَقَرَةِ-98) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَخْلُ الْجَنَّةِ جُذُوعُهَا زُمُرُّدٌ أَخْضَرُ، وَوَرَقُهَا ذَهَبٌ أَحْمَرُ، وَسَعَفُهَا كِسْوَةٌ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا مُقَطَّعَاتُهُمْ وَحُلَلُهُمْ، وَثَمَرُهَا أَمْثَالُ الْقِلَالِ أَوِ الدِّلَاءِ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ وَأَلْيَنُ مِنَ الزُّبْدِ لَيْسَ لَهُ عَجَمٌ (5) .
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ فِيهِنَّ} ، يَعْنِي فِي الْجَنَّاتِ الْأَرْبَعِ، {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} رَوَى
__________
(1) انظر: الطبري: 27 / 157، القرطبي: 17 / 185.
(2) انظر: القرطبي: 17 / 185.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 7 / 716 لابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم. وانظر: البحر المحيط: 8 / 198، القرطبي: 17 / 185.
(4) معاني القرآن للفراء: 3 / 119.
(5) ذكره القرطبي: 17 / 186.(7/457)
الْحَسَنُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} ، قَالَ: "خَيْرَاتُ الْأَخْلَاقِ حِسَانُ الْوُجُوهِ" (1) .
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ حُورٌ مَقْصُورَاتٌ} 149/ب مَحْبُوسَاتٌ مَسْتُورَاتٌ فِي الْحِجَالِ، يُقَالُ: امْرَأَةٌ مَقْصُورَةٌ وَقَصِيرَةٌ إِذَا كَانَتْ مُخَدَّرَةً مَسْتُورَةً لَا تَخْرُجُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ وَأَنْفُسَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ فَلَا يَبْغِينَ لَهُمْ بَدَلًا.
وَرُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ اطَّلَعَتْ إِلَى [أَهْلِ] (2) الْأَرْضِ لَأَضَاءَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَمَلَأَتْ مَا بَيْنَهُمَا رِيحًا وَلَنَصِيفُهَا عَلَى رَأْسِهَا خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا" (3) .
{فِي الْخِيَامِ} جَمْعُ خَيْمَةٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ الْجَوْنِيُّ، عَنْ أَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسٍ، عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لِلْمُؤْمِنِ فِي الْجَنَّةِ لَخَيْمَةٌ مِنْ لُؤْلُؤَةٍ وَاحِدَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا فِي كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْلٌ مَا يَرَوْنَ الْآخَرِينَ يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ" (4) .
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "الرَّفْرَفُ": رِيَاضُ الْجَنَّةِ. "خُضْرٍ": مُخَضَّبَةٍ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاحِدَتُهَا رَفْرَفَةٌ، وَقَالَ: الرَّفَارِفُ جَمْعُ الْجَمْعِ. وَقِيلَ: "الرَّفْرَفُ": الْبُسُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ وَالْقُرَظِيِّ وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "الرَّفْرَفُ": فُضُولُ الْمَجَالِسِ وَالْبُسُطِ.
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه الطبري: 27 / 158، وعزاه السيوطي في الدر المنثور أيضًا: 7 / 720 للطبراني وابن مردويه. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 119: "رواه الطبراني، وفيه سليمان بن أبي كريمة، ضعفه أبو حاتم وابن عدي".
(2) ساقط من "ب".
(3) قطعه من حديث أخرجه البخاري في الجهاد، باب الحور العين وصفتهن: 6 / 15.
(4) أخرجه البخاري في التفسير -تفسير سورة الرحمن- باب (حور مقصورات في الخيام) : 8 / 624، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفة خيام الجنة وما للمؤمنين فيها من الأهلين برقم: (2838) : 4 / 2182.(7/458)
فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: هِيَ مَجَالِسُ خُضْرٌ فَوْقَ الْفُرُشِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هِيَ الْمَرَافِقُ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ الزَّرَابِيُّ. وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلُّ ثَوْبٍ عَرِيضٍ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ رَفْرَفٌ.
{وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} هِيَ الزَّرَابِيُّ وَالطَّنَافِسُ الثِّخَانُ، وَهِيَ جَمْعٌ، وَاحِدَتُهَا عَبْقَرِيَّةٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: "الْعَبْقَرِيُّ" عِتَاقُ الزَّرَابِيِّ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هِيَ الطَّنَافِسُ الْمُخَمَّلَةُ إِلَى الرِّقَّةِ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: كُلُّ ثَوْبٍ مُوَشًّى عِنْدَ الْعَرَبِ: عَبْقَرِيٌّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَرْضٍ يُعْمَلُ بِهَا الْوَشْيُ.
قَالَ الْخَلِيلُ: كُلٌّ جَلِيلٍ نَفِيسٍ فَاخِرٍ مِنَ الرِّجَالِ وَغَيْرِهِمْ عِنْدَ الْعَرَبِ: عَبْقَرِيٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ" (1) .
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78) }
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} قَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ "ذُو الْجَلَالِ" بِالْوَاوِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ إِجْرَاءً عَلَى الِاسْمِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ يُوسُفَ الْجُوَيْنِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شَرِيكٍ الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْجُورَبَذِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ حَرْبٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرُ عَنْ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سَلَّمَ مِنَ الصَّلَاةِ لَمْ يَقْعُدْ إِلَّا مِقْدَارَ مَا يَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْكَ السَّلَامُ تَبَارَكْتَ يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ" (2) .
__________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب عمر بن الخطاب أبي حفص القرشي العدوي -رضي الله عنه-: 7 / 41، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل عمر رضي الله عنه برقم: (2393) : 4 / 1862.
(2) أخرجه مسلم في المساجد، باب استحباب الذكر بعد الصلاة وبيان صفته برقم: (592) : 1 / 414.(7/459)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5)
سُورَةُ الْوَاقِعَةِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) }
{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ. وَقِيلَ: إِذَا نَزَلَتْ صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ.
{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا} لِمَجِيئِهَا {كَاذِبَةٌ} كَذِبٌ كَقَوْلِهِ: "لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً" (الغاشية -11) أي: لغو يَعْنِي أَنَّهَا تَقَعُ صِدْقًا وَحَقًّا. وَ"الْكَاذِبَةُ" اسْمٌ كَالْعَافِيَةِ وَالنَّازِلَةِ.
{خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} تَخْفِضُ أَقْوَامًا إِلَى النَّارِ وَتَرْفَعُ آخَرِينَ إِلَى الْجَنَّةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَخْفِضُ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ وَتَرْفَعُ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُسْتَضْعَفِينَ (2) .
{إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} حُرِّكَتْ وَزُلْزِلَتْ زِلْزَالًا قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَوْحَى إِلَيْهَا اضْطَرَبَتْ فَرَقًا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تُرَجُّ كَمَا يُرَجُّ الصَّبِيُّ فِي الْمَهْدِ حَتَّى يَنْهَدِمَ كُلُّ بِنَاءٍ عَلَيْهَا وَيَنْكَسِرَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا (3) وَأَصْلُ "الرَّجِّ" فِي اللُّغَةِ: التَّحْرِيكُ يُقَالُ: رَجَجْتُهُ فَارْتَجَّ.
{وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [قَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ] (4) فُتَّتْ فَتًّا فَصَارَتْ كَالدَّقِيقِ الْمَبْسُوسِ وَهُوَ الْمَبْلُولُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالسُّدِّيُّ: كُسِرَتْ كَسْرًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: سُيِّرَتْ عَلَى وَجْهِ
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مروديه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة الواقعة بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 3.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 4 لسعيد بن منصور وابن المنذر وأبي الشيخ في "العظمة" عن محمد بن كعب، وكذلك عند ابن كثير: 4 / 283، وعند القرطبي: 17 / 195.
(3) انظر: القرطبي: 17 / 196.
(4) ساقط من "أ".(7/7)
فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10)
الْأَرْضِ تَسْيِيرًا. قَالَ الْحَسَنُ: قُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا فَذَهَبَتْ نَظِيرُهَا: " فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا" (طه -105) قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ جُعِلَتْ كَثِيبًا مَهِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَامِخَةً طَوِيلَةً.
{فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) }
{فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} غُبَارًا مُتَفَرِّقًا كَالَّذِي يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا دَخَلَ الْكُوَّةَ وَهُوَ الْهَبَاءُ.
{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا} أَصْنَافًا {ثَلَاثَةً} ، ثُمَّ فَسَّرَهَا فَقَالَ:
{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} هُمُ الَّذِينَ يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى يَمِينِ آدَمَ حِينَ أُخْرِجَتِ الذُّرِّيَّةُ مِنْ صُلْبِهِ وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي (1) . وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمُ الَّذِينَ يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَيَامِينَ مُبَارَكِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَكَانَتْ أَعْمَارُهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَهُمُ التَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ (2) ثُمَّ عَجَّبَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ مَا زَيْدٌ! يُرَادُ زَيْدٌ شَدِيدٌ.
{وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} يَعْنِي أَصْحَابَ الشِّمَالِ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْيَدَ الْيُسْرَى الشُّؤْمَى وَمِنْهُ يُسَمَّى الشَّامُ وَالْيَمَنُ لِأَنَّ الْيَمَنَ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ وَالشَّامُ عَنْ شِمَالِهَا وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى شِمَالِ آدَمَ عِنْدَ إِخْرَاجِ الذُّرِّيَّةِ وَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمُ الَّذِينَ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشِمَالِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْمَشَائِيمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَكَانَتْ أَعْمَارُهُمْ فِي الْمَعَاصِي (3) .
{وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّابِقُونَ إِلَى الْهِجْرَةِ هُمُ السَّابِقُونَ فِي الْآخِرَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: السَّابِقُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ. قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ (4) . دَلِيلُهُ: قَوْلُهُ:
__________
(1) انظر: القرطبي: 17 / 198.
(2) انظر: البحر المحيط: 8 / 204، القرطبي: 17 / 198.
(3) انظر: البحر المحيط: 8 / 204.
(4) أخرجه الطبري: 27 / 171، وانظر: البحر المحيط: 8 / 205.(7/8)
أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)
"وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ" (التَّوْبَةِ -100) .
قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: السَّابِقُونَ إِلَى إِجَابَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى.
وقال مقاتل: 150/أإِلَى إِجَابَةِ الْأَنْبِيَاءِ بِالْإِيمَانِ (1) .
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِلَى الْجِهَادِ (2) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمُ الْمُسَارِعُونَ إِلَى التَّوْبَةِ وَإِلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ (3) . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ" (الْحَدِيدِ -21) "وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ" (آلِ عِمْرَانَ -133)
ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ: أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ" قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَالسَّابِقُونَ إِلَى كُلِّ مَا دَعَا اللَّهُ إِلَيْهِ.
وَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ قَالَ: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ الْمُتَوَّجُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقِيلَ: هُمْ أَوَّلُهُمْ رَوَاحًا إِلَى الْمَسْجِدِ وَأَوَّلُهُمْ خُرُوجًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (4) . وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: إِلَى كُلِّ خَيْرٍ.
{أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) }
{أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} مِنَ اللَّهِ. {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى زَمَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثُّلَّةُ: جَمَاعَةٌ غَيْرُ مَحْصُورَةِ الْعَدَدِ.
{وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} يَعْنِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ عَايَنُوا جَمِيعَ النَّبِيِّينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَصَدَّقُوهُمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ عَايَنَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} مَنْسُوجَةٍ كَمَا تُوَضَنُ حِلَقُ الدِّرْعِ فَيُدْخَلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هِيَ مَوْصُولَةٌ مَنْسُوجَةٌ بِالذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَوْضُونَةٌ مَصْفُوفَةٌ.
{مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ فِي قَفَا بَعْضٍ.
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 8 / 205.
(2) انظر: القرطبي: 17 / 199.
(3) انظر: القرطبي: 17 / 199.
(4) انظر: الطبري: 27 / 171، ابن كثير: 4 / 284.(7/9)
يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22)
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) }
{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} لِلْخِدْمَةِ {وِلْدَانٌ} [غِلْمَانٌ] (1) {مُخَلَّدُونَ} لَا يَمُوتُونَ وَلَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: [تَقُولُ الْعَرَبُ لِمَنْ كَبِرَ وَلَمْ يَشْمَطْ: إِنَّهُ مُخَلَّدٌ] (2) .
قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي وِلْدَانًا لَا يُحَوَّلُونَ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُقَرَّطُونَ، يُقَالُ: خَلَّدَ جَارِيَتَهُ إِذَا حَلَّاهَا بِالْخِلْدِ، وَهُوَ الْقِرْطُ (3) .
قَالَ الْحَسَنُ: هُمْ أَوْلَادُ أَهْلِ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَسَنَاتٌ فَيُثَابُوا عَلَيْهَا وَلَا سَيِّئَاتٌ فَيُعَاقَبُوا عَلَيْهَا لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا وِلَادَةَ فِيهَا فَهُمْ خُدَّامُ أَهْلِ الْجَنَّةِ (4) . {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} فَالْأَكْوَابُ: جَمْعُ كُوبٍ، وَهِيَ الْأَقْدَاحُ الْمُسْتَدِيرَةُ الْأَفْوَاهِ، لَا آذَانَ لَهَا وَلَا عُرًى، وَالْأَبَارِيقُ وَهِيَ: ذَوَاتُ الْخَرَاطِيمِ، سُمِّيَتْ أَبَارِيقَ لِبَرِيقِ لَوْنِهَا مِنَ الصَّفَاءِ. {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} خَمْرٍ جَارِيَةٍ. {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} لَا تَصَّدَّعُ رُءُوسُهُمْ مِنْ شُرْبِهَا {وَلَا يُنْزِفُونَ} أَيْ لَا يَسْكَرُونَ [هَذَا إِذَا قُرِئَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَمَنْ كَسَرَ فَمَعْنَاهُ لَا يَنْفَدُ شَرَابُهُمْ] (5) . {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} يَخْتَارُونَ مَا يَشْتَهُونَ يُقَالُ تَخَيَّرْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخَذْتُ خَيْرَهُ. {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَخْطُرُ عَلَى قَلْبِهِ لَحْمُ الطَّيْرِ فَيَصِيرُ مُمَثَّلًا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى مَا اشْتَهَى وَيُقَالُ إِنَّهُ يَقَعُ عَلَى صَحْفَةِ الرَّجُلِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ مَا يَشْتَهِي ثُمَّ يَطِيرُ فَيَذْهَبُ. {وَحُورٌ عِينٌ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالنُّونِ، أَيْ: وَبِحُورٍ عِينٍ، أَتْبَعَهُ قَوْلَهُ: "بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ" وَفَاكِهَةٍ وَلَحْمِ طَيْرٍ" فِي الْإِعْرَابِ وَإِنِ اخْتَلَفَا فِي الْمَعْنَى لِأَنَّ الْحُورَ لَا يُطَافُ بِهِنَّ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ: إِذَا مَا الْغَانِيَاتُ بَرَزْنَ يَوْمًا ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا (6)
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) معاني القرآن للفرأ: 3 / 122 وفيه: " والعرب تقول للرجل إذا كبر ولم يشمط: إنه لمخلد".
(3) انظر: البحر المحيط: 8 / 205، القرطبي: 17 / 202.
(4) انظر: القرطبي: 17 / 203.
(5) إذا قرأت (لا ينزفون) بفتح الزاي فمعناها: لا يسكرون، وهي القراءة التي قرأ بها البغوي. وإلا فمعناها - بالكسر - لا ينفذ شرابهم.
(6) البيت للراعي النميري، انظر: معاني القرآن للفراء: 3 / 123.(8/10)
كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28)
وَالْعَيْنُ لَا تُزَجَّجُ وَإِنَّمَا تُكَحَّلُ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَيُكْرَمُونَ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمِ طَيْرٍ وَحُورٍ عِينٍ.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، أَيْ: وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ حُورٌ عِينٌ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ رُفِعَ عَلَى مَعْنَى لَهُمْ حُورٌ عِينٌ، وَجَاءَ فِي تَفْسِيرِهِ: "حُورٌ عِينٌ" بِيضٌ ضِخَامُ الْعُيُونِ.
{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26) وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) }
{كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} الْمَخْزُونِ فِي الصَّدَفِ لَمْ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي. وَيُرْوَى: أَنَّهُ يَسْطَعُ نُورٌ فِي الْجَنَّةِ، قَالُوا: وَمَا هَذَا؟ قَالُوا: ضَوْءُ ثَغْرِ حَوْرَاءَ ضَحِكَتْ فِي وَجْهِ زَوْجِهَا.
وَيُرْوَى أَنَّ الْحَوْرَاءَ إِذَا مَشَتْ يُسْمَعُ تَقْدِيسُ الْخَلَاخِلِ مِنْ سَاقَيْهَا وَتَمْجِيدُ الْأَسْوِرَةِ مِنْ سَاعِدَيْهَا، وَإِنَّ عِقْدَ الْيَاقُوتِ لَيَضْحَكُ مِنْ نَحْرِهَا وَفِي رِجْلَيْهَا نَعْلَانِ مِنْ ذَهَبٍ شِرَاكُهُمَا مِنْ لُؤْلُؤٍ يُصِرَّانِ بِالتَّسْبِيحِ. {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
{لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغوًا ولا تَأْثِمًا إِلَّا قِيلًا} أَيْ قَوْلًا {سَلَامًا سَلَامًا} نَصَبَهُمَا اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ "قِيلًا" أَيْ يَسْمَعُونَ قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا. قَالَ عَطَاءٌ: يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْيَمِينِ وَعَجَّبَ مِنْ شَأْنِهِمْ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ} {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} لَا شَوْكَ فِيهِ كَأَنَّهُ خُضِدَ شَوْكُهُ، أَيْ قُطِعَ وَنُزِعَ مِنْهُ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ. لَا يَعْقِرُ الْأَيْدِيَ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ الَّذِي لَا أَذًى فِيهِ قَالَ: وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ ثَمَرِ الْجَنَّةِ فِي غُلُفٍ كَمَا يَكُونُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْبَاقِلَّاءِ وَغَيْرِهِ بَلْ كُلُّهَا مَأْكُولٌ وَمَشْرُوبٌ وَمَشْمُومٌ وَمَنْظُورٌ إِلَيْهِ. قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الْمُوَقَرُ حِمْلًا (2) .
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ثِمَارُهَا أَعْظَمُ مِنَ الْقِلَالِ. (3) .
قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ: نَظَرَ الْمُسْلِمُونَ إِلَى وَجٍّ -وَهُوَ وَادٍ مُخْصِبٌ بِالطَّائِفِ -فَأَعْجَبَهُمْ سِدْرُهَا وَقَالُوا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ هَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (4) .
__________
(1) انظر: الطبري: 27 / 179 - 180، وهو قول عطاء، انظر: جزء في تفسير عطاء ص (110) .
(2) انظر: الطبري: 27 / 180، القرطبي: 17 / 207.
(3) انظر: الطبري: 27 / 180، القرطبي: 17 / 207.
(4) ذكره القرطبي: 17 / 207.(8/11)
وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31)
{وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) }
{وَطَلْحٍ} أَيْ: مَوْزٍ، وَاحِدَتُهَا طَلْحَةٌ، عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ هُوَ بِالْمَوْزِ وَلَكِنَّهُ شَجَرٌ لَهُ ظِلٌّ بَارِدٌ طَيِّبٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الطَّلْحُ عِنْدَ الْعَرَبِ: شَجَرٌ عِظَامٌ لَهَا شَوْكٌ.
وَرَوَى [مَجَالِدٌ] (1) عَنِ الْحَسَنِ بْنِ سَعْدٍ قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ" فَقَالَ: وَمَا شَأْنُ الطَّلْحِ؟ إِنَّمَا هُوَ: طَلْعٌ مَنْضُودٌ، ثُمَّ قَرَأَ: "طَلْعُهَا هَضِيمٌ" قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ بِالْحَاءِ أَفَلَا تَحَوِّلُهَا؟ فَقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُهَاجُ الْيَوْمَ وَلَا يُحَوَّلُ. (2)
وَ"الْمَنْضُودُ" الْمُتَرَاكِمُ الَّذِي قَدْ نُضِّدَ بِالْحَمْلِ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخره، ليست هو سُوقٌ بَارِزَةٌ قَالَ مَسْرُوقٌ: أَشْجَارُ الْجَنَّةِ مِنْ عُرُوقِهَا إِلَى أَفَنَائِهَا ثَمَرٌ كُلُّهُ. {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} دَائِمٌ لَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ: مَمْدُودٌ.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ ابن سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَحْمِشٍ الزِّيَادِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فِي الْجَنَّةِ شَجَرَةٌ يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا" (3) .
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} قَالَ: شَجَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ عَلَى سَاقِ الْعَرْشِ يَخْرُجُ إِلَيْهَا أَهْلُ الْجَنَّةِ فَيَتَحَدَّثُونَ فِي أَصْلِهَا وَيَشْتَهِي بَعْضُهُمْ لَهْوَ الدُّنْيَا فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهَا رِيحًا مِنَ الْجَنَّةِ فَتُحَرِّكُ تِلْكَ الشَّجَرَةَ بِكُلِّ لَهْوٍ فِي الدُّنْيَا (4) . {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} مَصْبُوبٍ يَجْرِي دَائِمًا فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ لا ينقطع 150/ب
__________
(1) في "ب" مجاهد.
(2) أخرجه الطبري: 27 / 180 - 181، وابن الأنباري في "المصاحف " كنز العمال: 2 / 519، وعزاه ابن كثير: 4 / 289 لابن أبي حاتم =مختصرا. وهي رواية غير صحيحة كما نبه على ذلك الطيبي: وكيف يقر أمير المؤمنين كرم الله وجهه تحريفا في كتاب الله تعالى المتداول بين الناس؟ أو كيف يظن بأن نقلة القرآن الكريم ورواته وكتَّابه من قبل تعمدوا ذلك أو غفلوا عنه؟ هذا، والله تعالى قد تكفل بحفظه. سبحانك هذا بهتان عظيم. انظر: روح المعاني للآلوسي: 27 / 141.
(3) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 11 / 417، والبخاري في بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة: 6 / 319 - 320، ومسلم في الجنة، باب إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مئة عام لا يقطعها برقم: (2826) : 4 / 2175، والمصنف في شرح السنة: 15 / 207.
(4) عزاه الحافظ ابن كثير: 4 / 290 - 291 لابن أبي حاتم، وقال: "هذا أثر غريب، وإسناده جيد قوي حسن".(8/12)
وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36)
{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) }
{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَنْقَطِعُ إِذَا جُنِيَتْ، وَلَا تَمْتَنِعُ مِنْ أَحَدٍ أَرَادَ أَخْذَهَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا مَقْطُوعَةٍ بِالْأَزْمَانِ وَلَا مَمْنُوعَةٍ بِالْأَثْمَانِ، كَمَا يَنْقَطِعُ أَكْثَرُ ثِمَارِ الدُّنْيَا إِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالثَّمَنِ. وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: يَعْنِي لَا يُحْظَرُ عَلَيْهَا كَمَا يُحْظَرُ عَلَى بَسَاتِينِ الدُّنْيَا.
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَا قُطِعَتْ ثَمَرَةٌ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ إِلَّا أَبْدَلَ اللَّهُ مَكَانَهَا ضِعْفَيْنِ" (1) . {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قَالَ عَلِيٌّ: "وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ" عَلَى الْأَسِرَّةِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَهِيَ مَرْفُوعَةٌ عَالِيَةٌ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ حُبَيْشٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ النَّسَائِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا رِشْدِينُ بْنُ سَعْدٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَأَبِي هُرَيْرَةَ قَالَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ" قَالَ: "إِنَّ ارْتِفَاعَهَا لَكَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَإِنَّ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لِمَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ" (2)
وَقِيلَ أَرَادَ بِالْفُرُشِ النِّسَاءَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَرْأَةَ فِرَاشًا وَلِبَاسًا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ "مَرْفُوعَةٍ" رُفِعْنَ بِالْجَمَالِ وَالْفَضْلِ عَلَى نِسَاءِ الدُّنْيَا دَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ فِي عَقِبِهِ: {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} خَلَقْنَاهُنَّ خَلْقًا جَدِيدًا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْآدَمِيَّاتِ الْعُجْزَ الشُّمْطَ، يَقُولُ خَلَقْنَاهُنَّ بَعْدَ الْهَرَمِ خَلْقًا آخَرَ. {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} عَذَارَى.
__________
(1) انظر: مجمع الزوائد: 10 / 414.
(2) أخرجه الترمذي في صفة الجنة، باب ما جاء في صفة ثياب أهل الجنة: 7 / 247 وقال: "هذا حديث غريب، لا تعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد، وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: معناه أن الفرش في الدرجات، وبين الدرجات كما بين السماء والأرض"، والإمام أحمد في المسند: 3 / 75، والطبري: 27 / 185، وعزاه المنذري في الترغيب والترهييب: 4 / 530 لابن أبي الدنيا والترمذي ونقل عن الحافظ قال: "رواه ابن حبان في صحيحه والبيهقي وغيرهما من حديث ابن وهب أيضا عن عمرو بن الحارث عن دراج". وضعفه الألباني في تعليقه على المشكاة: 3 / 1567، وانظر: تفسير ابن كثير: 4 / 290.(8/13)
عُرُبًا أَتْرَابًا (37)
أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ عَنِ الْهَيْثَمِ بْنِ كُلَيْبٍ الشَّاشِيِّ أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ، أَخْبَرَنَا مُصَعَبُ ابن الْمِقْدَامِ، أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ فَضَالَةَ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: أَتَتْ عَجُوزٌ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُدْخِلَنِي الْجَنَّةَ فَقَالَ: "يَا أَمَّ فُلَانٍ إِنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا عَجُوزٌ"، قَالَ: فَوَلَّتْ تَبْكِي قَالَ: "أَخْبِرُوهَا أَنَّهَا لَا تَدْخُلُهَا وَهِيَ عَجُوزٌ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا" (1)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْحَارِثِ الْوَاسِطِيُّ بِبَغْدَادَ، أَخْبَرَنَا خَلَّادُ بْنُ يَحْيَى بْنِ صَفْوَانَ السُّلَمِيُّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ: "إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً" قَالَ: عَجَائِزُ، كُنَّ فِي الدُّنْيَا عُمْشًا رُمْصًا. فَجَعَلَهُنَّ أَبْكَارًا (2) .
وَقَالَ الْمُسَيَّبُ بْنُ شَرِيكٍ: هُنَّ عَجَائِزُ الدُّنْيَا أَنْشَأَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا جَدِيدًا كُلَّمَا أَتَاهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَجَدُوهُنَّ أَبْكَارًا. (3) .
وَذَكَرَ الْمُسَيَّبُ عَنْ غَيْرِهِ: أَنَّهُنَّ فُضِّلْنَ عَلَى الْحُورِ الْعِينِ بِصَلَاتِهِنَّ فِي الدُّنْيَا (4) .
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: هُنَّ الْحُورُ الْعِينُ أَنْشَأَهُنَّ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِنَّ وِلَادَةٌ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عَذَارَى وَلَيْسَ هُنَاكَ وَجَعٌ
{عُرُبًا أَتْرَابًا (37) }
{عُرُبًا} قَرَأَ حَمْزَةُ وَإِسْمَاعِيلُ عَنْ نَافِعٍ وَأَبُو بَكْرٍ: "عُرْبًا" سَاكِنَةُ الرَّاءِ، الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا
__________
(1) أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية، صفحة: (141) مع شرح الباجوري وهو مرسل. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 15 لعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في البعث. وقال الأرناؤوط: فيه المبارك بن فضالة، وهو مدلس، وقد عنعن. انظر: شرح السنة: 13 / 183.
(2) أخرجه الترمذي في تفسير سورة الواقعة: 9 / 183 وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من حديث موسى بن عبيدة، وموسى بن عبيدة ويزيد بن أبان الرقاشي يضعفان في الحديث"، والطبري: 27 / 185. وعزاه ابن كثير: 4 / 292 أيضا لابن أبي حاتم.
(3) انظر: القرطبي:17 / 211.
(4) قطعة من حديث طويل ذكره ابن كثير في التفسير عن أم سلمة: 4 / 292 -293 وعزاه للطبراني. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10 / 418 "رواه الطبراني في الأوسط والكبير بنحوه، وفي إسنادهما سليمان بن أبي كريمة وهو ضعيف".(8/14)
وَهِيَ جَمْعُ "عَرُوبٍ" أَيْ: عَوَاشِقَ مُتَحَبِّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ. قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْهُ: مَلِقَةٌ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: غَنِجَةٌ. وَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ: "عُرُبًا" حَسَنَاتِ الْكَلَامِ.
{أَتْرَابًا} مُسْتَوِيَاتٍ فِي السِّنِّ عَلَى سِنٍّ وَاحِدٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ شَيْبَةَ حَدَّثَنَا الْفِرْيَابِيُّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي شَيْبَةَ أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَدْخُلُ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ جُرْدًا مُرْدًا بِيضًا جِعَادًا مُكَحَّلِينَ أَبْنَاءَ ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ عَلَى خَلْقِ آدَمَ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ رِشْدِينَ بْنِ سَعْدٍ، حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ عَنْ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ الَّذِي لَهُ ثَمَانُونَ أَلْفَ خَادِمٍ وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ زَوْجَةً وَتُنْصَبُ لَهُ قُبَّةٌ [مِنْ لُؤْلُؤٍ وَزَبَرْجَدٍ وَيَاقُوتٍ] (2) . كَمَا بَيْنَ الْجَابِيَةِ إِلَى صَنْعَاءَ" (3) .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "يَنْظُرُ إِلَى وَجْهِهِ فِي خَدِّهَا أَصْفَى مِنَ الْمِرْآةِ وَإِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ عَلَيْهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ عَلَيْهَا سَبْعُونَ ثَوْبًا يَنْفُذُهَا بَصَرُهُ حَتَّى يَرَى مُخَّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ" (4) .
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ يُرَدُّونَ أَبْنَاءَ ثَلَاثِينَ سَنَةً فِي الْجَنَّةِ لَا يَزِيدُونَ عَلَيْهَا أَبَدًا وَكَذَلِكَ أَهْلُ النَّارِ" (5) .
__________
(1) أخرجه الإمام أحمد: 2 / 295، 343،415، وصححه الألباني في "صحيح الجامع" برقم: (8072) . ورواه الترمذي عن معاذ بنحوه في صفة الجنة: 7 / 254 وقال: "هذا حديث غريب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه الترمذي في صفة الجنة، باب ما جاء ما لأدنى أهل الجنة من الكرامة: 7 / 284 وقال: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد". ورشدين بن سعد ودراج كلاهما ضعيف. والإمام أحمد: 3 / 86، وابن حبان في موارد الظمان برقم: (2638) ، صفحة: (656) ، والمصنف في شرح السنة: 15 / 219. وضعفه الألباني في تعليقه على المشكاة برقم: (5648) .
(4) انظر: التعليق السابق.
(5) انظرأ التعليق السابق.(8/15)
لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ عَلَيْهِمُ التِّيجَانَ، إِنَّ أَدْنَى لُؤْلُؤَةٍ فِيهَا تُضِيءُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ" (1) .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْحَارِثِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سَلِيمٍ عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ عَتَّابٍ الْعَبْدِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَعْبَدٍ الرُّمَّانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: أَدْنَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مَنْزِلَةً -وَمَا مِنْهُمْ دَنِيءٌ -لَمَنْ يَغْدُو عَلَيْهِ وَيَرُوحُ عَشَرَةُ آلَافِ خَادِمٍ، مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ طَرِيفَةٌ لَيْسَتْ مَعَ صَاحِبِهِ (2) .
{لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} يُرِيدُ أَنْشَأْنَاهُنَّ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ. {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} مِنْ مُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُقَاتِلٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَدْلُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّقَّاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ العزيز، حدثنا 151/أعِيسَى بْنُ الْمُسَاوِرِ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا عِيسَى بْنُ مُوسَى عَنْ عُرْوَةَ بْنِ رُوَيْمٍ قَالَ: لَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ "ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ" بَكَى عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ آمَنَّا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَقْنَاهُ وَمَنْ يَنْجُو مِنَّا قَلِيلٌ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ" فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عُمَرَ فَقَالَ: "قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيمَا قُلْتَ" فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَضِينَا عَنْ رَبِّنَا وَتَصْدِيقِ نَبِيِّنَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مِنْ آدَمَ إِلَيْنَا ثُلَّةٌ وَمِنِّي إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُلَّةٌ وَلَا يَسْتَتِمُّهَا إِلَّا سُودَانُ مِنْ رُعَاةِ الْإِبِلِ مِمَّنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (3) .
"أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ حَدَّثَنَا حَصِينُ بْنُ نُمَيْرٍ عَنْ حَصِينِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا فَقَالَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ فَجَعَلَ يَمُرُّ النَّبِيُّ
__________
(1) انظر: التعليق السابق.
(2) أخرجه المصنف في شرح السنة: 15 / 219. قال محققه: " محمد بن سليم هو أبو هلال الراسبي، فيه لين، وشيخه الحجاج ابن عتاب لم أقف له على ترجمة".
(3) حديث مرسل، وغالب أحاديث عروة مراسيل وانظر: زاد المسير: 8 / 143.(8/16)
وَمَعَهُ الرَّجُلُ وَالنَّبِيُّ وَمَعَهُ الرَّجُلَانِ، وَالنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ وَالنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ وَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ فَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونُوا أُمَّتِي فَقِيلَ: هَذَا مُوسَى فِي قَوْمِهِ، ثُمَّ قِيلَ لِي: انْظُرْ، فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ، فَقِيلَ لِي: انْظُرْ هَكَذَا وَهَكَذَا فَرَأَيْتُ سَوَادًا كَثِيرًا سَدَّ الْأُفُقَ، فَقِيلَ: هَؤُلَاءِ أَمَتُّكَ، وَمَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ، فَتَفَرَّقُ النَّاسُ وَلَمْ يُبَيِّنْ لَهُمْ فَتَذَاكَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا: أَمَّا نَحْنُ فَوُلِدْنَا فِي الشِّرْكِ، وَلَكُنَّا آمَنَّا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ هُمْ أَبْنَاؤُنَا فَبَلَغَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "هُمُ الَّذِينَ لَا يَتَطَيَّرُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَكْتَوُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ" فَقَامَ عُكَّاشَةُ بْنُ مِحْصَنٍ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: نَعَمْ فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَمِنْهُمْ أَنَا؟ قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "قَدْ سَبَقَكَ بِهَا عَكَّاشَةُ" (1)
وَرَوَاهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأَنْبِيَاءُ اللَّيْلَةَ بِأَتْبَاعِهَا حَتَّى أَتَى عَلَيَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي كَبْكَبَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبُونِي فَقُلْتُ: أَيْ رَبِّ هَؤُلَاءِ؟ قِيلَ: هَذَا أَخُوكَ مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، قُلْتُ: رَبِّ فَأَيْنَ أُمَّتِي؟ قِيلَ: انْظُرْ عَنْ يَمِينِكَ، فَإِذَا ظِرَابُ مَكَّةَ قَدْ سُدَّتْ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ، قِيلَ: هَؤُلَاءِ أَمَتُّكَ أَرَضِيتَ؟ قُلْتُ: رَبِّ رَضِيتُ، رَبِّ رَضِيتُ، قِيلَ انْظُرْ عَنْ يَسَارِكَ، فَإِذَا الْأُفُقُ قَدْ سُدَّ بِوُجُوهِ الرِّجَالِ، قِيلَ: هَؤُلَاءِ أَمَتُّكَ أَرَضِيتَ؟ قُلْتُ: رَبِّ رَضِيتُ: فَقِيلَ: إِنَّ مَعَ هَؤُلَاءِ سَبْعِينَ أَلْفًا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ لَا حِسَابَ لَهُمْ، فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَكُونُوا مِنَ السَّبْعِينَ فَكُونُوا وَإِنْ عَجَزْتُمْ وَقَصَّرْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الظِّرَابِ، وَإِنْ عَجَزْتُمْ فَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْأُفُقِ، فَإِنِّي قَدْ رَأَيْتُ ثَمَّ أُنَاسًا يَتَهَاوَشُونَ كَثِيرًا" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قُبَّةٍ فَقَالَ: "أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبْعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: أَتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا ثُلْثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَالَ: وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنِّي لِأَرْجُوَ أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَذَلِكَ أَنَّ الْجَنَّةَ لَا يَدْخُلُهَا إِلَّا نَفْسٌ مُسْلِمَةٌ وَمَا أَنْتُمْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَسْوَدِ أَوْ كَالشَّعْرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ الثَّوْرِ الْأَحْمَرِ (3) (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره ... : 10 / 155، ومسلم في الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب برقم: (220) : 1 / 199 - 200، والمصنف في شرح السنة: 15 / 135 - 136.
(2) أخرجه الإمام أحمد: 1 / 401، والطبري: 27 / 190، قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10 / 406 "رواه أحمد بأسانيد والبزاز أتم منه والطبراني وأبو يعلى باختصار كثير، وأحد أسانيد أحمد رجاله رجال الصحيح".
(3) في "أ" الأبيض.".
(4) أخرجه مسلم في الإيمان، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة برقم: (221) : 1 / 200 - 201.(8/17)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47)
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الثُّلَّتَيْنِ جَمِيعًا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالضَّحَّاكِ، قَالُوا: "ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ" مِنْ سَابِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ "وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ" مِنْ آخَرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فِي آخِرِ الزَّمَانِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنِي الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّيْنَوَرِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ السُّنِّيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو خَلِيفَةَ الْفَضْلُ بْنُ الْحُبَابِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ أَبَانَ بْنِ أَبِي عَيَّاشٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: "ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "هُمَا جَمِيعًا مِنْ أُمَّتِي" (1)
{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) }
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ} رِيحٍ حَارَّةٍ {وَحَمِيمٍ} مَاءٍ حَارٍّ {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} دُخَانٍ شَدِيدِ السَّوَادِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَسْوَدُ يَحْمُومٌ إِذَا كَانَ شَدِيدَ السَّوَادِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّارُ سَوْدَاءُ وَأَهْلُهَا سُودٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهَا أَسْوَدُ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: "الْيَحْمُومُ" اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ. {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} قَالَ قَتَادَةُ: لَا بَارِدَ الْمَنْزِلِ وَلَا كَرِيمَ الْمَنْظَرِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَلَا كَرِيمَ وَلَا حَسَنَ نَظِيرُهُ "مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ" (الشُّعَرَاءِ -7) . وَقَالَ مُقَاتِلٌ: طَيِّبٌ. {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} يَعْنِي فِي الدُّنْيَا {مُتْرَفِينَ} مُنَعَّمِينَ. {وَكَانُوا يُصِرُّونَ} يُقِيمُونَ {عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} عَلَى الذَّنْبِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الشِّرْكُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: "الْحِنْثِ الْعَظِيمِ" الْيَمِينِ الْغَمُوسِ. وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ. {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَك، نَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَنَافِعُ
__________
(1) أخرجه الطبري: 27 / 19، ورواه أبو داود الطيالسي موقوفا، ومسدد موقوفا ومرفوعا عن أبي بكرة، ومدار إسناديهما على علي بن زيد بن جدعان، وهو ضعيف، وله شاهد عند أحمد. ورواه الطبراني بإسنادين قال الهيثمي في (مجمع الزوائد: 7 / 119:) رجال أحدهما رجال الصحيح غير علي بن زيد وهو ثقة سيئ الحفظ) انظر: المطالب العالية لابن حجر: 3 / 383 مع حاشية المحقق.(8/18)
أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)
وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبَ: "أَئِذَا" مُسْتَفْهِمًا "إِنَّا" بِتَرْكِهِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالِاسْتِفْهَامِ فِيهِمَا.
{أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) }(8/19)
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60)
{ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) }
{أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَعَاصِمٌ، وَحَمْزَةُ: "شُرْبَ" بِضَمِّ الشِّينِ. وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، فَالْفَتْحُ عَلَى الْمَصْدَرِ، وَالضَّمُّ اسْمٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ كَالضَّعْفِ وَالضُّعْفِ وَ"الْهِيمُ" الْإِبِلُ الْعِطَاشُ، قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: الْهُيَامُ: دَاءٌ يُصِيبُ الْإِبِلَ لَا تُرْوَى مَعَهُ، وَلَا تَزَالُ تَشْرَبُ حَتَّى تَهْلَكَ. يُقَالُ: جَمَلٌ أَهْيَمُ، وَنَاقَةٌ هَيْمَاءُ، وَالْإِبِلُ هِيمٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ: "الْهِيمُ" الْأَرْضُ السَّهْلَةُ ذَاتُ الرَّمْلِ.
{هَذَا نُزُلُهُمْ} يَعْنِي مَا ذُكِرَ مِنَ الزَّقُّومِ وَالْحَمِيمِ، أَيْ رِزْقُهُمْ وَغِذَاؤُهُمْ وَمَا أُعِدَّ لَهُمْ، {يَوْمَ الدِّينِ} يَوْمَ يُجَازَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ ثُمَّ احْتَجَّ عَلَيْهِمْ فِي الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} قَالَ مُقَاتِلٌ: خَلَقْنَاكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا وَأَنْتُمْ تعلمون ذلك 151/ب {فَلَوْلَا} فَهَلَّا {تُصَدِّقُونَ} بِالْبَعْثِ. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} تَصُبُّونَ فِي الْأَرْحَامِ مِنَ النُّطَفِ. {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} يَعْنِي أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ مَا تُمْنُونَ بَشَرًا {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ نَحْنُ قَدَّرْنَا} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِتَخْفِيفِ الدَّالِ وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ {بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} قَالَ مُقَاتِلٌ: فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْهَرَمَ وَمِنْكُمْ مَنْ يَمُوتُ صَبِيًّا وَشَابًّا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَقْدِيرُهُ: إِنَّهُ جَعَلَ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ فِيهِ سَوَاءً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى "قَدَّرْنَا": قَضَيْنَا.
{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بِمَغْلُوبِينَ عَاجِزِينَ عَنْ إِهْلَاكِكُمْ وَإِبْدَالِكُمْ بِأَمْثَالِكُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ}(8/19)
عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)
{عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) }
فذلك قوله عز وجل: {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} يَعْنِي: نَأْتِي بِخَلْقٍ مِثْلِكُمْ بَدَلًا مِنْكُمُ، {وَنُنْشِئَكُمْ} نَخْلُقُكُمْ {فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} مِنَ الصُّوَرِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَيِّ خَلْقٍ شِئْنَا (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ نُبَدِّلَ صِفَاتَكُمْ فَنَجْعَلَكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، كَمَا فَعَلْنَا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ (2) يَعْنِي: إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ مَا فَاتَنَا ذَلِكَ. وَقَالَ سَعِيدُ بن المسيب: "فيما لَا تَعْلَمُونَ" يَعْنِي: فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ سُودٍ، تَكُونُ بِبَرَهُوتَ كَأَنَّهَا الْخَطَاطِيفُ، وبَرَهُوتُ وَادٍ بِالْيَمَنِ (3) . {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} الْخِلْقَةَ الْأُولَى وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا. {فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} أَنِّي قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ كَمَا قَدَرْتُ عَلَى إِبْدَائِكُمْ. {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} يَعْنِي: تُثِيرُونَ مِنَ الْأَرْضِ وَتُلْقُونَ فِيهَا مِنَ الْبَذْرِ. {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تُنْبِتُونَهُ {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} الْمُنْبِتُونَ. {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} قَالَ عَطَاءٌ: تِبْنًا لَا قَمْحَ فِيهِ وَقِيلَ: هَشِيمًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَطْعَمٍ وَغِذَاءٍ {فَظَلْتُمْ} وَأَصْلُهُ: فَظَلَلْتُمْ حُذِفَتْ إِحْدَى اللَّامَيْنِ تَخْفِيفًا. {تَفَكَّهُونَ} تَتَعَجَّبُونَ بِمَا نَزَلَ بِكُمْ فِي زَرْعِكُمْ [وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ. وَقِيلَ تَنْدَمُونَ عَلَى نَفَقَاتِكُمْ] (4) وَهُوَ قَوْلُ يَمَانٍ نَظِيرُهُ: "فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا" (الْكَهْفِ -42) وَقَالَ الْحَسَنُ: تَنْدَمُونَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ تِلْكَ الْعُقُوبَةَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَتَلَاوَمُونَ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: تَحْزَنُونَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ تَلَهُّفٌ عَلَى مَا فَاتَ، وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: "تَفَكَّهَتْ" أَيْ: تَنَعَّمَتْ وَ"تَفَكَّهَتْ" أَيْ: حَزِنَتْ. {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ "أَئِنَّا" بِهَمْزَتَيْنِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ عَلَى الْخَبَرِ، وَمَجَازُ الْآيَةِ: فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ وَتَقُولُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ لَمُولَعٌ بِنَا. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ
__________
(1) أخرجه الطبري: 27 / 197، وزاد السيوطي في الدرالمنثور: 8 / 23عزوه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) انظر: البحر المحيط: 8 / 211، القرطبي: 17 / 217.
(3) انظر: القرطبي: 17 / 217.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/20)
بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73)
وُقُتَادَةُ: مُعَذَّبُونَ، وَالْغَرَامُ الْعَذَابُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ كَيْسَانَ: غَرِمْنَا أَمْوَالَنَا وَصَارَ مَا أَنْفَقْنَا غُرْمًا عَلَيْنَا وَالْمُغْرَمُ الَّذِي ذَهَبَ مَالُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، وَهُوَ قَوْلُهُ:
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) }
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} مَحْدُودُونَ مَمْنُوعُونَ، أَيْ: حُرِمْنَا مَا كُنَّا نَطْلُبُهُ مِنَ الرِّيعِ فِي الزَّرْعِ. {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} السَّحَابِ، وَاحِدَتُهَا: مُزْنَةٌ {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَدِيدُ الْمُلُوحَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: مُرًّا. {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} تَقْدَحُونَ وَتَسْتَخْرِجُونَ مِنْ زَنْدِكُمْ. {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} الَّتِي تُقْدَحُ مِنْهَا [النَّارُ] (1) وَهِيَ الْمَرْخُ وَالْعِفَارُ {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً} [يَعْنِي نَارَ الدُّنْيَا] (2) تَذْكِرَةً لِلنَّارِ الْكُبْرَى إِذَا رَآهَا الرَّائِي ذَكَرَ جَهَنَّمَ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَوْعِظَةٌ يَتَّعِظُ بِهَا الْمُؤْمِنُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "نَارُ بَنِي آدَمَ الَّتِي يُوقِدُونَ جُزْءٌ مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَتْ لِكَافِيَةً، قَالَ: "فَإِنَّهَا فُضِّلَتْ عَلَيْهَا بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا" (3) .
{وَمَتَاعًا} بُلْغَةً وَمَنْفَعَةً {لِلْمُقْوِينَ} الْمُسَافِرِينَ وَ"الْمُقْوِي": النَّازِلُ فِي الْأَرْضِ وَالْقِيُّ وَالْقُوَا هُوَ: الْقَفْرُ الْخَالِيَةُ الْبَعِيدَةُ مِنَ الْعُمْرَانِ، يُقَالُ: أَقْوَتِ الدَّارُ إِذَا خَلَتْ مِنْ سُكَّانِهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَنْتَفِعُ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".
(3) أخرجه الإمام مالك في الموطأ كتاب جهنم، باب ما جاء في صفة جهنم: 2 / 994، والبخاري في بدء الخلق، باب صفة النار وأنها مخلوقة: 6 / 330، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم برقم: (2843) : 4 / 2184، والمصنف في شرح السنة: 15/239.(8/21)
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76)
بِهَا أَهْلُ الْبَوَادِي وَالْأَسْفَارِ، فَإِنَّ مَنْفَعَتَهُمْ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمُقِيمِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُوقِدُونَهَا لَيْلًا لِتَهْرَبَ مِنْهُمَ السِّبَاعُ وَيَهْتَدِيَ بِهَا الضُّلَّالُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: "لِلْمُقْوِينَ" يَعْنِي لِلْمُسْتَمْتِعِينَ بِهَا مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ، الْمُسَافِرِينَ وَالْحَاضِرِينَ، يَسْتَضِيئُونَ بِهَا فِي الظُّلْمَةِ وَيَصْطَلُونَ مِنَ الْبَرْدِ، وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا فِي الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ.
قَالَ الْحَسَنُ: بُلْغَةٌ لِلْمُسَافِرِينَ، يَتَبَلَّغُونَ بِهَا إِلَى أَسْفَارِهِمْ، يَحْمِلُونَهَا فِي الْخِرَقِ وَالْجَوَالِيقِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لِلْجَائِعِينَ تَقُولُ الْعَرَبُ: أَقْوَيْتُ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا أَيْ: مَا أَكَلْتُ شَيْئًا.
قَالَ قُطْرُبُ: "الْمُقْوِي" مِنَ الْأَضْدَادِ، يُقَالُ لِلْفَقِيرِ: مُقْوٍ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْمَالِ، وَيُقَالُ لِلْغَنِيِّ: مُقْوٍ، لِقُوَّتِهِ عَلَى مَا يُرِيدُ، يُقَالُ: أَقْوَى الرَّجُلُ إِذَا قَوِيَتْ دَوَابُّهُ وَكَثُرَ مَالُهُ، وَصَارَ إِلَى حَالَةِ الْقُوَّةِ. وَالْمَعْنَى أَنَّ فِيهَا مَتَاعًا لِلْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ جَمِيعًا لَا غِنًى لِأَحَدٍ عَنْهَا.
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) }(8/22)
إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78)
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) }
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} ، قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ: أُقْسِمُ وَ"لَا" صِلَةٌ، وَكَانَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ يَقْرَأُ: فَلَأُقْسِمُ عَلَى التَّحْقِيقِ. وَقِيلَ: قَوْلُهُ "فَلَا " رَدٌّ لِمَا قَالَهُ الْكُفَّارُ فِي الْقُرْآنِ إِنَّهُ سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَكَهَانَةٌ، مَعْنَاهُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ، فَقَالَ: {أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "بِمَوْقِعِ" عَلَى التَّوْحِيدِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِمَوَاقِعِ عَلَى الْجَمْعِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ نُجُومَ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَفَرِّقًا نُجُومًا. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَرَادَ مَغَارِبَ النُّجُومِ وَمَسَاقِطَهَا. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: أَرَادَ مَنَازِلَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ انْكِدَارَهَا وَانْتِثَارَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ} ، يَعْنِي هَذَا الْكِتَابَ وَهُوَ مَوْضِعُ الْقَسَمِ. {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} عَزِيزٌ مَكْرَمٌ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ المعاني: الكريم الذين مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْطِيَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ. {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} مَصُونٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ.(8/22)
لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79)
{لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) }
{لَا يَمَسُّهُ} أَيْ ذَلِكَ الْكِتَابَ الْمَكْنُونَ، {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الْمَوْصُوفُونَ بِالطَّهَارَةِ، يُرْوَى هَذَا عَنْ أَنَسٍ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ: أَنَّهُمُ الْمَلَائِكَةُ، وَرَوَى حَسَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: هُمُ السَّفَرَةُ الْكِرَامُ الْبَرَرَةُ.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بن الفضيل 152/أعَنْهُ لَا يَقْرَؤُهُ إِلَّا الْمُوَحِّدُونَ. قَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَى أَنْ يُمَكَّنَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ (1) .
وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْجَنَابَاتِ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ نَفْيٌ وَمَعْنَاهَا نَهْيٌ، قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَلَا لِلْحَائِضِ وَلَا الْمُحْدِثِ حَمْلُ الْمُصْحَفِ وَلَا مَسُّهُ، وَهُوَ قول عطاء وطاووس، وَسَالِمٍ، وَالْقَاسِمِ، وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ. وَقَالَ الْحَكَمُ، وَحَمَّادُ، وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ وَالْجُنُبِ حَمْلُ الْمُصْحَفِ وَمَسُّهُ. وَالْأَوَّلُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بْنِ حُزْمٍ أَنْ لَا يَمَسَّ الْقُرْآنَ إِلَّا طَاهِرٌ (2) .
وَالْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ: الْمُصْحَفُ، سَمَّاهُ قُرْآنًا عَلَى قُرْبِ الْجِوَارِ وَالِاتِّسَاعِ. كَمَا رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالْقُرْآنِ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ" (3) . وَأَرَادَ بِهِ الْمُصْحَفَ.
__________
(1) معاني القرآن للفراء: 3 / 130.
(2) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب القرآن، باب الأمر بالوضوء لمن مسَّ القرآن: 1 / 199. وقال ابن عبد البر: "لا خلاف عن مالك في إرسال هذا الحديث. وقد روي مسندا من وجه صالح. وهو كتاب مشهور عند أهل السير، معروف عند أهل العلم معرفة يستغنى بها في شهرتها عن الإسناد. ورواه أبو داود في المراسيل صفحة: (131) من حديث الزهري قال: قرأت صحيفة عند أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم ذكر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتبها لعمرو بن حزم حين أمره على نجران وساق الحديث وفيه ... ولا يمسن القرآن إلا طاهر. ثم قال: روي مسندا ولا يصح". ورواه الدرامي في الطلاق، باب لا طلاق قبل نكاح: 2 / 84.
(3) أخرجه البخاري في الجهاد، باب كراهية السفر بالمصاحف إلى أرض العدو: 6 / 133، ومسلم في الإمارة، باب النهي أن يسافر بالمصحف إلى أرض الكفار إذا خيف وقوعه بأيديهم برقم: (1869) : 3 / 1490 والمصنف في شرح السنة: 4 / 527.(8/23)
تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) }
{تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أَيِ الْقُرْآنُ مُنَّزَّلٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ. سُمِّيَ الْمُنَّزَّلُ: تَنْزِيلًا عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَةِ، كَمَا يُقَالُ لِلْمَقْدُورِ: قَدْرٌ، وَلِلْمَخْلُوقِ: خَلْقٌ. {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {أَنْتُمْ} يَا أَهْلَ مَكَّةَ {مُدْهِنُونَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُكَذِّبُونَ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَافِرُونَ نَظِيرُهُ: "وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ" (الْقَلَمِ -9) وَالْمُدْهِنُّ وَالْمُدَاهِنُ: الْكَذَّابُ وَالْمُنَافِقُ وَهُوَ مِنَ الْإِدْهَانِ وَهُوَ الْجَرْيُ فِي الْبَاطِنِ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ هَذَا أَصْلُهُ، ثُمَّ قِيلَ لِلْمُكَذِّبِ: مُدْهِنٌ وَإِنْ صَرَّحَ بِالتَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ. {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} حَظَّكُمْ وَنَصِيبَكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} قَالَ الْحَسَنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: خَسِرَ عَبْدٌ لَا يَكُونُ حَظُّهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا التَّكْذِيبَ بِهِ. وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: إِنَّ مِنْ لُغَةِ أَزِدِ شَنُوءَةَ: مَا رَزَقَ فُلَانٌ بِمَعْنَى مَا شَكَرَ وَهَذَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِالْأَنْوَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا مُطِرُوا: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقِيلَ لَهُمْ: أَتُجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ، أَيْ: شُكْرَكُمْ بِمَا رُزِقْتُمْ، يَعْنِي شُكْرَ رِزْقِكُمُ التَّكْذِيبَ، فَحَذَفَ الْمُضَافَ وَأَقَامَ الْمُضَافَ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، عَنْ زَيْدِ ابن خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَثَرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: "هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ: قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي وَمُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ" (1) . وَرَوَاهُ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ "فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ" إِلَى قَوْلِهِ: "وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ" (2) (الْوَاقِعَةِ -82) .
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ، كتاب الاستسقاء، باب الاستمطار بالنجوم: 1 / 192، ومن طريقه أخرجه البخاري في الأذان، باب ما يستقبل الإمام الناس إذا سلم: 2 / 333، وفي الاستسقاء: 5222، وفي المغازي: 7 / 439، ومسلم في الإيمان، باب كفر من قال: مطرنا بالنوء برقم: (71) : 1 / 83 - 84، والمصنف في شرح السنة: 4 / 419 - 420.
(2) أخرجه مسلم في الموضع السابق نفسه برقم: (71) :1 / 84. وانظر فتح الباري: 2 / 523.(8/24)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمَةَ الْمُرَادِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ وَهْبٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو يُونُسَ حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا أَنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ بَرَكَةٍ إِلَّا أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنَ النَّاسِ بِهَا كَافِرِينَ، يُنْزِلُ اللَّهُ تَعَالَى الْغَيْثَ فَيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِكَوْكَبِ كَذَا وَكَذَا" (1) .
{فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَوْلَا} فَهَلَّا {إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أَيْ بَلَغَتِ النَّفْسُ الْحُلْقُومَ عِنْدَ الْمَوْتِ. {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} يُرِيدُ وَأَنْتُمْ يَا أَهْلَ الْمَيِّتِ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ مَتَى تَخْرُجُ نَفْسُهُ. وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ "تَنْظُرُونَ" أَيْ إِلَى أَمْرِي وَسُلْطَانِي لَا يُمْكِنُكُمُ الدَّفْعُ وَلَا تَمْلِكُونَ شَيْئًا. {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرُّؤْيَةِ. وَقِيلَ: وَرُسُلُنَا الَّذِينَ يَقْبِضُونَ رُوحَهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} الَّذِينَ حَضَرُوهُ. {فَلَوْلَا} فَهَلَّا {إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} مَمْلُوكِينَ وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: مُحَاسَبِينَ وَمَجْزِيِّينَ. {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أَيْ تَرُدُّونَ نَفْسَ هَذَا الْمَيِّتِ إِلَى جَسَدِهِ بَعْدَمَا بَلَّغَتِ الْحُلْقُومَ فَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ: "فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ" وَعَنْ قَوْلِهِ: "فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ" بِجَوَابٍ وَاحِدٍ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ" (الْبَقَرَةِ -38) أُجِيبَا بِجَوَابٍ وَاحِدٍ، مَعْنَاهُ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ -أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ وَلَا إِلَهَ يُجَازِي -فَهَلَّا تَرُدُّونَ نَفْسَ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْكُمْ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنُكُمْ ذَلِكَ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ إِلَى غَيْرِكُمْ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَآمَنُوا بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَيَّنَ دَرَجَاتِهِمْ فَقَالَ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} وَهُمُ السَّابِقُونَ. {فَرَوْحٌ} قَرَأَ يَعْقُوبُ "فَرُوحٌ" بِضَمِّ الرَّاءِ
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب كفر من قال مطرنا بالنوء برقم: "72": 1 / 84، والمصنف في شرح السنة: 4 / 418 - 419.(8/25)
وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، فَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ، قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ: تَخْرُجُ رُوحُهُ فِي الرَّيْحَانِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الرُّوحُ الرَّحْمَةُ أَيْ لَهُ الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَحَيَاةٌ وَبَقَاءٌ لَهُمْ.
وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ مَعْنَاهُ: فَلَهُ رَوْحٌ وَهُوَ الرَّاحَةُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَرَحٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ.
{وَرَيْحَانٌ} اسْتِرَاحَةٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رِزْقٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الرِّزْقُ بِلِسَانِ حِمْيَرَ، يُقَالُ: خَرَجْتُ أَطْلُبُ رَيْحَانَ اللَّهِ أَيْ رِزْقَ اللَّهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الرَّيْحَانُ الَّذِي يُشَمُّ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُفَارِقُ أَحَدٌ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ الدُّنْيَا حَتَّى يُؤْتَى بِغُصْنٍ مِنْ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ فَيَشُمُّهُ ثُمَّ تُقْبَضُ رُوحُهُ. (1) .
{وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: "الرَّوْحُ" النَّجَاةُ مِنَ النَّارِ، وَ"الرَّيْحَانُ" دُخُولُ دَارِ الْقَرَارِ.
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) }
{وَأَمَّا إِنْ كَانَ} الْمُتَوَفَّى {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} أَيْ سَلَامَةٌ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْهُمْ فَلَا تَهْتَمَّ لَهُمْ، فَإِنَّهُمْ سَلِمُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ أَنَّكَ تَرَى فِيهِمْ مَا تُحِبُّ مِنَ السَّلَامَةِ.
قال مقاتل: 152/ب هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَيَقْبَلُ حَسَنَاتِهِمْ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَغَيْرُهُ: (2) مُسَلَّمٌ لَكَ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، أَوْ يُقَالُ لِصَاحِبِ الْيَمِينِ: مُسَلَّمٌ لَكَ أَنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَلْفَيْتُ إِنْ كَالرَّجُلِ يَقُولُ إِنِّي مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ، فَيَقُولُ لَهُ: أَنْتَ مُصَدَّقٌ مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ، وَقِيلَ: "فَسَلَامٌ لَكَ" أَيْ عَلَيْكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ. {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} بِالْبَعْثِ {الضَّالِّينَ} عَنِ الْهُدَى وَهُمْ أَصْحَابُ الْمَشْئَمَةِ.
__________
(1) أورد هذه الأقوال الطبري: 27 / 211 - 212 ثم قال مرجحا: " وأولى الأقوال في ذلك بالصواب عندي قول من قال: عنى بالروح: الفرح والرحمة والمغفرة وأصله من قولهم: وجدت روحا: إذا وجد نسيما يستروح إليه من كرب الحر، وأما الريحان: فإنه عندي الريحان الذي يتلقى به عند الموت، كما قال أبو العاليه والحسن، ومن قال في ذلك نحو قولهما لأن ذلك الأغلب والأظهر من معانية".
(2) معاني القرآن للفراء: 3 / 131 بتصرف.(8/26)
فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
{فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) }
{فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} فَالَّذِي يُعَدُّ لَهُمْ حَمِيمُ جَهَنَّمَ. {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} وَإِدْخَالُ نَارٍ عَظِيمَةٌ. {إِنَّ هَذَا} يَعْنِي مَا ذَكَرَ مِنْ قِصَّةِ الْمُحْتَضِرِينَ {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} أَيِ الْحَقُّ الْيَقِينُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ. {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} قِيلَ: فَصَلِّ بِذِكْرِ رَبِّكَ وَأَمْرِهِ وَقِيلَ: "الْبَاءُ" زَائِدَةٌ أَيْ فَسُبَحِ اسْمَ رَبِّكَ الْعَظِيمِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَمْزَةُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْكَاتِبُ، حَدَّثَنَا نُعَيمُ بْنُ حَمَّادٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ عَنْ مُوسَى بْنِ أَيُّوبَ الْغَافِقِيِ عَنْ عَمِّهِ وَهُوَ إِيَاسُ بْنُ عَامِرٍ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ" قَالَ: "اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ" وَلَمَّا نَزَلَتْ "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى" قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ الْجَرَّاحِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ حَدَّثَنَا مَحْمُودُ بْنُ غَيْلَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، قَالَ أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنِ الْأَعْمَشِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعْدَ بْنَ عُبَيْدَةَ يُحَدِّثُ عَنِ الْمُسْتَوْرِدِ، عَنْ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، أَنَّهُ صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: "سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَفِي سُجُودِهِ سُبْحَانَ رُبِّيَ الْأَعْلَى، وَمَا أَتَى عَلَى آيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ وَسَأَلَ، وَمَا أَتَى عَلَى آيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ وَتَعَوَّذَ" (2) .
__________
(1) أخرجه ابن ماجه في الإقامة، باب التسبيح في الركوع والسجود برقم: (887) : 1 / 287، والدرامي في الصلاة، باب ما يقال في الركوع: 1 / 299، والطحاوي في شرح معاني الآثار: 1 / 235، والبيهقي في السنن: 2 / 86، وصححه ابن حبان ص135 - 136، والحاكم: 1 / 225، 2 / 477 ووافقه الذهبي، الإمام أحمد في المسند: 4 / 155، والطيالسي في مسنده ص135. وأخرجه بنحوه أبو داود في الصلاة، باب ما يقول في ركوعه وسجوده: 1 / 418 وزاد فيه: فكان رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا ركع قال: سبحان ربي العظيم وبحمده ثلاثا ... وقال: وهذه الزيادة نخاف ألا تكون محفوظة. وانظر: نصب الراية: 1 / 376، تلخيص الجبير: 2 / 242 - 243، تنقيح التحقيق لابن الجوزي: 2 / 880، إرواء الغليل: 2 / 40 - 41.
(2) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب ماجاء في التسبيح في الركوع والسجود: 2 / 121 وقال: "هذا حديث حسن صحيح". وأخرجه مسلم مطولا في صلاة المسافرين وقصرها برقم: (772) : 1 / 536 - 537، والمصنف في شرح السنة: 3 / 100.(8/27)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ فُضَيْلٍ، أَخْبَرَنَا عِمَارَةُ بْنُ الْقَعْقَاعِ عَنْ أَبِي زَرْعَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْجُلَّفْرِيُّ حَدَّثَنِي أَبُو الْقَاسِمِ تَمَّامُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِّيُّ بِدِمَشْقَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْبَزَّازُ وَأَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ بْنِ حَذْلَمٍ وَابْنُ رَاشِدٍ قَالُوا: أَخْبَرَنَا بَكَّارُ بْنُ قُتَيْبَةَ، حَدَّثَنَا رَوْحُ بْنُ عُبَادَةَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ الصَّوَّافُ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. "مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةً فِي الْجَنَّةِ". (2)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ قَالَ أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عَبَدِ الْأَعْلَى، أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، أَخْبَرَنِي السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى أَنَّ شُجَاعًا حَدَّثَهُ عَنْ أَبِي طِيبَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ قَرَأَ سُورَةَ الْوَاقِعَةِ كُلَّ لَيْلَةٍ لَمْ تُصِبْهُ فَاقَةٌ أَبَدًا" (3) وَكَانَ أَبُو طَيْبَةَ لَا يَدَعُهَا أَبَدًا.
__________
(1) أخرجه البخاري في الأيمان والنذور، باب إذا قال: والله لا أتكلم اليوم:11 / 566، ومسلم في الذكر والدعاء، باب فضل التهليل والتسبيح والدعاء برقم: (2694) : 4 / 2072، والمصنف في شرح السنة:5 / 42.
(2) أخرجه الترمذي في الدعوات، باب فضل سبحان الله: 4 / 433 وقال: "هذا حديث حسن غريب صحيح، لا نعرفه إلا من حديث أبي الزبير عن جابر"، وصححه ابن حبان في موارد الظمآن برقم: (2335) : ص580، والحاكم: 1 / 501- 502 ووافقه الذهبي، ورواه البزاز عن عبد الله بن عمرو بإسناد جيد. انظر: مجمع الزوائد: 1 / 94.
(3) رواه الحارث بن أبي أسامة، وقال البوصيري: "رواه الحارث عن العباس بن الفضل وهو ضعيف. ورواه أبو يعلى بسند رواته ثقات". انظر: المطالب العالية: 3 / 383 مع حاشية المحقق. وقال في الكافي الشاف ص163: "ثم اختلفوا في ضبط أبي ظبية فعند الدراقطني بالطاء المهملة بعدها تحتانية، ثم موحدة وأنه عيسى بن سليمان الجرجاني وأن روايته عن ابن مسعود منقطعة. ويؤيده أن الثعلبي أخرجه من طريق أبي بكر العطاردي عن السري عن شجاع عن أبي طيبة الجرجاني. وعند البيهقي أنه بالمعجمة بعدها موحدة، ثم تحتانية، وأنه مجهول. وقال أحمد بن حنبل: هذا حديث منكر. وشجاع لا أعرفه".(8/28)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
سُورَةُ الْحَدِيدِ مَدَنِيَّةٌ وَآيَاتُهَا تِسْعٌ وَعِشْرُونَ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) }
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} يَعْنِي هُوَ "الْأَوَّلُ" قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ بِلَا ابْتِدَاءٍ، كَانَ هُوَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مَوْجُودًا وَ"الْآخِرُ" بَعْدَ فَنَاءِ كُلِّ شَيْءٍ، بِلَا انْتِهَاءٍ تَفْنَى الْأَشْيَاءُ وَيَبْقَى هُوَ، وَ"الظَّاهِرُ" الْغَالِبُ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَ"الْبَاطِنُ" الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ يَمَانٌ: "هُوَ الْأَوَّلُ" الْقَدِيمُ وَ"الْآخِرُ" الرَّحِيمُ وَ"الظَّاهِرُ" الْحَلِيمُ وَ"الْبَاطِنُ" الْعَلِيمُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْأَوَّلُ بِبِرِّهِ إِذْ عَرَّفَكَ تَوْحِيدَهُ، وَالْآخِرُ بِجُودِهِ إِذْ عَرَّفَكَ التَّوْبَةَ عَلَى مَا جَنَيْتَ، وَالظَّاهِرُ بِتَوْفِيقِهِ إِذْ وَفَّقَكَ لِلسُّجُودِ لَهُ وَالْبَاطِنُ بِسَتْرِهِ إِذْ عَصَيْتَهُ فَسَتَرَ عَلَيْكَ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: هُوَ الْأَوَّلُ بِشَرْحِ الْقُلُوبِ، وَالْآخِرُ بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَالظَّاهِرُ بِكَشْفِ الْكُرُوبِ، وَالْبَاطِنُ بِعِلْمِ الْغُيُوبِ. وَسَأَلَ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -كَعْبًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَعْنَاهَا إِنَّ عِلْمَهُ بِالْأَوَّلِ كَعِلْمِهِ بِالْآخَرِ، وَعِلْمَهُ بِالظَّاهِرِ كَعِلْمِهِ بِالْبَاطِنِ.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مرودية والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: نزلت سورة الحديد بالمدينة انظر: الدر المنثور: 8 / 45.(8/29)
{وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَفَّارِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي زُهَيْرُ ابن حَرْبٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ سُهَيْلٍ قَالَ: كَانَ أَبُو صَالِحٍ يَأْمُرُنَا إِذَا أَرَادَ أَحَدُنَا أَنْ يَنَامَ أَنْ يَضْطَجِعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ يَقُولُ: "اللهم رب السموات ورب الْأَرْضِ وَرَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ رَبَّنَا وَرَبَّ كُلِّ شَيْءٍ، فَالِقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى، مُنَزِّلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ، أَعَوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي شَرٍّ أَنْتَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهِ، أَنْتَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَكَ شَيْءٌ، وَأَنْتَ الْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَكَ شَيْءٌ وَأَنْتَ الْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَكَ شَيْءٌ اقْضِ عَنِّي الدَّيْنَ وَاغْنِنِي مِنَ الْفَقْرِ" (1) . وَكَانَ يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) أخرجه مسلم في الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب ما يقول عند النوم وأخذ المضجع برقم: (2713) : 4 / 2084.(8/32)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6) آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) }
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} يُخَاطِبُ كُفَّارَ مَكَّةَ {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} مُمَلَّكِينَ فِيهِ: يَعْنِي: الْمَالَ الَّذِي كَانَ بِيَدِ غَيْرِهِمْ فَأَهْلَكَهُمْ وَأَعْطَاهُ قُرَيْشًا فَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْمَالِ خُلَفَاءَ عَمَّنْ مَضَوْا. {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}(8/32)
وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)
{وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) }
{وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "أُخِذَ" بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْخَاءِ "مِيثَاقُكُمْ" بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْخَاءِ وَالْقَافِ، أَيْ: أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَكُمْ حِينَ أَخْرَجَكُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ لَكُمْ سِوَاهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَقِيلَ: أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ بإقامة الحجج 153/أوَالدَّلَائِلِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يَوْمًا، فَالْآنَ أَحْرَى الْأَوْقَاتِ أَنْ تُؤْمِنُوا لِقِيَامِ الْحُجَجِ وَالْإِعْلَامِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ. {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ} مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [يَعْنِي الْقُرْآنَ] (1) . {لِيُخْرِجَكُمْ} اللَّهُ بِالْقُرْآنِ {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} وَقِيلَ: لِيُخْرِجَكُمُ الرَّسُولُ بِالدَّعْوَةِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَيْ مِنْ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ فِي تَرْكِ الْإِنْفَاقِ فِيمَا يُقَرِّبُ مِنَ اللَّهِ وَأَنْتُمْ مَيِّتُونَ تَارِكُونَ أَمْوَالَكُمْ ثُمَّ بَيَّنَ فَضْلَ مَنْ سَبَقَ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبِالْجِهَادِ فَقَالَ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} يَعْنِي فَتْحَ مَكَّةَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ {وَقَاتَلَ} يَقُولُ: لَا يَسْتَوِي فِي الْفَضْلِ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ وَقَاتَلَ الْعَدُوَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ مَعَ مَنْ أَنْفَقَ وَقَاتَلَ بَعْدَهُ {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ فَضِيلٍ عَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصَّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -فَإِنَّهُ أَوَّلُ مَنْ أَسْلَمَ وَأَوَّلُ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ (2) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) انظر: الطبري: 27 / 220 - 221، البحر المحيط: 8 / 219.(8/33)
مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ إِسْلَامَهُ بِسَيْفِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدِ بْنِ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ أَيُّوبَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ، حَدَّثَنَا الْعَلَاءُ بْنُ عَمْرٍو الشَّيْبَانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ سَعِيدٍ عَنْ آدَمَ بْنِ عَلِيٍّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدَهُ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَعَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّهَا فِي صَدْرِهِ بِخِلَالٍ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ فَقَالَ: مَالِي أَرَى أَبَا بَكْرٍ عَلَيْهِ عَبَاءَةٌ قَدْ خَلَّهَا فِي صَدْرِهِ بِخِلَالٍ؟ فَقَالَ: "أَنْفَقَ مَالَهُ عَلَيَّ قَبْلَ الْفَتْحِ" قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: اقْرَأْ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَقُلْ لَهُ: أَرَاضٍ أَنْتِ عَنِّي فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يَا أَبَا بَكْرٍ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَقْرَأُ عَلَيْكَ السَّلَامَ وَيَقُولُ لَكَ: أَرَاضٍ أَنْتِ فِي فَقْرِكَ هَذَا أَمْ سَاخِطٌ؟ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَأَسْخَطُ عَلَى رَبِّي؟ إِنِّي عَنْ رَبِّي رَاضٍ إِنِّي عَنْ رَبِّي رَاضٍ (1) .
{وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} أَيْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ. قَالَ عَطَاءٌ: دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ تَتَفَاضَلُ، فَالَّذِينَ أَنْفَقُوا قَبْلَ الْفَتْحِ فِي أَفْضَلِهَا. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: "وَكُلٌّ" بِالرَّفْعِ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) }
__________
(1) أورده ابن كثير: 4 / 308 عن البغوي، وقال: "هذا الحديث ضعيف الإسناد من هذا الوجه والله أعلم". فيه العلاء بن عمرو، قال ابن حبان في كتاب المجروحين والضعفاء: 2 / 185: يروي عن أبي إسحاق الفزازي العجائب، لا يجوز الاحتجاج به بحال وساق له هذا الحديث. وقال الذهبي في الميزان: 3 / 103: متروك، وساق له هذا الحديث من طريق ابن خزيمة، ثم قال: "وهو كذب".(8/34)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) }
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ} يَعْنِي عَلَى الصِّرَاطِ {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} يَعْنِي عَنْ أَيْمَانِهِمْ. قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ جَمِيعَ جَوَانِبِهِمْ، فَعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنِ الْكُلِّ وَذَلِكَ دَلِيلُهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يُضِيءُ نُورُهُ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى عَدَنِ أَبْيَنَ وَصَنْعَاءَ وَدُونَ ذَلِكَ حَتَّى إِنَّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ لَا يُضِيءُ نُورُهُ إِلَّا مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ" (1)
__________
(1) أخرجه عبد الرازق: 2 / 275، والطبري: 27 / 222. وعزاه السيوطي في الدر: 8 / 52 لعبد الرزاق وعبد بن حميد، وابن المنذر وانظر: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: 4 / 1545.(8/34)
يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُورَهُ كَالنَّخْلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُورَهُ كَالرَّجُلِ الْقَائِمِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ أَعْلَى إِبْهَامِهِ فَيُطْفَأُ مَرَّةً وَيَقِدُ مَرَّةً. (1)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: "يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ" كُتُبُهُمْ، يُرِيدُ أَنَّ كُتُبَهُمُ الَّتِي أُعْطُوهَا بِأَيْمَانِهِمْ وَنُورِهِمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ (2) . وَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: {بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) }
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ: "أَنْظِرُونَا" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ يَعْنِي أَمْهِلُونَا. وَقِيلَ انْتَظِرُونَا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِحَذْفِ الْأَلْفِ فِي الْوَصْلِ وَضَمِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَضَمِّ الظَّاءِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: انْظُرْنِي وَأَنْظِرْنِي، يَعْنِي انْتَظِرْنِي. {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} نَسْتَضِيءُ مِنْ نُورِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الْمُؤْمِنِينَ نُورًا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمْشُونَ بِهِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَيُعْطِي الْمُنَافِقِينَ أَيْضًا نُورًا خَدِيعَةً لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ "وَهُوَ خادعهم" (النساء -141) فبيناهم يَمْشُونَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا وَظُلْمَةً فَأَطْفَأَتْ نُورَ الْمُنَافِقِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: "يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا" (التَّحْرِيمِ -8) مَخَافَةَ أَنْ يُسْلَبُوا نُورَهُمْ كَمَا سُلِبَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَلْ يَسْتَضِيءُ الْمُنَافِقُونَ بِنُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَلَا يُعْطَوْنَ النُّورَ، فَإِذَا سَبَقَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ، انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ (3)
{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُ لَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ (4) وَقَالَ قَتَادَةُ: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ مِنْ حَيْثُ جِئْتُمْ (5)
__________
(1) أخرجه الطبري: 27 / 223، وصححه الحاكم: 2 / 478. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 52 أيضا لابن أبي شيبة، وابن أبي حاتم وابن مردويه. قال العراقي: رواه الطبراني والحاكم ... وقال الزبيدي: وكذا أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه. انظر: تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: 4 / 1545.
(2) انظر: الطبري: 27 / 223.
(3) انظر: الطبري: 17 / 245 - 246.
(4) انظر: ابن كثير: 4 / 210.
(5) انظر: الدر المنثور: 8 / 54.(8/35)
يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)
{فَالْتَمِسُوا نُورًا} فَاطْلُبُوا هُنَاكَ لِأَنْفُسِكُمْ نُورًا فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى الِاقْتِبَاسِ مِنْ نُورِنَا، فَيَرْجِعُونَ فِي طَلَبِ النُّورِ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا فَيَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِمْ لِيَلْقُوهُمْ فَيُمَيَّزُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} أَيْ سُورٌ، وَ"الْبَاءُ" صِلَةٌ يَعْنِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَهُوَ حَائِطٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ {لَهُ} أَيْ لِذَلِكَ السُّورِ {بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} أَيْ فِي بَاطِنِ ذَلِكَ السُّورِ الرَّحْمَةُ وَهِيَ الْجَنَّةُ {وَظَاهِرُهُ} أَيْ خَارِجَ ذَلِكَ السُّورِ {مِنْ قِبَلِهِ} أَيْ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ الظَّاهِرِ {الْعَذَابُ} وَهُوَ النَّارُ.
{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) }
{يُنَادُونَهُمْ} رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: إِنَّ السُّورَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ " فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ" هُوَ سُورُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ الشَّرْقِيُّ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قَبَلِهِ الْعَذَابُ وَادِي جَهَنَّمَ (1) .
وَقَالَ شُرَيْحٌ: كَانَ كَعْبٌ يَقُولُ: فِي الْبَابِ الَّذِي يُسَمَّى "بَابَ الرَّحْمَةِ" فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ: إِنَّهُ الْبَابُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ" الْآيَةَ (2) . "يُنَادُونَهُمْ" يَعْنِي: يُنَادِي الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَرَاءِ السُّورِ حِينَ حُجِزَ بَيْنَهُمْ بِالسُّورِ وَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ:
{أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} فِي الدُّنْيَا نُصَلِّي وَنَصُومُ؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} 153/ب أَهْلَكْتُمُوهَا بِالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ وَاسْتَعْمَلْتُمُوهَا فِي الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ وَكُلُّهَا فِتْنَةٌ {وَتَرَبَّصْتُمْ} بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْبَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: وَتَرَبَّصْتُمُ الْمَوْتَ وَقُلْتُمْ يُوشِكُ أَنْ يَمُوتَ فَنَسْتَرِيحُ مِنْهُ {وَارْتَبْتُمْ} شَكَكْتُمْ فِي نُبُوَّتِهِ وَفِيمَا أَوْعَدَكُمْ بِهِ {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} الْأَبَاطِيلُ وَمَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ مِنْ نِزُولِ الدَّوَائِرِ بِالْمُؤْمِنِينَ {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} يَعْنِي الْمَوْتَ {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} يَعْنِي الشَّيْطَانَ، قَالَ قَتَادَةُ: مَا زَالُوا عَلَى خُدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى قَذَفَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ (3) .
__________
(1) أخرجه الطبري: 27 / 225، وصححه الحاكم: 4 / 601 ووافقه الذهبي. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 56 أيضا لعبد ابن = حميد وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن عساكر، وكلهم عن عبد الله بن عمرو.
(2) أخرجه الطبري: 27 / 225. قال الحافظ ابن كثير: 4 / 310: "وقول كعب الأخبار: إن الباب المذكور في القرآن هو باب الرحمة الذي هو أحد أبواب المسجد فهذا من إسرائيلياته وترهاته، وإنما المراد بذلك سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمافقين..".
(3) أخرجه الطبري: 27 / 227، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 17 / 56 عزوه لعبد بن حميد. وذكره ابن كثير: 4 / 310.(8/36)
فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16)
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15) أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) }
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَيَعْقُوبُ: "تُؤْخَذُ" بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ {فِدْيَةٌ} بَدَلٌ وَعِوَضٌ بِأَنْ تَفْدُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ {وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ} صَاحِبُكُمْ وَأَوْلَى بِكُمْ، لِمَا أَسْلَفْتُمْ مِنَ الذُّنُوبِ {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالُوا: حَدِّثْنَا عَنِ التَّوْرَاةِ فَإِنَّ فِيهَا الْعَجَائِبَ فَنَزَلَتْ: "نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ" (يُوسُفَ -3) فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ قَصَصًا مِنْ غَيْرِهِ، فَكَفُّوا عَنْ سُؤَالِ سَلْمَانَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ عَادُوا فَسَأَلُوا سَلْمَانَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَنَزَلَ: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا" (الزُّمَرِ -23) فَكَفُّوا عَنْ سُؤَالِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ عَادُوا فَقَالُوا: حَدِّثْنَا عَنِ التَّوْرَاةِ فَإِنَّ فِيهَا الْعَجَائِبَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، قَوْلُهُ "أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ" يَعْنِي فِي الْعَلَانِيَةِ وَبِاللِّسَانِ.
وَقَالَ آخَرُونَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ (1) قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبْنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: " أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ" إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ (2) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَبْطَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً مِنْ نِزُولِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: "أَلَمْ يَأْنِ" (3) أَلَمْ يَحِنْ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ: تَرِقَّ وَتَلِينَ وَتَخْضَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ {وَمَا نَزَلَ} قَرَأَ نَافِعٌ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الزَّايِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهَا {مِنَ الْحَقِّ} وَهُوَ الْقُرْآنُ {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} الزَّمَانُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِمْ {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَالُوا إِلَى الدُّنْيَا وَأَعْرَضُوا
__________
(1) انظر: الواحدي في أسباب النزول: ص 470.
(2) أخرجه مسلم في التفسير، باب في قوله تعالى: "ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله" برقم: (3027) : 4 / 2319.
(3) ساقه ابن كثير في التفسير: 4 / 311 من رواية ابن المبارك، وابن أبي حاتم، وفيه صالح المري، وهو ضعيف. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 58 لابن أبي حاتم، وابن مردويه.(8/37)
اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)
عَنْ مَوَاعِظِ اللَّهِ وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا فِي صُحْبَةِ الْقُرْآنِ كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ لَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الدَّهْرُ.
رُوِيَ أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ بُعِثَ إِلَى قُرَّاءِ أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَدَخْلَ عَلَيْهِ ثَلَاثمِائَةُ رجل قد قرؤا الْقُرْآنَ فَقَالَ لَهُمْ: أَنْتُمْ خِيَارُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ وَقُرَّاؤُهُمْ فَاتْلُوهُ وَلَا يَطُولَنَّ عَلَيْكُمُ الْأَمَدُ فَتَقْسُو قُلُوبُكُمْ كَمَا قَسَتْ قُلُوبُ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ (1) .
{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} يَعْنِي الَّذِينَ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِعِيسَى وَمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) }
__________
(1) أخرجه أبو نعيم في الحلية: 1 / 257. وعزاه صاحب الدر المنثور: 8 / 59 لابن أبي شيبة.(8/38)
وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19) }
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ بِتَخْفِيفِ الصَّادِ فِيهِمَا مِنَ "التَّصْدِيقِ" أَيِ: الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهِمَا أَيِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} بِالصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {يُضَاعَفُ لَهُمُ} ذَلِكَ الْقَرْضُ {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} ثَوَابُ حَسُنٌ وَهُوَ الْجَنَّةُ. {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} والصدِّيق: الكثيرالصدق، قَالَ مُجَاهِدٌ: كُلُّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهُوَ صِدِّيقٌ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، سَبَقُوا أَهْلَ الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَحَمْزَةُ وَتَاسِعُهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَلْحَقَهُ اللَّهُ بِهِمْ لِمَا عَرَفَ مِنْ صِدْقِ نِيَّتِهِ. {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} اخْتَلَفُوا فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُتَّصِلَةٌ بِمَا قَبْلَهَا، وَ"الْوَاوُ" وَاوُ النَّسَقِ، وَأَرَادَ بِالشُّهَدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُخْلِصِينَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمُ الَّذِينَ سَمَّيْنَاهُمْ. قَالَ(8/38)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)
مُجَاهِدٌ: كُلُّ مُؤْمِنٍ صِدِّيقٌ شَهِيدٌ، وَتلَا هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
وَقَالَ قَوْمٌ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: "هُمُ الصِّدِّيقُونَ" ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَ"الْوَاوُ" وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَجَمَاعَةٍ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِمْ فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) هُوَ قَوْلُ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُمُ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ (3) .
{لَهُمْ أَجْرُهُمْ} بِمَا عَمِلُوا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ {وَنُورُهُمْ} عَلَى الصِّرَاطِ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أَيْ: أَنَّ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا، وَ"مَا" صِلَةٌ، أَيْ: أَنَّ الْحَيَاةَ فِي هَذِهِ الدَّارِ {لَعِبٌ} بَاطِلٌ لَا حَاصِلَ لَهُ {وَلَهْوٌ} فَرَحٌ ثُمَّ يَنْقَضِي {وَزِينَةٌ} مَنْظَرٌ تَتَزَيَّنُونَ بِهِ {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} يَفْخَرُ بِهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ {وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} أَيْ: مُبَاهَاةٌ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهَا مَثَلًا فَقَالَ: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} أَيِ: الزُّرَّاعَ {نَبَاتُهُ} مَا نَبَتَ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْثِ {ثُمَّ يَهِيجُ} يَيْبَسُ {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} بَعْدَ خُضْرَتِهِ وَنَضْرَتِهِ {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} يَتَحَطَّمُ وَيَتَكَسَّرُ بَعْدَ يُبْسِهِ وَيَفْنَى {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} قَالَ مُقَاتِلٌ: لِأَعْدَاءِ اللَّهِ {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ.
{وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَتَاعُ الْغُرُورِ لِمَنْ يَشْتَغِلُ فِيهَا بِطَلَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِطَلَبِهَا فَلَهُ مَتَاعُ بِلَاغٍ إِلَى مَا هُوَ خير منه 15 / 4 أ
__________
(1) أخرجه عبد الرازق في التفسير: 2 / 276. انظر: البحر المحيط: 8 / 223.
(2) ذكره الطبري: 27 / 231.
(3) انظر: القرطبي: 17 / 253.(8/39)
سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) }
{سَابِقُوا} سَارَعُوا {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} لَوْ وُصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فَبَيَّنَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} يَعْنِي: قَحْطَ الْمَطَرِ وَقِلَّةَ النَّبَاتِ وَنَقْصَ الثِّمَارِ {وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} يَعْنِي: الْأَمْرَاضَ وَفَقْدَ الْأَوْلَادِ {إِلَّا فِي كِتَابٍ} يَعْنِي: اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} مِنْ قَبْلِ أَنْ نَخْلُقَ الْأَرْضَ وَالْأَنْفُسَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَ الْمُصِيبَةَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَعْنِي النَّسَمَةَ {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أَيْ إِثْبَاتَ ذَلِكَ عَلَى كَثْرَتِهِ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا} تَحْزَنُوا {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} مِنَ الدُّنْيَا {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِقَصْرِ الْأَلْفِ، لِقَوْلِهِ "فَاتَكُمْ" فَجَعَلَ الْفِعْلَ لَهُ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ {آتَاكُمْ} بِمَدِّ الْأَلِفِ، أَيْ: أَعْطَاكُمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَهُوَ يَفْرَحُ وَيَحْزَنُ وَلَكِنِ اجْعَلُوا الْفَرَحَ شُكْرًا وَالْحُزْنَ صَبْرًا (1) {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} مُتَكَبِّرٍ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا "فَخُورٍ" يَفْخَرُ بِهِ عَلَى النَّاسِ.
قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ: يَا ابن آدم مالك تَأْسَفُ عَلَى مَفْقُودٍ لَا يَرُدُّهُ إليك الفوت، ومالك تَفْرَحُ بِمَوْجُودٍ لَا يَتْرُكُهُ فِي يَدِكَ الْمَوْتُ (2) . {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} قِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ عَلَى نَعْتِ الْمُخْتَالِ. وَقِيلَ: هُوَ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ
__________
(1) أخرجه الطبري: 27 / 235، وصححه الحاكم: 2 / 479 ووافقه الذهبي. وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 62 عزوه لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر والبيهقي في الشعب.
(2) انظر: القرطبي: 17 / 258.(8/40)
وَخَبَرُهُ فِيمَا بَعْدَهُ. {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ} أَيْ: يُعْرِضْ عَنِ الْإِيمَانِ {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: "فَإِنَّ اللَّهَ الْغَنِيُّ" بِإِسْقَاطِ "هُوَ" وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ.(8/41)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} بِالْآيَاتِ وَالْحُجَجِ {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} يَعْنِي: الْعَدْلَ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ أَيْ: وَوَضَعْنَا الْمِيزَانَ كَمَا قَالَ: "وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ" (الرَّحْمَنِ -7) {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} لِيَتَعَامَلُوا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ.
{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ يَرْفَعُهُ: إِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ أَرْبَعَ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ: الْحَدِيدَ وَالنَّارَ وَالْمَاءَ وَالْمِلْحَ (1) وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي مَعْنَى قَوْلِهِ: "أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ" [أَنْشَأْنَا وَأَحْدَثْنَا أَيْ: أَخْرَجَ لَهُمُ الْحَدِيدَ] (2) مِنَ الْمَعَادِنِ وَعَلَّمَهُمْ صَنَعْتَهُ بِوَحْيهِ.
وَقَالَ قُطْرُبٌ هَذَا مِنَ النَّزْلِ كَمَا يُقَالُ: أَنْزَلَ الْأَمِيرُ عَلَى فُلَانٍ نَزْلًا حَسَنًا فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ نَزْلًا لَهُمْ. وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: "وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ" (الزُّمَرِ -6) . {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} قُوَّةٌ شَدِيدَةٌ يَعْنِي: السِّلَاحَ لِلْحَرْبِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: فِيهِ جُنَّةٌ وَسِلَاحٌ يَعْنِي آلَةُ الدَّفْعِ وَآلَةُ الضَّرْبِ {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} مِمَّا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَصَالِحِهِمْ كَالسِّكِّينِ وَالْفَأْسِ وَالْإِبْرَةِ وَنَحْوِهَا إِذْ هُوَ آلَةٌ لِكُلِّ صَنْعَةٍ {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} أَيْ: أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِيَتَعَامَلَ النَّاسُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ وَلِيَرَى اللَّهُ {مَنْ يَنْصُرُهُ} أَيْ: دِينَهُ {وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} أَيْ: قَامَ بِنُصْرَةِ الدِّينِ وَلَمْ يَرَ اللَّهَ وَلَا الْآخِرَةَ، وَإِنَّمَا يُحْمَدُ وَيُثَابُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ بِالْغَيْبِ {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} قَوِيٌّ فِي أَمْرِهِ، عَزِيزٌ فِي مُلْكِهِ.
__________
(1) ضعيف أخرجه الديلمي في الفردوس. انظر: كنز العمال: 15 / 418 وعزاه ابن حجر في الكافي الشاف صفحة: (164) للثعلبي وقال: "وفي إسناده من لا أعرفه".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/41)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27) }
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [عَلَى دِينِهِ] (1) {رَأْفَةً} وَهِيَ أَشَدُّ الرِّقَّةِ {وَرَحْمَةً} كَانُوا مُتَوَادِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ" (الْفَتْحِ -29) {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ، وَلَيْسَ هَذَا بِعَطْفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَانْتِصَابُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ كَأَنَّهُ قَالَ: وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً أَيْ جَاءُوا بِهَا مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ {مَا كَتَبْنَاهَا} أَيْ مَا فَرَضْنَاهَا {عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} يَعْنِي: وَلَكِنَّهُمُ ابْتَغَوْا رِضْوَانَ اللَّهِ بِتِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةِ، وَتِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةُ مَا حَمَّلُوا أَنْفُسَهَمْ مِنَ الْمَشَاقِّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالنِّكَاحِ وَالتَّعَبُّدِ فِي الْجِبَالِ {فَمَا رَعَوْهَا حَقَ رِعَايَتِهَا} أَيْ لَمْ يَرْعَوْا الرَّهْبَانِيَّةَ حَقَّ رِعَايَتِهَا بَلْ ضَيَّعُوهَا وَكَفَرُوا بِدِينِ عِيسَى فَتَهَوَّدُوا وَتَنَصَّرُوا وَدَخَلُوا فِي دِينِ مُلُوكِهِمْ وَتَرَكُوا التَّرَهُّبَ، وَأَقَامَ مِنْهُمْ أُنَاسٌ عَلَى دِينِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنُوا بِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} وَهُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَيْهَا وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وَهُمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَكَفَرُوا بِدِينِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَنْبَأَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا شَيْبَانُ بْنُ فَرُّوخَ، حَدَّثَنَا الصَّعْقُ بْنُ حَزْنٍ، عَنْ عَقِيلٍ الْجَعْدِيِّ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ سُوِيدِ بْنِ غَفْلَةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "يَا ابْنَ مَسْعُودٍ اخْتَلَفَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، نَجَا مِنْهَا ثَلَاثٌ وَهَلَكَ سَائِرُهُنَّ، فِرْقَةٌ آزَتِ الْمُلُوكَ وَقَاتَلُوهُمْ عَلَى دِينِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَأَخَذُوهُمْ وَقَتَلُوهُمْ، وَفُرْقَةٌ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ طَاقَةٌ بِمُوَازَاةِ الْمُلُوكِ وَلَا بِأَنْ يُقِيمُوا بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ يَدْعُونَهُمْ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/42)
إِلَى دِينِ اللَّهِ وَدِينِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَسَاحُوا فِي الْبِلَادِ وَتَرَهَّبُوا وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: "وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ" فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ آمَنَ بِي وَصَدَّقَنِي وَاتَّبَعَنِي فَقَدْ رَعَاهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِي فَأُولَئِكَ هُمُ الْهَالِكُونَ" (1) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ لِي: "يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ هَلْ تَدْرِي مِنْ أَيْنَ اتَّخَذَتْ بَنُو إِسْرَائِيلَ الرَّهْبَانِيَّةَ؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ظَهَرَتْ عَلَيْهِمُ الْجَبَابِرَةُ بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَعْمَلُونَ بِالْمَعَاصِي فَغَضِبَ أَهْلُ الْإِيمَانِ فَقَاتَلُوهُمْ، فَهُزِمَ أَهْلُ الْإِيمَانِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا الْقَلِيلُ، فَقَالُوا: إِنْ ظَهَرْنَا لِهَؤُلَاءِ أَفْنَوْنَا وَلَمْ يَبْقَ لِلدِّينِ أَحَدٌ يَدْعُو لَهُ فَقَالُوا: تَعَالَوْا نَتَفَرَّقْ فِي الْأَرْضِ إِلَى أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ النَّبِيَّ الَّذِي وَعَدَنَا بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، يعنون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ 154/ب فَتَفَرَّقُوا فِي غِيرَانِ الْجِبَالِ، وَأَحْدَثُوا رَهْبَانِيَّةً فَمِنْهُمْ مَنْ تَمَسَّكَ بِدِينِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: "وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا" الْآيَةَ. "فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ" يَعْنِي مَنْ ثَبَتُوا عَلَيْهَا أَجْرَهُمْ، ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا ابْنَ أُمِّ عَبْدٍ أَتُدْرِي مَا رَهْبَانِيَّةُ أُمَّتِي؟ قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: الْهِجْرَةُ وَالْجِهَادُ، وَالصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ وَالْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ وَالتَّكْبِيرُ عَلَى التِّلَاعِ" (2)
وَرُوِيَ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَهْبَانِيَّةً، وَرَهْبَانِيَّةُ هَذِهِ الْأُمَّةِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ" (3)
وَرَوَى سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَتْ مُلُوكٌ بَعْدَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بَدَّلُوا التَّوْارَةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَكَانَ فيهم مؤمنون يقرؤن التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَيَدْعُونَهُمْ إِلَى دِينِ اللَّهِ فَقِيلَ لملوكهم: لو جمعتهم هَؤُلَاءِ الَّذِينَ شَقُّوا عَلَيْكُمْ فَقَتَلْتُمُوهُمْ أَوْ دَخَلُوا فِيمَا نَحْنُ فِيهِ، فَجَمَعَهُمْ مُلُوكُهُمْ
__________
(1) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة: 1 / 35 قال الألباني: إسناده ضعيف جدا، رجاله ثقات غير عقيل الجعدي فإنه ضعيف جدا، كما يفيده قول البخاري فيه: منكر الحديث. والطبري: 27 / 239، والطبراني في المعجم الكبير: 10 / 271، وصححه الحاكم: 2 / 480 وتعقبه الذهبي فقال: "ليس بصحيح فإن الصعق وإن كان موثقا فإن شيخه منكر الحديث قاله البخاري". وساقه ابن كثير في التفسير: 4 / 317 من رواته ابن أبي حاتم وابن جرير وقال: " أسنده أبو يعلى، وسنده: عن شيبان بن فروخ، عن الصعق بن حزن، به مثل ذلك فقوي الحديث من هذا الوجه".
(2) انظر الدر المنثور: 8 / 64.
(3) أخرجه أبو يعلى في المسند عن أنس: 4 / 184، وابن أبي شيبة: 5 / 269. وأخرجه الإمام أحمد: 3 / 266 بلفظ: "لكل نبي رهبانية ... " وفيه زيد العمي وهو ضعيف. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 5 / 278: "رواه أبو يعلى وأحمد إلا أنه قال: لكل نبي ... وفيه زيد العمي: وثقه أحمد وغيره، وضعفه أبو زرعه وغيره وبقية رجاله رجال الصحيح". وللحديث شواهد. انظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم: (555) ، تخريج أحاديث إحياء علوم الدين: 4 / 1566.(8/43)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
وَعُرِضَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ أَوْ يَتْرُكُوا قِرَاءَةَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ إِلَّا مَا بَدَّلُوا مِنْهَا فَقَالُوا: نَحْنُ نَكْفِيكُمْ أَنْفُسَنَا فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ابْنُوا لَنَا أُسْطُوَانَةً، ثُمَّ ارْفَعُونَا إِلَيْهَا ثُمَّ أَعْطَوْنَا شَيْئًا نَرْفَعُ بِهِ طَعَامَنَا وَشَرَابَنَا وَلَا نَرِدُ عَلَيْكُمْ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: دَعُونَا نَسِيحُ فِي الْأَرْضِ وَنَهِيمُ وَنَشْرَبُ كَمَا يَشْرَبُ الْوَحْشُ، فَإِنْ قَدَرْتُمْ عَلَيْنَا بِأَرْضٍ فَاقْتُلُونَا وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: ابْنُوا لَنَا دَوْرًا فِي الْفَيَافِي نَحْتَفِرُ الْآبَارَ وَنَحْتَرِثُ الْبُقُولَ فَلَا نَرِدُ عَلَيْكُمْ وَلَا نَمُرُّ بِكُمْ، فَفَعَلُوا بِهِمْ ذَلِكَ فَمَضَى أُولَئِكَ عَلَى مِنْهَاجِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَخَلَفَ قَوْمٌ مِنْ بَعْدِهِمْ مِمَّنْ قَدْ غَيَّرَ الْكِتَابَ، فَجَعَلَ الرَّجُلُ يَقُولُ: نَكُونُ فِي مَكَانِ فُلَانٍ فَنَتَعَبَّدُ كَمَا تَعَبَّدَ فُلَانٌ وَنَسِيحُ كَمَا سَاحَ فُلَانٌ وَنَتَّخِذُ دَوْرًا كَمَا اتَّخَذَ فُلَانٌ، وَهُمْ عَلَى شِرْكِهِمْ لَا عِلْمَ لَهُمْ بِإِيمَانِ الَّذِينَ اقْتَدَوْا بِهِمْ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا" أَيِ ابْتَدَعَهَا هَؤُلَاءِ الصَّالِحُونَ {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} يَعْنِي الآخرين الذين جاؤا مِنْ بَعْدِهِمْ {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} يَعْنِي الَّذِينَ ابْتَدَعُوهَا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ "وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" هم الذين جاؤا مِنْ بَعْدِهِمْ، قَالَ: فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ انْحَطَّ رَجُلٌ مِنْ صَوْمَعَتِهِ وَجَاءَ سَيَّاحٌ مِنْ سِيَاحَتِهِ وَصَاحِبُ دَيْرٍ مِنْ دَيْرِهِ وَآمَنُوا بِهِ (1)
فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، يَقُولُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى اتَّقَوْا اللَّهَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} نَصِيبَيْنِ {مِنْ رَحْمَتِهِ} يَعْنِي يُؤْتِكُمْ أَجْرَيْنِ لِإِيمَانِكُمْ بِعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْإِنْجِيلِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: انْقَطَعَ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ "وَرَحْمَةً" ثُمَّ ابْتَدَأَ: وَرَهْبَانِيَّةٌ ابْتَدَعُوهَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْحَقَّ فَأَكَلُوا الْخِنْزِيرَ وَشَرِبُوا الْخَمْرَ وَتَرَكُوا الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْخِتَانَ، فَمَا رَعَوْهَا يَعْنِي: الطَّاعَةَ وَالْمِلَّةَ "حَقَ رِعَايَتِهَا" كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ "فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ" وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ "وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ" وهم الذين ابتدعواالرهبانية، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ.
مَعْنَى قَوْلِهِ: "إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ" [عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: مَا أَمَرْنَاهُمْ وَمَا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ، وَمَا أَمَرْنَاهُمْ بِالتَّرَهُّبِ] (2) .
__________
(1) أخرجه النسائي في أداب القضاة، باب: (تأويل قول الله عز وجل: ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) : 8 / 231 - 233، وفي التفسير: 2 / 284- 387 وإسناده حسن. وساقه ابن كثير من رواية الطبري: 27 / 239 وقال: "هذا السياق فيه غرابة". ابن كثير: 4 / 317.
(2) ساقطة من "ب".(8/44)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بِمُوسَى وَعِيسَى {اتَّقُوا اللَّهَ} وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ".
وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: " ثَلَاثَةٌ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ رَجُلٌ كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ فَأَدَّبَهَا فَأَحْسَنَ تَأْدِيبَهَا ثُمَّ أَعْتَقَهَا وَتَزَوَّجَهَا وَرَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمَنَ بِكِتَابِهِ وَآمَنَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَبَدَ أَحْسَنَ عِبَادَةَ اللَّهِ وَنُصْحَ سَيِّدَهُ" (1)
{وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي عَلَى الصِّرَاطِ، كَمَا قَالَ: "نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ" (التَّحْرِيمِ -8) وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النُّورَ هُوَ الْقُرْآنُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْهُدَى وَالْبَيَانُ، أَيْ يَجْعَلْ لَكُمْ سَبِيلًا وَاضِحًا فِي الدِّينِ تَهْتَدُونَ بِهِ {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَقِيلَ: لَمَّا سَمِعَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: "أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ" (الْقَصَصِ -54) قَالُوا لِلْمُسْلِمِينَ: أَمَّا مَنْ آمَنَ مِنَّا بِكِتَابِكُمْ فَلَهُ أَجْرُهُ مَرَّتَيْنِ لِإِيمَانِهِ بِكِتَابِكُمْ وَبِكِتَابِنَا وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنَّا فَلَهُ أَجْرٌ كَأُجُورِكُمْ فَمَا فَضْلُكُمْ عَلَيْنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ" فَجَعَلَ لَهُمُ الْأَجْرَيْنِ إِذَا آمَنُوا بِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَزَادَهُمُ النُّورَ وَالْمَغْفِرَةَ (2) ثُمَّ قَالَ: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} قَالَ قَتَادَةُ: حَسَدَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (3) "لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ".
قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَتِ الْيَهُودُ يُوشِكُ أَنْ يَخْرُجَ [مِنَّا] (4) . نَبِيٌّ يَقْطَعُ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى (5) "لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ" أَيْ لِيَعْلَمَ وَ"لَا" صِلَةٌ {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أَيْ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا أَنَّهُمْ لَا أَجْرَ لَهُمْ وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي
__________
(1) أخرجه البخاري في العلم، باب تعليم الرجل أمته وأهله: 1 / 190، ومسلم في الإيمان، باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ برقم: (154) : 1 / 134 - 135، والمصنف في شرح السنة: 1 / 53.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 66 - 68 للطبراني في الأوسط. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 121: " رواه الطبراني وفيه من لم أعرفه".
(3) أخرجه عبد الرازق في التفسير: 2 / 276، والطبري: 27 / 246، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 68 عزه لعبد بن حميد وابن المنذر.
(4) ساقط من "أ".
(5) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 68 لعبد بن حميد وابن المنذر.(8/45)
فَضْلِ اللَّهِ {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّمَا أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ خَلَا مِنَ الْأُمَمِ كَمَا بَيْنَ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ، وَإِنَّمَا مَثَلُكُمْ وَمَثَلُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَرَجُلٍ اسْتَعْمَلَ عُمَّالًا فَقَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ الْيَهُودُ إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ؟ فَعَمِلَتِ النَّصَارَى مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ إِلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ عَلَى قِيرَاطٍ قِيرَاطٍ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَعْمَلُ لِي مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ عَلَى قِيرَاطَيْنِ قِيرَاطَيْنِ، أَلَا فَأَنْتُمُ الَّذِينَ تَعْمَلُونَ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ أَلَا لَكُمُ الْأَجْرُ مَرَّتَيْنِ، فَغَضِبَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَقَالُوا: نَحْنُ أَكْثَرُ عَمَلًا وَأَقَلُّ عَطَاءً؟ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "هَلْ ظَلَمْتُكُمْ مِنْ حَقِّكُمْ شَيْئًا؟ " قَالُوا: لَا قَالَ: "فَإِنَّهُ فَضْلِي أُعْطِيهِ مَنْ شِئْتُ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَلَاءِ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ يَزِيدَ عَنْ أَبِي بُرْدَةَ عَنْ أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَثَلُ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمَثَلِ رَجُلٍ اسْتَأْجَرَ قَوْمًا يَعْمَلُونَ لَهُ عَمَلًا إِلَى اللَّيْلِ عَلَى أَجْرٍ مَعْلُومٍ فَعَمِلُوا إِلَى نِصْفِ النَّهَارِ، فَقَالُوا: لَا حَاجَةَ لَنَا إِلَى أَجْرِكَ الَّذِي شَرَطْتَ لَنَا وَمَا عَمِلْنَاهُ بَاطِلٌ، فَقَالَ لَهُمْ: لَا تفعلوا أكملوا بقي عَمَلِكُمْ، وَخُذُوا أَجْرَكُمْ كَامِلًا فَأَبَوْا وَتَرَكُوا وَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا آخَرِينَ بَعْدَهُمْ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَلَكُمُ الَّذِي شَرَطْتُ لَهُمْ مِنَ الْأَجْرِ، فَعَمِلُوا حَتَّى إِذَا كَانَ حِينَ صَلَاةِ الْعَصْرِ قَالُوا: مَا عَمِلْنَا بَاطِلٌ وَلَكَ الْأَجْرُ الَّذِي جَعَلْتَ لَنَا فِيهِ، فَقَالَ: أَكْمِلُوا بَقِيَّةَ عَمَلِكُمْ فَإِنَّمَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ شَيْءٌ يَسِيرٌ فَأَبَوْا فَاسْتَأْجَرَ قَوْمًا أَنْ يَعْمَلُوا لَهُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ فَعَمِلُوا بَقِيَّةَ يَوْمِهِمْ حَتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ فَاسْتَكْمَلُوا أَجْرَ الْفَرِيقَيْنِ كِلَيْهِمَا فَذَلِكَ مَثَلُهُمْ وَمَثَلُ مَا قَبِلُوا مِنْ هَذَا النُّورِ" (2)
__________
(1) أخرجه البخاري في الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل: 6 / 495 - 496، والمصنف في شرح السنة: 14 / 218 - 219.
(2) أخرجه البخاري في مواقيت الصلاة، باب من أدرك ركعة من العصر قبل الغروب: 2 / 38، والمصنف في شرح السنة: 14 / 221.(8/46)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) }
{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} الْآيَةَ. نَزَلَتْ فِي خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ كَانَتْ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، وَكَانَتْ حَسَنَةَ الْجِسْمِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ فَأَرَادَهَا فَأَبَتْ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلِيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا قَالَ. وَكَانَ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ مِنْ طَلَاقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. فَقَالَ لَهَا: مَا أَظُنُّكِ إِلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيَّ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ طَلَاقٌ، وَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -وَعَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ -فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ زَوْجِي أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ تُزَوَّجَنِي وَأَنَا شَابَّةٌ غَنِيَّةٌ ذَاتُ مَالٍ وَأَهْلٍ حَتَّى إِذَا أَكَلَ مَالِي وَأَفْنَى شَبَابِي وَتَفَرَّقَ أَهْلِي وَكَبُرَ سِنِّي ظَاهَرَ مِنِّي، وَقَدْ نَدِمَ، فَهَلْ مِنْ شَيْءٍ يَجْمَعُنِي وَإِيَّاهُ تُنْعِشُنِي بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَرُمْتِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا ذَكَرَ طَلَاقًا وَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِي وَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَرُمْتِ عَلَيْهِ، فَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَوَحْدَتِي قَدْ طَالَتْ صُحْبَتِي وَنَفَضَتْ لَهُ بَطْنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَرَاكِ إِلَّا قَدْ حَرُمْتِ عَلَيْهِ، وَلِمَ أُومَرْ فِي شَأْنِكِ بِشَيْءٍ، فَجَعَلَتْ تُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِذَا قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: حَرُمْتِ عَلَيْهِ هَتَفَتْ وَقَالَتْ: أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَشِدَّةَ حَالِي وَإِنَّ لِي صِبْيَةً صِغَارًا إِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيْهِ ضَاعُوا وَإِنْ ضَمَمْتُهُمْ إِلَيَّ جَاعُوا، وَجَعَلَتْ تَرْفَعُ رَأْسَهَا إِلَى السَّمَاءِ وَتَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْكُو إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ فَأَنْزِلْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّكَ، وَكَانَ هَذَا أَوَّلُ ظِهَارٍ فِي الْإِسْلَامِ.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وأبو الشيخ في العظمة والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة المجادلة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله، والله أعلم. انظر: الدر المنثور: 8 / 69.(8/47)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)
فَقَامَتْ عَائِشَةُ تَغْسِلُ شِقَّ رَأْسِهِ الْآخَرِ. فَقَالَتِ: انْظُرْ فِي أَمْرِي جَعَلَنِي اللَّهُ فَدَاءَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَقْصِرِي حَدِيثَكِ وَمُجَادَلَتَكِ أَمَا تَرَيْنَ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ -وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا نَزَلَ عَلَيْهِ أَخَذَهُ مِثْلُ السُّبَاتِ -فَلَمَّا قُضِيَ الْوَحْيُ قَالَ لَهَا: ادْعِي زَوْجَكِ فَدَعَتْهُ، فَتَلَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ" الْآيَاتِ (1) .
قَالَتْ عَائِشَةُ: تَبَارَكَ الَّذِي وَسِعَ سَمْعُهُ الْأَصْوَاتَ كُلَّهَا إِنَّ الْمَرْأَةَ لَتُحَاوِرُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَا فِي نَاحِيَةِ الْبَيْتِ أَسْمَعُ بَعْضَ كَلَامِهَا وَيَخْفَى عَلَيَّ بَعْضُهُ إِذْ أَنْزَلَ اللَّهُ: "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ" الْآيَاتِ (2) .
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: {قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} تُخَاصِمُكَ وَتُحَاوِرُكَ وَتَرَاجِعُكَ فِي زَوْجِهَا {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} مُرَاجَعَتَكُمَا الْكَلَامَ {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} سَمِيعٌ لِمَا تُنَاجِيهِ وَتَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، بَصِيرٌ بِمَنْ يَشْكُو إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَمَّ الظِّهَارَ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ}
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) }
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ} قَرَأَ عَاصِمٌ: "يُظَاهِرُونَ" فِيهَا بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَأَلْفٍ بَعْدَهَا وَكَسْرِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ، وَحَمْزَةُ، وَالْكِسَائِيُّ: بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالْهَاءِ، وَتَشْدِيدِ الظاء وألف بعده. اوَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَالْهَاءِ مِنْ غَيْرِ أَلْفٍ.
{مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} أَيْ مَا اللَّوَاتِي يَجْعَلُونَهُنَّ مِنْ زَوْجَاتِهِمْ كَالْأُمَّهَاتِ بِأُمَّهَاتٍ. وَخَفَضَ التَّاءَ فِي "أُمَّهَاتِهِمْ" عَلَى خَبَرِ "مَا" وَمَحَلُّهُ نَصْبٌ كَقَوْلِهِ: "مَا هَذَا بَشَرًا" (يُوسُفَ -31) الْمَعْنَى: لَيْسَ هُنَّ بِأُمَّهَاتِهِمْ {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} أَيْ مَا أُمَّهَاتُهُمْ {إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ} لَا يُعْرَفُ فِي شَرْعٍ {وَزُورًا} كَذِبًا {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} عَفَا عَنْهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ بِإِيجَابِ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهِمْ.
وَصُورَةُ الظِّهَارِ: أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلِيَ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ أَنْتِ مِنِّي أَوْ مَعِي أَوْ عِنْدِي كَظَهْرِ أُمِّي، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَبَطْنِ أُمِّي أَوْ كَرَأْسِ أُمِّي أَوْ كَيَدِ أُمِّي أَوْ قَالَ بَطْنُكِ أَوْ رَأْسُكِ أَوْ يَدُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي أَوْ شَبَّهَ عُضْوًا مِنْهَا بِعُضْوٍ آخَرَ مِنْ أَعْضَاءِ أُمِّهِ فَيَكُونُ ظِهَارًا.
__________
(1) أخرجه عبد الرازق في التفسير: 2 / 277، وصححه الحاكم: 2 / 481. وانظر تفسير ابن كثير: 4 / 319.
(2) أخرجه عبد بن حميد في المنتخب من المسند، صفحة: (438) ، والنسائي: 6 / 186، والحاكم: 2 / 481. وأخرجه الإمام أحمد: 6 / 46 بلفظ: "الحمد لله الذي ... "، والبخاري تعليقًا في كتاب التوحيد، باب (وكان الله سميعا بصيرا) 13 / 327.(8/50)
وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3)
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -إِنْ شَبَّهَهَا بِبَطْنِ الْأُمِّ أَوْ فَرْجِهَا أَوْ فَخْذِهَا يَكُونُ ظِهَارًا وَإِنَّ شَبَّهَهَا بِعُضْوٍ آخَرَ لَا يَكُونُ ظِهَارًا. وَلَوْ قَالَ أَنْتِ عَلَيَّ كَأُمِّي أَوْ كَرُوحِ أُمِّي وَأَرَادَ بِهِ الْإِعْزَازَ وَالْكَرَامَةَ فَلَا يَكُونُ ظِهَارًا حَتَّى يُرِيدَهُ، وَلَوْ شَبَّهَهَا بِجَدَّتِهِ فَقَالَ: أَنْتِ عَلِيٌّ كَظَهْرِ جَدَّتِي يَكُونُ ظِهَارًا وَكَذَلِكَ لَوْ شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ بِالْقَرَابَةِ بِأَنْ قَالَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُخْتِي أَوْ عَمَّتِي أَوْ خَالَتِي أَوْ شَبَّهَهَا بِامْرَأَةٍ مُحَرَّمَةٍ عَلَيْهِ بِالرَّضَاعِ يَكُونُ ظِهَارًا -عَلَى الْأَصَحِّ مِنَ الْأَقَاوِيلِ -.
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) }
{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} ثُمَّ حُكْمُ الظِّهَارِ: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الزَّوْجِ وَطْؤُهَا بَعْدَ الظِّهَارِ مَا لَمْ يُكَفِّرْ، وَالْكَفَّارَةُ تَجِبُ بِالْعَوْدِ بَعْدَ الظِّهَارِ. لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ".
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي "الْعَوْدِ" فَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ إِعَادَةُ لَفْظِ الظِّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا" أَيْ إِلَى مَا قَالُوا [أَيْ أَعَادُوهُ مَرَّةً أُخْرَى] (1) . فَإِنْ لَمْ يُكَرِّرِ اللَّفْظَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ.
وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِنَفْسِ الظِّهَارِ، وَالْمُرَادُ مِنَ "الْعَوْدِ" هُوَ: الْعَوْدُ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نَفْسِ الظِّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ مِنَ "العود" الوطء 155/ب وَهُوَ قَوْلُ الحسن وقتادة وطاووس وَالزُّهْرِيِّ وَقَالُوا: لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَطَأْهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْعَوْدَ هُوَ أَنْ يُمْسِكَهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ زَمَانًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُفَارِقَهَا فَلَمْ يَفْعَلْ، فَإِنَّ طَلَّقَهَا عَقِيبَ الظِّهَارِ فِي الْحَالِ أَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا فِي الْوَقْتِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَوْدَ لِلْقَوْلِ هُوَ الْمُخَالَفَةُ. وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ "الْعَوْدَ" بِالنَّدَمِ، فَقَالَ: يَنْدَمُونَ فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْأُلْفَةِ، وَمَعْنَاهُ هَذَا.
قَالَ الْفَرَّاءُ (2) يُقَالُ: عَادَ فُلَانٌ لِمَا قَالَ، أَيْ فِيمَا قَالَ، وَفِي نَقْضِ مَا قَالَ يَعْنِي:
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) معاني القرآن للفراء: 3 / 139 بتصرف في العبارة.(8/51)
رَجَعَ عَمَّا قَالَ.
وَهَذَا يُبَيِّنُ مَا قَالَ الشَّافِعِيُّ وَذَلِكَ أَنَّ قَصْدَهُ بِالظِّهَارِ التَّحْرِيمُ، فَإِذَا أَمْسَكَهَا عَلَى النِّكَاحِ فَقَدْ خَالَفَ قَوْلَهُ وَرَجَعَ عَمَّا قَالَهُ فَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، حَتَّى قَالَ: لَوْ ظَاهَرَ عَنِ امْرَأَتِهِ الرَّجْعِيَّةِ يَنْعَقِدُ ظِهَارُهُ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ حَتَّى يُرَاجِعَهَا فَإِنْ رَاجَعَهَا صَارَ عَائِدًا وَلَزِمَتْهُ الْكَفَّارَةُ.
قَوْلُهُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} وَالْمُرَادُ بِـ "التَّمَاسِّ": الْمُجَامَعَةُ، فَلَا يَحِلُّ لِلْمُظَاهِرِ وَطْءُ امْرَأَتِهِ الَّتِي ظَاهَرَ مِنْهَا مَا لَمْ يُكَفِّرْ، سَوَاءٌ أَرَادَ التَّكْفِيرَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِالصِّيَامِ أَوْ بِالْإِطْعَامِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ إِنْ أَرَادَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَهُ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ الْعِتْقَ وَالصَّوْمَ بِمَا قَبِلَ الْمَسِيسِ وَقَالَ فِي الْإِطْعَامِ: "فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا" وَلَمْ يَقُلْ: مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا. وَعِنْدَ الْآخَرِينَ: الْإِطْلَاقُ فِي الْإِطْعَامِ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْعِتْقِ وَالصِّيَامِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَحْرِيمِ مَا سِوَى الْوَطْءِ مِنَ الْمُبَاشَرَاتِ قَبْلَ التَّكْفِيرِ، كَالْقُبْلَةِ وَالتَّلَذُّذِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ سِوَى الْوَطْءُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ، وَسُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ وَأَظْهَرُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ كَمَا أَنَّ الْحَيْضَ يُحَرِّمُ الْوَطْءَ دُونَ سَائِرِ الِاسْتِمْتَاعَاتِ.
وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يَحْرُمُ، لِأَنَّ اسْمَ "الْتَمَاسِّ" يَتَنَاوَلُ الْكُلَّ، وَلَوْ جَامَعَ الْمُظَاهِرُ قَبْلَ التَّكْفِيرِ يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى، وَالْكَفَّارَةُ فِي ذِمَّتِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ مَا لَمْ يُكَفِّرْ، وَلَا يَجِبُ بِالْجِمَاعِ كَفَّارَةٌ أُخْرَى. وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِذَا وَاقَعَهَا قَبْلَ التَّكْفِيرِ عَلَيْهِ كَفْارَتَانِ.
وَكَفَّارَةُ الظِّهَارِ مَرْتَبَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَعَلَيْهِ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَإِنْ أَفْطَرَ يَوْمًا مُتَعَمِّدًا أَوْ نَسِيَ النِّيَّةَ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الشَّهْرَيْنِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنِ الصَّوْمِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُطْعِمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا. وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ مِقْدَارَ مَا يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ (1) .
__________
(1) معاني القرآن للفراء: 3 / 91.(8/52)
فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
{ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} تُؤْمَرُونَ بِهِ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4) }
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} يَعْنِي الرَّقَبَةَ {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فَإِنْ كَانَتْ لَهُ رَقَبَةٌ إِلَّا أَنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَى خِدْمَتِهِ، أَوْ لَهُ ثَمَنُ رَقَبَةٍ لَكِنَّهُ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ لِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ فَلَهُ أَنْ يَنْتَقِلَ إِلَى الصَّوْمِ. وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ: يَلْزَمُهُ الْإِعْتَاقُ إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِلرَّقَبَةِ أَوْ ثَمَنِهَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: إِنْ كَانَ وَاجِدًا لِعَيْنِ الرَّقَبَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِعْتَاقُهَا وَإِنْ كَانَ مُحْتَاجًا إِلَيْهَا فَأَمَّا إِذَا كَانَ وَاجِدًا لِثَمَنِ الرَّقَبَةِ وَهُوَ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ فَلَهُ أَنْ يَصُومَ، فَلَوْ شَرَعَ الْمُظَاهِرُ فِي صَوْمِ شَهْرَيْنِ ثُمَّ جَامَعَ فِي خِلَالِ الشَّهْرِ بِاللَّيْلِ يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى بِتَقْدِيمِ الْجِمَاعِ عَلَى الْكَفَّارَةِ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الشَّهْرَيْنِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِئْنَافُ الشَّهْرَيْنِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} يَعْنِي الْمُظَاهِرُ إِذَا لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّوْمَ لِمَرَضٍ أَوْ كِبَرٍ أَوْ فَرْطِ شَهْوَةٍ وَلَا يَصْبِرُ عَنِ الْجِمَاعِ يَجِبُ عَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا.
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ الْخَرَقِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الطَّيْسَفُونِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْجَوْهَرِيُّ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ الْكُشْمِيهَنِيُّ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ، حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ خَوْلَةَ بِنْتَ ثَعْلَبَةَ كَانَتْ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ، فَظَاهَرَ مِنْهَا وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ، فَجَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: إِنَّ أَوْسًا ظَاهَرَ مِنِّي وَذَكَرَتْ أَنَّ بِهِ لَمَمًا فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُكَ إِلَّا رَحْمَةً لَهُ إِنَّ لَهُ فِيَّ مَنَافِعَ، فَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِيهِمَا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً، قَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدَهُ رَقَبَةٌ وَلَا ثَمَنُهَا قَالَ: مُرِيهِ فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَقَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَوْ كَلَّفْتَهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مَا اسْتَطَاعَ، قَالَ: مُرِيهِ فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا قَالَتْ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، قَالَ: مُرِيهِ فَلْيَذْهَبْ إِلَى فُلَانِ ابْنِ فُلَانٍ فَقَدْ أَخْبَرَنِي أَنَّ عِنْدَهُ شَطْرَ تَمْرٍ صَدَقَةً، فَلْيَأْخُذْهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ ثُمَّ لِيَتَصَدَّقْ بِهِ عَلَى سِتِّينَ مِسْكِينًا" (1) .
وَرَوَى سُلَيْمَانُ بْنُ يَسَارٍ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ صَخْرٍ قَالَ: كُنْتُ امْرَأً أُصِيبُ مِنَ النِّسَاءِ مَا لَمْ يُصِبْ غَيْرِي فَلَمَّا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ خِفْتُ أَنْ أُصِيبَ مِنَ امْرَأَتِي شَيْئًا فَظَاهَرْتُ مِنْهَا حَتَّى يَنْسَلِخَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فَبَيْنَمَا هِيَ تُحَدِّثُنِي ذَاتَ لَيْلَةٍ إِذْ تَكَشَّفَ لِي مِنْهَا شَيْءٌ فَلَمْ أَلْبَثْ أَنْ وَقَعْتُ عَلَيْهَا فَانْطَلَقْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: أَنْتَ بِذَاكَ، فَقُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ -قَالَهُ ثَلَاثًا -قُلْتُ: أَنَا بِذَاكَ وَهَا أَنَا ذَا فَأَمْضِ فِيَّ حُكْمَ اللَّهِ، فَإِنِّي صَابِرٌ لِذَلِكَ، قَالَ: فَأَعْتِقْ رَقَبَةً. فَضَرَبْتُ صَفْحَةَ عُنُقِي بِيَدِي فَقُلْتُ:
__________
(1) أخرجه البيهقي في السنن: 7 / 389 وله شاهد عند الإمام أحمد: 6 / 410، والمصنف في شرح السنة: 9 / 241. وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 71 عزوه لسعيد بن منصور وابن مردويه.(8/53)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6)
لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا أَمْلِكُ غَيْرَهَا قَالَ: فَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَهَلْ أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي إِلَّا مِنَ الصِّيَامِ؟ قَالَ: فَأَطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا قُلْتُ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ لَقَدْ بِتْنَا لَيْلَتَنَا هَذِهِ [وَحْشَيْنِ] (1) مَا لَنَا عَشَاءٌ، قَالَ: اذْهَبْ إِلَى صَاحِبِ صَدَقَةِ بَنِي زُرَيْقٍ فَقُلْ لَهُ فَلْيَدْفَعْهَا إِلَيْكَ، فَأَطْعِمْ عَنْكَ مِنْهَا وَسْقًا سِتِّينَ مِسْكِينًا ثُمَّ اسْتَعِنْ بِسَائِرِهِ عَلَيْكَ وَعَلَى عِيَالِكَ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى قَوْمِي فَقُلْتُ: وَجَدْتُ عِنْدَكُمُ الضِّيقَ وَسُوءَ الرَّأْيِ وَوَجَدْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السَّعَةَ وَالْبَرَكَةَ، أَمَرَ لِي بِصَدَقَتِكُمْ فَادْفَعُوهَا إِلَيَّ قَالَ: فَدَفَعُوهَا إِلَيْهِ (2) .
{ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} لِتُصَدِّقُوا مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يَعْنِي مَا وُصِفَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ فِي الظِّهَارِ {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنْ جَحَدَهُ وَكَذَّبَ بِهِ.
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) }
{إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أَيْ يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُشَاقُّونَ وَيُخَالِفُونَ أَمْرَهُمَا {كُبِتُوا} أُذِلُّوا وَأُخْزُوا وَأُهْلِكُوا {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ} حَفِظَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ {وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}
__________
(1) في "ب" وحشا.
(2) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب في الظهار: 3 / 137 - 139، والترمذي في التفسير: 9 / 188 - 191 وقال: "هذا حديث حسن. قال محمد بن إسماعيل -: سليمان بن يسار لم يسمع عندي من سلمة بن صخر". وعبد الرزاق في المصنف: 6 / 431، وابن ماجه: في الطلاق، باب الظهار برقم: (2062) 1 / 665 - 666، والدرامي: 2 / 163 - 164، والبيهقي في السنن: 7 / 390، والإمام أحمد: 5 / 436، وصححه الحاكم: 2 / 203 على شرط مسلم ووافقه الذهبي. وانظر: تلخيص الحبير: 3 / 221، وصححه الألباني في إرواء الغليل: 7 / 176 - 179.(8/54)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) }
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُون} 156/أقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ بِالتَّاءِ، لِتَأْنِيثِ النَّجْوَى، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِأَجَلِ الْحَائِلِ (1) {مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} أَيْ مِنْ سِرَارِ ثَلَاثَةٍ، يَعْنِي مِنَ الْمُسَارَّةِ، أَيْ: مَا مِنْ شَيْءٍ يُنَاجِي بِهِ الرَّجُلُ صَاحِبَيْهِ {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} بِالْعِلْمِ.
__________
(1) أي الفاصل بين الفعل والفاعل فلذلك لم يؤنث الفعل.(8/54)
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا يَكُونُ مِنْ مُتَنَاجِينَ ثَلَاثَةٍ يُسَارُّ، بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ بِالْعِلْمِ، يَعْلَمُ نَجْوَاهُمْ {وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} قَرَأَ يَعْقُوبُ: "أَكْثَرُ" بِالرَّفْعِ عَلَى مَحَلِّ الْكَلَامِ قَبْلَ دُخُولِ "مِنْ" {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْظُرُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَغَامَزُونَ بِأَعْيُنِهِمْ، يُوهِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا يَسُوءُهُمْ، فَيَحْزَنُونَ لِذَلِكَ وَيَقُولُونَ مَا نَرَاهُمْ إِلَّا وَقَدْ بَلَغَهُمْ عَنْ إِخْوَانِنَا الَّذِينَ خَرَجُوا فِي السَّرَايَا قَتْلٌ أَوْ مَوْتٌ أَوْ هَزِيمَةٌ، فَيَقَعُ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ وَيُحْزِنُهُمْ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَكَثُرَ شَكُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ لَا يَتَنَاجَوْا دُونَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَادُوا إِلَى مُنَاجَاتِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ (1) "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى" أَيِ الْمُنَاجَاةِ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} أَيْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْمُنَاجَاةِ الَّتِي نُهُوا عَنْهَا {وَيَتَنَاجَوْنَ} قَرَأَ الْأَعْمَشُ وحمزة: و"وينتنجون" عَلَى وَزْنِ يَفْتَعِلُونَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "يَتَنَاجَوْنَ" لِقَوْلِهِ: "إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ" وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنِ النَّجْوَى فَعَصَوْهُ {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَيَقُولُونَ} السَّامُ عَلَيْكَ. " وَالسَّامُ ": الْمَوْتُ، وَهُمْ يُوهِمُونَهُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ: السَّلَامُ عَلَيْكَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُ: عَلَيْكُمْ، فَإِذَا خَرَجُوا قَالُوا: {فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} يُرِيدُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا حَقًّا لَعَذَّبَنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
__________
(1) انظر: الطبري: 28 / 13، ابن كثير: 4 / 324، الدر المنثور: 8 / 80 والواحدي في أسباب النزول: ص (474) .(8/55)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا أَبُو أَيُّوبَ عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَائِشَةَ: "أَنَّ الْيَهُودَ أَتَوُا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ قَالَ: وَعَلَيْكُمْ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْكُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ، قَالَتْ: أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا؟ قَالَ: أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ" (1) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) }
ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى: نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَتَنَاجَوْا فِيمَا بَيْنَهُمْ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ} أَيْ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ وَقَالَ مُقَاتِلٌ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: "آمَنُوا" الْمُنَافِقِينَ أَيْ آمَنُوا بِلِسَانِهِمْ. قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ الَّذِينَ آمَنُوا بِزَعْمِهِمْ قَالَ لَهُمْ: لَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} أَيْ مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ إِنَّمَا يُزَيِّنُ لَهُمْ ذَلِكَ لِيُحْزِنَ الْمُؤْمِنِينَ {وَلَيْسَ} التَّنَاجِي {بِضَارِّهِمْ شَيْئًا} وَقِيلَ: لَيْسَ الشَّيْطَانُ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ أَخْبَرَنَا جَدِّي أَبُو سَهْلٍ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّارُ أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّبَرِيُّ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
__________
(1) أخرجه البخاري في الدعوات، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يستجاب لنا في اليهود، ولا يستجاب لهم فينا: 11 / 199 - 200، والمصنف في شرح السنة: 12 / 270 - 271.(8/56)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
"إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ" (1) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} الْآيَةَ قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْرِمُ أَهْلَ بَدْرٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ، فَجَاءَ نَاسٌ مِنْهُمْ يَوْمًا وَقَدْ سُبِقُوا إِلَى الْمَجْلِسِ فَقَامُوا حِيَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّمُوا عَلَيْهِ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ سَلَّمُوا عَلَى الْقَوْمِ فَرَدُّوا عَلَيْهِمْ، فَقَامُوا عَلَى أَرْجُلِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُمْ، فَلَمْ يُفْسِحُوا لَهُمْ فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ: قُمْ يَا فُلَانُ وَأَنْتَ يَا فُلَانُ، فَأَقَامَ مِنَ الْمَجْلِسِ بِقَدْرِ النَّفَرِ الَّذِينَ قَامُوا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ أَهَّلِ بَدْرٍ، فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى مَنْ أُقِيمَ مِنْ مَجْلِسِهِ وَعَرَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْكَرَاهِيَةَ فِي وُجُوهِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (2) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ فِي ثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ قِصَّتَهُ (3) . وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَتَنَافَسُونَ فِي مَجْلِسِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانُوا إِذَا رَأَوْا مَنْ جَاءَهُمْ مُقْبِلًا ضَنُّوا بِمَجْلِسِهِمْ فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ أَنْ يُفْسِحَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ (4) .
وَقِيلَ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا} أَيْ تَوَسَّعُوا فِي الْمَجْلِسِ، قَرَأَ الْحَسَنُ وَعَاصِمٌ: "فِي الْمَجَالِسِ" لِأَنَّ الْكُلَّ جَالِسٌ مَجْلِسًا مَعْنَاهُ: لِيَتَفَسَّحْ كُلُّ رَجُلٍ فِي مَجْلِسِهِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "فِي الْمَجْلِسِ" عَلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَافْسَحُوا} أَوْسِعُوا، يُقَالُ: فَسَحَ يَفْسَحُ فَسْحًا: إِذَا وَسَّعَ فِي الْمَجْلِسِ {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} يُوَسِّعُ اللَّهُ لَكُمُ الْجَنَّةَ وَالْمَجَالِسَ فِيهَا.
__________
(1) أخرجه مسلم في السلام، باب تحريم مناجاة الاثنين دون الثالث بغير رضاه برقم (2184) : 4 / 1718، والمصنف في شرح السنة: 13 / 90.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 81 لابن أبي حاتم. وانظر: الواحدي في أسباب النزول، ص (475) تفسير ابن كثير: 4 / 325.
(3) وقوله عزّ وجلّ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ) الآية، قال ابن عباس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس وذلك أنه كان في أذنه وقر، فكان إذا أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سبقوه بالمجلس أوسعوا له حتى يجلس إلى جنبه، فيسمع ما يقول، فأقبل ذات يوم وقد فاتته [ركعة من صلاة الفجر] .
فلما انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الصلاة أخذ أصحابه مجالسهم، فضن كل رجل بمجلسه فلا يكاد يُوسّع أحدٌ لأحد، فكان الرجل إذا جاء فلم يجد مجلسًا يجلس فيه قام قائمًا كما هو، فلما فرغ ثابت من الصلاة أقبل نحو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يتخطى رقاب الناس، ويقول: تفسحوا تفسحوا، فجعلوا يتفسحون له حتى انتهى إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبينه وبينه رجل، فقال له: تفسح، فقال الرجل: قد أصبتَ مجلسًا فاجلس، فجلس ثابت خلفه مغضبًا، فلما انجلت الظلمة غمز ثابت الرجل، فقال: من هذا؟ قال: أنا فلان، فقال ثابت: ابن فلانة، وذكر أُمًّا له كان يعير بها في الجاهلية، فنكَّسَ الرجل رأسه واستحيا، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
(4) أخرجه الطبري: 28 / 17.(8/57)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمُ الرَّجُلَ مِنْ مَجْلِسِهِ ثُمَّ يَخْلُفُهُ فِيهِ، وَلَكِنْ تَفَسَّحُوا وَتَوَسَّعُوا" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْخَطِيبِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْمَجِيدِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ مُوسَى عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يُقِيمَنَّ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ يوم الجمعة 156/ب وَلَكِنْ لِيَقُلِ افْسَحُوا" (2)
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ، وَالْقُرَظِيُّ وَالْحَسَنُ: هَذَا فِي مَجَالِسِ الْحَرْبِ وَمَقَاعِدِ الْقِتَالِ، كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي الْقَوْمَ فِي الصَّفِّ فَيَقُولُ تَوَسَّعُوا فَيَأْبَوْنَ عَلَيْهِ لِحِرْصِهِمْ عَلَى الْقِتَالِ وَرَغْبَتِهِمْ فِي الشَّهَادَةِ (3) {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَعَاصِمٌ بِضَمِّ الشِّينِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهِمَا وَهُمَا لُغَتَانِ أَيِ ارْتَفِعُوا قِيلَ: ارْتَفِعُوا عَنْ مَوَاضِعِكُمْ حَتَّى تُوَسِّعُوا لِإِخْوَانِكُمْ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: كَانَ رِجَالٌ يَتَثَاقَلُونَ عَنِ الصَّلَاةِ إِذَا نُودِيَ لَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ مَعْنَاهُ: إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ فَانْهَضُوا لَهَا (4)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ: إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْهَضُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَإِلَى الْجِهَادِ وَإِلَى مَجَالِسِ كُلِّ خَيْرٍ وَحَقٍّ فَقُومُوا لَهَا وَلَا تُقَصِّرُوا (5) .
{يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} بِطَاعَتِهِمْ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيَامِهِمْ مِنْ مَجَالِسِهِمْ وَتَوْسِعَتِهِمْ لِإِخْوَانِهِمْ {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَضْلِ عِلْمِهِمْ وَسَابِقَتِهِمْ "دَرَجَاتٍ" فَأَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصِيبٌ فِيمَا أَمَرَ وَأَنَّ أُولَئِكَ الْمُؤْمِنِينَ مُثَابُونَ فِيمَا ائْتَمَرُوا وَأَنَّ النَّفَرَ مِنْ أَهْلِ بَدْرٍ مُسْتَحِقُّونَ لِمَا عُومِلُوا مِنَ الْإِكْرَامِ.
{وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قَالَ الْحَسَنُ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ افْهَمُوا هَذِهِ الْآيَةَ وَلَنُرَغِّبَنَّكُمْ فِي الْعِلْمِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ
__________
(1) أخرجه الشافعي في المسند: 2 / 186، والبخاري في الاستئذان، باب (إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا) : 11 / 62، ومسلم في السلام، باب تحريم إقامة الإنسان من موضعه المباح الذي سبق إليه، برقم (2177) : 4 / 1714والمصنف في شرح السنة: 12 / 297.
(2) أخرجه الشافعي في المسند: 2 / 187، ومسلم في الموضع السابق برقم (2178) : 4 / 1715.
(3) انظر: الطبري: 28 / 17.
(4) انظر: الطبري: 28 / 18.
(5) انظر الطبري: 28 / 18.(8/58)
دَرَجَاتٍ" الْمُؤْمِنُ الْعَالِمُ فَوْقَ الَّذِي لَا يَعْلَمُ دَرَجَاتٍ.
[أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِيُّ حَدَّثَنَا الْإِمَامُ أَبُو الطِّيبِ سَهْلُ بْنُ مُحَمَّدِ ابن سُلَيْمَانَ] (1) حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ حَامِدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْهَرَوِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُونُسَ الْقُرَشِيُّ أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عَاصِمُ بْنُ رَجَاءِ بْنِ حَيْوَةَ، حَدَّثَنِي دَاوُدُ بْنُ جَمِيلٍ عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ إِنِّي جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَا كَانَتْ لَكَ حَاجَةٌ غَيْرُهُ؟ قَالَ: لَا قَالَ: وَلَا جِئْتَ لِتِجَارَةٍ؟ قَالَ: لَا قَالَ: وَلَا جِئْتَ إِلَّا رَغْبَةً فِيهِ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رضًى لِطَالِبِ العلم، وإن السموات وَالْأَرْضَ وَالْحُوتَ فِي الْمَاءِ لَتَدْعُو لَهُ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُورِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ فَقَدْ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ ابن يَعْقُوبَ الْعَدْلُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ الْفَرَّاءُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنِ زِيَادٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ رَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَرَّ بِمَجْلِسَيْنِ فِي مَسْجِدِهِ أَحَدُ الْمَجْلِسَيْنِ يَدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ، وَالْآخَرُ يَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ وَيُعَّلِمُونَهُ، قَالَ: "كِلَا الْمَجْلِسَيْنِ عَلَى خَيْرٍ، وَأَحَدُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ صَاحِبِهِ، أَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَدْعُونَ اللَّهَ وَيَرْغَبُونَ إِلَيْهِ وَأَمَّا هَؤُلَاءِ فَيَتَعَلَّمُونَ الْفِقْهَ وَيُعَلِّمُونَ الْجَاهِلَ، فَهَؤُلَاءِ أَفْضَلُ وَإِنَّمَا بُعِثْتُ مُعَلِّمًا ثُمَّ جَلَسَ فِيهِمْ" (3) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) أخرجه أبو داود في العلم: باب الحث على طلب العلم: 5 / 243 قال المنذري: "وقد اختلف في هذا الحديث اختلافا كثيرا ... "، والترمذي في العلم، باب ما جاء في فضل الفقه على العبادة: 7 / 450 - 453 لكن من طريق محمود بن خداش البغدادي، وقال، "ولا نعرف هذا الحديث إلا من حديث عاصم بن رجاء بن حيوة، وليس إسناده عندي بمتصل هكذا، حدثنا محمود ابن خداش هذا الحديث، وإنما يروى هذا الحديث عن عاصم بن رجاء بن حيوة عن داود بن جميل، عن كثير بن قيس، عن أبي الدرداء عن النبي صلىالله عليه وسلم وهذا أصح من حديث محمود بن خداش"، والدرامي: 1 / 98، وابن ماجه في المقدمة، باب فضل العلماء والحث على طلب العلم (223) : 1 / 81، والإمام أحمد: 5 / 196، وابن حبان في موارد الظمآن: صفحة (48) ، والمصنف في شرح السنة: 1 / 275 - 276 وللحديث شواهد يتقوى بها كما قال الحافظ في الفتح: (1 / 160) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (6297) .
(3) أخرجه الدارمي: 1 / 99 - 100، وأبو داود الطيالسي: صفحة (298) ، والمصنف في شرح السنة: 1 / 274 - 275. والحديث ضعيف لضعف عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الأفريقي.(8/59)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} أَمَامَ مُنَاجَاتِكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْثَرُوا حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَلَى نَبِيِّهِ وَيُثَبِّطَهُمْ وَيَرْدَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا صَدَقَةً عَلَى الْمُنَاجَاةِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) .
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: نَزَلَتْ فِي الْأَغْنِيَاءِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُكْثِرُونَ مُنَاجَاتَهُ وَيَغْلِبُونَ الْفُقَرَاءَ عَلَى الْمَجَالِسِ، حَتَّى كَرِهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طُولَ جُلُوسِهِمْ وَمُنَاجَاتِهِمْ، فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ انْتَهَوْا عَنْ مُنَاجَاتِهِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْعُسْرَةِ فَلَمْ يَجِدُوا شَيْئًا وَأَمَّا أَهْلُ الْمُيَسَّرَةِ فَضَنُّوا وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتِ الرُّخْصَةُ (2) .
قَالَ مُجَاهِدٌ: نُهُوا عَنِ الْمُنَاجَاةِ حَتَّى يَتَصَدَّقُوا فَلَمْ يُنَاجِهِ إِلَّا عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَصَدَّقَ بِدِينَارٍ وَنَاجَاهُ ثُمَّ نَزَلَتِ الرُّخْصَةُ فَكَانَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ لَمْ يَعْمَلْ بِهَا أَحَدٌ قَبْلِي وَلَا يَعْمَلُ بِهَا أَحَدٌ بَعْدِي وَهِيَ آيَةُ الْمُنَاجَاةِ (3)
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَمَا تَرَى دِينَارًا؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ قَالَ: فَكَمْ؟ قُلْتُ: حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً، قَالَ: إِنَّكَ لَزَهِيدٌ، فَنَزَلَتْ: "أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ" قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَبِي قَدْ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ (4) .
{ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ} يَعْنِي: تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُنَاجَاةِ {وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يَعْنِي الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُمْ.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 83 لابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه وانظر: الطبري: 28 / 20 - 21.
(2) انظر: الواحدي في أسباب النزول ص (476) .
(3) أخرجه الطبري: 28 / 19 - 20، وابن كثير: 4 / 327.
(4) أخرجه الترمذي في التقسير - تفسير سورة المجادلة - 9 / 192 - 194 وقال: " هذا حديث حسن غريب" والطبري: 28 / 21، وأبو يعلى: 1 / 223، وابن حبان في موارد الظمآن برقم: (1764) صفحة: (437) وفيه علي بن علقمة ذكره ابن حبان في المجروحين: (2 / 109) وقال: "منكر الحديث ينفرد عن علي بما لا يشبه حديثه". وذكره الذهبي في الميزان: (3 / 146) وقال: "في حديثه نظر"، وساق له هذا الحديث الذي ذكره العقيلي في الضعفاء.(8/60)
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) }
{أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَبَخِلْتُمْ؟ وَالْمَعْنَى: أَخِفْتُمُ الْعَيْلَةَ وَالْفَاقَةَ إِنْ قَدَّمْتُمْ {بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} مَا أُمِرْتُمْ بِهِ {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} تَجَاوَزَ عَنْكُمْ وَلَمْ يُعَاقِبْكُمْ بِتَرْكِ الصَّدَقَةِ، وَقِيلَ "الْوَاوُ" صِلَةٌ مَجَازُهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا تَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ وَنَسَخَ الصَّدَقَةَ [قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ ثُمَّ نُسِخَ] (1) وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا كَانَتْ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.
{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} الْمَفْرُوضَةَ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} الْوَاجِبَةَ {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ وَنَاصَحُوهُمْ وَنَقَلُوا أَسْرَارَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمْ (2) . وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: "غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ" الْيَهُودَ {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ وَالْوَلَاءِ، وَلَا مِنَ الْيَهُودِ وَالْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ: "مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ" (النِّسَاءِ -143) {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَبْتَلٍ الْمُنَافِقِ كَانَ يُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْفَعُ حَدِيثَهُ إِلَى الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حُجْرَةٍ مِنْ حُجَرِهِ إِذْ قَالَ: يَدْخُلُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ قَلْبُهُ قَلْبُ جَبَّارٍ وَيَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ، فَدَخْلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَبْتَلَ وَكَانَ أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ"؟ فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا فَعَلَ وَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا سَبُّوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ، فَقَالَ: "وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وهم يعلمون" 157/أأَنَّهُمْ كَذَبَةٌ (3) .
{أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) }
{اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} الْكَاذِبَةَ {جُنَّةً} يَسْتَجِنُّونَ بِهَا مِنَ الْقَتْلِ وَيَدْفَعُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} صَدُّوا الْمُؤْمِنِينَ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) انظر: القرطبي: 17 / 304.
(3) ذكره الواحدي في أسباب النزول صفحة: (476) . قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف، ص (165) "لم أجده هكذا".(8/61)
عَنْ جِهَادِهِمْ بِالْقَتْلِ وَأَخَذِ أَمْوَالِهِمْ {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ {أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ} كَاذِبِينَ مَا كَانُوا مُشْرِكِينَ {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} فِي الدُّنْيَا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} مِنْ أَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} {اسْتَحْوَذَ} غَلَبَ وَاسْتَوْلَى {عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} الْأَسْفَلِينَ. أَيْ: هُمْ فِي جُمْلَةِ مَنْ يَلْحَقُهُمُ الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. {كَتَبَ اللَّهُ} قَضَى اللَّهُ قضَاءً ثَابِتًا {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [نَظِيرُهُ] (1) قَوْلُهُ: "وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ" (الصَّافَاتِ 71-72) قَالَ الزَّجَّاجُ: غَلَبَةُ الرُّسُلِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِالْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ بِالْحَرْبِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ بِالْحُجَّةِ.
__________
(1) ساقط من "أ".(8/62)
لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
{لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} الْآيَةَ. أَخْبَرَ أَنَّ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ يَفْسُدُ بِمُوَادَّةِ الْكَافِرِينَ وَأَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لَا يُوَالِي مَنْ كَفَرَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عَشِيرَتِهِ.
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ (1) إِنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
__________
(1) انظر القرطبي 17 / 308.(8/62)
وَرَوَى مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ عَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَالَ: "وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ" يَعْنِي: أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ قَتَلَ أَبَاهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْجَرَّاحِ يَوْمَ أُحُدٍ "أَوْ أَبْنَاءَهُمْ" يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ دَعَا ابْنَهُ يَوْمَ بَدْرٍ إِلَى الْبِرَازِ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَكُنْ فِي الرِّحْلَةِ الْأُولَى، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَتِّعْنَا بِنَفْسِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ "أَوْ إِخْوَانَهُمْ" يَعْنِي: مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ قَتَلَ أَخَاهُ عَبِيدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَوْمَ أُحُدٍ "أَوْ عَشِيرَتَهُمْ" يَعْنِي عُمَرَ قَتَلَ خَالَهُ الْعَاصَ بْنَ هِشَامِ بْنِ الْمُغِيرَةِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَعَلِيًّا وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ قتلوا يوم بدرعتبة وَشَيْبَةَ ابْنَيْ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدَ بْنَ عُتْبَةَ (1)
{أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} أَثْبَتَ التَّصْدِيقَ فِي قُلُوبِهِمْ فَهِيَ مُوقِنَةٌ مُخْلِصَةٌ، وَقِيلَ: حَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ فَذَكَرَ الْقُلُوبَ لِأَنَّهَا مَوْضِعَهُ {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} قَوَّاهُمْ بِنَصْرٍ مِنْهُ. قَالَ الْحَسَنُ: سَمَّى نَصْرَهُ إِيَّاهُمْ رُوحًا لِأَنَّ أَمْرَهُمْ يَحْيَا بِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي بِالْإِيمَانِ. وَقَالَ الرَّبِيعُ: يَعْنِي بِالْقُرْآنِ وَحُجَّتِهِ، كَمَا قَالَ: "وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا" (الشُّورَى -52) وَقِيلَ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ. وَقِيلَ أَمَدَّهُمْ بِجِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. {وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}
__________
(1) انظر: الواحدي في أسباب النزول صفحة (478) ، القرطبي: 17 / 307، ابن كثير: 4 / 330.(8/63)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)
سُورَةُ الْحَشْرِ مَدَنِيَّةٌ (1)
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قُلْتُ لِابْنِ عَبَّاسٍ: سُورَةُ الْحَشْرِ؟ قَالَ: قُلْ: سُورَةُ النَّضِيرِ (2) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) }
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ فِي بَنِي النَّضِيرِ (3) وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ فَصَالَحَتْهُ بَنُو النَّضِيرِ عَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلُوهُ وَلَا يُقَاتِلُوا مَعَهُ فَقَبِلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا وَظَهَرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ قَالَتْ بَنُو النَّضِيرِ: وَاللَّهِ إِنَّهُ النَّبِيُّ الَّذِي وَجَدْنَا نَعْتَهُ فِي التَّوْرَاةِ لَا تُرَدُّ لَهُ رَايَةٌ، فَلَمَّا غَزَا أُحُدًا وَهُزِمَ الْمُسْلِمُونَ ارْتَابُوا وَأَظْهَرُوا الْعَدَاوَةَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَنَقَضُوا الْعَهْدَ الَّذِي كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَكِبَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ فِي أَرْبَعِينَ رَاكِبًا مِنَ الْيَهُودِ إِلَى مَكَّةَ فَأَتَوْا قُرَيْشًا فَحَالَفُوهُمْ وَعَاقَدُوهُمْ عَلَى أَنْ تَكُونَ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَخَلَ أَبُو سُفْيَانَ فِي أَرْبَعِينَ وَكَعْبٌ فِي أَرْبَعِينَ مِنَ الْيَهُودِ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، وَأَخَذَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ الْمِيثَاقَ بَيْنَ الْأَسْتَارِ وَالْكَعْبَةِ، ثُمَّ رَجَعَ كَعْبٌ وَأَصْحَابُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا تَعَاقَدَ عَلَيْهِ كَعْبٌ وَأَبُو سُفْيَانَ، فَأَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَقَتَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ -ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ (4) .
وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطَّلَعَ مِنْهُمْ عَلَى خِيَانَةٍ حِينَ أَتَاهُمْ فِي دِيَةِ الْمُسْلِمَيْنِ اللَّذَيْنِ قَتَلَهُمَا
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحشر بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. انظر: الدر المنثور: 8 / 88.
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الحشر - 8 / 629.
(3) أخرجه البخاري في الموضع السابق، ومسلم في التفسير، باب في سورة براءة والأنفال والحشر، برقم (3031) : 4 / 2322 عن سعيد بن جبير.
(4) انظر: فيما سبق: 2 / 147.(8/64)
عَمْرُو بْنُ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيُّ فِي مُنْصَرَفِهِ مِنْ بِئْرِ مَعُونَةَ، فَهَمُّوا بِطَرْحِ حَجَرٍ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِ الْحِصْنِ فَعَصَمَهُ اللَّهُ وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ -ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ (1) .
فَلَمَّا قُتِلَ كَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ أَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْمَسِيرِ إِلَى بَنِي النَّضِيرِ وَكَانُوا بِقَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا زَهْرَةُ فَلَمَّا سَارَ إِلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَدَهُمْ يَنُوحُونَ عَلَى كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ وَاعِيَةٌ عَلَى إِثْرِ وَاعِيَةٍ وَبَاكِيَةٌ عَلَى إِثْرِ بَاكِيَةٍ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالُوا: ذَرْنَا نَبْكِي شَجْوَنَا ثُمَّ ائْتَمِرْ أَمْرَكَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ فَقَالُوا: الْمَوْتُ أَقْرَبُ إِلَيْنَا مِنْ ذَلِكَ فَتَنَادَوْا بِالْحَرْبِ وَآذَنُوا بِالْقِتَالِ وَدَسَّ الْمُنَافِقُونَ -عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَأَصْحَابُهُ -إِلَيْهِمْ: أَنْ لَا تَخْرُجُوا مِنَ الْحِصْنِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَنَحْنُ مَعَكُمْ وَلَا نَخْذُلُكُمْ وَلَنَنْصُرَنَّكُمْ وَلَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ. فَدَرِّبُوا عَلَى الْأَزِقَّةِ وَحَصِّنُوهَا ثُمَّ إِنَّهُمْ أَجْمَعُوا عَلَى الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ: أَنِ اخْرُجْ فِي ثَلَاثِينَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِكَ وَلْيَخْرُجْ مِنَّا ثَلَاثُونَ حَتَّى نَلْتَقِيَ بِمَكَانٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ فَيَسْتَمِعُوا مِنْكَ فَإِنْ صَدَّقُوكَ وَآمَنُوا بِكَ آمَنَّا كُلُّنَا فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِهِ وَخَرَجَ إِلَيْهِ ثَلَاثُونَ حَبْرًا مِنَ الْيَهُودِ حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي بَرَازٍ مِنَ الْأَرْضِ قَالَ بَعْضُ الْيَهُودِ لِبَعْضٍ: كَيْفَ تَخْلُصُونَ إِلَيْهِ وَمَعَهُ ثَلَاثُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ كُلُّهُمْ يُحِبُّ أَنْ يَمُوتَ قَبْلَهُ؟ فَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ: كَيْفَ نَفْهَمُ وَنَحْنُ سِتُّونَ رَجُلًا؟ اخْرُجْ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِكَ وَنَخْرُجُ إِلَيْكَ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ عُلَمَائِنَا فَيَسْتَمِعُوا مِنْكَ فَإِنْ آمَنُوا بِكَ آمَنَّا كُلُّنَا بِكَ وَصَدَّقْنَاكَ فَخَرَجَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ثَلَاثَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ وَخَرَجَ ثَلَاثَةٌ مِنَ اليهود واشتملوا 157/ب عَلَى الْخَنَاجِرِ وَأَرَادُوا الْفَتْكَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَتِ امْرَأَةٌ نَاصِحَةٌ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ إِلَى أَخِيهَا وَهُوَ رَجُلٌ مُسْلِمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا أَرَادَ بَنُو النَّضِيرِ مِنَ الْغَدْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَقْبَلَ أَخُوهَا سَرِيعًا حَتَّى أَدْرَكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَارَّهُ بِخَبَرِهِمْ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَرَجَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ غَدَا عَلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكَتَائِبِ فَحَاصَرَهُمْ إِحْدَى وَعِشْرِينَ لَيْلَةً فَقَذَفَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ وَأَيِسُوا مِنْ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ فَسَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصُّلْحَ فَأَبَى عَلَيْهِمْ إِلَّا أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبِلُوا ذَلِكَ، فَصَالَحَهُمْ عَلَى الْجَلَاءِ وَعَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا الْحَلْقَةَ وَهِيَ السِّلَاحُ، وَعَلَى أَنْ يُخْلُوا لَهُمْ دِيَارَهَمْ وَعَقَارَهُمْ وَسَائِرَ أَمْوَالِهِمْ (2) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَى أَنْ يَحْمِلَ كُلُّ أَهْلِ ثَلَاثَةِ أَبْيَاتٍ عَلَى بَعِيرٍ مَا شَاءُوا مِنْ مَتَاعِهِمْ، وَلِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا بَقِيَ.
__________
(1) انظر: فيما سبق: 3 / 28.
(2) أخرج بعضه أبو داود في الخراج والإمارة، باب في خبر النضير: 4 / 234 - 235. وأخرجه مطولا عبد الرزاق في المصنف: 5 / 359 - 360، وعزاه السيوطي في الدر: 8 / 93 أيضا لعبد بن حميد والبيهقي في الدلائل وانظر: تفسير ابن كثير: 4 / 331 - 332.(8/68)
هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أُعْطِيَ كُلُّ ثَلَاثَةِ نَفَرٍ بَعِيرًا وَسِقَاةً فَفَعَلُوا ذَلِكَ وَخَرَجُوا مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الشَّامِ إِلَى أَذْرِعَاتَ وَأَرِيحَاءَ إِلَّا أَهْلَ بَيْتَيْنِ مِنْهُمْ آلَ أَبِي الْحَقِيقِ وَآلَ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ فَإِنَّهُمْ لَحِقُوا بِخَيْبَرَ، وَلَحِقَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالْحِيرَةِ (1) فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ}
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) }
{هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ {مِنْ دِيَارِهِمْ} الَّتِي كَانَتْ بِيَثْرِبَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ مَرْجِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحُدٍ وَفَتْحَ قُرَيْظَةَ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ وَبَيْنَهُمَا سَنَتَانِ. {لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانُوا مِنْ سِبْطٍ لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ فِيمَا مَضَى، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا (2) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ شَكَّ أَنَّ الْمَحْشَرَ بِالشَّامِ فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَانَ هَذَا أَوَّلُ حَشْرٍ إِلَى الشَّامِ قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اخْرُجُوا قَالُوا إِلَى أَيْنَ قَالَ: إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ، ثَمَّ يُحْشَرُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الشَّامِ (3) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا قَالَ: "لِأَوَّلِ الْحَشْرِ" لِأَنَّهُمْ كَانُوا أَوَّلَ مَنْ أُجْلِيَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، ثُمَّ أَجْلَى آخِرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ: كَانَ أَوَّلُ الْحَشْرِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالْحَشْرُ الثَّانِي مِنْ خَيْبَرَ وَجَمِيعِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إِلَى أَذْرِعَاتَ وَأَرِيحَاءَ مِنَ الشَّامِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ هَذَا أَوَّلُ الْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ الثَّانِي نَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ تَبِيتُ
__________
(1) أخرجه الطبري: 28 / 31 - 32. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 91 أيضا لابن مردويه والبيهقي في الدلائل.
(2) أخرجه الطبري: 28 / 28.
(3) انظر: ابن كثير في التفسير: 4 / 333، القرطبي: 18 / 2.(8/69)
وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3)
مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا (1) .
{مَا ظَنَنْتُمْ} أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ {أَنْ يَخْرُجُوا} الْمَدِينَةِ لِعِزَّتِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ حُصُونٍ وَعَقَارٍ وَنَخِيلٍ كَثِيرَةٍ. {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} أَيْ: وَظَنَّ بَنُو النَّضِيرِ أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ} أَيْ أَمْرُ اللَّهِ وَعَذَابُهُ {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} أَنَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ وَكَانُوا لَا يَظُنُّونَ ذَلِكَ {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} بِقَتْلِ سَيِّدِهِمْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ. {يُخْرِبُونَ} قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: بِالتَّشْدِيدِ وَالْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ {بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الْخَشَبِ فِي مَنَازِلِهِمْ فَيَهْدِمُونَهَا وُيَنْزِعُونَ مِنْهَا مَا يَسْتَحْسِنُونَهُ فَيَحْمِلُونَهُ عَلَى إِبِلِهِمْ، وَيُخَرِّبُ الْمُؤْمِنُونَ بَاقِيَهَا (2) قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا يَقْلَعُونَ الْعُمُدَ وَيَنْقُضُونَ السُّقُوفَ وَيَنْقُبُونَ الْجُدْرَانَ وَيَقْلَعُونَ الْخَشَبَ حَتَّى الْأَوْتَادَ يُخَرِّبُونَهَا لِئَلَّا يَسْكُنَهَا الْمُؤْمِنُونَ حَسَدًا مِنْهُمْ وَبُغْضًا (3) . قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخَرِّبُونَ مَا يَلِيهِمْ مِنْ ظَاهِرِهَا وَيُخَرِّبُهَا الْيَهُودُ مِنْ دَاخِلِهَا (4) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُلَّمَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارٍ مِنْ دُورِهِمْ هَدَمُوهَا لِتَتَّسِعَ لَهُمُ الْمَقَاتِلُ، وَجَعَلَ أَعْدَاءُ اللَّهِ يَنْقُبُونَ دَوْرَهُمْ فِي أَدْبَارِهَا فَيَخْرُجُونَ إِلَى الَّتِي بَعْدَهَا فَيَتَحَصَّنُونَ فِيهَا وَيَكْسِرُونَ مَا يَلِيهِمْ، وَيَرْمُونَ بِالَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا} فَاتَّعِظُوا وَانْظُرُوا فِيمَا نَزَلَ بِهِمْ {يَا أُولِي الْأَبْصَارِ} يَا ذَوِي الْعُقُولِ وَالْبَصَائِرِ.
{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) }
{وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} الْخُرُوجَ مِنَ الْوَطَنِ {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ كَمَا فَعَلَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ}
__________
(1) انظر: الطبري: 28 / 29.
(2) أخرجه الطبري: 28 / 29 - 30.
(3) أخرجه الطبري: 28 / 29 - 30.
(4) أخرجه الطبري: 28 / 29.(8/70)
ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5) }
{ذَلِكَ} الَّذِي لَحِقَهُمْ {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}(8/70)
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} الْآيَةَ. وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِبَنِي النَّضِيرِ وَتَحَصَّنُوا بِحُصُونِهِمْ أَمَرَ بِقَطْعِ نَخِيلِهِمْ وَإِحْرَاقِهَا فَجَزِعَ أَعْدَاءُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ زَعَمْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ الصَّلَاحَ! أَفَمِنَ الصَّلَاحِ عَقْرُ الشَّجَرِ وَقَطْعُ النَّخِيلِ؟ فَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا زَعَمْتَ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْكَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ؟ فَوَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ [مِنْ قَوْلِهِمْ وَخَشُوا] (1) أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَسَادًا وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَقْطَعُوا فَإِنَّهُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَغِيظُهُمْ بِقَطْعِهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَهُ مِنَ الْإِثْمِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: حَرَّقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَخْلَ بَنِي النَّضِيرِ وَقَطَعَ الْبُوَيْرَةَ فَنَزَلَتْ (2) {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ}
{مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ} أَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَا قَطَعُوهُ وَمَا تَرَكُوهُ فَبِإِذْنِ اللَّهِ {وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ}
وَاخْتَلَفُوا فِي "اللِّينَةِ" فَقَالَ قَوْمٌ: النَّخْلُ كُلُّهَا لِينَةٌ مَا خَلَا الْعَجْوَةَ [وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ (3) وَرَوَاهُ زَاذَانُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْطَعُ نَخْلَهُمْ إِلَّا الْعَجْوَةَ] (4) وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يُسَمُّونَ مَا خَلَا الْعَجْوَةَ مِنَ التَّمْرَةِ: الْأَلْوَانَ وَاحِدُهَا لَوْنٌ وَلِينَةٌ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هِيَ أَلْوَانُ النَّخْلِ كُلُّهَا إِلَّا الْعَجْوَةَ وَالْبَرْنِيَّةَ.
__________
(1) في "أ" (وحسبوا) .
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الحشر - باب (ما قطعتم من لينة) : 8 / 629، ومسلم في الجهاد، باب جواز قطع أشجار الكفار برقم (1746) : 3 / 1365 - 1366.
(3) عزا السيوطي في الدر المنثور: 8 / 98 قول عكرمة لسعيد بن منصور وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر. وقول قتادة في الموضع نفسه لعبد بن حميد.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/71)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطِيَّةُ: هِيَ النَّخْلُ كُلُّهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ. وَقَالَ الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: هِيَ لَوْنٌ مِنَ النَّخْلِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: هِيَ كِرَامُ النَّخْلِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ هِيَ ضَرْبٌ من النخل 158/أيُقَالُ لِثَمَرِهَا اللَّوْنُ وَهُوَ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ يُرَى نَوَاهُ مِنْ خَارِجٍ يَغِيبُ فِيهَا الضِّرْسُ وَكَانَ مِنْ أَجْوَدِ تَمْرِهِمْ وَأَعْجَبِهَا إِلَيْهِمْ وَكَانَتِ النَّخْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا ثَمَنُهَا ثَمَنُ وَصِيفٍ وَأَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ وَصِيفٍ فَلَمَّا رَأَوْهُمْ يَقْطَعُونَهَا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ إِنَّكُمْ تَكْرَهُونَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَأَنْتُمْ تُفْسِدُونَ دَعُوا هَذَا النَّخْلَ [قَائِمًا هُوَ لِمَنْ غَلَبَ عَلَيْهَا] (1) فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ.
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7) }
{وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} أَيْ رَدَّهُ عَلَى رَسُولِهِ. يُقَالُ: أَفَاءَ يَفِيءُ أَيْ رَجِعَ، وَأَفَاءَ اللَّهُ {مِنْهُمْ} أَيْ مِنْ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} أَوْضَعْتُمْ {عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} يُقَالُ: وَجَفَ الْفَرَسُ وَالْبَعِيرُ يَجِفُ وَجِيفًا وَهُوَ سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَأَوْجَفَهُ صَاحِبُهُ إِذَا حَمَلَهُ عَلَى السَّيْرِ، وَأَرَادَ بِالرِّكَابِ الْإِبِلَ الَّتِي تَحْمِلُ الْقَوْمَ. وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا تَرَكُوا رِبَاعَهُمْ وَضِيَاعَهَمْ طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ، كَمَا فَعَلَ بِغَنَائِمِ خَيْبَرَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا فَيْءٌ لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا خَيْلًا وَلَا رِكَابًا وَلَمْ يَقْطَعُوا إِلَيْهَا شُقَّةً وَلَا نَالُوا مَشَقَّةً وَلَمْ يَلْقَوْا حَرْبًا، {وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَجَعَلَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ، فَقَسَمَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ كَانَتْ بِهِمْ حَاجَةٌ، وَهُمْ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، وَسَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ، وَالْحَارِثُ ابن الصِّمَّةِ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ ابن إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي مَالِكُ بْنُ أَوْسِ بْنِ الْحَدَثَانِ النَّضْرِيُّ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ دَعَاهُ إِذْ جَاءَهُ حَاجِبُهُ يَرْفَأُ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عُثْمَانَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ وَالزُّبَيْرِ وَسَعْدٍ يَسْتَأْذِنُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ فَأَدْخَلَهُمْ، فَلَبِثَ يَرْفَأُ قَلِيلًا ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: هَلْ لَكَ فِي عَبَّاسٍ وَعَلِيٍّ يَسْتَأْذِنَانِ؟ قَالَ: نَعَمْ فَلَمَّا دَخَلَا قَالَ عَبَّاسٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنِي وَبَيْنَ هَذَا -وَهُمَا يَخْتَصِمَانِ فِي الَّذِي أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ بَنِي النَّضِيرِ -فَقَالَ الرَّهْطُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ اقْضِ بَيْنَهُمَا وَأَرِحْ
__________
(1) في "أ" (فإنما هي ثمن لمن غلب عليها) .
(2) قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف صفحة: (166) : ذكره الثعلبي بغير سند.(8/72)
أَحَدَهُمَا مِنَ الْآخَرِ، قَالَ: اتَّئِدُوا أَنْشُدُكُمْ بِاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ يُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَفْسَهُ؟ قَالُوا: قَدْ قَالَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عُمَرُ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ، فَقَالَ أَنْشُدُكُمَا بِاللَّهِ هَلْ تَعْلَمَانِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالَا نَعَمْ قَالَ: فَإِنِّي أُحَدِّثُكُمْ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ، إِنَّ اللَّهَ كَانَ خَصَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْفَيْءِ بِشَيْءٍ لَمْ يُعْطِهُ أَحَدًا غَيْرَهُ، فَقَالَ: "وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ" إِلَى قَوْلِهِ: "قَدِيرٌ" وَكَانَتْ هَذِهِ خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا احْتَازَهَا دُونَكُمْ وَلَا اسْتَأْثَرَهَا عَلَيْكُمْ لَقَدْ أَعْطَاكُمُوهَا وَبَثَّهَا فِيكُمْ حَتَّى بَقِيَ مِنْهَا هَذَا الْمَالُ، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنْفِقُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ مِنْ هَذَا الْمَالِ ثُمَّ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ فَيَجْعَلُهُ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ، فَعَمِلَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيَاتَهُ، ثُمَّ تُوُفِّيَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَبَضَهَا أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ فَعَمِلَ بِهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ جَمِيعٌ وَأَقْبَلَ عَلَى عَلِيٍّ وَعَبَّاسٍ: تَذْكُرَانِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ فَعَلَ فِيهِ كَمَا تَقُولَانِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُ فِيهَا صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ تَوَفَّى اللَّهُ، أَبَا بَكْرٍ، فَقُلْتُ: أَنَا وَلِيُّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ فَقَبَضْتُهَا سَنَتَيْنِ مِنْ إِمَارَتِي أَعْمَلُ فِيهَا بِمَا عَمِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنِّي فِيهِ صَادِقٌ بَارٌّ رَاشِدٌ تَابِعٌ لِلْحَقِّ، ثُمَّ جِئْتُمَانِي كِلَاكُمَا وَكَلِمَتُكُمَا وَاحِدَةٌ، وَأَمْرُكُمَا جَمِيعٌ فَقُلْتُ لَكُمَا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا نُورَثُ مَا تَرَكْنَا صَدَقَةٌ، فَلَمَّا بَدَا لِي أَنْ أَدْفَعَهُ إِلَيْكُمَا قُلْتُ: إِنْ شِئْتُمَا دَفَعْتُهُ إِلَيْكُمَا عَلَى أَنَّ عَلَيْكُمَا عَهْدَ اللَّهِ وَمِيثَاقَهُ لَتَعْمَلَانِ فِيهَا بِمَا عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو بَكْرٍ، وَبِمَا عَمِلْتُ بِهِ فِيهَا مُنْذُ وَلِيتُهَا وَإِلَّا فَلَا تُكَلِّمَانِي فِيهَا فَقُلْتُمَا: ادْفَعْهَا إِلَيْنَا بِذَلِكَ فَدَفَعْتُهَا إِلَيْكُمَا أَفَتَلْتَمِسَانِ مِنِّي قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ؟ فَوَاللَّهِ الَّذِي بِإِذْنِهِ تَقُومُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ لَا أَقْضِي فِيهَا قَضَاءً غَيْرَ ذَلِكَ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، فَإِنْ عَجَزْتُمَا عَنْهَا فَادْفَعَاهَا إِلَيَّ فَإِنِّي أَكْفِيكُمَا (1) . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} يَعْنِي مِنْ أَمْوَالِ كُفَّارِ أَهْلِ الْقُرَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَفَدَكُ وَخَيْبَرُ وَقُرَى عُرَيْنَةَ {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ وَحُكْمَ الْفَيْءِ. إِنَّ مَالَ الْفَيْءِ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَيَاتِهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ وَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ مَجْعَلَ مَالِ اللَّهِ (2) .
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَصْرِفِ الْفَيْءِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: قَوْمٌ هُوَ لِلْأَئِمَّةِ بَعْدَهُ.
__________
(1) أخرجه البخاري في الفرائض، باب قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لا نورث ما تركناه صدقة) : 12 / 6 وفي المغازي: 7 / 334 - 335، ومسلم في الجهاد، باب حكم الفيء برقم (1757) : 3 / 1377 - 1379.
(2) انظر: فيما سبق: 3 / 361.(8/73)
وَلِلشَّافِعِيِّ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا -هُوَ لِلْمُقَاتِلَةِ، وَالثَّانِي: لِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُبْدَأُ بِالْمُقَاتِلَةِ ثُمَّ بِالْأَهَمِّ فَالْأَهَمِّ مِنَ الْمَصَالِحِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْمِيسِ مَالِ الْفَيْءِ: فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ يُخَمَّسُ، فَخُمُسُهُ لِأَهْلِ الْغَنِيمَةِ، وَأَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ لِلْمُقَاتِلَةِ وَلِلْمَصَالِحِ، وَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ إِلَى أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ بَلْ مَصْرِفُ جَمِيعِهِ وَاحِدٌ، وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِيهِ حَقٌّ، قَرَأَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: "مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى" حَتَّى بَلَغَ: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ. وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ" ثُمَّ قَالَ: هَذِهِ اسْتَوْعَبَتِ الْمُسْلِمِينَ عَامَّةً، وَقَالَ: مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُسْلِمٌ إِلَّا لَهُ فِي هَذَا الْفَيْءِ حَقٌّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (1) .
{كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} قَرَأَ الْعَامَّةُ بِالْيَاءِ، "دُولَةً" نُصِبَ أَيْ لِكَيْلَا يَكُونَ الْفَيْءُ دُولَةً، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: "تَكُونَ" بِالتَّاءِ "دُولَةٌ" بِالرَّفْعِ عَلَى اسْمِ كَانَ، أَيْ: كَيْلَا يَكُونَ الْأَمْرُ إِلَى دُولَةٍ، وَجَعَلَ الْكَيْنُونَةَ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ وَحِينَئِذٍ لَا خَبَرَ لَهُ. "وَالدُّولَةُ" اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَدَاوَلُهُ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ {بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} يَعْنِي بَيْنَ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَقْوِيَاءِ، فَيَغْلِبُوا عَلَيْهِ الْفُقَرَاءَ وَالضُّعَفَاءَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا اغْتَنَمُوا غَنِيمَةً أَخْذَ الرَّئِيسُ رُبُعَهَا لِنَفْسِهِ، وَهُوَ الْمِرْبَاعُ، ثُمَّ يَصْطَفِي مِنْهَا بَعْدَ الْمِرْبَاعِ مَا شَاءَ، فَجَعَلَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُهُ فِيمَا أُمِرَ بِهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَمَا آتَاكُمُ} أَعْطَاكُمْ {آتَاكُمُ} [مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ] (2) {فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} الْغُلُولُ وَغَيْرُهُ {فَانْتَهُوا} وَهَذَا نازل في 158/ب أَمْوَالِ الْفَيْءِ، وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَهَى عَنْهُ.
__________
(1) أخرجه أبو داود في الإمارة، باب في تدوين العطاء: 4 / 214 وقال المنذري: وهذا منقطع، الزهري لم يسمع من عمر، والبيهقي في السنن: 6 / 347 - 352. وأخرج بعضه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 284، وأبو عبيد في الأموال: صفحة: (243 - 244) والطبري: 28 / 37. وصححه الألباني موقوفا على عمر. انظر: إرواء الغليل: 5 / 83 - 84.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/74)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ. فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ يَعْقُوبَ، فَجَاءَتْ فَقَالَتْ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ لَعَنْتَ كَيْتَ وَكَيْتَ، فَقَالَ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى؟ فَقَالَتْ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ اللَّوْحَيْنِ فَمَا وَجَدْتُ فِيهِ مَا تَقُولُ: قَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ أَمَا قَرَأْتِ: "وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا" (الْحَشْرِ -7) ؟ قَالَتْ: بَلَى قَالَ: فَإِنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْهُ (1) {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْفَيْءِ فَقَالَ: {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا}
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) }
{لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا} رِزْقًا {مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} أَيْ أُخْرِجُوا إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} فِي إِيمَانِهِمْ. قَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تَرَكُوا الدِّيَارَ وَالْأَمْوَالَ وَالْعَشَائِرَ وَخَرَجُوا حُبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَاخْتَارُوا الْإِسْلَامَ عَلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ شِدَّةٍ، حَتَّى ذُكِرَ لَنَا أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَعْصِبُ الْحَجَرَ عَلَى بَطْنِهِ لِيُقِيمَ بِهِ صُلْبَهُ مِنَ الْجُوعِ، وَكَانَ الرَّجُلُ يَتَّخِذُ الْحُفَيْرَةَ فِي الشِّتَاءِ مَا لَهُ دِثَارٌ غَيْرُهَا (2)
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الطَّحَّانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ قُرَيْشِ (3) بْنِ سُلَيْمَانَ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْمَكِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ أُمَيَّةَ بْنِ خَالِدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُسَيْدٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَسْتَفْتِحُ بِصَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ. قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: هَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ وَهُوَ عِنْدِي أُمَيَّةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ خَالِدِ بْنِ أُسِيدٍ (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الحشر - باب (وما آتاكم الرسول فخذوه) 8 / 630، ومسلم في اللباس، باب تحريم فعل الواصلة والستوصلة برقم: (2125) : 3 / 1678.
(2) أخرجه الطبري: 28 / 40. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 105 أيضا لعبد بن حميد وابن المنذر.
(3) في "ب": فراس.
(4) رواه أبو عبيد في غريب الحديث: 1 / 248، والطبراني في الكبير: 1 / 269، والمصنف في شرح السنة: 14 / 264. وذكره ابن حجر في الإصابة: 1 / 246 من رواية الطبراني. وقال: "أمية هذا ليست له صحبة ولا رؤية ... " وعزاه المنذري للطبراني أيضا بلفظ: "كان يستفتح بصعاليك المسلمين" وقال: "رواته رواة الصحيح، وهومرسل". انظر: الترغيب والترهيب: 4 / 144. وذكره في مشكاة المصابيح (3 / 1444) وعزاه لشرح السنة وضعفه الألباني.(8/75)
وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9)
وَرُوِّينَا عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَبْشِرُوا يَا مَعْشَرَ صَعَالِيكِ الْمُهَاجِرِينَ بِالنُّورِ التَّامِّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ قَبْلَ أَغْنِيَاءِ النَّاسِ بِنِصْفِ يَوْمٍ، وَذَلِكَ مِقْدَارُ خَمْسمِائَةِ سَنَةٍ" (1) .
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) }
{وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ} الأنصار تبوؤا الدَّارَ تُوَطَّنُوا الدَّارَ، أَيْ: الْمَدِينَةَ اتَّخَذُوهَا دَارَ الْهِجْرَةِ وَالْإِيمَانِ {مِنْ قَبْلِهِمْ} أَيْ أَسْلَمُوا فِي دِيَارِهِمْ وَآثَرُوا الْإِيمَانَ وَابْتَنَوْا الْمَسَاجِدَ قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ.
وَنَظْمُ الآية: والذين تبوؤا الدَّارَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ مِنْ قَبْلِ قُدُومِ الْمُهَاجِرِينَ عَلَيْهِمْ، وَقَدْ آمَنُوا لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِمَكَانِ تَبَوُّءٍ.
{يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} حَزَازَةً وَغَيْظًا وَحَسَدًا {مِمَّا أُوتُوا} أَيْ مِمَّا أَعْطَى الْمُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَلَمْ يُعْطِ مِنْهَا الْأَنْصَارَ فَطَابَتْ أَنْفُسُ الْأَنْصَارِ بِذَلِكَ {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أَيْ يُؤْثِرُونَ عَلَى إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ إِلَى مَا يُؤْثِرُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَاسَمُوهُمْ دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ دَاوُدَ عَنْ فُضَيْلِ بْنِ غَزْوَانَ عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَضَافَهُ فَبَعَثَ إِلَى نِسَائِهِ هَلْ عِنْدَكُنَّ مِنْ شَيْءٍ؟ فقلن ما معناه: إِلَّا الْمَاءُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ يَضُمُّ أَوْ يُضِيفُ هَذَا؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَقَالَ: أَكْرِمِي ضَيْفَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: مَا عِنْدَنَا إِلَّا قُوتُ الصِّبْيَانِ
__________
(1) حديث ضعيف أخرجه أبو داود في العلم، باب في القصص: 5 / 255 - 256، والإمام أحمد: 3 / 63، 96. قال المنذري: في إسناده المعلى بن زياد أبو الحسن وفيه مقال، وذكره الألباني في "صحيح الجامع" برقم (40) .(8/76)
فَقَالَ: هَيِّئِي طَعَامَكِ وَأَصْبِحِي سِرَاجَكِ وَنَوْمِي صبيانك، إذا أرداوا عَشَاءً، فَهَيَّأَتْ طَعَامَهَا وَأَصْبَحَتْ سِرَاجَهَا وَنَوَّمَتْ صِبْيَانَهَا ثُمَّ قَامَتْ كَأَنَّهَا تُصْلِحُ سِرَاجَهَا فَأَطْفَأَتْهُ، فَجَعَلَا يُرِيَانِهِ أَنَّهُمَا يَأْكُلَانِ فَبَاتَا طَاوِيَيْنِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: ضَحِكَ اللَّهُ اللَّيْلَةَ أَوْ عَجِبَ مِنْ فِعَالِكُمَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَتِ الْأَنْصَارُ: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: لَا فَقَالُوا: تَكْفُونَا الْمُؤْنَةَ وَنُشْرِكُكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ سَمِعَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ حِينَ خَرَجَ مَعَهُ إِلَى الْوَلِيدِ قَالَ: دَعَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْأَنْصَارَ إِلَى أَنْ يُقْطِعَ لَهُمُ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالُوا: لَا إِلَّا أَنْ تُقْطِعَ لِإِخْوَانِنَا مِنَ الْمُهَاجِرِينَ مِثْلَهَا قَالَ: أَلَا فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي عَلَى الْحَوْضِ، فَإِنَّهُ سَيُصِيبُكُمْ أَثَرَةٌ بَعْدِي" (3) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّضِيرِ لِلْأَنْصَارِ: "إِنْ شِئْتُمْ قَسَمْتُمْ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ أَمْوَالِكُمْ وَدِيَارِكُمْ وَتُشَارِكُونَهُمْ فِي هَذِهِ الْغَنِيمَةِ، وَإِنْ شِئْتُمْ كَانَتْ لَكُمْ دِيَارُكُمْ وَأَمْوَالُكُمْ وَلَمْ يُقَسَمْ لَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْغَنِيمَةِ" فَقَالَتِ الْأَنْصَارُ: بَلْ نَقْسِمُ لَهُمْ مِنْ أَمْوَالِنَا وَدِيَارِنَا وَنُؤْثِرُهُمْ بِالْغَنِيمَةِ وَلَا نُشَارِكُهُمْ فِيهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" (4) .
__________
(1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار، باب قول الله عز وجل: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة) : 7 / 119، ومسلم في الأشربة، باب إكرام الضيف وفضل إيثاره برقم: (2054) : 3 / 1624.
(2) أخرجه البخاري في الشروط، باب الشروط في المعاملة: 5 / 322.
(3) أخرجه البخاري في المساقاة، باب القطائع: 5 / 47 وفي الجزية والموادعة باب: ما أقطع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في البحرين ... 6 / 268.
(4) انظر: القرطبي: 18 / 25.(8/77)
"وَالشُّحُّ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْبُخْلُ وَمَنْعُ الْفَضْلِ، وَفَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الشُّحِّ وَالْبُخْلِ. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أَكُونَ قَدْ هَلَكْتُ، فَقَالَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: أَسْمَعُ اللَّهَ يَقُولُ: "وَمَنْ يُوقَ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ" وَأَنَا رَجُلٌ شَحِيحٌ، لَا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنْ يَدِي شَيْءٌ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: لَيْسَ ذَاكَ بِالشُّحِّ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْقُرْآنِ، وَلَكِنَّ الشُّحَّ أَنْ تَأْكُلَ مَالَ أَخِيكَ ظُلْمًا ولكن ذاك 159/أالْبُخْلُ، وَبِئْسَ الشَّيْءُ الْبُخْلُ (1) .
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ الشُّحُّ أَنْ يَمْنَعَ الرَّجُلَ مَالَهُ، إِنَّمَا الشُّحُّ أَنْ تَطْمَحَ عَيْنُ الرَّجُلِ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ (2) وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "الشُّحُّ" هُوَ أَخْذُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ (3) وَقِيلَ: الشُّحُّ هُوَ الْحِرْصُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَحْمِلُهُ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحَارِمِ.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَمْ يَدْعُهُ الشُّحُّ إِلَى أَنْ يَمْنَعَ شَيْئًا مِنْ شَيْءٍ أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ فَقَدْ وَقَاهُ شُحَّ نَفْسِهِ (4)
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعْدٍ خَلَفُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي نِزَارٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَزَّازٍ الْقَهَنْدَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّعْدِيِّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَعْنَبِيُّ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ قَيْسٍ الْفَرَّاءُ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِقْسَمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "اتَّقَوْا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَاتَّقَوْا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ" (5)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ
__________
(1) أخرجه الطبري: 28 / 43. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 107 أيضا لابن أبي شيبة وعبد بن حميد والفريابي وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الشعب. وصححه الحاكم: 2 / 490. وفيه المسعودي: صدوق اختلط قبل موته.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 107 لعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 108 لعبد بن حميد وابن المنذر.
(4) أخرجه الطبري: 28 / 44.
(5) أخرجه مسلم في البر والصلة والآدب، باب تحريم الظلم برقم: (2578) : 4 / 1996، والمصنف في شرح السنة: 14 / 357.(8/78)
الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا أَبِي وَشُعَيْبُ قَالَا أَخْبَرَنَا اللَّيْثُ عَنْ يَزِيدَ ابن الْهَادِ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ أَبِي يَزِيدَ عَنِ الْقَعْقَاعِ هُوَ ابْنُ اللَّجْلَاجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا، وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وَالْإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا" (1) .
__________
(1) أخرجه النسائي في الجهاد، باب فضل من عمل في سبيل الله على قدمه: 6 / 13 - 14، والإمام أحمد: 2 / 256، 342، 441، والحاكم: 2 / 72، والمصنف في شرح السنة: 10 / 354. وانظر: صحيح الجامع (7616) .(8/79)
وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11)
{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} يَعْنِي التَّابِعِينَ وَهُمَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ سَبَقَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْمَغْفِرَةِ فَقَالَ: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا} غَشًا وَحَسَدًا وَبُغْضًا، {لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ غِلٌّ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَتَرَحَّمْ عَلَى جَمِيعِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ عَنَاهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالتَّابِعِينَ الْمَوْصُوفِينَ بِمَا ذَكَرَ اللَّهُ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّابِعِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ خَارِجًا مِنْ أَقْسَامِ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى: النَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، فَاجْتَهِدْ أَنْ لَا تَكُونَ خَارِجًا مِنْ هَذِهِ الْمَنَازِلِ (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حَامِدٍ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ ابن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُلَيْمَانَ حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ
__________
(1) انظر: الطبري: 28 / 45.(8/79)
عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُمِرْتُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَبَبْتُمُوهُمْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "لَا تَذْهَبُ هَذِهِ الْأُمَّةُ حَتَّى يَلْعَنَ آخِرُهَا أَوَّلَهَا" (1) .
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ مِغْوَلٍ: قَالَ عَامِرُ بْنُ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيُّ: يَا مَالِكُ تَفَاضَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى الرَّافِضَةِ [بِخَصْلَةٍ] (2) سُئِلَتِ الْيَهُودُ: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ فَقَالَتْ: أَصْحَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَسُئِلَتِ النَّصَارَى: مَنْ خَيْرُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ فَقَالُوا: حَوَارِيُّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَسُئِلَتِ الرَّافِضَةُ: مَنْ شَرُّ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ فَسَبُّوهُمْ، فَالسَّيْفُ عَلَيْهِمْ مَسْلُولٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا تَقُومُ لَهُمْ رَايَةٌ وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ قَدَمٌ، وَلَا تَجْتَمِعُ لَهُمْ كَلِمَةٌ، كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ بِسَفْكِ دِمَائِهِمْ وَتَفْرِيقِ شَمْلِهِمْ وَإِدْحَاضِ حُجَّتِهِمْ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ (3) .
قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْ يُبْغِضُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَانَ فِي قَلْبِهِ عَلَيْهِمْ غِلٌّ فَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ تَلَا "مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى" حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ: "لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ ... وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ ... وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ" إِلَى قَوْلِهِ: رَءُوفٌ رَحِيمٌ". قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} أَيْ أَظْهَرُوا خِلَافَ مَا أَضْمَرُوا: يَعْنِي: عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ وَأَصْحَابَهُ {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ، جَعْلَ الْمُنَافِقِينَ إِخْوَانَهُمْ فِي الدِّينِ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ مِثْلَهُمْ. {لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} الْمَدِينَةِ {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا} يَسْأَلُنَا خِذْلَانَكُمْ وَخِلَافَكُمْ {أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ} يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ {لَكَاذِبُونَ}
__________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف: 15 / 125. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 10 / 21 رواه الطبراني في الأوسط، وفيه إسماعيل بن إبراهيم بن مهاجر وهو ضعيف. ويشهد له ما أخرجه مسلم في التفسير عن عروة قال: قالت لي عائشة: يا ابن أختي! أمروا أن يستغفروا لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسبوهم. ونقله ابن كثير: 4 / 340 عن البغوي.
(2) في "أ" بفضلة.
(3) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة: 8 / 1461 - 1462 وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في منهاج السنة: 1 / 23 - 26 عن ابن شاهين في كتاب: "اللطيف من السنة" وخشيش بن أصرم في كتابه، ومن طريقه أبو عمرو الطلمنكي في كتابه "الأصول". وقال: فهذا الأثر قد روي عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا، وبعضها يزيد على بعض، لكن عبد الرحمن بن مالك ضعيف، وذم الشعبي لهم - الرافضة - ثابت من طرق أخرى.(8/80)
لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16)
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) }
{لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فَلَمْ يَخْرُجِ الْمُنَافِقُونَ مَعَهُمْ، وَقُوتِلُوا فَلَمْ يَنْصُرُوهُمْ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ} أَيْ لَوْ قُدِّرَ وُجُودُ نَصْرِهِمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَوْ قَصَدُوا نَصْرَ الْيَهُودِ لَوَلَّوْا الْأَدْبَارَ مُنْهَزِمِينَ {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ لَا يَصِيرُونَ مَنْصُورِينَ إِذَا انْهَزَمَ نَاصِرُهُمْ. {لَأَنْتُمْ} يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} أَيْ يَرْهَبُونَكُمْ أَشَدَّ مِنْ رَهْبَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ {ذَلِكَ} أَيْ ذَلِكَ الْخَوْفُ مِنْكُمْ {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} عَظَمَةَ اللَّهِ. {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ} يَعْنِي الْيَهُودَ {جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} أَيْ لَا يَبْرُزُونَ لِقِتَالِكُمْ إِنَّمَا يُقَاتِلُونَكُمْ مُتَحَصِّنِينَ بِالْقُرَى وَالْجُدْرَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو: "جِدَارٍ" عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "جُدُرٍ" بضم الجيم والدار عَلَى الْجَمْعِ. {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} أَيْ: بَعْضُهُمْ فَظٌّ عَلَى بَعْضٍ، وَعَدَاوَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا شَدِيدَةٌ. وَقِيلَ: بَأْسُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْحِيطَانِ وَالْحُصُونِ شَدِيدٌ، فَإِذَا خَرَجُوا لَكُمْ فَهُمْ أَجْبَنُ خَلْقِ اللَّهِ {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} مُتَفَرِّقَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، قَالَ قَتَادَةُ: أَهْلُ الْبَاطِلِ مُخْتَلِفَةٌ أَهْوَاؤُهُمْ، مُخْتَلِفَةٌ شَهَادَتُهُمْ، مُخْتَلِفَةٌ أَعْمَالُهُمْ، وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي عَدَاوَةِ أَهْلِ الْحَقِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ أَنَّ دِينَ الْمُنَافِقِينَ يُخَالِفُ دِينَ الْيَهُودِ. {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}
{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) }
{كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي: مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ {قَرِيبًا} يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} يَعْنِي الْقَتْلَ بِبَدْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي بَنِي قَيْنُقَاعَ. وَقِيلَ: مَثَلُ قُرَيْظَةَ كَمَثَلِ بَنِي النَّضِيرِ وَكَانَ بَيْنَهُمَا سَنَتَانِ. {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ثم ضرب 159/ب مَثَلًا لِلْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ جَمِيعًا فِي(8/81)
[تَخَاذُلِهِمْ] (1) فَقَالَ: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} أَيْ مَثَلُ الْمُنَافِقِينَ فِي غُرُورِهِمْ بَنِي النَّضِيرِ وَخِذْلَانِهِمْ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ}
وَذَلِكَ مَا رَوَى عَطَاءٌ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ رَاهِبٌ فِي الْفَتْرَةِ يُقَالُ لَهُ "بَرْصِيصَا" تَعَبَّدَ فِي صَوْمَعَةٍ لَهُ سَبْعِينَ سَنَةً، لَمْ يَعْصِ اللَّهَ فِيهَا طَرْفَةَ عَيْنٍ وَإِنَّ إِبْلِيسَ أَعْيَاهُ فِي أَمْرِهِ الْحِيَلُ، فَجَمَعَ ذَاتَ يَوْمٍ مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ فَقَالَ: أَلَّا أَجِدُ أَحَدًا مِنْكُمْ يَكْفِينِي أَمْرَ بَرْصِيصَا؟ فَقَالَ الْأَبْيَضُ -وَهُوَ صَاحِبُ الْأَنْبِيَاءِ وَهُوَ الَّذِي تَصَدَّى لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاءَهُ فِي صُورَةِ جِبْرَائِيلَ لِيُوَسْوِسَ إِلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الْوَحْيِ فَدَفَعَهُ جِبْرَائِيلُ إِلَى أَقْصَى أَرْضِ الْهِنْدِ -فَقَالَ الْأَبْيَضُ لِإِبْلِيسَ: أَنَا أَكْفِيكَ أَمْرَهُ، فَانْطَلَقَ فَتَزَيَّنَ بِزِينَةِ الرُّهْبَانِ وَحَلَقَ وَسَطَ رَأْسِهِ وَأَتَى صَوْمَعَةَ بَرْصِيصَا فَنَادَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ، وَكَانَ لَا يَنْفَتِلُ عَنْ صَلَاتِهِ إِلَّا فِي كُلِّ عَشَرَةِ أَيَّامٍ وَلَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي عَشَرَةِ أَيَّامٍ مَرَّةً.
فَلَمَّا رَأَى الْأَبْيَضُ أَنَّهُ لَا يُجِيبُهُ أَقْبَلَ عَلَى الْعِبَادَةِ فِي أَصْلِ صَوْمَعَتِهِ، فَلَمَّا انْفَتَلَ بَرْصِيصَا اطَّلَعَ مِنْ صَوْمَعَتِهِ فَرَأَى الْأَبْيَضَ قَائِمًا يُصَلِّي فِي هَيْئَةٍ حَسَنَةٍ مِنْ هَيْئَةِ الرُّهْبَانِ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ مِنْ حَالِهِ نَدِمَ فِي نَفْسِهِ حِينَ لَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ لَهُ: إِنَّكَ نَادَيْتَنِي وَكُنْتُ مُشْتَغِلًا عَنْكَ، فَمَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنِّي أَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ، فَأَتَأَدَّبَ بِكَ وَأَقْتَبِسَ مِنْ عَمَلِكَ وَعِلْمِكَ، وَنَجْتَمِعَ عَلَى الْعِبَادَةِ فَتَدْعُوَ لِي وَأَدْعُوَ لَكَ، فَقَالَ بَرْصِيصَا: إِنِّي لَفِي شُغْلٍ عَنْكَ فَإِنْ كُنْتَ مُؤْمِنًا فَإِنَّ اللَّهَ سَيَجْعَلُ لَكَ فِيمَا أَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ نَصِيبًا إِنِ اسْتَجَابَ لِي ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ وَتَرَكَ الْأَبْيَضَ، وَأَقْبَلَ الْأَبْيَضُ يُصَلِّي فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهِ بَرْصِيصَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا بَعْدَهَا، فَلَمَّا انْفَتَلَ رَآهُ قَائِمًا يُصَلِّي فَلَمَّا رَأَى بَرْصِيصَا شِدَّةَ اجْتِهَادِهِ قَالَ لَهُ: مَا حَاجَتُكَ؟ قَالَ: حَاجَتِي أَنْ تَأْذَنَ لِي فَأَرْتَفِعَ إِلَيْكَ فَأَذِنَ لَهُ فَارْتَفَعَ إِلَيْهِ فِي صَوْمَعَتِهِ، فَأَقَامَ مَعَهُ حَوْلًا يَتَعَبَّدُ لَا يُفْطِرُ إِلَّا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَا يَنْفَتِلُ عَنْ صَلَاتِهِ إِلَّا فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَرَّةً، وَرُبَّمَا مَدَّ إِلَى الثَّمَانِينَ فَلَمَّا رَأَى بَرْصِيصَا اجْتِهَادَهُ تَقَاصَرَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ وَأَعْجَبَهُ شَأْنُ الْأَبْيَضِ.
__________
(1) في "أ" تجادلهم.(8/82)
فَلَمَّا حَالَ الْحَوْلُ قَالَ الْأَبْيَضُ لِبَرْصِيصَا: إِنِّي مُنْطَلِقٌ فَإِنَّ لِي صَاحِبًا غَيْرَكَ ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَشَدُّ اجْتِهَادًا مِمَّا أَرَى، وَكَانَ يَبْلُغُنَا عَنْكَ غَيْرُ الَّذِي رَأَيْتُ، فَدَخَلَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى بَرْصِيصَا أَمْرٌ شَدِيدٌ وَكَرِهَ مُفَارَقَتَهُ لِلَّذِي رَأَى مِنْ شِدَّةِ اجْتِهَادِهِ، فَلَمَّا وَدَّعَهُ قَالَ لَهُ الْأَبْيَضُ: إِنْ عِنْدِي دَعَوَاتٍ أُعَلِّمُكَهَا تَدْعُو بِهِنَّ فَهُنَّ خَيْرٌ مِمَّا أَنْتَ فِيهِ يَشْفِي اللَّهُ بِهَا السَّقِيمَ وَيُعَافِي بِهَا الْمُبْتَلَى وَالْمَجْنُونَ، قَالَ بَرْصِيصَا: إِنِّي أَكْرَهُ هَذِهِ الْمَنْزِلَةَ لِأَنَّ لِي فِي نَفْسِي شُغْلًا وَإِنِّي أَخَافُ إِنْ عَلِمَ بِهِ النَّاسُ شَغَلُونِي عَنِ الْعِبَادَةِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ الْأَبْيَضُ حَتَّى عَلَّمَهُ. ثُمَّ انْطَلَقَ حَتَّى أَتَى إِبْلِيسَ فَقَالَ: قَدْ وَاللَّهِ أَهْلَكْتُ الرَّجُلَ.
قَالَ: فَانْطَلَقَ الْأَبْيَضُ فَتَعَرَّضَ لِرَجُلٍ فَخَنَقَهُ ثُمَّ جَاءَ فِي صُورَةِ رَجُلٍ مُتَطَبِّبٍ فَقَالَ لِأَهْلِهِ إِنَّ بِصَاحِبِكُمْ جُنُونًا أَفَأُعَالِجُهُ؟ قَالُوا: نَعَمْ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنِّي لَا أَقْوَى عَلَى جِنَّتِهِ وَلَكِنْ سَأُرْشِدُكُمْ إِلَى مَنْ يَدْعُو اللَّهَ فَيُعَافِيهِ، انْطَلِقُوا إِلَى بَرْصِيصَا فَإِنَّ عِنْدَهُ الِاسْمَ الَّذِي إِذَا دَعَا بِهِ أُجِيبَ، فَانْطَلَقُوا إِلَيْهِ فَسَأَلُوهُ ذَلِكَ فَدَعَا بِتِلْكَ الْكَلِمَاتِ فَذَهَبَ عَنْهُ الشَّيْطَانُ، فَكَانَ الْأَبْيَضُ يَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ بِالنَّاسِ وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى بَرْصِيصَا، فَيَدْعُو فَيُعَافَوْنَ، فَانْطَلَقَ الْأَبْيَضُ فَتَعَرَّضَ لِجَارِيَةٍ مِنْ بَنَاتِ مُلُوكِ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَيْنَ ثَلَاثَةِ إِخْوَةٍ وَكَانَ أَبُوهُمْ مَلِكَهُمْ، فَمَاتَ وَاسْتَخْلَفَ أَخَاهُ فَكَانَ عَمُّهَا مَلِكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَعَذَّبَهَا وَخَنَقَهَا ثُمَّ جَاءَ إِلَيْهِمْ فِي صُورَةِ مُتَطَبِّبٍ فَقَالَ لَهُمْ: أَتُرِيدُونَ أَنْ أُعَالِجَهَا؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ الَّذِي عَرَضَ لَهَا مَارِدٌ لَا يُطَاقُ، وَلَكِنْ سَأُرْشِدُكُمْ إِلَى رَجُلٍ تَثِقُونَ بِهِ تَدَعُونَهَا عِنْدَهُ إِذَا جَاءَ شَيْطَانُهَا دَعَا لَهَا حَتَّى تَعْلَمُوا أَنَّهَا قَدْ عُوفِيَتْ وَتَرُدُّونَهَا صَحِيحَةً، قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ بَرْصِيصَا، قَالُوا: وَكَيْفَ لَنَا أَنْ يُجِيبَنَا إِلَى هَذَا وَهُوَ أَعْظَمُ شَأْنًا مِنْ ذَلِكَ؟ قَالَ: فَانْطَلِقُوا فَابْنُوا صَوْمَعَةً إِلَى جَانِبِ صَوْمَعَتِهِ حَتَّى تُشْرِفُوا عَلَيْهِ، فَإِنْ قَبِلَهَا وَإِلَّا فَضَعُوهَا فِي صَوْمَعَتِهَا، ثُمَّ قُولُوا لَهُ هِيَ أَمَانَةٌ عِنْدِكَ، فَاحْتَسِبْ فِيهَا.
قَالَ: فَانْطَلَقُوا إِلَيْهِ فَسَأَلُوهُ فَأَبَى عَلَيْهِمْ، فَبَنَوْا صَوْمَعَةً عَلَى مَا أَمَرَهُمُ الْأَبْيَضُ وَوَضَعُوا الْجَارِيَةَ فِي صَوْمَعَتِهِ، وَقَالُوا: هَذِهِ أُخْتُنَا أَمَانَةٌ فَاحْتَسِبْ فِيهَا، ثُمَّ انْصَرَفُوا فَلَمَّا انْفَتَلَ بَرْصِيصَا عَنْ صَلَاتِهِ عَايَنَ الْجَارِيَةَ وَمَا بِهَا مِنَ الْحُسْنِ وَالْجَمَالِ، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ وَدَخَلَ عَلَيْهِ أَمْرٌ عَظِيمٌ، ثُمَّ أَقْبَلَ فِي صَلَاتِهِ فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَخَنَقَهَا فَدَعَا بَرْصِيصَا بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ فَذَهَبَ عَنْهَا الشَّيْطَانُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَخَنَقَهَا فَدَعَا بَرْصِيصَا بِتِلْكَ الدَّعَوَاتِ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَجَاءَهَا الشَّيْطَانُ فَخَنَقَهَا، وَكَانَتْ تَكْشِفُ عَنْ نَفْسِهَا، فَجَاءَهُ الشَّيْطَانُ وَقَالَ وَاقِعْهَا فَسَتَتُوبُ بَعْدُ فَتُدْرِكُ مَا تُرِيدُ مِنَ الْأَمْرِ، فَلَمْ يَزَلْ بِهِ حَتَّى وَاقَعَهَا فَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ يَأْتِيهَا حَتَّى حَمَلَتْ وَظَهَرَ حَمْلُهَا، فَقَالَ لَهُ الشَّيْطَانُ: وَيْحَكَ يَا بَرْصِيصَا قَدِ افْتَضَحْتَ فَهَلْ لَكَ أَنْ تَقْتُلَهَا وَتَتُوبَ؟ فَإِنْ سَأَلُوكَ فَقُلْ: ذَهَبَ بِهَا شَيْطَانُهَا، فَلَمْ أَقْدِرْ(8/83)
عَلَيْهِ. فَدَخَلَ فَقَتَلَهَا، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهَا فَدَفْنَهَا إِلَى جَانِبِ الْجَبَلِ، فَجَاءَ الشَّيْطَانُ وَهُوَ يَدْفِنُهَا لَيْلًا فَأَخَذَ بِطَرَفِ إِزَارِهَا، فَبَقِيَ طَرَفٌ خَارِجًا مِنَ التُّرَابِ، ثُمَّ رَجَعَ بَرْصِيصَا إِلَى صَوْمَعَتِهِ فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ إِذْ جَاءَ إِخْوَتُهَا يَتَعَاهَدُونَ أُخْتَهُمْ، وَكَانُوا يَجِيئُونَ فِي طَرَفِ الْأَيَّامِ يَسْأَلُونَ عَنْهَا وَيُوصُونَهُ بِهَا، فَقَالُوا: يَا بَرْصِيصَا مَا فَعَلَتْ أُخْتُنَا؟ قَالَ: قَدْ جَاءَ شَيْطَانُهَا فَذَهَبَ بِهَا وَلَمْ أُطِقْهُ، فَصَدَّقُوهُ وَانْصَرَفُوا فَلَمَّا أَمْسَوْا وَهُمْ مَكْرُوبُونَ جَاءَ الشَّيْطَانُ إِلَى أَكْبَرِهِمْ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنَّ بَرْصِيصَا فَعَلَ بِأُخْتِكَ كَذَا وَكَذَا وَإِنَّهُ وَدَفْنَهَا فِي مَوْضِعِ كَذَا وَكَذَا، فَقَالَ الْأَخُ فِي نَفْسِهِ: هَذَا حُلْمٌ وَهُوَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، فَإِنَّ بَرْصِيصَا خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ: فَتَتَابَعَ عَلَيْهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمْ يَكْتَرِثْ. فَانْطَلَقَ إِلَى الْأَوْسَطِ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَقَالَ الْأَوْسَطُ مِثْلَ مَا قَالَهُ الْأَكْبَرُ، فَلَمْ يُخْبِرْ أَحَدًا، فَانْطَلَقَ إِلَى أَصْغَرِهِمْ بِمِثْلِ ذَلِكَ، فَقَالَ أَصْغَرُهُمْ لِأَخَوَيْهِ: وَاللَّهِ لَقَدْ رَأَيْتُ كَذَا وَكَذَا، وَقَالَ الْأَوْسَطُ: وَأَنَا وَاللَّهِ قَدْ رأيت مثله 160/أوَقَالَ الْأَكْبَرُ: وَأَنَا رَأَيْتُ مَثَلَهُ، فَانْطَلَقُوا إِلَى بَرْصِيصَا وَقَالُوا: يَا بَرْصِيصَا مَا فَعَلَتْ أُخْتُنَا؟ قَالَ: أَلَيْسَ قَدْ أَعْلَمْتُكُمْ بِحَالِهَا؟ فَكَأَنَّكُمُ اتَّهَمْتُمُونِي؟ فَقَالُوا: وَاللَّهِ لَا نَتَّهِمُكَ، وَاسْتَحْيَوْا مِنْهُ فَانْصَرَفُوا، فَجَاءَهُمُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: وَيْحَكُمْ إِنَّهَا لَمَدْفُونَةٌ فِي مَوْضِعِ كَذَا، وَإِنَّ طَرَفَ إِزَارِهَا خَارِجٌ مِنَ التُّرَابِ. فَانْطَلَقُوا فَرَأَوْا أُخْتَهُمْ عَلَى مَا رَأَوْا فِي النَّوْمِ، فَمَشَوْا فِي مَوَالِيهِمْ وغلمانهم ومعهم الفئوس وَالْمَسَاحِي فَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَأَنْزَلُوهُ، ثُمَّ كَتَّفُوهُ فَانْطَلَقُوا بِهِ إِلَى الْمَلِكِ فَأَقَرَّ عَلَى نَفْسِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ أَتَاهُ فَقَالَ: تَقْتُلُهَا ثُمَّ تُكَابِرُ يَجْتَمِعُ عَلَيْكَ أَمْرَانِ: قَتْلٌ وَمُكَابَرَةٌ اعْتَرِفْ. فَلَمَّا اعْتَرَفَ أَمَرَ الْمَلِكُ بِقَتْلِهِ وَصَلْبِهِ عَلَى خَشَبَةِ، فَلَمَّا صُلِبَ أَتَاهُ الْأَبْيَضُ فَقَالَ: يَا بَرْصِيصَا أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: لَا قَالَ: أَنَا صَاحِبُكَ الَّذِي عَلَّمْتُكَ الدَّعَوَاتِ فَاسْتُجِيبَ لَكَ، وَيْحَكَ مَا اتَّقَيْتَ اللَّهَ فِي أَمَانَتِكَ! خُنْتَ أَهْلَهَا وَإِنَّكَ زَعَمْتَ أَنَّكَ أَعْبَدُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، أَمَا اسْتَحْيَيْتَ؟ فَلَمْ يَزَلْ يُعَيِّرُهُ، ثُمَّ قَالَ فِي آخِرِ ذَلِكَ: أَلَمْ يَكْفِكَ مَا صَنَعْتَ حَتَّى أَقْرَرْتَ عَلَى نَفْسِكَ وَفَضَحْتَ نَفْسَكَ وَفَضَحْتَ أَشْبَاهَكَ مِنَ النَّاسِ؟ فَإِنْ مِتَّ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يُفْلِحْ أَحَدٌ مِنْ نُظَرَائِكَ، قَالَ: فَكَيْفَ أَصْنَعُ قَالَ: تُطِيعُنِي فِي خَصْلَةٍ وَاحِدَةٍ حَتَّى أُنْجِيَكَ مِمَّا أَنْتِ فِيهِ فَآخُذُ بِأَعْيُنِهِمْ فَأُخْرِجَكَ مِنْ مَكَانِكَ! قَالَ: وَمَا هِيَ قَالَ تَسْجُدُ لِي [قَالَ: مَا أَسْتَطِيعُ. قَالَ: افْعَلْ] (1) فَسَجَدَ لَهُ فَقَالَ: يَا بَرْصِيصَا هَذَا الَّذِي كُنْتُ أَرَدْتُ مِنْكَ، صَارَتْ عَاقِبَةُ أَمْرِكِ إِلَى أَنْ كَفَرْتَ بربك، إني برئ مِنْكَ "إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ" (2) .
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) ذكرها الطبري باختصار: 28 / 50 وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 117 لابن أبي حاتم باحتصار الطبري. قال الحافظ ابن كثير: 4 / 342 بعد أن ساق رواية مختصرة عن ابن مسعود رضي الله عنه: "وكذا روي عن ابن عباس وطاووس ومقاتل بن حيان نحو ذلك، واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو برصيصا فالله أعلم".(8/84)
فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
{فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17) }
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} يَعْنِي الشَّيْطَانَ وَذَلِكَ الْإِنْسَانَ {أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ضَرَبَ اللَّهُ هَذَا الْمَثَلَ لِيَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ عَنِ الْمَدِينَةِ فَدَسَّ الْمُنَافِقُونَ إِلَيْهِمْ، وَقَالُوا: لَا تُجِيبُوا مُحَمَّدًا إِلَى مَا دَعَاكُمْ وَلَا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ، فَإِنْ قَاتَلَكُمْ فَإِنَّا مَعَكُمْ وَإِنْ أَخْرَجَكُمْ خَرَجْنَا مَعَكُمْ، فَأَجَابُوهُمْ فَدَرَّبُوا عَلَى حُصُونِهِمْ وَتَحَصَّنُوا فِي دِيَارِهِمْ رَجَاءَ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ، حَتَّى جَاءَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاصَبُوهُ الْحَرْبَ يَرْجُونَ نَصْرَ الْمُنَافِقِينَ، فَخَذَلُوهُمْ وَتَبَرَّءُوا مِنْهُمْ كَمَا تَبْرَأُ الشَّيْطَانُ مِنْ بَرْصِيصَا وَخَذَلَهُ، فَكَانَ عَاقِبَةُ الْفَرِيقَيْنِ النَّارَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَكَانَ الرُّهْبَانُ بَعْدَ ذَلِكَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَمْشُونَ إِلَّا بِالتَّقِيَّةِ وَالْكِتْمَانِ، وَطَمِعَ أَهْلُ الْفُسُوقِ وَالْفُجُورِ فِي الْأَحْبَارِ، وَرَمُوهُمْ بِالْبُهْتَانِ وَالْقَبِيحِ حَتَّى كَانَ أَمْرُ جُرَيْجٍ الرَّاهِبِ، فَلَمَّا بَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا رَمَوْهُ بِهِ انْبَسَطَتْ بَعْدَهُ الرُّهْبَانُ وَظَهَرُوا لِلنَّاسِ، وَكَانَتْ قِصَّةُ جُرَيْجٍ عَلَى مَا: أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى بن مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ، وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلًا عَابِدًا فَاتَّخَذَ صَوْمَعَتَهُ فَكَانَ فِيهَا فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي؟ فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ أُمِّي وَصَلَاتِي؟ فَأَقْبَلَ عَلَى صَلَاتِهِ فَقَالَتِ: اللَّهُمَّ لَا تُمِتْهُ حَتَّى يَنْظُرَ إِلَى وُجُوهِ الْمُومِسَاتِ.
فَتَذَاكَرَ بَنُو إِسْرَائِيلَ جُرَيْجًا وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إِنْ شِئْتُمْ لِأَفْتِنَنَّهُ لَكُمْ قَالَ: فَتَعَرَّضَتْ لَهُ فَلَمْ يَلْتَفِتْ إِلَيْهَا، فَأَتَتْ رَاعِيًا كَانَ يَأْوِي إِلَى صَوْمَعَتِهِ فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَحَمَلَتْ فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ، فَأَتَوْهُ فَاسْتَنْزَلُوهُ مِنْ صَوْمَعَتِهِ وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: زَنَيْتَ بِهَذِهِ الْبَغِيَّةِ فَوَلَدَتْ مِنْكَ، فَقَالَ: أَيْنَ الصَّبِيُّ؟ فَجَاءُوا بِهِ فَقَالَ دَعُونِي حَتَّى أُصَلِّيَ فَصَلَّى فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبِيَّ وَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقَالَ: يَا غُلَامُ مَنْ أَبُوكَ؟ قَالَ: فُلَانٌ الرَّاعِي، قَالَ: فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِنْ ذَهَبٍ، قَالَ: لَا أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ فَفَعَلُوا. وَبَيْنَا صَبِيٌّ يَرْضَعُ مِنْ أُمِّهِ، فَمَرَّ رَجُلٌ رَاكِبٌ عَلَى دَابَّةٍ فَارِهَةٍ وَشَارَةٍ حَسَنَةٍ، فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ(8/85)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21)
اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الثَّدْيَ وَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وَنَظَرَ إِلَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى ثَدْيِهِ فَجَعَلَ يَرْضَعُ. قَالَ: فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَحْكِي ارْتِضَاعَهُ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ فِي فَمِهِ، فَجَعَلَ يَمُصُّهَا.
قَالَ: وَمَرُّوا بِجَارِيَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: زَنَيْتِ وَسَرَقْتِ، وَهِيَ تَقُولُ: حَسْبِي اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَقَالَتْ أُمُّهُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الرَّضَاعَ وَنَظَرَ إِلَيْهَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، فَهُنَاكَ تَرَاجَعَا الْحَدِيثَ، فَقَالَتْ: مَرَّ رَجُلٌ حَسَنُ الْهَيْئَةِ فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهُ، فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَمَرُّوا بِهَذِهِ الْأَمَةِ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ زَنَيْتِ وَسَرَقْتِ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلِ ابْنِي مِثْلَهَا فَقُلْتَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا، قَالَ: إِنَّ ذَاكَ الرَّجُلَ كَانَ جَبَّارًا فَقُلْتُ اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْنِي مِثْلَهُ، وَإِنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ لَهَا: زَنَيْتِ، وَلَمْ تَزِنِ، وَسَرَقْتِ، وَلَمْ تَسْرِقْ، فَقُلْتُ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا" (1) .
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} يَعْنِي لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ: لِيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيَّ شَيْءٍ قَدَّمَ لِنَفْسِهِ، عَمَلًا صَالِحًا يُنْجِيهِ أَمْ سَيِّئًا يُوبِقُهُ؟ {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [أَيْ حُظُوظَ أَنْفُسِهِمْ] (2) حَتَّى لَمْ يُقَدِّمُوا لَهَا خَيْرًا {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}
{لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} .
__________
(1) أخرجه مسلم في البر والصلة والآداب، باب تقديم بر الوالدين على التطوع بالصلاة وغيرها، برقم: (2550) : 4 / 1976 - 1978 وأخرجه البخاري مختصرا في أحاديث الأنبياء، باب قول الله تعالى: (واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها) : 6 / 476.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/86)
هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23)
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) }
قَوْلُهُ عز وجل: 160/ب {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} قِيلَ: لَوْ جُعِلَ فِي الْجَبَلِ تَمْيِيزٌ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ لَخَشَعَ وَتَشَقَّقَ وَتَصَدَّعَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ مَعَ صَلَابَتِهِ وَرَزَانَتِهِ حَذَرًا مِنْ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، وَالْكَافِرُ يُعْرِضُ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا يَصِفُهُ بِقَسَاوَةِ الْقَلْبِ {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}
{هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} "الْغَيْبُ": مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِمَّا لَمْ يُعَايِنُوهُ وَلَمْ يَعْلَمُوهُ وَالشَّهَادَةُ مَا شَاهَدُوهُ وَمَا عَلِمُوهُ {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} الطَّاهِرُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ الْمُنَزَّهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ بِهِ {السَّلَامُ} الَّذِي سَلِمَ مِنَ النَّقَائِصِ {الْمُؤْمِنُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الَّذِي أَمِنَ النَّاسَ مِنْ ظُلْمِهِ وَأَمِنَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ عَذَابِهِ، هُوَ مِنَ الْأَمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ التَّخْوِيفِ كَمَا قَالَ: "وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ" (قُرَيْشٍ -4) وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْمُصَدِّقُ لِرُسُلِهِ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ، وَالْمُصَدِّقُ لِلْمُؤْمِنِينَ بِمَا وَعَدَهُمْ مِنَ الثَّوَابِ، وَلِلْكَافِرِينَ بِمَا أَوْعَدَهُمْ مِنَ الْعِقَابِ.
{الْمُهَيْمِنُ} الشَّهِيدُ عَلَى عِبَادِهِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٌ. يُقَالُ: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُوَ مُهَيْمِنٌ إِذَا كَانَ رَقِيبًا عَلَى الشَّيْءِ وَقِيلَ: هُوَ فِي الْأَصْلِ مُؤَيْمِنٌ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً، كَقَوْلِهِمْ: أَرَقْتُ وَهَرَقْتُ وَمَعْنَاهُ الْمُؤْمِنُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَمِينُ. وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ الرَّقِيبُ الْحَافِظُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُصَدِّقُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكُ: الْقَاضِي. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْكُتُبِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِتَأْوِيلِهِ.
{الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْجَبَّارُ" هُوَ الْعَظِيمُ، وَجَبَرُوتُ اللَّهِ عَظَمَتُهُ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ صِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْجَبْرِ وَهُوَ الْإِصْلَاحُ يُقَالُ: جَبَرْتُ الْأَمْرَ، وَجَبَرْتُ الْعَظْمَ إِذَا أَصْلَحْتُهُ بَعْدَ الْكَسْرِ، فَهُوَ يُغْنِي الْفَقِيرَ وَيُصْلِحُ الْكَسِيرَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الَّذِي يَقْهَرُ النَّاسَ وَيُجْبِرُهُمْ عَلَى مَا أَرَادَ. وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَعْنَى الْجَبَّارِ فَقَالَ: هُوَ الْقَهَّارُ الَّذِي إِذَا أَرَادَ أَمْرًا فَعَلَهُ لَا يَحْجِزُهُ عَنْهُ حَاجِزٌ.(8/87)
هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
{الْمُتَكَبِّرُ} الَّذِي تَكَبَّرَ عَنْ كُلِّ سُوءٍ. وَقِيلَ: الْمُتَعَظِّمُ عَمًّا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَأَصْلُ الْكِبْرِ، وَالْكِبْرِيَاءِ: الِامْتِنَاعُ. وَقِيلَ: ذُو الْكِبْرِيَاءِ، وَهُوَ الْمَلِكُ {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} .
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) }
{هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} الْمُقَدِّرُ وَالْمُقَلِّبُ لِلشَّيْءِ بِالتَّدْبِيرِ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ: "يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ" (الزُّمَرِ -6) {الْبَارِئُ} الْمُنْشِئُ لِلْأَعْيَانِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ {الْمُصَوِّرُ} الْمُمَثِّلُ لِلْمَخْلُوقَاتِ بِالْعَلَامَاتِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ. يُقَالُ: هَذِهِ صُورَةُ الْأَمْرِ أَيْ مِثَالُهُ، فَأَوَّلًا يَكُونُ خَلْقًا ثُمَّ بَرْءًا ثُمَّ تَصْوِيرًا. {لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا ابْنُ شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي شُرَيْحٍ وَأَحْمَدُ بْنُ مَنْصُورٍ الرَّمَادِيِّ قَالَا أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ طَهْمَانَ، حَدَّثَنِي نَافِعُ بْنُ أَبِي نَافِعٍ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ -أَعَوذُ بِاللَّهِ السَّمِيعِ الْعَلِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ، وَقَرَأَ الثَّلَاثَ الْآيَاتِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْحَشْرِ وَكَّلَ اللَّهُ بِهِ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ يُصَلُّونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِيَ، فَإِنْ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَاتَ شَهِيدًا، وَمَنْ قَالَ حِينَ يُمْسِي كَانَ بِتِلْكَ الْمَنْزِلَةِ" (1) .
وَرَوَاهُ أَبُو عِيسَى عَنْ مَحْمُودِ بْنِ غَيْلَانَ عَنْ أَبِي أَحْمَدَ الزُّبَيْرِيِّ بِهَذَا الْإِسْنَادِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ (2)
__________
(1) أخرجه الترمذي في فضائل القرآن: 8 / 239 - 240 وقال: "هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه". والدرامي في فضائل القرآن: 2 / 458، والإمام أحمد: 5 / 26. وفيه خالد بن طهمان كان قد اختلط قبل موته بعشر سنين. وانظر: ضعيف الجامع: (5732) .
(2) انظر: الموضع السابق عند الترمذي.(8/88)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1)
سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) }
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، أَخْبَرَنِي الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبِي رَافِعٍ يَقُولُ سَمِعْتُ عَلِيَّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَا وَالزُّبَيْرُ وَالْمِقْدَادُ فَقَالَ: "انْطَلِقُوا حَتَّى تَأْتُوا (رَوْضَةَ خَاخٍ) فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ فَخُذُوهُ مِنْهَا" قَالَ: فَانْطَلَقْنَا تَتَعَادَى بِنَا خَيْلُنَا حَتَّى أَتَيْنَا الرَّوْضَةَ فَإِذَا نَحْنُ بِالظَّعِينَةِ، فَقُلْنَا: أَخْرِجِي الْكِتَابَ فَقَالَتْ: مَا مَعِي كِتَابٌ، فَقُلْنَا: لَتُخْرِجِنَّ الْكِتَابَ أَوْ لَتُلْقِيِنَّ الثِّيَابَ، قَالَ: فَأَخْرَجَتْهُ مِنْ عِقَاصِهَا فَأَتَيْنَا بِهِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا فِيهِ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا فِي قُرَيْشٍ -يَقُولُ كُنْتُ حَلِيفًا وَلَمْ أَكُنْ مِنْ أَنْفُسِهَا-وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الممتحنة بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. انظر: الدر المنثور: 8 / 124.(8/89)
يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهَمْ فَأَحْبَبْتُ -إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ-أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى [مَنْ شَهِدَ بَدْرًا] (1) فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ السُّورَةَ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ" إِلَى قَوْلِهِ: "سَوَاءَ السَّبِيلِ" (2) .
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، وَذَلِكَ أَنَّ سَارَةَ مَوْلَاةَ أَبِي عَمْرِو بْنِ صَيْفِيِّ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ أَتَتِ الْمَدِينَةَ مِنْ مَكَّةَ، وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَجَهَّزُ لِفَتْحِ مَكَّةَ، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمُسْلِمَةً جِئْتِ؟ قَالَتْ: لَا قَالَ أَمُهَاجِرَةً جِئْتِ؟ قَالَتْ: لَا قَالَ: فَمَا جَاءَ بِكِ قَالَتْ: كُنْتُمُ الْأَصْلَ وَالْعَشِيرَةَ وَالْمَوَالِيَ وَقَدْ ذَهَبَتْ مَوَالِيَّ وَقَدِ احْتَجْتُ حَاجَةً شَدِيدَةً فَقَدِمْتُ عَلَيْكُمْ لِتُعْطُونِي وَتَكْسُوَنِي وَتَحْمِلُونِي، فَقَالَ لَهَا: وَأَيْنَ أَنْتِ مِنْ شُبَّانِ مَكَّةَ؟ وَكَانَتْ مُغَنِّيَةً نَائِحَةً، قَالَتْ: مَا طُلِبَ مني شيء 161/أبَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ، فَحَثَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ فَأَعْطَوْهَا نَفَقَةً وَكَسَوْهَا وَحَمَلُوهَا فَأَتَاهَا حَاطِبُ بْنُ أَبِي بَلْتَعَةَ حَلِيفُ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى، فَكَتَبَ مَعَهَا إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَأَعْطَاهَا عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، وَكَسَاهَا بُرْدًا عَلَى أَنْ تُوصِلَ الْكِتَابَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، وَكَتَبَ فِي الْكِتَابِ: مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُرِيدُكُمْ، فَخُذُوا حِذْرَكُمْ.
فَخَرَجَتْ سَارَةُ، وَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا فَعَلَ، فَبَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلِيًّا وَعَمَّارًا وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَالْمِقْدَادَ بْنَ الْأُسُودِ وَأَبَا مَرْثَدٍ فُرْسَانًا فَقَالَ لَهُمُ: انْطَلَقُوا حَتَّى تَأْتُوا "رَوْضَةَ خَاخٍ" فَإِنَّ بِهَا ظَعِينَةً مَعَهَا كِتَابٌ مِنْ حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ إِلَى الْمُشْرِكِينَ، فَخُذُوا مِنْهَا وَخَلُّوا سَبِيلَهَا وَإِنْ لَمْ تَدْفَعْهُ إِلَيْكُمْ فَاضْرِبُوا عُنُقَهَا.
قَالَ: فَخَرَجُوا حَتَّى أَدْرَكُوهَا فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ الَّذِي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالُوا لَهَا: أَيْنَ الْكِتَابُ؟ فَحَلَفَتْ بِاللَّهِ مَا مَعَهَا كِتَابٌ، فَبَحَثُوهَا وَفَتَّشُوا مَتَاعَهَا فَلَمْ يَجِدُوا مَعَهَا كِتَابًا فَهَمُّوا بِالرُّجُوعِ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَاللَّهِ مَا كَذَبْنَا وَلَا كَذَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَلَّ سَيْفَهُ فَقَالَ: أَخْرِجِي الْكِتَابَ وَإِلَّا لِأُجَرِّدَنَّكِ وَلَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكِ. فَلَمَّا رَأَتِ الْجِدَّ أَخْرَجَتْهُ مِنْ ذُؤَابَتِهَا وَكَانَتْ قَدْ خَبَّأَتْهُ
__________
(1) في "أ" (من شهد بدرا) .
(2) أخرجه البخاري في الجهاد، باب الجاسوس: 6 / 143، ومسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أهل بدر رضي الله عنهم وقصة حاطب بن أبي بلتعة برقم: (2494) : 4 / 1941-1942.(8/92)
إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2)
فِي شَعْرِهَا فَخَلَّوْا سَبِيلَهَا وَلَمْ يَتَعَرَّضُوا لَهَا وَلَا لِمَا مَعَهَا فَرَجَعُوا بِالْكِتَابِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى حَاطِبٍ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: هَلْ تَعْرِفُ الْكِتَابَ؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَ: فَمَا حَمَلَكَ عَلَى مَا صَنَعْتَ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَاللَّهِ مَا كَفَرْتُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ وَلَا غَشَشْتُكَ مُنْذُ نَصَحْتُكَ، وَلَا أَحْبَبْتُهُمْ مُنْذُ فَارَقْتُهُمْ، وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَّا وَلَهُ بِمَكَّةَ مِنْ يَمْنَعُ عَشِيرَتَهُ، وَكُنْتُ غَرِيبًا فِيهِمْ، وَكَانَ أَهْلِي بَيْنَ ظَهْرَانَيْهِمْ، فَخَشِيتُ عَلَى أَهْلِي، فَأَرَدْتُ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا، وَقَدْ عَلِمْتُ، أَنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ بِهِمْ بَأْسَهُ، وَأَنَّ كِتَابِي لَا يُغْنِي عَنْهُمْ شَيْئًا فَصَدَّقَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَذَرَهُ.
فَقَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَمَا يُدْرِيكَ يَا عُمَرُ لَعَلَّ اللَّهَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ لَهُمُ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي شَأْنِ حَاطِبٍ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ" (1) .
{تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} قِيلَ: أَيِ الْمَوَدَّةَ، "وَالْبَاءُ" زَائِدَةٌ، كَقَوْلِهِ: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ" (الْحَجِّ-25) وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِرَّهُ بِالْمَوَدَّةِ الَّتِي بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ {وَقَدْ كَفَرُوا} "الْوَاوُ" لِلْحَالِ، أَيْ: وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا {بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} مِنْ مَكَّةَ {أَنْ تُؤْمِنُوا} أَيْ لِأَنْ آمَنْتُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ: يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِإِيمَانِكُمْ {بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} هَذَا شَرْطٌ جَوَابُهُ مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: "لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ أَنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ" {جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} قَالَ مُقَاتِلٌ: بِالنَّصِيحَةِ {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ} مِنَ الْمَوَدَّةِ لِلْكُفَّارِ {وَمَا أَعْلَنْتُمْ} أَظْهَرْتُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} أَخْطَأَ طَرِيقَ الْهُدَى.
{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) }
{إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} يَظْفَرُوا بِكُمْ وَيَرَوْكُمْ {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} بِالضَّرْبِ وَالْقَتْلِ {وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} بِالشَّتْمِ {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} كَمَا كَفَرُوا. يَقُولُ: لَا
__________
(1) أخرجه الطبري: 28 / 59-60. وانظر: أسباب النزول للواحدي ص: (485) .(8/93)
لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5)
تُنَاصِحُوهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُنَاصِحُونَكُمْ وَلَا يُوَادُّونَكُمْ.
{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) }
{لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} مَعْنَاهُ: لَا يَدْعُوَنَّكُمْ وَلَا يَحْمَلَنَّكُمْ ذَوُو أَرْحَامِكُمْ وَقَرَابَاتُكُمْ وَأَوْلَادُكُمُ الَّذِينَ بِمَكَّةَ إِلَى خِيَانَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَرْكِ مُنَاصَحَتِهِمْ وَمُوَالَاةِ أَعْدَائِهِمْ فَلَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ {وَلَا أَوْلَادُكُمْ} الَّذِينَ عَصَيْتُمُ اللَّهَ لِأَجْلِهِمْ {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} فَيُدْخِلُ أَهْلَ طَاعَتِهِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ مَعْصِيَتِهِ النَّارَ. قَرَأَ عَاصِمٌ وَيَعْقُوبُ {يَفْصِلُ} بِفَتْحِ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مُخَفَّفًا، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّ الْيَاءِ وَكَسْرِ الصَّادِ مُشَدَّدًا، [وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ مُشَدَّدًا] (1) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الصَّادِ مُخَفَّفًا. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ} قُدْوَةٌ {حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} مِنَ الْمُشْرِكِينَ {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} جَمْعُ بَرِيءٍ {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} جَحَدْنَا وَأَنْكَرْنَا دِينَكُمْ {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} يَأْمُرُ حَاطِبًا وَالْمُؤْمِنِينَ بِالِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّبَرُّؤِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} يَعْنِي: لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَأُمُورِهِ إِلَّا فِي اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ الْمُشْرِكِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَدْ قَالَ لِأَبِيهِ: لِأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، ثُمَّ تَبَرَّأَ مِنْهُ -عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ- (2) {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: مَا أُغْنِي عَنْكَ وَلَا أَدْفَعُ عَنْكَ عَذَابَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتَهُ وَأَشْرَكْتَ بِهِ {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} يَقُولُهُ إِبْرَاهِيمُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) }
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) انظر: فيما سبق: 4 / 101.(8/94)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8)
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) }
{رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تُظْهِرْهُمْ عَلَيْنَا فَيَظُنُّوا أَنَّهُمْ عَلَى الْحَقِّ(8/94)
فَيُفْتَنُوا وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ فَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِّ مَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ (1) {وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} أَيْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ "لَكُمْ" وَبَيَانٌ أَنَّ هَذِهِ الْأُسْوَةَ لِمَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَيَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ {وَمَنْ يَتَوَلَّ} يُعْرِضْ عَنِ الْإِيمَانِ وَيُوَالِ الْكُفَّارَ {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} عَنْ خَلْقِهِ {الْحَمِيدُ} إِلَى أَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِعَدَاوَةِ الْكُفَّارِ عَادَى الْمُؤْمِنُونَ أَقْرِبَاءَهُمُ الْمُشْرِكِينَ وَأَظْهَرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَرَاءَةَ. وَيَعْلَمُ اللَّهُ شِدَّةَ وَجْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ (2) {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ} أَيْ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ {مَوَدَّةً} فَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِأَنْ أَسْلَمَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ، فَصَارُوا لَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَإِخْوَانًا، وَخَالَطُوهُمْ وَنَاكَحُوهُمْ {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ثُمَّ رَخَّصَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِلَةِ الَّذِينَ لم يعادوا 161/ب الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ فَقَالَ: {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} أَيْ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنْ بِرِّ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} تَعْدِلُوا فِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ كَانُوا قَدْ صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلُوهُ وَلَا يُعِينُوا عَلَيْهِ أَحَدًا، فَرَخَّصَ اللَّهُ فِي بِرِّهِمْ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 28 / 64، وانظر: البحر المحيط: 8 / 225 وابن كثير: 4 / 394.
(2) ذكره ابن كثير: 4 / 349-350. انظر أسباب النزول للواحدي صفحة: (488) .(8/95)
إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10)
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ: نَزَلَتْ فِي أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَذَلِكَ أَنَّ أُمَّهَا قُتَيْلَةَ بِنْتَ عَبْدِ الْعُزَّى قَدِمَتْ عَلَيْهَا الْمَدِينَةَ بِهَدَايَا، ضِبَابًا وَأَقِطًا وَسَمْنًا، وَهِيَ مُشْرِكَةٌ، فَقَالَتْ أَسْمَاءُ: لَا أَقْبَلُ مِنْكِ هَدِيَّةً وَلَا تَدْخُلِي عَلَيَّ بَيْتِي حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ فَأَمَرَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ تُدْخِلَهَا مَنْزِلَهَا وَتَقْبَلَ هَدِيَّتَهَا وَتُكْرِمَهَا وَتُحْسُنَ إِلَيْهَا (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا حَاتِمٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَتْ: قَدِمَتْ عَلَيَّ أُمِّي وَهِيَ مُشْرِكَةٌ فِي عَهْدِ قُرَيْشٍ إِذْ عَاهَدُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمُدَّتِهِمْ مَعَ أَبِيهَا فَاسْتَفْتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُمِّي قَدِمَتْ عَلَيَّ وَهِيَ رَاغِبَةٌ أَفَأَصِلُهَا؟ قَالَ: صِلِيهَا (2) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُيَيْنَةَ قَالَ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهَا "لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ". ثُمَّ ذَكَرَ الَّذِينَ نَهَاهُمْ عَنْ صِلَتِهِمْ فَقَالَ: {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ}
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) }
{إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} وَهُمْ مُشْرِكُو مَكَّةَ {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} الْآيَةَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ عُقَيلٍ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ مَرْوَانَ وَالْمِسْوَرَ بْنَ مَخْرَمَةَ يُخْبِرَانِ عَنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَا لَمَّا كَاتَبَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو يَوْمئَذٍ، كَانَ فِيمَا اشْتَرَطَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ -وَإِنْ
__________
(1) أخرجه الطبري: 28 / 66، والإمام أحمد: 4 / 4، والحاكم: 2 / 485-486 وصححه ووافقه الذهبي. قال الهيثمي في مجمع الزوائد: 7 / 123 "رواه أحمد والبزاز وفيه مصعب بن ثابت، وثقه ابن حبان، وضعفه جماعة، وبقية رجاله رجال الصحيح".
(2) أخرجه البخاري في الهبة، باب الهدية للمشركين: 5 / 233، ومسلم في الزكاة، باب فضل النفقة والصدقة على الأقربين والزوج والأولاد والوالدين ولو كانوا مشركين، برقم: (1003) : 2 / 696.(8/96)
كَانَ عَلَى دِينِكَ-إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا، وَخَلَّيْتَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ. فَكَرِهَ الْمُؤْمِنُونَ ذَلِكَ وَأَبِي سُهَيْلٌ إِلَّا ذَلِكَ، فَكَاتَبَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ، فَرَدَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ أَبَا جَنْدَلٍ إِلَى أَبِيهِ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ مِنَ الرِّجَالِ إِلَّا رَدَّهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَجَاءَتِ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ، وَكَانَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ مِمَّنْ خَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مُهَاجِرَةً وَهِيَ عَاتِقٌ، فَجَاءَ أَهْلُهَا يَسْأَلُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُرْجِعَهَا إِلَيْهِمْ فَلَمْ يُرْجِعْهَا إِلَيْهِمْ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِنَّ: "إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ" إِلَى "وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ"
قَالَ عُرْوَةُ فَأَخْبَرَتْنِي عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْتَحِنُهُنَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ" إِلَى قَوْلِهِ: "غَفُورٌ رَحِيمٌ".
قَالَ عُرْوَةُ: قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَمَنْ أَقَرَّتْ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنْهُنَّ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ بَايَعْتُكِ كَلَامًا يُكَلِّمُهَا بِهِ، وَاللَّهِ مَا مَسَّتْ يَدُهُ يَدَ امْرَأَةٍ قَطُّ فِي الْمُبَايَعَةِ مَا بَايَعَهُنَّ إِلَّا بِقَوْلِهِ (1) .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعْتَمِرًا حَتَّى إِذَا كَانَ بِالْحُدَيْبِيَةِ صَالَحَهُ مُشْرِكُو مَكَّةَ عَلَى أَنَّ مَنْ أَتَاهُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ رَدَّهُ إِلَيْهِمْ وَمَنْ أَتَى أَهْلَ مَكَّةَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَرُدُّوهُ إِلَيْهِ، وَكَتَبُوا بِذَلِكَ كِتَابًا وَخَتَمُوا عَلَيْهِ، فَجَاءَتْ سُبَيْعَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةُ مُسْلِمَةً بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنَ الْكِتَابِ، فَأَقْبَلَ زَوْجُهَا مُسَافِرٌ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ -وَقَالَ مُقَاتِلٌ هُوَ: صَيْفِيُّ بْنُ الرَّاهِبِ-فِي طَلَبِهَا، وَكَانَ كَافِرًا، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ رُدَّ عَلَيَّ امْرَأَتِي فَإِنَّكَ قَدْ شَرَطْتَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيْنَا مَنْ أَتَاكَ مِنَّا وَهَذِهِ طَيَّةُ الْكِتَابِ لَمْ تَجِفَّ بَعْدُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ" مِنْ دَارِ الْكُفْرِ إِلَى دَارِ الْإِسْلَامِ {فَامْتَحِنُوهُنَّ}
__________
(1) أخرجه البخاري في الشروط، باب ما يجوز من الشروط في الإسلام والأحكام والمبايعة: 5 / 213 ومطولا في باب الشروط في الجهاد: 5 / 329-332، ومسلم في الإمارة، باب كيفية بيعة النساء (1866) : 3 / 1489، والمصنف في شرح السنة: 11 / 157-158.(8/97)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: امْتِحَانُهَا: أَنْ تُسْتَحْلَفَ مَا خَرَجَتْ لِبُغْضِ زَوْجِهَا وَلَا عِشْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا رَغْبَةً عَنْ أَرْضٍ إِلَى أَرْضٍ، وَلَا لِحَدَثٍ أَحْدَثَتْهُ وَلَا لِالْتِمَاسِ دُنْيَا وَمَا خَرَجَتْ إِلَّا رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وَحُبًّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ.
قَالَ فَاسْتَحْلَفَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ فَحَلَفَتْ فَلَمْ يَرُدَّهَا، وَأَعْطَى زَوْجَهَا مَهْرَهَا وَمَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا؛ فَتَزَوَّجَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (1) وَكَانَ يَرُدُّ مَنْ جَاءَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَيَحْبِسُ مَنْ جَاءَهُ مِنَ النِّسَاءِ بَعْدَ الِامْتِحَانِ وَيُعْطِي أَزْوَاجَهُنَّ مُهُورَهُنَّ.
{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [أَيْ هَذَا الِامْتِحَانُ لَكُمْ، وَاللَّهِ أَعْلَمُ بِهِنَّ] (2) {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} مَا أَحَلَّ اللَّهُ مُؤْمِنَةً لِكَافِرٍ {وَآتُوهُمْ} يَعْنِي أَزْوَاجَهُنَّ الْكُفَّارَ {مَا أَنْفَقُوا} عَلَيْهِنَّ يَعْنِي الْمَهْرَ الَّذِي دَفَعُوا إِلَيْهِنَّ {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أَيْ مُهُورَهُنَّ، أَبَاحَ اللَّهُ نِكَاحَهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي دَارِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فَرَّقَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ الْكُفَّارِ {وَلَا تُمْسِكُوا} [قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: بِالتَّشْدِيدِ، وَالْآخَرُونَ: بِالتَّخْفِيفِ، مِنَ الْإِمْسَاكِ] (3) {بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} "وَالْعِصَمُ": جُمْعُ الْعِصْمَةِ، وَهِيَ مَا يُعْتَصَمُ بِهِ مِنَ الْعَقْدِ وَالنَّسَبِ. "وَالْكَوَافِرُ": جُمْعُ الْكَافِرَةِ.
نَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمُقَامِ عَلَى نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ، يَقُولُ: مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ بِمَكَّةَ فَلَا يَعْتَدُّ بِهَا فَقَدِ انْقَطَعَتْ عِصْمَةُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ طَلَّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكَتَيْنِ: قُرَيْبَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَتَزَوَّجَهَا بَعْدَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا بِمَكَّةَ، وَالْأُخْرَى أُمُّ كلثوم بنت 162/أعَمْرِو بْنِ جَرْوَلٍ الْخُزَاعِيَةُ أُمِّ ابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، فَتَزَوَّجَهَا أَبُو جَهْمِ بْنُ حُذَافَةَ بْنِ غَانِمٍ، وَهُمْا عَلَى شِرْكِهِمَا. وَكَانَتْ أَرْوَى بِنْتُ ربيعة بن الحرث بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تَحْتَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، فَهَاجَرَ طَلْحَةُ وَهِيَ بِمَكَّةَ عَلَى دِينِ قَوْمِهَا فَفَرَّقَ الْإِسْلَامُ بَيْنَهُمَا فَتَزَوَّجَهَا فِي الْإِسْلَامِ خَالِدُ بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيَّةَ (4) .
قَالَ الشَّعْبِيُّ: وَكَانَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ امْرَأَةُ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ أَسْلَمَتْ وَلَحِقَتْ
__________
(1) انظر: ابن كثير: 4 / 351، الدر المنثور: 8 / 137، القرطبي: 18 / 62.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) أخرجه الطبري: 28 / 72. وانظر: ابن كثير: 4 / 352.(8/98)
وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقَامَ أَبُو الْعَاصِ بِمَكَّةَ مُشْرِكًا، ثُمَّ أَتَى الْمَدِينَةَ فَأَسْلَمَ، فَرَدَّهَا عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1)
{وَاسْأَلُوا} أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ {مَا أَنْفَقْتُمْ} أَيْ: إِنْ لَحِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْكُمْ بِالْمُشْرِكِينَ مُرْتَدَّةً فَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ مِنَ الْمَهْرِ إِذَا مَنَعُوهَا مِمَّنْ تُزَوَّجَهَا مِنْهُمْ {وَلْيَسْأَلُوا} يَعْنِي: الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَحِقَتْ أَزْوَاجُهُمْ بِكُمْ {مَا أَنْفَقُوا} مِنَ الْمَهْرِ مِمَّنْ تَزَوَجَهَا مِنْكُمْ {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَوْلَا الْهُدْنَةُ وَالْعَهْدُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لَأَمْسَكَ النِّسَاءَ وَلِمَ يَرُدَّ الصَّدَاقَ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ بِمَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمُسَلِّمَاتِ قَبْلَ الْعَهْدِ (2) فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَقَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَدَّوْا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ نَفَقَاتِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى نِسَائِهِمْ، وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُقِرُّوا بِحُكْمِ اللَّهِ فِيمَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ أَدَاءِ نَفَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ [عَلَى نِسَائِهِمْ] (3) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ}
{وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) }
{وَإِنْ فَاتَكُمْ} أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ {شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} فَلَحِقْنَ بِهِمْ مُرْتَدَّاتٍ {فَعَاقَبْتُمْ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ غَنِمْتُمْ، أَيْ غَزَوْتُمْ فَأَصَبْتُمْ مِنَ الْكُفَّارِ عُقْبَى وَهِيَ الْغَنِيمَةُ، وَقِيلَ: ظَهَرْتُمْ وَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَكُمْ، وَقِيلَ: أَصَبْتُمُوهُمْ فِي الْقِتَالِ بِعُقُوبَةٍ حَتَّى غَنِمْتُمْ، قَرَأَ حُمَيدُ الْأَعْرَجُ "فَعَقَّبْتُمْ" بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الزُّهْرِيُّ: "فَعَقَبْتُمْ" خَفِيفَةً بِغَيْرِ أَلْفٍ وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ " فَأَعْقَبْتُمْ " أَيْ صَنَعْتُمْ بِهِمْ كَمَا صَنَعُوا بِكُمْ. وَكُلُّهَا لُغَاتٌ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُقَالُ: عَاقَبَ وَعَقَّبَ وَعَقَبَ، وَأَعْقَبَ وَتَعَقَّبَ وَتَعَاقَبَ وَاعْتَقَبَ: إِذَا غَنِمَ. وَقِيلَ: "التَّعْقِيبُ": غَزْوَةٌ بَعْدَ غَزْوَةٍ {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ} إِلَى الْكُفَّارِ مِنْكُمْ {مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} عَلَيْهِنَّ مِنَ الْغَنَائِمِ الَّتِي صَارَتْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ. وَقِيلَ: فَعَاقَبْتُمُ الْمُرْتَدَّةَ بِالْقَتْلِ.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لِحِقَ بِالْمُشْرِكِينَ مِنْ نِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ سِتُّ نِسْوَةٍ: أُمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَانَتْ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ شَدَّادٍ الْفِهْرِيِّ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 136 لعبد بن حميد. وذكره ابن كثير في التفسير: 4 / 352. وراجع ما كتبه الحافظ ابن عبد البر في التمهيد: 12 / 19-35، وانظر إرواء الغليل: 6 / 339-341.
(2) أخرجه الطبري: 28 / 74. وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 136-137 عزوه لعبد بن حميد وأبي داود في ناسخه وابن المنذر.
(3) ساقط من "أ".(8/99)
ابن الْمُغِيرَةِ أُخْتُ أُمِّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَلَمَّا أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يُهَاجِرَ أَبَتْ وَارْتَدَتْ، وَبَرْوَعُ بِنْتُ عُقْبَةَ، كَانَتْ تَحْتَ شَمَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ، وَعَزَّةُ بن عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ نَضْلَةَ، وَزَوْجُهَا عمرو ابن عبدود، وَهِنْدُ بِنْتُ أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، كَانَتْ تَحْتَ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ بْنِ وَائِلٍ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ جَرْوَلٍ، كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَكُلُّهُنَّ رَجَعْنَ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَأَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَزْوَاجَهُنَّ مُهُورَ نِسَائِهِمْ مِنَ الْغَنِيمَةِ (1) .
{وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} وَاخْتَلَفَ الْقَوْلُ فِي أَنَّ رَدَّ مَهْرِ مَنْ أَسْلَمَتْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، كَانَ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا؟ .
وَأَصْلُهُ أَنَّ الصُّلْحَ هَلْ كَانَ وَقْعَ عَلَى رَدِّ النِّسَاءِ؟ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ وَقَعَ عَلَى رَدِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ جَمِيعًا لِمَا رُوِّينَا: أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا أَحَدٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا ثُمَّ صَارَ الْحُكْمُ فِي رَدِّ النِّسَاءِ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ: "فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ" فَعَلَى هَذِهِ كَانَ رَدُّ الْمَهْرِ وَاجِبًا.
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: أَنَّ الصُّلْحَ لَمْ يَقَعْ عَلَى رَدِّ النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ: أَنَّهُ لَا يَأْتِيكَ مِنَّا رَجُلٌ وَإِنْ كَانَ عَلَى دِينِكَ إِلَّا رَدَدْتَهُ إِلَيْنَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْفِتْنَةِ فِي الرَّدِّ مَا يُخْشَى عَلَى الْمَرْأَةِ مِنْ إِصَابَةِ الْمُشْرِكِ إِيَّاهَا وَأَنَّهُ لَا يُؤَمَنُ عَلَيْهَا الرِّدَّةُ إِذَا خُوِّفَتْ، وَأُكْرِهَتْ عَلَيْهَا لِضَعْفِ قَلْبِهَا وَقِلَّةِ هِدَايَتِهَا إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهَا بِإِظْهَارِ كَلِمَةِ الْكُفْرِ مَعَ التَّوْرِيَةِ، وَإِضْمَارِ الْإِيمَانِ وَلَا يُخْشَى ذَلِكَ عَلَى الرَّجُلِ لِقُوَّتِهِ وَهِدَايَتِهِ إِلَى التَّقِيَّةِ، فَعَلَى هَذَا كَانَ رَدُّ الْمَهْرِ مَنْدُوبًا. وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ الْيَوْمَ فِي رَدِّ الْمَالِ إِذَا شُرِطَ فِي مُعَاقَدَةِ الْكُفَّارِ؟ فَقَالَ قَوْمٌ: لَا يَجِبُ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ. وَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ وَيُرَدُّ إِلَيْهِمْ مَا أَنْفَقُوا.
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 8 / 257.(8/100)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} الْآيَةَ. وَذَلِكَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ، وَهُوَ عَلَى الصَّفَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَهُوَ يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُبَلِّغُهُنَّ عَنْهُ وَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ مُتَنَقِّبَةٌ مُتَنَكِّرَةٌ مَعَ النِّسَاءِ خَوْفًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَعْرِفَهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُبَايِعْكُنَّ "عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكْنَ بِاللَّهِ(8/100)
شَيْئًا" فَرَفَعَتْ هِنْدٌ رَأْسَهَا وَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَأْخُذُ عَلَيْنَا أَمْرًا مَا رَأَيْنَاكَ أَخَذْتَهُ عَلَى الرِّجَالِ، وَبَايَعَ الرِّجَالَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالْجِهَادِ فَقَطْ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَلَا يَسْرِقْنَ" فَقَالَتْ هِنْدٌ: إِنَّ أَبَا سُفْيَانَ رَجُلٌ شَحِيحٌ وَإِنِّي أَصَبْتُ مِنْ مَالِهِ هَنَاتٍ، فَلَا أَدْرِي أَيَحِلُّ لِي أَمْ لَا؟ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانُ: مَا أَصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا غَبَرَ فَهُوَ لَكِ حَلَالٌ، فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَرَفَهَا فَقَالَ لَهَا: وَإِنَّكِ لَهِنْدُ بِنْتُ عَتْبَةَ؟ قَالَتْ: نَعَمْ فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ، فَقَالَ: "وَلَا يَزْنِينَ" فَقَالَتْ هِنْدٌ: أَوَ تَزْنِي الْحُرَّةُ؟ فَقَالَ: "وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ" فَقَالَتْ هِنْدٌ: رَبَّيْنَاهُنَّ صِغَارًا وَقَتَلْتُمُوهُمْ كِبَارًا فَأَنْتُمْ وَهُمْ أَعْلَمُ، وَكَانَ ابْنُهَا حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ قَدْ قُتِلَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَضَحِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى اسْتَلْقَى، وَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ" -وَهِيَ أَنْ تَقْذِفَ وَلَدًا عَلَى زَوْجِهَا لَيْسَ مِنْهُ-قَالَتْ هِنْدٌ: وَاللَّهِ إِنَّ الْبُهْتَانَ لَقَبِيحٌ وَمَا تَأْمُرُنَا إِلَّا بِالرُّشْدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ: "وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ" قَالَتْ هِنْدٌ: مَا جَلَسْنَا مَجْلِسَنَا هَذَا وُفِي أَنْفُسِنَا أَنْ نَعْصِيَكَ فِي شَيْءٍ. فَأَقَرَّ النِّسْوَةُ بِمَا أُخِذَ عَلَيْهِنَّ (1) قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} أَرَادَ وَأْدَ الْبَنَاتِ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أهل الجاهلية 162/ب قَوْلُهُ {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَهْيَهُنَّ عَنِ الزِّنَا لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَلْتَقِطَ مَوْلُودًا وَتَقُولَ لِزَوْجِهَا هَذَا وَلَدِي مِنْكَ فَهُوَ الْبُهْتَانُ الْمُفْتَرَى بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ لِأَنَّ الْوَلَدَ إِذَا وَضَعَتْهُ الْأُمُّ سَقَطَ بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا. قَوْلُهُ {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} أَيْ فِي كُلِّ أَمْرٍ وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ. قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: فِي كُلِّ أَمْرٍ فِيهِ رُشْدُهُنَّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَخْلُو الْمَرْأَةُ بِالرِّجَالِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْكَلْبِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هُوَ النَّهْيُ عَنِ النَّوْحِ وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَتَمْزِيقِ الثَّوْبِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ وَنَتْفِهِ وَخَمْشِ الْوَجْهِ، وَلَا تُحَدِّثُ الْمَرْأَةُ الرِّجَالَ إِلَّا ذَا مَحْرَمٍ، وَلَا تَخْلُو بِرَجُلٍ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ إِلَّا مَعَ ذِي مَحْرَمٍ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا
__________
(1) ذكره ابن كثير في تفسيره: 4 / 354-355 ثم قال: "وهذا أثر غريب وفي بعضه نكارة والله أعلم" وانظر البحر المحيط 8 / 258.(8/101)
مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ عَنْ حَفْصَةَ بِنْتِ سِيرِينَ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ عَلَيْنَا "أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا" وَنَهَانَا عَنِ النِّيَاحَةِ، فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يَدَهَا فَقَالَتْ: أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةٌ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا فَمَا قَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَيْئًا فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ وَبَايَعَهَا (1)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ الدَّيْنَوَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا أَبَانُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَبِي كَثِيرٍ أَنَّ زَيْدًا حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا سَلَامٍ حَدَّثَهُ أَنَّ أَبَا مَالِكٍ الْأَشْعَرِيَّ حَدَّثَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالِاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ وَالنِّيَاحَةُ". وَقَالَ: "النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تَقُومُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ" (2)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَفْصٍ، حَدَّثَنَا أَبِي أَخْبَرَنَا الْأَعْمَشُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُرَّةَ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَشَقَّ الْجُيُوبَ وَدَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ" (3) قَوْلُهُ: {فَبَايِعْهُنَّ} يَعْنِي إِذَا بَايَعْنَكَ فَبَايِعْهُنَّ {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنِي مَحْمُودٌ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ: "لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا" قَالَتْ: وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ إِلَّا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا (4)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الممتحنة، باب (إذا جاءك المؤمنات يبايعنك) 8 / 637.
(2) أخرجه أبو يعلى في مسنده: 2 / 235، ومسلم في الجنائز، باب التشديد في النياحة برقم: (934) : 2 / 644، والمصنف في شرح السنة: 5 / 437.
(3) أخرجه البخاري في الجنائز، باب: ليس منا من ضرب الخدود: 3 / 166، ومسلم في الإيمان، باب تحريم ضرب الخدود برقم: (103) : 1 / 99، والمصنف في شرح السنة: 5 / 436.
(4) أخرجه البخاري في الأحكام، باب في بيعة النساء: 13 / 203، ومسلم في الإمارة، باب كيفية بيعة النساء برقم: (1866) : 3 / 1489، وعبد الرزاق في المصنف: 6 / 7.(8/102)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
حَمْدُونٍ، أَخْبَرَنَا مَكِّيُّ بْنُ عَبْدَانَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ ابن الْمُنْكَدِرِ، سَمِعَ أُمَيْمَةَ بِنْتَ رُقَيَّةَ تَقُولُ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي نِسْوَةٍ، فَقَالَ لَنَا: فِيمَا اسْتَطَعْتُنَّ وَأَطَقْتُنَّ، فَقُلْتُ: رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْحَمُ بِنَا مِنْ أَنْفُسِنَا قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بَايِعْنَا قَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي صَافِحْنَا فَقَالَ: "إِنِّي لَا أُصَافِحُ النِّسَاءَ، إِنَّمَا قَوْلِي لِامْرَأَةٍ كَقَوْلِي لِمِائَةِ امْرَأَةٍ" (1)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} وَهَمُّ الْيَهُودُ، وَذَلِكَ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْيَهُودَ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ يَتَوَصَّلُونَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَيُصِيبُونَ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ (2) {قَدْ يَئِسُوا} يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ {مِنَ الْآخِرَةِ} بِأَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهَا ثَوَابٌ وَخَيْرٌ {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} أَيْ: كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ مَاتُوا وَصَارُوا فِي الْقُبُورِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَظٌّ وَثَوَابٌ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْكُفَّارُ حِينَ دَخَلُوا قُبُورَهُمْ أَيِسُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ مَاتُوا فَعَايَنُوا الْآخِرَةَ. وَقِيلَ: كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَيْهِمْ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في السير، باب ما جاء في بيعة النساء: 5 / 220 وقال: "هذا حديث حسن صحيح"، والنسائي في البيعة، باب بيعة النساء: 7 / 149، وابن ماجه في الجهاد، باب بيعة النساء برقم (2874) : 2 / 959، والإمام أحمد: 6 / 357، والإمام مالك في الموطأ: 2 / 982، وعبد الرزاق في المصنف: 6 / 7، وابن حبان برقم: (12) صفحة (34) . وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم (259) .
(2) انظر: البحر المحيط: 8 / 259.(8/103)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)
سُورَةُ الصَّفِّ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) }
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: لَوْ عَلِمْنَا أحب الأعمال أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَعَمِلْنَاهُ، وَلِبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا وَأَنْفُسَنَا. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا" فَابْتُلُوا بِذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى "لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ" (2)
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَوَابِ شُهَدَاءِ بَدْرٍ، [قَالَتِ الصَّحَابَةُ] (3) لَئِنْ لَقِينَا بَعْدَهُ قِتَالًا لِنُفْرِغَنَّ فِيهِ وُسْعَنَا فَفَرُّوا يَوْمَ أُحُدٍ فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ (4)
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي [شَأْنِ] (5) الْقِتَالِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ: قَاتَلْتُ وَلَمْ يُقَاتِلْ
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 8 / 261.
(2) أخرج الطبري روايات عدة: 28 / 83 -84، وانظر: ابن كثير: 4 / 359. وعزا السيوطي هذه الرواية في الدر المنثور: 8 / 146 لابن أبي حاتم. وانظر الواحدي ص: (492) .
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) انظر: القرطبي: 18 / 78.
(5) في "أ": بيان.(8/104)
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)
وَطَعَنْتُ وَلَمْ يَطْعَنْ، وَضَرَبْتُ وَلَمْ يَضْرِبْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ (1) قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يَعِدُونَ النَّصْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ كَاذِبُونَ (2) {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا} فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ فَهُوَ كَقَوْلِكَ: بِئْسَ رَجُلًا أَخُوكَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَيْ عَظُمَ ذَلِكَ فِي الْمَقْتِ وَالْبُغْضِ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ: إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ بُغْضًا شَدِيدًا أَنْ تَقُولُوا {مَا لَا تَفْعَلُونَ} أَنْ تَعِدُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ تُوَّفُوا بِهِ.
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) }
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} أَيْ يَصُفُّونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ القتال صفًا 163/أوَلَا يَزُولُونَ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} قَدْ رُصَّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ [أَيْ أُلْزِقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ] (3) وَأُحْكِمَ فَلَيْسَ فِيهِ فُرْجَةٌ وَلَا خَلَلٌ. وَقِيلَ كَالرَّصَاصِ. {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ: {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} وَذَلِكَ حِينَ رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} وَالرَّسُولُ يُعَظَّمُ [وَيُكَرَّمُ] (4) وَيُحْتَرَمُ {فَلَمَّا زَاغُوا} عَدَلُوا عَنِ الْحَقِّ {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أَمَالَهَا عَنِ الْحَقِّ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْحَقَّ بِإِيذَاءِ نَبِيِّهِمْ أَمَالَ اللَّهُ قُلُوبَهَمْ عَنِ الْحَقِّ {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي لَا يَهْدِي مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ فَاسِقٌ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 28 / 84-85، وذكره ابن كثير: 4 / 359. وانظر: البحر المحيط: 8 / 261.
(2) ذكره الطبري: 28 / 85 وقال مرجحا: "وأولى هذه الأقوال بتأويل الآية قول من قال: عنى بها الذين قالوا: لو عرفنا أحب الأعمال إلى الله لعملنا به، ثم قصروا في العمل بعد ما عرفوا"، وانظر البحر المحيط 8 / 261.
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(4) ما بين القوسين زيادة من "ب".(8/108)
وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) }
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} وَالْأَلِفُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحَمْدِ، وَلَهُ وَجْهَانِ:(8/108)
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ مِنَ الْفَاعِلِ، أَيِ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ حَمَّادُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ أَكْثَرُ حَمْدًا لِلَّهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ فِي الْمَفْعُولِ، أَيِ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ مَحْمُودُونَ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ وَهُوَ [أَكْثَرُهُمْ مُبَالَغَةً] (1) وَأَجْمَعُ لِلْفَضَائِلِ وَالْمَحَاسِنِ الَّتِي يُحْمَدُ بها. {فَلَمَّا جَاءَتهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} .
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} .
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} . {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} . قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ "تُنَجِّيكُمْ" بِالتَّشْدِيدِ وَالْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} . نَزَلَ هَذَا حِينَ قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَعَمِلْنَاهُ (2) وَجَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُمْ يَرْبَحُونَ بِهَا رِضَا اللَّهِ وَنَيْلَ جَنَّتِهِ وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ. ثُمَّ بَيَّنَ تِلْكَ التِّجَارَةَ فَقَالَ:
{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
__________
(1) في "ب": (أكثرهم مبالغة مناقب) .
(2) انظر: الدر المنثور: 8 / 149.(8/109)
وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) } {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} . أَيْ: وَلَكُمْ خَصْلَةٌ أُخْرَى فِي الْعَاجِلِ مَعَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ تُحِبُّونَهَا وَتِلْكَ الْخَصْلَةُ: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} . قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ النَّصْرُ عَلَى قُرَيْشٍ، وَفَتْحُ مَكَّةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ فَتْحَ فَارِسَ وَالرُّومِ. {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} . يَا مُحَمَّدُ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ. ثُمَّ حَضَّهُمْ عَلَى نَصْرِ الدِّينِ وَجِهَادِ الْمُخَالِفِينَ فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} . قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَبُو عَمْرٍو: "أَنْصَارًا" بِالتَّنْوِينِ "لِلَّهِ" بِلَامِ الْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "أَنْصَارَ اللَّهِ" مُضَافًا لِقَوْلِهِ: "نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ".
{كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} . أَيِ انْصُرُوا دِينَ اللَّهِ مِثْلَ نُصْرَةِ الْحَوَارِيِّينَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} .؟ أَيْ: مَنْ يَنْصُرُنِي مَعَ اللَّهِ؟ {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي فِي زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رُفِعَ تَفَرَّقَ قَوْمُهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَالُوا: كَانَ اللَّهَ فَارْتَفَعَ، وَفِرْقَةٌ قَالُوا: كَانَ ابْنَ اللَّهِ فَرَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ، وَفِرْقَةٌ قَالُوا: كَانَ عَبْدَ اللَّهِ وَرَسُولَهُ فَرَفَعَهُ إِلَيْهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَاتَّبَعَ كُلَّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَاقْتَتَلُوا فَظَهَرَتِ الْفِرْقَتَانِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَظَهَرَتِ الْفِرْقَةُ الْمُؤْمِنَةُ عَلَى الْكَافِرَةِ (1) فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} . عَالِينَ غَالِبِينَ. وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: فَأَصْبَحَتْ حُجَّةُ مِنْ آمَنَ بِعِيسَى ظَاهِرَةً بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ (2) .
__________
(1) انظر: الطبري: 28 / 92، ابن كثير: 4 / 363.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 150 لعبد بن حميد وابن المنذر.(8/110)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3)
سُورَةُ الْجُمُعَةِ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) }
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} يَعْنِي الْعَرَبَ كَانَتْ أُمَّةً أُمِّيَّةً لَا تَكْتُبُ وَلَا تَقْرَأُ {رَسُولًا مِنْهُمْ} يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَبُهُ نَسَبُهُمْ [وَلِسَانُهُ لِسَانُهُمْ لِيَكُونَ أَبْلَغَ فِي إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ] (2) {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أَيْ مَا كَانُوا قَبْلَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ. {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} وَفِي "آخَرِينَ" وَجْهَانِ مِنَ الْإِعْرَابِ: أَحَدُهُمَا الْخَفْضُ، عَلَى الرَّدِّ إِلَى الْأُمِّيِّينَ مَجَازُهُ: وَفِي آخَرِينَ. وَالثَّانِي النَّصْبُ، عَلَى الرَّدِّ إِلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي قَوْلِهِ "وَيُعَلِّمُهُمُ" أَيْ: وَيُعَّلِمُ آخَرِينَ مِنْهُمْ، أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدِينُونَ بِدِينِهِمْ، لِأَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا صَارُوا مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْعَجَمُ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَرِوَايَةُ لَيْثٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مَا: أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْمُعَلِّمُ الطُّوسِيُّ بِهَا حَدَّثَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة الجمعة بالمدينة. انظر: الدر المنثور: 8 / 151.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/111)
ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)
يَعْقُوبَ، أَخْبَرَنَا أَبُو النَّصْرِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ سُفْيَانَ، وَعَلِيُّ بْنُ طَيْفُورَ، وَأَبُو الْعَبَّاسِ الثَّقَفِيُّ قَالُوا: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ، عَنْ ثَوْرٍ، عَنْ أَبِي الْغَيْثِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ نَزَلَتْ سُورَةُ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا قَرَأَ: "وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ" قَالَ رَجُلٌ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَأَلَهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا قال: وفينا سليمان الْفَارِسِيُّ قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: "لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ" (1)
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ الطَّاهِرِيُّ، أَخْبَرَنَا جَدِّي عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْبَزَّارُ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْعُذَافِرِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ الدَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنْ جَعْفَرٍ الْجَزَرِيِّ عَنْ يَزِيدَ بْنِ الْأَصَمِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ كَانَ الدِّينُ عِنْدَ الثُّرَيَّا لَذَهَبَ إِلَيْهِ رَجُلٌ، أَوْ قَالَ: رِجَالٌ، مِنْ أَبْنَاءِ فَارِسَ حَتَّى يَتَنَاوَلُوهُ" (2) وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: هُمُ التَّابِعُونَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. إِلَى يَوْمِ القيامة وهي 163/ب رِوَايَةُ [ابْنُ] (3) أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. قَوْلُهُ {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} أَيْ [لَمْ] (4) يُدْرِكُوهُمْ وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُونَ بَعْدَهُمْ. وَقِيلَ: "لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ" أَيْ فِي الْفَضْلِ وَالسَّابِقَةِ لِأَنَّ التَّابِعِينَ لَا يُدْرِكُونَ شَأْوَ الصَّحَابَةِ. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) }
{ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} يَعْنِي الْإِسْلَامَ وَالْهِدَايَةَ. {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} أَيْ كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِهَا وَالْعَمَلَ بِمَا فِيهَا {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا وَلَمْ يُؤَدُّوا حَقَّهَا {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} أَيْ كُتُبًا مِنْ
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الجمعة: 8 / 641، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل فارس برقم: (2546) : 4 / 1972، والمصنف في شرح السنة: 14 / 199 - 200.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف في كتاب الجامع، باب قبائل العجم: 11 / 66، ومسلم في فضائل الصحابة، باب فضل فارس برقم: (2546) : 4 / 1972، والمصنف في شرح السنة: 14 / 199 - 200.
(3) ساقط من "أ".
(4) ساقط من "ب".(8/114)
قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
الْعِلْمِ، وَاحِدُهَا سِفْرٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ الْكُتُبُ الْعِظَامُ (1) يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْحِمَارَ يَحْمِلُهَا وَلَا يَدْرِي مَا فِيهَا وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا كَذَلِكَ الْيَهُودُ يَقْرَؤُنَّ التَّوْرَاةَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا مَا فِيهَا {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، يَعْنِي مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ لَا يَهْدِيهِمْ.
{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) }
__________
(1) معاني القرآن للفراء: 3 / 155.(8/115)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) }
{قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} مِنْ دُونِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} فَادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ، أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فَإِنَّ الْمَوْتَ هُوَ الَّذِي يُوصِلُكُمْ إِلَيْهِ. {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} أَيْ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ كَقَوْلِهِ: "أَرَوْنِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَيْ فِي الْأَرْضِ" [أَيْ فِي الْأَرْضِ] (1) وَأَرَادَ بِهَذَا النِّدَاءِ الْأَذَانَ عِنْدَ قُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِلْخُطْبَةِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ السَّائِبِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ: كَانَ النِّدَاءُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَوَّلُهُ إِذَا جَلَسَ الْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ وَكَثُرَ النَّاسُ زَادَ النِّدَاءَ الثَّانِي عَلَى الزَّوْرَاءِ (2)
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أخرجه البخاري في الجمعة، باب الأذان يوم الجمعة: 2 / 393، والمصنف في شرح السنة: 4 / 244.(8/115)
قَرَأَ الْأَعْمَشُ: "مِنْ يَوْمِ الْجُمْعَةِ" بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِضَمِّهَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي تَسْمِيَةِ هَذَا الْيَوْمِ جُمُعَةً، مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَمَعَ فِيهِ خَلْقَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى فَرَغَ مِنْ خَلْقِ الْأَشْيَاءِ فَاجْتَمَعَتْ فِيهِ الْمَخْلُوقَاتُ. وَقِيلَ: لِاجْتِمَاعِ الْجَمَاعَاتِ فِيهِ. وَقِيلَ: لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا لِلصَّلَاةِ.
وَقِيلَ: أَوَّلُ مَنْ سَمَّاهَا جُمُعَةً كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: أَوَّلُ مَنْ قَالَ "أَمَّا بَعْدُ" كَعْبُ بْنُ لُؤَيٍّ وَكَانَ أَوَّلُ مَنْ سَمَّى الْجُمُعَةَ جُمُعَةً، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ يَوْمُ الْعَرُوبَةِ.
وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ قَالَ: جَمَعَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ. وَقَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْجُمُعَةَ وَهُمَ الَّذِينَ سَمُّوهَا الْجُمُعَةَ. وَقَالُوا: لِلْيَهُودِ يَوْمٌ يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كُلَّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، وَلِلنَّصَارَى يَوْمٌ، فَهَلُمَّ فَلْنَجْعَلْ يَوْمًا نَجْتَمِعُ فِيهِ، فَنَذْكُرُ اللَّهَ وَنُصَّلِي فِيهِ، فَقَالُوا: يَوْمُ السَّبْتِ لِلْيَهُودِ، وَيَوْمُ الْأَحَدِ لِلنَّصَارَى، فَاجْعَلُوهُ يَوْمَ الْعَرُوبَةِ، فَاجْتَمَعُوا إِلَى أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ فَصَلَّى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ وَذَكَّرَهُمْ فَسَمُّوهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ بَعْدُ (1) .
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِيهِ كَعْبٍ، أَنَّهُ كَانَ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ تَرَحَّمَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ، فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا سَمِعْتَ النِّدَاءَ تَرَحَّمْتَ لِأَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ بِنَا فِي هَزْمِ النَّبِيتِ مِنْ حَرَّةِ بَنِي بَيَاضَةَ فِي بَقِيعٍ يُقَالُ لَهُ بَقِيعُ الْخَضِمَاتِ، قُلْتُ لَهُ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمئِذٍ؟ قَالَ: أَرْبَعُونَ (2) وَأَوَّلُ جُمُعَةٍ جَمَعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَصْحَابِهِ عَلَى مَا ذَكَرَ أَهْلُ السِّيَرِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا نَزَلَ قَبَاءً عَلَى بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، وَذَلِكَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِثِنْتَيْ عَشْرَةَ [لَيْلَةً] (3) خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ حِينَ امْتَدَّ الضُّحَى، فَأَقَامَ بِقَبَاءٍ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ وَيَوْمَ الْخَمِيسِ، وَأَسَّسَ مَسْجِدَهُمْ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَامِدًا الْمَدِينَةَ، فَأَدْرَكَتْهُ صَلَاةُ الْجُمُعَةُ فِي بَنِي سَالِمِ بْنِ عَوْفٍ فِي بَطْنِ وَادٍ لَهُمْ، وَقَدِ اتَّخَذَ الْيَوْمَ فِي ذَلِكَ الْمَوْضِعِ مَسْجِدًا، فَجَمَعَ هُنَاكَ وَخَطَبَ (4)
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 3 / 159.
(2) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الجمعة في القرى: 2 / 10، والبيهقي: 3 / 176 - 177، وابن ماجه في الإقامة، باب في فرض الجمعة برقم: (1082) : 1 / 343 - 344، والحاكم: 1 / 281.
(3) زيادة من "ب".
(4) انظر: البحر المحيط: 8 / 267 - 268.(8/116)
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ: فَامْضُوا إِلَيْهِ وَاعْمَلُوا لَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ السَّعْيِ الْإِسْرَاعَ، إِنَّمَا الْمُرَادُ مِنْهَا الْعَمَلُ وَالْفِعْلُ، كَمَا قَالَ: "وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ" (الْبَقَرَةِ -205) وَقَالَ: "إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى" (اللَّيْلِ -4) .
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقْرَأُ: فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (1) . وَقَالَ الْحَسَنُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالسَّعْي عَلَى الْأَقْدَامِ، وَلَقَدْ نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الصَّلَاةَ إِلَّا وَعَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، وَلَكِنْ بِالْقُلُوبِ وَالنِّيَّةِ وَالْخُشُوعِ (2)
وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: "فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" قَالَ: فَالسَّعْيُ أَنْ تَسْعَى بِقَلْبِكَ وَعَمَلِكَ وَهُوَ الْمَشْيُ إِلَيْهَا (3) وَكَانَ يَتَأَوَّلُ قَوْلَهُ: "فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ" (الصَّافَاتِ -102) يَقُولُ فَلَمَّا مَشَى مَعَهُ.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو [عَلِيٍّ] (4) الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْحِيرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ مَعْقِلٍ الْمَيْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أُقِيمَتِ الصَّلَاةُ فَلَا تَأْتُوهَا تَسْعَوْنَ، وَلَكِنِ ائْتُوهَا تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمُ السَّكِينَةُ [وَالْوَقَارُ] (5) فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمِّوهَا" (6) قَوْلُهُ {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أَيْ إِلَى الصَّلَاةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: "فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ" قَالَ هُوَ مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ {وَذَرُوا الْبَيْعَ} يَعْنِي الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا. وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ عِنْدَ الْأَذَانِ الثَّانِي وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ حَرُمَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ {ذَلِكُمْ} الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ وَتَرْكِ الْبَيْعِ، {خَيْرٌ لَكُمْ} مِنَ الْمُبَايَعَةِ {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} مَصَالِحَ أَنْفُسِكُمْ.
__________
(1) أخرجه الطبري: 28 / 100، وذكره ابن كثير: 4 / 366.
(2) ذكره ابن كثير: 4 / 368.
(3) أخرجه الطبري: 28 / 99 - 100.
(4) ساقط من "أ".
(5) ساقط من "أ".
(6) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 2 / 211. وأخرجه البخاري في الجمعة، باب المشي إلى الجمعة: 2 / 390، ومسلم في المساجد، باب استحباب إتيان الصلاة بوقار وسكينة والنهي عن إتيانها سعيا، برقم (602) : 1 / 420 - 421، والمصنف في شرح السنة: 2 / 316.(8/117)
وَاعْلَمْ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ، فَتَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ جَمَعَ الْعَقْلَ، وَالْبُلُوغَ، وَالْحُرِّيَّةَ وَالذُّكُورَةَ وَالْإِقَامَةَ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عُذْرٌ. وَمَنْ تَرَكَهَا اسْتَحَقَّ الْوَعِيدَ.
وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْزَمَهُمَا فَرْضُ الْأَبْدَانِ لِنُقْصَانِ أَبْدَانِهِمَا، ولا جمعة 164/أعَلَى النِّسَاءِ بِالِاتِّفَاقِ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنِي سَلَمَةُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَطْمِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا مِنْ بَنِي وَائِلٍ يَقُولُ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ إِلَّا امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَمْلُوكًا" (1) وَذَهَبَ أَكْثَرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ لَا جُمُعَةَ عَلَى الْعَبِيدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالْأَوْزَاعِيُّ: تَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْمُخَارَجِ، وَلَا تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ.
وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَالزُّهْرِيُّ: تَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ، وَكُلُّ مَنْ لَهُ عُذْرٌ مِنْ مَرِضٍ أَوْ تَعَهُّدِ مَرِيضٍ أَوْ خَوْفٍ، جَازَ لَهُ تَرْكُ الْجُمُعَةِ، وَكَذَلِكَ لَهُ تَرْكُهَا بِعُذْرِ الْمَطَرِ وَالْوَحْلِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ [حَدَّثَنَا مُسَدَّدُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ] (2) أَخْبَرَنِي عَبْدُ الْحَمِيدِ صَاحِبُ الزِّيَادَيِّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ عُمَرَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ لِمُؤَذِّنِهِ فِي يَوْمٍ مَطِيرٍ: إِذَا قُلْتَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ، فَلَا تَقُلْ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ. قُلْ: صَلُّوا فِي بُيُوتِكُمْ. فَكَأَنَّ النَّاسَ اسْتَنْكَرُوا فَقَالَ: فَعَلَهُ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي إِنَّ الْجُمُعَةَ عَزْمَةٌ، وَإِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أُخْرِجَكُمْ فَتَمْشُوا فِي الطِّينِ وَالدَّحْضَ (3) .
وَكُلُّ مَنْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، فَإِذَا حَضَرَ وَصَلَّى مَعَ الْإِمَامِ [الْجُمُعَةَ] (4) سَقَطَ عَنْهُ فَرْضُ الظُّهْرِ، وَلَكِنْ لَا يَكْمُلُ بِهِ عَدَدُ الْجُمُعَةِ إِلَّا صَاحِبَ الْعُذْرِ، فَإِنَّهُ إِذَا حَضَرَ يَكْمُلُ بِهِ الْعَدَدُ.
__________
(1) أخرجه الشافعي في مسنده: 1 / 130، والبيهقي في السنن: 3 / 183 وقال: هذا الحديث وإن كان فيه إرسال فهو مرسل جيد وله شواهد، ثم ساقها واعترضه ابن التركاني في الجوهر النقي: 3 / 183 - 184. والمصنف في شرح السنة: 4 / 223.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه البخاري في الأذان، باب هل يصلي الإمام بمن حضر وهل يخطب يوم الجمعة في المطر: 2 / 157، ومسلم في صلاة المسافرين، باب الصلاة في الرحال برقم: (699) : 1 / 485.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/118)
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو الْحَسَنِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ الدَّاوُدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَمُّوَيْهِ السَّرَخْسِيُّ فِي سَنَةِ إِحْدَى وَثَمَانِينَ وَثَلَثمِائَةٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ عُمَرَ بْنِ الْعَبَّاسِ السَّمَرْقَنْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمَيِّ السَّمَرْقَنْدِيِّ، أَخْبَرَنَا يَحْيَى بْنُ حَسَّانٍ حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ سَلَّامٍ، أَخْبَرَنِي زَيْدُ بْنُ سَلَّامٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا سَلَّامٍ يَقُولُ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ بْنُ مِينَا أَنَّ ابْنَ عُمَرَ حَدَّثَهُ وَأَبَا هُرَيْرَةَ أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى أَعْوَادِ مِنْبَرِهِ: "لَيَنْتَهِينَ أَقْوَامٌ عَنْ وَدْعِهِمُ الْجُمُعَاتِ أَوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ثُمَّ لَيَكُونُنَّ مِنَ الْغَافِلِينَ" (1)
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ خَشْرَمٍ، أَخْبَرَنَا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ عُبَيْدَةَ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي الْجَعْدِ يَعْنِي الضُّمَيْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَرَكَ الْجُمُعَةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ تَهَاوُنًا بِهَا طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قَلْبِهِ" (2)
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي مَوْضِعِ إِقَامَةِ الْجُمُعَةِ، وَفِي الْعَدَدِ الَّذِي تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ، وَفِي الْمَسَافَةِ الَّتِي يَجِبُ أَنْ يُؤْتَى مِنْهَا: أَمَّا الْمَوْضِعُ: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ كُلَّ قَرْيَةٍ اجْتَمَعَ فِيهَا أَرْبَعُونَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكَمَالِ، بِأَنْ يَكُونُوا أَحْرَارًا عَاقِلِينَ [بَالِغِينَ] (3) مُقِيمِينَ لَا يَظْعَنُونَ عَنْهَا شِتَاءً وَلَا صَيْفًا إِلَّا ظَعْنَ حَاجَةٍ، تَجِبُ عَلَيْهِمْ إِقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِيهَا. وَهُوَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ. وَقَالُوا: لَا تَنْعَقِدُ الْجُمُعَةُ بِأَقَلِّ مِنْ أَرْبَعِينَ رَجُلًا عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ، وَشَرَطَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ مَعَ عَدَدِ الْأَرْبَعِينَ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَالٍ، وَالْوَالِي غَيْرُ شَرْطٍ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. وَقَالَ عَلِيٌّ: لَا جُمُعَةَ إِلَّا فِي مِصْرٍ جَامِعٍ وَهُوَ قَوْلُ أَصْحَابِ الرَّأْيِ.
ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تَنْعَقِدُ بِأَرْبَعَةٍ، وَالْوَالِي شَرْطٌ وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو يُوسُفَ:
__________
(1) أخرجه الدارمي في الصلاة، باب فيمن يترك الجمعة من غير عذر: 1 / 306 - 307. ومسلم في الجمعة، باب التغليظ في ترك الجمعة برقم: (865) : 2 / 591، والمصنف في شرح السنة: 4 / 214 - 215.
(2) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب ما جاء في ترك الجمعة من غير عذر: 3 / 13 قال أبو عيسى: "حديث أبي الجعد حديث حسن"، وأبو داود في الصلاة، باب التشديد في ترك الجمعة: 2 / 5 -6، والنسائي في الجمعة، باب التشديد في التخلف عن الجمعة: 3 / 88 - 89، وابن ماجه في الإقامة، باب فيمن ترك الجمعة من غير عذر برقم: (1125) : 1 / 357، والبيهقي: 3 / 178، وصححه ابن حبان برقم (555) : ص (147) ، والحاكم: 1 / 280 ووافقه الذهبي، والإمام أحمد: 3 / 424، والمصنف في شرح السنة: 4 / 213.
(3) زيادة من "ب".(8/119)
تَنْعَقِدُ بِثَلَاثَةٍ إِذَا كَانَ فِيهِمْ وَالٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو ثَوْرٍ: تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْنِ كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: تَنْعَقِدُ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ إِقَامَتِهَا فِي الْقُرَى مَا: أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى، أَخْبَرَنَا أَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ الضُّبَعِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ أَوَّلَ جُمُعَةٍ جُمِعَتْ بَعْدَ جُمُعَةٍ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسْجِدِ عَبْدِ الْقَيْسِ بِجُوَاثَى مِنَ الْبَحْرَيْنِ (1)
وَإِذَا كَانَ الرَّجُلُ مُقِيمًا فِي قَرْيَةٍ لَا تُقَامُ فِيهَا الْجُمُعَةُ، أَوْ كَانَ مُقِيمًا فِي بَرِّيَّةٍ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ إِنْ كَانَ يَبْلُغُهُمُ النِّدَاءُ مِنْ مَوْضِعِ الْجُمُعَةِ يَلْزَمُهُمْ حُضُورُ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ كَانَ لَا يَبْلُغُهُمُ النِّدَاءُ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمْ. وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ. وَالشَّرْطُ أَنْ يَبْلُغَهُمْ نِدَاءُ مُؤَذِّنٍ جَهْوَرِيِّ الصَّوْتِ يُؤَذِّنُ فِي وَقْتٍ تَكُونُ الْأَصْوَاتُ فِيهِ هَادِئَةً وَالرِّيَاحُ سَاكِنَةً، وَكُلُّ قَرْيَةٍ تَكُونُ فِي مَوْضِعِ الْجُمُعَةِ فِي الْقُرْبِ عَلَى هَذَا الْقَدْرِ يَجِبُ عَلَى أَهْلِهَا حُضُورُ الْجُمُعَةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ آوَاهُ الْمَبِيتُ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: تَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى سِتَّةِ أَمْيَالٍ. وَقَالَ رَبِيعَةُ: عَلَى أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ. وَقَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ: عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَا جُمُعَةَ عَلَى أَهْلِ السَّوَادِ قَرِيبَةً كَانَتِ الْقَرْيَةُ أَوْ بَعِيدَةً.
وَكُلُّ مَنْ تَلْزَمُهُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَافِرَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ الزَّوَالِ قَبْلَ أَنْ يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ، وَجَوَّزَ أَصْحَابُ الرَّأْيِ أَنْ يُسَافِرَ بَعْدَ الزَّوَالِ إِذَا كَانَ يُفَارِقُ الْبَلَدَ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ.
أَمَّا إِذَا سَافَرَ قَبْلَ الزَّوَالِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَيَجُوزُ، غَيْرَ أَنَّهُ يُكْرَهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ سَفَرَ طَاعَةٍ مِنْ حَجٍّ أَوْ غَزْوٍ، وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ إِذَا أَصْبَحَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ مُقِيمًا فَلَا يُسَافِرُ حَتَّى يُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا:
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عِيسَى، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَنِيعٍ، حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ عَنِ الْحَجَّاجِ عَنِ الْحَكَمِ عَنْ مِقْسَمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فِي سَرِيَّةٍ فَوَافَقَ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَغَدَا أَصْحَابُهُ، وَقَالَ: أَتَخَلَّفُ فَأُصْلِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ أَلْحَقُهُمْ، فَلَمَّا صَلَّى مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ فَقَالَ: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَغْدُوَ مَعَ أَصْحَابِكِ؟ قَالَ: أَرَدْتُ أَنْ أُصَلِّيَ مَعَكَ ثُمَّ أَلْحَقَهُمْ، فَقَالَ: "لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا
__________
(1) أخرجه البخاري في الجمعة، باب الجمعة في القرى والمدن: 2 / 379، والمصنف في شرح السنة: 4 / 218.(8/120)
مَا أَدْرَكْتَ فَضْلَ غَدْوَتِهِمْ" (1) وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ سَمِعَ رَجُلًا عَلَيْهِ هَيْئَةُ السَّفَرِ يَقُولُ: لَوْلَا أَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ لَخَرَجْتُ، فَقَالَ عُمَرُ: اخْرُجْ فَإِنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَحْبِسُ عَنْ سِفْرٍ (2)
وَقَدٍّ وَرَدَ أَخْبَارٌ فِي سُنَنِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَفَضْلِهِ مِنْهَا: مَا أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عن مالك 164/ب عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْهَادِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيِّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: خَرَجْتُ إِلَى [الطَّوْرِ] (3) فَلَقِيتُ كَعْبَ الْأَحْبَارِ، فَجَلَسْتُ مَعَهُ فَحَدَّثَنِي عَنِ التَّوْرَاةِ، وَحَدَّثْتُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ فِيمَا حَدَّثْتُهُ أَنْ قُلْتُ لَهُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُهْبِطَ وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ، وَفِيهِ مَاتَ وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ مُصِيخَةٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مِنْ حِينِ تُصْبِحُ حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنَ السَّاعَةِ إِلَّا الْجِنُّ وَالْإِنْسُ وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ" قَالَ كَعْبٌ: ذَلِكَ فِي كُلِّ سَنَةٍ يَوْمٌ، فَقُلْتُ: بَلْ فِي كُلِّ جُمُعَةٍ، قَالَ: فَقَرَأَ كَعْبٌ التَّوْرَاةَ فَقَالَ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: ثُمَّ لَقِيتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَّامٍ فَحَدَّثْتُهُ بِمَجْلِسِي مَعَ كَعْبِ الْأَحْبَارِ وَمَا حَدَّثْتُهُ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ: قَدْ عَلِمْتُ أَيَّةَ سَاعَةٍ هِيَ هِيَ آخَرُ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَكَيْفَ تَكُونُ آخَرَ سَاعَةٍ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ! وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي" وَتِلْكَ سَاعَةٌ لَا يُصَلَّى فِيهَا؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَّامٍ: أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ جَلَسَ مَجْلِسًا يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ فَهُوَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يُصَلِّيَهَا؟ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: بَلَى، قَالَ: فَهُوَ ذَاكَ (4) .
__________
(1) حديث ضعيف أخرجه الترمذي في الصلاة، باب ما جاء في السفر يوم الجمعة: 3 / 65 - 66 قال أبو عيسى: "هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه"، قال علي بن المديني: قال يحيى بن سعيد: قال شعبة: "لم يسمع الحكم من مقسم إلا خمسة أحاديث وعدها شعبة وليس هذا الحديث فيما عدها شعبة. وكأن هذا الحديث لم يسمعه الحكم من مقسم". وفيه أيضا الحجاج بن أرطاة وهو ضعيف. وأخرجه الإمام أحمد مختصرا: 1 / 256، والبيهقي: 3 / 187، والمصنف في شرح السنة: 4 / 227.
(2) أخرجه الشافعي في مسنده: 1 / 150، وعبد الرزاق في المصنف: 3 / 250، والبيهقي في السنن: 3 / 187.
(3) في "ب" الطريق.
(4) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجمعة، باب ما جاء في الساعة التي في يوم الجمعة: 1 / 108 - 109، وأبو داود في الصلاة، باب فضل يوم الجمعة وليلة الجمعة: 2 / 3، والترمذي في الصلاة، باب ما جاء في الساعة التي ترجى في يوم الجمعة: 2 / 618 - 619 وقال: "هذا حديث صحيح"، والنسائي في الجمعة، باب ذكر الساعة التي يستجاب فيها الدعاء يوم الجمعة: 3 / 113 - 114، والشافعي في ترتيب المسند: 128 - 129، والإمام أحمد: 2 / 486، والمصنف في شرح السنة: 4 / 206 - 208.(8/121)
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِذَا جَاءَ أَحَدُكُمُ الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ" (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، عَنْ سَعِيدٍ الْمَقْبُرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ وَدِيعَةَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا يَغْتَسِلُ رَجُلٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَتَطَهَّرُ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ طُهْرٍ، وَيَدَّهِنُ مِنْ دُهْنِهِ، أَوْ يَمَسُّ مِنْ طِيبِ بَيْتِهِ، ثُمَّ يَخْرُجُ فَلَا يُفَرِّقُ بَيْنَ اثْنَيْنِ، ثُمَّ يُصَلِّي مَا كُتِبَ لَهُ، ثُمَّ يُنْصِتُ إِذَا تَكَلَّمَ الْإِمَامُ إِلَّا غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُخْرَى" (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانَيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَعَنْ أَبِي أُمَامَةَ يَعْنِي سَهْلَ بْنَ حَنِيفٍ حَدَّثَاهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاسْتَنَّ وَمَسَّ مِنْ طِيبٍ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ وَلَبِسَ مِنْ أَحْسَنِ ثِيَابِهِ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى يَأْتِيَ الْمَسْجِدَ، فَلَمْ يَتَخَطَّ رِقَابَ النَّاسِ ثُمَّ رَكَعَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْكَعَ، وَأَنْصَتَ إِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ كَانَتْ كَفَّارَةُ مَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا" (3) قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: "مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا" (الْأَنْعَامِ -160) .
أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْقَاشَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ جَعْفَرٍ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُمَرَ الْلُؤْلُؤِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَاتِمٍ الْجَرْجَرَائِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي حَسَّانُ بْنُ عَطِيَّةَ، حَدَّثَنِي أَبُو الْأَشْعَثِ الصَّنْعَانِيُّ، حَدَّثَنِي أَوْسُ بْنُ أَوْسٍ الثَّقَفِيُّ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ وَاسْتَمَعَ، وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا" (4)
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجمعة: 1 / 102 - 103، والبخاري في الجمعة، باب فضل الغسل يوم الجمعة: 2 / 356، ومسلم في الجمعة برقم: (844) : 2 / 579، والمصنف في شرح السنة: 2 / 161.
(2) أخرجه البخاري في الجمعة، باب الدهن للجمعة: 2 / 370، والمصنف في شرح السنة: 4 / 229.
(3) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة: 1 / 212، والإمام أحمد: 3 / 81، وصححه الحاكم: 1 / 283 ووافقه الذهبي. وأخرجه مسلم مختصرا من حديث أبي صالح عن أبي هريرة: 2 / 587، والمصنف في شرح السنة: 4 / 230 - 231.
(4) أخرجه أبو داود في الطهارة، باب في الغسل يوم الجمعة: 1 / 213، والترمذي في الصلاة، باب ما جاء في فضل الغسل يوم الجمعة: 3 / 3 - 4 وقال: "حديث أوس بن أوس حديث حسن وأبو الأشعث الصنعاني اسمه شراحيل بن آدة"، والنسائي في الجمعة، باب فضل المشي إلى الجمعة: 3 / 97، وابن ماجه في الإقامة، باب ما جاء في الغسل يوم الجمعة برقم (1087) : 1 / 346، والإمام أحمد: 4 / 104، والمصنف في شرح السنة: 4 / 236.(8/122)
فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ كَانَ عَلَى كُلِّ بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَسْجِدِ مَلَائِكَةٌ يَكْتُبُونَ النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمُ الْأَوَّلَ فَالْأَوَّلَ فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ طُوِيَتِ الصُّحُفُ وَاسْتَمَعُوا الْخُطْبَةَ وَالْمُهَجِّرُ إِلَى الصَّلَاةِ كَالْمُهْدِي بَدَنَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي بَقَرَةً، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي شَاةً ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ كَالْمُهْدِي كَبْشًا حَتَّى ذَكَرَ الدَّجَاجَةَ وَالْبَيْضَةَ" (1) .
{فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} أَيْ إِذَا فُرِغَ مِنَ الصَّلَاةِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} يَعْنِي الرِّزْقَ وَهَذَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ، كَقَوْلِهِ: "وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا" (الْمَائِدَةِ -2) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ شِئْتَ فَاخْرُجْ وَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ وَإِنْ شِئْتَ فَصَلِّ إِلَى الْعَصْرِ، وَقِيلَ: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لِطَلَبِ الدُّنْيَا وَلَكِنْ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَحُضُورِ جِنَازَةٍ وَزِيَارَةِ أَخٍ فِي اللَّهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَكْحُولٌ: "وَابْتَغَوْا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ" هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ.
{وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} الْآيَةَ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [أَخْبَرَنَا حُصَيْنٌ] (2) عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ وَعَنْ أَبِي سُفْيَانَ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: أَقْبَلَتْ عِيرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَثَارَ النَّاسُ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا" (3) .
__________
(1) أخرجه الشافعي: 1 / 131، والبخاري في الجمعة، باب الاستماع إلى الخطبة يوم الجمعة: 2 / 407، ومسلم في الجمعة، باب فضل التهجير يوم الجمعة برقم: (580) : 2 / 587، والمصنف في شرح السنة: 4 / 232.
(2) ساقط من "ب".
(3) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الجمعة - باب: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا) 8 / 643، ومسلم في الجمعة، باب في قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضلوا إليها وتركوك قائما) برقم: (863) : 2 / 590.(8/123)
وَيَحْتَجُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ مَنْ يَرَى [إِقَامَةَ] (1) الْجُمُعَةِ بِاثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. وَلَيْسَ فِيهِ بَيَانٌ أَنَّهُ أَقَامَ بِهِمُ الْجُمُعَةَ حَتَّى يَكُونَ حُجَّةً لِاشْتِرَاطِ هَذَا الْعَدَدِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ الْكَلْبِيِّ: لَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا ثَمَانِيَةُ رَهْطٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو مَالِكٍ: أَصَابَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ جُوعٌ وَغَلَاءُ سِعْرٍ فَقَدِمَ دَحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ بِتِجَارَةِ زَيْتٍ مِنَ الشَّامِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَامُوا إِلَيْهِ بِالْبَقِيعِ خَشُوا أَنْ يُسْبَقُوا إِلَيْهِ، فَلَمْ يَبْقَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا رَهْطٌ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ تَتَابَعْتُمْ حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ لَسَالَ بِكُمُ الْوَادِي نَارًا" (2)
وَقَالَ مقاتل: بينا 165/أرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِذْ قَدِمَ دَحْيَةُ بْنُ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيُّ مِنَ الشَّامِ بِالتِّجَارَةِ، وَكَانَ إِذَا قَدِمَ لَمْ تَبْقَ بِالْمَدِينَةِ عَاتِقٌ إِلَّا أَتَتْهُ، وَكَانَ يَقْدَمُ إِذَا قَدِمَ بِكُلِّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ دَقِيقٍ وَبُرٍّ وَغَيْرِهِ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ أَحْجَارِ الزَّيْتِ، وَهُوَ مَكَانٌ فِي سُوقِ الْمَدِينَةِ، ثُمَّ يَضْرِبُ بِالطَّبْلِ لِيُؤْذِنَ النَّاسَ بِقُدُومِهِ فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ النَّاسُ لِيَبْتَاعُوا مِنْهُ فَقَدِمَ ذَاتَ جُمُعَةٍ وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ يَخْطُبُ فَخَرَجَ إِلَيْهِ النَّاسُ فَلَمْ يَبْقَ فِي الْمَسْجِدِ إِلَّا اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كَمْ بَقِيَ فِي الْمَسْجِدِ؟ فَقَالُوا: اثْنَا عَشَرَ رَجُلًا وَامْرَأَةٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْلَا هَؤُلَاءِ لَسُوِّمَتْ لَهُمُ الْحِجَارَةُ مِنَ السَّمَاءِ" فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ (3) وَأَرَادَ بِاللَّهْوِ الطَّبْلَ.
وَقِيلَ: كَانَتِ الْعِيرُ إِذَا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ اسْتَقْبَلُوهَا بِالطَّبْلِ وَالتَّصْفِيقِ. وَقَوْلُهُ: "انْفَضُّوا إِلَيْهَا" رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ. وَقَالَ عَلْقَمَةُ: سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ قَائِمًا أَوْ قَاعِدًا؟ قَالَ: أَمَا تَقْرَأُ "وَتَرَكُوكَ قَائِمًا".
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ خُطْبَتَيْنِ قَائِمًا يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا بِجُلُوسٍ (4) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) أورده الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص (171) وقال: هكذا ذكره الواحدي عن المفسرين، وذكره الثعلبي ثم البغوي عن الحسن بغير إسناد.
(3) ذكره السيوطي في الدر المنثور: 8 / 116 وعزاه للبيهقي في شعب الإيمان.
(4) أخرجه الشافعي: 1 / 144، والبيهقي في السنن: 3 / 181، والمصنف في شرح السنة: 4 / 247.(8/124)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْأَحْوَصِ، عَنْ سِمَاكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كَانَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خُطْبَتَانِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا يَقْرَأُ الْقُرْآنَ وَيُذَكِّرُ النَّاسَ (1)
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ قَالَ: كُنْتُ أُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَتْ صِلَاتُهُ قَصْدًا وَخُطْبَتُهُ قَصْدًا (2)
وَالْخُطْبَةُ فَرِيضَةٌ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةَ، وَيَجِبُ أَنْ يَخْطُبَ قَائِمًا خُطْبَتَيْنِ، وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُطْبَةِ: أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ، وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُوصِيَ بِتَقْوَى اللَّهِ، هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فَرْضٌ فِي الْخُطْبَتَيْنِ جَمِيعًا وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ، وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّانِيَةِ، فَلَوْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ لَا تَصِحُّ جَمْعَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِتَسْبِيحَةٍ أَوْ تَحْمِيدَةٍ أَوْ تَكْبِيرَةٍ أَجَزَأَهُ. وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُطْبَةِ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالْخُطْبَةِ.
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ مَامَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ الْبَصْرِيُّ بِمَكَّةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الصَّبَّاحِ الزَّعْفَرَانِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ عَبْدِ الْمَجِيدِ الثَّقَفِيُّ عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي رَافِعٍ أَنَّ مَرْوَانَ اسْتَخْلَفَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى الْمَدِينَةِ، فَصَلَّى بِهِمْ أَبُو هُرَيْرَةَ الْجُمُعَةَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْجُمُعَةِ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ: "إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ" (الْمُنَافِقُونَ -1) فَقَالَ عُبَيْدُ اللَّهِ: فَلَمَّا انْصَرَفْنَا مَشَيْتُ إِلَى جَنْبِهِ فَقُلْتُ لَهُ: لَقَدْ قَرَأْتَ بِسُورَتَيْنِ سُمِعْتُ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ يَقْرَأُ بِهِمَا فِي الصَّلَاةِ؟ فَقَالَ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ بِهِمَا (3)
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ ضَمْرَةَ بْنِ سَعِيدٍ الْمَازِنِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ أَنَّ الضَّحَّاكَ بْنَ قَيْسٍ سَأَلَ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ مَاذَا كَانَ يَقْرَأُ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى إِثْرِ سُورَةِ الْجُمُعَةَ؟
__________
(1) أخرجه مسلم في الجمعة، باب ذكر الخطبتين قبل الصلاة وما فيهما من الجلسة برقم: (862) : 2 / 589.
(2) أخرجه مسلم في الجمعة، باب تخفيف الصلاة والخطبة برقم: (866) : 2 / 591، والمصنف في شرح السنة: 4 / 251.
(3) أخرجه مسلم في الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة برقم: (877) : 2 / 597 - 598 والمصنف في شرح السنة: 4 / 270.(8/125)
فَقَالَ: كَانَ يَقْرَأُ بِـ "هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْتَشِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ حَبِيبِ بْنِ سَالِمٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَأُ فِي الْعِيدَيْنِ وَفِي الْجُمُعَةِ بِـ "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى" وَ"هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ" وَرُبَّمَا اجْتَمَعَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَيَقْرَأُ بِهِمَا (2) .
وَلِجَوَازِ الْجُمُعَةِ خَمْسُ شَرَائِطَ: الْوَقْتُ وَهُوَ: وَقْتُ الظُّهْرِ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى دُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَالْعَدَدُ وَالْإِمَامُ وَالْخُطْبَةُ وَدَارُ الْإِقَامَةِ فَإِذَا فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الْخَمْسَةِ يَجِبُ أَنْ يُصَلُّوهَا ظُهْرًا..
وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْتَدِئَ الْخُطْبَةَ قَبْلَ اجْتِمَاعِ الْعَدَدِ، وَهُوَ عَدَدُ الْأَرْبَعِينَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَوِ اجْتَمَعُوا وَخَطَبَ بِهِمْ ثُمَّ انْفَضُّوا قَبْلَ افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ أَوِ انْتُقِصَ وَاحِدٌ مِنَ الْعَدَدِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِهِمُ الْجُمُعَةَ، بَلْ يُصَلِّيَ الظَّهْرَ، وَلَوِ افْتَتَحَ بِهِمُ الصَّلَاةَ ثُمَّ انْفَضُّوا فَأَصَحُّ أَقْوَالِ الشَّافِعِيِّ أَنَّ بَقَاءَ الْأَرْبَعِينَ شَرْطٌ إِلَى آخَرِ الصَّلَاةِ، [كَمَا أَنَّ بَقَاءَ الْوَقْتِ شَرْطٌ إِلَى آخَرِ الصَّلَاةِ] (3) فَلَوِ انْتُقِصَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ الْإِمَامُ يَجِبُ عَلَى الْبَاقِينَ أَنْ يُصَلُّوهَا أَرْبَعًا. وَفِيهِ قَوْلٌ آخَرُ: إِنْ بَقِيَ مَعَهُ اثْنَانِ أَتَمَّهَا جُمُعَةً. وَقِيلَ: إِنْ بَقِيَ مَعَهُ وَاحِدٌ أَتَمَّهَا جُمُعَةً، وَعِنْدَ الْمُزَنِيِّ إِذَا نَقَصُوا بَعْدَ مَا صَلَّى الْإِمَامُ بِهِمْ رَكْعَةً أَتَمَّهَا جُمُعَةً، وَإِنْ بَقِيَ وَحْدَهُ فَإِنْ كَانَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى يُتِمُّهَا أَرْبَعًا وَإِنِ انْتُقِصَ مِنَ الْعَدَدِ وَاحِدٌ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ فِي الْعَدَدِ الَّذِي شَرَطَهُ كَالْمَسْبُوقِ إِذَا أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنَ الْجُمُعَةِ فَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ أَتَمَّهَا جُمُعَةً وَإِنْ أَدْرَكَ أَقَلَّ مِنْ رَكْعَةٍ أَتَمَّهَا أَرْبَعًا. .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} أَيْ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالثَّبَاتِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} لِأَنَّهُ مُوجِدُ الأرزاق فإياه فاسئلوا وَمِنْهُ فَاطْلُبُوا.
__________
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في كتاب الجمعة، باب القراءة في صلاة الجمعة، والاحتباء ومن تركها من غير عذر: 1 / 111، ومسلم في الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة برقم: (878) : 2 / 598، والمصنف في شرح السنة: 4 / 271.
(2) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب ما جاء في القراءة في العيدين: 3 / 76 وقال "حديث النعمان بن بشير حديث حسن صحيح"، ومسلم في الجمعة، باب ما يقرأ في صلاة الجمعة برقم: (878) 2 / 598، والمصنف في شرح السنة: 4 / 271.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".(8/126)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) }
{إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ بن سَلُولَ وَأَصْحَابَهُ، {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} لِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا خِلَافَ مَا أَظْهَرُوا. {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} سُتْرَةً، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} مَنَعُوا النَّاسَ عَنِ الْجِهَادِ وَالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} أَقَرُّوا بِاللِّسَانِ إِذَا رَأَوْا الْمُؤْمِنِينَ، {ثُمَّ كَفَرُوا} إِذَا خَلَوْا إِلَى الْمُشْرِكِينَ، {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} بِالْكَفْرِ، {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} 165/ب الْإِيمَانَ. {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} يَعْنِي أَنَّ لَهُمْ أَجْسَامًا وَمَنَاظِرَ، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} فَتَحَسَبُ أَنَّهُ صِدْقٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَسِيمًا فَصِيحًا ذَلِقَ
__________
(1) أخرجه ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس قال: نزلت سورة المنافقيتن بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير مثله. انظر: الدر المنثور: 8 / 170.(8/126)
اللِّسَانِ، فَإِذَا قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلَهُ. {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} أَشْبَاحٌ بِلَا أَرْوَاحٍ وَأَجْسَامٌ بِلَا أَحْلَامٍ. قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَالْكِسَائِيُّ: "خُشْبٌ" بِسُكُونِ الشِّينِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا.
{مُسَنَّدَةٌ} مُمَالَةٌ إِلَى جِدَارٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: أَسْنَدْتُ الشَّيْءَ، إِذَا أَمَلْتُهُ، وَالتَّثْقِيلُ لِلتَّكْثِيرِ، وَأَرَادَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَشْجَارٍ تُثْمِرُ، وَلَكِنَّهَا خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ إِلَى حَائِطٍ، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} أَيْ لَا يَسْمَعُونَ صَوْتًا فِي الْعَسْكَرِ بِأَنْ نَادَى مُنَادٍ أَوِ انْفَلَتَتْ دَابَّةٌ وَأُنْشِدَتْ ضَالَّةٌ، إِلَّا ظَنُّوا -مِنْ جُبْنِهِمْ وَسُوءِ ظَنِّهِمْ -أَنَّهُمْ يُرَادُونَ بِذَلِكَ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ أُتُوا، لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ.
وَقِيلَ: ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ عَلَى وَجَلٍ مِنْ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ فِيهِمْ أَمْرًا يَهْتِكُ أَسْتَارَهُمْ وَيُبِيحُ دِمَاءَهُمْ ثُمَّ قَالَ: {هُمُ الْعَدُوُّ} وَهَذَا ابْتِدَاءٌ وَخَبَرُهُ، {فَاحْذَرْهُمْ} وَلَا تَأْمَنْهُمْ، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} لَعَنَهُمُ اللَّهُ {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} يُصْرَفُونَ عَنِ الْحَقِّ.(8/130)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6)
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) }
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} أَيْ عَطَفُوا وَأَعْرَضُوا بِوُجُوهِهِمْ رَغْبَةً عَنِ الِاسْتِغْفَارِ. قَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ "لَوُوا" بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ، لِأَنَّهُمْ فَعَلُوهُ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ.
{وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} يُعْرِضُونَ عَمَّا دُعُوا إِلَيْهِ، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} مُتَكَبِّرُونَ عَنِ اسْتِغْفَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ. {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} يَا مُحَمَّدُ، {أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} ذَكَرَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ عَنْ جَمَاعَةٍ، مِنْ أَصْحَابِ السِّيَرِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلَغُهُ: أَنَّ بَنِي الْمُصْطَلِقِ يَجْتَمِعُونَ لِحَرْبِهِ وَقَائِدُهُمُ الْحَارِثُ بْنُ أَبِي ضِرَارٍ أَبُو [جُوَيْرَةَ] (1) زَوْجِ النَّبِيِّ
__________
(1) في المخطوطتين (جويرة) وفي غيرهم (جويرية) .(8/130)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَيْهِمْ حَتَّى لَقِيَهُمْ عَلَى مَاءٍ مِنْ مِيَاهِهِمْ يُقَالُ لَهُ الْمُرَيْسِيعُ مِنْ نَاحِيَةِ قُدَيْدٍ إِلَى السَّاحِلِ، فَتَزَاحَفَ النَّاسُ وَاقْتَتَلُوا فَهَزَمَ اللَّهُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، وَقُتِلَ مِنْ قُتِلَ مِنْهُمْ، وَنَقَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَبْنَاءَهُمْ وَنِسَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فَأَفَاءَهَا [عَلَيْهِمْ] (1) فَبَيْنَمَا النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ الْمَاءِ إِذْ وَرَدَتْ وَارِدَةُ النَّاسِ وَمَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَجِيرٌ لَهُ مِنْ بَنِي غِفَارٍ، يُقَالُ لَهُ جَهْجَاهُ بْنُ سَعِيدٍ الْغِفَارِيِّ يَقُودُ لَهُ فَرَسَهُ فَازْدَحَمَ جَهْجَاهٌ وَسِنَانُ بْنُ وَبْرَةَ الْجَهْنَيُّ، حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ، عَلَى [ذَلِكَ] (2) الْمَاءِ فَاقْتَتَلَا فَصَرَخَ الْجُهَنِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ! وَصَرَخَ الْغِفَارِيُّ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ! وَأَعَانَ جَهْجَاهًا الْغِفَارِيَّ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ يُقَالُ لَهُ جِعَالٌ، وَكَانَ فَقِيرًا، فَغَضِبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَعِنْدَهُ رَهْطٌ مِنْ قَوْمِهِ فِيهِمْ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ، غُلَامٌ حَدِيثُ السِّنِّ، فَقَالَ ابْنُ أُبَيٍّ: أَفَعَلُوهَا؟ فَقَدَ نَافَرُونَا وَكَاثَرُونَا فِي بِلَادِنَا، وَاللَّهِ مَا مَثَلُنَا وَمَثَلُهُمْ إِلَّا كَمَا قَالَ الْقَائِلُ: سَمِّنْ كَلْبَكَ يَأْكُلْكَ، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجِعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَّلَ. يَعْنِي بِالْأَعَزِّ نَفْسَهُ وَبِالْأَذَلِّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ مِنْ قَوْمِهِ فَقَالَ: هَذَا مَا فَعَلْتُمْ بِأَنْفُسِكُمْ، أَحْلَلْتُمُوهُمْ بِلَادَكُمْ، وَقَاسَمْتُمُوهُمْ أَمْوَالَكُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَوْ أَمْسَكْتُمْ عَنْ جِعَالٍ وَذَوِيهِ فَضْلَ الطَّعَامِ لَمْ يَرْكَبُوا رِقَابَكُمْ، وَلَتَحَوَّلُوا إِلَى غَيْرِ بِلَادِكُمْ، فَلَا تُنْفِقُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِ مُحَمَّدٍ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: أَنْتَ -وَاللَّهِ -الذَّلِيلُ الْقَلِيلُ الْمُبْغَضُ فِي قَوْمِكَ، مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عِزٍّ مِنَ الرَّحْمَنِ وَمَوَدَّةٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ: اسْكُتْ، فَإِنَّمَا كُنْتُ أَلْعَبُ. قَالَ: فَمَشَى زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [وَذَلِكَ] (3) بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنَ الْغُدُوِّ، فَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَعِنْدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَقَالَ: دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: كَيْفَ يَا عُمَرُ إِذَا تَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ؟ وَلَكِنْ أَذِّنْ بِالرَّحِيلِ وَذَلِكَ فِي سَاعَةٍ لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرْتَحِلُ فِيهَا فَارْتَحَلَ النَّاسُ.
وَأَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِيٍّ فَأَتَاهُ فَقَالَ: أَنْتَ صَاحِبُ هَذَا الْكَلَامِ الَّذِي بَلَغَنِي؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَالَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مَا قُلْتُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَإِنَّ زَيْدًا لَكَاذِبٌ، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ فِي قَوْمِهِ شَرِيفًا عَظِيمًا، فَقَالَ مَنْ حَضَرَ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ أَصْحَابِهِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَسَى أَنْ يَكُونَ الْغُلَامُ أُوهِمَ فِي حَدِيثِهِ وَلَمْ يَحْفَظْ مَا قَالَهُ. فَعَذَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفَشَتِ الْمَلَامَةُ فِي الْأَنْصَارِ لِزَيْدٍ، وَكَذَّبُوهُ، وَقَالَ لَهُ عَمُّهُ [وَكَانَ زَيْدٌ مَعَهُ] (4) مَا أَرَدْتَ إِلَى أَنْ كَذَّبَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالنَّاسُ مَقَتُوكَ، وَكَانَ زَيْدٌ يُسَايِرُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَحْيَا بَعْدَ ذَلِكَ أَنْ يَدْنُوَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) في "ب" عليه.
(2) زيادة من "ب".
(3) زيادة من "ب".
(4) زيادة من "ب".(8/131)
فَلَمَّا اسْتَقَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَارَ لَقِيَهُ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيرٍ فَحَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ النُّبُوَّةِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رُحْتَ فِي سَاعَةٍ مُنْكَرَةٍ مَا كُنْتَ تَرُوحُ فِيهَا.
فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَوَمَا بَلَغَكَ مَا قَالَ صَاحِبُكُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ؟ قَالَ: وَمَا قَالَ؟ قَالَ: زَعَمَ إِنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَخْرَجَ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ. فَقَالَ أُسَيْدٌ: فَأَنْتَ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ تُخْرِجُهُ إِنْ شِئْتَ، هُوَ وَاللَّهِ الذَّلِيلُ وَأَنْتَ الْعَزِيزُ، ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ارْفُقْ بِهِ فَوَاللَّهِ لَقَدْ جَاءَ اللَّهُ بِكَ، وَإِنَّ قَوْمَهُ لَيَنْظِمُونَ لَهُ الْخَرَزَ لِيُتَوِّجُوهُ فَإِنَّهُ لَيَرَى أَنَّكَ قَدِ اسْتَلَبْتَهُ مُلْكًا.
وَبَلَغَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ مَا كَانَ مِنْ أَمْرِ أَبِيهِ فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّكَ تُرِيدُ قَتْلَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ، لِمَا بَلَغَكَ عَنْهُ، فَإِنْ كُنْتَ فَاعِلًا فَمُرْنِي بِهِ، فَأَنَا أَحْمِلُ إِلَيْكَ رَأْسَهُ، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَتِ الْخَزْرَجُ مَا كَانَ بِهَا رَجُلٌ أَبَرُّ بِوَالِدَيْهِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ تَأْمُرَ بِهِ غَيْرِي فَيَقْتُلُهُ، فَلَا تَدْعُنِي نَفْسِي أَنْ أَنْظُرَ إِلَى قَاتِلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ يَمْشِي فِي النَّاسِ فَأَقْتُلُهُ، فَأَقْتُلُ مُؤْمِنًا بِكَافِرٍ، فَأَدْخُلُ النَّارَ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَلْ نَرْفُقُ بِهِ وَنُحْسِنُ صُحْبَتَهُ مَا بَقِيَ مَعَنَا.
قَالُوا: وَسَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ حَتَّى أَمْسَى، وَلَيْلَتَهُمْ حَتَّى أَصْبَحَ، وَصَدْرَ يَوْمِهِمْ ذَلِكَ حَتَّى آذَتْهُمُ الشَّمْسُ، [ثُمَّ نَزَلَ بِالنَّاسِ] (1) فَلَمْ يَكُنْ إِلَّا أَنْ وَجَدُوا مَسَّ الْأَرْضِ فَوَقَعُوا نِيَامًا. وَإِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ لِيَشْغَلَ النَّاسَ عَنِ الْحَدِيثِ الَّذِي كَانَ بِالْأَمْسِ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ.
ثُمَّ رَاحَ بِالنَّاسِ حَتَّى نَزَلَ [عَلَى مَاءٍ بِـ] (2) الْحِجَازِ فُوَيْقَ النَّقِيعِ، يُقَالُ لَهُ نَقْعًا فَهَاجَتْ ريح شديدة 166/أآذَتْهُمْ وَتَخَوَّفُوهَا وَضَلَّتْ نَاقَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَلِكَ لَيْلًا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا تَخَافُوا فَإِنَّمَا هَبَّتْ لِمَوْتِ عَظِيمٍ مِنْ عُظَمَاءِ الْكُفَّارِ تُوُفِّيَ بِالْمَدِينَةِ، قِيلَ: مَنْ هُوَ، قَالَ: رِفَاعَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ، فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: كَيْفَ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا يَعْلَمُ مَكَانَ نَاقَتِهِ؟ أَلَا يُخْبِرُهُ الَّذِي يَأْتِيهِ بِالْوَحْيِ! فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ الْمُنَافِقِ وَبِمَكَانِ النَّاقَةِ، وَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ، وَقَالَ: مَا أَزْعُمُ أَنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَمَا أَعْلَمُهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَخْبَرَنِي بِقَوْلِ الْمُنَافِقِ وَبِمَكَانِ نَاقَتِي، هِيَ فِي الشِّعْبِ قَدْ تَعَلَّقَ زِمَامُهَا بِشَجَرَةٍ فَخَرَجُوا يَسْعَوْنَ قِبَلَ الشِّعْبِ فَإِذَا هِيَ كَمَا قَالَ، فَجَاءُوا بِهَا وَآمَنَ ذَلِكَ الْمُنَافِقَ.
فَلَمَّا قَدِمُوا الْمَدِينَةَ وَجَدُوا رِفَاعَةَ بْنَ زَيْدِ بْنِ التَّابُوتِ قَدْ مَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَكَانَ مِنْ عُظَمَاءِ الْيَهُودِ وَكَهْفًا لِلْمُنَافِقِينَ، فَلَمَّا وَافَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، قَالَ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ: جَلَسْتُ فِي الْبَيْتِ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "أ".(8/132)
هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
لِمَا بِي مِنَ الْهَمِّ وَالْحَيَاءِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى سُورَةَ الْمُنَافِقِينَ فِي تَصْدِيقِ زَيْدٍ وَتَكْذِيبِ عَبْدِ اللَّهِ. فَلَمَّا نَزَلَتْ أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُذُنِ زَيْدٍ وَقَالَ: "يَا زَيْدُ إِنَّ اللَّهَ صَدَّقَكَ وَأَوْفَى بِأُذُنِكَ".
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ بِقُرْبِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَهَا جَاءَهُ ابْنُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَتَّى أَنَاخَ عَلَى مَجَامِعِ طُرُقِ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا جَاءَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ قَالَ: [وَرَاءَكَ، قَالَ:] (1) مَالَكَ وَيْلَكَ؟ قَالَ: لَا وَاللَّهِ لَا تَدْخُلْهَا أَبَدًا إِلَّا بِإِذْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَتَعْلَمَنَّ الْيَوْمَ مَنِ الْأَعَزُّ مِنَ الْأَذَلِّ، فَشَكَا عَبْدُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا صَنَعَ ابْنُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ خَلِّ عَنْهُ حَتَّى يَدْخُلَ، فَقَالَ: أَمَّا إِذَا جَاءَ أَمْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَعَمْ، فَدَخَلَ فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا أَيَّامًا قَلَائِلَ حَتَّى اشْتَكَى وَمَاتَ.
قَالُوا: فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ وَبَانَ كَذِبُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ قِيلَ لَهُ: يَا أَبَا حُبَابٍ إِنَّهُ قَدْ نَزَلَ فِيكَ آيٌ شِدَادٌ فَاذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ، فَلَوَى رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَرْتُمُونِي أَنْ أُؤْمِنَ فَآمَنْتُ، وَأَمَرْتُمُونِي أَنْ أُعْطِيَ زَكَاةَ مَالِي فَقَدْ أَعْطَيْتُ فَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ أَسْجُدَ لِمُحَمَّدٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ" (2) الْآيَةَ. وَنَزَلَ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا}
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8) }
{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} يَتَفَرَّقُوا، {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فَلَا يُعْطِي أَحَدٌ أَحَدًا شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} أَنَّ أَمْرَهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} مِنْ غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} فَعِزَّةُ اللَّهِ: قَهْرُهُ مَنْ دُونَهُ، وَعِزَّةُ رَسُولِهِ: إِظْهَارُ دِينِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَعِزَّةُ الْمُؤْمِنِينَ: نَصْرُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ. {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} ، ذَلِكَ وَلَوْ عَلِمُوا مَا قَالُوا هَذِهِ الْمَقَالَةَ.
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ذكره ابن هشام في السيرة: 3 / 302 - 305 (طبعة دار القلم) ، والطبري: 28 / 115 - 117، وابن كثير 4 / 370 - 371.(8/133)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ} ، لَا تَشْغَلْكُمْ {أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: "لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ" (النُّورِ -37) {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} ، أَيْ مَنْ شَغَلَهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} ، فَيَسْأَلُ الرَّجْعَةَ، {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي} ، هَلَّا أَخَّرْتَنِي أَمْهَلْتَنِي. وَقِيلَ: "لَا" صِلَةٌ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ بِمَعْنَى التَّمَنِّي، أَيْ: لَوْ أَخَّرْتَنِي، {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} ، فَأَتَصَدَّقَ وَأُزَكِّي مَالِي، {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} ، أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ" (الرَّعْدِ -23) (غَافِرٍ -8) ، هَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَجَمَاعَةٍ. وَقَالُوا: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ. وَقِيلَ: [نزَلَتِ] (1) الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاحِ هُنَا: الْحَجُّ. وَرَوَى الضَّحَّاكُ، وَعَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ وَكَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ وَأَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ إِلَّا سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ (2) وَقَالَ: "وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ" قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو "وَأَكُونَ" بِالْوَاوِ وَنَصَبَ النُّونَ عَلَى جَوَابِ التَّمَنِّي وَعَلَى لَفْظِ فَأَصَّدَّقَ، قَالَ: إِنَّمَا حُذِفَتِ الْوَاوُ مِنَ الْمُصْحَفِ اخْتِصَارًا.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "وَأَكُنْ" بِالْجَزْمِ عَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ "فَأَصَّدَّقَ" لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ الْفَاءُ، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَاءٌ كَانَ جَزْمًا. يَعْنِي: إِنْ أَخَّرْتَنِي أَصَّدَّقْ وَأَكُنْ، وَلِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْمُصْحَفِ بِحَذْفِ الْوَاوِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أخرجه الترمذي في التفسير - تفسير سورة المنافقين: 9 / 220 - 221، والطبري: 28 / 118. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 179 أيضا لعبد بن حميد وابن أبي حاتم وللطبري وابن مرودية.(8/134)
وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11) }
{وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ: "يَعْمَلُونَ" بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ.(8/135)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2)
سُورَةُ التَّغَابُنِ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) }
قَالَ عَطَاءٌ هِيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا ثَلَاثَ آيَاتٍ (2) مِنْ قَوْلِهِ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ" إِلَى آخِرِهِنَّ. {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: [إِنَّ] (3) اللَّهَ خَلَقَ بَنِي آدَمَ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا، ثُمَّ يُعِيدُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا خَلَقَهُمْ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا (4) .
وَرُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلَامُ طُبِعَ كَافِرًا" (5)
وَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ "وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا" (نُوحٍ-27) .
__________
(1) أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة التغابن بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن ابن الزبير قال: نزلت سورة التغابن بالمدينة. انظر: الدر المنثور: 8 / 181.
(2) أخرجه الطبري: 28 / 125. وانظر الدر المنثور: 8 / 181.
(3) ساقط من "ب".
(4) أخرجه الطبري: 12 / 382 (بتحقيق محمود شاكر) ، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد: 3 / 547، والآجري في الشريعة ص (211) .
(5) أخرجه مسلم مرفوعا في القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين برقم: (2661) : 4 / 2050.(8/136)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ [عَنْ أَنَسٍ] (1) عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَكَّلَ اللَّهُ بِالرَّحِمِ مَلَكًا فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ نُطْفَةٌ أَيْ رَبِّ عَلَقَةٌ، أَيْ رَبِّ مُضْغَةٌ، فَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَقْضِيَ خَلْقَهَا قَالَ: يَا رَبِّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ فَمَا الرِّزْقُ فَمَا الْأَجَلُ؟ فَيُكْتَبُ كَذَلِكَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ" (2)
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ ثُمَّ كَفَرُوا وَآمَنُوا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْخَلْقَ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِفِعْلِهِمْ، فَقَالَ: "فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ" كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي" (النُّورِ-45) وَاللَّهُ خَلَقَهُمْ وَالْمَشْيُ فِعْلُهُمْ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا: رُوِيَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: "فَمِنْكُمْ كَافِرٌ" فِي حَيَاتِهِ "مُؤْمِنٌ" فِي الْعَاقِبَةِ "وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ" فِي حَيَاتِهِ كَافِرٌ فِي الْعَاقِبَةِ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ كَافِرٌ بالكواكب (3) .
وقيل 165/ب فَمِنْكُمْ كَافِرٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ، وَهُوَ مَذْهَبُ الدَّهْرِيَّةِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ (4)
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ: أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْكَافِرَ وَكُفْرُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ وَخَلَقَ الْمُؤْمِنَ وَإِيمَانُهُ فِعْلٌ لَهُ وَكَسْبٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ وَكَسْبُهُ وَاخْتِيَارُهُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ فَالْمُؤْمِنُ بَعْدَ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُ يَخْتَارُ الْإِيمَانَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ، وَالْكَافِرُ بَعْدَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ. وَهَذَا طَرِيقُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَنْ سَلَكَهُ أَصَابَ الْحَقَّ وَسَلِمَ مِنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) أخرجه البخاري في أول القدر: 11 / 477، وفي الحيض، باب مخلقة وغير مخلقة..، ومسلم في القدر برقم: (2646) : 4 / 2038، والمصنف في شرح السنة: 1 / 127-128.
(3) انظر البحر المحيط: 8 / 276-277.
(4) انظر البحر المحيط: 8 / 277.(8/140)
يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) }
{يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
{أَلَمْ يَأْتِكُمْ} يُخَاطِبُ كُفَّارَ مَكَّةَ {نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} يَعْنِي: الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} يَعْنِي مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فِي الْآخِرَةِ. {ذَلِكَ} الْعَذَابُ {بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} وَلَمْ يَقُلْ: يَهْدِينَا لِأَنَّ الْبَشَرَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ وَاحِدًا فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَوَاحِدُهُ إِنْسَانٌ، وَمَعْنَاهَا: يُنْكِرُونَ وَيَقُولُونَ آدَمِيٌّ مِثْلُنَا يَهْدِينَا! {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} عَنْ إِيمَانِهِمْ {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} عَنْ خَلْقِهِ {حَمِيدٌ} فِي أَفْعَالِهِ. ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ} {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ} يَا مُحَمَّدُ {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} وَهُوَ الْقُرْآنُ {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ فِيهِ أَهَّلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الْغَبْنِ وَهُوَ فَوْتُ الْحَظِّ، وَالْمُرَادُ بِالْمَغْبُونِ مَنْ غُبِنَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَنَازِلِهِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَظْهَرُ يَوْمَئِذٍ غَبْنُ كُلِّ كَافِرٍ بِتَرْكِهِ الْإِيمَانَ، وَغَبْنُ كُلِّ مُؤْمِنٍ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْإِحْسَانِ {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ(8/141)
وَالشَّامِ: "نَكَّفِّرْ" "وَنُدْخِلْهُ" وَفِي سُورَةِ الطَّلَاقِ "نُدْخِلْهُ" بِالنُّونِ فِيهِنَّ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(8/142)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) }
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [بِإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ] (1) {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} فَيُصَدِّقْ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ {يَهْدِ قَلْبَهُ} يُوَفِّقُهُ لِلْيَقِينِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ فَيُسَلِّمَ [لِقَضَائِهِ] (2) {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَؤُلَاءِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَأَرَادُوا أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ، فَمَنَعَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَقَالُوا: صَبَرْنَا عَلَى إِسْلَامِكُمْ فَلَا نَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكُمْ فَأَطَاعُوهُمْ وَتَرَكُوا الْهِجْرَةَ (3) [فَقَالَ تَعَالَى: {فَاحْذَرُوهُمْ} أَنْ تُطِيعُوهُمْ وَتَدَعُوا الْهِجْرَةَ] (4) .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) في "ب" لقضاء الله.
(3) أخرجه الترمذي في التفسير -تفسير سورة التغابن-: 9 / 222-223 وقال: "هذا حديث صحيح" والطبري: 28 / 124، والحاكم: 2 / 490 وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 184 نسبته للفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/142)
إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15)
{وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} هَذَا فِيمَنْ أَقَامَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَلَمْ يُهَاجِرْ، فَإِذَا هَاجَرَ رَأَى الَّذِينَ سَبَقُوهُ بِالْهِجْرَةِ قَدْ فَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمَّ أَنْ يُعَاقِبَ زَوْجَهُ وَوَلَدَهُ الَّذِينَ ثَبَّطُوا عَنِ الْهِجْرَةِ، وَإِنْ لَحِقُوا بِهِ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُصِبْهُمْ بِخَيْرٍ، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْعَفْوِ عَنْهُمْ وَالصَّفْحِ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ: نَزَلَتْ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ: كَانَ ذَا أَهْلٍ وَوَلَدٍ، وَكَانَ إِذَا أَرَادَ الْغَزْوَ بَكَوْا إِلَيْهِ وَرَقَّقُوهُ، وَقَالُوا: إِلَى مَنْ تَدَعُنَا؟ فَيَرِقُّ لَهُمْ وَيُقِيمُ (1) فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ" بِحَمْلِهِمْ إِيَّاكُمْ عَلَى تَرْكِ الطَّاعَةِ، فَاحْذَرُوهُمْ أَنْ تَقْبَلُوا مِنْهُمْ.
{وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا} فَلَا تُعَاقِبُوهُمْ عَلَى خِلَافِهِمْ إِيَّاكُمْ فَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) }
{إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ وَشُغْلٌ عَنِ الْآخِرَةِ يَقَعُ بِسَبَبِهَا الْإِنْسَانُ فِي الْعَظَائِمِ وَمَنْعِ الْحَقِّ وَتَنَاوُلِ الْحَرَامِ {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} قَالَ بَعْضُهُمْ: لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْعَدَاوَةَ أَدْخَلَ فِيهِ "مِنْ" لِلتَّبْعِيضِ، فَقَالَ: "إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ" لِأَنَّ كُلَّهُمْ لَيْسُوا [بِأَعْدَاءٍ] (2) وَلَمْ يَذْكُرْ "مِنْ" فِي قَوْلِهِ: "إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ" لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنِ الْفِتْنَةِ وَاشْتِغَالِ الْقَلْبِ.
وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: لَا يَقُولَّنَّ أَحَدُكُمُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفِتْنَةِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْكُمْ أَحَدٌ يَرْجِعُ إِلَى مَالٍ وَأَهْلٍ وَوَلَدٍ إِلَّا وَهُوَ مُشْتَمِلٌ عَلَى فِتْنَةٍ، وَلَكِنْ لِيَقُلِ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعَوذُ بِكَ مِنْ مضَّلَّاتِ الْفِتَنِ (3)
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْمُظَفَّرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْفَضْلِ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ إِسْحَاقَ الْفَقِيهُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ بَكْرِ بْنِ يُوسُفَ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ وَاقَدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ قال سمعت أبا بُرَيْدَةَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُنَا، فَجَاءَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَعَلَيْهِمَا قَمِيصَانِ أَحْمَرَانِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَنَزَلَ رَسُولَ اللَّهِ
__________
(1) أخرجه الطبري: 28 / 125.
(2) في "ب" بأعدائكم.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 185 لابن المنذر والطبراني. قال الهيثمي في المجمع: 7 / 220: "رواه الطبراني وإسناده منقطع وفيه المسعودي وقد اختلط".(8/143)
فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمِنْبَرِ، فَحَمَلَهُمَا فَوَضْعَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: "صَدَقَ اللَّهُ: إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ، نَظَرْتُ إِلَى هَذَيْنَ الصَّبِيَّيْنِ يَمْشِيَانِ وَيَعْثُرَانِ، فَلَمْ أَصْبِرْ حَتَّى قَطَعْتُ حَدِيثِي وَرَفَعْتُهُمَا" (1)
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) }
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} أَطَقْتُمْ هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ" (آلِ عِمْرَانَ-102) {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} اللَّهَ وَرَسُولَهُ {وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ. {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} حَتَّى يُعْطِيَ حَقَّ اللَّهِ مِنْ مَالِهِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} .
__________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب الإمام يقطع الخطبة للأمر يحدث: 2 / 20، والترمذي في المناقب 10 / 278-279، وقال: "هذا حديث حسن غريب إنما نعرفه من حديث الحسين بن واقد"، والنسائي في الجمعة، باب نزول الإمام عن المنبر قبل فراغه من الخطبة وقطعه كلامه ورجوعه إليه يوم الجمعة: 3 / 108، وابن ماجه في اللباس، باب لبس الأحمر للرجال برقم: (2600) : 2 / 1190، وابن حبان برقم: (2230) صفحة: (552) ، والحاكم: 1 / 287، والإمام أحمد: 5 / 354، وصححه الألباني في صحيح الجامع برقم: (3757) .(8/144)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
سُورَةُ الطَّلَاقِ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1) }
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} نَادَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ خَاطَبَ أُمَّتَهُ لِأَنَّهُ السَّيِّدُ الْمُقَدَّمُ، فَخِطَابُ الْجَمِيعِ مَعَهُ.
وَقِيلَ: مَجَازُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأُمَّتِكَ "إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ" إِذَا أَرَدْتُمْ تَطْلِيقَهُنَّ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ" (النَّحْلِ-98) أَيْ: إِذَا أَرَدْتَ الْقِرَاءَةَ.
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أَيْ لِطُهْرِهِنَّ بِالَّذِي يُحْصِينَهُ مِنْ عِدَّتِهِنَّ. وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ عُمَرَ يَقْرَآنِ: "فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عَدَّتِهِنَّ" نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ عُمَرَ] (2) كَانَ قَدْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ الْفَقِيهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ [عَنْ نَافِعٍ] (4) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ [ثُمَّ تَطْهُرَ] (5) ثُمَّ إِنْ شَاءَ أَمْسَكَ بَعْدُ، وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ (6) .
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الطلاق بالمدينة. انظر: الدر المنثور: 8 / 188.
(2) ساقط من "أ".
(3) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الطلاق -: 8 / 653.
(4) ساقط من "ب".
(5) ساقط من "ب".
(6) أخرجه الإمام مالك في الموطأ في الطلاق، باب ما جاء في الأقراء وعدة الطلاق وطلاق الحائض: 2 / 576، والبخاري في الطلاق، باب قول الله تعالى: (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) 9 / 345-346، ومسلم في الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها برقم: (1471) 2 / 1093، والمصنف في شرح السنة: 9 / 202.(8/145)
وَرَوَاهُ سَالِمٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا" (1) .
وَرَوَاهُ يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، وَلَمْ يَقُولَا ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمٌ وَسَعِيدُ بْنُ سَالِمٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ أَيْمَنَ مَوْلَى عَزَّةَ يَسْأَلُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ -وَأَبُو الزُّبَيْرِ يَسْمَعُ -فَقَالَ: كَيْفَ تَرَى فِي رَجُلٍ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا؟ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: طَلَّقَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ امْرَأَتَهُ حَائِضًا فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا فَإِذَا طَهُرَتْ فَلْيُطَلِّقْ أَوْ لِيُمْسِكْ" قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ أَوْ لِقُبُلِ عِدَّتِهِنَّ" الشَّافِعِيُّ يَشُكُّ.
وَرَوَاهُ حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، وَقَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَقَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ فِي قُبُلِ عِدَّتِهِنَّ (3) .
اعْلَمْ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي حَالِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ بِدْعَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي الطُّهْرِ الَّذِي جَامَعَهَا فِيهِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَ قَبْلَ أَنْ يَمَسَّ".
وَالطَّلَاقُ السُّنِّيُّ: أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يُجَامِعْهَا فِيهِ. وَهَذَا فِي حَقِّ امْرَأَةٍ تَلْزَمُهَا الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ.
فَأَمَّا إِذَا طَلَّقَ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوْ طَلَّقَ الصَّغِيرَةَ الَّتِي لَمْ تَحِضْ قَطُّ أَوِ الْآيِسَةَ بَعْدَ مَا جَامَعَهَا أَوْ طَلَّقَ الْحَامِلَ بَعْدَ مَا جَامَعَهَا أَوْ فِي حَالِ رُؤْيَةِ الدَّمِ لَا يَكُونُ بِدْعِيًا. وَلَا سُنَّةَ وَلَا بِدْعَةَ فِي طَلَاقِ هَؤُلَاءِ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "ثُمَّ لِيُطَلِّقْهَا طَاهِرًا أَوْ حَامِلًا".
وَالْخُلْعُ فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا [فِيهِ] (4) لَا يَكُونُ بِدْعِيًّا لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ فِي مُخَالَعَةِ زَوَّجْتِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْرِفَ حَالَهَا وَلَوْلَا جَوَازُهُ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ لِأُشْبِهَ أَنْ يَتَعَرَّفَ الْحَالَ.
وَلَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ جَامَعَهَا فِيهِ قَصْدًا يَعْصِي اللَّهَ تَعَالَى وَلَكِنْ يَقَعُ
__________
(1) أخرجه مسلم في الطلاق، باب تحريم طلاق الحائض بغير رضاها برقم: (1471) 2 / 1095.
(2) في الموضع السابق.
(3) أخرجه الشافعي: 2 / 33 (ترتيب المسند) ومسلم في الطلاق برقم: (1471) 2 / 1098.
(4) ساقط من "أ".(8/148)
الطَّلَاقُ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ ابْنَ عُمَرَ بِالْمُرَاجَعَةِ فَلَوْلَا وُقُوعُ الطَّلَاقِ لَكَانَ لَا يَأْمُرُ بِالْمُرَاجَعَةِ، وَإِذَا رَاجَعَهَا فِي حَالِ الْحَيْضِ يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الطُّهْرِ الَّذِي يَعْقِبُ تِلْكَ الْحَيْضَةَ قَبْلَ الْمَسِيسِ كَمَا رَوَاهُ يُونُسُ بْنُ جُبَيْرٍ وَأَنَسُ بْنُ سِيرِينَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ.
وَمَا رَوَاهُ نَافِعٌ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: "ثُمَّ لِيُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ" فَاسْتِحْبَابٌ، اسْتَحَبَّ تَأْخِيرَ الطَّلَاقِ إِلَى الطُّهْرِ الثَّانِي حَتَّى لَا يَكُونَ مُرَاجَعَتُهُ إِيَّاهَا لِلطَّلَاقِ كَمَا يَكْرَهُ النِّكَاحُ لِلطَّلَاقِ.
وَلَا بِدْعَةَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ، عِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ حَتَّى لَوْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ فِي حَالِ الطُّهْرِ ثَلَاثًا لَا يَكُونُ بِدْعِيًا، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرَّأْيِ.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أَيْ عَدَدَ أَقْرَائِهَا احْفَظُوهَا قِيلَ: أَمَرَ بِإِحْصَاءِ الْعِدَّةِ لِتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى الْأَقْرَاءِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا. وَقِيلَ: لِلْعِلْمِ بِبَقَاءِ زَمَانِ الرَّجْعَةِ وَمُرَاعَاةِ أَمْرِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أَرَادَ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ لِلزَّوْجِ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْهُ {وَلَا يَخْرُجْنَ} وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا فَإِنْ خَرَجَتْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حَاجَةٍ أَثِمَتْ فَإِنْ وَقَعَتْ ضَرُورَةٌ -وَإِنْ خَافَتْ هَدْمًا أَوْ غَرَقًا -لَهَا أَنْ تَخْرُجَ إِلَى مَنْزِلٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ لَهَا حَاجَةٌ مِنْ بَيْعِ غَزْلٍ أَوْ شِرَاءِ قُطْنٍ فَيَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ نَهَارًا وَلَا يَجُوزُ لَيْلًا فَإِنَّ رِجَالًا استُشْهِدوا بِأُحُدٍ فَقَالَتْ نِسَاؤُهُمْ: نَسْتَوْحِشُ فِي بُيُوتِنَا فَأَذِنَ لَهُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَتَحَدَّثْنَ عِنْدَ إِحْدَاهُنَّ، فَإِذَا كَانَ وَقْتُ النَّوْمِ تَأْوِي كُلُّ امْرَأَةٍ إِلَى بَيْتِهَا (1) وَأَذِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَةِ جَابِرٍ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَنْ تَخْرُجَ لِجِذَاذِ نَخْلِهَا (2) .
وَإِذَا لَزِمَتْهَا الْعِدَّةُ فِي السَّفَرِ تَعْتَدُّ ذَاهِبَةً وَجَائِيَةً وَالْبَدَوِيَّةُ [تَتَبَوَّأُ] (3) حَيْثُ يَتَبَوَّأُ أَهْلُهَا فِي الْعِدَّةِ لِأَنَّ الِانْتِقَالَ فِي حَقِّهِمْ كَالْإِقَامَةِ فِي حَقِّ الْمُقِيمِ.
قَوْلُهُ: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ" أَنْ تَبْذُوَ عَلَى أَهْلِ
__________
(1) أخرجه الشافعي في الأم: 5 / 217، والبيهقي في السنن: 7 / 436 عن مجاهد مرسلا ورجال إسناده ثقات، وعبد الرزاق في المصنف: 7 / 36. وانظر تلخيص الحبير: 3 / 240.
(2) أخرجه مسلم في الطلاق، باب جواز خروج المعتدة البائن والمتوفى عنها زوجها في النهار لحاجتها برقم (1483) 3 / 1121.
(3) في "أ" تنثوي.(8/149)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)
زَوْجِهَا فَيَحِلُّ إِخْرَاجُهَا (1) .
وَقَالَ جَمَاعَةٌ: أَرَادَ بِالْفَاحِشَةِ: أَنْ تَزْنِيَ فَتُخْرَجُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا ثُمَّ تُرَدُّ إِلَى مَنْزِلِهَا يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ (2) .
وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى نُشُوزِهَا فَلَهَا أَنْ تَتَحَوَّلَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا (3) وَالْفَاحِشَةُ: النُّشُوزُ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالسُّدِّيُّ: خُرُوجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَاحِشَةٌ (4) .
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} يَعْنِي: مَا ذُكِرَ مِنْ سَنَةَ الطَّلَاقِ وَمَا بَعْدَهَا {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} 167/أيُوقِعُ فِي قَلْبِ الزَّوْجِ مُرَاجَعَتَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ. وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُفَرِّقَ الطَّلَقَاتِ، وَلَا يُوقِعَ الثَّلَاثَ دُفْعَةً وَاحِدَةً، حَتَّى إِذَا نَدِمَ أَمْكَنَهُ الْمُرَاجَعَةَ.
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) }
{فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أَيْ قَرُبْنَ مِنَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ {فَأَمْسِكُوهُنَّ} أَيْ رَاجِعُوهُنَّ {بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أَيِ اتْرُكُوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ فَتَبِينَ مِنْكُمْ {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} عَلَى الرَّجْعَةِ وَالْفِرَاقِ. أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَعَلَى الطَّلَاقِ. {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ} أَيُّهَا الشُّهُودُ {لِلَّهِ}
{ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} قَالَ
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 6 / 323، والطبري: 28 / 133-134. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 193 لسعيد بن منصور وابن راهويه وعبد بن حميد وابن مردويه. ورواه الشافعي والبيهقي انظر: تلخيص الحبير: 3 / 241.
(2) انظر: الطبري: 28 / 134، ابن كثير: 4 / 379.
(3) انظر: المصنف لعبد الرزاق: 6 / 323، والطبري: 28 / 134.
(4) أخرجه الطبري: 28 / 134. وانظر البحر المحيط: 8 / 282.(8/150)
وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: وَمَنْ يَتُقِ اللَّهَ فَيُطَلِّقْ لِلسَّنَةِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا إِلَى الرَّجْعَةِ (1) .
وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: نَزَلَتْ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ، أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ ابْنًا لَهُ يُسَمَّى مَالِكًا فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْرَ الْعَدُوُّ ابْنِي، وَشَكَا أَيْضًا إِلَيْهِ الْفَاقَةَ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ، فَفَعَلَ الرَّجُلُ [ذَلِكَ] (2) فَبَيْنَمَا هُوَ فِي بَيْتِهِ إِذْ أَتَاهُ ابْنُهُ وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْعَدُوُّ، فَأَصَابَ إِبِلًا وَجَاءَ بِهَا إِلَى أَبِيهِ (3) .
وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَتَغَفَّلَ عَنْهُ الْعَدُوُّ، فَاسْتَاقَ غَنَمَهَمْ، فَجَاءَ بِهَا إِلَى أَبِيهِ، وَهِيَ أَرْبَعَةُ آلَافِ شَاةٍ. فَنَزَلَتْ: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا" (4) فِي ابْنِهِ.
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3) }
{وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} مَا سَاقَ مِنَ الْغَنَمِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَصَابَ غَنَمًا وَمَتَاعًا ثُمَّ رَجَعَ إِلَى أَبِيهِ، فَانْطَلَقَ أَبُوهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ، وَسَأَلَهُ: أَيُحِلُّ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مَا أَتَى بِهِ ابْنُهُ؟ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، وَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٌ: "وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا" هُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهُ رَازِقُهُ.
وَقَالَ الربيع بن خيثم: "يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا" مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضَاقَ عَلَى النَّاسِ (5) .
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: "مَخْرَجًا" مِنْ كُلِّ شِدَّةٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: "مَخْرَجًا" عَمَّا نَهَاهُ عَنْهُ. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} يَتَّقِ اللَّهَ فِيمَا نَابَهُ كَفَاهُ مَا أَهَمَّهُ.
وَرُوِّينَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ
__________
(1) انظر: الطبري: 28 / 138.
(2) ساقط من "ب".
(3) انظر: الواحدي في أسباب النزول صفحة: (502-503) ابن كثير: 4 / 381.
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 197 لابن مردويه. وانظر الطبري: 28 / 138، ابن كثير: 4 / 381.
(5) أخرجه الطبري: 28 / 139. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 198 أيضا لابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن المنذر.(8/151)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4)
تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا" (1) .
{إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} قَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: "بَالِغُ أَمْرِهِ" بِالْإِضَافَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "بَالِغٌ" [بِالتَّنْوِينِ] (2) "أَمْرَهُ" نُصِبَ أَيْ مُنَفِّذٌ أَمْرَهُ مُمْضٍ فِي خَلْقِهِ قَضَاءَهُ. {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أَيْ جَعَلَ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ أَجَلًا يَنْتَهِي إِلَيْهِ.
قَالَ مَسْرُوقٌ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ "إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ" تَوَكَّلَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَتَوَكَّلْ، غَيْرَ أَنَّ الْمُتَوَكِّلَ عَلَيْهِ يُكَفِّرُ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمُ لَهُ أَجْرًا.
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} فَلَا تَرْجُونَ أَنْ يَحِضْنَ {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أَيْ شَكَكْتُمْ فَلَمْ تَدْرُوا مَا عِدَّتُهُنَّ {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ}
قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمَّا نَزَلَتْ: "وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ" (الْبَقَرَةِ-228) قَالَ خَلَّادُ بْنُ النُّعْمَانِ بْنِ قَيْسٍ الْأَنْصَارِيِّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَمَا عِدَّةُ مَنْ لَا تَحِيضُ وَالَّتِي لَمْ تَحِضْ وَعِدَّةُ الْحُبْلَى؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ" (3) يَعْنِي الْقَوَاعِدَ اللَّائِي قَعَدْنَ عَنِ الْحَيْضِ "إِنِ ارْتَبْتُمْ" شَكَكْتُمْ فِي حُكْمِهَا "فَعدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ".
{وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} يَعْنِي الصِّغَارَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَعِدَّتُهُنَّ أَيْضًا ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. أَمَّا الشَّابَّةُ الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ فَارْتَفَعَ حَيْضُهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا سِنَّ الْآيِسَاتِ: فَذَهَبَ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ عِدَّتَهَا لَا تَنْقَضِي حَتَّى يُعَاوِدَهَا الدَّمُ فَتَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ أَوْ تَبْلُغَ سِنَّ الْآيِسَاتِ فَتَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَهُوَ
__________
(1) أخرجه الترمذي في الزهد، باب ما جاء في الزهادة في الدنيا: 7 / 8 وقال: "هذا حديث حسن صحيح لا نعرفه إلا من هذا الوجه" وابن ماجه في الزهد، باب التوكل واليقين برقم: (4164) 2 / 1394، والإمام أحمد: 1 / 30، والطيالسي في مسنده ص (11) وصححه الحاكم: 4 / 318، ووافقه الذهبي، وابن حبان ص (633) من موارد الظمآن، وابن أبي الدنيا في كتاب التوكل برقم: (1) والمصنف في شرح السنة: 14 / 301. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم: (310) .
(2) ساقط من "أ".
(3) انظر: أسباب النزول للواحدي صفحة: (503) . وراجع أحكام القرآن للشافعي: 1 / 324.(8/152)
ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
قَوْلُ عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَحُكِيَ عَنْ عُمَرَ: أَنَّهَا تَتَرَبَّصُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ فَإِنْ لَمْ تَحِضْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ [وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: تَتَرَبَّصُ سَنَةً فَإِنْ لَمْ تَحِضْ تَعْتَدَّ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ] (1) . وَهَذَا كُلُّهُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ.
أَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فَعِدَّتُهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ أَوْ لَا تَحِيضُ.
أَمَّا الْحَامِلُ فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَطِيبُ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَحْمَدَ الْخَلَّالُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، أَخْبَرَنَا الشَّافِعِيُّ، أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ [بْنِ عَبْدِ اللَّهِ] (2) عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ سُبَيْعَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ وَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجِهَا بِلَيَالٍ فَمَرَّ بِهَا أَبُو السَّنَابِلِ بْنِ بَعْكَكٍ [فَقَالَ] (3) قَدْ تَصَنَّعْتِ لِلْأَزْوَاجِ إِنَّهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ سُبَيْعَةُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "كَذَبَ أَبُو السَّنَابِلِ -أَوْ: لَيْسَ كَمَا قَالَ أَبُو السَّنَابِلِ -قَدْ حَلَلْتِ فَتَزَوَّجِي" (4) .
{وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} يُسَهِّلْ عَلَيْهِ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
{ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5) }
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) ساقط من "ب".
(3) ساقط من "أ".
(4) أخرجه الشافعي: 2 / 51-52 (ترتيب المسند) والبخاري في الطلاق، باب: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) 9 / 469-470، ومسلم في الطلاق، باب انقضاء عدة المتوفى عنها زوجها وغيرها بوضع الحمل برقم: (1484) 2 / 1122. والمصنف في شرح السنة: 9 / 304.(8/153)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6)
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) }
{ذَلِكَ} يَعْنِي مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَحْكَامِ {أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} {أَسْكِنُوهُنَّ} يَعْنِي مُطَلَّقَاتِ نِسَائِكُمْ {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} "مِنْ" صِلَةٌ، أَيْ: أَسْكِنُوهُنَّ حَيْثُ سَكَنْتُمْ {مِنْ وُجْدِكُمْ} يَعْنِي: سَعَتَكُمْ وَطَاقَتَكُمْ، يَعْنِي: إِنْ كَانَ مُوسِرًا يُوَسِّعُ عَلَيْهَا فِي الْمَسْكَنِ وَالنَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَعَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} لَا تُؤْذُوهُنَّ {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} مَسَاكِنَهُنَّ فَيَخْرُجْنَ {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فَيَخْرُجْنَ مِنْ عِدَّتِهِنَّ.(8/153)
اعْلَمْ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ الرَّجْعِيَّةَ تَسْتَحِقُّ عَلَى الزَّوْجِ النَّفَقَةَ وَالسُّكْنَى مَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ. وَنَعْنِي بِالسُّكْنَى: مُؤْنَةَ السُّكْنَى فَإِنْ كَانَتِ الدَّارُ الَّتِي طَلَّقَهَا فِيهَا مِلْكًا لِلزَّوْجِ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَخْرُجَ وَيَتْرُكَ الدَّارَ لَهَا مُدَّةَ عِدَّتِهَا وَإِنْ كَانَتْ بِإِجَارَةٍ فَعَلَى الزَّوْجِ الْأُجْرَةُ، وَإِنْ كَانَتْ عَارِيَةً فَرَجَعَ الْمُعِيرُ فَعَلَيْهِ أن يكتري 167/ب لَهَا دَارًا تَسْكُنُهَا.
فَأَمَّا الْمُعْتَدَّةُ الْبَائِنَةُ بِالْخُلْعِ أَوِ الطَّلَقَاتِ الثَّلَاثِ [أَوْ بِاللِّعَّانِ فَلَهَا السُّكْنَى حَامِلًا كَانَتْ أَوْ حَائِلًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ] (1) .
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَا سُكْنَى لَهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي نَفَقَتِهَا: فَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّهُ لَا نَفَقَةَ لَهَا إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا. رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَعَطَاءٍ وَالشَّعْبِيِّ وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ (2) .
وَمِنْهُمْ مَنْ أَوْجَبَهَا بِكُلِّ حَالٍ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَبِهِ قَالَ الثَّوْرِيُّ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ.
وَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّ إِلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: "وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ".
وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ مَا:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ مَوْلَى الْأَسْوَدِ بْنِ سُفْيَانَ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ أَنَّ أَبَا عَمْرِو بْنَ حَفْصٍ طَلَّقَهَا الْبَتَّةَ وَهُوَ غَائِبٌ بِالشَّامِ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهَا وَكِيلُهُ بِشَعِيرٍ فَسَخِطَتْهُ، فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا لَكِ عَلَيْنَا مِنْ شَيْءٍ. فَجَاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ لَهَا: لَيْسَ لَكِ عَلَيْهِ نَفَقَةٌ، وَأَمْرَهَا أَنْ تَعَتَّدَ فِي بَيْتِ أُمِّ شَرِيكٍ. ثُمَّ قَالَ: تِلْكَ امْرَأَةٌ يَغْشَاهَا أَصْحَابِي فَاعْتَدِّي عِنْدَ ابْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ أَعْمَى تَضَعِينَ ثِيَابَكِ، فَإِذَا حَلَلْتِ فَآذِنِينِي. قَالَتْ: فَلَمَّا حَلَلْتُ، ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَتْ: فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: انكحي أسامة، فنحكُتهُ فَجَعَلَ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) انظر: المصنف لعبد الرزاق: 6 / 507، 508.(8/154)
اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْتُ بِهِ (1) .
وَاحْتَجَّ مَنْ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا السُّكْنَى بِحَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهَا أَنْ تَعْتَدَّ فِي بَيْتِ عَمْرِو بْنِ أُمِّ مَكْتُومٍ.
وَلَا حُجَّةَ فِيهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: كَانَتْ فَاطِمَةُ فِي مَكَانٍ وَحْشٍ، فَخِيفَ عَلَى نَاحِيَتِهَا (2) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: إِنَّمَا نُقِلَتْ فَاطِمَةُ لِطُولِ لِسَانِهَا عَلَى أَحْمَائِهَا وَكَانَ لِلِسَانِهَا ذَرَابَةٌ (3) .
أَمَّا الْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَطْءِ الشُّبْهَةِ وَالْمَفْسُوخُ نِكَاحُهَا بِعَيْبٍ أَوْ خِيَارِ عِتْقٍ فَلَا سُكْنَى لَهَا وَلَا نَفَقَةَ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا.
[وَالْمُعْتَدَّةُ عَنْ وَفَاةِ الزَّوْجِ لَا نَفَقَةَ لَهَا حَامِلًا] (4) كَانَتْ أَوْ حَائِلًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ إِنْ كَانَتْ حَامِلًا مِنَ التَّرِكَةِ حَتَّى تَضَعَ، وَهُوَ قَوْلُ شُرَيْحٍ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَالثَّوْرِيِّ. (5) .
وَاخْتَلَفُوا فِي سُكْنَاهَا وَلِلشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا لَا سُكْنَى لَهَا بَلْ تَعْتَدُّ حَيْثُ تَشَاءُ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَعَائِشَةَ. وَبِهِ قَالَ عَطَاءٌ وَالْحُسْنُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَالثَّانِي: لَهَا السُّكْنَى وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ (6) .
وَاحْتَجَّ مَنْ أَوْجَبَ لَهَا السُّكْنَى بِمَا:
__________
(1) أخرجه مالك في الموطأ في الطلاق، باب ما جاء في نفقة المطلقة: 2 / 580، ومسلم في الطلاق، باب المطلقة ثلاثا لا نفقة لها برقم: (1480) 2 / 1114، والمصنف في شرح السنة: 9 / 296-297.
(2) أخرجه أبو دواد في الطلاق، باب من أنكر ذلك على فاطمة: 3 / 195-196، وابن ماجه: 1 / 655. وأخرجه البخاري تعليقا: 9 / 479. قال ابن حجر: وله شاهد من رواية أبي أسامة عن هشام عن عروة ...
(3) أخرجه أبو داود في الطلاق، باب من أنكر ذلك على فاطمة: 3 / 196 وسكت عنه المنذري.
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(5) انظر: المصنف لعبد الرزاق: 7 / 39.
(6) انظر: المصنف لعبد الرزاق: 7 / 41، الأم للشافعي: 5 / 208.(8/155)
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرَخْسِيُّ أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ عَنْ مَالِكٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ، عَنْ عَمَّتِهِ زَيْنَبَ بِنْتِ كَعْبٍ: أَنَّ الْفُرَيْعَةَ بِنْتَ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ وَهِيَ أُخْتُ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَخْبَرَتْهَا: أَنَّهَا جَاءَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُهُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى أَهْلِهَا فِي بَنِي خُدْرَةَ، فَإِنَّ زَوْجَهَا خَرَجَ فِي طَلَبِ أَعْبُدٍ لَهُ أَبَقُوا حَتَّى إِذَا كَانَ بِطَرَفِ الْقَدُومِ لِحِقَهُمْ، فَقَتَلُوهُ فَسَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنْ أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي فَإِنَّ زَوْجِي لَمْ يَتْرُكْنِي فِي مَنْزِلٍ يَمْلِكُهُ وَلَا نَفَقَةٍ؟ فَقَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، فَانْصَرَفْتُ حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي الْحُجْرَةِ أَوْ فِي الْمَسْجِدِ دَعَانِي أَوْ أَمَرَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدُعِيتُ لَهُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ قُلْتِ؟ قَالَتْ: فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ الَّتِي ذَكَرْتُ مِنْ شَأْنِ زَوْجِي، فَقَالَ: امْكُثِي [فِي بَيْتِكِ] (1) حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجْلَهُ. قَالَتْ: فَاعْتَدَدْتُ فِيهِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. قَالَتْ: فَلَمَّا كَانَ عُثْمَانُ أَرْسَلَ إِلَيَّ فَسَأَلَنِي عَنْ ذَلِكَ فَأَخْبَرْتُهُ فَاتَّبَعَهُ وَقَضَى بِهِ (2) .
فَمِنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ: إِذْنُهُ لِفُرَيْعَةَ أَوَّلًا بِالرُّجُوعِ إِلَى أَهْلِهَا صَارَ مَنْسُوخًا بِقَوْلِهِ [آخِرًا] (3) "امْكُثِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجْلَهُ".
وَمَنْ لَمْ يُوجِبِ السُّكْنَى قَالَ: أَمَرَهَا بِالْمُكْثِ فِي بَيْتِهَا آخِرًا اسْتِحْبَابًا لَا وُجُوبًا.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أَيْ أَرْضَعْنَ أَوْلَادَكُمْ {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} عَلَى إِرْضَاعِهِنَّ {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [لِيَقْبَلَ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ إِذَا أَمَرَهُ بِالْمَعْرُوفِ] (4) قَالَ الْكِسَائِيُّ: شَاوِرُوا قَالَ مُقَاتِلٌ: بِتَرَاضِي الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى أَجْرٍ مُسَمَّى. وَالْخِطَابُ لِلزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْمَعْرُوفِ وَبِمَا هُوَ الْأَحْسَنُ، وَلَا يَقْصِدُوا الضِّرَارَ. {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} فِي الرَّضَاعِ وَالْأُجْرَةِ فَأَبَى الزَّوْجُ أَنْ يُعْطِيَ الْمَرْأَةَ رِضَاهَا وَأَبَتِ الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ فَلَيْسَ لَهُ إِكْرَاهُهَا عَلَى إِرْضَاعِهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَأْجِرُ لِلصَّبِيِّ مُرْضِعًا غَيْرَ أُمِّهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى}
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) أخرجه مالك في الموطأ في الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل: 2 / 591، وأبو داود في الطلاق، باب في المتوفى عنها تنتقل: 3 / 198-199، والترمذي في الطلاق، باب ما جاء أين تعتد المتوفى عنها زوجها: 4 / 390-391، والنسائي في الطلاق، باب مقام المتوفى عنها زوجها في بيتها حتى تحل: 6 / 199، وابن ماجه برقم (2031) 1 / 654-655، والدارمي: 2 / 168 (بتحقيق عبد الله هاشم اليماني) والإمام أحمد: 6 / 370، وصححه ابن حبان برقم: (1332) ص (323-324) . وكذلك الحاكم: 2 / 208 ووافقه الذهبي، والمصنف في شرح السنة: 9 / 300-301.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/156)
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11) }
{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} عَلَى قَدْرِ غِنَاهُ {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} مِنَ الْمَالِ {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا} فِي النَّفَقَةِ {إِلَّا مَا آتَاهَا} أَعْطَاهَا مِنَ الْمَالِ {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} بُعْدَ ضَيِّقٍ وَشِدَّةٍ غِنًى وَسَعَةً.
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ} عَصَتْ وَطَغَتْ {عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} أَيْ وَأَمْرِ رُسُلِهِ {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} بِالْمُنَاقَشَةِ وَالِاسْتِقْصَاءِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: حَاسَبَهَا بِعَمَلِهَا فِي الدُّنْيَا فَجَازَاهَا بِالْعَذَابِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} مُنْكَرًا فَظِيعًا، وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ. لَفْظُهُمَا مَاضٍ وَمَعْنَاهُمَا الِاسْتِقْبَالُ.
وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَجَازُهَا: فَعَذَّبْنَاهَا فِي الدُّنْيَا بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ وَالسَّيْفِ وَسَائِرِ الْبَلَايَا وَحَاسَبْنَاهَا فِي الْآخِرَةِ حِسَابًا شَدِيدًا. {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} جَزَاءَ أَمْرِهَا وَقِيلَ: ثِقَلَ عَاقِبَةِ كُفْرِهَا {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} خُسْرَانًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} يَعْنِي الْقُرْآنَ. {رَسُولًا} بَدَلٌ مِنَ الذِّكْرِ، وَقِيلَ: أَنْزَلَ إِلَيْكُمْ قُرْآنًا وَأَرْسَلَ رَسُولًا. وَقِيلَ: مَعَ الرَّسُولِ، وَقِيلَ: "الذِّكْرُ" هُوَ الرَّسُولُ.
وَقِيلَ: "ذِكْرًا" أَيْ شَرَفًا. ثُمَّ بَيَّنَ مَا هُوَ فَقَالَ: {رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} يَعْنِي الْجَنَّةَ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا.(8/157)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12) }
{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [فِي الْعَدَدِ] (1) {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} بِالْوَحْي مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى.
قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هُوَ مَا يُدَبِّرُ فِيهِنَّ مِنْ عَجِيبِ تَدْبِيرِهِ، فَيُنْزِلُ الْمَطَرَ وَيُخْرِجُ النَّبَاتَ، وَيَأْتِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، وَيَخْلُقُ الْحَيَوَانَ عَلَى اخْتِلَافِ هَيْئَاتِهَا وَيَنْقُلُهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي كُلِّ أَرْضٍ مِنْ أُرْضِهِ وَسَمَاءٍ مِنْ سَمَائِهِ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِهِ وَقَضَاءٌ مِنْ قَضَائِهِ.
{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ.
__________
(1) ساقط من "ب".(8/158)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1)
سُورَةُ التَّحْرِيمِ مَدَنِيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) }
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} وَسَبَبُ نُزُولِهَا مَا أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ هُشَامٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحِبُّ الْحَلْوَاءَ [وَيُحِبُّ] (2) الْعَسَلَ وَكَانَ إِذَا صَلَّى الْعَصْرَ جَازَ عَلَى نِسَائِهِ فَيَدْنُو مِنْهُنَّ، فَدَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ فَاحْتَبَسَ عِنْدَهَا أَكْثَرَ مِمَّا كَانَ يَحْتَبِسُ، فَسَأَلْتُ عَنْ ذَلِكَ فَقِيلَ لِي: أَهَدَتْ لَهَا امْرَأَةٌ مِنْ قَوْمِهَا عُكَّةَ عَسَلٍ فَسَقَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا شَرْبَةً، فَقُلْتُ: أَمَا وَاللَّهِ لَنَحْتَالَنَّ لَهُ فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِسَوْدَةَ، وَقُلْتُ: إِذَا دَخَلَ عَلَيْكِ فَإِنَّهُ سَيَدْنُو مِنْكِ فَقُولِي لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: لَا فَقُولِي لَهُ: مَا هَذِهِ الرِّيحُ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَشْتَدُّ عَلَيْهِ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الرِّيحُ، فَإِنَّهُ سَيَقُولُ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، فَقُولِي لَهُ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، وَسَأَقُولُ ذَلِكَ وَقَوْلِيهِ أَنْتِ يَا صَفِيَّةُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى سَوْدَةَ، تَقُولُ سَوْدَةُ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَقَدْ كِدْتُ أَنْ أَبَادِيهِ بِالَّذِي قُلْتِ لِي وَإِنَّهُ لَعَلَى الْبَابِ، فَرَقًا مِنْكِ فَلَمَّا دَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلْتَ مَغَافِيرَ؟ قَالَ: لَا قُلْتُ: فَمَا بَالُ هَذِهِ الرِّيحِ! قَالَ: سَقَتْنِي حَفْصَةُ شَرْبَةَ عَسَلٍ، قَالَتْ: جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعُرْفُطَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيَّ قُلْتُ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، وَدَخَلَ عَلَى صَفِيَّةَ
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة التحريم بالمدينة. وأخرج ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير قال: أنزلت بالمدينة سورة النساء و (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) . انظر: الدر المنثور: 8 / 213.
(2) زيادة من "أ".(8/159)
فَقَالَتْ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَى حَفْصَةَ قَالَتْ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَّا أَسْقِيكَ مِنْهُ قَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ تَقُولُ سَوْدَةُ: سُبْحَانَ اللَّهِ لَقَدْ حَرَمْنَاهُ، قَالَتْ: قُلْتُ لَهَا اسْكُتِي (1)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّبَّاحُ، حَدَّثَنَا الْحَجَّاجُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: زَعْمَ عَطَاءٌ أَنَّهُ سَمِعَ عَبِيدَ بْنَ عُمَيْرٍ يَقُولُ سُمِعَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمْكُثُ عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَيَشْرَبُ عِنْدَهَا عَسَلًا فَتَوَاصَيْتُ أَنَا وَحَفْصَةُ أَنَّ أَيَّتَنَا دَخَلَ عَلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلْتَقُلْ إِنِّي أَجِدُ مِنْكَ رِيحَ مَغَافِيرَ، أَكَلْتَ مَغَافِيرَ فَدَخَلَ عَلَى إِحْدَاهُمَا فَقَالَتْ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: لَا بَأْسَ شَرِبْتُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ وَلَنْ أَعُودَ لَهُ، فَنَزَلَتْ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لك تبتغي مرضات أَزْوَاجِكَ" إِلَى قَوْلِهِ: "إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ" لِعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لِقَوْلِهِ: بَلْ شَرِبْتُ عَسَلًا (2)
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ بِإِسْنَادِهِ وَقَالَ: قَالَ: لَا وَلَكِنْ كُنْتُ أَشْرَبُ عَسَلًا عِنْدَ زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ فَلَنْ أَعُودَ لَهُ، وَقَدْ حَلَفْتُ لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا يَبْتَغِي بِذَلِكَ مَرْضَاةَ أَزْوَاجِهِ (3) .
وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ بَيْنَ نِسَائِهِ فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ حَفْصَةَ اسْتَأْذَنَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي زِيَارَةِ أَبِيهَا فَأَذِنَ لَهَا، فَلَمَّا خَرَجَتْ أَرْسَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى جَارِيَتِهِ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ فَأَدْخَلَهَا بَيْتَ حَفْصَةَ، فَوَقَعَ عَلَيْهَا فَلَمَّا رَجَعَتْ حَفْصَةُ وَجَدَتِ الْبَابَ مُغْلَقًا فَجَلَسَتْ عِنْدَ الْبَابِ فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَجْهُهُ يَقْطُرُ عَرَقًا، وَحَفْصَةُ تَبْكِي فَقَالَ: مَا يُبْكِيكِ؟ فَقَالَتْ: إِنَّمَا أَذِنْتَ لِي مِنْ أَجْلِ هَذَا أَدْخَلْتَ أَمَتَكَ بَيْتِي، ثُمَّ وَقَعْتَ عَلَيْهَا فِي يَوْمِي وَعَلَى فِرَاشِي، أَمَا رَأَيْتَ لِي حُرْمَةً وَحَقًّا؟ مَا كُنْتَ تَصْنَعُ هَذَا بِامْرَأَةٍ مِنْهُنَّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَلَيْسَتْ هِيَ جَارِيَتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ لِي؟ اسْكُتِي فَهِيَ حَرَامٌ عَلَيَّ أَلْتَمِسُ بِذَاكَ رِضَاكِ، فَلَا تُخْبِرِي بِهَذَا امْرَأَةً مِنْهُنَّ. فَلَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَعَتْ حَفْصَةُ الْجِدَارَ الَّذِي بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَائِشَةَ فَقَالَتْ: أَلَّا أُبَشِّرُكِ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ
__________
(1) أخرجه البخاري في الطلاق، باب (لم تحرم ما أحل الله لك) 9 / 374-375، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق برقم (1474) : 2 / 1101-1102.
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة التحريم - باب (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك) 8 / 656، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق برقم: (1474) 2 / 1100، والمصنف في شرح السنة: 9 / 226.
(3) أخرجه البخاري في الطلاق، باب (لم تحرم ما أحل الله لك) 9 / 374.(8/162)
قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3)
حَرَّمَ عَلَيْهِ أَمَتَهُ مَارِيَةَ، وَإِنَّ اللَّهَ قَدْ أَرَاحَنَا مِنْهَا وَأَخْبَرَتْ عَائِشَةَ بِمَا رَأَتْ، وَكَانَتَا مُتَصَافِيَتَيْنِ مُتَظَاهِرَتَيْنِ عَلَى سَائِرِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَتْ عَائِشَةُ فَلَمْ تَزَلْ بِنَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى حَلَفَ أَنْ لَا يَقْرَبَهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ (1) "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ" يَعْنِي الْعَسَلَ وَمَارِيَةَ "تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ" وَأَمْرَهُ أَنْ يُكَفِّرَ يَمِينَهُ وَيُرَاجِعَ أَمَتَهُ، فَقَالَ:
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) }
{قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أَيْ بَيَّنَ وَأَوجَبَ أَنْ تُكَفِّرُوهَا إِذَا حَنِثْتُمْ وَهِيَ مَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ} وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}
وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي لَفْظِ التَّحْرِيمِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ هُوَ بِيَمِينٍ، فَإِنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ، أَوْ حَرَّمْتُكِ، فَإِنَّ نَوَى بِهِ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِنَّ نَوَى بِهِ ظِهَارًا فَظِهَارٌ. وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ ذَاتِهَا أَوْ أَطْلَقَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ. وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لِجَارِيَتِهِ فَإِنَّ نَوَى عِتْقًا عُتِقَتْ، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ ذَاتِهَا أَوْ أَطْلَقَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ، وَإِنْ قَالَ لِطَعَامٍ: حَرَّمْتُهُ عَلَى نَفْسِي فَلَا شَيْءِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ.
وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَمِينٌ، فَإِنْ قَالَ ذلك لزوجته 168/ب أَوْ جَارِيَتِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ مَا لَمْ يَقْرَبْهَا كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا. وَإِنْ حَرَّمَ طَعَامًا فَهُوَ كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَأْكُلَهُ، فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَأْكُلْ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَائِشَةَ وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ فَضَالَةَ، حَدَّثَنَا هُشَامٌ عَنْ يَحْيَى، عَنِ ابْنِ حَكِيمٍ، وَهُوَ يَعْلَى بْنُ حَكِيمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ فِي الْحَرَامِ: يُكَفِّرُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ" (2) (الْأَحْزَابِ-21) . {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} وَهُوَ تَحْرِيمُ فَتَاتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ لِحَفْصَةَ: لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا.
__________
(1) انظر: الطبري: 28 / 157، ابن كثير: 4 / 387، الدر المنثور: 8 / 216-217.
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة التحريم - باب (يا أيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك ... ) 8 / 656، ومسلم في الطلاق، باب وجوب الكفارة على من حرم امرأته ولم ينو الطلاق برقم: (1473) 2 / 1100.(8/163)
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَسَرَّ أَمْرَ الْخِلَافَةِ بَعْدَهُ فَحَدَّثَتْ بِهِ حَفْصَةُ (1) . قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسَرَّ إِلَيْهَا أَنَّ أَبَاكِ وَأَبَا عَائِشَةَ يَكُونَانِ خَلِيفَتَيْنِ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: أَسَرَّ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَتِي مِنْ بَعْدِي (2) .
{فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أَخْبَرَتْ بِهِ حَفْصَةُ عَائِشَةَ {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أَيْ أَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى أَنَّهَا أَنْبَأَتْ بِهِ {عَرَّفَ بَعْضَهُ} قَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالْكِسَائِيُّ: "عَرَفَ" بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ، أَيْ: عَرَفَ بَعْضَ الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَتْهُ مِنْ إِفْشَاءِ سِرِّهِ، أَيْ: غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَجَازَاهَا بِهِ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ: لِأَعْرِفَنَّ لَكَ مَا فَعَلْتَ، أَيْ: لِأُجَازِيَنَّكَ عَلَيْهِ، وَجَازَاهَا بِهِ عَلَيْهِ بِأَنْ طَلَّقَهَا فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ قَالَ: لَوْ كَانَ فِي آلِ الْخَطَّابِ خَيْرٌ لَمَا طَلَّقَكِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَجَاءَ جِبْرِيلُ وَأَمَرَهُ بِمُرَاجَعَتِهَا وَاعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ شَهْرًا وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةِ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ مَارِيَةَ، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ (3) .
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ وَإِنَّمَا هَمَّ بِطَلَاقِهَا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ: لَا تُطَلِّقْهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وَإِنَّهَا مِنْ نِسَائِكَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُطَلِّقْهَا.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "عَرَّفَ" بِالتَّشْدِيدِ، أَيْ: عَرَّفَ حَفْصَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ، أَيْ أَخْبَرَهَا بِبَعْضِ الْقَوْلِ الَّذِي كَانَ مِنْهَا.
{وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} يَعْنِي لَمْ يُعَرِّفْهَا إِيَّاهُ، وَلَمْ يُخْبِرْهَا بِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ (4) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِ حَفْصَةَ أَرَادَ أَنْ يَتَرَاضَاهَا فَأَسَرَّ إِلَيْهَا شَيْئَيْنِ: تَحْرِيمَ الْأَمَةِ عَلَى نَفْسِهِ، وَتَبْشِيرَهَا بِأَنَّ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَفِي أَبِيهَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَأَخْبَرَتْ بِهِ حَفْصَةُ عَائِشَةَ وَأَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ، عَرَّفَ [بَعْضَهُ] (5) حَفْصَةَ وَأَخْبَرَهَا بِبَعْضِ مَا أَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْأَمَةِ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، يَعْنِي ذِكْرَ الْخِلَافَةِ كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْتَشِرَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أَيْ
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 219 لابن مردويه.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 218 لابن عساكر، وما انفرد به فهو ضعيف.
(3) قال الحافظ - ابن حجر - في الكافي الشاف ص (175) "لم أره هكذا وهو عند الحاكم وغيره بغير ذكر سببه".
(4) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 219 لابن مردويه عن على رضي الله عنه.
(5) ساقط من "أ".(8/164)
إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4)
أَخْبَرَ حَفْصَةَ بِمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ {قَالَتْ} حَفْصَةُ {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} أَيْ: مَنْ أَخْبَرَكَ بِأَنِّي أَفْشَيْتُ السِّرَّ؟ {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) }
{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} أَيْ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِيذَاءِ. يُخَاطِبُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أَيْ زَاغَتْ وَمَالَتْ عَنِ الْحَقِّ وَاسْتَوْجَبْتُمَا التَّوْبَةَ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَالَتْ قُلُوبُهُمَا بِأَنْ سَرَّهُمَا مَا كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ اجْتِنَابِ جَارِيَتِهِ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمْ أَزَلْ حَرِيصًا عَلَى أَنْ أَسْأَلَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ عَنِ الْمَرْأَتَيْنِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَيْنِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا: "إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا" حَتَّى حَجَّ وَحَجَجْتُ مَعَهُ وَعَدَلَ وَعَدَلْتُ مَعَهُ بِإِدَاوَةٍ، فتبَّرَّزَ ثُمَّ جَاءَ فَسَكَبْتُ عَلَى يَدَيْهِ مِنْهَا فَتَوَضَأَ فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَنِ الْمَرْأَتَانِ مِنْ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللَّتَانِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمَا: "إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا"؟ فَقَالَ: وَاعَجَبًا لَكَ يَا ابْنَ عَبَّاسٍ هَمَا عَائِشَةُ وَحَفْصَةُ.
ثُمَّ اسْتَقْبَلَ عُمَرُ الْحَدِيثَ يَسُوقُهُ فَقَالَ: إِنِّي كُنْتُ أَنَا وَجَارٌ لِي مِنَ الْأَنْصَارِ فِي بَنِي أُمَيَّةَ بْنِ زَيْدٍ، وَهِيَ مِنْ عَوَالِي الْمَدِينَةِ، وَكُنَّا نَتَنَاوَبُ النُّزُولَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَنْزِلُ يَوْمًا وأَنْزِلُ يَوْمًا فَإِذَا نَزَلْتُ جِئْتُهُ بِمَا حَدَثَ مِنْ خَبَرِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مِنَ الْوَحْيِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِذَا نَزَلَ فَعَلَ مِثْلَ ذَلِكَ.
وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى الْأَنْصَارِ إِذَا هُمْ قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ فَصَخِبَتْ عَلَيَّ امْرَأَتِي فَرَاجَعَتْنِي فَأَنْكَرْتُ أَنْ تُرَاجِعَنِي فَقَالَتْ: وَلِمَ تُنْكِرُ أَنْ أَرَاجِعَكَ! فَوَاللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيُرَاجِعْنَهُ، وَإِنَّ إِحْدَاهُنَّ لِتَهْجُرُهُ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ. فَأَفْزَعَنِي وَقَلْتُ: خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ.
ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي [فَنَزَلْتُ] (1) فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ، فَقُلْتُ لَهَا: أَيْ حَفْصَةُ أَتُغَاضِبُ إِحْدَاكُنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْيَوْمَ حَتَّى اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، فَقُلْتُ: خِبْتِ وَخَسِرْتِ، أَفَتَأْمَنِينَ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ تَعَالَى لِغَضَبِ رَسُولِهِ فَتَهْلَكِي لَا تَسْتَكْثِرِي لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا تُرَاجِعِيهِ فِي شَيْءٍ وَلَا تَهْجُرِيهِ وَسَلِينِي
__________
(1) زيادة من "ب".(8/165)
مَا بَدَا لَكِ، وَلَا يَغُرَّنَّكِ أَنْ كَانَتْ [جَارَتُكِ] (1) [أَوْضَأَ] (2) مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُرِيدُ عَائِشَةَ -.
قَالَ عُمَرُ: وَكُنَّا تَحَدَّثْنَا أَنَّ غَسَّانَ تُنْعِلُ الْخَيْلَ لِتَغْزُوَنَا فَنَزَلَ صَاحِبِي الْأَنْصَارِيُّ يَوْمَ نَوْبَتِهِ فَرَجَعَ إِلَيْنَا عِشَاءً فَضَرَبَ بَابِي ضَرْبًا شَدِيدًا وَقَالَ: أَثَمَّ هُوَ؟
فَفَزِعْتُ فَخَرَجْتُ إِلَيْهِ فَقَالَ: قَدْ حَدَثَ الْيَوْمَ أَمْرٌ عَظِيمٌ؟ فَقُلْتُ: مَا هُوَ أَجَاءَ غَسَّانُ! قَالَ: لَا بَلْ أَعْظَمُ مِنْهُ وَأَهْوَلُ، طَلَّقَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ. فَقُلْتُ: قَدْ خَابَتْ حَفْصَةُ وَخَسِرَتْ كُنْتُ أَظُنُّ أَنَّ هَذَا يُوشِكُ أَنْ يَكُونَ.
فَجَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي وَصَلَّيْتُ صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْرُبَةً فَاعْتَزَلَ فِيهَا فَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَإِذَا هِيَ تَبْكِي، فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ أَلَمْ أَكُنْ حَذَّرْتُكِ؟ أَطَلَّقَكُنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَتْ: لَا أَدْرِي هَا هُوَ ذَا مُعْتَزِلٌ فِي الْمَشْرُبَةِ. فَجِئْتُ إِلَى الْمِنْبَرِ فَإِذَا حَوْلَهُ رَهْطٌ يَبْكِي بَعْضُهُمْ، فَجَلَسْتُ معهم قليلا 169/أثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ، فَجِئْتُ الْمَشْرُبَةَ الَّتِي فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لِغُلَامٍ لَهُ أَسْوَدَ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَدَخَلَ فَكَلَّمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ: كَلَّمْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ، فَانْصَرَفْتُ حَتَّى جَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ فَقُلْتُ إِلَى الْغُلَامِ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ فَاسْتَأْذَنَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ [فَرَجَعْتُ فَجَلَسْتُ مَعَ الرَّهْطِ الَّذِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ، ثُمَّ غَلَبَنِي مَا أَجِدُ فَجِئْتُ الْغُلَامَ فَقُلْتُ: اسْتَأْذِنْ لِعُمَرَ، فَاسْتَأْذَنَ ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ فَقَالَ: قَدْ ذَكَّرْتُكَ لَهُ فَصَمَتَ] (3) .
فَلَمَّا وَلَّيْتُ مُنْصَرِفًا قَالَ إِذَا الْغُلَامُ يَدْعُونِي فَقَالَ: قَدْ أَذِنَ لَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا هُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى رِمَالِ حَصِيرٍ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِرَاشٌ قَدْ أَثَّرَ الرِّمَالُ بِجَنْبِهِ مُتَّكِئًا عَلَى وِسَادَةٍ مِنْ أَدَمٍ حَشْوُهَا لِيفٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَطَلَّقْتَ نِسَاءَكَ؟ فَرَفَعَ إِلَيَّ بَصَرَهُ فَقَالَ: لَا فَقُلْتُ: اللَّهُ أَكْبَرُ. ثُمَّ قُلْتُ وَأَنَا قَائِمٌ أَسْتَأْنِسُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَكُنَّا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ نَغْلِبُ النِّسَاءَ فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ إِذَا قَوْمٌ تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ رَأَيْتَنِي وَدَخَلْتُ عَلَى حَفْصَةَ فَقُلْتُ لَهَا: لَا يَغُرَّنَّكَ أَنْ كَانَتْ جَارَتُكِ [أَوْضَأَ] (4) مِنْكِ وَأَحَبَّ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -يُرِيدُ عَائِشَةَ -فَتَبَسَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبَسُّمَةً أُخْرَى، فَجَلَسْتُ حِينَ رَأَيْتُهُ يَبْتَسِمُ فَرَفَعْتُ بَصَرِي فِي بَيْتِهِ، فَوَاللَّهِ مَا رَأَيْتُ فِيهِ شَيْئًا يَرُدُّ الْبَصَرَ غَيْرَ أَهَبَةٍ
__________
(1) في "ب" جاريتك.
(2) في "أ" أرضى.
(3) زيادة من "ب".
(4) في "أ" أرضى.(8/166)
ثَلَاثَةٍ، فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ادْعُ اللَّهَ فَلْيُوَسِّعْ عَلَى أُمَّتِكَ فَإِنَّ فَارِسَ وَالرُّومَ قَدْ وُسِّعَ عَلَيْهِمْ وَأُعْطُوا مِنَ الدُّنْيَا وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ.
فَجَلَسَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: "أَوْ فِي هَذَا أَنْتَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ؟ إِنَّ أُولَئِكَ قَوْمٌ عُجِّلُوا طَيِّبَاتِهِمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا".
فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي.
فَاعْتَزَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْحَدِيثِ حِينَ أَفْشَتْهُ حَفْصَةُ إِلَى عَائِشَةَ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً، وَكَانَ قَالَ: مَا أَنَا بِدَاخِلٍ عَلَيْهِنَّ شَهْرًا -مِنْ شِدَّةِ مَوْجِدَتِهِ عَلَيْهِنَّ حِينَ عَاتَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ
فَلَمَّا مَضَتْ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ لَيْلَةً، دَخَلَ عَلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَبَدَأَ بِهَا فَقَالَتْ لَهُ عَائِشَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّكَ كُنْتَ أَقْسَمْتَ أَنْ لَا تَدَخُلَ عَلَيْنَا شَهْرًا وَإِنَّمَا أَصْبَحْتَ مِنْ تِسْعٍ وَعِشْرِينَ لَيْلَةً أَعُدُّهَا عَدًّا! فَقَالَ: الشَّهْرُ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ، وَكَانَ ذَلِكَ الشَّهْرُ تِسْعًا وَعِشْرِينَ لَيْلَةً.
قَالَتْ عَائِشَةُ: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّخْيِيرَ فَبَدَأَ بِي أَوَّلَ امْرَأَةٍ مِنْ نِسَائِهِ، فَاخْتَرْتُهُ ثُمَّ خَيَّرَ نِسَاءَهُ كُلَّهُنَّ فَقُلْنَ مِثْلَ مَا قَالَتْ عَائِشَةُ (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ، أَخْبَرَنَا شُعَيْبٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، أَخْبَرَنِي أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّ عَائِشَةَ زَوْجَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَرَتْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَهَا حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُخَيِّرَ أَزْوَاجَهُ فَبَدَأَ بِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا فَلَا عَلَيْكِ [أَنْ لَا تَعْجَلِي] (2) حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، وَقَدْ عَلِمَ أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ قَالَتْ ثُمَّ قَالَ إِنَّ اللَّهَ قَالَ: "يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ" إِلَى تَمَامِ الْآيَتَيْنِ، فَقُلْتُ: أَوَ فِي هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ (3)
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ يُونُسَ
__________
(1) أخرجه البخاري في المظالم، باب الغرفة والعلية المشرفة وغير المشرفة في السطوح وغيرها: 5 / 114-116 واللفظ له، ومسلم في الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن وقوله تعالى: (وإن تظاهرا عليه) برقم (1479) 2 / 1111-1113.
(2) في "أ" (أن تستعجلي) .
(3) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة الأحزاب، باب (قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا) 8 / 519.(8/167)
عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
الْحَنَفِيُّ، حَدَّثَنَا عِكْرِمَةُ بْنُ عَمَّارٍ، عَنْ سِمَاكِ [بْنِ زُمَيْلٍ] (1) حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، حَدَّثَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ قَالَ: لَمَّا اعْتَزَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. وَقَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَشُقُّ عَلَيْكَ مِنْ شَأْنِ النِّسَاءِ؟ فَإِنْ كُنْتَ طَلَّقْتَهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مَعَكَ وَمَلَائِكَتَهُ وَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَأَنَا وَأَبُو بَكْرٍ وَالْمُؤْمِنُونَ مَعَكَ. وَقَلَّمَا تَكَلَّمْتُ -وَأَحْمَدُ اللَّهَ تَعَالَى -بِكَلَامٍ إِلَّا رَجَوْتُ أَنَّ اللَّهَ يُصَدِّقُ قَوْلِي الَّذِي أَقُولُ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: "عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ". "وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ" (2) .
قَوْلُهُ: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أَيْ تَتَظَاهَرَا وَتَتَعَاوَنَا عَلَى أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ، وَالْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهَا.
{فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} أَيْ وَلِيُّهُ وَنَاصِرُهُ: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأُبِيِّ بْنِ كَعْبٍ: {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (3) قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الْمُخْلِصُونَ الَّذِي لَيْسُوا بِمُنَافِقِينَ. {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} قَالَ مُقَاتِلٌ: بَعْدَ اللَّهِ وَجِبْرِيلَ "وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ" أَيْ: أَعْوَانٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَهَذَا مِنَ الْوَاحِدِ الَّذِي يُؤَدِّي عَنِ الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ: "وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" (النَّسِاءِ-69) .
{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5) }
{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} أَيْ: وَاجِبٌ مِنَ اللَّهِ إِنْ طَلَّقَكُنَّ رَسُولُهُ {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} خَاضِعَاتٍ لِلَّهِ بِالطَّاعَةِ {مُؤْمِنَاتٍ} مُصَدِّقَاتٍ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ {قَانِتَاتٍ} طَائِعَاتٍ، وَقِيلَ: دَاعِيَاتٍ. وَقِيلَ: مُصَلِّيَاتٍ {تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} صَائِمَاتٍ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مُهَاجِرَاتٍ وَقِيلَ: يَسِحْنَ مَعَهُ حَيْثُ مَا سَاحَ {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} وَهَذَا فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقُدْرَةِ لَا عَنِ الْكَوْنِ لِأَنَّهُ قَالَ: "إِنْ طَلَّقَكُنَّ" وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهُنَّ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: "وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ
__________
(1) هكذا في "أ" وفي "ب" (ابن أبي زميل) وكلاهما خطأ والصحيح (أبي زميل) كما في التهذيب وعند مسلم.
(2) قطعة من حديث طويل أخرجه مسلم في الطلاق، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن ... برقم (1479) 2 / 1105-1108.
(3) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 223 لابن عساكر، وقد أشار في مقدمة الجامع إلى أن العزو لابن عساكر مؤذن بالضعف.(8/168)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7)
قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ" (مُحَمَّدٍ-38) وَهَذَا فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقُدْرَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْوُجُودِ أُمَّةٌ خَيْرٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) }(8/169)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ} قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ بِالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ تعالى عنه 169/ب وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ {وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} يَعْنِي: مُرُوهُمْ بِالْخَيْرِ وَانْهُوهُمْ عَنِ الشَّرِّ وَعَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ تَقُوهُمْ بِذَلِكَ نَارًا {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ} يَعْنِي خَزَنَةَ النَّارِ {غِلَاظٌ} فِظَاظٌ عَلَى أَهْلِ النَّارِ {شِدَادٌ} أَقْوِيَاءُ يَدْفَعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِالدَّفْعَةِ الْوَاحِدَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا فِي النَّارِ وَهُمُ الزَّبَانِيَةُ، لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِيهِمُ الرَّحْمَةَ {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} قَرَأَ الْحَسَنُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: "نُصُوحًا" بِضَمِّ النُّونِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِهَا أَيْ: تَوْبَةً ذَاتَ نُصْحٍ تَنْصَحُ صَاحِبَهَا بِتَرْكِ الْعَوْدِ إِلَى مَا تَابَ مِنْهُ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهَا قَالَ عُمَرُ وَأُبَيٌّ وَمُعَاذٌ: "التَّوْبَةُ النَّصُوحُ" أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ، كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ (1) .
قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ نَادِمًا عَلَى مَا مَضَى؛ مُجْمِعًا عَلَى أَلَّا يَعُودَ فِيهِ (2) .
قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَوْبَةً تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ.
قَالَ الْقُرَظِيُّ: يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ وَالْإِقْلَاعُ بِالْأَبْدَانِ وَإِضْمَارُ تَرْكِ الْعَوْدِ
__________
(1) قال ابن حجر في المطالب العالية: 3 / 390: أخرجه أحمد بن منيع في مسنده، وإسناده صحيح موقوف. ورواه الطبري: 28 / 167.
(2) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 227 لعبد بن حميد.(8/169)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
بِالْجَنَانِ وَمُهَاجَرَةُ سَيِّئِ الْإِخْوَانِ.
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أَيْ لَا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِدُخُولِ النَّارِ {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} عَلَى الصِّرَاطِ {يَقُولُونَ} إِذْ طَفِئَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} .
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) }
ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلصَّالِحِينَ وَالصَّالِحَاتِ مِنَ النِّسَاءِ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ} وَاسْمُهَا وَاعِلَةُ {وَامْرَأَةَ لُوطٍ} وَاسْمُهَا وَاهِلَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَالِعَةُ وَوَالِهَةُ.
{كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} وَهُمْا نُوحٌ وَلُوطٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ {فَخَانَتَاهُمَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ وَإِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا أَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى غَيْرِ دِينِهِمَا فَكَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَإِذَا آمَنَ بِهِ أَحَدٌ أَخْبَرَتْ بِهِ الْجَبَابِرَةَ وَأَمَّا امْرَأَةُ لُوطٍ [فَإِنَّهَا كَانَتْ] (1) تَدُلُّ قَوْمَهُ عَلَى أَضْيَافِهِ إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ بِاللَّيْلِ أَوْقَدَتِ النَّارَ، وَإِذَا نَزَلَ بِالنَّهَارِ دَخَّنَتْ لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَسَرَّتَا النِّفَاقَ وَأَظْهَرَتَا الْإِيمَانَ.
{فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} لَمْ يَدْفَعَا عَنْهُمَا مَعَ نُبُوَّتِهِمَا عَذَابَ اللَّهِ {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ}
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/170)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
قَطَعَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ طَمَعَ كُلِّ مَنْ يَرْكَبُ الْمَعْصِيَةَ أَنْ يَنْفَعَهُ صَلَاحُ غَيْرِهِ.
{وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12) }
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَعْصِيَةَ غَيْرِهِ لَا تَضُرُّهُ إِذَا كَانَ مُطِيعًا فَقَالَ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} وَهِيَ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا غَلَبَ مُوسَى السَّحَرَةَ آمَنَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَلَمَّا تَبَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ إِسْلَامُهَا أَوْتَدَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا بِأَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ وَأَلْقَاهَا فِي الشَّمْسِ.
قَالَ سَلْمَانُ: كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ بِالشَّمْسِ فَإِذَا انْصَرَفُوا عَنْهَا أَظَلَّتْهَا الْمَلَائِكَةُ (1) .
{إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فَكَشْفَ اللَّهُ لَهَا عَنْ بَيْتِهَا فِي الْجَنَّةِ حَتَّى رَأَتْهُ.
وَفِي الْقِصَّةِ: أَنَّ فِرْعَوْنَ أَمَرَ بِصَخْرَةٍ عَظِيمَةٍ لِتُلْقَى عَلَيْهَا فَلَمَّا أَتَوْهَا بِالصَّخْرَةِ قَالَتْ: رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ فَأَبْصَرَتْ بَيْتَهَا فِي الْجَنَّةِ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ، وَانْتُزِعَ رُوحُهَا فَأُلْقِيَتِ الصَّخْرَةُ عَلَى جَسَدٍ لَا رُوحَ فِيهِ وَلَمْ تَجِدْ أَلَمًا.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: رَفَعَ اللَّهُ امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِلَى الْجَنَّةِ فَهِيَ فِيهَا تَأْكُلُ وَتَشْرَبُ.
{وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} قَالَ مُقَاتِلٌ: وَعَمَلِهِ يَعْنِي الشِّرْكَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "وَعَمَلِهِ" قَالَ: جِمَاعُهُ. {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الْكَافِرِينَ. {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ} أَيْ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْكِنَايَةَ {مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} يَعْنِي الشَّرَائِعَ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ لِلْعِبَادِ بِكَلِمَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ {وَكُتُبِهِ} قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَفْصٌ: "وَكُتُبِهِ" عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "وَكِتَابِهِ" عَلَى التَّوْحِيدِ. وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْكَثْرَةُ أَيْضًا. وَأَرَادَ بِكُتُبِهِ الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَدَاودَ وَعِيسَى
__________
(1) أخرجه الطبري: 28 / 171، وأبو يعلى: 6 / 53، قال ابن حجر في المطالب العالية: 3 / 390 صحيح موقوف.(8/171)
عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} أَيْ مِنَ الْقَوْمِ الْقَانِتِينَ الْمُطِيعِينَ لِرَبِّهَا وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ مِنَ الْقَانِتَاتِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: "مِنَ الْقَانِتِينَ" أَيْ مِنَ الْمَصَلِّينَ. وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْقَانِتِينَ رَهْطَهَا وَعَشِيرَتَهَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ صَلَاحٍ مُطِيعِينَ لِلَّهِ.
وَرُوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "حَسْبُكَ مِنْ نِسَاءِ الْعَالَمِينَ: مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ" (1) .
__________
(1) صحيح أخرجه الترمذي في المناقب، فضل خديجة رضي الله عنها: 10 / 389-390 وقال: "هذا حديث صحيح" وصححه الحاكم: 3 / 157، وعبد الرزاق: 11 / 430، والطحاوي في مشكل الآثار: 1 / 50، وأبو نعيم في الحلية: 2 / 344، والإمام أحمد: 3 / 135، والمصنف في شرح السنة: 19 / 157.(8/172)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2)
سُورَةُ الْمُلْكِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) }
{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْمَوْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةَ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ مَوْتَ الْإِنْسَانِ وَحَيَاتَهُ فِي الدُّنْيَا جَعَلَ اللَّهُ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ وَفَنَاءٍ، وَجَعْلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ وَبَقَاءٍ (2) .
قِيلَ إِنَّمَا قَدَّمَ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ إِلَى الْقَهْرِ أَقْرَبُ: وَقِيلَ: قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَوْتِ كَالنُّطْفَةِ وَالتُّرَابِ وَنَحْوِهِمَا ثُمَّ اعْتَرَضَتْ عَلَيْهَا الْحَيَاةُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَلَقَ الْمَوْتَ عَلَى صُورَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ لَا يَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهُ شَيْءٌ إِلَّا مَاتَ وَخَلَقَ الْحَيَاةَ عَلَى صُورَةِ فَرَسٍ بَلْقَاءَ [أُنْثَى] (3) وَهِيَ الَّتِي كَانَ جِبْرِيلُ وَالْأَنْبِيَاءُ يَرْكَبُونَهَا لَا تَمُرُّ بِشَيْءٍ وَلَا يَجِدُ رِيحَهَا شَيْءٌ إِلَّا حَيِيَ، وَهِيَ الَّتِي أَخَذَ السَّامِرِيُّ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِهَا فَأَلْقَى عَلَى الْعِجْلِ فَحَيِيَ.
{لِيَبْلُوَكُمْ} فِيمَا بَيْنَ [الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ] (4) {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ
__________
(1) أخرج ابن الضريس والبخاري وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت بمكة تبارك الملك. انظر: الدر المنثور: 8 / 230.
(2) انظر: الدر المنثور: 8 / 234.
(3) ساقط من "أ".
(4) في "ب" الموت والحياة.(8/173)
الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4)
مَرْفُوعًا: " أَحْسَنُ عَمَلًا" أَحْسَنُ عَقْلًا وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ، وَأَسْرَعُ فِي طاعة الله 170/أ
وَقَالَ فُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ "أَحْسَنُ عَمَلًا" أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ. وَقَالَ: الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَكُونَ خَالِصًا صَوَابًا الْخَالِصُ: إِذَا كَانَ لِلَّهِ وَالصَّوَابُ: إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّكُمْ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأَتْرَكُ لَهَا.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: لَمْ يُوقِعِ الْبَلْوَى عَلَى "أَيٍّ" [إِلَّا] (1) وَبَيْنَهُمَا إِضْمَارٌ كَمَا تَقُولُ بَلَوْتُكُمْ لِأَنْظُرَ أَيُّكُمْ أَطْوَعُ (2) . وَمِثْلُهُ: "سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ" (الْقَلَمِ-40) أَيْ: سَلْهُمْ وَانْظُرْ أَيَّهُمْ فَـ"أَيُّ": رُفِعَ عَلَى الِابْتِدَاءِ "وَأَحْسَنُ" خَبَرُهُ {وَهُوَ الْعَزِيزُ} فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ {الْغَفُورُ} لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ.
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) }
{الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} طَبَقًا عَلَى طَبَقٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "مِنْ تَفَوُّتٍ" بِتَشْدِيدِ الْوَاوِ بِلَا أَلِفٍ، وَقَرَأَ الْأَخَرُونَ بِتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَأَلِفٍ قَبْلَهَا. وَهُمَا لُغَتَانِ كَالتَّحَمُّلِ وَالتَّحَامُلِ وَالتَّطَهُّرِ وَالتَّطَاهُرِ. وَمَعْنَاهُ: مَا تَرَى يَا ابْنَ آدَمَ فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنَ اعْوِجَاجٍ وَاخْتِلَافٍ وَتَنَاقُضٍ بَلْ هِيَ مُسْتَقِيمَةٌ مُسْتَوِيَةٌ. وَأَصْلُهُ مِنَ "الْفَوْتِ" (3) وَهُوَ أَنْ يَفُوتَ بَعْضُهَا بَعْضًا لِقِلَّةِ اسْتِوَائِهَا {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} كَرِّرِ النَّظَرَ، مَعْنَاهُ: انْظُرْ ثُمَّ ارْجِعْ {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} شُقُوقٍ وَصُدُوعٍ.
{ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ {يَنْقَلِبْ} يَنْصَرِفْ وَيَرْجِعْ {إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} صَاغِرًا ذَلِيلًا مُبْعَدًا لَمْ يَرَ مَا يَهْوَى {وَهُوَ حَسِيرٌ} كَلِيلٌ مُنْقَطِعٌ لَمْ يُدْرِكْ مَا طَلَبَ. وَرُوِيَ عَنْ كَعْبٍ أَنَّهُ قَالَ: السَّمَاءُ الدُّنْيَا مَوْجٌ مَكْفُوفٌ وَالثَّانِيَةُ مَرْمَرَةٌ بَيْضَاءُ وَالثَّالِثَةُ حَدِيدٌ وَالرَّابِعَةُ [صَفْرَاءُ] (4) وَقَالَ: نُحَاسٌ وَالْخَامِسَةُ فِضَّةٌ وَالسَّادِسَةُ ذَهَبٌ وَالسَّابِعَةُ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ بَيْنَ [السَّمَاءِ] (5) السَّابِعَةِ إِلَى الْحُجُبِ السَّبْعَةِ صَحَارِي مِنْ نُورٍ (6) .
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) معاني القرآن للفراء: 3 / 169.
(3) في "أ" القرب: وهو تصحيف.
(4) في "ب" صفر.
(5) ساقط من "ب".
(6) انظر:البحر المحيط: 8 / 298 وقد عقب على الرواية فقال: " ... والسابعة من زمردة بيضاء،يحتاج إلى نقل صحيح، وقد كان بعض من ينتمي إلى الصلاح - وكان أعمى لا يبصر موضع قدميه - يخبر أنه يشاهد السماوات على بعض أوصاف مما ذكرنا ".(8/176)
وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11) }
{وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا} أَرَادَ الْأَدْنَى مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ الَّتِي يَرَاهَا النَّاسُ. {بِمَصَابِيحَ} [أَيِ: الْكَوَاكِبَ وَاحِدُهَا: مِصْبَاحٌ وَهُوَ السِّرَاجُ سُمِّيَ الْكَوْكَبُ مِصْبَاحًا] (1) لِإِضَاءَتِهِ {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا} مَرَامِيَ {لِلشَّيَاطِينِ} إِذَا اسْتَرَقُوا السَّمْعَ {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} فِي الْآخِرَةِ {عَذَابَ السَّعِيرِ} النَّارَ الْمُوقَدَةَ. {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} وَهُوَ أَوَّلُ نَهِيقِ الْحِمَارِ وَذَلِكَ أَقْبَحُ الْأَصْوَاتِ {وَهِيَ تَفُورُ} تَغْلِي بِهِمْ كَغَلْيِ الْمِرْجَلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَفُورُ بِهِمْ كَمَا يَفُورُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ بِالْحَبِّ الْقَلِيلِ.
{تَكَادُ تَمَيَّزُ} تَنْقَطِعُ {مِنَ الْغَيْظِ} مِنْ تَغِيُّظِهَا عَلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَكَادُ تَنْشَقُّ غَيْظًا عَلَى الْكُفَّارِ {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} سُؤَالَ تَوْبِيخٍ {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} رَسُولٌ يُنْذِرُكُمْ.
{قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا} لِلرُّسُلِ (2) {مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ}
{وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} مِنَ الرُّسُلِ مَا جَاءُونَا بِهِ {أَوْ نَعْقِلُ} مِنْهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ الْهُدَى أَوْ نَعْقِلُهُ فَنَعْمَلُ بِهِ {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ سَمْعَ مَنْ يَعِي وَيَتَفَكَّرُ أَوْ نَعْقِلُ عَقْلَ مَنْ يُمَيِّزُ وَيَنْظُرُ مَا كُنَّا مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
{فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا} بُعْدًا {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَالْكِسَائِيُّ "فَسُحُقًا"
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(2) في "أ" للرسول.(8/177)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)
بِضَمِّ الْحَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِسُكُونِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الرُّعُبِ وَالرُّعْبِ وَالسُّحُتِ وَالسُّحْتِ.
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) }(8/178)
وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16)
{وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) }
{إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا قَالُوا فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ كَيْ لَا يَسْمَعَ إِلَهُ مُحَمَّدٍ (1) .
فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} أَلَّا يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ مَنْ خَلَقَهَا {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} لَطِيفٌ عِلْمُهُ فِي الْقُلُوبِ الْخَبِيرُ بِمَا فِيهَا مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْوَسْوَسَةِ. وَقِيلَ "مَنْ" يَرْجِعُ إِلَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ أَلَّا يَعْلَمَ اللَّهُ مَخْلُوقَهُ؟
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} سَهْلًا لَا يَمْتَنِعُ الْمَشْيُ فِيهَا بِالْحُزُونَةِ {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: فِي جِبَالِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي آكَامِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي طُرُقِهَا وَفِجَاجِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: فِي سُبُلِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي أَطْرَافِهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي نَوَاحِيهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي جَوَانِبِهَا (2) وَالْأَصْلُ فِي الْكَلِمَةِ الْجَانِبُ، وَمِنْهُ مَنْكِبُ الرَّجُلِ وَالرِّيحُ النَّكْبَاءُ وَتَنَكَّبَ فُلَانٌ [أَيْ جَانَبَ] (3) {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} مِمَّا خَلَقَهُ رِزْقًا لَكُمْ فِي الْأَرْضِ. {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} أَيْ: وَإِلَيْهِ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ. ثُمَّ خَوَّفَ الْكُفَّارَ فَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ: عَذَابَ مَنْ فِي السَّمَاءِ إِنْ عَصَيْتُمُوهُ {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} قَالَ الْحَسَنُ: تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا. وَقِيلَ: تَهْوِي بِهِمْ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَرِّكُ الْأَرْضَ عِنْدَ الْخَسْفِ بِهِمْ حَتَّى تُلْقِيَهُمْ إِلَى أَسْفَلَ، تَعْلُو عَلَيْهِمْ وَتَمُرُّ فَوْقَهُمْ. يُقَالُ: مَارَ يَمُورُ، أَيْ: جَاءَ وَذَهَبَ.
__________
(1) انظر: زاد المسير: 8 / 321.
(2) معاني القرآن للفراء: 3 / 171.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/178)
أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)
{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمْ مَنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمْ مَنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) }
{أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} رِيحًا ذَاتَ حِجَارَةٍ كَمَا فَعَلَ بِقَوْمِ لُوطٍ. {فَسَتَعْلَمُونَ} فِي الْآخِرَةِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ {كَيْفَ نَذِيرِ} أَيْ إِنْذَارِي إِذَا عَايَنْتُمُ الْعَذَابَ.
{وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} يَعْنِي كُفَّارَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أَيْ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ.
{أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ {وَيَقْبِضْنَ} أَجْنِحَتَهَا بَعْدَ الْبَسْطِ {مَا يُمْسِكُهُنَّ} فِي حَالِ الْقَبْضِ [وَالْبَسْطِ] (1) أَنْ يَسْقُطْنَ {إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَنَعَةٌ لَكُمْ {يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} يَمْنَعُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ وَيَدْفَعُ عَنْكُمْ مَا أَرَادَ بِكُمْ. {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} أَيْ فِي غُرُورٍ مِنَ الشَّيْطَانِ يَغُرُّهُمْ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَا يَنْزِلُ بِهِمْ.
{أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} أَيْ مِنَ الَّذِي يَرْزُقُكُمُ الْمَطَرَ إِنْ أَمْسَكَ اللَّهُ [عَنْكُمْ] (2) {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ} تَمَادٍ فِي الضَّلَالِ {وَنُفُورٍ} تَبَاعُدٍ مِنَ الْحَقِّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: كُفُورٍ. ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا فَقَالَ: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} رَاكِبًا رَأْسَهُ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ أَعْمَى الْقَلْبِ وَالْعَيْنِ لَا يُبْصِرُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَهُوَ الْكَافِرُ. قَالَ قَتَادَةُ: أكبَّ على 170/ب الْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا فَحَشَرَهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) في "ب" عليكم.(8/179)
قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26)
يَوْمَ الْقِيَامَةِ {أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} مُعْتَدِلًا يُبْصِرُ الطَّرِيقَ وَهُوَ {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} وَهُوَ الْمُؤْمِنُ. قَالَ قَتَادَةُ: يَمْشِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ سَوِيًّا.
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) }(8/180)
فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29)
{فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) }
{قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَشْكُرُونَ رَبَّ هَذِهِ النِّعَمِ. {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ، عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ فَلَمَّا رَأَوْهُ} يَعْنِي: الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ -عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ -وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْعَذَابَ بِبَدْرٍ {زُلْفَةً} أَيْ قَرِيبًا وَهُوَ [اسْمٌ يُوصَفُ بِهِ الْمَصْدَرُ يَسْتَوِي فِيهِ] (1) الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ وَالْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ [وَالْجَمِيعُ] (2) {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} اسْوَدَّتْ وَعَلَيْهَا كَآبَةٌ، وَالْمَعْنَى قُبِّحَتْ وُجُوهُهُمْ بِالسَّوَادِ، يُقَالُ: سَاءَ الشَّيْءُ يَسُوءُ فَهُوَ سَيِّئٌ إذا قبح، وسيئ يُسَاءُ إِذَا قُبِّحَ {وَقِيلَ} لَهَا أَيْ قَالَ الْخَزَنَةُ {هَذَا} أَيْ هَذَا الْعَذَابُ {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} تَفْتَعِلُونَ مِنَ الدُّعَاءِ تَدَّعُونَ وَتَتَمَنَّوْنَ أَنَّهُ يُعَجَّلُ لَكُمْ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ تَدْعُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ قَتَادَةَ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ مِثْلُ تَذْكُرُونَ وَتَذَكَّرُونَ.
{قُلْ} يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ [هَلَاكَكَ] (3) {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ} مِنَ الْمُؤْمِنِينَ {أَوْ رَحِمَنَا} فَأَبْقَانَا وَأَخَّرَ آجَالنَا {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} فَإِنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ فَعَذَّبَنِي وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَغَفَرَ لَنَا فَنَحْنُ -مَعَ إِيمَانِنَا -خَائِفُونَ أَنْ يُهْلِكَنَا بِذُنُوبِنَا لِأَنَّ حُكْمَهُ نَافِذٌ فِينَا فَمَنْ يُجِيرُكُمْ وَيَمْنَعُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ وَأَنْتُمْ كَافِرُونَ؟ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
__________
(1) في "ب" اسم مصدر يوصف به.
(2) في "ب" والجمع.
(3) في "أ" هلاكهم. والصحيح ما أثبت من "ب".(8/180)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ} الَّذِي نَعْبُدُهُ {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ} قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ. {مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أَيْ سَتَعْلَمُونَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ مَنِ الضَّالُّ مِنَّا نَحْنُ أَمْ أَنْتُمْ؟
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30) }
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} غَائِرًا ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ لَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي وَالدِّلَاءُ. قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي مَاءَ زَمْزَمٍ {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} ظَاهِرٍ تَرَاهُ الْعُيُونُ وَتَنَالُهُ [الْأَيْدِي] (1) وَالدِّلَاءُ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: مَعِينٍ أَيْ جَارٍ.
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنِي أَبُو الْحَسَنِ الْفَارِسِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْبَزَّازُ، حَدَّثَنَا [مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى] (2) حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُدَ، حَدَّثَنَا عِمْرَانُ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ عَبَّاسٍ الْجُشَمِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ سُورَةً مِنْ كِتَابِ اللَّهِ مَا هِيَ إِلَّا ثَلَاثُونَ آيَةً شَفَعَتْ لِرِجْلٍ فَأَخْرَجَتْهُ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْخَلَتْهُ الْجَنَّةَ، وَهِيَ سُورَةُ تَبَارَكَ" (3) .
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه أبو داود في الصلاة (أبواب قراءة القرآن) باب في عدد الآي: 2 / 116، والترمذي في فضائل القرآن، باب ما جاء في سورة الملك: 8 / 200-201 وقال: "هذا حديث حسن" والنسائي في التفسير: 2 / 454، وابن ماجه في الأدب، باب ثواب القرآن برقم: (3786) 2 / 1244، وعبد بن حميد في المنتخب ص (421) . وروى له الطبراني شاهدا في "الصغير" و"الأوسط" عن أنس ورجاله رجال الصحيح: انظر: مجمع الزوائد: 7 / 127. قال المنذري: وقد ذكره البخاري في التاريخ الكبير من رواية عباس الجشمي عن أبي هريرة كما أخرجه أبو داود ومن ذكره معه. وقال: لم يذكر سماعا من أبي هريرة، يريد أن عباسا الجشمي روى هذا الحديث عن أبي هريرة ولم يذكر فيه أنه سمعه من أبي هريرة.(8/181)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1)
سُورَةُ الْقَلَمِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) }
{ن} اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْحُوتُ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَرْضُ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلٍ وَالسُّدِّيِّ وَالْكَلْبِيِّ (2) .
وَرَوَى أَبُو ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمَ، فَجَرَى بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ خَلَقَ النُّونَ فَبَسَطَ الْأَرْضَ عَلَى ظَهْرِهِ فَتَحَرَّكَ النُّونُ فَمَادَتِ الْأَرْضُ، فَأُثْبِتَتْ بِالْجِبَالِ وَإِنَّ الْجِبَالَ لَتَفْخَرُ عَلَى الْأَرْضِ ثُمَّ قَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} (3) .
وَاخْتَلَفُوا فِي اسْمِهِ، فَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: [اسْمُهُ] (4) يَهْمُوتُ. وَقَالَ الْوَاقِدَيُّ: لُيُوثَا. وَقَالَ كَعْبٌ: لُوِيثَا. وَعَنْ عَلِيٍّ: اسْمُهُ بَلْهَوثُ.
__________
(1) في "ب" مدنية. أخرج ابن الضريس عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكة كتبت بمكة. ثم يزيد الله فيها ما شاء، وكان أول ما نزل من القرآن (اقرأ باسم ربك) ثم (المزمل) ثم (المدثر) . وأخرج النحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: نزلت سورة (ن والقلم) بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 240.
(2) لعله لا يصح شيء من ذلك في تفسير نون بالحوت الذي عليه الأرضون السبع، أو أنه الدواة، أو أنه لوح من نور، أو أنه آخر حرف من حروف الرحمن؛ أو أنه نهر من أنهار الجنة. انظر: البحر المحيط: 8 / 307. روح المعاني للآلوسي: 29 / 23.
(3) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 307، والطبري: 29 / 14، والحاكم: 2 / 498 وصححه وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 240-241 عزوه للفريابي وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن مردويه وابن أبي حاتم وأبي الشيخ في "العظمة" والبيهقي في "الأسماء والصفات" والخطيب في "تاريخه" والضياء في "المختارة" وهو موقوف على ابن عباس.
(4) ساقط من "ب".(8/182)
وَقَالَتِ الرُّوَاةُ: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ وَفَتْقَهَا بَعَثَ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ مَلَكًا فَهَبَطَ إِلَى الْأَرْضِ حَتَّى دَخَلَ تَحْتَ الْأَرْضِينَ السَّبْعَ فَوَضَعَهَا عَلَى عَاتِقِهِ، إِحْدَى يَدَيْهِ بِالْمُشْرِقِ وَالْأُخْرَى بِالْمَغْرِبِ، بَاسِطَتَيْنِ قَابِضَتَيْنِ عَلَى الْأَرْضِينَ السَّبْعَ، حَتَّى ضَبَطَهَا فَلَمْ يَكُنْ لِقَدَمَيْهِ مَوْضِعُ قَرَارٍ، فَأَهْبَطَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنَ الْفِرْدَوْسِ ثَوْرًا لَهُ أَرْبَعُونَ أَلْفَ قَرْنٍ وَأَرْبَعُونَ أَلْفَ قَائِمَةٍ، وَجُعِلَ قَرَارُ قَدَمَيِ الْمَلِكِ عَلَى سَنَامِهِ، فَلَمْ تَسْتَقِرَّ قَدَمَاهُ فَأَخَذَ اللَّهُ يَاقُوتَةً خَضْرَاءَ مِنْ أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الْفِرْدَوْسِ غِلَظُهَا مَسِيرَةُ خَمْسمِائَةِ عَامٍ فَوَضَعَهَا بَيْنَ سَنَامِ الثَّوْرِ إِلَى أُذُنِهِ فَاسْتَقَرَّتْ عَلَيْهَا قَدَمَاهُ، وَقُرُونُ ذَلِكَ الثَّوْرِ خَارِجَةُ مِنْ أَقْطَارِ الْأَرْضِ، وَمَنْخِرَاهُ فِي الْبَحْرِ فَهُوَ يَتَنَفَّسُ كُلَّ يَوْمٍ نَفَسًا فَإِذَا تَنَفَّسَ مَدَّ الْبَحْرُ وَإِذَا [رَدَّ] (1) نَفَسَهُ جَزَرَ الْبَحْرُ فَلَمْ يَكُنْ لِقَوَائِمِ الثَّوْرِ مَوْضِعَ قَرَارٍ [فَخَلَقَ] (2) اللَّهُ تَعَالَى صَخْرَةً كَغِلَظِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ وَسَبْعِ أَرْضِينَ فَاسْتَقَرَّتْ قَوَائِمُ الثَّوْرِ عَلَيْهَا وَهِيَ الصَّخْرَةُ الَّتِي قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ " [يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ] فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ" وَلَمْ يَكُنْ لِلصَّخْرَةِ مُسْتَقَرٌّ، فَخَلَقَ اللَّهُ نُونًا وَهُوَ الْحُوتُ الْعَظِيمُ، فَوَضْعَ الصَّخْرَةَ عَلَى ظَهْرِهِ وَسَائِرُ جَسَدِهِ خَالٍ وَالْحُوتُ عَلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ، وَالرِّيحُ عَلَى الْقُدْرَةِ. يُقَالُ: فَكُلُّ الدُّنْيَا كُلُّهَا بِمَا عَلَيْهَا حَرْفَانِ قَالَ لَهَا الْجَبَّارُ: [جَلَّ جَلَالُهُ] (3) كَوْنِي فَكَانَتْ (4) .
قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: إِنَّ إِبْلِيسَ تَغَلْغَلَ إِلَى الْحُوتِ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ الْأَرْضُ فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: أَتَدْرِي مَا عَلَى ظَهْرِكَ يَا لُوِيثَا مِنَ الْأُمَمِ وَالدَّوَابِّ وَالشَّجَرِ وَالْجِبَالِ لَوْ نَفَضْتَهُمْ أَلْقَيْتَهُمْ عَنْ ظَهْرِكَ، فَهَمَّ لُوِيثَا أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فَبَعَثَ اللَّهُ دَابَّةً فَدَخَلَتْ مَنْخِرِهِ فَوَصَلَتْ إِلَى دِمَاغِهِ فَعَجَّ الْحُوتُ إِلَى اللَّهِ مِنْهَا فَأَذِنَ لَهَا اللَّهُ فَخَرَجَتْ. قَالَ كَعْبٌ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لِيَنْظُرُ إِلَيْهَا وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ إِنْ هَمَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُونٌ آخَرُ حُرُوفِ الرَّحْمَنِ، وَهِيَ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: النُّونُ الدَّوَاةُ.
__________
(1) في "أ" مد.
(2) في "ب" فجعل.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) هذا وأمثاله - مما سيأتي - من وضع أهل الكتاب الذين قصدوا الاستهزاء بالرسل كما قال الشيخ محمد بن محمد أبو شهبة في كتابه "الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير" ص: (305) . وانظر: تفسير ابن كثير: 4 / 401-402.(8/186)
مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)
وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ. وَقِيلَ: فَاتِحَةُ السُّورَةِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: افْتِتَاحُ اسْمِهِ نُورٌ وَنَاصِرٌ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: أَقْسَمَ اللَّهُ بِنُصْرَتِهِ لِلْمُؤْمِنِينَ (1) .
{وَالْقَلَمِ} [هُوَ] (2) الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ بِهِ الذِّكْرَ، وَهُوَ قَلَمٌ مِنْ نُورٍ طُولُهُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَيُقَالُ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهِ الْقَلَمَ وَنَظَرَ إِلَيْهِ فَانْشَقَّ بِنِصْفَيْنِ، ثُمَّ قَالَ: اجْرِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَجَرَى عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ بِذَلِكَ. {وَمَا يَسْطُرُونَ} يَكْتُبُونَ أَيْ مَا تَكْتُبُ الْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ.
{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) }
{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [هُوَ] (3) جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ "يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ" (الْحِجْرِ-6) فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِالنُّونِ وَالْقَلَمِ وَمَا يَكْتُبُ مِنَ الْأَعْمَالِ فَقَالَ: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ} بِنُبُوَّةِ رَبّكِ {بِمَجْنُونٍ} أَيْ: إِنَّكَ لَا تَكُونُ مَجْنُونًا وقد أنعم 171/أاللَّهَ عَلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ. وَقِيلَ: بِعِصْمَةِ رَبِّكَ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَا يُقَالُ: مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ [وَالْحَمْدُ لِلَّهِ] (4) وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ وَالنِّعْمَةُ لِرَبِّكَ، كَقَوْلِهِمْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، أَيْ: وَالْحَمْدُ لَكَ.
{وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} أَيْ: مَنْقُوصٍ وَلَا مَقْطُوعٍ بِصَبْرِكِ عَلَى افْتِرَائِهِمْ عَلَيْكَ.
{وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: دِينٌ عَظِيمٌ لَا دِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ آدَابُ الْقُرْآنِ.
سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ (5) .
__________
(1) أخرج هذه الروايات الطبري: 29 / 15-16.
(2) ساقط من "أ".
(3) في "ب" هذا.
(4) في "أ" بحمد الله.
(5) أخرج مسلم في باب جامع صلاة الليل من كتاب صلاة المسافرين وقصرها مطولا برقم: (746) 1 / 513 عن حكيم ابن أفلح قال لعائشة - رضي الله عنها: "يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان القرآن". وباللفظ الذي ساقه المصنف أخرجه: أحمد: 6 / 91، والبيهقي: 2 / 499، والطبري: 29 / 13.(8/187)
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيَنْتَهِي عَنْهُ مِنْ نَهْيِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى إِنَّكَ عَلَى الْخُلُقِ الَّذِي أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ.
وَقِيلَ: سَمَّى اللَّهُ خُلُقَهُ عَظِيمًا لِأَنَّهُ امْتَثَلَ تَأْدِيبَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ: "خُذِ العفو" (الأعراف-198) الْآيَةَ.
وَرُوِّينَا عَنْ جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ بَعَثَنِي لِتَمَامِ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَتَمَامِ مَحَاسِنِ الْأَفْعَالِ" (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ [حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ] (2) حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يُوسُفَ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ: سَمِعْتُ الْبَرَاءَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْسَنَ النَّاسِ وَجْهًا وَأَحْسَنَهُمْ خُلُقًا لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ وَلَا بِالْقَصِيرِ (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ الْجَوْزَجَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ الشَّاشِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ الضُّبَعِيُّ عَنْ ثَابِتٍ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: خَدَمْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ [وَمَا] (4) قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ: لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ: لِمَ تَرَكْتَهُ؟ وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَحْسَنِ النَّاسِ خُلُقًا وَلَا مَسَسْتُ خَزًّا [قَطُّ] (5) وَلَا حَرِيرًا وَلَا شَيْئًا [كَانَ] (6) أَلْيَنَ مِنْ كَفِّ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا شَمَمْتُ مِسْكًا وَلَا عِطْرًا كَانَ أَطْيَبَ مِنْ عَرَقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (7) .
__________
(1) أخرجه المصنف في شرح السنة: 13 / 202 عن جابر - رضي الله عنه - وفيه يوسف بن محمد بن المنكدر، وهو ضعيف. قال الهيثمي في المجمع: 8 / 188: "رواه الطبراني في الأوسط، وفيه عمر بن إبراهيم القرشي، وهو ضعيف" وللحديث شواهد بألفاظ متعددة عند الإمام أحمد: 2 / 381، والإمام مالك في الموطأ: 2 / 904، والبخاري في الأدب المفرد ص: (84) ، وابن سعد في الطبقات: 1 / 192-193، والحاكم في المستدرك: 2 / 613. وانظر: شرح السنة مع تعليق الأرناؤوط: 13 / 202، سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم: (45) 1 / 75، مشكاة المصابيح برقم: (5770) كشف الخفاء للعجلوني: 1 / 244-245، تخريج أحاديث الإحياء للعراقي وابن السبكي والزبيدي برقم: (1595) مجمع الزوائد: 8 / 188.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه البخاري في المناقب، باب صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 6 / 564، ومسلم في الفضائل، باب في صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومبعثه وسنه برقم: (2447) 4 / 1824-1825.
(4) ساقط من "أ".
(5) ساقط من "أ".
(6) ساقط من "أ".
(7) أخرجه الترمذي في البر، باب ما جاء في خلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: 6 / 156-157 وقال: "هذا حديث حسن صحيح، ومسلم في الفضائل، باب كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحسن الناس خلقا برقم: (2309) 4 / 1804.(8/188)
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى الْبَرْنِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: "إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَكَانَ يَقُولُ: "خِيَارُكُمْ أَحْسَنُكُمْ أَخْلَاقًا".
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ هِشَامِ بْنِ مَلَّاسٍ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ الْفَزَارِيُّ، حَدَّثَنَا حُمِيدٌ الطَّوِيلُ، عَنْ أَنَسٍ أَنَّ امْرَأَةً عَرَضَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي طَرِيقٍ مِنْ طُرُقِ الْمَدِينَةِ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً فَقَالَ: يَا أُمَّ فُلَانٍ اجْلِسِي فِي أَيِّ سِكَكِ الْمَدِينَةِ شِئْتِ أَجْلِسْ إِلَيْكِ، قَالَ: فَفَعَلَتْ فَقَعَدَ إِلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى [قَضَى] (1) حَاجَتَهَا (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: [حَدَّثَنَا] (3) مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا هُشَيْمٌ، أَخْبَرَنَا حُمِيدٌ الطَّوِيلُ، حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ: إِنْ كَانَتِ الْأَمَةُ مِنْ إِمَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لَتَأْخُذُ بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَنْطَلِقُ بِهِ حَيْثُ شَاءَتْ (4) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي شُرَيْحٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغْوَيُّ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْجَعْدِ، أَخْبَرَنَا عِمْرَانُ بْنُ يَزِيدَ التَّغْلِبِيُّ، عَنْ زَيْدِ [ابْنِ الْعَمِّيِّ] (5) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا صَافَحَ الرَّجُلَ لَمْ يَنْزِعْ يَدَهُ مِنْ يَدِهِ [حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَنَزِعُ يَدَهُ] (6) وَلَا يَصْرِفُ وَجْهَهُ عَنْ وَجْهِهِ حَتَّى يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَصْرِفُ وَجْهَهُ [عَنْ وَجْهِهِ] (7) وَلَمْ يُرَ مُقَدِّمًا رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيْ جَلِيسٍ لَهُ (8) .
__________
(1) في "ب" قضت.
(2) أخرجه مسلم في الفضائل، باب قرب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الناس وتبركهم به برقم: (2326) 4 / 1812-1813، والمصنف في شرح السنة: 13 / 240.
(3) في "ب" قال:.
(4) أخرجه البخاري في الأدب، باب الكبر: 10 / 489.
(5) في "ب" الأعمى.
(6) ساقط من "أ".
(7) ساقط من "أ".
(8) أخرجه ابن ماجه في الأدب، باب إكرام الرجل جليسه برقم (3716) وقال في الزوائد: مدار الحديث على زيد العمي، وهو ضعيف وابن سعد في الطبقات: 1 / 378. قال الألباني: "ضعيف إلا جملة المصافحة فهي ثابتة" انظر: صحيح ابن ماجه: 2 / 304.(8/189)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الصَّمَدِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ الْخُزَاعِيُّ، أَخْبَرَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ كُلَيْبٍ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى، حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدَةُ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ شَيْئًا قَطُّ إِلَّا أَنْ يُجَاهِدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَا ضَرَبَ خَادِمًا وَلَا امْرَأَةً (1) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَحْمَدَ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مَالِكُ بْنُ إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ أَنَسٍ قَالَ كُنْتُ أَمْشِي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَيْهِ بُرْدٌ نَجْرَانِيٌّ غَلِيظُ الْحَاشِيَةِ فَأَدْرَكَهُ أَعْرَابِيٌّ فَجَبَذَهُ بِرِدَائِهِ جَبْذَةً شَدِيدَةً حَتَّى نَظَرْتُ إِلَى صَفْحَةِ عَاتِقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَثَّرَتْ بِهَا حَاشِيَةُ الْبُرْدِ مِنْ شِدَّةِ جَبْذَتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّدُ مُرْ لِي مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي عِنْدَكَ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ ضَحِكَ ثُمَّ أَمَرَ لَهُ بِعَطَاءٍ (2) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْمَدِينِيِّ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ، عَنِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ مُمَلَّكٍ، عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ تُحَدِّثُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ أَثْقَلَ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي مِيزَانِ الْمُؤْمِنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ خُلُقٌ حَسَنٌ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ" (3) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ السَّمْعَانِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ الرَّيَّانِيُّ، حَدَّثَنَا حُمَيْدُ بْنُ زَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ يَزِيدَ [الْأَوْدِيُّ] (4) سَمِعْتُ أَبِي يقول سمعت أبي
__________
(1) أخرجه الترمذي في الشمائل المحمدية، باب في خلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع شرح الباجوري ص: (201) ، ومسلم في الفضائل، باب مباعدته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للآثام واختياره من المباح أسهله وانتقامه لله عند انتهاك حرماته برقم (2328) 4 / 1814 ما عدا ما ساقه المصنف في آخر روايته: (ولا ضرب خادما ولا امرأة) .
(2) أخرجه البخاري في اللباس، باب البرود والحبر والشملة: 10 / 275، ومسلم في الزكاة، باب إعطاء من سأل بفحش وغلظة برقم: (1057) 2 / 730-731.
(3) أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق: 6 / 140-141 وقال: "هذا حديث حسن صحيح" وأبو داود مختصرا في الأدب، باب في حسن الخلق: 7 / 172، والإمام أحمد: 6 / 442، وصححه ابن حبان في موارد الظمآن برقم: (1920) صفحة: (474) والمصنف في شرح السنة: 13 / 78-79، وذكره الألباني في صحيح الجامع الصغير وزيادته.
(4) في "أ" الأزدي والصحيح ما أثبتناه كما في "تهذيب التهذيب".(8/190)
فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6)
هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: "أَتُدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ الْأَجْوَفَانِ: الْفَرْجُ وَالْفَمُ، أَتُدْرُونَ مَا أَكْثَرُ مَا يَدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: فَإِنَّ أَكْثَرَ مَا يَدْخِلُ النَّاسَ الْجَنَّةَ: تَقْوَى اللَّهِ وَحُسْنُ الْخُلُقِ" (1) .
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الصَّالِحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُوسَى الصَّيْرَفِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْأَصَمُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ [بْنِ عَبْدِ] (2) الْحَكَمِ، أَخْبَرَنَا أَبِي وَشُعَيْبٌ قَالَا حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ [ابْنِ] (3) الْهَادِّ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي عَمْرٍو عَنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ قَائِمِ اللَّيْلِ وَصَائِمِ النَّهَارِ" (4) .
{فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ (6) }
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} فَسَتُرَى يَا مُحَمَّدُ وَيَرَوْنَ -يعني أهل 171/ب مَكَّةَ -إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ.
{بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} قِيلَ مَعْنَاهُ: بِأَيِّكُمُ الْمَجْنُونُ، فَـ"الْمَفْتُونُ" مَفْعُولٌ بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، كَمَا يُقَالُ: مَا بِفُلَانٍ مَجْلُودٌ وَمَعْقُولٌ، أَيْ جَلَادَةٌ وَعَقْلٌ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَرِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقِيلَ الْبَاءُ بِمَعْنَى "فِي" مَجَازُهُ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ الْمَجْنُونُ فِي فَرِيقِكَ أَمْ فِي فَرِيقِهِمْ؟.
وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى "مَعَ" وَ"الْمَفْتُونُ" هُوَ الشَّيْطَانُ. [وَالْمَعْنَى: مَعَ أَيِّكُمُ الشَّيْطَانُ] (5) مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أَمْ مَعَ الْكَافِرِينَ؟ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ (6) .
وَقَالَ الْآخَرُونَ: زَائِدَةٌ، مَعْنَاهُ: أَيُّكُمُ الْمَفْتُونُ؟ أَيِ الْمَجْنُونُ الَّذِي فُتِنَ بِالْجُنُونِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.
__________
(1) أخرجه الترمذي في البر والصلة، باب ما جاء في حسن الخلق: 6 / 142 بلفظ: (سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن أكثر ما يدخل الناس الجنة.. الحديث) وقال: "هذا حديث صحيح غريب" وابن حبان برقم: (1923) ص: (475) ، والمصنف في شرح السنة: 13 / 79.
(2) ساقط من "أ".
(3) في "أ" أبي، والصحيح ما أثبت.
(4) أخرجه أبو داود في الأدب، باب في حسن الخلق: 7 / 172، وابن حبان برقم: (1927) ص: (475) والحاكم: 1 / 6، والمصنف في شرح السنة: 13 / 81.
(5) ما بين القوسين من "ب".
(6) في "ب" قتادة.(8/191)
إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13)
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) }
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} ، يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَهُ إِلَى دِينِ آبَائِهِ فَنَهَاهُ أَنْ يُطِيعَهُمْ.
{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} قَالَ: الضَّحَّاكُ لَوْ تَكْفُرُ فَيَكْفُرُونَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَوْ تَلِينُ لَهُمْ فَيَلِينُونَ لَكَ. قَالَ الْحَسَنُ: لَوْ تُصَانِعُهُمْ فِي دِينِكَ فَيُصَانِعُونَكَ فِي دِينِهِمْ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ تُنَافِقُ وَتُرَائِي فَيُنَافِقُونَ وَيُرَاءُونَ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: أَرَادُوا أَنْ تَعْبُدَ آلِهَتَهُمْ مُدَّةً وَيَعْبُدُونَ اللَّهَ مُدَّةً.
{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} كَثِيرِ الْحَلِفِ بِالْبَاطِلِ. قَالَ [مُقَاتِلٌ: يَعْنِي] (1) الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: الْأُسُودُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ {مَهِينٍ} ضَعِيفٍ حَقِيرٍ. قِيلَ: هُوَ فَعِيلٌ مِنَ الْمَهَانَةِ وَهِيَ قِلَّةُ الرَّأْي وَالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَّابٌ. وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَكْذِبُ لِمَهَانَةِ نَفْسِهِ عَلَيْهِ.
{هَمَّازٍ} مُغْتَابٍ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ بِالطَّعْنِ وَالْغَيْبَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَغْمِزُ بِأَخِيهِ فِي الْمَجْلِسِ، كَقَوْلِهِ: "هُمَزَةٍ" {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} قَتَّاتٍ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ لِيُفْسِدَ بَيْنَهُمْ.
{مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} بِخَيْلٍ بِالْمَالِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ" أَيْ لِلْإِسْلَامِ يَمْنَعُ وَلَدَهُ وَعَشِيرَتَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ يَقُولُ: لَئِنْ دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْكُمْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ لَا أَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ أَبَدًا {مُعْتَدٍ} ظَلُومٍ يَتَعَدَّى الْحَقَّ {أَثِيمٍ} فَاجِرٍ. {عُتُلٍّ} الْعُتُلُّ: الْغَلِيظُ الْجَافِي. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْفَاحِشُ الْخُلُقِ السَّيِّئُ الْخُلُقِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ فِي الْبَاطِلِ (2) وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الشَّدِيدُ فِي كَفْرِهِ، وَكُلُّ شَدِيدٍ عِنْدَ الْعَرَبِ عُتُلٌّ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْعُتُلِ وَهُوَ الدَّفْعُ بِالْعُنْفِ. قَالَ عُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ: "الْعُتُلُّ" الْأَكُولُ الشَّرُوبُ الْقَوِيُّ الشَّدِيدُ [فِي كُفْرِهِ] (3) لَا يَزِنُ فِي الْمِيزَانِ شَعِيرَةً، يَدْفَعُ الْمَلَكُ مِنْ أُولَئِكَ سَبْعِينَ أَلْفًا فِي النَّارِ دَفْعَةً
__________
(1) في "أ" قيل.
(2) معاني القرآن للفراء: 3 / 173.
(3) ساقط من "ب".(8/192)
أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14)
وَاحِدَةً (1) {بَعْدَ ذَلِكَ} أَيْ مَعَ ذَلِكَ، يُرِيدُ مَعَ مَا وَصَفْنَاهُ بِهِ {زَنِيمٌ} وَهُوَ الدَّعِيُّ [الْمُلْصَقُ] (2) بِالْقَوْمِ وَلَيْسَ مِنْهُمْ. قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَعَ [هَذَا] (3) هُوَ دَعِيٌّ فِي قُرَيْشٍ وَلَيْسَ مِنْهُمْ. قَالَ مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ: إِنَّمَا ادَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْدَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: "الزَّنِيمُ" الَّذِي لَهُ زَنَمَةٌ كَزَنَمَةِ الشَّاةِ.
وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: نُعِتَ فَلَمْ يُعْرَفْ حَتَّى قِيلَ زَنِيمٌ فَعُرِفَ، وَكَانَتْ لَهُ زَنَمَةً فِي عُنُقِهِ يُعْرَفُ بِهَا (4) .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُعْرَفُ بِالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا (5) .
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا نَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أَحَدًا وَلَا ذَكَرَ مِنْ عُيُوبِهِ مَا ذَكَرَ مِنْ عُيُوبِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ فَأَلْحَقَ بِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ (6) .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَمْعَانَ الْوَاعِظُ، حَدَّثَنِي أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ زَنْجَوَيْهِ بْنِ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ الْهِلَالِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْوَلِيدِ الْعَدَنِيُّ عَنْ سُفْيَانَ، حَدَّثَنِي مَعْبَدُ بْنُ خَالِدٍ الْقَيْسِيُّ، عَنْ حَارِثَةَ بْنِ وَهْبٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ الْجَنَّةِ؟ كُلُّ ضَعِيفٍ مُتَضَعِّفٍ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لَأَبَرَّهُ، أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَهْلِ النَّارِ كُلُّ عُتُلٍّ جَوَّاظٍ [مُسْتَكْبِرٍ] (7) " (8) .
{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) }
{أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ: "أَإِنْ" بِالِاسْتِفْهَامِ. ثُمَّ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ يُخَفِّفَانِ الْهَمْزَتَيْنِ بِلَا مَدٍّ وَيَمُدُّ الْهَمْزَةَ الْأُولَى أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ وَيُلَيْنُونَ الثَّانِيَةَ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ عَلَى الْخَبَرِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالِاسْتِفْهَامِ فَمَعْنَاهُ: أَلَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ؟
__________
(1) أخرجه الطبري: 29 / 24.
(2) في "أ" الملحق.
(3) في "ب" ما.
(4) أخرجه الطبري: 29 / 26.
(5) أخرجه الطبري: 29 / 25.
(6) انظر: القرطين لابن مطرف الكناني: 2 / 176.
(7) في "أ" متكبر. وما أثبت هو الصحيح كما في البخاري وشرح السنة.
(8) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة القلم - باب (عتل بعد ذلك زنيم) 8 / 662 وفي الأدب، باب الكبر، ومسلم في الجنة وصفة نعيمها، باب النار يدخلها الجبارون والجنة يدخلها الضعفاء برقم: (2853) 4 / 2190، والمصنف في شرح السنة: 13 / 169.(8/193)
إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15)
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) }(8/194)
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17)
{سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) }
{إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} أَيْ جَعَلَ مُجَازَاةَ النِّعَمِ الَّتِي خُوِّلَهَا مِنَ الْبَنِينَ وَالْمَالِ الْكُفْرَ بِآيَاتِنَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَإِنْ كَانَ ذَا مَالِ وَبَنِينَ [تُطِيعُهُ] (1) .
وَمَنْ قَرَأَ عَلَى الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ: لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ لِأَنَّ {كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} (2) أَيْ: لَا تُطِعْهُ لِمَالِهِ وَبَنِيهِ "إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ".
ثُمَّ أَوْعَدَهُ فَقَالَ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} وَ"الْخُرْطُومُ": الْأَنْفُ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ نُسَوِّدُ وَجْهَهُ، فَنَجْعَلُ لَهُ عَلَمًا فِي الْآخِرَةِ يُعْرَفُ بِهِ، وَهُوَ سَوَادُ الْوَجْهِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: خَصَّ الْخُرْطُومَ بِالسِّمَةِ فَإِنَّهُ فِي مَذْهَبِ الْوَجْهِ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ يُعَبِّرُ بِهِ عَنْ كُلِّهِ (3) .
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَنَخْطِمُهُ بِالسَّيْفِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ (4) وَقَالَ قَتَادَةُ: سَنُلْحِقُ بِهِ شَيْئًا لَا يُفَارِقُهُ.
قَالَ الْقُتَيْبِيُّ تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ سَبَّ الرَّجُلَ سَبَّةً قَبِيحَةً: قَدْ وَسَمَهُ مَيْسَمَ سُوءٍ. يُرِيدُ: أَلْصَقَ بِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ، كَمَا أَنَّ السِّمَةَ لَا يَنْمَحِي وَلَا يَعْفُو أَثَرُهَا وَقَدْ أَلْحَقَ اللَّهُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ عُيُوبِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَالْوَسْمِ عَلَى الْخُرْطُومِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكِسَائِيُّ: سَنَكْوِيهِ عَلَى وَجْهِهِ.
{إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} يَعْنِي اخْتَبَرْنَا أَهْلَ مَكَّةَ بِالْقَحْطِ وَالْجُوعِ {كَمَا بَلَوْنَا} ابْتَلَيْنَا {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} رَوَى مُحَمَّدُ بْنُ مَرْوَانَ، عَنِ الْكَلْبِيِّ، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ" قَالَ: كَانَ بُسْتَانٌ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ الضِّرْوَانُ دُونَ صَنْعَاءَ بِفَرْسَخَيْنِ، يَطَؤُهُ أَهْلُ الطَّرِيقِ، كَانَ غَرَسَهُ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الصَّلَاةِ، وَكَانَ لِرَجُلٍ فَمَاتَ فَوَرِثَهُ ثَلَاثَةُ بَنِينَ لَهُ، وَكَانَ
__________
(1) في "ب" تطغيه.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) معاني القرآن للفراء: 3 / 174.
(4) ذكره الطبري: 29 / 28.(8/194)
وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22)
يَكُونُ لِلْمَسَاكِينِ إِذَا صَرَمُوا نَخْلَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ تَعَدَّاهُ الْمِنْجَلُ فَلَمْ يَجُزَّهُ وَإِذَا طَرَحَ مِنْ فَوْقِ النَّخْلِ إِلَى الْبِسَاطِ فَكُلُّ شَيْءٍ يَسْقُطُ عَلَى الْبِسَاطِ فَهُوَ أَيْضًا لِلْمَسَاكِينِ، وَإِذَا حَصَدُوا زَرْعَهُمْ فَكُلُّ شَيْءٍ تَعَدَّاهُ الْمِنْجَلُ فَهُوَ لِلْمَسَاكِينِ وَإِذَا دَاسُوهُ كَانَ لَهُمْ كُلُّ شَيْءٍ يَنْتَثِرُ أَيْضًا فَلَمَّا مَاتَ الْأَبُ وَوَرِثَهُ هَؤُلَاءِ الْإِخْوَةُ [عَنْ أَبِيهِمْ] (1) فَقَالُوا: وَاللَّهِ إِنَّ الْمَالَ لَقَلِيلٌ، وَإِنَّ الْعَيَّالَ لَكَثِيرٌ وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْأَمْرُ يُفْعَلُ إِذْ كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا وَالْعِيَالُ قَلِيلًا فَأَمَّا إِذَا قَلَّ الْمَالُ وَكَثُرَ الْعِيَالُ فَإِنَّا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَفْعَلَ هَذَا فَتَحَالَفُوا بَيْنَهُمْ يَوْمًا لَيَغْدُوُنَّ غَدْوَةً قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ فَلْيَصْرِمُنَّ نَخْلَهُمْ وَلَمْ يَسْتَثْنُوا يَقُولُ: لَمْ يَقُولُوا إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَغَدَا الْقَوْمُ بِسُدْفَةٍ مِنَ اللَّيْلِ إِلَى جَنَّتِهِمْ لِيَصْرِمُوهَا قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ الْمَسَاكِينُ، فَرَأَوْهَا مُسَوَّدَةً وَقَدْ طَافَ عَلَيْهَا مِنَ اللَّيْلِ طَائِفٌ مِنَ الْعَذَابِ فَأَحْرَقَهَا فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (2) فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ أَقْسَمُوا} حَلَفُوا {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} 172/ألَيَجُذُّنَّهَا وَلَيَقْطَعُنَّ ثَمَرَهَا إِذَا أَصْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ الْمَسَاكِينُ
{وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) }
{وَلَا يَسْتَثْنُونَ} وَلَا يَقُولُونَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
{فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ} عَذَابٌ {مِنْ رَبِّكَ} لَيْلًا وَلَا يَكُونُ الطَّائِفُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ الطَّائِفُ نَارًا نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهَا {وَهُمْ نَائِمُونَ}
{فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} كَاللَّيْلِ الْمُظْلِمِ الْأَسْوَدِ. قَالَ الْحَسَنُ: أَيْ صَرَمَ مِنْهَا الْخَيْرَ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: كَالصُّبْحِ الصَّرِيمِ مِنَ اللَّيْلِ وَأَصْلُ "الصَّرِيمِ" الْمَصْرُومُ، مِثْلَ: قَتِيلٍ وَمَقْتُولٍ، وَكُلُّ شَيْءٍ قُطِعَ فَهُوَ صَرِيمٌ [فَاللَّيْلُ صَرِيمٌ] (3) وَالصُّبْحُ صَرِيمٌ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَنْصَرِمُ عَنْ صَاحِبِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَالرَّمَادِ الْأَسْوَدِ بِلُغَةِ خُزَيْمَةَ.
{فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَمَّا أَصْبَحُوا.
{أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} يَعْنِي الثِّمَارَ وَالزُّرُوعَ وَالْأَعْنَابَ {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} قَاطِعِينَ لِلنَّخْلِ.
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) انظر: البحر المحيط: 8 / 311، القرطبي: 18 / 239-240، زاد المسير: 8 / 335.
(3) ساقط من "أ".(8/195)
فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28)
{فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) }
{فَانْطَلَقُوا} مَشَوْا إِلَيْهَا {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} يَتَسَارُّونَ، يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سِرًّا {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} "الْحَرْدُ" فِي اللُّغَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالْمَنْعِ وَالْغَضَبِ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: عَلَى جِدٍّ وَجَهْدٍ.
وَقَالَ الْقُرَظِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: عَلَى أَمْرٍ مُجْتَمَعٍ عَلَيْهِ قَدْ أَسَّسُوهُ بَيْنَهُمْ. وَهَذَا عَلَى مَعْنَى الْقَصْدِ لِأَنَّ الْقَاصِدَ [إِلَى الشَّيْءِ] (1) جَادٌّ مُجْمِعٌ عَلَى الْأَمْرِ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْقُتَيْبيُّ: غَدَوْا وَنِيَّتُهُمْ عَلَى مَنْعِ الْمَسَاكِينِ، يُقَالُ: حَارَدَتِ السَّنَةُ، إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا مَطَرٌ وَحَارَدَتِ النَّاقَةُ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَنٌ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ: عَلَى حَنَقٍ وَغَضَبٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: عَلَى قُدْرَةٍ {قَادِرِينَ} عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى جَنَّتِهِمْ وَثِمَارِهَا لَا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ أَحَدٌ.
{فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} أَيْ لَمَّا رَأَوْا الْجَنَّةَ مُحْتَرِقَةً قَالُوا: إِنَّا لَمُخْطِئُونَ الطَّرِيقَ، أَضْلَلْنَا مَكَانَ جَنَّتِنَا لَيْسَتْ هَذِهِ بِجَنَّتِنَا. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حُرِمْنَا خَيْرَهَا وَنَفْعَهَا بِمَنْعِنَا الْمَسَاكِينَ وَتَرْكِنَا الِاسْتِثْنَاءَ.
{قَالَ أَوْسَطُهُمْ} أَعْدَلُهُمْ وَأَعْقَلُهُمْ وَأَفْضَلُهُمْ: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} هَلَّا تُسْتَثْنُونَ أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِمْ: "لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ" وَسَمَّى الِاسْتِثْنَاءَ تَسْبِيحًا لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَإِقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ.
وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ: كَانَ اسْتِثْنَاؤُهُمْ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَقِيلَ: هَلَّا تُسَبِّحُونَ اللَّهَ وَتَقُولُونَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ. وَقِيلَ: هَلَّا تَسْتَغْفِرُونَهُ مِنْ فِعْلِكُمْ.
__________
(1) في "ب" للشيء.(8/196)
قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38)
{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) }
{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} نَزَّهُوهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا فِيمَا فَعَلَ وَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ فَقَالُوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} بِمَنْعِنَا الْمَسَاكِينَ.
{فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي مَنْعِ الْمَسَاكِينِ حُقُوقَهُمْ، وَنَادَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بالويل: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} فِي مَنْعِنَا حَقَّ الْفُقَرَاءِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: طَغَيْنَا نِعَمَ اللَّهِ فَلَمْ نَشْكُرْهَا وَلَمْ نَصْنَعْ مَا صَنَعَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ.
ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْقَوْمَ أَخْلَصُوا وَعَرَفَ اللَّهُ مِنْهُمُ الصِّدْقَ فَأَبْدَلَهُمْ بِهَا جَنَّةً يُقَالُ لَهَا الْحَيَوَانُ فِيهَا عِنَبٌ يَحْمِلُ الْبَغْلُ مِنْهُ عُنْقُودًا وَاحِدًا (1) .
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} أَيْ: كَفِعْلِنَا بِهِمْ نَفْعَلُ بِمَنْ تَعَدَّى حُدُودَنَا وَخَالَفَ أَمْرَنَا {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا عِنْدَهُ لِلْمُتَّقِينَ فَقَالَ: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّا نُعْطَى فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلَ مِمَّا تُعْطَوْنَ فَقَالَ اللَّهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ {فِيهِ} فِي هَذَا الْكِتَابِ {تَدْرُسُونَ} تَقْرَءُونَ.
{إِنَّ لَكُمْ فِيهِ} فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ {لَمَا تَخَيَّرُونَ} تَخْتَارُونَ وَتَشْتَهُونَ.
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 8 / 313.(8/197)
أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42)
{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) }
{أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ} عُهُودٌ وَمَوَاثِيقٌ {عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} مُؤَكَّدَةٌ عَاهَدْنَاكُمْ عَلَيْهَا فَاسْتَوْثَقْتُمْ بِهَا مِنَّا فَلَا يَنْقَطِعُ عَهْدُكُمْ {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ} فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ {لَمَا تَحْكُمُونَ} لِأَنْفُسِكُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ. وَكَسَرَ "إِنَّ" فِي الْآيَتَيْنِ لِدُخُولِ اللَّامِ فِي خَبَرِهِمَا. ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
{سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} كَفِيلٌ لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ؟
{أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} أَيْ عِنْدَهُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ أَرْبَابٌ تَفْعَلُ هَذَا. وَقِيلَ: شُهَدَاءُ يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِصِدْقِ مَا يَدَّعُونَهُ. {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ}
{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} قِيلَ: "يَوْمَ" ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ، أَيْ: فَلْيَأْتُوا بِهَا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِتَنْفَعَهُمْ وَتَشْفَعَ لَهُمْ "يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ" قِيلَ: عَنْ أَمْرٍ فَظِيعٍ شَدِيدٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَشَدُّ سَاعَةٍ فِي الْقِيَامَةِ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: "يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ" عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ.
وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ إِذَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْجِدِّ وَمُقَاسَاةِ الشِّدَّةِ: شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ (1) وَيُقَالُ: إِذَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ فِي الْحَرْبِ: كَشَفَتِ الْحَرْبُ عَنْ سَاقٍ.
أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبَدِ الْقَاهِرِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْغَافِرِ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى الْجُلُودِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ [سُفْيَانَ] (2) حَدَّثَنَا مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ، حَدَّثَنِي سُوِيدُ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنِي جَعْفَرُ، حَدَّثَنِي حَفْصُ بْنُ مَيْسَرَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ أُنَاسًا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ بِالظَّهِيرَةِ صَحْوًا لَيْسَ مَعَهَا سَحَابٌ؟ وَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ صَحْوًا لَيْسَ فِيهَا سَحَابٌ؟ قَالُوا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: مَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ فَلَا يَبْقَى أَحَدٌ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ وَغَيرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَتُدْعَى الْيَهُودُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ
__________
(1) انظر: القرطين لابن مطرف الكناني: 2 / 177.
(2) في "أ" سليمان، والصحيح ما أثبتناه من "ب" كما ورد في سير أعلام النبلاء.(8/198)
عُزَيْرَ ابْنَ اللَّهِ فَيُقَالُ كَذَبْتُمْ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَمَاذَا تَبْغُونَ؟ فَقَالُوا: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ: أَلَّا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ. ثُمَّ تُدْعَى النَّصَارَى فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ؟ قَالُوا: كُنَّا نَعْبُدُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ صَاحِبَةٍ وَلَا وَلَدٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: مَاذَا تَبْغُونَ؟ فَيَقُولُونَ: عَطِشْنَا يَا رَبَّنَا فَاسْقِنَا فَيُشَارُ إِلَيْهِمْ: أَلَّا تَرِدُونَ؟ فَيُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ كَأَنَّهَا سَرَابٌ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَيَتَسَاقَطُونَ فِي النَّارِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ إِلَّا مَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ مِنْ بَرٍّ وَفَاجِرٍ، أَتَاهُمْ رَبُّ الْعَالَمِينَ فِي أَدْنَى صُورَةٍ مِنَ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا قَالَ: فَمَاذَا تَنْتَظِرُونَ؟ لِتَتْبَعْ كُلُّ أُمَّةٍ مَا كَانَتْ تَعْبُدُ قَالُوا يَا رَبَّنَا فَارَقْنَا النَّاسَ فِي الدُّنْيَا أَفْقَرَ مَا كُنَّا إِلَيْهِمْ وَلَمْ نُصَاحِبْهُمْ. فَيَقُولُ: أَنَا رَبُّكُمْ، فَيَقُولُونَ: نُعَوِّذُ بِاللَّهِ مِنْكَ، لَا نُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا حَتَّى إِنَّ بَعْضَهُمْ لِيَكَادُ أَنْ يَنْقَلِبَ، فَيَقُولُ: هَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ آيَةٌ تُعَرِّفُونَهُ بِهَا فَيَقُولُونَ: نَعَمْ فَيَكْشِفُ عَنْ سَاقٍ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ لِلَّهِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ لَهُ بِالسُّجُودِ فَلَا يَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ نِفَاقًا وَرِيَاءً إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ ظَهْرَهُ طَبَقَةً وَاحِدَةً كُلَّمَا أَرَادَ أَنْ يَسْجُدَ خَرَّ عَلَى قَفَاهُ ثُمَّ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ وَقَدْ تَحَوَّلَ فِي الصُّورَةِ الَّتِي رَأَوْهُ فِيهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ فَقَالَ: أَنَا رَبُّكُمْ. فَيَقُولُونَ: أَنْتَ رَبُّنَا ثُمَّ يُضْرَبُ الْجِسْرُ عَلَى جَهَنَّمَ وَتَحِلُّ الشَّفَاعَةُ، وَيَقُولُونَ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: دَحْضٌ مَزِلَّةٌ فِيهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ يَكُونُ بِنَجْدٍ فِيهَا شُوَيْكَةٌ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، فَيَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَالطَّيْرِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ وَمَخْدُوشٌ مُرْسَلٌ وَمُكَرْدَسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى إِذَا خَلَصَ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ النَّارِ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ أَحَدٍ مِنْكُمْ بِأَشُدِ لِلَّهِ فِي اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لِلَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ فِي النَّارِ، يَقُولُونَ: رَبَّنَا كَانُوا يَصُومُونَ مَعَنَا وَيُصَلُّونَ وَيَحُجُّونَ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَخْرِجُوا مَنْ عَرَفْتُمْ فَتُحَرَّمُ صُوَرُهُمْ عَلَى النَّارِ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا قَدْ أَخَذَتِ النَّارُ إِلَى نِصْفِ سَاقِهِ وَإِلَى رُكْبَتَيْهِ، ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا مَا بَقِيَ فِيهَا أَحَدٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، فَيَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبَّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ في قلبه مثال نِصْفِ دِينَارٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبُّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ أَحَدًا ثُمَّ يَقُولُ: ارْجِعُوا فَمَنْ وَجَدْتُمْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ فَأَخْرِجُوهُ فَيُخْرِجُونَ خَلْقًا كَثِيرًا ثُمَّ يَقُولُونَ: رَبُّنَا لَمْ نَذَرْ فِيهَا أَحَدًا فِيهِ خَيْرٌ مِمَّنْ أَمَرْتَنَا بِهِ وَكَانَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ يَقُولُ: إِنْ لَمْ تُصَدِّقُونِي بِهَذَا الْحَدِيثِ فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ: "إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا" (النِّسَاءِ-40) فَيَقُولُ اللَّهُ: شَفَعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَشَفَعَ النَّبِيُّونَ وَشَفَعَ الْمُؤْمِنُونَ، وَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ مِنْهَا قَوْمًا لَمْ يَعْمَلُوا خَيْرًا قَطُّ قَدْ عَادُوا حُمَمًا فَيُلْقِيهِمْ فِي نَهْرٍ فِي أَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يُقَالُ لَهُ نَهْرُ الْحَيَاةِ، فَيَخْرُجُونَ كَمَا تَخْرُجُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ، أَلَّا تُرُونَهَا تَكُونُ إِلَى الْحَجَرِ أَوْ إِلَى الشَّجَرِ مَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الشَّمْسِ أُصَيْفِرُ وَأُخَيْضِرُ، وَمَا يَكُونُ مِنْهَا إِلَى الظِّلِّ يَكُونُ أَبْيَضَ؟ قَالَ: فَيَخْرُجُونَ كَاللُّؤْلُؤِ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ يَعْرِفُهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ اللَّهِ مِنَ النَّارِ الَّذِينَ أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ، ثُمَّ يَقُولُ: "ادْخُلُوا الْجَنَّةَ فَمَا رَأَيْتُمُوهُ فَهُوَ لَكُمْ فَيَقُولُونَ رَبَّنَا: أَعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ، فَيَقُولُ: لَكُمْ عِنْدِي أَفْضَلُ مِنْ هَذَا فَيَقُولُونَ: يَا رَبَّنَا أَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ: رِضَائِي فَلَا أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ بَعْدَهُ أَبَدًا" (1) .
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ يَحْيَى بْنِ بُكَيْرٍ عَنِ اللَّيْثِ عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِهَذَا الْمَعْنَى أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ أَبِي هِلَالٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "يَكْشِفُ رَبُّنَا عَنْ سَاقِهِ فَيَسْجُدُ لَهُ كُلُّ مُؤْمِنٍ وَمُؤْمِنَةٍ، وَيَبْقَى مَنْ كَانَ يَسْجُدُ فِي الدُّنْيَا رِيَاءً وَسُمْعَةً، فَيَذْهَبُ لِيَسْجُدَ فَيَعُودُ ظَهْرُهُ طَبَقًا وَاحِدًا" (2) .
قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} يَعْنِي: الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ تَصِيرُ أَصْلَابُهُمْ كَصَيَاصِيِّ الْبَقَرِ، فَلَا يَسْتَطِيعُونَ السُّجُودَ.
__________
(1) أخرجه مسلم في الإيمان، باب معرفة طريق الرؤية برقم: (183) 1 / 167-171 وأخرج بعضه البخاري في التفسير - تفسير سورة النساء - باب (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) 8 / 249-250.
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة القلم - باب (يوم يكشف عن ساق) 8 / 663-664 والمصنف في شرح السنة: 15 / 141.(8/199)
خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43)
{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) }
{خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ وَوُجُوهُهُمْ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} يَغْشَاهُمْ ذُلُّ النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: يَعْنِي إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا يَسْمَعُونَ حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ فَلَا يُجِيبُونَ {وَهُمْ سَالِمُونَ} أَصِحَّاءُ فَلَا يَأْتُونَهُ قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا عَنِ الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ.(8/200)
فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) }
{فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} أَيْ فَدَعْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ وَخَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِمْ [كِلْهُمْ] (1) إِلَيَّ فَإِنِّي [أَكْفِيكَهُمْ] (2) [قَالَ وَمِثْلُهُ: "ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا" مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: لَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِ وَكِلْهُ إِلَيَّ فَإِنِّي أُجَازِيهِ. وَمَثْلُهُ قَوْلُ الرَّجُلِ: ذَرْنِي وَإِيَّاهُ، لَيْسَ أَنَّهُ مَنَعَهُ مِنْهُ وَلَكِنَّ تَأْوِيلَهُ كِلْهُ، فَإِنِّي أَكْفِيكَ أَمْرَهُ] (3)
قَوْلُهُ تَعَالَى: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} سَنَأْخُذُهُمْ بِالْعَذَابِ {مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} ، فَعُذِّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ. {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ لِقَضَاءِ رَبِّكَ {وَلَا تَكُنْ} فِي الضَّجَرِ وَالْعَجَلَةِ {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى {إِذْ نَادَى} رَبَّهُ [فِي] (4) بَطْنِ الْحُوتِ {وَهُوَ مَكْظُومٌ} مَمْلُوءٌ غَمًّا.
{لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ} أَدْرَكَتْهُ {نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} حِينَ رَحِمَهُ وَتَابَ عَلَيْهِ {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} لَطُرِحَ بِالْفَضَاءِ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ {وَهُوَ مَذْمُومٌ} يُذَمُّ وَيُلَامُ بِالذَّنْبِ [يُذْنِبُهُ] (5) .
{فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} اصْطَفَاهُ {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ}
{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52) }
{وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ أَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَيْنِ فَنَظَرَ إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ وَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ وَلَا مِثْلَ حُجَجِهِ.
وَقِيلَ: كَانَتِ الْعَيْنُ فِي بَنِي أَسَدٍ حَتَّى كَانَتِ النَّاقَةُ وَالْبَقَرَةُ السَّمِينَةُ تَمُرُّ بِأَحَدِهِمْ فَيُعَايِنُهَا ثُمَّ يَقُولُ: يَا جَارِيَةُ خُذِي الْمِكْتَلَ وَالدَّرَاهِمَ فَأْتِينَا بِشَيْءٍ مِنْ لَحْمِ هَذِهِ فَمَا تَبْرَحُ حَتَّى تَقَعَ
__________
(1) في "ب" وكله.
(2) في "ب" أكفيك أمره.
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) في "ب" من.
(5) في "ب" من.(8/201)
بِالْمَوْتِ فَتُنْحَرَ (1) .
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَانَ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ يَمْكُثُ لَا يَأْكُلُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ يَرْفَعُ جَانِبَ خِبَائِهِ فَتَمُرُّ بِهِ الْإِبِلُ فَيَقُولُ: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ إِبِلًا وَلَا غَنَمًا أَحْسَنَ مِنْ هَذِهِ، فَمَا تَذْهَبُ إِلَّا قَلِيلًا حَتَّى تَسْقُطَ مِنْهَا طَائِفَةٌ وَعِدَّةٌ، فَسَأَلَ الْكَفَّارُ هَذَا الرَّجُلَ أَنْ يُصِيبَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَيْنِ وَيَفْعَلَ بِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، فَعَصَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَنْزَلَ: "وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ" (2) أَيْ وَيَكَادُ وَدَخَلَتِ اللَّامُ فِي "ليزلقونك" لمكان 173/ب "إِنَّ" وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ: "لَيَزْلِقُونَكَ" بِفَتْحِ الْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، يُقَالُ: زَلَقَهُ يَزلُقُهُ زَلَقًا وَأَزْلَقَهُ يُزْلِقُهُ إِزْلَاقًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ: يُنْفِذُونَكَ، وَيُقَالُ: زَلِقَ السَّهْمُ: إِذَا أُنَفِذَ.
قَالَ السُّدِّيُّ: يُصِيبُونَكَ بعيونهم. قال النضير بْنُ شُمَيْلٍ: يُعِينُونَكَ. وَقِيلَ: يُزِيلُونَكَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَصْرَعُونَكَ. وَقِيلَ: يَصْرِفُونَكَ عَمًّا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَيْسَ يُرِيدُ أَنَّهُمْ يُصِيبُونَكَ بِأَعْيُنِهِمْ كَمَا يُصِيبُ الْعَائِنُ بِعَيْنِهِ مَا يُعْجِبُهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ نَظَرًا شَدِيدًا بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، يَكَادُ يُسْقِطُكَ (3) .
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي مِنْ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ يَكَادُونَ بِنَظَرِهِمْ نَظَرَ الْبَغْضَاءِ أَنْ يَصْرَعُوكَ. وَهَذَا مُسْتَعْمَلٌ فِي [كَلَامِ الْعَرَبِ] (4) يَقُولُ الْقَائِلُ: نَظَرَ إِلَيَّ نَظَرًا يَكَادُ يَصْرَعُنِي، وَنَظَرًا يَكَادُ يَأْكُلُنِي. يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى: أَنَّهُ قَرَنَ هَذَا النَّظَرَ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} وَهْمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْكَرَاهِيَةِ فَيُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ بِالْبَغْضَاءِ {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} أَيْ يَنْسُبُونَهُ إِلَى الْجُنُونِ إِذَا سَمِعُوهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ. فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{وَمَا هُوَ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَوْعِظَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ
__________
(1) انظر: الواحدي في أسباب النزول، ص: (509) .
(2) انظر: الواحدي في أسباب النزول ص: (510) .
(3) انظر: القرطين: 2 / 178.
(4) انظر: القرطين: 2 / 178.(8/202)
الْحَسَنُ: دَوَاءُ إِصَابَةِ الْعَيْنِ أَنْ يَقْرَأَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الْآيَةَ (1) .
أَخْبَرْنَا أَبُو عَلِيٍّ حَسَّانُ بْنُ سَعِيدٍ الْمَنِيعِيُّ، أَخْبَرْنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مُحَمَّشٍ الزِّيَادِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْقَطَّانُ، أَخْبَرْنَا أَحْمَدُ بْنُ يُوسُفَ السُّلَمِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرُ عَنْ هَمَّامِ بْنِ مُنَبِّهٍ قَالَ حَدَّثَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "الْعَيْنُ حَقٌّ" وَنَهَى عَنِ الْوَشْمِ (2) .
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، حَدَّثَنَا السَّيِّدُ أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ دَاوُدَ الْعَلَوِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو نَصْرِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حَمْدَوَيْهِ بْنِ سَهْلٍ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا مَحْمُودُ [بْنُ آدَمَ الْمَرْوَزِيُّ] (3) حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ عَامِرٍ، عَنْ عُبَيْدِ بْنِ رَفَاعَةَ الزُّرَقِيِّ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ بَنِي جَعْفَرٍ تُصِيبُهُمُ الْعَيْنُ أَفَأَسْتَرْقِي لَهُمْ؟ قَالَ: "نَعَمْ فَلَوْ كَانَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَضَاءَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ" (4) .
__________
(1) ذكره صاحب البحر المحيط: 8 / 318.
(2) أخرجه عبد الرزاق في المصنف: 11 / 18، والبخاري في الطب، باب العين حق: 10 / 203، والمصنف في شرح السنة: 12 / 103. وأخرج الجملة الأولى منه مسلم برقم: (2187) 4 / 1719.
(3) ساقط من "أ".
(4) أخرجه الترمذي في الطب، باب ما جاء في الرقية من العين: 6 / 219-220 وقال: "هذا حديث حسن صحيح" وابن ماجه في الطب، باب من استرقى من العين: 2 / 1160، والطحاوي في مشكل الآثار: 4 / 75، والمصنف في شرح السنة: 12 / 161-162. وفي الباب عن ابن عباس عند مسلم برقم: (2188) مرفوعا "العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين، وإذا استغسلتم فاغسلوا".(8/203)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5)
سُورَةُ الْحَاقَّةِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) }
{الْحَاقَّةُ} يَعْنِي الْقِيَامَةَ سُمِّيَتْ حَاقَّةً لِأَنَّهَا حَقَّتْ فَلَا كَاذِبَةَ لَهَا. وَقِيلَ لِأَنَّ فِيهَا حَوَاقُّ الْأُمُورِ وَحَقَائِقُهَا وَلِأَنَّ فِيهَا يَحِقُّ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، أَيْ يَجِبُ يُقَالُ: حَقَّ عَلَيْهِ الشَّيْءُ إِذَا وَجَبَ يَحِقُّ [حُقُوقًا] (2) قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: "وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ" (الزُّمَرِ-71) قَالَ الْكِسَائِيُّ: "الْحَاقَّةُ" يَوْمُ الْحَقِّ. {مَا الْحَاقَّةُ} هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّفْخِيمُ لِشَأْنِهَا كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ مَا زَيدٌ عَلَى التَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ. {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} أَيْ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُهَا إِذْ لَمْ تُعَايِنْهَا وَلَمْ تَرَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَهْوَالِ. {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: بِالْقِيَامَةِ سُمِّيَتْ قَارِعَةً لِأَنَّهَا تَقْرَعُ قُلُوبَ الْعِبَادِ بِالْمَخَافَةِ. وَقِيلَ: كَذَّبَتْ بِالْعَذَابِ الَّذِي أَوْعَدَهُمْ نَبِيُّهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فَقَرَعَ قُلُوبَهُمْ. {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} أَيْ بِطُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. قِيلَ: هِيَ مَصْدَرٌ، وَقِيلَ: نَعْتٌ أَيْ بِفِعْلِهِمُ الطَّاغِيَةِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ، كَمَا قَالَ: "كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا" (الشَّمْسِ-11) وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالصَّيْحَةِ الطَّاغِيَةِ، وَهِيَ الَّتِي جَاوَزَتْ مَقَادِيرَ الصِّيَاحِ فَأَهْلَكَتْهُمْ. وَقِيلَ: طَغَتْ عَلَى الخُزَّانِ [فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهَا سَبِيلٌ وَلَمْ يَعْرِفُوا كَمْ خَرَجَ مِنْهَا] (3) كَمَا طَغَى الْمَاءُ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الحاقة بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 263.
(2) في "ب" حقا.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/204)
وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8)
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) }(8/208)
وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11)
{وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) }
{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} عَتَتْ عَلَى خُزَّانِهَا فَلَمْ تُطِعْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، وَجَاوَزَتِ الْمِقْدَارَ فَلَمْ يَعْرِفُوا كَمْ خَرَجَ مِنْهَا. {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} قَالَ وَهْبٌ: هِيَ الْأَيْامُ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ أَيْامَ الْعَجُوزِ، ذَاتُ بَرْدٍ وَرِيَاحٍ شَدِيدَةٍ. قِيلَ: سُمِّيَتْ عَجُوزًا لِأَنَّهَا فِي عَجُزِ الشِّتَاءِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ عَجُوزًا مِنْ قَوْمِ عَادٍ دَخَلَتْ سِرْبًا فَتَبِعَتْهَا الرِّيحُ، فَقَتَلَتْهَا الْيَوْمَ الثَّامِنَ مِنْ نزولِ الْعَذَابِ وَانْقَطَعَ الْعَذَابُ {حُسُومًا} قَالَ مُجَاهِدُ وَقَتَادَةُ: مُتَتَابِعَةً لَيْسَ لَهَا فَتْرَةٌ، فَعَلَى هَذَا فَهُوَ مِنْ حَسْمِ الْكَيِّ وَهُوَ أَنْ يُتَابَعَ عَلَى مَوْضِعِ الدَّاءِ بِالْمِكْوَاةِ حَتَّى يَبْرَأَ، ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ شَيْءٍ تُوبِعَ: حَاسِمٌ وَجَمْعُهُ حُسُومٌ، مِثْلَ شَاهِدٍ وَشُهُودٌ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: حُسُومًا دَائِمَةً. وَقَالَ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ: حَسَمَتْهُمْ قَطَعَتْهُمْ وَأَهْلَكَتْهُمْ، وَالْحَسْمُ: الْقَطْعُ وَالْمَنْعُ وَمِنْهُ حَسْمُ الدَّاءِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: [الَّذِي تُوجِبُهُ الْآيَةُ فَعَلَى مَعْنَى] (1) تَحْسِمُهُمْ حُسُومًا تُفْنِيهِمْ وَتُذْهِبْهُمْ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: حُسُومًا كَأَنَّهَا حَسَمَتِ الْخَيْرَ عَنْ أَهْلِهَا {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا} أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي وَالْأَيْامِ {صَرْعَى} هَلْكَى جَمْعُ صَرِيعٍ {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} سَاقِطَةٍ، وَقِيلَ: خَالِيَةِ الْأَجْوَافِ. {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} أَيْ مِنْ نَفْسٍ بَاقِيَةٍ، يَعْنِي: لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ، أَيْ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ، أَيْ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} أَيْ: قُرَى قَوْمِ لُوطٍ، يُرِيدُ: أَهَّلَ الْمُؤْتَفِكَاتِ. وَقِيلَ يُرِيدُ الْأُمَمَ الَّذِينَ ائْتَفَكُوا بِخَطِيئَتِهِمْ، أَيْ أُهْلِكُوا بِذُنُوبِهِمْ {بِالْخَاطِئَةِ} أَيْ بِالْخَطِيئَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَهِيَ الشِّرْكُ. {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} يَعْنِي لُوطًا وَمُوسَى {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} نَامِيَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: شَدِيدَةً. وَقِيلَ: زَائِدَةً عَلَى عَذَابِ الْأُمَمِ. {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} أَيْ عَتَا وَجَاوَزَ حَدَّهُ حَتَّى عَلَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَارْتَفَعَ فَوْقَهُ، يَعْنِي زَمَنَ
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".(8/208)
لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17)
نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ {حَمَلْنَاكُمْ} أَيْ حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ وَأَنْتُمْ فِي أَصْلَابِهِمْ {فِي الْجَارِيَةِ} فِي السَّفِينَةِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْمَاءِ.
{لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12) فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) }
{لِنَجْعَلَهَا} أَيْ لِنَجْعَلَ تِلْكَ الْفَعْلَةَ الَّتِي فَعَلْنَا مِنْ إِغْرَاقِ قَوْمِ نُوحٍ وَنَجَاةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَهُ {لَكُمْ تَذْكِرَةً} عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً {وَتَعِيَهَا} قَرَأَ الْقَوَّاسُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ وَسُلَيْمٍ عَنْ حَمْزَةَ بِاخْتِلَاسِ الْعَيْنِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا أَيْ تَحْفَظُهَا {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} أَيْ: حَافِظَةٌ لِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ: [أُذُنٌ] (1) سَمِعَتْ وَعَقَلَتْ مَا سَمِعَتْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لِتَحْفَظَهَا كُلُّ أُذُنٍ فَتَكُونُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِمَنْ يَأْتِي بَعْدُ (2) . {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى. {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} رُفِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا {فَدُكَّتَا} كُسِرَتَا {دَكَّةً} كَسْرَةً {وَاحِدَةً} فَصَارَتَا هَبَاءً [مَنْثُورًا] (3) . {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} قَامَتِ الْقِيَامَةُ. {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} ضَعِيفَةٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَهْيُهَا: تَشَقُّقُهَا (4) . {وَالْمَلَكُ} يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ {عَلَى أَرْجَائِهَا} نَوَاحِيهَا وَأَقْطَارِهَا ما لم 173/ب يَنْشَقَّ مِنْهَا واحدها: "رجا" مقصورًا وَتَثْنِيَتُهُ رِجَوَانِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: تَكُونُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى حَافَّتِهَا حَتَّى يَأْمُرَهُمُ الرَّبُّ فَيَنْزِلُونَ فَيُحِيطُونَ بِالْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} أَيْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ يَعْنِي الْحَمْلَةَ {يَوْمَئِذٍ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ {ثَمَانِيَةٌ} أَيْ ثَمَانِيَةُ أَمْلَاكٍ.
جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "إِنَّهُمُ الْيَوْمَ أَرْبَعَةٌ فَإِذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيَّدَهُمُ اللَّهُ بِأَرْبَعَةٍ أُخْرَى، فَكَانُوا
__________
(1) ساقط من "أ".
(2) معاني القرآن للفراء: 3 / 181.
(3) في "ب" منبثا.
(4) في الموضع المتقدم.(8/209)
ثَمَانِيَةً عَلَى صُورَةِ الْأَوْعَالِ مَا بَيْنَ أَظْلَافِهِمْ إِلَى رُكَبِهِمْ كَمَا بَيْنَ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ" (1) .
وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "لِكُلِّ مَلَكٍ مِنْهُمْ وَجْهُ رَجُلٍ وَوَجْهُ أَسَدٍ وَوَجْهُ ثَوْرٍ وَوَجْهُ نَسْرٍ" (2) .
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ الْهَيْثَمِ التُّرَابِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَدَّادِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْخَالِدِيُّ، أَخْبَرَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ [الْحَنْظَلِيُّ] (3) حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْعَلَاءِ، عَنْ عَمِّهِ شُعَيْبِ بْنِ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا سِمَاكُ بْنُ حَرْبٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرَةَ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمَطْلَبِ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَطْحَاءِ فَمَرَّتْ سَحَابَةٌ فَقَالَ: النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَتُدْرُونَ مَا هَذَا؟ قُلْنَا: السَّحَابُ. قَالَ: وَالْمُزْنُ؟ قُلْنَا: وَالْمُزْنُ، قَالَ: وَالْعَنَانُ؟ فَسَكَتْنَا فَقَالَ: هَلْ تَدْرُونَ كَمْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ؟ قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: بَيْنَهُمَا مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَكَذَلِكَ غِلَظُ كُلِّ سَمَاءٍ خَمْسُمِائَةِ سَنَةٍ، وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ [ثُمَّ بَيْنَ ذَلِكَ ثَمَانِيَةُ أَوَعَالٍ بَيْنَ أَظْلَافِهِنَّ وَرُكَبِهِنَّ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ] (4) ثُمَّ فَوْقَ ذَلِكَ الْعَرْشُ بَيْنَ أَسْفَلِهِ وَأَعْلَاهُ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ تَعَالَى فَوْقَ ذَلِكَ، لَيْسَ يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ شَيْءٌ" (5) .
وَيُرْوَى هَذَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمِيرَةَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ عَنِ الْعَبَّاسِ.
وَرَوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: "فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ" أَيْ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعْلَمُ
__________
(1) أخرجه الطبري: 29 / 59 وليس فيه "على صورة الأوعال ما بين أظلافهم إلى ركبهم كما بين سماء إلى سماء" وهو خبر مقطوع. قال صاحب البحر المحيط: 8 / 324 "وذكروا في صفات هؤلاء الثمانية أشكالا متكاذبة ضربنا عن ذكرها صفحا".
(2) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 314 عن عبد الله بن وهب عن أبيه. وزاد السيوطي في الدر المنثور: 8 / 270 عزوه لعبد بن حميد وابن المنذر عن ابن وهب أيضا. وذكره الحافظ ابن حجر في المطالب العالية: 3 / 391 وعزاه لإسحاق وقال: موقوف ضعيف الإسناد. وقال البوصيري: ضعيف لجهالة بعض رواته.
(3) في "أ" الخطابي، والصحيح ما أثبت كما في "تهذيب التهذيب".
(4) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(5) حديث ضعيف رواه أبو داود في السنة، باب في الجهمية: 7 / 91-93 وقال المنذري: في إسناده الوليد بن أبي ثور، ولا يحتج بحديثه، وأخرجه الترمذي في تفسير سورة الحاقة: 9 / 234-236، وقال: "هذا حديث حسن غريب" روى الوليد ابن أبي ثور عن سماك نحوه ورفعه، وروى شريك عن سماك بعض هذا الحديث ووقفه ولم يرفعه، وأخرجه ابن ماجه في المقدمة: 1 / 69، والإمام أحمد في المسند: 1 / 206 وابن أبي عاصم في السنة: 1 / 253، والبيهقي في الأسماء والصفات: 2 / 142-143، وابن خزيمة في التوحيد ص: (68) والآجري في الشريعة ص: (292) والدارمي في الرد على الجهمية ص: (19) والذهبي في العلو للعلي الغفار ص (33) وصححه الحاكم: 2 / 288،412، وتعقبه الذهبي فقال: يحيى بن العلاء: واه، وعبد الله بن عميرة فيه جهالة. قال البخاري: لا يعرف له سماع من الأحنف بن قيس، ويحيى بن العلاء متهم بالوضع. انظر: ظلال الجنة في تخريج السنة للألباني: 1 / 254، النهج السديد في تخريج أحاديث تيسير العزيز الحميد ص: (283) .(8/210)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ (1) .
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) }
{يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} عَلَى اللَّهِ {لَا تَخْفَى} قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: "لَا يَخْفَى" بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ {مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} أَيْ فِعْلَةٌ خَافِيَةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ شَيْءٌ. قَالَ أَبُو مُوسَى: يُعْرَضُ النَّاسُ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرٌ وَأَمَّا الْعُرْضَةُ الثَّالِثَةُ فَعِنْدَهَا تَطَايُرُ الصُّحُفِ فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشَمَالِهِ (2) وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} تَعَالَوِا اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ الْهَاءُ فِي "كِتَابِيَهْ" هَاءُ الْوَقْفِ. {إِنِّي ظَنَنْتُ} عَلِمْتُ وَأَيْقَنْتُ {أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} أَيْ: [أَنِّي] (3) أُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ. {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ} حَالَةٍ مِنَ الْعَيْشِ {رَاضِيَةٍ} مَرْضِيَّةٍ كَقَوْلِهِ: "مَاءٍ دَافِقٍ" (الطَّارِقِ-6) يُرِيدُ: يَرْضَاهَا بِأَنْ لَقِيَ الثَّوَابَ وَأَمِنَ الْعِقَابَ. {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} رَفِيعَةٍ. {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} ثِمَارُهَا قَرِيبَةٌ لِمَنْ يَتَنَاوَلُهَا [فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ يَنَالُهَا] (4) قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا يَقْطَعُونَ كَيْفَ شَاءُوا. وَيُقَالُ لَهُمْ:
__________
(1) أخرجه الطبري: 29 / 58. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 269 أيضا لابن المنذر وابن أبي حاتم.
(2) أخرجه الطبري: 29 / 59، والإمام أحمد: 4 / 414 عن أبي موسى الأشعري، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 314، وابن ماجه في الزهد، باب ذكر البعث: 2 / 1430. قال في الزوائد: رجال الإسناد ثقات، إلا أنه منقطع، والحسن لم يسمع من أبي موسى. قاله علي بن المديني وأبو حاتم وأبو زرعة. ورواه الترمذي في القيامة: 7 / 111-112 عن أبي هريرة وقال: لا يصح هذا الحديث من قبل أن الحسن لم يسمع من أبي هريرة وأشار إلى حديث أبي موسى فقال: وقد رواه بعضهم عن علي بن علي وهو الرفاعي عن الحسن عن أبي موسى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الحافظ في الفتح: 11 / 403: "أخرجه البيهقي في "البعث" بسند حسن عن عبد الله بن مسعود موقوفا".
(3) ساقط من "ب".
(4) زيادة من "ب".(8/211)
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32)
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) }
{كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ} قَدَّمْتُمْ لِآخِرَتِكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ {فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} الْمَاضِيَةِ يُرِيدُ أَيْامَ الدُّنْيَا. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: تُلْوَى يَدُهُ الْيُسْرَى [مِنْ صَدْرِهِ] (1) خَلْفَ ظَهْرِهِ ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَهُ. وَقِيلَ: تُنْزَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى مِنْ صَدْرِهِ إِلَى خَلْفِ ظَهْرِهِ ثُمَّ يُعْطَى كتابه؛ {فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ كِتَابَهُ لِمَا يَرَى فِيهِ مِنْ قَبَائِحِ أَعْمَالِهِ. {يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} يَقُولُ: يَا لَيْتَ الْمَوْتَةَ الَّتِي مُتُّهَا فِي الدُّنْيَا كَانَتِ الْقَاضِيَةُ الْفَارِغَةُ مِنْ كُلِّ مَا بَعْدَهَا وَالْقَاطِعَةُ لِلْحَيَاةِ، فَلَمْ أَحْيَ بَعْدَهَا. وَ"الْقَاضِيَةُ" مَوْتٌ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ لِلْحِسَابِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَتَمَنَّى الْمَوْتَ وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ أَكْرَهَ مِنَ الْمَوْتِ. {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} لَمْ يَدْفَعْ عَنِّي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا. {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} ضَلَّتْ عَنِّي حُجَّتِي، عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: زَالَ عَنِّي مِلْكِي وَقُوَّتِي. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي حِينَ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ بِالشِّرْكِ، يَقُولُ اللَّهُ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} اجْمَعُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ. {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} أَيْ: أَدْخِلُوهُ الْجَحِيمَ. {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} فَأَدْخِلُوهُ فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سَبْعُونَ ذِرَاعًا بِذِرَاعِ الْمَلَكِ، فَتَدْخُلُ فِي دُبُرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ مَنْخَرِهِ (2) . وَقِيلَ: تَدْخُلُ فِي فِيهِ وَتَخْرُجُ مِنْ
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) أخرجه الطبري: 29 / 63-64. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 274 لابن أبي حاتم والبيهقي في البعث والنشور.(8/212)
إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34)
دُبُرِهِ. وَقَالَ نَوْفٌ الْبَكَالِيُّ: سَبْعُونَ ذِرَاعًا كُلُّ ذِرَاعٍ سَبْعُونَ بَاعًا كُلُّ بَاعٍ أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَكَ وَبَيْنَ مَكَّةَ، وَكَانَ فِي رَحْبَةِ الْكُوفَةِ (1) وَقَالَ سُفْيَانُ: كُلُّ ذِرَاعٍ سَبْعُونَ ذِرَاعًا. قَالَ الْحَسَنُ: اللَّهُ أَعْلَمُ أَيُّ ذِرَاعٍ هُوَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ عِيسَى بْنِ هِلَالٍ الصَّدَفِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَوْ أَنَّ [رُضَاضَةً] (2) مِثْلَ هَذِهِ -وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ الْجُمْجُمَةِ -أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَلَوْ أَنَّهَا أُرْسِلَتْ مِنْ رَأْسِ السِّلْسِلَةِ لَسَارَتْ أَرْبَعِينَ خَرِيفًا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ قَبْلَ أَنْ تَبْلُغَ أَصْلَهَا أَوْ قَعْرَهَا" (3) .
وَعَنْ كَعْبٍ قَالَ: لَوْ جُمِعَ حَدِيدُ الدُّنْيَا مَا وَزَنَ حَلَقَةً مِنْهَا.
{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) }
__________
(1) أخرجه الطبري: 29 / 63، وعبد الرزاق في التفسير: 2 / 315. وعزاه السيوطي في الدر: 8 / 273-274 لابن المبارك وهناد في الزهد وعبد بن حميد وابن المنذر.
(2) في المخطوطتين "رضاضة" وعند ابن كثير كذلك. وفي شرح السنة "رضراضة" وأما عند الترمذي والإمام أحمد والطبري فـ"رصاصة" وقد شرحها المباركفوري بأنها قطعة من الرصاص.
(3) أخرجه الترمذي في صفة جهنم، باب ما جاء في صفة طعام أهل النار: 7 / 313-314 وقال: "هذا حديث إسناده حسن صحيح" والإمام أحمد: 2 / 197، والطبري: 29 / 64، والمصنف في شرح السنة: 15 / 248-249.(8/213)
فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39)
{فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37) فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) }
{إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} لَا يُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فِي الدُّنْيَا وَلَا يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِذَلِكَ. {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} قَرِيبٌ يَنْفَعُهُ وَيَشْفَعُ لَهُ. {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ، مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَسْلِ، كَأَنَّهُ غُسَالَةُ جُرُوحِهِمْ وَقُرُوحِهِمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: هُوَ شَجَرٌ يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ. {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} أَيِ: الْكَافِرُونَ. {فَلَا أُقْسِمُ} "لَا" رَدٌّ لِكَلَامِ الْمُشْرِكِينَ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ أُقْسِمُ(8/213)
إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45)
{بِمَا تُبْصِرُونَ} أَيْ بِمَا تَرَوْنَ وَبِمَا لَا تَرَوْنَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَقْسَمَ بِالْأَشْيَاءِ كُلِّهَا فَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ [الْمَخْلُوقَاتِ] (1) وَالْمَوْجُودَاتِ. وَقَالَ: أَقْسَمَ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" مَا عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَ"مَا لَا تُبْصِرُونَ" مَا فِي بَطْنِهَا. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" مِنَ الْأَجْسَامِ وَ"مَا لَا تُبْصِرُونَ" مِنَ الْأَرْوَاحِ. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" الْإِنْسُ وَ"مَا لَا تُبْصِرُونَ" الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ. وَقِيلَ النِّعَمُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ. وَقِيلَ: "مَا تُبْصِرُونَ" مَا أَظْهَرَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ وَاللَّوْحِ وَالْقَلَمِ: و"مَا لَا تُبْصِرُونَ" مَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا.
{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) }
{إِنَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ َ} أَيْ تِلَاوَةُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} 174/أقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ: "يُؤْمِنُونَ وَيَذْكُرُونَ" بِالْيَاءِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، وَأَرَادَ بِالْقَلِيلِ نَفْيَ إِيمَانِهِمْ أَصْلًا كَقَوْلِكَ لِمَنْ لَا يَزُورُكَ: قَلَّمَا تَأْتِينَا. وَأَنْتَ تُرِيدُ: لَا تَأْتِينَا أَصْلًا. {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ} تَخَرَّصَ وَاخْتَلَقَ {عَلَيْنَا} مُحَمَّدٌ {بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} وَأَتَى بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ. {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} قِيلَ "مِنْ" صِلَةٌ مَجَازُهُ: لَأَخَذْنَاهُ وَانْتَقَمْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: "كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ" (الصَّافَّاتِ-28) أَيْ: مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَخَذْنَاهُ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ. قَالَ الشَّمَّاخُ فِي عَرَابَةُ مَلِكِ الْيَمَنِ: إِذَا مَا رَايَةٌ رُفِعَتْ لمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عُرَابَةُ بِاليَمِينِ (2)
أَيْ بِالْقُوَّةِ، عَبَّرَ عَنِ الْقُوَّةِ بِالْيَمِينِ لِأَنَّ قُوَّةَ كُلِّ شَيْءٍ فِي مُيَامِنِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَأَخَذْنَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَهُوَ مِثْلُ مَعْنَاهُ: لَأَذْلَلْنَاهُ وَأَهَنَّاهُ كَالسُّلْطَانِ إِذَا أَرَادَ الِاسْتِخْفَافَ
__________
(1) في "ب" المكنونات.
(2) البيت للشماخ، وعرابة هو ابن أوس الحارثي الأنصاري من سادات المدينة أسلم صغيرا وتوفي بالمدينة نحو سنة ستين.(8/214)
ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
بِبَعْضِ مَنْ يُرِيدُ يَقُولُ لِبَعْضِ أَعْوَانِهِ: خُذْ بِيَدِهِ فَأَقِمْهُ.
{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) }
{ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ نِيَاطَ الْقَلْبِ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَبْلُ الَّذِي فِي الظَّهْرِ. وَقِيلَ هُوَ عِرْقٌ يَجْرِي فِي الظَّهْرِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْقَلْبِ، فَإِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ. {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} مَانِعِينَ يَحْجِزُونَنَا عَنْ عُقُوبَتِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنْ مُحَمَّدًا لَا يَتَكَلَّفُ الْكَذِبَ لِأَجْلِكُمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَوْ تَكَلَّفَهُ لَعَاقَبْنَاهُ وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ عُقُوبَتِنَا عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: "حَاجِزِينَ" بِالْجَمْعِ وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ ردًا عَلَى مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ: "لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ" (الْبَقَرَةِ-285) . {وَإِنَّهُ} يَعْنِي الْقُرْآنَ {لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} أَيْ لَعِظَةٌ لِمَنِ اتَّقَى عِقَابَ اللَّهِ. {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْدَمُونَ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ.
{وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ.
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} .(8/215)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2)
سُورَةُ الْمَعَارِجِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) }
{سَأَلَ سَائِلٌ} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: "سَالَ" بِغَيْرِ هَمْزٍ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْهَمْزِ، فَمَنْ هَمَزَ فَهُوَ مِنَ السُّؤَالِ، وَمَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ هَمْزٍ قِيلَ: هُوَ لُغَةٌ فِي السُّؤَالِ، يُقَالُ: سَالَ يَسَالُ مَثَلُ خَافَ يَخَافُ [يَعْنِي] (2) سَالَ يَسَالُ خَفَّفَ الْهَمْزَةَ وَجَعَلَهَا أَلِفًا.
وَقِيلَ: هُوَ مِنَ السَّيْلِ، وَالسَّايِلُ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ.
وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: "بِعَذَابٍ" قِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى "عَنْ" كَقَوْلِهِ: "فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا" (الْفُرْقَانِ-59) [أَيْ عَنْهُ خَبِيرًا] (3)
وَمَعْنَى الْآيَةِ: سَأَلَ سَائِلٌ عَنْ عَذَابٍ {وَاقِعٍ} نَازِلٍ كَائِنٍ عَلَى مَنْ يُنَزَّلْ وَلِمَنْ ذَلِكَ الْعَذَابُ فَقَالَ اللَّهُ مُبِينًا مُجِيبًا لِذَلِكَ السَّائِلِ: {لِلْكَافِرِينَ} وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَمَّا خَوَّفَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْعَذَابِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ أَهَلُ هَذَا الْعَذَابِ؟ وَلِمَنْ هُوَ؟ سَلُوا عَنْهُ مُحَمَّدًا فَسَأَلُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: "سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ لِلْكَافِرينَ" أَيْ: هُوَ لِلْكَافِرِينَ، هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ. وَقِيلَ: الْبَاءُ صِلَةٌ وَمَعْنَى الْآيَةِ: دَعَا دَاعٍ وَسَأَلَ سَائِلٌ عَذَابًا وَاقِعًا لِلْكَافِرِينَ، أَيْ: عَلَى الْكَافِرِينَ، اللَّامُ بِمَعْنَى "عَلَى" وَهُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَيْثُ دَعَا
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة سأل بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 277.
(2) في "أ" بمعنى.
(3) ما بين القوسين زيادة من "ب".(8/216)
مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)
عَلَى نَفْسِهِ وَسَأَلَ الْعَذَابَ، فَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ" الْآيَةَ (الْأَنْفَالِ-32) فَنَزَلَ بِهِ مَا سَأَلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقُتِلَ صَبْرًا، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: {لَيْسَ لَهُ} أَيْ لِلْعَذَابِ {دَافِعٌ} مَانِعٌ.
{مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) }
{مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ ذِي السَّمَاوَاتِ، سَمَّاهَا مَعَارِجَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ فِيهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ذِي الدَّرَجَاتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذِي الْفَوَاضِلِ وَالنِّعَمِ [وَمَعَارِجُ: الْمَلَائِكَةُ] (1) . {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ} قَرَأَ الْكِسَائِيُّ "يَعْرُجُ" بِالْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ "تَعْرُجُ" بِالتَّاءِ {وَالرُّوحُ} يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ {إِلَيْهِ} أَيْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مِنْ سِنِي الدُّنْيَا لَوْ صَعِدَ غَيْرُ الْمَلَكِ وَذَلِكَ أَنَّهَا تَصْعَدُ مُنْتَهَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ أَسْفَلِ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ إِلَى مُنْتَهَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ.
رَوَى لَيْثٌ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّ مِقْدَارَ هَذَا خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ (2) .
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَوْ سَارَ بَنُو آدَمَ مِنَ الدُّنْيَا إِلَى مَوْضِعِ الْعَرْشِ لَسَارُوا خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَرَادَ أَنَّ مَوْقِفَهُمْ لِلْحِسَابِ حَتَّى يُفْصَلُ بَيْنَ النَّاسِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا، لَيْسَ يَعْنِي بِهِ مِقْدَارَ طُولِهِ هَذَا دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهُ أَوَّلٌ وَلَيْسَ لَهُ آخِرٌ لِأَنَّهُ يَوْمٌ مَمْدُودٌ، وَلَوْ كَانَ لَهُ آخِرٌ لَكَانَ مُنْقَطِعًا.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَى الْكَافِرِينَ مِقْدَارَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (3) .
__________
(1) ما بين القوسين زيادة من "ب".
(2) أخرجه الطبري: 29 / 71.
(3) أخرجه الطبري: 29 / 71. وعزاه ابن كثير في التفسير: 4 / 420 لابن أبي حاتم. وساق أربعة أقوال في معنى (في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة) فلتنظر. وعزاه صاحب الدر المنثور: 8 / 279 لابن المنذر والبيهقي في البعث والنشور.(8/220)
فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9)
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ الْمُظَفَّرُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْقَاسِمِ حَمْزَةُ بْنُ يُوسُفَ السَّهْمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُدَيٍّ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدٍ، حَدَّثَنَا أَسَدُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ دَرَّاجٍ أَبِي السَّمْحِ، عَنْ أَبِي الْهَيْثَمِ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ: فَمَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَيُخَفَّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا" (1) .
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَوْ وَلِيَ مُحَاسَبَةَ الْعِبَادِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ غَيْرُ اللَّهِ لَمْ يُفْرَغْ مِنْهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٍ. قَالَ عَطَاءٌ: وَيَفْرُغُ اللَّهُ مِنْهُ فِي مِقْدَارِ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ أَيْامِ الدُّنْيَا.
وَرَوَى مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: يَقُولُ لَوْ وَلَّيْتُ حِسَابَ ذَلِكَ الْيَوْمِ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَطَوَّقْتُهُمْ مُحَاسَبَتَهُمْ لَمْ يَفْرُغُوا مِنْهُ إِلَّا بَعْدَ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأَنَا أَفْرُغُ مِنْهَا فِي سَاعَةٍ [وَاحِدَةٍ] (2) مِنَ النَّهَارِ.
وَقَالَ يَمَانٌ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ فِيهِ خَمْسُونَ مَوْطِنًا، كُلُّ مَوْطِنٍ أَلْفُ سَنَةٍ. وَفِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ.
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) }
{فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} يَا مُحَمَّدُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقِتَالِ. {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} يَعْنِي الْعَذَابَ {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} لِأَنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} كَعَكِرِ الزَّيْتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَالْفِضَّةِ إِذَا أُذِيبَتْ. {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} كَالصُّوفِ الْمَصْبُوغِ. وَلَا يُقَالُ: "عِهْنٌ" إِلَّا لِلْمَصْبُوغِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَالصُّوفِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ أضعف الصوف 174/ب وَأَوَّلُ مَا تَتَغَيَّرُ
__________
(1) أخرجه الطبري: 29 / 72، والإمام أحمد: 3 / 75، وابن حبان في موارد الظمآن ص: (638) والمصنف في شرح السنة: 15 / 129. وذكره ابن كثير في التفسير: 4 / 420 وقال: إن دراجا وشيخه ضعيفان.
(2) ساقط من "ب".(8/221)
وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10)
الْجِبَالُ تَصِيرُ رَمْلًا مَهِيلًا ثُمَّ عِهْنًا مَنْفُوشًا، ثُمَّ تَصِيرُ هَبَاءً مَنْثُورًا.
{وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) }(8/222)
يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16)
{يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) }
{وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} قَرَأَ الْبَزِّيُّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ "لَا يُسْأَلُ" بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ: لَا يُسْأَلُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمٍ، أَيْ لَا يُقَالُ لَهُ: أَيْنَ حَمِيمُكَ؟ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ: لَا يَسْأَلُ قَرِيبٌ قَرِيبًا لِشَغْلِهِ بِشَأْنِ نَفْسِهِ. {يُبَصَّرُونَهُمْ} يَرَوْنَهُمْ، وَلَيْسَ فِي الْقِيَامَةِ مَخْلُوقٌ إِلَّا وَهُوَ نُصْبُ عَيْنِ صَاحِبِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، فَيُبْصِرُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ وَقَرَابَتَهُ فَلَا يَسْأَلُهُ، وَيُبَصَّرُ حَمِيمَهُ فَلَا يُكَلِّمُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَعَارَفُونَ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ثُمَّ لَا يَتَعَارَفُونَ بَعْدَهُ.
وَقِيلَ: "يُبَصَّرُونَهُمْ" يُعَرَّفُونَهُمْ، أَيْ: يُعَرَّفُ الْحَمِيمُ حَمِيمَهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَسْأَلُهُ عَنْ شَأْنِهِ لِشَغْلِهِ بِنَفْسِهِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: يُعَرَّفُونَهُمْ أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَبِبَيَاضِ وَجْهِهِ وَأَمَّا الْكَافِرُ فَبِسَوَادِ وَجْهِهِ {يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} يَتَمَنَّى الْمُشْرِكُ {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} {وَصَاحِبَتِهِ} زَوْجَتِهِ {وَأَخِيهِ وَفَصِيلَتِهِ} عَشِيرَتِهِ الَّتِي فَصَلَ مِنْهُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: قَبِيلَتُهُ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أَقْرِبَاؤُهُ الْأَقْرَبُونَ {الَّتِي تُؤْوِيهِ} أَيِ الَّتِي تَضُمُّهُ وَيَأْوِي إِلَيْهَا. {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} ذَلِكَ الْفِدَاءُ مِنْ عَذَابِ [رَبِّكَ] (1) . {كَلَّا} لَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْءٌ ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {إِنَّهَا لَظَى} وَهِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. وقيل: هِيَ الدِّرَكَةُ الثَّانِيَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَتَلَظَّى أَيْ: تَتَلَهَّبُ. {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ "نَزَّاعَةً" نَصَبَ عَلَى الْحَالِ وَالْقَطْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ أَيْ هِيَ نَزَّاعَةٌ لِلشَّوَى، وَهِيَ [الْأَطْرَافُ] (2) الْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ [وَسَائِرُ] (3) الْأَطْرَافِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: لِجُلُودِ الرَّأْسِ. وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُهَاجِرٍ عَنْهُ: [تَنْزِعُ] (4) اللَّحْمَ دُونَ الْعِظَامِ.
__________
(1) في "ب" الله.
(2) ساقط من "ب".
(3) ساقط من "ب".
(4) ساقط من "ب".(8/222)
تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21)
قَالَ مُقَاتِلٌ: تَنْزِعُ النَّارُ الْأَطْرَافَ فَلَا تَتْرُكُ لَحْمًا وَلَا جِلْدًا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَنْزِعُ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ عَنِ الْعَظْمِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْعَصَبُ وَالْعَقِبُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لِأُمِّ الرَّأْسِ تَأْكُلُ الدِّمَاغَ كُلَّهُ ثُمَّ يَعُودُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ تَعُودُ لِأَكْلِهِ فَذَلِكَ دَأْبُهَا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لِمَكَارِمِ خَلْقِهِ وَأَطْرَافِهِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لِمَحَاسِنِ وَجْهِهِ.
وَقَالَ ابْنُ [جَرِيرٍ] (1) "الشَّوَى" جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ مَا لَمْ يَكُنْ مَقْتَلًا يُقَالُ: رَمَى فَأَشْوَى إِذَا أَصَابَ الْأَطْرَافَ وَلَمْ يصب المقتل (2) .
{تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18) إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) }
{تَدْعُوا} أَيِ: النَّارُ إِلَى نَفْسِهَا {مَنْ أَدْبَرَ} عَلَى الْإِيمَانِ {وَتَوَلَّى} عَنِ الْحَقِّ فَتَقُولُ إِلَيَّ يَا مُشْرِكُ إِلَيَّ يَا مُنَافِقُ إِلَيَّ إِلَيَّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَدْعُو الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِأَسْمَائِهِمْ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ ثُمَّ تَلْتَقِطُهُمْ كَمَا يَلْتَقِطُ الطَّيْرُ الْحَبَّ. حُكِيَ عَنِ الْخَلِيلِ: أَنَّهُ قَالَ: تَدْعُو أَيْ تُعَذِّبُ. وَقَالَ: قَالَ أَعْرَابِيٌّ لِآخَرَ: دَعَاكَ اللَّهُ أَيْ عَذَّبَكَ اللَّهُ. {وَجَمَعَ} أَيْ: جَمَعَ الْمَالَ {فَأَوْعَى} [أَمْسَكَهُ] (3) فِي الْوِعَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ. {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [قَالَ] (4) "الْهَلُوعُ" الْحَرِيصُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: شَحِيحًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ضَجُورًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ: بَخِيلًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَزُوعًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ضَيِّقَ الْقَلْبِ. وَالْهَلَعُ: شِدَّةُ الْحِرْصِ وَقِلَّةُ الصَّبْرِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَفْسِيرُهُ مَا بَعْدَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} أَيْ: إِذَا أَصَابَهُ الْفَقْرُ لَمْ يَصْبِرْ، وَإِذَا أَصَابَ الْمَالَ لَمْ يُنْفِقْ. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: خَلَقُ اللَّهُ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ مَا يَسُرُّهُ وَيَهْرَبُ مِمَّا يَكْرَهُ، ثُمَّ تَعَبَّدَهُ بِإِنْفَاقِ مَا يُحِبُّ وَالصَّبْرِ عَلَى مَا يَكْرَهُ. ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ:
__________
(1) في "ب" جبير والصحيح ما أثبت من "أ".
(2) ذكره الطبري: 29 / 76.
(3) ساقط من "أ".
(4) ساقط من "ب".(8/223)
إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)
{إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) }
{إِلَّا الْمُصَلِّينَ} اسْتَثْنَى الْجَمْعَ مِنَ الْوُحْدَانِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ [كَقَوْلِهِ: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا"] (1) . {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} يُقِيمُونَهَا فِي أَوْقَاتِهَا يَعْنِي الْفَرَائِضَ.
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَحْمُودٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ، حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أَبِي حَبِيبٍ: أَنَّ أَبَا الْخَيْرِ أَخْبَرَهُ قَالَ: سَأَلْنَا عُقْبَةَ بْنُ عَامِرٍ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: "الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ" أَهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ أَبَدًا؟ قَالَ: لَا وَلَكِنَّهُ إِذَا صَلَّى لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا عَنْ شِمَالِهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ (2) . {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ وَيَعْقُوبَ: "بِشَهَادَاتِهِمْ" عَلَى الْجَمْعِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ [بِشَهَادَاتِهِمْ] (3) [عَلَى التَّوْحِيدِ] (4) {قَائِمُونَ} أَيْ يَقُومُونَ فِيهَا بِالْحَقِّ أَوْ لَا يَكْتُمُونَهَا وَلَا يُغَيِّرُونَهَا.
__________
(1) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(2) أخرجه الطبري: 29 / 80. وابن المبارك حدث عن ابن لهيعة قبل الاختلاط. وعزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 284 لابن المنذر.
(3) ساقط من "أ".
(4) ساقط من "ب".(8/224)
وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39)
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) }
{وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} .
{فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: فَمَا بَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا، كَقَوْلِهِ: "فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ" (الْمُدَّثِّرِ-49) {قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} مُسْرِعِينَ مُقْبِلِينَ إِلَيْكَ مَادِّي أَعْنَاقِهِمْ وَمُدِيمِي النَّظَرِ إِلَيْكَ مُتَطَلِّعِينَ نَحْوَكَ.
نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: مَا لَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَيَجْلِسُونَ عِنْدَكَ وَهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَسْتَمِعُونَ (1) . {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} حِلَقًا وَفِرَقًا، وَ"الْعِزِينُ" جَمَاعَاتٌ فِي تَفْرِقَةٍ، وَاحِدَتُهَا عِزَةٌ. {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَيَطْمَعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخُلَ جَنَّتِي كَمَا يُدْخُلُهَا الْمُسْلِمُونَ وَيَتَنَعَّمَ فِيهَا وَقَدْ كَذَّبَ نَبِيِّي؟ {كَلَّا} لَا يَدْخُلُونَهَا. ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} أَيْ: مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، نَبَّهَ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ وَيَسْتَوْجِبُونَ الْجَنَّةَ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْفِرْيَابِيُّ، حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ عُثْمَانَ الرَّحَبِيُّ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ بُسْرِ بْنِ جِحَاشٍ [الْقُرَشِيِّ] (2) قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَصَقَ يَوْمًا فِي كَفِّهِ وَوَضَعَ عَلَيْهَا إِصْبَعَهُ فَقَالَ: يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "ابْنَ آدَمَ أَنىَّ تُعْجِزُنِي وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ مِثْلِ هَذِهِ، حَتَّى إذا سوَّيتُك 175/أوَعَدَلْتُكَ وَمَشَيْتَ بَيْنَ بُرْدَيْنِ، وَلِلْأَرْضِ مِنْكَ وَئِيدٌ فَجَمَعْتَ وَمَنَعْتَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ
__________
(1) انظر: البحر المحيط: 8 / 335.
(2) زيادة من "أ".(8/225)
قُلْتَ أَتَصَدَّقُ وَأَنَّى أَوَانُ الصَّدَقَةِ" (1)
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ [مِنْ أَجْلِ مَا يَعْمَلُونَ وَهُوَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ وَالثَّوَابُ وَالْعِقَابُ.
وَقِيلَ: "مَا" بِمَعْنَى "مَنْ" مَجَازُهُ: إِنَّا] (2) خَلَقْنَاهُمْ مِمَّنْ يَعْلَمُونَ وَيَعْقِلُونَ لَا كَالْبَهَائِمِ.
__________
(1) عزاه السيوطي في الدر المنثور: 8 / 286 للبيهقي في الشعب عن بشير والصحيح بشر.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/226)
فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44) }
{فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} يَعْنِي مَشْرِقَ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ أَيْامِ السَّنَةِ وَمَغْرِبَهُ {إِنَّا لَقَادِرُونَ} {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} عَلَى أَنْ نَخْلُقَ أَمْثَلَ مِنْهُمْ وَأَطْوَعَ لِلَّهِ [وَرَسُولِهِ] (1) {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} فِي بَاطِلِهِمْ {وَيَلْعَبُوا} فِي دُنْيَاهُمْ {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ. {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} مِنَ الْقُبُورِ {سِرَاعًا} إِلَى إِجَابَةِ الدَّاعِي {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ} قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ [وَابْنُ عَبَّاسٍ] (2) وَحَفْصٌ: "نُصُبٍ" بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ يَعْنُونَ إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ، يُقَالُ: فَلَانٌ نَصْبَ عَيْنِي. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِلَى عَلَمٍ وَرَايَةٍ. وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ، قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكِسَائِيُّ: يَعْنِي إِلَى أَوْثَانِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ [كَقَوْلِهِ: "وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ" (الْمَائِدَةِ-3) (3) قَالَ الْحَسَنُ: يُسْرِعُونَ إِلَيْهَا أَيُّهُمْ يَسْتَلِمُهَا أَوَّلًا {يُوفِضُونَ} يُسْرِعُونَ. {خَاشِعَةً} ذَلِيلَةً خَاضِعَةً {أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} يَغْشَاهُمْ هَوَانٌ {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) زيادة من "أ".
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".(8/226)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6)
سُورَةُ نُوحٍ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) }
{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} أَيْ: بِأَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الْمَعْنَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاهُ لِيُنْذِرَهُمْ بِالْعَذَابِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا. {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أُنْذِرُكُمْ وَأُبَيِّنُ لَكُمْ [رِسَالَةَ اللَّهِ بِلُغَةٍ تَعْرِفُونَهَا] (2) . {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} "مِنْ" صِلَةٌ، أَيْ: يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ. وَقِيلَ: يَعْنِي مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ إِلَى وَقْتِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أَيْ: يُعَافِيكُمْ إِلَى مُنْتَهَى آجَالِكُمْ فَلَا يُعَاقِبْكُمْ {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} يَقُولُ: آمِنُوا قَبْلَ الْمَوْتِ تَسْلَمُوا [مِنَ الْعَذَابِ] (3) فَإِنَّ أَجْلَ الْمَوْتِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ وَلَا يُمْكِنُكُمُ الْإِيمَانُ. {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} نِفَارًا وَإِدْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ [وَالْحَقِّ] (4) .
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة نوح بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 288.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(4) زيادة من "ب".(8/227)
وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10)
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) }(8/230)
يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11)
{يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) }
{وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ {لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} لِئَلَّا يَسْمَعُوا دَعْوَتِي {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} غَطَّوْا بِهَا وُجُوهَهُمْ لِئَلَّا يَرَوْنِي {وَأَصَرُّوا} عَلَى كُفْرِهِمْ {وَاسْتَكْبَرُوا} عَنِ الْإِيمَانِ بِكَ {اسْتِكْبَارًا} {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} مُعْلِنًا بِالدُّعَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِأَعْلَى صَوْتِي. {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} كَرَّرْتُ الدُّعَاءَ مُعْلِنًا {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الرَّجُلَ بَعْدَ الرَّجُلِ أُكَلِّمُهُ سِرًا بَيْنِي وَبَيْنَهُ أَدْعُوهُ إِلَى عِبَادَتِكَ وَتَوْحِيدِكَ. {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} وَذَلِكَ أَنْ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوهُ زَمَانًا طَوِيلًا حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ وَأَعَقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَهَلَكَتْ أَمْوَالُهُمْ وَمَوَاشِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ: اسْتَغْفَرُوا رَبَّكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، أَيِ اسْتَدْعَوْا الْمَغْفِرَةَ بِالتَّوْحِيدِ، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا.
وَرَوَى مُطَرِّفٌ عَنِ الشَّعْبِيِّ أَنَّ عُمْرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ خَرَجَ يَسْتَسْقِي بِالنَّاسِ، فَلَمْ يَزِدْ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ حَتَّى رَجَعَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا سَمِعْنَاكَ اسْتَسْقَيْتَ؟ فَقَالَ. طَلَبْتُ الْغَيْثَ [بِمَجَادِيحِ] (1) السَّمَاءِ الَّتِي يُسْتَنْزَلُ بِهَا الْمَطَرُ، ثُمَّ قَرَأَ: "اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا" (2) .
__________
(1) واحدها مجدح، والياء زائدة للإشباع، والقياس أن يكون واحدها مجداح، فأما مجدح فجمعه مجادح. والمجدح: نجم من النجوم، قيل: هو الدبران. وقيل: هو ثلاثة كواكب كالأثافي، تشبيها بالمجدح الذي له ثلاث شعب، وهو عند العرب من الأنواء الدالة على المطر، فجعل الاستغفار مشبها بالأنواء، مخاطبة لهم بما يعرفونه لا قولا بالأنواء، وجاء بلفظ الجمع لأنه أراد الأنواء جميعها التي يزعمون أن من شأنها المطر. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير: 1 / 243.
(2) أخرجه الطبري: 29 / 93-94، وذكره ابن كثير في تفسيره: 4 / 426. قال الحافظ ابن حجر في الكافي الشاف ص: (177) "رجاله ثقات إلا أنه منقطع".(8/230)
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19)
{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) }
{وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} قَالَ عَطَاءٌ: يُكَثِّرْ أَمْوَالَكُمْ وَأَوْلَادَكُمْ {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لَا تَرَوْنَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَا لَكَمَ لَا تُعَظِّمُونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تَخَافُونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ.
وَ"الرَّجَاءُ" بِمَعْنَى الْخَوْفِ، وَ"الْوَقَارُ" الْعَظَمَةُ اسْمٌ مِنَ التَّوْقِيرِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ.
قَالَ الْحَسَنُ: لَا تَعْرِفُونَ لِلَّهِ حَقًا وَلَا تَشْكُرُونَ لَهُ نِعْمَةً.
قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَا لَكَمَ لَا تَرْجُونَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ أَنْ يُثِيبَكُمْ عَلَى تَوْقِيرِكُمْ إِيَّاهُ خَيْرًا. {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} تَارَاتٍ حَالًا بَعْدَ حَالٍ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً إِلَى تَمَامِ الْخَلْقِ. {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللهُ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا يُقَالُ: أَتَيْتُ بَنِي تَمِيمٍ، وَإِنَّمَا أَتَى بَعْضَهُمْ، وَفُلَانٌ مُتَوَارٍ فِي دُورِ بَنِي فُلَانٍ وَإِنَّمَا هُوَ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو: إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وُجُوهُهُمَا إِلَى السَّمَاوَاتِ، وَضَوْءُ الشَّمْسِ وَنُورُ الْقَمَرِ فِيهِنَّ وَأَقْفِيَتُهُمَا إِلَى الْأَرْضِ (1) . وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ (2) .
{وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} مِصْبَاحًا مُضِيئًا. {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} أَرَادَ مَبْدَأَ خَلْقِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنَ الْأَرْضِ وَالنَّاسُ وَلَدُهُ، وَقَوْلُهُ: "نَبَاتًا" اسْمٌ جُعِلَ فِي مَوْضِعِ الْمَصْدَرِ أَيْ إِنْبَاتًا قَالَ الْخَلِيلُ: مَجَازُهُ: أَنْبَتَكُمْ فَنَبَتُّمْ نَبَاتًا. {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} بَعْدَ الْمَوْتِ {وَيُخْرِجُكُمْ} مِنْهَا يَوْمَ الْبَعْثِ أَحْيَاءً {إِخْرَاجًا} {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} فَرَشَهَا وَبَسَطَهَا لَكُمْ.
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في التفسير 2 / 319.
(2) ذكره الحافظ في الكافي الشاف ص: (177) وقال: موقوف.(8/231)
لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23)
{لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20) قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) }
{لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} طُرُقًا وَاسِعَةً. {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} لَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتِي {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} يَعْنِي: اتَّبَعَ السَّفَلَةُ وَالْفُقَرَاءُ الْقَادَةَ وَالرُّؤَسَاءَ الَّذِينَ لَمْ يَزِدْهُمْ كَثْرَةُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ إِلَّا ضَلَالًا فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَةً فِي الْآخِرَةِ. {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} أَيْ كَبِيرًا عَظِيمًا يُقَالُ: كَبِيرٌ وَكِبَارٌ بِالتَّخْفِيفِ كُبَّارٌ بِالتَّشْدِيدِ، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ: أَمْرٌ عَجِيبٌ وَعُجَابٌ وَعُجَّابٌ بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ أَشَدُّ فِي الْمُبَالَغَةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى مَكْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالُوا قَوْلًا عَظِيمًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ وَقِيلَ: مَنَعَ الرُّؤَسَاءُ أَتْبَاعَهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ بِنُوحٍ [وَحَرَّضُوهُمْ] (1) عَلَى قَتْلِهِ. {وَقَالُوا} لَهُمْ {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} أَيْ لَا تَتْرُكُوا عِبَادَتَهَا {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا} قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِضَمِّ الْوَاوِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا {وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} هَذِهِ أَسْمَاءُ آلِهَتِهِمْ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ فَلَمَّا مَاتُوا كَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يَقْتَدُونَ بِهِمْ وَيَأْخُذُونَ بَعْدَهُمْ بِأَخْذِهِمْ فِي الْعِبَادَةِ فَجَاءَهُمْ إِبْلِيسُ وَقَالَ لَهُمْ: لَوْ صَوَّرْتُمْ صُوَرَهُمْ كَانَ أَنْشَطَ لَكُمْ وَأَشْوَقَ إِلَى الْعِبَادَةِ، فَفَعَلُوا ثُمَّ نَشَأَ قَوْمٌ بَعْدَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: إِنَّ الَّذِينَ مَنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ، فَابْتِدَاءُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَانَ مِنْ ذَلِكَ (2) .
وَسُمِّيَتْ تِلْكَ الصُّوَرُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّهُمْ صَوَّرُوهَا عَلَى صور أولئك 175/ب الْقَوْمِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى، حَدَّثَنَا هِشَامٌ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: صَارَتِ الْأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ تُعْبَدُ فِي قَوْمِ نُوحٍ [تُعْبَدُ] (3) فِي الْعَرَبِ [بَعْدَهُ] (4) أَمَّا وَدٌّ فَكَانَتْ
__________
(1) في "ب" وحرشوهم.
(2) عزاه صاحب الدر المنثور: 8 / 294 لعبد بن حميد.
(3) ساقط من "ب".
(4) زيادة من "ب".(8/232)
وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25)
لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الْجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ فَكَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ ثُمَّ لَبَنِي غَطِيفٍ بِالْجَرْفِ عِنْدَ سَبَإٍ وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرٍ لِآلِ ذِي الْكُلَاعِ (1) ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِهِ.
وَرَوَى سُفْيَانُ عَنْ مُوسَى عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسٍ قَوْلَهُ تَعَالَى: "وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا" قَالَ: كَانَتْ أَسْمَاءَ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ: أَنِ انْصِبُوا فَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ فِيهَا أَنْصَابًا وَسَمَّوْهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا فَلَمْ تُعْبَدْ حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَنُسِخَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ (2) .
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ تِلْكَ الْأَوْثَانَ دَفَنَهَا الطُّوفَانُ وَطَمَّهَا التُّرَابُ، فَلَمْ تَزَلْ مَدْفُونَةٌ حَتَّى أَخْرَجَهَا الشَّيْطَانُ لِمُشْرِكِي الْعَرَبِ، وَكَانَتْ لِلْعَرَبِ أَصْنَامٌ أُخَرُ فَاللَّاتُ كَانَتْ لِثَقِيفٍ، وَالْعُزَّى لِسُلَيْمٍ وَغَطَفَانَ وَجَشْمٍ وَمَنَاةُ لِقَدِيدٍ، وَإِسَافُ وَنَائِلَةُ وَهُبَلُ لِأَهْلِ مَكَّةَ.
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24) مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) }
{وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} أَيْ: ضَلَّ بِسَبَبِ الْأَصْنَامِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: "رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ" (إِبْرَاهِيمَ-36) وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَضَلَّ كُبَرَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} هَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بَعْدَمَا أَعْلَمَ اللَّهُ نُوحًا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: "أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ" (هُودٍ-36) . {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} أَيْ: مِنْ خَطِيئَاتِهِمْ وَ"مَا" صِلَةٌ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو: "خَطَايَاهُمْ" وَكِلَاهُمَا جَمْعُ خَطِيئَةٍ {أُغْرِقُوا} بِالطُّوفَانِ {فَأُدْخِلُوا نَارًا} قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الدُّنْيَا يُغْرَقُونَ مِنْ جَانِبٍ وَيَحْتَرِقُونَ مِنْ جَانِبٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَأُدْخِلُوا نَارًا فِي الْآخِرَةِ {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} لَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
__________
(1) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة نوح، باب (ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق) 8 / 667.
(2) أخرجه البخاري في التفسير - تفسير سورة نوح، باب (ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق) 8 / 667. قال الحافظ - ابن حجر -: 8 / 669: "ثم قال هذا الشارح (يعني الصدفي) والصواب وهي. قلت: ووقع في رواية محمد بن ثور بعد قوله "وأما نسر فكانت لآل ذي الكلاع، قال: "ويقال هذه أسماء قوم صالحين" وهذا أوجه الكلام وصوابه، وقال بعض الشراح: محصل ما قيل في هذه الأصنام قولان: أحدهما أنها كانت في قوم نوح، والثاني أنها كانت أسماء رجال صالحين إلى آخر القصة. قلت: بل مرجع ذلك إلى قول واحد، وقصة الصالحين كانت مبتدأ عبادة قوم نوح هذه الأصنام ثم تبعهم من بعدهم على ذلك".(8/233)
وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28) }
{وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} أَحَدًا يَدُورُ فِي الْأَرْضِ فَيَذْهَبُ وَيَجِيءُ أَصْلُهُ مِنَ الدَّوَرَانِ وَقَالَ [ابْنُ قُتَيْبَةَ] (1) إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الدَّارِ، أَيْ: نَازِلُ دَارٍ (2) . {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ بِابْنِهِ إِلَى نُوحٍ فَيَقُولُ: احْذَرْ هَذَا فَإِنَّهُ كَذَّابٌ، وَإِنَّ أَبِي حَذَّرَنِيهِ فَيَمُوتُ الْكَبِيرُ وَيَنْشَأُ الصَّغِيرُ عَلَيْهِ {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ، وَمُقَاتِلٌ، وَالرَّبِيعُ، وَغَيْرُهُمْ: إِنَّمَا قَالَ نُوحٌ هَذَا حِينَ أَخْرَجَ اللَّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَصْلَابِهِمْ وَأَرْحَامِ نِسَائِهِمْ وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ وَأَيْبَسَ أَصْلَابَ رِجَالِهِمْ قَبْلَ الْعَذَابِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً. [وَقِيلَ سَبْعِينَ سَنَةً] (3) وَأَخْبَرَ اللَّهُ نُوحًا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَلِدُونَ مُؤْمِنًا فَحِينَئِذٍ دَعَا عَلَيْهِمْ نُوحٌ فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَأَهْلَكَهُمْ كُلَّهُمْ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ صَبِيٌّ وَقْتَ الْعَذَابِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: "وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ" (الْفُرْقَانِ-37) وَلَمْ يُوجَدِ التَّكْذِيبُ مِنَ الْأَطْفَالِ (4) . {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} وَاسْمُ أَبِيهِ: لَمْكُ بْنُ مَتُّوشَلَخَ، وَاسْمُ أُمِّهِ: سَمْحَاءُ بِنْتُ أَنُوشَ، وَكَانَا مُؤْمِنَيْنِ [وَقِيلَ اسْمُهَا هَيْجَلُ بِنْتُ لَامُوشَ بْنِ مَتُّوشَلَخَ فَكَانَتْ بِنْتَ عَمِّهِ] (5) {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ} دَارِيَ {مُؤْمِنًا} وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: مَسْجِدِي. وَقِيلَ: سَفِينَتِي {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَصَدَّقَ الرُّسُلَ {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} هَلَاكًا وَدَمَارًا فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فَأَهْلَكَهُمْ.
__________
(1) في "ب" القتيبي.
(2) انظر: القرطين: 2 / 182.
(3) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(4) ذكره صاحب البحر المحيط: 8 / 343 ثم قال: "وهذا لا يظهر لأنه قال: "إنك إن تذرهم يضلوا عبادك" الآية، فقوله: "ولا يلدوا إلا فاجرا وكفارا" يدل على أنه لم يعقم أرحام نسائهم، وقاله محمد بن كعب والربيع بن زيد ولا يظهر كما قلنا".
(5) ما بين القوسين ساقط من "ب".(8/234)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3)
سُورَةُ الْجِنِّ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) }
{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} وَكَانُوا تِسْعَةً مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ. وَقِيلَ سَبْعَةٌ اسْتَمَعُوا قِرَاءَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَكَرْنَا خَبَرَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ {فَقَالُوا} لَمَّا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلِيغًا أَيْ: قُرْآنًا ذَا عَجَبٍ يُعْجَبُ مِنْهُ لِبَلَاغَتِهِ. {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} يَدْعُو إِلَى الصَّوَابِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} قَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ وَالْكُوفَةِ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: "وَأَنَّهُ تَعَالَى" بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَذَلِكَ مَا بَعْدَهُ إِلَى قَوْلِهِ {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهِنَّ، وَفَتَحَ أَبُو جَعْفَرٍ مِنْهَا "وَأَنَّهُ" وَهُوَ مَا كَانَ مَرْدُودًا [إِلَى] (2) الْوَحْيِ وَكَسْرِ مَا كَانَ حِكَايَةً عَنِ الْجِنِّ.
وَالِاخْتِيَارُ كَسْرُ الْكُلِّ لِأَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ لِقَوْمِهِمْ فَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: "فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا" وَقَالُوا: "وَأَنَّهُ تَعَالَى".
وَمَنْ فَتَحَ رَدَّهُ عَلَى قَوْلِهِ: "فَآمَنَّا بِهِ" وَآمَنَّا بِكُلِّ ذَلِكَ؛ فَفَتَحَ "أَنَّ" لِوُقُوعِ الْإِيمَانِ عَلَيْهِ.
__________
(1) أخرج ابن الضريس والنحاس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت سورة الجن بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 296.
(2) في "ب" على.(8/235)
وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6)
{جَدُّ رَبِّنَا} [جَلَالُ] (1) رَبِّنَا وَعَظَمَتِهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ. يُقَالُ: جَدَّ الرَّجُلُ أَيْ: عَظُمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَنَسٍ: كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِينَا أَيْ: عَظُمَ قَدْرُهُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: "جَدُّ رَبِّنَا" أَيْ أَمْرُ رَبِّنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: غِنَى رَبِّنَا. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْجَدِّ: حَظٌّ وَرَجُلٌ مَجْدُودٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُدْرَةُ رَبِّنَا. قَالَ الضَّحَّاكُ: فِعْلُهُ.
وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: آلَاؤُهُ وَنَعْمَاؤُهُ عَلَى خَلْقِهِ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: عَلَا مُلْكُ رَبِّنَا {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} قِيلَ: تَعَالَى جَلَّ جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ صَاحِبَةً [أَوْ وَلَدًا] (2) .
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) }
{وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} جَاهِلُنَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ إِبْلِيسُ {عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} كَذِبًا وَعُدْوَانًا وَهُوَ وَصْفُهُ بِالشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ. {وَأَنَّا ظَنَنَّا} حَسَبْنَا {أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} قَرَأَ يَعْقُوبُ "تَقَوَّلَ" بِفَتْحِ الْوَاوِ وَتَشْدِيدِهَا {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أَيْ: كُنَّا نَظُنُّهُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ إِنَّ لِلَّهِ صَاحِبَةً وَوَلَدًا حَتَّى سَمِعْنَا الْقُرْآنَ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا سَافَرَ فَأَمْسَى فِي أَرْضٍ قَفْرٍ، قَالَ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِي مِنْ شَرِّ سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، فَيَبِيتُ فِي أَمْنٍ وَجِوَارٍ مِنْهُمْ حَتَّى يُصْبِحَ.
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الشُّرَيْحِيُّ أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الثَّعْلَبِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ فَنْجَوَيْهِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَالِكٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْقَاسِمِ [عَبْدُ الرَّحْمَنِ] (3) بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ
__________
(1) في "أ" جد.
(2) في "ب" ولا ولدا.
(3) في "ب" عبد الله والصحيح ما أثبت.(8/238)
وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9)
حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ النُّعْمَانِ بِطَرْسُوسَ، حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بن أبي 76/أالْمِغْرَاءِ الْكِنْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْقَاسِمُ بْنُ مَالِكٍ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ كَرَدْمِ بْنِ أَبِي سَائِبٍ الْأَنْصَارِيِّ قَالَ: خَرَجْتُ مَعَ أَبِي إِلَى الْمَدِينَةِ فِي حَاجَةٍ وَذَلِكَ أَوَّلَ مَا ذُكِرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَآوَانَا الْمَبِيتُ إِلَى رَاعِي غَنَمٍ، فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ جَاءَ ذِئْبٌ فَأَخَذَ حَمَلًا مِنَ الْغَنَمِ، فَوَثَبَ الرَّاعِي [فَقَالَ] (1) يَا عَامِرَ الْوَادِي جَارَكَ فَنَادَى مُنَادٍ لَا نَرَاهُ، يَقُولُ: يَا سِرْحَانُ أَرْسِلْهُ، فَأَتَى الْحَمَلُ يَشْتَدُّ حَتَّى دَخَلَ الْغَنَمَ وَلَمْ تُصِبْهُ كَدْمَةٌ (2) فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} يَعْنِي زَادَ الْإِنْسُ الْجِنَّ بِاسْتِعَاذَتِهِمْ بِقَادَتِهِمْ رَهَقًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِثْمًا. قَالَ مُجَاهِدٌ: طُغْيَانًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: غَيًّا. قَالَ الْحَسَنُ: شَرًّا قَالَ إِبْرَاهِيمُ: عَظَمَةً وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَزْدَادُونَ بِهَذَا التَّعَوُّذِ طُغْيَانًا يَقُولُونَ: سُدْنَا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَ"الرَّهَقُ" فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْإِثْمُ وَغِشْيَانُ الْمَحَارِمِ.
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) }
{وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنَّ الْجِنَّ ظَنُّوا {كَمَا ظَنَنْتُمْ} يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ مِنَ الْإِنْسِ {أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} بَعْدَ مَوْتِهِ. {وَأَنَّا} تَقُولُ الْجِنُّ {لَمَسْنَا السَّمَاءَ} قَالَ الْكَلْبِيُّ: السَّمَاءُ الدُّنْيَا {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا} مِنَ الْمَلَائِكَةِ {وَشُهُبًا} مِنَ النُّجُومِ. {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} مِنَ السَّمَاءِ {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} أَيْ: كُنَّا نَسْتَمِعُ {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} أُرْصِدَ لَهُ لِيُرْمَى بِهِ.
قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّ الرَّجْمَ كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ مَا كَانَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ
__________
(1) في "ب" فنادى.
(2) ذكره ابن كثير في تفسيره: 4 / 430 ثم قال معقبا: "وقد يكون هذا الذئب الذي أخذ الحمل وهو ولد الشاة كان جنيا حتى يرهب الإنسي ويخاف منه ثم رده عليه لما استجار به ليضله ويهينه ويخرجه عن دينه والله أعلم". وعزاه في الدر المنثور: 8 / 298-299 لابن المنذر وابن أبي حاتم والعقيلي في الضعفاء والطبراني وأبي الشيخ في العظمة وابن عساكر. قال الهيثمي في المجمع: 7 / 129: "رواه الطبراني وفيه عبد الرحمن بن إسحاق الكوفي، وهو ضعيف".(8/239)
وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13)
فِي شِدَّةِ الْحِرَاسَةِ، وَكَانُوا يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا بُعِثَ [النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (1) مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا (2) ثُمَّ قَالُوا:
{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) }
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: القرطين: 2 / 184.(8/240)
وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14)
{وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) }
{وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} بِرَمْيِ الشُّهُبِ {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} دُونَ الصَّالِحِينَ {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} أَيْ: جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقِينَ وَأَصْنَافًا مُخْتَلِفَةً، وَالْقِدَّةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: صَارَ الْقَوْمُ قِدَدًا إِذَا اخْتَلَفَتْ حَالَاتُهُمْ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْقَدِّ وَهُوَ الْقَطْعُ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنُونَ: مُسْلِمِينَ وَكَافِرِينَ.
وَقِيلَ: [ذَوُو] (1) أَهْوَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: الْجِنُّ أَمْثَالُكُمْ فَمِنْهُمْ قَدَرِيَّةٌ وَمُرْجِئَةٌ وَرَافِضَةٌ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: شِيَعًا وَفِرَقًا لِكُلِّ فِرْقَةٍ هَوًى كَأَهْوَاءِ النَّاسِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَلْوَانًا شَتَّى، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْنَافًا. {وَأَنَّا ظَنَنَّا} عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا {أَنْ لَنْ نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} أَيْ: لَنْ نَفُوتَهُ إِنْ أَرَادَ بِنَا أَمْرًا {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} إِنْ طَلَبَنَا. {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} [الْقُرْآنَ وَمَا أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ] (2) {آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا} نُقْصَانًا مِنْ عَمَلِهِ وَثَوَابِهِ {وَلَا رَهَقًا} ظُلْمًا. وَقِيلَ: مَكْرُوهًا يَغْشَاهُ. {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} وَهْمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} الْجَائِرُونَ الْعَادِلُونَ
__________
(1) ساقط من "ب".
(2) ما بين القوسين زيادة من "ب".(8/240)
وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
عَنِ الْحَقِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا، يُقَالُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عدل فهو مسقط، وَقِسْطٌ إِذَا جَارَ فَهُوَ قَاسِطٌ {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} أَيْ: قَصَدُوا طَرِيقَ الْحَقِّ وَتَوَخَّوْهُ.
{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17) }
{وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} الَّذِينَ كَفَرُوا {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} كَانُوا وَقُودَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. ثُمَّ رَجَعَ إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ فَقَالَ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ وَالْهُدَى فَكَانُوا مُؤْمِنِينَ مُطِيعِينَ {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} كَثِيرًا قَالَ مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ بَعْدَمَا رَفَعَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ سَبْعَ سِنِينَ. وَقَالُوا مَعْنَاهُ لَوْ آمَنُوا لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَعْطَيْنَاهُمْ مَالًا كَثِيرًا وَعَيْشًا رَغَدًا وَضَرْبُ الْمَاءِ الْغَدَقِ مَثَلًا لِأَنَّ الْخَيْرَ وَالرِّزْقَ كُلَّهُ فِي الْمَطَرِ، كَمَا قَالَ: "وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ" الْآيَةَ (الْمَائِدَةِ-66) وَقَالَ: "وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ" الْآيَةَ (الْأَعْرَافِ-96) . وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} أَيْ: لِنَخْتَبِرَهُمْ كَيْفَ شُكْرُهُمْ فِيمَا خُوِّلُوا. وَهَذَا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ وَالضَّحَّاكِ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ وَالْحَسَنِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهَا وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ لَأَعْطَيْنَاهُمْ مَالًا كَثِيرًا وَلَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، عُقُوبَةً لَهُمْ وَاسْتِدْرَاجًا حَتَّى يَفْتَتِنُوا بِهَا فَنُعَذِّبَهُمْ، وَهَذَا قَوْلُ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ وَالْكَلْبِيِّ وَابْنِ كَيْسَانَ، كَمَا قَالَ اللَّهُ: "فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ" الْآيَةَ (الْأَنْعَامِ-44) .
{وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ} قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَيَعْقُوبُ: "يَسْلُكْهُ" بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ، أَيْ: نُدْخِلْهُ {عَذَابًا صَعَدًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَاقًّا وَالْمَعْنَى ذَا صَعَدٍ أَيْ: ذَا مَشَقَّةٍ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا رَاحَةَ فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا فَرَحَ فِيهِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَزْدَادُ إِلَّا شِدَّةً. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصُّعُودَ يَشُقُّ عَلَى [النَّاسُ] (1) .
__________
(1) في "ب" الإنسان.(8/241)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) }
{وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} يَعْنِي الْمَوَاضِعَ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللَّهِ {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} قَالَ قَتَادَةُ: كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا دَخَلُوا كَنَائِسَهُمْ وَبِيَعَهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُخْلِصُوا لِلَّهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دَخَلُوا الْمَسَاجِدَ وَأَرَادَ بِهَا الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ بِهَا الْبِقَاعَ كُلَّهَا لِأَنَّ الْأَرْضَ جُعِلَتْ كُلُّهَا مَسْجِدًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَالَتِ الْجِنُّ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَيْفَ لَنَا أَنْ [نَأْتِيَ الْمَسْجِدَ وَأَنْ] (2) نَشْهَدَ مَعَكَ الصَّلَاةَ وَنَحْنُ نَاءُونَ؟ فَنَزَلَتْ: "وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ" (3) .
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسَاجِدِ الْأَعْضَاءُ الَّتِي يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ وَهِيَ سَبْعَةٌ: الْجَبْهَةُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ؟ يَقُولُ: هَذِهِ الْأَعْضَاءُ الَّتِي يَقَعُ عَلَيْهَا السُّجُودُ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ فَلَا تَسْجُدُوا عَلَيْهَا لِغَيْرِهِ (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو سَعِيدٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْعَبَّاسِ الْحُمَيْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْهِلَالِيُّ وَالسَّرِيُّ بْنُ خُزَيْمَةَ قَالَا حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا وُهَيْبٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاوُوسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "أُمِرْتُ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءَ: الْجَبْهَةُ -وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَيْهَا -وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَأَطْرَافِ الْقَدَمَيْنِ وَلَا أَكُفَّ الثَّوْبَ وَلَا الشَّعْرَ" (5) .
فَإِنْ جَعَلْتَ الْمَسَاجِدَ مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ فَوَاحِدُهَا مَسْجِدٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَإِنْ جَعَلْتَهَا الْأَعْضَاءَ فَوَاحِدُهَا مَسْجَدٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ. {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} قَرَأَ نَافِعٌ وَأَبُو بَكْرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، وَقَرَأَ الباقون بفتحها 1/ب "لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ"
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق في التفسير: 2 / 323.
(2) ما بين القوسين ساقط من "ب".
(3) أخرجه الطبري: 29 / 117، وابن كثير: 4 / 432. وانظر: الدر المنثور: 8 / 306.
(4) ذكره ابن كثير في تفسيره: 4 / 432-433.
(5) أخرجه البخاري في الأذان، باب السجود على الأنف: 2 / 297، ومسلم في الصلاة، باب أعضاء السجود والنهي عن كف الشعر والثوب وعقص الرأس في الصلاة برقم: (230) : 1 / 354، والمصنف في شرح السنة: 3 / 136.(8/242)
قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23)
يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {يَدْعُوهُ} يَعْنِي يَعْبُدُهُ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، ذَلِكَ حِينَ كَانَ يُصَلِّي بِبَطْنِ نَخْلَةَ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ {كَادُوا} يَعْنِي الْجِنَّ {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} أَيْ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَزْدَحِمُونَ حِرْصًا عَلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ. هَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَرِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْهُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ النَّفَرِ الَّذِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْجِنِّ أَخْبَرُوهُمْ بِمَا رَأَوْا مِنْ طَاعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي الصَّلَاةِ (1) .
وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ يَعْنِي لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بِالدَّعْوَةِ تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِ لِيُبْطِلُوا الْحَقَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ، وَيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، وَيُتِمَّ هَذَا الْأَمْرَ، وَيَنْصُرَهُ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُ (2) .
وَقَرَأَ هُشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ: "لُبَدًا" بِضَمِّ اللَّامِ، وَأَصْلُ "اللُّبَدِ" الْجَمَاعَاتُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ اللِّبَدُ الَّذِي يُفْرَشُ لِتَرَاكُمِهِ، وَتَلَبَّدَ الشَّعْرُ: إِذَا تَرَاكَمَ.
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) }
{قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ: "قُلْ" عَلَى الْأَمْرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: "قَالَ" يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي" قَالَ مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ جِئْتَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ فَارْجِعْ عَنْهُ فَنَحْنُ نُجِيرُكَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي {وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا} لَا أَقْدِرُ أَنْ أَدْفَعَ عَنْكُمْ ضَرًا {وَلَا رَشَدًا} أَيْ لَا أَسُوقُ إِلَيْكُمْ رَشَدًا أَيْ: خَيْرًا يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ يَمْلِكُهُ. {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} لَنْ يَمْنَعَنِي مِنْ أَحَدٍ إِنْ عَصَيْتُهُ {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} مَلْجَأً أَمِيلُ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى "الْمُلْتَحَدِ" أَيِ: الْمَائِلِ. قَالَ السُّدِّيُّ: حِرْزًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُدْخَلًا فِي الْأَرْضِ مِثْلَ السِّرْبِ. {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} فَفِيهِ الْجِوَارُ وَالْأَمْنُ وَالنَّجَاةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: ذَلِكَ الَّذِي يُجِيرُنِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، يَعْنِي التَّبْلِيغَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ فَذَلِكَ الَّذِي أَمْلِكُهُ بِعَوْنِ
__________
(1) ذكره الطبري: 29 / 118. زيادة من "ب".
(2) أخرجه الطبري: 29 / 118 انظر: القرطين: 2 / 184.(8/243)
حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ. وَقِيلَ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًا وَلَا رَشَدًا لَكِنْ أُبَلِّغُ بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ فَإِنَّمَا أَنَا مُرْسَلٌ بِهِ لَا أَمْلِكُ إِلَّا مَا مُلِّكْتُ {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وَلَمْ يُؤْمِنْ {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا}
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28) }
{حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} يَعْنِي الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ {فَسَيَعْلَمُونَ} عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} أَهُمْ أَمِ الْمُؤْمِنُونَ. {قُلْ إِنْ أَدْرِي} [أَيْ مَا أَدْرِي] (1) {أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} يَعْنِي الْعَذَابَ وَقِيلَ الْقِيَامَةُ {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} أَجَلًا وَغَايَةً تَطُولُ مُدَّتُهَا يَعْنِي: أَنَّ عِلْمَ وَقْتِ الْعَذَابِ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. {عَالِمُ الْغَيْبِ} رُفِعَ عَلَى نَعْتِ قَوْلِهِ "رَبِّي" وَقِيلَ: هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ {فَلَا يُظْهِرُ} لَا يُطْلِعُ {عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} إِلَّا مَنْ يَصْطَفِيهِ لِرِسَالَتِهِ فَيُظْهِرَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْغَيْبِ لِأَنَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِالْآيَةِ الْمُعْجِزَةِ بِأَنْ يُخْبِرَ عَنِ الْغَيْبِ {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} ذِكْرُ بَعْضِ الْجِهَاتِ دَلَالَةً عَلَى جَمِيعِهَا رَصدًا أَيْ: يَجْعَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَخَلْفَهُ حَفَظَةً مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يَسْتَرِقُوا السَّمْعَ، وَمِنَ الْجِنِّ أَنْ يَسْتَمِعُوا الْوَحْيَ فَيُلْقُوا إِلَى الْكَهَنَةِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: كَانَ اللَّهُ إِذَا بَعَثَ رَسُولًا أَتَاهُ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ مَلَكٍ يُخْبِرُهُ فَيَبْعَثُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ رَصَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْرُسُونَهُ وَيَطْرُدُونَ الشَّيَاطِينَ، فَإِذَا جَاءَهُ شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ مَلَكٍ أَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُ شَيْطَانٌ، فَاحْذَرْهُ وَإِذَا جَاءَهُ مَلَكٌ قَالُوا لَهُ: هَذَا رَسُولُ رَبِّكَ (2) .
__________
(1) زيادة من "ب".
(2) انظر: الطبري: 29 / 122.(8/244)
{لِيَعْلَمَ} قَرَأَ يَعْقُوبُ: "لِيُعْلَمَ" بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ لِيَعْلَمَ النَّاسُ {أَنَّ} الرُّسُلَ {قَدْ أَبْلَغُوا} وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ: "لَيَعْلَمَ" الرَّسُولُ، أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ أَبْلَغُوا {رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} أَيْ: عَلِمَ اللَّهُ مَا عِنْدَ الرُّسُلِ فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحْصَى مَا خَلَقَ وَعَرَفَ عَدَدَ مَا خَلَقَ فَلَمْ يَفُتْهُ عِلْمُ شَيْءٍ حَتَّى مَثَاقِيلِ الذَّرِّ وَالْخَرْدَلِ. وَنُصِبَ "عَدَدًا" عَلَى الْحَالِ، وَإِنْ شِئْتَ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ عَدَّ [عَدَّا] (1) .
__________
(1) في "ب" عددا.(8/245)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4)
سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ مَكِّيَّةٌ (1) بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) }
{يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} أَيِ الْمُلْتَفِفُ بِثَوْبِهِ. وَأَصْلُهُ: الْمُتَزَمِّلُ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ وَمِثْلُهُ الْمُدَّثِّرُ، أَيِ: الْمُتَدَثِّرُ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ، يُقَالُ: تَزَمَّلَ وَتَدَثَّرَ بِثَوْبِهِ إِذَا تَغَطَّى بِهِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَرَادَ يَا أَيُّهَا النَّائِمُ قُمْ فَصَلِّ.
قَالَ [الْعُلَمَاءُ] (2) كَانَ هَذَا الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَوَّلِ الْوَحْيِ قَبْلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، ثُمَّ خُوطِبَ بَعْدُ بِالنَّبِيِّ وَالرَّسُولِ. {قُمِ اللَّيْلَ} أَيْ لِلصَّلَاةِ {إِلَّا قَلِيلًا} وَكَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً فِي الِابْتِدَاءِ وَبَيَّنَ قَدْرَهُ فَقَالَ: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} إِلَى الثُّلُثِ. {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} عَلَى النِّصْفِ إِلَى الثُّلُثَيْنِ، خَيَّرَهُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَنَازِلِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَقُومُونَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَادِيرِ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي مَتَى ثُلْثُ اللَّيْلِ وَمَتَى نِصْفُ اللَّيْلِ وَمَتَى الثُّلْثَانِ، فَكَانَ [الرَّجُلُ] (3) يَقُومُ حَتَّى يُصْبِحَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَحْفَظَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَخَفَّفَ عَنْهُمْ وَنَسَخَهَا بِقَوْلِهِ: "فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن علم الله أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى" الْآيَةَ. فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ السُّورَةِ وَآخِرِهَا سَنَةٌ (4) .
__________
(1) أخرج ابن الضريس وابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس قال: نزلت (يا أيها المزمل) بمكة. انظر: الدر المنثور: 8 / 311.
(2) في "أ" الحكماء.
(3) ساقط من "ب".
(4) ورد معنى هذا القول في عدد من الأحاديث ذكرها الطبري: 29 / 126، وصاحب الدر المنثور: 8 / 312.(8/246)
أَخْبَرَنَا الْإِمَامُ أَبُو عَلِيٍّ الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْقَاضِي، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ الْحَسَنِ الْإِسْفِرَايِينِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوَانَةَ يَعْقُوبُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَافِظُ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ عَفَّانَ، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بَشِيرٍ، حَدَّثَنَا سَعِيدٌ -يَعْنِي ابْنَ أَبِي عَرُوبَةَ -حَدَّثَنَا قَتَادَةُ عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى عَنْ سَعِيدِ بْنِ هِشَامٍ قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْبِئِينِي عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: [أَلَسْتَ] (1) تَقْرَأُ الْقُرْآنَ؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ خُلُقَ نَبِيِّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْقُرْآنُ، قُلْتُ: فَقِيَامُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ؟ قَالَتْ: أَلَسْتَ تَقْرَأُ: "يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ" قُلْتُ: بَلَى، قَالَتْ: فَإِنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ الْقِيَامَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ حَوْلًا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ وَأَمْسَكَ اللَّهُ خَاتِمَتَهَا اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا فِي السَّمَاءِ، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ التَّخْفِيفَ فِي آخِرِ هَذِهِ السُّورَةِ، فَصَارَ قِيَامُ اللَّيْلِ تَطَوُّعًا بَعْدَ الْفَرِيضَةِ (2) .
قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ كَيْسَانَ: كَانَ هَذَا بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
{وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلا} قال 177/أابْنُ عَبَّاسٍ: بَيِّنْهُ بَيَانًا. وَقَالَ الْحَسَنُ: اقْرَأْهُ قِرَاءَةً بَيِّنَةً. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَرَسَّلْ فِيهِ تُرْسُّلًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَثَبَّتْ فِيهِ تَثَبُّتًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: اقْرَأْهُ عَلَى هَيْنَتِكَ ثَلَاثَ آيَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا أَوْ خَمْسًا.
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا هُمَامٌ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: سُئِلَ أَنَسٌ كَيْفَ كَانَتْ قِرَاءَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: كَانَتْ مَدًّا مَدًّا، ثُمَّ قَرَأَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، يَمُدُّ بِسْمِ اللَّهِ وَيَمُدُّ الرَّحْمَنَ وَيَمُدُّ الرَّحِيمَ (3)
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَاحِدِ الْمَلِيحِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ النَّعِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا وَائِلٍ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: قَرَأَتُ الْمُفَصَّلَ اللَّيْلَةَ فِي رَكْعَةٍ، فَقَالَ: هَذًّا كَهَذِّ الشِّعْرِ؟ لَقَدْ عَرَفْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرِنُ بَيْنَهُنَّ، فَذَكَرَ عِشْرِينَ سُورَةً مِنَ الْمُفَصَّلِ سُورَتَيْنِ [مَنْ آلِ حَامِيمَ]
__________
(1) في "أ" أتقرأ.
(2) أخرج مسلم في باب جامع صلاة الليل من كتاب صلاة المسافرين وقصرها مطولا برقم: (746) 1 / 513 عن حكيم ابن أفلح قال لعائشة - رضي الله عنها: "يا أم المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالت: ألست تقرأ القرآن؟ قلت: بلى. قالت: فإن خلق نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان القرآن". وباللفظ الذي ساقه المصنف أخرجه: أحمد: 6 / 91، والبيهقي: 2 / 499، والطبري: 29 / 13.
(3) أخرجه البخاري في فضائل القرآن، باب مد القراءة: 9 / 91، والمصنف في شرح السنة: 4 / 481.(8/250)
فِي [كُلِّ] رَكْعَةٍ (1) .
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ مَثْوَيْهِ، أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِيِّ الْحَرَّانَيُّ فِيمَا كَتَبَهُ إِلَيَّ [أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْآجُرِيُّ] (2) أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ حُمَيْدٍ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا زَيْدُ بْنُ أَخْزَمَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَبِي حَمْزَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ عَلْقَمَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ -يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ -قَالَ: لَا تَنْثُرُوهُ نَثْرَ الدَّقْلِ وَلَا تَهْذُّوهُ هَذَّ الشِّعْرِ، قِفُوا عِنْدَ عَجَائِبِهِ وَحَرِّكُوا بِهِ الْقُلُوبَ، وَلَا يَكُنْ هَمُّ أَحَدِكُمْ آخِرَ السُّورَةِ (3) .
أَخْبَرَنَا أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ مَثْوَيْهِ، أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ الْحَرَّانَيُّ فِيمَا كَتَبَ إِلَيَّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْآجُرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْحَسَنِ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ الْمُبَارَكِ، ح، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي تَوْبَةَ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَارِثِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْكِسَائِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْخَلَّالُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُبَيْدَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدَةَ وَهُوَ أَخُوهُ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ قَالَ: بَيْنَا نَحْنُ نَقْرَأُ إِذْ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: "الْحَمْدُ لِلَّهِ كِتَابُ اللَّهِ وَاحِدٌ وَفِيكُمُ الْأَخْيَارُ وَفِيكُمُ الْأَحْمَرُ وَالْأَسْوَدُ اقْرَءُوا [الْقُرْآنَ] (4) قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَ أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَهُ، يُقِيمُونَ حُرُوفَهُ كَمَا يُقَامُ السَّهْمُ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَتَعَجَّلُونَ أَخِرَهُ وَلَا يَتَأَجَّلُونَهُ" (5) .
أَخْبَرَنَا أَبُو عُثْمَانَ الضَّبِّيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَرَّاحِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ الْمَحْبُوبِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ نَافِعٍ الْبَصْرِيُّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَبْدِ الْوَارِثِ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ الْعَبْدِيِّ، عَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ النَّاجِي، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ لَيْلَةً (6) .
__________
(1) أخرجه البخاري في الأذان، باب الجمع بين السورتين في الركعة: 2 / 255، ومسلم في صلاة المسافرين، باب ترتيل القراءة برقم: (722) 1 / 565، والمصنف في شرح السنة: 4 / 23.
(2) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(3) أخرجه محمد بن نصر المروزي في "قيام الليل" ص: (116) مختصر المقريزي. وأخرجه أيضا العسكري في "المواعظ" موقوفا عن علي رضي الله عنه. انظر: الدر المنثور: 8 / 314. وذكره ابن كثير عن البغوي.
(4) ساقط من "ب".
(5) أخرجه أبو داود في الصلاة، باب ما تجزئ الأمي والأعجمي من القراءة: 1 / 395، والإمام أحمد: 5 / 338.
(6) أخرجه الترمذي في الصلاة، باب ما جاء في القراءة بالليل: 2 / 529 قال أبو عيسى: "هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، والمصنف في شرح السنة: 4 / 25 قال الأرناؤوط: "إسناده صحيح ويشهد له الحديث الثاني: (عن أبي ذر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ردد هذه الآية حتى أصبح: "إن تعذبهم فإنهم عبادك وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم" يعني في الصلاة) .(8/251)
إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5)
وَرَوَاهُ أَبُو ذَرٍّ، قَالَ: قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ بِآيَةٍ [مِنَ الْقُرْآنِ] (1) وَالْآيَةُ: "إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ" (الْمَائِدَةِ-118) (2) .
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) }
{إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: شَدِيدًا. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَهُذُّ السُّورَةَ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بِهَا ثَقِيلٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ثَقِيلٌ وَاللَّهِ فَرَائِضُهُ وَحُدُودُهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ثَقِيلٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحُدُودِ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: ثَقِيلٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ثَقِيلٌ عَلَى الْمُنَافِقِينَ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: قَوْلًا خَفِيفًا عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلًا فِي الْمِيزَانِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: ثَقِيلٌ لَيْسَ بِخَفِيفٍ السَّفْسَافُ لِأَنَّهُ كَلَامُ رَبِّنَا (3) .
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ وَاللَّهِ ثَقِيلٌ مُبَارَكٌ، كَمَا ثَقُلَ فِي الدُّنْيَا ثَقُلَ فِي الْمَوَازِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ (4) .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ السَّرْخَسِيُّ، أَخْبَرَنَا زَاهِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَاشِمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُصْعَبٍ، عَنْ مَالِكٍ، عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ [أَبِيهِ] (5) عَنْ عَائِشَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ] (6) فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَحْيَانًا يَأْتِينِي [فِي] (7) مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ، وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ فَيَفْصِمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ مَا قَالَ وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِيَ الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ". قَالَتْ عَائِشَةُ: وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ
__________
(1) زيادة من "أ".
(2) أخرجه النسائي في سننه: 2 / 177، وابن ماجه في إقامة الصلاة، باب ما جاء في القراءة في صلاة الليل برقم: (1350) 1 / 429، وصححه الحاكم: 1 / 241 ووافقه الذهبي، والمصنف في شرح السنة: 4 / 26.
(3) معاني القرآن: 3 / 197.
(4) ذكر أكثر هذه الأقوال الطبري: 29 / 127-128 ثم قال: "وأولى الأقوال بالصواب في ذلك أن يقال: إن الله وصفه بأنه قول ثقيل، فهو كما وصفه به ثقيل محمله، ثقيل العمل بحدوده وفرائضه".
(5) ساقط من "ب".
(6) ما بين القوسين ساقط من "أ".
(7) زيادة من "أ".(8/252)