[14] فذلك قوله تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ} [يس: 14] قَالَ وَهْبٌ: اسْمُهُمَا يُوحَنَّا وَبُولِسُ، {فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا} [يس: 14] يعني فقوينا {بِثَالِثٍ} [يس: 14] بِرَسُولٍ ثَالِثٍ وَهُوَ شَمْعُونُ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (فَعَزَزْنَا) بِالتَّخْفِيفِ وَهُوَ بِمَعْنَى الْأَوَّلِ كَقَوْلِكَ: شددنا وشددنا، بالتخفيف بالتثقيل، وَقِيلَ: أَيْ فَغَلَبْنَا مِنْ قَوْلِهِمْ: مَنْ عَزَّ بَزَّ. وَقَالَ كَعْبٌ: الرَّسُولَانِ صَادِقٌ وَصَدُوقٌ، وَالثَّالِثُ شَلُومُ، وَإِنَّمَا أَضَافَ اللَّهُ الْإِرْسَالَ إِلَيْهِ لأن عيسى إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بِأَمْرِهِ تَعَالَى، {فَقَالُوا} [يس: 14] جَمِيعًا لِأَهْلِ أَنْطَاكِيَةَ، {إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} [يس: 14]
[15] {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} [يس: 15] مَا أَنْتُمْ إِلَّا كَاذِبُونَ فِيمَا تَزْعُمُونَ.
[16] {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} [يس: 16]
[17] {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [يس: 17]
[18] {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18] تَشَاءَمْنَا بِكُمْ وَذَلِكَ أَنَّ الْمَطَرَ حبس عنهم حين قدم الرسل عليهم، فَقَالُوا: أَصَابَنَا هَذَا بِشُؤْمِكُمْ، {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ} [يس: 18] لَنَقْتُلَنَّكُمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالْحِجَارَةِ {وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يس: 18]
[19] {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} [يس: 19] يَعْنِي شُؤْمُكُمْ مَعَكُمْ بِكُفْرِكُمْ وَتَكْذِيبِكُمْ يَعْنِي أَصَابَكُمِ الشُّؤْمُ مِنْ قِبَلِكُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: حَظُّكُمْ من الخير والشر، {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} [يس: 19] يَعْنِي وُعِظْتُمْ بِاللَّهِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ محذوف، الجواب: إِنْ ذُكِّرْتُمْ وَوُعِظْتُمْ بِاللَّهِ تَطَيَّرْتُمْ بِنَا، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (أَنْ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ الْمَلِينَةِ ذُكِرْتُمْ بِالتَّخْفِيفِ، {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} [يس: 19] مُشْرِكُونَ مُجَاوِزُونَ الْحَدَّ.
[20] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} [يس: 20] وَهُوَ حَبِيبٌ النَّجَّارُ، وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانَ قَصَّارًا. وَقَالَ وَهْبٌ: كَانَ رَجُلًا يَعْمَلُ الْحَرِيرَ وَكَانَ سَقِيمًا فد أَسْرَعَ فِيهِ الْجُذَامُ، وَكَانَ مَنْزِلُهُ عِنْدَ أَقْصَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ الْمَدِينَةِ، وَكَانَ مُؤْمِنًا ذَا صَدَقَةٍ يَجْمَعُ كَسْبَهُ إِذَا أَمْسَى فَيَقْسِمُهُ نِصْفَيْنِ، فَيُطْعِمُ نِصْفًا لِعِيَالِهِ وَيَتَصَدَّقُ بنصفه، فلما بلغه أن قومه قد قَصَدُوا قَتْلَ الرُّسُلِ جَاءَهُمْ، {قَالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس: 20]
[21] {اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس: 21] قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ حَبِيبٌ فِي غار يعبد الله، فَلَمَّا بَلَغَهُ خَبَرُ الرُّسُلِ أَتَاهُمْ فَأَظْهَرَ دِينَهُ، فَلَمَّا انْتَهَى حَبِيبٌ إِلَى الرُّسُلِ قَالَ لَهُمْ: تَسْأَلُونَ عن هَذَا أَجْرًا؟ قَالُوا: لَا، فَأَقْبَلَ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ قَالُوا لَهُ: وَأَنْتَ مُخَالِفٌ لِدِينِنَا وَمُتَابِعٌ دِينَ هَؤُلَاءِ الرُّسُلِ وَمُؤْمِنٌ بِإِلَهِهِمْ؟
[22] فَقَالَ: {وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] قَرَأَ حَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ (مَا لِي) بِإِسْكَانِ الْيَاءِ،(5/783)
وَالْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا. قِيلَ. أَضَافَ الْفِطْرَةَ إِلَى نَفْسِهِ وَالرُّجُوعَ إِلَيْهِمْ، لِأَنَّ الْفِطْرَةَ أَثَرُ النِّعْمَةِ، وَكَانَتْ عَلَيْهِ أَظْهَرَ، وَفِي الرُّجُوعِ مَعْنَى الزَّجْرِ وكان بهم أليق وقيل: إنهم - لَمَّا قَالَ: اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ- أَخَذُوهُ فَرَفَعُوهُ إِلَى الْمَلِكِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: أَفَأَنْتَ تَتْبَعُهُمْ؟ فَقَالَ: (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) ، يعني وأي شيء في إِذَا لَمْ أَعْبُدِ الْخَالِقَ، (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) تُرَدُّونَ عِنْدَ الْبَعْثِ فَيَجْزِيكُمْ بِأَعْمَالِكُمْ.
[23] {أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} [يس: 23] اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً، {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ} [يس: 23] بِسُوءٍ وَمَكْرُوهٍ، {لَا تُغْنِ عَنِّي} [يس: 23] لَا تَدْفَعُ عَنِّي، {شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} [يس: 23] أَيْ لَا شَفَاعَةَ لَهَا أَصْلًا فتغني {وَلَا يُنْقِذُونِ} [يس: 23] مِنْ ذَلِكَ الْمَكْرُوهِ، وَقِيلَ: لَا يُنْقِذُونِ مِنَ الْعَذَابِ لَوْ عَذَّبَنِي اللَّهُ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ.
[24] {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 24] خَطَأٍ ظَاهِرٍ.
[25] {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} [يس: 25] يَعْنِي فَاسْمَعُوا مِنِّي، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ وَثَبَ الْقَوْمُ عَلَيْهِ وَثْبَةَ رجل واحد فقتلوه.
[26] فذلك قوله: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ} [يس: 26] فَلَمَّا أَفْضَى إِلَى الْجَنَّةِ، {قَالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ} [يس: 26]
[27] {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يَسٍ: 27] يَعْنِي بِغُفْرَانِ رَبِّي لِي، {وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس: 27] تَمَنَّى أَنْ يَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّ اللَّهَ غَفَرَ لَهُ وَأَكْرَمَهُ، لِيَرْغَبُوا فِي دِينِ الرُّسُلِ، فَلَمَّا قُتِلَ حَبِيبٌ غَضِبَ اللَّهُ لَهُ وَعَجَّلَ لهم النقمة، فأمر جبريل فَصَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَمَاتُوا عن آخرهم.
[قوله تعالى وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ] مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ. . .
[28] فذلك قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ} [يس: 28] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، {وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ} [يس: 28] وَمَا كُنَّا نَفْعَلُ هَذَا بَلِ الْأَمْرُ فِي إِهْلَاكِهِمْ كَانَ أَيْسَرَ مِمَّا يَظُنُّونَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ) أي على قوم حبيب مِنْ بَعْدِ قَتْلِهِ مِنْ جُنْدٍ وما كما منزلين، نُنْزِلُهُمْ عَلَى الْأُمَمِ إِذَا أَهْلَكْنَاهُمْ، كَالطُّوفَانِ وَالصَّاعِقَةِ وَالرِّيحِ، ثُمَّ بَيَّنَ عُقُوبَتَهُمْ.
[29] فَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 29] وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: صَيْحَةٌ وَاحِدَةٌ، بِالرَّفْعِ جَعَلَ الْكَوْنَ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ جِبْرِيلُ بِعِضَادَتَيْ بَابِ الْمَدِينَةِ ثُمَّ صَاحَ بِهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً، {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس: 29] ميتون.
[30] {يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30] قَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي يَا حَسْرَتَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَالْحَسْرَةُ شِدَّةُ النَّدَامَةِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا حَسْرَةً) وَنَدَامَةً وَكَآبَةً عَلَى الْعِبَادِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا بِالرُّسُلِ، وَالْآخَرُ أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْهَالِكِينَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَمَّا عَايَنُوا الْعَذَابَ قَالُوا: يَا حَسْرَةً أَيْ نَدَامَةً عَلَى العباد يعني على العباد يعني الرُّسُلِ الثَّلَاثَةِ حَيْثُ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِمْ، فَتَمَنَّوُا الْإِيمَانَ حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمْ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: الْحَسْرَةُ لَا تُدْعَى وَدُعَاؤُهَا تَنْبِيهُ الْمُخَاطَبِينَ. وَقِيلَ العرب تقول. يا حسرتي وَيَا عَجَبًا عَلَى طَرِيقِ الْمُبَالَغَةِ وَالنِّدَاءُ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى التَّنْبِيهِ، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: أَيُّهَا الْعَجَبُ هَذَا وَقْتُكَ؟ وَأَيَّتُهَا الْحَسْرَةُ هَذَا أَوَانُكِ؟ حَقِيقَةُ الْمَعْنَى أَنَّ هَذَا زَمَانُ الْحَسْرَةِ وَالتَّعَجُّبِ، ثُمَّ بَيَّنَ سَبَبَ الْحَسْرَةِ وَالنَّدَامَةِ، فَقَالَ: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30]
[31] {أَلَمْ يَرَوْا} [يس: 31] أَلَمْ يُخْبَرُوا يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، {كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} [يس: 31] وَالْقَرْنُ أَهْلُ كُلِّ عَصْرٍ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِاقْتِرَانِهِمْ فِي الْوُجُودِ، {أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ} [يس: 31] أَيْ لَا يَعُودُونَ إِلَى الدُّنْيَا فَلَا يَعْتَبِرُونَ بِهِمْ.
[32] {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ} [يس: 32] قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (لَمَّا) بِالتَّشْدِيدِ هاهنا وفي الزخرف والطارق، وافق ابْنُ عَامِرٍ إِلَّا فِي الزُّخْرُفِ، وَوَافَقَ أَبُو جَعْفَرٍ فِي الطَّارِقِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، فَمَنْ شَدَّدَ جعل (إن) بمعنى الجحد، و (لما) بِمَعْنَى إِلَّا، تَقْدِيرُهُ: وَمَا كَلٌّ إِلَّا جَمِيعٌ، وَمَنْ خَفَّفَ جَعَلَ (إن) للتحقيق(5/784)
و (ما) صلة، مجازه: كل جميع، {لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32]
[33] {وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] بالمطر، {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا} [يس: 33] يَعْنِي الْحِنْطَةَ وَالشَّعِيرَ وَمَا أَشْبَهَهُمَا، {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] أَيْ مِنَ الْحَبِّ.
[34] {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ} [يس: 34] بَسَاتِينَ، {مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا} [يس: 34] في الأرض، {مِنَ الْعُيُونِ} [يس: 34]
[35] {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} [يس: 35] أَيْ مِنَ الثَّمَرِ الْحَاصِلِ بِالْمَاءِ، {وَمَا عَمِلَتْهُ} [يس: 35] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ (عَمِلَتْ) بِغَيْرِ هَاءٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (عَمِلَتْهُ) بِالْهَاءِ أَيْ يَأْكُلُونَ مِنَ الذي عملته، {أَيْدِيهِمْ} [يس: 35] من الزرع والغرس، والهاء عائدة إلى (ما) التي هي بِمَعْنَى الَّذِي. وَقِيلَ: مَا لِلنَّفْيِ في قوله ما عملته أيديهم أي وجدوها معمولة ولم تعمله أَيْدِيهِمْ، وَلَا صُنْعَ لَهُمْ فِيهَا، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الضَّحَّاكِ وَمُقَاتِلٍ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْعُيُونَ وَالْأَنْهَارَ الَّتِي لَمْ تَعْمَلْهَا يَدُ خَلْقٍ مِثْلَ دِجْلَةَ وَالْفُرَاتِ وَالنِّيلِ وَنَحْوِهَا، {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 35] نِعْمَةَ اللَّهِ.
[36] {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [يس: 36] أي الأصناف كلها، {مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ} [يس: 36] من الثمار والحبوب، {وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} [يس: 36] يَعْنِي الذُّكُورَ وَالْإِنَاثَ، {وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ} [يس: 36] مما خلق من الأشياء مع دَوَابِّ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
[37] {وَآيَةٌ لَهُمُ} [يس: 37] تَدَلُّ عَلَى قُدْرَتِنَا، {اللَّيْلُ نَسْلَخُ} [يس: 37] نَنْزِعُ وَنَكْشِطُ، {مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] دَاخِلُونَ فِي الظُّلْمَةِ، وَمَعْنَاهُ نُذْهِبُ النَّهَارَ وَنَجِيءُ بِاللَّيْلِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْأَصْلَ هِيَ الظُّلْمَةُ وَالنَّهَارُ دَاخِلٌ عَلَيْهَا، فَإِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ سُلِخَ النَّهَارُ مِنَ اللَّيْلِ، فَتَظْهَرُ الظُّلْمَةُ.
[38] {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} [يس: 38] أي إلى مستقر لها. قيل: إِلَى انْتِهَاءِ سَيْرِهَا عِنْدَ انْقِضَاءِ الدُّنْيَا وَقِيَامِ السَّاعَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا تَسِيرُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى أَبْعَدِ مَغَارِبِهَا، ثُمَّ تَرْجِعُ فَذَلِكَ مُسْتَقَرُّهَا لِأَنَّهَا لَا تُجَاوِزُهُ. وَقِيلَ: مُسْتَقَرُّهَا نِهَايَةُ ارْتِفَاعِهَا فِي السَّمَاءِ فِي الصَّيْفِ، وَنِهَايَةُ هُبُوطِهَا فِي الشِّتَاءِ، {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38] وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لَا مُسْتَقَرَّ لَهَا، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ أَيْ لَا قَرَارَ لَهَا وَلَا وُقُوفَ فَهِيَ جَارِيَةٌ أَبَدًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ.
[39] {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ} [يس: 39] أي قدرنا له، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَهْلُ الْبَصْرَةِ (الْقَمَرُ) بِرَفْعِ الرَّاءِ لِقَوْلِهِ: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [فصلت: 37] وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ لِقَوْلِهِ: (قَدَّرْنَاهُ) أي قدرنا القمر، {مَنَازِلَ} [يس: 39] وقد ذكرنا عددها فِي سُورَةِ يُونُسَ (1) فَإِذَا صَارَ الْقَمَرُ إِلَى آخَرِ الْمَنَازِلِ دَقَّ فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] والعرجون عود العذق
_________
(1) انظر هنا (ص 390) من هذا المختصر.(5/785)
الَّذِي عَلَيْهِ الشَّمَارِيخُ فَإِذَا قَدُمَ عتق ويبس وَتَقَوَّسَ وَاصْفَرَّ، فَشُبِّهَ الْقَمَرُ فِي دِقَّتِهِ وَصُفْرَتِهِ فِي آخِرِ الْمَنَازِلِ بِهِ.
[40] {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} [يس: 40] أَيْ لَا يَدْخُلُ النَّهَارُ عَلَى اللَّيْلِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، وَلَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ عَلَى النَّهَارِ قَبْلَ انْقِضَائِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} [يس: 40] أَيْ هُمَا يَتَعَاقَبَانِ بِحِسَابٍ مَعْلُومٍ لَا يَجِيءُ أَحَدُهُمَا قَبْلَ وَقْتِهِ. وَقِيلَ: لَا يَدْخُلُ أَحَدُهُمَا فِي سلطان الآخر، لا يطلع الشَّمْسُ بِاللَّيْلِ وَلَا يَطْلُعُ الْقَمَرُ بالنهار وله ضوء، وإذا اجْتَمَعَا وَأَدْرَكَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ قَامَتِ الْقِيَامَةُ. وَقِيلَ: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القمر) أي تَجْتَمِعُ مَعَهُ فِي فَلَكٍ وَاحِدٍ (وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ) أَيْ لَا يَتَّصِلُ لَيْلٌ بِلَيْلٍ لَا يكون بينهما فَاصِلٌ، {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] يجرون.
[قوله تَعَالَى وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ] الْمَشْحُونِ. . .
[41] {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 41] وَالْمُرَادُ بِالذُّرِّيَّةِ الْآبَاءُ وَالْأَجْدَادُ، وَاسْمُ الذُّرِّيَّةِ يَقَعُ عَلَى الْآبَاءِ كَمَا يَقَعُ عَلَى الْأَوْلَادِ، {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [يس: 41] أَيْ الْمَمْلُوءِ، وَأَرَادَ سَفِينَةَ نُوحٍ، وَهَؤُلَاءِ مِنْ نَسْلِ مَنْ حُمِلَ مَعَ نُوحٍ، وَكَانُوا فِي أَصْلَابِهِمْ.
[42] {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 42] قيل: أراد به السفن الَّتِي عُمِلَتْ بَعْدَ سَفِينَةِ نُوحٍ على هيئتها. وقيل: أراد بالسفن الَّتِي تَجْرِي فِي الْأَنْهَارِ فَهِيَ فِي الْأَنْهَارِ كَالْفُلْكِ الْكِبَارِ فِي البحار، هذا قَوْلُ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ وَغَيْرِهِمَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ قَالَ: وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ، يَعْنِي الْإِبِلَ؛ فَالْإِبِلُ فِي الْبَرِّ كَالسُّفُنِ فِي الْبَحْرِ.
[43] {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ} [يس: 43] أَيْ لَا مُغِيثَ، {لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} [يس: 43] ينجون من الغرق. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَا أَحَدَ يُنْقِذُهُمْ مِنْ عَذَابِي.
[44] {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 44] إِلَى انْقِضَاءِ آجَالِهِمْ، يَعْنِي إِلَّا أن يرحمهم ويمتعهم إلى حين آجَالِهِمْ.
[45] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} [يس: 45] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ يَعْنِي الْآخِرَةَ، فَاعْمَلُوا لَهَا وما خلفكم يعني من الدُّنْيَا فَاحْذَرُوهَا، وَلَا تَغْتَرُّوا بِهَا. وَقِيلَ: مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَقَائِعُ اللَّهِ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَمَا خَلْفَكُمْ عَذَابُ الْآخِرَةِ، {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [يس: 45] وَالْجَوَابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذَا قِيلَ لَهُمْ هَذَا أَعْرَضُوا عَنْهُ، دَلِيلُهُ مَا بَعْدَهُ.
[46] {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ} [يس: 46] أَيْ دَلَالَةٌ عَلَى صِدْقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [يس: 46]
[47] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} [يس: 47] أَعْطَاكُمُ اللَّهُ، {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ} [يس: 47] أَنَرْزُقُ، {مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} [يس: 47] وَذَلِكَ(5/786)
أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا لِكُفَّارِ مَكَّةَ: أَنْفِقُوا عَلَى الْمَسَاكِينِ مِمَّا زَعَمْتُمْ مِنْ أَمْوَالِكُمْ أَنَّهُ لِلَّهِ، وَهُوَ ما جعلوه لِلَّهِ مِنْ حُرُوثِهِمْ وَأَنْعَامِهِمْ، قَالُوا: أَنُطْعِمُ أَنَرْزُقُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ الله أطعمه رَزَقَهُ، ثُمَّ لَمْ يَرْزُقْهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ، فَنَحْنُ نُوَافِقُ مَشِيئَةَ اللَّهِ فَلَا نُطْعِمُ مَنْ لَمْ يُطْعِمْهُ اللَّهُ، وَهَذَا مِمَّا يَتَمَسَّكُ بِهِ الْبُخَلَاءُ، يَقُولُونَ: لَا نُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ اللَّهُ، وَهَذَا الَّذِي يَزْعُمُونَ بَاطِلٌ، لِأَنَّ اللَّهَ أَغْنَى بَعْضَ الْخَلْقِ وَأَفْقَرَ بَعْضَهُمُ ابْتِلَاءً، فَمَنَعَ الدُّنْيَا مِنَ الْفَقِيرِ لَا بُخْلًا وَأَمَرَ الْغَنِيَّ بِالْإِنْفَاقِ لَا حَاجَةً إِلَى مَالِهِ، وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ الغني بالفقير فيما أمر وفرض لَهُ فِي مَالِ الْغَنِيِّ، وَلَا اعْتِرَاضَ لِأَحَدٍ عَلَى مَشِيئَةِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ فِي خَلْقِهِ، {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يس: 47] يَقُولُ الْكُفَّارُ لِلْمُؤْمِنِينَ: مَا أَنْتُمْ إِلَّا فِي خَطَأٍ بَيِّنٍ فِي اتباعكم محمدا وَتَرْكِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ.
[48] {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} [يس: 48] أَيِ الْقِيَامَةُ وَالْبَعْثُ، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [يس: 48]
[49] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا يَنْظُرُونَ} [يس: 49] أَيْ مَا يَنْتَظِرُونَ، {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 49] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ النَّفْخَةَ الأولى، {تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] يَعْنِي يَخْتَصِمُونَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَيَتَكَلَّمُونَ فِي الْمَجَالِسِ وَالْأَسْوَاقِ، قَرَأَ حَمْزَةُ (يَخْصِمُونَ) بِسُكُونِ الْخَاءِ وَتَخْفِيفِ الصَّادِ، أَيْ يَغْلِبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالْخِصَامِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ، أَيْ يَخْتَصِمُونَ، أدغمت التاء في الصاد.
[50] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50] أي لا يقدرون الْإِيصَاءِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: عَجِلُوا عَنِ الْوَصِيَّةِ فَمَاتُوا، {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} [يس: 50] يَنْقَلِبُونَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ السَّاعَةَ لَا تُمْهِلُهُمْ لِشَيْءٍ.
[51] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [يس: 51] وهي الْأَخِيرَةُ نَفْخَةُ الْبَعْثِ، وَبَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ سَنَةً، {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ} [يس: 51] يَعْنِي الْقُبُورُ، وَاحِدُهَا: جَدَثٌ، {إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] يَخْرُجُونَ مِنَ الْقُبُورِ أَحْيَاءً، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْوَلَدِ: نَسْلٌ لِخُرُوجِهِ مِنْ بطن أمه.
[52] {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] قَالَ أَبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: إِنَّمَا يَقُولُونَ هَذَا لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَرْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ، فَيَرْقُدُونَ فَإِذَا بُعِثُوا بَعْدَ النَّفْخَةِ الْأَخِيرَةِ وَعَايَنُوا الْقِيَامَةَ دَعَوْا بِالْوَيْلِ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّ الْكُفَّارَ إِذَا عَايَنُوا جَهَنَّمَ وَأَنْوَاعَ عَذَابِهَا صَارَ عَذَابُ الْقَبْرِ فِي جَنْبِهَا كَالنَّوْمِ، فَقَالُوا: يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا؟ ثُمَّ قَالُوا: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] أَقَرُّوا حِينَ لَمْ يَنْفَعْهُمُ الْإِقْرَارُ. وَقِيلَ: قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ لَهُمْ: (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) . قَالَ مُجَاهِدٌ: يَقُولُ الْكُفَّارُ: (مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا) فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُونَ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52]
[53] {إِنْ كَانَتْ} [يس: 53] مَا كَانَتْ، {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [يس: 53] يعني النفخة الأخيرة، {فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53]
[54] {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يس: 54]
[قوله تعالى إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ] . . .
[55] {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ} [يس: 55] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عمرو (في شغل) اختلفوا فِي مَعْنَى الشُّغُلِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي افْتِضَاضِ الْأَبْكَارِ. وَقَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجِرَاحِ: فِي السَّمَاعِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي شُغُلٍ عَنْ أَهْلِ النَّارِ وَعَمَّا هُمْ فِيهِ لَا يُهِمُّهُمْ أَمْرُهُمْ وَلَا يَذْكُرُونَهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: شُغِلُوا بِمَا فِي الْجَنَّةِ مِنَ النَّعِيمِ عَمَّا فِيهِ أَهْلُ النَّارِ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: فِي زِيَارَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَقِيلَ: فِي ضِيَافَةِ اللَّهِ تعالى. {فَاكِهُونَ} [يس: 55] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (فَكِهُونَ) حَيْثُ كَانَ، وَافَقَهُ حَفْصٌ فِي الْمُطَفِّفِينَ وَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ الْحَاذِرُ وَالْحَذِرُ، أَيْ نَاعِمُونَ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مُعْجَبُونَ بِمَا هُمْ فِيهِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فَرِحُونَ.(5/787)
[56] {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ} [يس: 56] أي حلائلهم، {فِي ظِلَالٍ} [يس: 56] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ ظُلَلٍ بِضَمِّ الظَّاءِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، جَمْعُ ظُلَّةٍ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ (فِي ظِلَالٍ) بِالْأَلِفِ وَكَسْرِ الظَّاءِ عَلَى جَمْعِ ظل، {عَلَى الْأَرَائِكِ} [يس: 56] يَعْنِي السُّرَرَ فِي الْحِجَالِ وَاحِدَتُهَا أَرِيكَةٌ. قَالَ ثَعْلَبٌ: لَا تَكُونُ أَرِيكَةً حَتَّى يَكُونَ عَلَيْهَا حَجْلَةٌ. {مُتَّكِئُونَ} [يس: 56] ذَوُو اتِّكَاءٍ.
[57] {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} [يس: 57] يَتَمَنَّوْنَ وَيَشْتَهُونَ.
[58] {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] أَيْ يَقُولُ اللَّهُ لَهُمْ قَوْلًا، وقيل: يسلم عَلَيْهِمْ فِي دِيَارِهِمْ. وَقِيلَ: تُسَلِّمُ عليهم الملائكة من ربهم. وقال مُقَاتِلٌ: تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ كُلِّ بَابٍ يَقُولُونَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ رَبِّكُمُ الرَّحِيمِ. وَقِيلَ: يُعْطِيهُمُ السَّلَامَةَ يَقُولُ: اسْلَمُوا السَّلَامَةَ الْأَبَدِيَّةَ.
[59] {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} [يس: 59] قال مقاتل: اعتزلوا اليوم الصَّالِحِينَ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: تَمَيَّزُوا. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كُونُوا عَلَى حِدَةٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: انْفَرَدُوا عَنِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ لِكُلِّ كَافِرٍ فِي النَّارِ بَيْتًا يُدْخَلُ ذَلِكَ الْبَيْتَ وَيُرْدَمُ بَابُهُ بِالنَّارِ فَيَكُونُ فِيهِ أَبَدَ الْآبِدِينَ، لَا يَرَى وَلَا يُرَى.
[60] {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ} [يس: 60] أَلَمْ آمُرْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ، {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] أَيْ لَا تُطِيعُوا الشَّيْطَانَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [يس: 60] ظاهر العداوة.
[61] {وَأَنِ اعْبُدُونِي} [يس: 61] أَطِيعُونِي وَوَحِّدُونِي، {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 61]
[62] {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} [يس: 62] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ (جِبِلًّا) معناها: الْخَلْقُ وَالْجَمَاعَةُ أَيْ خَلْقًا كَثِيرًا {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} [يس: 62] مَا أَتَاكُمْ مِنْ هَلَاكِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ بِطَاعَةِ إِبْلِيسَ، وَيُقَالُ لَهُمْ لَمَّا دَنَوْا مِنَ النَّارِ.
[63] {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [يس: 63] بها في الدنيا.
[64] {اصْلَوْهَا} [يس: 64] ادْخُلُوهَا {الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [يس: 64]
[65] {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [يس: 65] هَذَا حِينَ يُنْكِرُ الْكُفَّارُ كُفْرَهُمْ وتكذيبهم الرسل بقولهم {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فَيَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتَشْهَدُ عَلَيْهِمْ جوارحهم.
[66] {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] أَيْ أَذْهَبْنَا أَعْيُنَهُمُ الظَّاهِرَةَ بِحَيْثُ لَا يَبْدُو لَهَا جَفْنٌ وَلَا شِقٌّ، وَهُوَ مَعْنَى الطَّمْسِ كَمَا قال الله: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} [الْبَقَرَةِ: 20] يَقُولُ: كَمَا أَعْمَيْنَا قُلُوبَهُمْ لَوْ شِئْنَا أَعْمَيْنَا أَبْصَارَهُمُ الظاهرة، {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} [يس: 66] فَتَبَادَرُوا إِلَى الطَّرِيقِ، {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس: 66](5/788)
فَكَيْفَ يُبْصِرُونَ وَقَدْ أَعْمَيْنَا أَعْيُنَهُمْ؟ يعني: لو تشاء لَأَضْلَلْنَاهُمْ عَنِ الْهُدَى، وَتَرَكْنَاهُمْ عُمْيًا يَتَرَدَّدُونَ، فَكَيْفَ يُبْصِرُونَ الطَّرِيقَ حِينَئِذٍ؟ هَذَا قَوْلُ الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَعَطَاءٌ: مَعْنَاهُ لَوْ نَشَاءُ لَفَقَأْنَا أَعْيُنَ ضَلَالَتِهِمْ، فَأَعْمَيْنَاهُمْ عَنْ غَيِّهِمْ، وَحَوَّلْنَا أَبْصَارَهُمْ مِنَ الضَّلَالَةِ إِلَى الْهُدَى، فَأَبْصَرُوا رُشْدَهُمْ، (فَأَنَّى يُبْصِرُونَ) وَلَمْ أَفْعَلْ ذَلِكَ بِهِمْ؟
[67] {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} [يس: 67] يعني مكانتهم، يُرِيدُ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَقِيلَ: لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُمْ حِجَارَةً، وَهُمْ قُعُودٌ فِي مَنَازِلِهِمْ لَا أَرْوَاحَ لَهُمْ. {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} [يس: 67] يعني إلى ما كانوا عليه على وَقِيلَ: لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَهَابٍ وَلَا رُجُوعٍ.
[68] {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} [يس: 68] أَيْ نَرُدُّهُ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ شِبْهَ الصَّبِيِّ فِي أَوَّلِ الْخَلْقِ. وَقِيلَ: نُنَكِّسُهُ فِي الْخَلْقِ أَيْ نُضْعِفُ جَوَارِحَهُ بَعْدَ قُوَّتِهَا وَنَرُدُّهَا إِلَى نُقْصَانِهَا بَعْدَ زِيَادَتِهَا. {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68] فَيَعْتَبِرُوا وَيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِي قَدَرَ عَلَى تَصْرِيفِ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ يَقْدِرُ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ.
[69] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} [يس: 69] قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا شَاعِرٌ، وَمَا يَقُولُهُ شِعْرٌ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ: (وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ) أَيْ مَا يَتَسَهَّلُ لَهُ ذَلِكَ وَمَا كَانَ يَتَّزِنُ له بيت من الشعر، حَتَّى إِذَا تَمَثَّلَ بِبَيْتِ شِعْرٍ جرى على لسانه منكسرا، {إِنْ هُوَ} [يس: 69] يعني ما القرآن، {إِلَّا ذِكْرٌ} [يس: 69] موعظة، {وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69] فِيهِ الْفَرَائِضُ وَالْحُدُودُ وَالْأَحْكَامُ.
[70] {لِيُنْذِرَ} [يس: 70] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَيَعْقُوبُ (لِتُنْذِرَ) بِالتَّاءِ وَكَذَلِكَ فِي الْأَحْقَافِ، وَافَقَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي الْأَحْقَافِ، أَيْ لِتُنْذِرَ يَا مُحَمَّدُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ أَيْ لِيُنْذِرَ الْقُرْآنُ، {مَنْ كَانَ حَيًّا} [يس: 70] يَعْنِي مُؤْمِنًا حَيَّ الْقَلْبِ لِأَنَّ الْكَافِرَ كَالْمَيِّتِ فِي أَنَّهُ لَا يَتَدَبَّرُ وَلَا يَتَفَكَّرُ، {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ} [يس: 70] وَيَجِبُ حُجَّةُ الْعَذَابِ {عَلَى الْكَافِرِينَ} [يس: 70]
[قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ] أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ. . .
[71] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71] تَوَلَّيْنَا خَلْقَهُ بِإِبْدَاعِنَا مِنْ غَيْرِ إِعَانَةِ أَحَدٍ، {أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} [يس: 71] ضَابِطُونَ قَاهِرُونَ، أَيْ لَمْ يَخْلُقِ الْأَنْعَامَ وَحْشِيَّةً نَافِرَةً مَنْ بَنِي آدَمَ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ضَبْطِهَا بَلْ هِيَ مُسَخَّرَةٌ لَهُمْ.
[72] وَهِيَ قوله: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} [يس: 72] سخرناها لهم، {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} [يس: 72] أَيْ مَا يَرْكَبُونَ وَهِيَ الْإِبِلُ، {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72] مِنْ لُحْمَانِهَا.
[73] {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [يس: 73] أي مِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَنَسْلِهَا، {وَمَشَارِبُ} [يس: 73] من ألبانها، {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} [يس: 73] رَبَّ هَذِهِ النِّعَمِ.
[74] {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ} [يس: 74] يَعْنِي: لِتَمْنَعَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَطُّ.
[75] {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} [يس: 75] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَقْدِرُ الْأَصْنَامُ عَلَى نَصْرِهِمْ وَمَنْعِهِمْ مِنَ الْعَذَابِ. {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: 75] أَيْ الْكُفَّارُ جُنْدٌ لِلْأَصْنَامِ يَغْضَبُونَ لَهَا وَيُحْضِرُونَهَا فِي الدُّنْيَا وَهِيَ لَا تَسُوقُ إِلَيْهِمْ خَيْرًا وَلَا تَسْتَطِيعُ لَهُمْ نَصْرًا. وَقِيلَ: هَذَا فِي الْآخِرَةِ يُؤْتَى بِكُلِّ مَعْبُودٍ مِنْ دُونِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَهُ أَتْبَاعُهُ الَّذِينَ عَبَدُوهُ كَأَنَّهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ فِي النَّارِ.
[76] {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} [يس: 76] يَعْنِي قَوْلَ كُفَّارِ مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِكَ، {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ} [يس: 76] فِي ضَمَائِرِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ، {وَمَا يُعْلِنُونَ} [يس: 76] مِنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ أَوْ مَا يُعْلِنُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْأَذَى.
[77] قَوْلُهُ تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} [يس: 77] جدل بالباطل، {مُبِينٌ} [يس: 77] بَيِّنُ الْخُصُومَةِ، يَعْنِي أَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ يُخَاصِمُ، فَكَيْفَ لَا يَتَفَكَّرُ فِي بَدْءِ خَلْقِهِ حَتَّى يَدَعَ(5/789)
الْخُصُومَةَ، «نَزَلَتْ فِي أُبَيِّ بْنِ خَلَفٍ الْجُمَحِيِّ خَاصَمَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إِنْكَارِ الْبَعْثِ، وَأَتَاهُ بِعَظْمٍ قَدْ بَلِيَ ففتته بيده، فقال: أَتُرَى يُحْيِي اللَّهُ هَذَا بَعْدَمَا رَمَّ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "نَعَمْ وَيَبْعَثُكَ وَيُدْخِلُكَ النَّارَ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَاتِ (1) .
[78] {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} [يس: 78] بَدْءَ أَمْرِهِ ثُمَّ، {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] بَالِيَةٌ، وَلَمْ يَقِلْ رَمِيمَةً لِأَنَّهُ مَعْدُولٌ عَنْ فَاعِلَةٍ وَكُلُّ مَا كَانَ مَعْدُولًا عَنْ وَجْهِهِ وَوَزْنِهِ كَانَ مَصْرُوفًا عَنْ أَخَوَاتِهِ، كَقَوْلِهِ: {وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا} [مَرْيَمَ: 28] أَسْقَطَ الْهَاءَ لِأَنَّهَا كَانَتْ مَصْرُوفَةً عَنْ بَاغِيَةٍ.
[79] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا} [يس: 79] خَلَقَهَا، {أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]
[80] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا} [يس: 80] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمَا شَجَرَتَانِ يقال لأحدهما: المرخ والأخرى: الْعَفَارُ، فَمَنْ أَرَادَ مِنْهُمُ النَّارَ قَطَعَ مِنْهُمَا غُصْنَيْنِ مِثْلَ السِّوَاكَيْنِ وَهُمَا خَضْرَاوَانِ يَقْطُرُ مِنْهُمَا الْمَاءُ، فَيُسْحَقُ الْمَرْخُ عَلَى الْعِفَارِ فَيَخْرُجُ مِنْهُمَا النَّارُ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، تَقُولُ الْعَرَبُ فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ وَاسْتَمْجَدَ الْمَرْخُ وَالْعَفَارُ، وَقَالَ الْحُكَمَاءُ: فِي كُلِّ شَجَرٍ نَارٌ إِلَّا الْعُنَّابَ. {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] تَقْدَحُونَ وَتُوقِدُونَ النَّارَ مِنْ ذَلِكَ الشَّجَرِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الْإِنْسَانِ.
[81] فَقَالَ: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ} [يس: 81] قَرَأَ يَعْقُوبُ يَقْدِرُ بِالْيَاءِ عَلَى الْفِعْلِ، {عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى} [يس: 81] أَيْ قُلْ بَلَى هُوَ قَادِرٌ على ذلك، {وَهُوَ الْخَلَّاقُ} [يس: 81] يَخْلُقُ خَلْقًا بَعْدَ خَلْقٍ، {الْعَلِيمُ} [يس: 81] بجميع ما خلق.
[82] {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82]
[83] {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ} [يس: 83] أي ملك، {كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 83]
[سورة الصافات]
[قوله تعالى وَالصَّافَّاتِ صَفًّا فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا فَالتَّالِيَاتِ] ذِكْرًا. . .
(37) سورة الصافات [1] {وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} [الصافات: 1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنهما وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ فِي السَّمَاءِ يَصُفُّونَ كَصُفُوفِ الْخَلْقِ فِي الدنيا للصلاة، وَقِيلَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ وَاقِفَةً حَتَّى يَأْمُرَهَا الله تعالى بما يريده. وَقِيلَ: هِيَ الطُّيُورُ دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ} [النُّورِ: 41]
[2] قَوْلُهُ تعالى: {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} [الصافات: 2] يعني تَزْجُرُ السَّحَابَ وَتَسُوقُهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ زَوَاجِرُ الْقُرْآنِ تَنْهَى وَتَزْجُرُ عن القبائح.
[3] {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} [الصافات: 3] هم الملائكة يتلون ذكر
_________
(1) أخرجه الطبري 23 / 30 والواحدي في أسباب النزول.(5/790)
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقِيلَ: هُمْ جَمَاعَةُ قُرَّاءِ الْقُرْآنِ وَهَذَا كُلُّهُ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ، وجواب الْقِسْمِ:
[4] قَوْلُهُ: {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} [الصافات: 4] وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَرَبِّ الصَّافَّاتِ وَالزَّاجِرَاتِ وَالتَّالِيَاتِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ قَالُوا: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] ؟ فأقسم الله بهؤلاء.
[5] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5] أي مطالع الشمس، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَالَ فِي موضع: (رب الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ) ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرَّحْمَنِ: 17] وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء: 28] فَكَيْفَ وَجْهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَاتِ؟ قِيلَ: أَمَّا قَوْلُهُ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [الشعراء: 28] أراد به جهة المشرق وجهة المغرب. وَقَوْلُهُ: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] أَرَادَ مَشْرِقَ الشِّتَاءِ وَمَشْرِقَ الصَّيْفِ، وَأَرَادَ بِالْمَغْرِبَيْنِ: مَغْرِبَ الشِّتَاءِ وَمَغْرِبَ الصَّيْفِ. وَقَوْلُهُ: {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ خَلَقَ للشمس ثلثمائة وستين كوة في المشرق وثلثمائة وَسِتِّينَ كُوَّةً فِي الْمَغْرِبِ عَلَى عَدَدِ أَيَّامِ السَّنَةِ، تَطْلُعُ الشَّمْسُ كُلَّ يَوْمٍ مِنْ كُوَّةٍ مِنْهَا، وَتَغْرُبُ فِي كُوَّةٍ مِنْهَا لَا تَرْجِعُ إِلَى الْكُوَّةِ الَّتِي تَطْلُعُ الشمس منها من ذلك اليوم إلى الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَهِيَ الْمَشَارِقُ وَالْمَغَارِبُ، وَقِيلَ: كُلُّ مَوْضِعٍ شَرَقَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ مَشْرِقٌ وَكُلُّ مَوْضِعٍ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فَهُوَ مَغْرِبٌ، كَأَنَّهُ أَرَادَ رَبَّ جَمِيعِ مَا شرقت عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَغَرَبَتْ.
[6] {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} [الصافات: 6] قَرَأَ عَاصِمٌ، بِرِوَايَةِ أَبِي بَكْرٍ (بِزِينَةٍ) مُنَوَّنَةً، (الْكَوَاكِبَ) نُصِبَ أَيْ بِتَزْيِينِنَا الْكَوَاكِبَ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَحَفْصٌ (بِزِينَةٍ) مُنَوَّنَةً (الْكَوَاكِبِ) خَفْضًا عَلَى الْبَدَلِ، أَيْ بِزِينَةٍ بِالْكَوَاكِبِ، أَيْ زَيَّنَّاهَا بِالْكَوَاكِبِ. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (بِزِينَةِ الْكَوَاكِبِ) ، بِلَا تَنْوِينٍ عَلَى الْإِضَافَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِضَوْءِ الْكَوَاكِبِ.
[7] {وَحِفْظًا} [الصافات: 7] أَيْ وَحَفِظْنَاهَا حِفْظًا. {مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 7] مُتَمَرِّدٍ يُرْمَوْنَ بِهَا.
[8] {لَا يَسَّمَّعُونَ} [الصافات: 8] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ (يَسَّمَّعُونَ) بِتَشْدِيدِ السِّينِ وَالْمِيمِ، أَيْ لَا يَتَسَمَّعُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي السِّينِ، وقرأ الآخرون بسكون السين خفيف الميم، {إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى} [الصافات: 8] أي إلى الكتيبة مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالْمَلَأُ الْأَعْلَى هُمُ الْمَلَائِكَةُ لِأَنَّهُمْ فِي السَّمَاءِ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِمَاعَ إِلَى الملأ الأعلى، {وَيُقْذَفُونَ} [الصافات: 8] يرمون، {مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} [الصافات: 8] من كل آفاق السماء بالشهب.
[9] {دُحُورًا} [الصافات: 9] يُبْعِدُونَهُمْ عَنْ مَجَالِسِ الْمَلَائِكَةِ، يُقَالُ: دحره دحرا ودحورا إذ طَرَدَهُ وَأَبْعَدَهُ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] دَائِمٌ، قَالَ مُقَاتِلٌ: دَائِمٌ إِلَى النَّفْخَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُمْ يُحْرَقُونَ وَيَتَخَبَّلُونَ.
[10] {إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} [الصافات: 10] اخْتَلَسَ الْكَلِمَةَ مِنْ كَلَامِ الْمَلَائِكَةِ مسارقة، {فَأَتْبَعَهُ} [الصافات: 10] لحقه، {شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] كَوْكَبٌ مُضِيءٌ قَوِيٌّ لَا يُخْطِئُهُ يَقْتُلُهُ، أَوْ يَحْرِقُهُ أَوْ يُخْبِلُهُ، وَإِنَّمَا يَعُودُونَ إِلَى اسْتِرَاقِ السَّمْعِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَصِلُونَ إِلَيْهِ طَمَعًا فِي السَّلَامَةِ وَنَيْلِ المراد، كراكب السفينة، قَالَ عَطَاءٌ: سُمِّيَ النَّجْمُ الَّذِي يُرْمَى بِهِ الشَّيَاطِينُ ثَاقِبًا لِأَنَّهُ يثقبهم.
[11] {فَاسْتَفْتِهِمْ} [الصافات: 11] يعني سَلْهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا} [الصافات: 11] يَعْنِي مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ، وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ أَيْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَشَدُّ خَلْقًا كَمَا قَالَ: {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غَافِرٍ: 57] وَقَالَ: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النَّازِعَاتِ: 27] وَقِيلَ: (أَمْ مَنْ خَلَقْنَا) يَعْنِي مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، لِأَنَّ (مَنْ) يُذْكَرُ فِيمَنْ يَعْقِلُ، يَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيْسُوا بِأَحْكَمَ خَلْقًا مَنْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْأُمَمِ، وَقَدْ أَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ فَمَا الَّذِي يُؤَمِّنُ هَؤُلَاءِ مِنَ الْعَذَابِ؟! ثُمَّ ذَكَرَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ، فَقَالَ:(5/891)
{إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصافات: 11] يَعْنِي جِيدٌ حُرٌّ لَاصِقٌ يَعْلَقُ باليد، ومعناه اللازم إبدال الْمِيمُ بَاءً كَأَنَّهُ يَلْزَمُ الْيَدَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: مُنْتِنٌ.
[12] {بَلْ عَجِبْتَ} [الصافات: 12] قرأ حمزة والكسائي بضم الباء، وَهِيَ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ كَالتَّعَجُّبِ مِنَ الْآدَمِيِّينَ كَمَا قَالَ: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] أن قال عَزَّ وَجَلَّ: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] والعجب مِنَ الْآدَمِيِّينَ إِنْكَارُهُ وَتَعْظِيمُهُ، وَالْعَجَبُ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ وَالذَّمِّ، وَقَدْ يَكُونُ بمعنى الاستحسان والرضا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ التَّاءِ عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أَيْ عَجِبْتَ مِنْ تَكْذِيبِهِمْ إياك، {وَيَسْخَرُونَ} [الصافات: 12] يعني وهم يسخرون مِنْ تَعَجُّبِكَ. قَالَ قَتَادَةُ: عَجِبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ حِينَ أُنْزِلَ وَضَلَالِ بَنِي آدَمَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَظُنُّ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْمَعُ الْقُرْآنَ يُؤْمِنُ بِهِ، فَلَمَّا سَمِعَ الْمُشْرِكُونَ الْقُرْآنَ سَخِرُوا مِنْهُ وَلَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَعَجِبَ مِنْ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: (بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ) .
[13] {وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ} [الصافات: 13] يعني إِذَا وُعِظُوا بِالْقُرْآنِ لَا يَتَّعِظُونَ.
[14] {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً} [الصافات: 14] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ يَعْنِي انشقاق القمر، {يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات: 14] يسخرون ويستهزئون، وَقِيلَ: يَسْتَدْعِي بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ السُّخْرِيَةَ.
[15] {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصافات: 15] يَعْنِي سِحْرٌ بَيِّنٌ.
[16] {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الصافات: 16]
[17] {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الصافات: 17] أَيْ وَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ.
[18] {قُلْ نَعَمْ} [الصافات: 18] تبعثون، {وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} [الصافات: 18] صَاغِرُونَ، وَالدُّخُورُ أَشَدُّ الصَّغَارِ.
[19] {فَإِنَّمَا هِيَ} [الصافات: 19] أَيْ قِصَّةُ الْبَعْثِ أَوِ الْقِيَامَةِ، {زَجْرَةٌ} [الصافات: 19] أي صيحة، {وَاحِدَةٌ} [الصافات: 19] يَعْنِي نَفْخَةُ الْبَعْثِ، {فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ} [الصافات: 19] أحياء.
[20] {وَقَالُوا يا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} [الصافات: 20] أَيْ يَوْمُ الْحِسَابِ وَيَوْمُ الْجَزَاءِ.
[21] {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [الصافات: 21] يَوْمُ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: يَوْمُ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ، {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [الصافات: 21] 22،
[23] {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الصافات: 22] أَيْ أَشْرَكُوا، اجْمَعُوهُمْ إِلَى الْمَوْقِفِ للحساب والجزاء، {وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] أشياعهم وَأَتْبَاعَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ، قَالَ قَتَادَةُ وَالْكَلْبِيُّ: كل من عَمَلٍ مِثْلِ عَمَلِهِمْ فَأَهْلُ الْخَمْرِ مَعَ أَهْلِ الْخَمْرِ وَأَهْلُ الزِّنَا مَعَ أَهْلِ الزِّنَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ ومقاتل: وقرناءهم مِنَ الشَّيَاطِينِ كُلُّ كَافِرٍ مَعَ شَيْطَانِهِ فِي سِلْسِلَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَأَزْوَاجُهُمُ الْمُشْرِكَاتُ. {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22](6/792)
{مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الصافات: 23] فِي الدُّنْيَا، يَعْنِي الْأَوْثَانَ وَالطَّوَاغِيتَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي إِبْلِيسَ وَجُنُودَهُ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس: 60] {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 23] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: دُلُّوهُمْ إِلَى طَرِيقِ النَّارِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: قَدِّمُوهُمْ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي السَّابِقَ هَادِيًا.
[24] {وَقِفُوهُمْ} [الصافات: 24] واحبسوهم، يُقَالُ: وَقَفْتُهُ وَقْفًا فَوَقَفَ وُقُوفًا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا سِيقُوا إِلَى النَّارِ حُبِسُوا عِنْدَ الصِّرَاطِ لِأَنَّ السُّؤَالَ عِنْدَ الصِّرَاطِ، فَقِيلَ: وَقِفُوهُمْ {إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ جَمِيعِ أقوالهم وأفعالهم.
[قَوْلُهُ تَعَالَى مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ] . . .
[25] {مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 25] أَيْ لَا تَتَنَاصَرُونَ، يُقَالُ لَهُمْ تَوْبِيخًا: مَا لَكَمَ لَا يَنْصُرُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، يَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ هَذَا جَوَابٌ لِأَبِي جَهْلٍ حيث قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [الْقَمَرِ: 44]
[26] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} [الصافات: 26] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خَاضِعُونَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مُنْقَادُونَ؟ يُقَالُ اسْتَسْلَمَ لِلشَّيْءِ إِذَا انْقَادَ لَهُ وَخَضَعَ لَهُ، وَالْمَعْنَى: هُمُ الْيَوْمَ أَذِلَّاءُ مُنْقَادُونَ لَا حِيلَةَ لَهُمْ.
[27] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [الصافات: 27] أي الرؤساء والأتباع {يَتَسَاءَلُونَ} [الصافات: 27] يتخاصمون.
[28] {قَالُوا} [الصافات: 28] أَيِ الْأَتْبَاعُ لِلرُّؤَسَاءِ، {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} [الصَّافَّاتِ: 28] أَيْ مِنْ قِبَلِ الدِّينِ فَتُضِلُّونَنَا عَنْهُ وَتُرُونَنَا أَنَّ الدِّينَ مَا تُضِلُّونَنَا بِهِ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَنِ الصِّرَاطِ الْحَقِّ، وَالْيَمِينُ عِبَارَةٌ عن الدين والحق، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: كَانَ الرُّؤَسَاءُ يَحْلِفُونَ لَهُمْ أَنَّ مَا يَدْعُونَهُمْ إِلَيْهِ هُوَ الْحَقُّ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ. (تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) أَيْ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَيْمَانِ الَّتِي كُنْتُمْ تَحْلِفُونَهَا فَوَثِقْنَا بِهَا. وَقِيلَ: عَنِ الْيَمِينِ أَيْ عَنِ الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، كَقَوْلِهِ: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الْحَاقَّةِ: 45] وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى القول الأول.
[29] {قَالُوا} [الصافات: 29] يَعْنِي الرُّؤَسَاءَ لِلْأَتْبَاعِ، {بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [الصافات: 29] لَمْ تَكُونُوا عَلَى الْحَقِّ فَنُضِلَّكُمْ عَنْهُ، أَيْ إِنَّمَا الْكُفْرُ مِنْ قِبَلِكُمْ.
[30] {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [الصافات: 30] مِنْ قُوَّةٍ وَقُدْرَةٍ فَنَقْهَرَكُمْ عَلَى مُتَابَعَتِنَا، {بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} [الصافات: 30] ضالين.
[31] {فَحَقَّ} [الصافات: 31] وجب، {عَلَيْنَا} [الصافات: 31] جميعا، {قَوْلُ رَبِّنَا} [الصافات: 31] يَعْنِي كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] {إِنَّا لَذَائِقُونَ} [الصافات: 31] الْعَذَابَ، أَيْ أَنَّ الضَّالَّ وَالْمُضِلَّ جميعا في النار.
[32] {فَأَغْوَيْنَاكُمْ} [الصافات: 32] فَأَضْلَلْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى وَدَعَوْنَاكُمْ إِلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ، {إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} [الصافات: 32] ضالين.
[33] قال الله: {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الصافات: 33] الرُّؤَسَاءُ وَالْأَتْبَاعُ.
[34] {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [الصافات: 34] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ.
[35] {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] يَتَكَبَّرُونَ عَنْ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ وَيَمْتَنِعُونَ مِنْهَا.
[36] {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} [الصافات: 36] يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[37] قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ردا عليهم: {بَلْ جَاءَ} [الصافات: 37] محمد {بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 37] أَيْ أَنَّهُ أَتَى بِمَا أَتَى به الرسل قَبْلَهُ.
[38، 39] {إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ - وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الصافات: 38 - 39] فِي الدُّنْيَا مِنَ الشِّرْكِ.
[40] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 40] الموحدين.
[41] {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 41] يَعْنِي بُكْرَةً وَعَشِيًّا كَمَا قَالَ: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم: 62]
[42] {فَوَاكِهُ} [الصافات: 42] جَمْعُ الْفَاكِهَةِ وَهِيَ الثِّمَارُ كُلُّهَا رَطْبُهَا وَيَابِسُهَا، وَهِيَ كُلُّ طَعَامٍ يُؤْكَلُ لِلتَّلَذُّذِ لَا لِلْقُوتِ، {وَهُمْ مُكْرَمُونَ} [الصافات: 42] بِثَوَابِ اللَّهِ. 43،
[44] {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ - عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الصافات: 43 - 44](6/793)
لَا يَرَى بَعْضُهُمْ قَفَا بَعْضٍ.
[45] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ} [الصافات: 45] إِنَاءٍ فِيهِ شَرَابٌ وَلَا يَكُونُ كَأْسًا حَتَّى يَكُونَ فِيهِ شَرَابٌ، وَإِلَّا فَهُوَ إِنَاءٌ، {مِنْ مَعِينٍ} [الصافات: 45] خَمْرٍ جَارِيَةٍ فِي الْأَنْهَارِ ظَاهِرَةٍ تراها العيون.
[46] {بَيْضَاءَ} [الصافات: 46] قَالَ الْحَسَنُ: خَمْرُ الْجَنَّةِ أَشَدُّ بياضا من اللبن، {لَذَّةٍ} [الصافات: 46] أي لذيذة، {لِلشَّارِبِينَ} [الصافات: 46]
[47] {لَا فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] قَالَ الشَّعْبِيُّ: لَا تَغْتَالُ عُقُولَهُمْ فَتَذْهَبَ بِهَا. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِثْمٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: وَجِعُ الْبَطْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: صُدَاعٌ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْغَوْلُ فَسَادٌ يَلْحَقُ فِي خَفَاءٍ، يُقَالُ: اغْتَالَهُ اغْتِيَالًا إِذَا أَفْسَدَ عَلَيْهِ أَمْرَهُ فِي خُفْيَةٍ، وَخَمْرَةُ الدُّنْيَا يَحْصُلُ مِنْهَا أَنْوَاعٌ مِنَ الْفَسَادِ، مِنْهَا السُّكْرُ وَذَهَابُ الْعَقْلِ وَوَجَعُ الْبَطْنِ وَالصُّدَاعُ وَالْقَيْءُ وَالْبَوْلُ، وَلَا يُوجَدُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي خَمْرِ الْجَنَّةِ. {وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ} [الصافات: 47] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (يُنْزِفُونَ) بِكَسْرِ الزَّايِ وَافَقَهُمَا عَاصِمٌ فِي الْوَاقِعَةِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الزَّايِ فِيهِمَا فَمَنْ فَتَحَ الزَّايَ فَمَعْنَاهُ: لَا يَغْلِبُهُمْ عَلَى عُقُولِهِمْ وَلَا يَسْكَرُونَ، يُقَالُ: نَزَفَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنْزُوفٌ وَنَزِيفٌ إِذَا سَكِرَ، وَمَنْ كَسَرَ الزاي فمعناه: لا ينزف شَرَابُهُمْ، يُقَالُ أَنْزَفَ الرَّجُلُ فَهُوَ مَنْزُوفٌ إِذَا فَنِيَتْ خَمْرُهُ.
[48] {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الصافات: 48] حَابِسَاتُ الْأَعْيُنِ غَاضَّاتُ الْجُفُونِ، قَصَرْنَ أَعْيُنَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إلى غيرهم، {عِينٌ} [الصافات: 48] أَيْ حَسَّانُ الْأَعْيُنِ، يُقَالُ: رَجُلٌ أَعْيَنُ وَامْرَأَةٌ عَيْنَاءُ وَنِسَاءٌ عِينٌ.
[49] {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ} [الصافات: 49] جمع البيضة، {مَكْنُونٌ} [الصافات: 49] مضمون مَسْتُورٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمَكْنُونَ وَالْبَيْضَ جمع لِأَنَّهُ رَدَّهُ إِلَى اللَّفْظِ. قَالَ الْحَسَنُ: شَبَّهَهُنَّ بِبَيْضِ النَّعَامَةِ تُكِنُّهَا بالريش من الريح والغبار حين خروجها، فَلَوْنُهَا أَبْيَضُ فِي صُفْرَةٍ. وَيُقَالُ: هَذَا أَحْسَنُ أَلْوَانِ النِّسَاءِ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ (بَيْضَاءَ) مُشْرَبَةً صُفْرَةً، وَالْعَرَبُ تُشَبِّهُهَا بِبَيْضَةِ النَّعَامَةِ.
[50] {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الصَّافَّاتِ: 50] يَعْنِي أَهْلُ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَنْ حَالِهِ فِي الدُّنْيَا.
[51] {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ} [الصافات: 51] يَعْنِي مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} [الصافات: 51] فِي الدُّنْيَا يُنْكِرُ الْبَعْثَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ شَيْطَانًا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: كَانَ مِنَ الْإِنْسِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَا أَخَوَيْنِ. وَقَالَ الْبَاقُونَ: كَانَا شَرِيكَيْنِ أَحَدُهُمَا كَافِرٌ اسْمُهُ قَطْرُوسُ وَالْآخَرُ مُؤْمِنٌ اسْمُهُ يَهُوذَا، وَهُمَا اللَّذَانِ قَصَّ اللَّهُ تَعَالَى خَبَرَهُمَا فِي سُورَةِ الْكَهْفِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ} [الكهف: 32]
[قوله تعالى يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أَإِذَا مِتْنَا] وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ. . .
[52] {يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ} [الصافات: 52] بِالْبَعْثِ.
[53] {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] مَجْزِيُّونَ وَمُحَاسَبُونَ وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ.(6/794)
[54] {قَالَ} [الصافات: 54] اللَّهُ تَعَالَى لِأَهْلِ الْجَنَّةِ: {هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ} [الصافات: 54] إِلَى النَّارِ. وَقِيلَ: يَقُولُ الْمُؤْمِنُ لإخوانه أَهْلِ الْجَنَّةِ: هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إِلَى النَّارِ لِنَنْظُرَ كَيْفَ مَنْزِلَةُ أَخِي فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: أَنْتَ أعرف به منا.
[55] {فَاطَّلَعَ} [الصافات: 55] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ فِي الْجَنَّةِ كُوًى يَنْظُرُ أَهْلُهَا مِنْهَا إِلَى النَّارِ، فَاطَّلَعَ هَذَا الْمُؤْمِنُ، {فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الصَّافَّاتِ: 55] فَرَأَى قَرِينَهُ فِي وَسَطِ النَّارِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ وَسَطُ الشَّيْءِ سَوَاءً لاستواء الجوانب منه.
[56] {قَالَ} [الصافات: 56] لَهُ، {تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56] وَاللَّهِ لَقَدْ كِدْتَ أَنْ تُهْلِكَنِي، قَالَ مُقَاتِلٌ: وَاللَّهِ لَقَدْ كِدْتَ أَنْ تُغْوِيَنِي، وَمَنْ أَغْوَى إِنْسَانًا فَقَدْ أَهْلَكَهُ.
[57] {وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي} [الصافات: 57] رَحْمَتُهُ وَإِنْعَامُهُ عَلَيَّ بِالْإِسْلَامِ، {لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ} [الصافات: 57] مَعَكَ فِي النَّارِ. 58،
[59] {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ - إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى} [الصافات: 58 - 59] فِي الدُّنْيَا، {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الصافات: 59] قَالَ بَعْضُهُمْ: يَقُولُ هَذَا أَهْلُ الْجَنَّةِ لِلْمَلَائِكَةِ حِينَ يُذْبَحُ الْمَوْتُ: أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ؟ فَتَقُولُ لَهُمُ الملائكة: لا.
[60] فَيَقُولُونَ: {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات: 60] وَقِيلَ: إِنَّمَا يَقُولُونَهُ عَلَى جِهَةِ الْحَدِيثِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي أَنَّهُمْ لَا يَمُوتُونَ وَلَا يُعَذَّبُونَ. وَقِيلَ: يَقُولُهُ الْمُؤْمِنُ لِقَرِينِهِ عَلَى جِهَةِ التَّوْبِيخِ بِمَا كَانَ يُنْكِرُهُ.
[61] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61] أَيْ لِمِثْلِ هَذَا الْمَنْزِلِ وَلِمِثْلِ هَذَا النَّعِيمِ الَّذِي ذَكَرَهُ مِنْ قَوْلِهِ: (أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ) ، إلى (فليعمل العاملون) .
[62] {أَذَلِكَ} [الصافات: 62] أَيْ ذَلِكَ الَّذِي ذَكَرَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ، {خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} [الصافات: 62] الَّتِي هِيَ نُزُلُ أَهْلِ النَّارِ. والزقوم: شَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ مُرَّةٍ كَرِيهَةِ الطَّعْمِ، يُكْرَهُ أَهْلُ النَّارِ عَلَى تَنَاوُلِهَا، فَهُمْ يَتَزَقَّمُونَهُ عَلَى أَشَدِّ كَرَاهِيَةٍ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: تَزَقَّمَ الطَّعَامَ إِذَا تَنَاوَلَهُ عَلَى كُرْهٍ وَمَشَقَّةٍ.
[63] {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} [الصافات: 63] للكافرين، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: كَيْفَ يَكُونُ فِي النَّارِ شَجَرَةٌ وَالنَّارُ تَحْرِقُ الشجر؟ .
[64] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 64] قعر النار، وقال الْحَسَنُ: أَصْلُهَا فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ وَأَغْصَانُهَا تَرْتَفِعُ إِلَى دَرَكَاتِهَا.
[65] {طَلْعُهَا} [الصافات: 65] ثَمَرُهَا سُمِّيَ طَلْعًا لِطُلُوعِهِ، {كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} [الصافات: 65] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُمُ الشَّيَاطِينُ بِأَعْيَانِهِمْ شُبِّهَ بِهَا لِقُبْحِهَا، لِأَنَّ النَّاسَ إِذَا وَصَفُوا شَيْئًا بِغَايَةِ الْقُبْحِ قَالُوا: كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ- وَإِنْ كَانَتِ الشَّيَاطِينُ لَا تُرَى- لِأَنَّ قُبْحَ صُورَتِهَا مُتَصَوَّرٌ فِي النَّفْسِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْقُرَظِيِّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ. أَرَادَ بِالشَّيَاطِينِ الْحَيَّاتِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْحَيَّةَ الْقَبِيحَةَ الْمَنْظَرِ(6/795)
شَيْطَانًا. وَقِيلَ. هِيَ شَجَرَةٌ قَبِيحَةٌ مُرَّةٌ مُنْتِنَةٌ تَكُونُ فِي الْبَادِيَةِ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ رُءُوسَ الشَّيَاطِينِ.
[66] {فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} [الصافات: 66] والملء حشو الوعاء بما لَا يَحْتَمِلُ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ.
[67] {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا} [الصافات: 67] خلطا ومزاجا، {مِنْ حَمِيمٍ} [الصافات: 67] مِنْ مَاءٍ حَارٍّ شَدِيدِ الْحَرَارَةِ، يقال: إنهم إذا أكلوا الزقوم شربوا عَلَيْهِ الْحَمِيمَ فَيَشُوبُ الْحَمِيمُ فِي بطونهم الزقوم فيصير شوبا له.
[68] {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ} [الصافات: 68] بَعْدَ شُرْبِ الْحَمِيمِ، {لَإِلَى الْجَحِيمِ} [الصافات: 68] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُورَدُونَ الْحَمِيمَ لِشُرْبِهِ وهو خارج من الجحيم كما يورد الْإِبِلُ الْمَاءَ، ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى الْجَحِيمِ، دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرَّحْمَنِ: 44] وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ: (ثُمَّ إن منقلبهم لإلى الجحيم) . 69،
[70] {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا} [الصافات: 69] وَجَدُوا، {آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ - فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} [الصافات: 69 - 70] يُسْرِعُونَ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْمَلُونَ مِثْلَ أَعْمَالِهِمْ.
[71] {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 71] مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. 72،
[73] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ - فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 72 - 73] الْكَافِرِينَ أَيْ كَانَ عَاقِبَتُهُمُ الْعَذَابَ.
[74] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 74] الموحدين نجوا من العذاب.
[75] {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ} [الصافات: 75] دَعَا رَبَّهُ عَلَى قَوْمِهِ فَقَالَ: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [الْقَمَرِ: 10] {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} [الصافات: 75] نَحْنُ يَعْنِي أَجَبْنَا دُعَاءَهُ وَأَهْلَكْنَا قَوْمَهُ.
[76] {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 76] الْغَمِّ الْعَظِيمِ الَّذِي لَحِقَ قَوْمَهُ وهو الغرق.
[قوله تَعَالَى وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ وَتَرَكْنَا] عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ. . .
[77] {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصَّافَّاتِ: 77] وَأَرَادَ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ مِنْ نَسْلِ نُوحٍ، رَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا خَرَجَ نُوحٌ مِنَ السَّفِينَةِ مَاتَ مَنْ كَانَ مَعَهُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَلَدَهُ وَنِسَاءَهُمْ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: كَانَ وَلَدُ نُوحٍ ثلاث: سَامٌ وَحَامٌ ويَافِثُ، فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ وَفَارِسَ وَالرُّومِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ، وَيَافِثُ أَبُو التَّرْكِ وَالْخَزَرِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمَا هُنَالِكَ.
[78] {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} [الصافات: 78] أَيْ أَبْقَيْنَا لَهُ ثَنَاءً حَسَنًا وَذِكْرًا جَمِيلًا فِيمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
[79] {سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} [الصافات: 79] أَيْ سَلَامٌ عَلَيْهِ مِنَّا فِي الْعَالَمِينَ. وَقِيلَ: أَيُّ تَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخَرِينَ أَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
[80] {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 80] قَالَ مُقَاتِلٌ: جَزَاهُ اللَّهُ بِإِحْسَانِهِ الثَّنَاءَ الْحَسَنَ فِي الْعَالَمِينَ. 81،
[82] {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ - ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} [الصافات: 81 - 82] يَعْنِي الْكُفَّارَ. 83،
[84] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ} [الصافات: 83] أي من أهل دينه وملته وَسُنَّتِهِ، {لَإِبْرَاهِيمَ - إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 83 - 84] مُخْلَصٍ مِنَ الشِّرْكِ وَالشَّكِّ.
[85] {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 85] اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ.
[86] {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} [الصافات: 86] يَعْنِي أَتَأْفِكُونَ إِفْكًا وَهُوَ أَسْوَأُ الْكَذِبِ، وَتَعْبُدُونَ آلِهَةً سِوَى اللَّهِ.
[87] {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 87] إذا لَقَيْتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ أَنَّهُ يَصْنَعُ بِكُمْ. 88،
[89] {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ - فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 88 - 89] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ قَوْمُهُ يَتَعَاطَوْنَ عِلْمَ النُّجُومِ فَعَامَلَهُمْ مِنْ حَيْثُ كَانُوا لِئَلَّا يُنْكِرُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يُكَايِدَهُمْ فِي أَصْنَامِهِمْ لِيُلْزِمَهُمُ الْحُجَّةَ فِي أَنَّهَا غَيْرُ مَعْبُودَةٍ، وَكَانَ لَهُمْ مِنَ الْغَدِ عِيدٌ وَمَجْمَعٌ وَكَانُوا يدخلون على أصنامهم ويفرشون لهم الفراش، وَيَصْنَعُونَ بَيْنَ أَيْدِيهِمُ الطَّعَامَ قَبْلَ خروجهم إلى عيدهم، زعموا التبرك عَلَيْهِ فَإِذَا انْصَرَفُوا مِنْ عِيدِهِمْ أَكَلُوهُ، فَقَالُوا لِإِبْرَاهِيمَ: أَلَا(6/796)
تَخْرُجُ غَدًا مَعَنَا إِلَى عِيدِنَا، فَنَظَرَ إِلَى النُّجُومِ فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَطْعُونٌ، وَكَانُوا يَفِرُّونَ مِنَ الطَّاعُونِ فِرَارًا عَظِيمًا. قَالَ الْحَسَنُ: مَرِيضٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَجِعٌ. وَقَالَ الضَّحَاكُ: سَأَسْقَمُ.
[90] {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات: 90] إِلَى عِيدِهِمْ فَدَخَلَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى الْأَصْنَامِ فَكَسَرَهَا.
[91] كَمَا قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} [الصافات: 91] وَلَا يُقَالُ رَاغَ حَتَّى يَكُونَ صَاحِبُهُ مُخْفِيًا لِذَهَابِهِ وَمَجِيئِهِ، {فَقَالَ} [الصافات: 91] استهزاء بها. {أَلَا تَأْكُلُونَ} [الصافات: 91] يَعْنِي الطَّعَامَ الَّذِي بَيْنَ أَيْدِيكُمْ. 92،
[93] {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ - فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} [الصافات: 92 - 93] أَيْ كَانَ يَضْرِبُهُمْ بِيَدِهِ الْيُمْنَى لأنها أقوى الْعَمَلِ مِنَ الشِّمَالِ. وَقِيلَ: بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْقُوَّةِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ القسم أي بالقسم الَّذِي سَبَقَ مِنْهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} [الْأَنْبِيَاءِ: 57]
[94] {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ} [الصافات: 94] يعني إلى إبراهيم، {يَزِفُّونَ} [الصافات: 94] يُسْرِعُونَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ أُخْبِرُوا بِصَنِيعِ إِبْرَاهِيمَ بِآلِهَتِهِمْ فَأَسْرَعُوا إِلَيْهِ لِيَأْخُذُوهُ، وقرأ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ (يُزِفُّونَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقِيلَ بِضَمِّ الْيَاءِ: أَيْ يَحْمِلُونَ دَوَابَّهُمْ عَلَى الْجِدِّ وَالْإِسْرَاعِ.
[95] {قَالَ} [الصافات: 95] لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِ الْحِجَاجِ، {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 95] يَعْنِي مَا تَنْحِتُونَ بِأَيْدِيكُمْ.
[96] {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] بأيديكم من الأصنام.
[97] {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97] مُعْظَمِ النَّارِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: بَنَوْا لَهُ حَائِطًا مِنَ الْحَجَرِ طُولُهُ فِي السَّمَاءِ ثَلَاثُونَ ذِرَاعًا وَعَرْضُهُ عِشْرُونَ ذِرَاعًا، وَمَلَئُوهُ مِنَ الْحَطَبِ وأوقدوا فيه النار فطرحوه فيها.
[98] {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} [الصافات: 98] شَرًّا وَهُوَ أَنْ يَحْرُقُوهُ، {فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} [الصافات: 98] أَيْ الْمَقْهُورِينَ حَيْثُ سَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى إِبْرَاهِيمَ وَرَدَّ كَيْدَهُمْ.
[99] {وَقَالَ} [الصافات: 99] يَعْنِي إِبْرَاهِيمُ، {إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي} [الصافات: 99] أَيْ مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي، وَالْمَعْنَى: أَهْجُرُ دَارَ الْكُفْرِ وَأَذْهَبُ إِلَى مَرْضَاةِ رَبِّي، قَالَهُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ، كَمَا قَالَ: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي} [الْعَنْكَبُوتِ: 26] {سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] إِلَى حَيْثُ أَمَرَنِي بِالْمَصِيرِ إِلَيْهِ وَهُوَ الشَّامُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: فَلَمَّا قَدِمَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ سَأَلَ رَبَّهُ الْوَلَدَ.
[100] فَقَالَ: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 100] يَعْنِي هَبْ لِي وَلَدًا صَالِحًا مِنَ الصَّالِحِينَ.
[101] {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ} [الصافات: 101] قيل بغلام فِي صِغَرِهِ حَلِيمٌ فِي كِبَرِهِ، ففيه بشارة أنه نبي وَأَنَّهُ يَعِيشُ فَيَنْتَهِي فِي السِّنِّ حَتَّى يُوصَفَ بِالْحِلْمِ.
[102] {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 102] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: يَعْنِي الْمَشْيَ مَعَهُ إِلَى الْجَبَلِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: لَمَّا شَبَّ حَتَّى بَلَغَ سَعْيُهُ سَعْيَ إِبْرَاهِيمَ، وَالْمَعْنَى: بَلَغَ أَنْ يَتَصَرَّفَ مَعَهُ وَيُعِينَهُ فِي عَمَلِهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ(6/797)
قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: هُوَ الْعِبَادَةُ لِلَّهِ تَعَالَى، وَاخْتَلَفُوا فِي سِنِّهِ، قِيلَ: كَانَ ابْنَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: كَانَ ابْنَ سَبْعِ سنين. قوله تعالى: {قَالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 102] اختلف الْعُلَمَاءُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْغُلَامِ الَّذِي أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَبْحِهِ بَعْدَ اتِّفَاقِ أَهْلِ الْكِتَابَيْنِ عَلَى أَنَّهُ إِسْحَاقُ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ إِسْحَاقُ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مِنَ الصَّحَابَةِ عُمْرَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عباس. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ إِسْمَاعِيلُ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَكِلَا الْقَوْلَيْنِ يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الذَّبِيحَ إِسْحَاقُ احْتَجَّ مِنَ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ - فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: 101 - 102] أمر بذبح من بشر بِهِ، وَلَيْسَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّهُ بُشِّرَ بِوَلَدٍ سِوَى إِسْحَاقَ، كَمَا قَالَ فِي سُورَةِ هُودٍ: {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هُودِ: 71] وَمَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ إِسْمَاعِيلُ احْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْبِشَارَةَ بِإِسْحَاقَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قِصَّةِ الْمَذْبُوحِ فَقَالَ: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصَّافَّاتِ: 112] دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَذْبُوحَ غيره، {فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (تُرَى) بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ مَاذَا تُشِيرُ، وَإِنَّمَا أَمَرَهُ لِيَعْلَمَ صَبْرَهُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَزِيمَتَهُ عَلَى طَاعَتِهِ، وَقَرَأَ الْعَامَّةُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَالرَّاءِ إِلَّا أَبَا عَمْرٍو فَإِنَّهُ يُمِيلُ الرَّاءَ، قَالَ لَهُ ابْنُهُ: {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ} [الصافات: 102] وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَغَيْرُهُ: فَلَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِذَلِكَ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ خُذِ الْحَبْلَ وَالْمُدْيَةَ نَنْطَلِقْ إِلَى هَذَا الشَّعْبِ نَحْتَطِبُ، فَلَمَّا خَلَا إِبْرَاهِيمُ بِابْنِهِ فِي شِعْبِ ثَبِيرٍ أَخْبَرَهُ بِمَا أُمِرَ، {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: 102]
[قوله تَعَالَى فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ] أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا. . .
[103] {فَلَمَّا أَسْلَمَا} [الصافات: 103] انْقَادَا وَخَضَعَا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، قَالَ قَتَادَةُ: أَسْلَمَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَهُ وَأَسْلَمَ الِابْنُ نَفْسَهُ، {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] أَيْ صَرَعَهُ عَلَى الْأَرْضِ. قَالَ ابن عباس: أضجعه عَلَى الْأَرْضِ وَالْجَبْهَةُ بَيْنَ الْجَبِينَيْنِ.
[104، 105] {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ - قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} [الصافات: 104 - 105] تَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [الصافات: 105] والمعنى: إنا كما عفونا عن إبراهيم عند ذَبْحِ وَلَدِهِ نَجْزِي مَنْ أَحْسَنَ فِي طَاعَتِنَا، قَالَ مُقَاتِلٌ: جَزَاهُ اللَّهُ بِإِحْسَانِهِ فِي طَاعَتِهِ الْعَفْوَ عَنْ ذَبْحِ ابْنِهِ.
[106] {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ} [الصافات: 106] الاختبار الظَّاهِرُ حَيْثُ اخْتَبَرَهُ بِذَبْحِ ابْنِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْبَلَاءُ هَاهُنَا النِّعْمَةُ، وَهِيَ أَنْ فُدِيَ ابْنُهُ بِالْكَبْشِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا وَكَانَ قَدْ رَأَى الذَّبْحَ وَلَمْ يَذْبَحْ؟ قِيلَ: جَعَلَهُ مُصَدِّقًا لِأَنَّهُ قَدْ أَتَى بِمَا أَمْكَنَهُ، وَالْمَطْلُوبُ إِسْلَامُهُمَا لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وقد فعلا.
[107] قوله: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 107] فَنَظَرَ إِبْرَاهِيمُ فَإِذَا هُوَ بِجِبْرِيلَ وَمَعَهُ كَبْشٌ أَمْلَحُ أَقْرَنُ، فَقَالَ: هَذَا فِدَاءٌ لِابْنِكَ فَاذْبَحْهُ دُونَهُ، فَكَبَّرَ جِبْرِيلُ(6/798)
وكبر الكبش وكبر إبراهيم وَكَبَّرَ ابْنُهُ، فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ الْكَبْشَ فَأَتَى بِهِ الْمَنْحَرَ مِنْ مِنًى فذبحه، قَالَ مُجَاهِدٌ: سَمَّاهُ عَظِيمًا لِأَنَّهُ مُتَقَبَّلٌ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَظِيمٌ فِي الشَّخْصِ. وَقِيلَ: في الثواب.
[108] {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} [الصافات: 108] أَيْ تَرَكَنَا لَهُ فِي الْآخَرِينَ ثَنَاءً حَسَنًا.
[109- 112] {سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ - كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ - وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 109 - 112] فَمَنْ جَعَلَ الذَّبِيحَ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: بَشَّرَهُ بَعْدَ هَذِهِ الْقِصَّةِ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا جَزَاءً لِطَاعَتِهِ، وَمَنْ جَعَلَ الذَّبِيحَ إِسْحَاقَ قَالَ: بُشِّرَ إِبْرَاهِيمُ بِنُبُوَّةِ إِسْحَاقَ. رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ: بُشِّرَ بِهِ مَرَّتَيْنِ حِينَ وُلِدَ وَحِينَ نُبِّئَ.
[113] {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ} [الصافات: 113] يَعْنِي عَلَى إِبْرَاهِيمَ فِي أَوْلَادِهِ، {وَعَلَى إِسْحَاقَ} [الصافات: 113] يكون أَكْثَرِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ نَسْلِهِ، {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ} [الصافات: 113] أي مؤمن، {وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ} [الصافات: 113] أي كافر، {مُبِينٌ} [الصافات: 113] أي ظاهر الكفر.
[114] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} [الصافات: 114] أنعمنا عليهم بالنبوة.
[115] {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا} [الصافات: 115] بَنِي إِسْرَائِيلَ، {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} [الصافات: 115] أَيِ الْغَمِّ الْعَظِيمِ وَهُوَ الَّذِي كَانُوا فِيهِ مِنِ اسْتِعْبَادِ فِرْعَوْنَ إِيَّاهُمْ. وَقِيلَ: مِنَ الْغَرَقِ.
[116] {وَنَصَرْنَاهُمْ} [الصافات: 116] يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونَ وَقَوْمَهُمَا، {فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ} [الصافات: 116] عَلَى الْقِبْطِ.
[117] {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} [الصافات: 117] أَيْ الْمُسْتَنِيرَ وَهُوَ التَّوْرَاةُ.
[118- 122] {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ - وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ - سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ - إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} [الصافات: 118 - 122]
[123] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 123] رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: إِلْيَاسُ هُوَ إِدْرِيسُ. وَفِي مُصْحَفِهِ: وَإِنَّ إِدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنْ أَنْبِيَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ ابْنُ عَمِّ الْيَسَعَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: هُوَ إِلْيَاسُ بْنُ بِشْرِ بْنِ فِنْحَاصَ بْنِ الْعَيْزَارِ بْنِ هَارُونَ بْنِ عِمْرَانَ.
[124 , 125] {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ - أَتَدْعُونَ} [الصافات: 124 - 125] أتعبدون، {بَعْلًا} [الصافات: 125] وَهُوَ اسْمُ صَنَمٍ لَهُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ مَدِينَتُهُمْ بَعْلَبَكَّ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: الْبَعْلُ الرَّبُّ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ. {وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} [الصافات: 125] فلا تعبدونه.
[126] {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 126] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ (اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ) بِنَصْبِ الْهَاءِ وَالْبَاءَيْنِ عَلَى الْبَدَلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ برفعهن على الاستئناف.
[قوله تعالى فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ إِلَّا عِبَادَ] اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ. . .
[127] {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 127] فِي النَّارِ.
[128] {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 128] مِنْ قَوْمِهِ فَإِنَّهُمْ نَجَوْا مِنَ الْعَذَابِ.
[129، 130] {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ - سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} [الصافات: 129 - 130] قَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ (آلِ يا سين) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُشْبَعَةً وَكَسْرِ اللَّامِ مَقْطُوعَةً لِأَنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ مَفْصُولَةً، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ اللَّامِ مَوْصُولَةً، فَمَنْ قَرَأَ (آلِ يس) مَقْطُوعَةً قِيلَ: أَرَادَ آلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْقَوْلُ بِعِيدٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لَهُ ذِكْرٌ، وَقِيلَ: أَرَادَ إِلْيَاسَ، وَالْقِرَاءَةُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْوَصْلِ، وَاخْتَلَفُوا فِيهِ، فَقَدْ قِيلَ: إِلْيَاسِينَ لُغَةٌ فِي إِلْيَاسَ مِثْلَ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْمَاعِينَ وَمِيكَائِيلَ وَمِيكَائِينَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ جمع أراد إلياس وأصحابه وَأَتْبَاعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْأَشْعَرِينَ وَالْأَعْجَمِينَ بِالتَّخْفِيفِ، وَفِي حَرْفِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: سَلَامٌ عَلَى إِدْرَاسِيْنَ يَعْنِي إِدْرِيسَ وَأَتْبَاعَهُ، لِأَنَّهُ يَقْرَأُ: وَإِنَّ إِدْرِيسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
[131- 135] {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ - وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ - إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} [الصافات: 131 - 134](6/799)
{إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} [الصافات: 135] أَيْ الْبَاقِينَ فِي الْعَذَابِ.
[136] {ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ} [الصافات: 136] وَالتَّدْمِيرُ الْإِهْلَاكُ.
[137] {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ} [الصافات: 137] على آثارهم ومنازلهم، {مُصْبِحِينَ} [الصافات: 137] وقت الصباح.
[138] {وَبِاللَّيْلِ} [الصافات: 138] يُرِيدُ تَمُرُّونَ بِالنَّهَارِ وَبِاللَّيْلِ عَلَيْهِمْ إِذَا ذَهَبْتُمْ إِلَى أَسْفَارِكُمْ وَرَجَعْتُمْ، {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الصافات: 138] فتعتبرون.
[139] قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 139] أي مِنْ جُمْلَةِ رُسُلِ اللَّهِ.
[140] {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} [الصَّافَّاتِ: 140] يَعْنِي هَرَبَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَوَهْبٌ: كَانَ يُونُسُ وَعَدَ قَوْمَهُ الْعَذَابَ فَلَمَّا تأخر عنهم العذاب خرج كالمستور مِنْهُمْ، فَقَصَدَ الْبَحْرَ فَرَكِبَ السَّفِينَةَ، فَاحْتَبَسَتِ السَّفِينَةُ فَقَالَ الْمَلَّاحُونَ: هَاهُنَا عَبْدٌ آبِقٌ مِنْ سَيِّدِهِ، فَاقْتَرَعُوا فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونُسَ، فَاقْتَرَعُوا ثَلَاثًا فَوَقَعَتْ عَلَى يُونُسَ، فَقَالَ يُونُسُ: أَنَا الْآبِقُ، وَزَجَّ نَفْسَهُ في الْمَاءِ.
[141] فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَسَاهَمَ} [الصافات: 141] فَقَارَعَ وَالْمُسَاهَمَةُ إِلْقَاءُ السِّهَامِ عَلَى جِهَةِ الْقُرْعَةِ، {فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ} [الصافات: 141] أي المقروعين.
[142] {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ} [الصافات: 142] ابتلعه، {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الصافات: 142] آتٍ بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ.
[143] {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصَّافَّاتِ: 143] من الذاكرين الله قَبْلَ ذَلِكَ وَكَانَ كَثِيرَ الذَّكَرِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنَ الْمَصَلِّيْنَ. وَقَالَ وَهْبٌ: مِنَ الْعَابِدِينَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَتْ لَهُ صَلَاةٌ فِي بَطْنِ الْحُوتِ وَلَكِنَّهُ قَدَّمَ عَمَلًا صَالِحًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: شَكَرَ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ طَاعَتَهُ الْقَدِيمَةَ. وَقِيلَ: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ} [الصافات: 143] فِي بَطْنِ الْحُوتِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنِي قَوْلَهُ: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 87]
[144] {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 144] لَصَارَ بَطْنُ الْحُوتِ لَهُ قَبْرًا إلى يوم القيامة.
[145] {فَنَبَذْنَاهُ} [الصافات: 145] طرحناه، {بِالْعَرَاءِ} [الصافات: 145] يَعْنِي عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، قَالَ الْسُّدِّيُّ: بِالسَّاحِلِ، وَالْعَرَاءُ: الْأَرْضُ الْخَالِيَةُ عَنِ الشَّجَرِ وَالنَّبَاتِ. {وَهُوَ سَقِيمٌ} [الصافات: 145] عَلِيلٌ كَالْفَرْخِ الْمُمَعَّطِ، وَقِيلَ: كَانَ قَدْ بَلِيَ لَحْمُهُ وَرَقَّ عَظْمُهُ ولم يبق له قوة.
[146] {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ} [الصافات: 146] أَيْ لَهُ، وَقِيلَ: عِنْدَهُ، {شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} [الصافات: 146] يَعْنِي الْقَرْعَ عَلَى قَوْلِ جَمِيعِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: كُلُّ نَبْتٍ يَمْتَدُّ وَيَنْبَسِطُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ لَيْسَ لَهُ سَاقٌ وَلَا يَبْقَى عَلَى الشِّتَاءِ نَحْوَ الْقَرْعِ وَالْقِثَّاءِ وَالْبِطِّيخِ فَهُوَ يَقْطِينٌ، قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: فَكَانَ يُونُسُ يَسْتَظِلُّ بِالشَّجَرَةِ وَكَانَتْ وَعْلَةٌ تَخْتَلِفُ إِلَيْهِ فَيَشْرَبُ مِنْ لَبَنِهَا بُكْرَةً وَعَشِيَّةً حَتَّى اشْتَدَّ لَحْمُهُ وَنَبَتَ شعره وقوي، فَإِنْ قِيلَ: قَالَ هَاهُنَا: (فَنَبَذْنَاهُ بالعراء) ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ(6/800)
آخَرَ: {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} [الْقَلَمِ: 49] فهل ما يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُنْبَذْ، قِيلَ: لَوْلَا هُنَاكَ يَرْجِعُ إِلَى الذَّمِّ، مَعْنَاهُ: لَوْلَا نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ، وَلَكِنْ تَدَارَكَهُ النِّعْمَةُ فَنُبِذَ وَهُوَ غير مذموم.
[147] {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ} [الصافات: 147] قَالَ قَتَادَةُ: أَرْسَلَ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى مِنْ أَرْضِ الْمُوصِلِ قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهُ مَا أَصَابَهُ، وَقَوْلُهُ: (وَأَرْسَلْنَاهُ) أَيْ وَقَدْ أَرْسَلْنَاهُ، وَقِيلَ. كَانَ إِرْسَالُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بعد بَطْنِ الْحُوتِ إِلَيْهِمْ، وَقِيلَ: إِلَى قوم آخرين. {أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] قال مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ بَلْ يَزِيدُونَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: (أَوْ) هَاهُنَا عَلَى أصلها، ومعناه أو يزيدون على تدبركم وَظَنِّكُمْ، كَالرَّجُلِ يَرَى قَوْمًا فَيَقُولُ هَؤُلَاءِ أَلْفٌ أَوْ يَزِيدُونَ فَالشَّكُّ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَخْلُوقِينَ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ وَيَزِيدُونَ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَبْلَغِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: «كَانُوا عِشْرِينَ أَلْفًا» ، وَرَوَاهُ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (1) وَقَالَ الْحَسَنُ: بِضْعًا وَثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: سبعين ألفا.
[148] {فَآمَنُوا} [الصافات: 148] يَعْنِي الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ يُونُسُ بَعْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ، {فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} [الصافات: 148] أي حين انقضاء آجالهم. وتقدم قبل ذلك في سورة يونس آية (98) .
[149] قوله تعالى: {فَاسْتَفْتِهِمْ} [الصافات: 149] فَاسْأَلْ يَا مُحَمَّدُ أَهْلَ مَكَّةَ وَهُوَ سُؤَالُ تَوْبِيخٍ، {أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصافات: 149] وَذَلِكَ أَنْ جُهَيْنَةَ وَبَنِي سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الدَّارِ زَعَمُوا أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، تَعَالَى اللَّهُ عما يقول الظالمون علوا كبيرا، يَقُولُ: جَعَلُوا لِلَّهِ الْبَنَاتَ وَلِأَنْفُسِهِمِ الْبَنِينَ.
[150] {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا} [الصافات: 150] مَعْنَاهُ: أَخَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا، {وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات: 150] حَاضِرُونَ خَلْقَنَا إِيَّاهُمْ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزُّخْرُفِ: 19]
[151، 152] {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ} [الصافات: 151] مِنْ كَذِبِهِمْ، {لَيَقُولُونَ - وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الصافات: 151 - 152]
[153] {أَصْطَفَى} [الصافات: 153] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (لَكَاذِبُونَ) ، (اصْطَفَى) مَوْصُولًا عَلَى الْخَبَرِ عَنْ قَوْلِ المشركين، وعند الوقف يبتديان: اصْطَفَى بِكَسْرِ الْأَلِفِ، وَقِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِقَطْعِ الْأَلِفِ لِأَنَّهَا أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى أَلِفِ الْوَصْلِ، فَحُذِفَتْ أَلِفُ الْوَصْلِ وَبَقِيَتْ أَلِفُ الِاسْتِفْهَامِ مفتوحة مقطوعة، مثل أستكبرت ونحوها، {الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ} [الصافات: 153]
[قوله تعالى مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ.] . .
[154] {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} [الصافات: 154] لِلَّهِ بِالْبَنَاتِ وَلَكُمْ بِالْبَنِينَ.
[155] {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الصافات: 155] أَفَلَا تَتَّعِظُونَ.
[156] {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} [الصافات: 156] بُرْهَانٌ بَيِّنٌ عَلَى أَنَّ لِلَّهِ ولدا.
[157] {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ} [الصافات: 157] الَّذِي لَكَمَ فِيهِ حُجَّةٌ، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 157] فِي قَوْلِكُمْ.
[158] {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} [الصافات: 158] قال مجاهد وقتادة: وأراد بالجنة الملائكة سموا جنة لاجتنابهم عَنِ الْأَبْصَارِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَيٍّ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُقَالُ لَهُمُ الْجِنُّ، وَمِنْهُمْ إِبْلِيسُ، قَالُوا: هُمْ بَنَاتُ اللَّهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: قَالُوا -لَعَنَهُمُ اللَّهُ-: بَلْ تَزَوَّجَ مِنَ الْجِنِّ فَخَرَجَ مِنْهَا الْمَلَائِكَةُ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، وَقَدْ كَانَ زَعَمَ بَعْضُ قُرَيْشٍ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بنات اللَّهُ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ: فَمَنْ أُمَّهَاتُهُمْ؟ قَالُوا: سَرَوَاتُ الْجِنِّ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَى النَّسَبِ أَنَّهُمْ أَشْرَكُوا الشَّيَاطِينَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ، {وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ} [الصافات: 158] يَعْنِي قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ، {لَمُحْضَرُونَ} [الصافات: 158] فِي النَّارِ ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَمَّا قَالُوا فَقَالَ:
[159، 160] {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ - إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 159 - 160] هذا استثناء من المحضرين يعني أنهم لا يحضرون.
_________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير 9 / 97 وقال: (حديث غريب) والطبري 23 / 104.(6/801)
[161] قوله عز وجل: {فَإِنَّكُمْ} [الصافات: 161] يَقُولُ لِأَهْلِ مَكَّةَ، {وَمَا تَعْبُدُونَ} [الصافات: 161] مِنَ الْأَصْنَامِ.
[162] {مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ} [الصافات: 162] على ما تعبدون، {بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] بِمُضِلِّينَ أَحَدًا.
[163] {إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} [الصافات: 163] إِلَّا مَنْ قَدَّرَ اللَّهُ أَنَّهُ سَيَدْخُلُ النَّارَ أَيْ سَبَقَ لَهُ فِي عِلْمِ اللَّهِ الشَّقَاوَةُ.
[164] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} [الصافات: 164] أَيْ مَا مِنَّا مَلَكٌ إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ فِي السَّمَاوَاتِ يَعْبُدُ اللَّهَ فِيهِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فِي السَّمَاوَاتِ مَوْضِعُ شِبْرٍ إِلَّا وَعَلَيْهِ مَلَكٌ يُصَلِّي أو يسبح.
[165] {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} [الصافات: 165] قَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ صَفُّوا أَقْدَامَهُمْ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: صُفُوفُ الْمَلَائِكَةِ فِي السَّمَاءِ لِلْعِبَادَةِ كَصُفُوفِ النَّاسِ فِي الْأَرْضِ.
[166] {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} [الصافات: 166] أَيْ الْمُصَلُّونَ الْمُنَزِّهُونَ اللَّهَ عَنِ السُّوءِ، يُخْبِرُ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ اللَّهَ بِالصَّلَاةِ وَالتَّسْبِيحِ وَأَنَّهُمْ لَيْسُوا بِمَعْبُودِينَ، كَمَا زَعَمَتِ الْكُفَّارُ، ثُمَّ أَعَادَ الْكَلَامَ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ:
[167] {وَإِنْ كَانُوا} [الصافات: 167] أي وَقَدْ كَانُوا يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، {لَيَقُولُونَ} [الصافات: 167] لَامُ التَّأْكِيدِ.
[168] {لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ} [الصافات: 168] أَيْ كِتَابًا مِثْلَ كِتَابِ الْأَوَّلِينَ.
[169، 170] {لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ - فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الصافات: 169 - 170] أَيْ فَلَمَّا أَتَاهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابُ كفروا به، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الصافات: 170] هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ.
[171] {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 171] وَهِيَ قَوْلُهُ: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} [الْمُجَادَلَةِ: 21]
[172، 173] {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ - وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 172 - 173] أَيْ حِزْبُ اللَّهِ لَهُمُ الْغَلَبَةُ بِالْحُجَّةِ وَالنُّصْرَةِ فِي الْعَاقِبَةِ.
[174] {فَتَوَلَّ} [الصافات: 174] أعرض، {عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} [الصافات: 174] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمَوْتَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ السدي: حتى يأمرك بِالْقِتَالِ. وَقِيلَ: إِلَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ اللَّهِ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ.
[175] {وَأَبْصِرْهُمْ} [الصافات: 175] إِذَا نَزَلَ بِهِمُ الْعَذَابُ، {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 175] ذَلِكَ. فَقَالُوا مَتَى هَذَا الْعَذَابُ؟
[176، 177] فقال اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ - فَإِذَا نَزَلَ} [الصافات: 176 - 177] يعني العذاب، {بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات: 177] قَالَ مُقَاتِلُ: بِحَضْرَتِهِمْ. وَقِيلَ: بِفِنَائِهِمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تَكْتَفِي بِذِكْرِ السَّاحَةِ عَنِ الْقَوْمِ، {فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ} [الصافات: 177] فَبِئْسَ صَبَاحُ الْكَافِرِينَ الَّذِينَ أُنْذِرُوا بالعذاب، ثُمَّ كَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا تَأْكِيدًا لِوَعِيدِ الْعَذَابِ فَقَالَ:
[178، 179] {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ - وَأَبْصِرْ} [الصافات: 178 - 179] الْعَذَابَ إِذَا نَزَلَ بِهِمْ، {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} [الصافات: 179] ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ:(6/802)
[180] فَقَالَ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ} [الصافات: 180] الغلبة والقوة، {عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] مِنِ اتِّخَاذِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ.
[181] {وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181] الَّذِينَ بَلَّغُوا عَنِ اللَّهِ التَّوْحِيدَ وَالشَّرَائِعَ.
[182] {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 182] عَلَى هَلَاكِ الْأَعْدَاءِ وَنُصْرَةِ الْأَنْبِيَاءِ عليهم السلام.
[سورة ص]
[قوله تعالى ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا] فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ. . .
(38) سورة ص [1] {ص} [ص: 1] قِيلَ: هُوَ قَسَمٌ، وَقِيلَ: هو اسم للسورة كَمَا ذَكَرْنَا فِي سَائِرِ حُرُوفِ التَّهَجِّي فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ: ص مِفْتَاحُ اسْمِ الصَّمَدِ وَصَادِقِ الْوَعْدِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَاهُ صَدَقَ اللَّهُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: صَدَقَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} [ص: 1] أي ذي البيان، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذِي الشَّرَفِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزُّخْرُفِ: 44] وَهُوَ قَسَمٌ، وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقِسْمِ، قِيلَ جَوَابُهُ قَدْ تَقَدَّمَ، وَهُوَ قَوْلُهُ {ص} [ص: 1] أقسم الله بِالْقُرْآنِ أَنَّ مُحَمَّدًا قَدْ صَدَقَ. وقال الفراء: ص معناه وجب وحق فهي جواب قوله: {وَالْقُرْآنِ} [ص: 1] كَمَا تَقُولُ: نَزَلَ وَاللَّهِ، وَقِيلَ. جَوَابُ الْقِسْمِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ مَا الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُ الْكُفَّارُ، وَدَلَّ عَلَى هَذَا الْمَحْذُوفِ.
[2] قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 2] قَالَ قَتَادَةُ: مَوْضِعُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 2] كَمَا قَالَ {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ - بَلْ عَجِبُوا} [ق: 1 - 2] وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا {فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} [ص: 2] وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: جَوَابُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ} [ص: 14] كَقَوْلِهِ: {تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا} [الشُّعَرَاءِ: 97] وَقَوْلِهِ: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1]- {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ} [الطَّارِقِ: 4] وَقِيلَ: جَوَابُهُ قَوْلُهُ: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا} [ص: 54] وَقَالَ الْكِسَائِيُّ: قَوْلُهُ: {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64] وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ تَخَلَّلَ بين هذا القسم وهذا الْجَوَابِ أَقَاصِيصُ وَأَخْبَارٌ كَثِيرَةٌ، وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: (بَلْ) لِتَدَارُكِ كَلَامٍ وَنَفْيِ آخَرَ، وَمَجَازُ الْآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ أَقْسَمَ بِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ أَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ فِي عِزَّةِ حَمِيَّةٍ وجاهلية وتكبر عن الحق وشقاق خلاف وَعَدَاوَةٍ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالَ مُجَاهِدُ: {فِي عِزَّةٍ} [ص: 2] معازِّين (1) .
[3] {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} [ص: 3] يَعْنِي مِنَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ، {فَنَادَوْا} [ص: 3] استغاثوا عند نزول العذاب وهول النقمة، {وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ} [ص: 3] أي ليس حين نزول العذاب بهم حين فِرَارَ، وَالْمَنَاصُ مَصْدَرُ نَاصَ يَنُوصُ، هو الفرار وَالتَّأَخُّرُ، يُقَالُ: نَاصَ يَنُوصُ إِذَا تَأَخَّرَ وَبَاصَ يَبُوصُ إِذَا تَقَدَّمَ، وَلَاتَ بِمَعْنَى لَيْسَ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ، وَقَالَ النَّحْوِيُّونَ: هِيَ لَا، زِيدَتْ فِيهَا التَّاءُ، كَقَوْلِهِمْ: رُبَّ وَرُبَّتْ وَثَمَّ وَثَمَّتْ، وَأَصْلُهَا هَاءٌ وُصِلَتْ بِلَا، فَقَالُوا: لَاهٍ، كَمَا قَالُوا ثَمَّةَ فَجَعَلُوهَا فِي الْوَصْلِ تاء والوقف عليه بِالتَّاءِ عِنْدَ الزَّجَّاجِ، وَعِنْدَ الْكِسَائِيِّ بالهاء لاه، وذهب إِلَى أَنَّ التَّاءَ زِيدَتْ فِي حِينَ وَالْوَقْفُ عَلَى وَلَا، ثُمَّ يبتدئ: تحين، وهو اختيار أبي عبيد، وَقَالَ: كَذَلِكَ وُجِدَتْ فِي مُصْحَفِ عثمان.
[4] {وَعَجِبُوا} [ص: 4] يَعْنِي الْكُفَّارَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَوْلِهِ. {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 2] {أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} [ص: 4] يَعْنِي رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يُنْذِرُهُمْ، {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} [ص: 4]
[5] {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] كَيْفَ يَسَعُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] أَيْ عَجِيبٌ، وَالْعَجَبُ وَالْعُجَابُ وَاحِدٌ، كَقَوْلِهِمْ رَجُلٌ كَرِيمٌ وَكُرَامٌ وَكَبِيرٌ وَكُبَارٌ وَطَوِيلٌ وَطُوَالٌ وَعَرِيضٌ وَعُرَاضٌ.
_________
(1) في نسخة أخرى: (متعازِّين) .(6/803)
[6] {وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} [ص: 6] أَيِ انْطَلَقُوا مِنْ مَجْلِسِهِمُ الَّذِي كانوا فيه ويقول بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ أَيْ اثْبُتُوا عَلَى عِبَادَةِ آلِهَتِكُمْ، {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} [ص: 6] أي الأمر يُرَادُ بِنَا، وَذَلِكَ أَنَّ عُمَرَ لَمَّا أَسْلَمَ وَحَصَلَ لِلْمُسْلِمِينَ قُوَّةٌ لمكانه قَالُوا: إِنَّ هَذَا الَّذِي نَرَاهُ من زيادة أصحاب محمد لَشَيْءٌ يُرَادُ بِنَا، وَقِيلَ: يُرَادُ بِأَهْلِ الْأَرْضِ، وَقِيلَ: يُرَادُ بِمُحَمَّدٍ أَنْ يُمَلَّكَ عَلَيْنَا.
[7] {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا} [ص: 7] أَيْ بِهَذَا الَّذِي يَقُولُهُ مُحَمَّدٌ مِنَ التَّوْحِيدِ، {فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ} [ص: 7] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: يعنون في النَّصْرَانِيَّةَ لِأَنَّهَا آخِرُ الْمَلَلِ وَهُمْ لَا يُوَحِّدُونَ، بَلْ يَقُولُونَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يَعْنُونَ ملة قريش ودينهما الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، {إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ} [ص: 7] كَذِبٌ وَافْتِعَالٌ.
[8] {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ} [ص: 8] القرآن، {مِنْ بَيْنِنَا} [ص: 8] وَلَيْسَ بِأَكْبَرِنَا وَلَا أَشْرَفِنَا، يَقُولُهُ أَهْلُ مَكَّةَ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} [ص: 8] أَيْ وَحْيِي وَمَا أَنْزَلْتُ، {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8] أي لم يذوقوا عذابي، وَلَوْ ذَاقُوهُ لَمَا قَالُوا هَذَا القول.
[9] {أَمْ عِنْدَهُمْ} [ص: 9] أعندهم، {خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [ص: 9] يعني نعمة ربك مَفَاتِيحَ النُّبُوَّةِ يُعْطُونَهَا مَنْ شَاءُوا، ونظيره {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزُّخْرُفُ: 32] أَيْ نُبُوَّةَ رَبِّكَ، {الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ} [ص: 9] الْعَزِيزِ فِي مُلْكِهِ الْوَهَّابِ وَهَبَ النُّبُوَّةَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[10] {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [ص: 10] أَيْ لَيْسَ لَهُمْ ذَلِكَ، {فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ} [ص: 10] أَيْ إِنِ ادَّعَوْا شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ فَلْيَصْعَدُوا فِي الْأَسْبَابِ الَّتِي توصلهم إلى السماء فليأتوا مِنْهَا بِالْوَحْيِ إِلَى مَنْ يَخْتَارُونَ قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: أَرَادَ بِالْأَسْبَابِ أَبْوَابَ السَّمَاءِ وَطُرُقَهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، وَكُلُّ مَا يُوَصِّلُكَ إِلَى شَيْءٍ مِنْ بَابٍ أَوْ طَرِيقٍ فَهُوَ سَبَبُهُ، وَهَذَا أَمْرُ تَوْبِيخٍ وَتَعْجِيزٍ.
[11] {جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ} [ص: 11] أَيْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَقُولُونَ هَذَا القول جند ما هنالك، و (ما) صلة، {مَهْزُومٌ} [ص: 11] مغلوب، {مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص: 11] أَيْ مِنْ جُمْلَةِ الْأَجْنَادِ يَعْنِي قُرَيْشًا، قَالَ قَتَادَةُ: أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَنَّهُ سَيَهْزِمُ جند المشركين، وقال سيهزم الجمع ويولون الدبر، فجاء تأويلها يوم بدر، وهنالك إِشَارَةٌ إِلَى بَدْرٍ وَمَصَارِعِهِمْ، {مِنَ الْأَحْزَابِ} [ص: 11] أَيْ: مِنْ جُمْلَةِ الْأَحْزَابِ، أَيْ: هُمْ مِنَ الْقُرُونِ الْمَاضِيَةِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا وَتَجَمَّعُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِالتَّكْذِيبِ، فَقُهِرُوا وَأُهْلِكُوا.
[12] ثُمَّ قَالَ مُعَزِّيًا لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ} [ص: 12] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: ذُو الْبِنَاءِ الْمُحْكَمِ، وَقِيلَ: أَرَادَ ذُو الْمُلْكِ الشَّدِيدِ الثَّابِتِ، وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: تَقُولُ الْعَرَبُ هُمْ فِي(6/804)
عِزٍّ ثَابِتِ الْأَوْتَادِ، يُرِيدُونَ أَنَّهُ دائم شديد، وأصل هَذَا أَنَّ بُيُوتَهُمْ كَانَتْ تُثَبَّتُ بِالْأَوْتَادِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذُو الْقُوَّةِ وَالْبَطْشِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ: ذُو الْجُنُودِ وَالْجُمُوعِ الْكَثِيرَةِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يُقَوُّونَ أَمْرَهُ، وَيَشُدُّونَ مُلْكَهُ، كَمَا يُقَوِّي الْوَتَدُ الشَّيْءَ، وَسُمِّيَتِ الْأَجْنَادُ أَوْتَادًا لِكَثْرَةِ الْمَضَارِبِ الَّتِي كَانُوا يَضْرِبُونَهَا وَيُوَتِّدُونَهَا فِي أَسْفَارِهِمْ، وَهُوَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: (الْأَوْتَادُ) جَمْعُ الْوَتَدِ وَكَانَتْ لَهُ أَوْتَادٌ يُعَذِّبُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَكَانَ إِذَا غَضِبَ عَلَى أَحَدٍ مَدَّهُ مُسْتَلْقِيًا بَيْنَ أربعة أوتاد يشد كُلَّ يَدٍ وَرِجْلٍ مِنْهُ إِلَى سَارِيَةٍ وَيَتْرُكُهُ كَذَلِكَ فِي الْهَوَاءِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى يَمُوتَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ يَمُدُّ الرَّجُلَ مُسْتَلْقِيًا عَلَى الأرض ثم يَشُدُّ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَرَأْسَهُ عَلَى الْأَرْضِ بِالْأَوْتَادِ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: كَانَ يَمُدُّ الرَّجُلَ وَيَشُدُّهُ بِالْأَوْتَادِ وَيُرْسِلُ عَلَيْهِ الْعَقَارِبَ وَالْحَيَّاتِ (1) . وَقَالَ قَتَادَةُ وَعَطَاءٌ: كَانَتْ لَهُ أَوْتَادٌ وَأَرْسَانٌ وَمَلَاعِبُ يُلْعَبُ عَلَيْهَا بَيْنَ يَدَيْهِ.
[13] {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ} [ص: 13] الذي تَحَزَّبُوا عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، فَأَعْلَمَ أَنَّ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ حِزْبٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الأحزاب.
[14] {إِنْ كُلٌّ} [ص: 14] مَا كُلٌّ، {إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ} [ص: 14] وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَنَزَلَ بِهِمْ عَذَابِي.
[15] {وَمَا يَنْظُرُ} [ص: 15] ينتظر، {هَؤُلَاءِ} [ص: 15] يَعْنِي: كُفَّارَ مَكَّةَ، {إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} [ص: 15] وَهِيَ نَفْخَةُ الصُّورِ، {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص: 15] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (فُوَاقٍ) بِضَمِّ الْفَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا وَهُمَا لُغَتَانِ، فَالْفَتْحُ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَالضَّمُّ لُغَةُ تَمِيمٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: مِنْ رُجُوعٍ، أَيْ: مَا يُرَدُّ ذَلِكَ الصَّوْتُ فَيَكُونَ لَهُ رُجُوعٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَظْرَةٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَثْنَوِيَّةٌ، أَيْ صَرْفٌ وَرَدٌّ، وَالْمَعْنَى أَنَّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ الَّتِي هِيَ مِيعَادُ عَذَابِهِمْ إِذَا جَاءَتْ لَمْ تُرَدَّ وَلَمْ تُصْرَفْ، وَفَرَّقَ بَعْضُهُمْ بَيْنَ الْفَتْحِ وَالضَّمِّ، فَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الْفَتْحُ بِمَعْنَى الرَّاحَةِ وَالْإِفَاقَةِ، كَالْجَوَابِ مِنَ الْإِجَابَةِ، وذهبا بِهَا إِلَى إِفَاقَةِ الْمَرِيضِ مَنْ عِلَّتِهِ، وَالْفُوَاقُ بِالضَّمِّ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ وَهُوَ أَنْ تُحْلَبَ النَّاقَةُ ثُمَّ تُتْرَكَ سَاعَةً حَتَّى يَجْتَمِعَ اللَّبَنُ فَمَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ فُوَاقٌ، أَيْ أَنَّ الْعَذَابَ لَا يُمْهِلُهُمْ بِذَلِكَ الْقَدْرِ، وَقِيلَ: هَمَا أَيْضًا مُسْتَعَارَتَانِ مِنَ الرُّجُوعِ، لِأَنَّ اللَّبَنَ يَعُودُ إِلَى الضِّرْعِ بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ، وَإِفَاقَةُ الْمَرِيضِ رُجُوعُهُ إِلَى الصِّحَّةِ.
[16] {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 16] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابن عباس: يعني كتابنا، والقط الصَّحِيفَةُ الَّتِي أَحْصَتْ كُلَّ شَيْءٍ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَمَّا نَزَلَتْ فِي الْحَاقَّةِ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الْحَاقَّةُ: 19] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الْحَاقَّةُ: 25] قَالُوا اسْتِهْزَاءً: عَجِّلْ لَنَا كِتَابَنَا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَعْنُونَ حَظَّنَا وَنَصِيبَنَا مِنَ الْجَنَّةِ الَّتِي تَقُولُ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي عُقُوبَتَنَا وَنَصِيبَنَا مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ عطاء: قال النضر بن الحارث، هو قولهم: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حجارة من السماء. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: قِطَّنَا حِسَابَنَا، وَيُقَالُ لِكِتَابِ الْحِسَابِ قِطٌّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْكِسَائِيُّ: الْقِطُّ الْكِتَابُ بالجوائز.
[قوله تَعَالَى اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ] ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ. . .
[17] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ص: 17] أَيْ عَلَى مَا يَقُولُهُ الْكُفَّارُ مِنْ تَكْذِيبِكَ، {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الْأَيْدِ} [ص: 17] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيِ الْقُوَّةِ في العبادة، وَقِيلَ: ذُو الْقُوَّةِ فِي الْمُلْكِ. {إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 17] رَجَّاعٌ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالتَّوْبَةِ عَنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُطِيعٌ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُسَبِّحٌ بِلُغَةِ الْحَبَشِ.
[18] {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ} [ص: 18] كَمَا قَالَ: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُدَ الْجِبَالَ} [الأنبياء: 79] {يُسَبِّحْنَ} [ص: 18] بتسبيحه،
_________
(1) سيأتي الكلام على ذلك في سورة الفجر آية (10) .(6/805)
{بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ} [ص: 18] قَالَ الْكَلْبِيُّ: غُدْوَةً وَعَشِيَّةً وَالْإِشْرَاقُ هُوَ أَنْ تُشْرِقَ الشَّمْسُ وَيَتَنَاهَى ضوؤها. وَفَسَّرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِصَلَاةِ الضُّحَى.
[19] قوله عز وجل: {وَالطَّيْرَ} [ص: 19] أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ الطَّيْرَ، {مَحْشُورَةً} [ص: 19] مَجْمُوعَةً إِلَيْهِ تُسَبِّحُ مَعَهُ، {كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} [ص: 19] مُطِيعٌ رَجَّاعٌ إِلَى طَاعَتِهِ بِالتَّسْبِيحِ، وَقِيلَ: أَوَّابٌ مَعَهُ أَيْ مُسَبِّحٌ.
[20] {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} [ص: 20] أَيْ قَوَّيْنَاهُ بِالْحَرَسِ وَالْجُنُودِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ أَشَدَّ مُلُوكِ الْأَرْضِ سُلْطَانًا كَانَ يَحْرُسُ مِحْرَابَهُ كُلَّ لَيْلَةٍ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ أَلْفَ رجل {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} [ص: 20] يَعْنِي النُّبُوَّةَ وَالْإِصَابَةَ فِي الْأُمُورِ، {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} [ص: 20] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَانَ الْكَلَامِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: عُلِّمَ الْحُكْمَ وَالتَّبَصُّرَ فِي الْقَضَاءِ. وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: هُوَ أَنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ، لِأَنَّ كَلَامَ الْخُصُومِ يَنْقَطِعُ وَيَنْفَصِلُ بِهِ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: فَصْلُ الْخِطَابِ الشُّهُودُ وَالْأَيْمَانُ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ. وَرُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ: أَنَّ فَصْلَ الْخِطَابِ هُوَ قَوْلُ الْإِنْسَانِ بَعْدَ حَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ أَمَّا بَعْدُ، إِذَا أَرَادَ الشُّرُوعَ فِي كَلَامٍ آخَرَ، وَأَوَّلُ مَنْ قَالَهُ دَاوُدُ عليه السلام.
[21] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] فَمَا شَعَرَ وَهُوَ يُصَلِّي إِلَّا وَهُمَا بَيْنَ يَدَيْهِ جَالِسَيْنِ، يُقَالُ: كَانَا جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عز وحل: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ} [ص: 21] خَبَرُ الْخَصْمِ، {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] صَعَدُوا وَعَلَوْا، يُقَالُ: تَسَوَّرْتُ الْحَائِطَ وَالسُّورَ إِذَا عَلَوْتَهُ، وَإِنَّمَا جَمَعَ الْفِعْلَ وَهُمَا اثْنَانِ لِأَنَّ الْخَصْمَ اسْمٌ يَصْلُحُ لِلْوَاحِدِ وَالِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ وَالْمُؤَنَّثِ، وَمَعْنَى الْجَمْعِ فِي الِاثْنَيْنِ مَوْجُودٌ، لِأَنَّ مَعْنَى الْجَمْعِ ضَمُّ شَيْءٍ إِلَى شَيْءٍ هَذَا كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التَّحْرِيمُ: 4]
[22] {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} [ص: 22] خَافَ مِنْهُمَا حِينَ هَجَمَا عَلَيْهِ فِي مِحْرَابِهِ بِغَيْرِ إِذْنِهِ، فَقَالَ: مَا أَدْخَلَكُمَا عَلَيَّ، {قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ} [ص: 22] أَيْ نَحْنُ خَصْمَانِ {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] جِئْنَاكَ لِتَقْضِيَ بَيْنَنَا، فَإِنْ قِيلَ: كيف قال: {بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 22] وَهُمَا مَلَكَانِ لَا يَبْغِيَانِ؟ قِيلَ: معناه رأيت خَصْمَيْنِ بَغَى أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَهَذَا مِنْ مَعَارِيضِ الْكَلَامِ لَا عَلَى تَحْقِيقِ الْبَغْيِ مِنْ أَحَدِهِمَا. {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ} [ص: 22] أَيْ لَا تَجُرْ، يُقَالُ: شَطَّ الرَّجُلُ شَطَطًا وَأَشَطَّ إِشْطَاطًا إِذَا جَارَ فِي حُكْمِهِ، وَمَعْنَاهُ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ، وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنْ شَطَّتِ الدَّارُ وَأَشَطَّتْ إِذَا بَعُدَتْ. {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} [ص: 22] أَرْشِدْنَا إِلَى طَرِيقِ الصَّوَابِ وَالْعَدْلِ، فَقَالَ دَاوُدُ لَهُمَا: تَكَلَّمَا.
[23] فَقَالَ أحدهما: {إِنَّ هَذَا أَخِي} [ص: 23] أَيْ عَلَى دِينِي وَطَرِيقَتِي، {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً} [ص: 23] يَعْنِي امْرَأَةً، {وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} [ص: 23] أَيِ امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ، وَالْعَرَبُ تُكَنِّي بالنعجة من الْمَرْأَةِ، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: هَذَا تَعْرِيضٌ لِلتَّنْبِيهِ وَالتَّفْهِيمِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نِعَاجٌ وَلَا بَغْيٌ فَهُوَ كَقَوْلِهِمْ: ضَرَبَ زَيْدٌ عَمْرًا أَوِ اشْتَرَى بَكْرٌ دَارًا، وَلَا ضَرْبَ هُنَالِكَ وَلَا شِرَاءَ {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} [ص: 23] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَعْطِنِيهَا. قَالَ مُجَاهِدٌ: انْزِلْ لِي عَنْهَا. وَحَقِيقَتُهُ ضُمَّهَا إِلَيَّ فَاجْعَلْنِي كَافِلَهَا، وَهُوَ الَّذِي يَعُولُهَا وَيُنْفِقُ عَلَيْهَا وَالْمَعْنَى: طلقها لأتزوجها، {وَعَزَّنِي} [ص: 23] وغلبني، {فِي الْخِطَابِ} [ص: 23] أَيْ فِي الْقَوْلِ. وَقِيلَ: قَهَرَنِي لقوة ملكه. وقال الضَّحَّاكُ: يَقُولُ إِنْ تَكَلَّمَ كَانَ أَفْصَحَ مِنِّي وَإِنْ حَارَبَ كَانَ أَبْطَشَ مِنِّي، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْغَلَبَةَ كَانَتْ لَهُ لِضَعْفِي فِي يَدِهِ، وَإِنْ كَانَ الْحَقُّ مَعِي وَهَذَا كُلُّهُ تَمْثِيلٌ لِأَمْرِ دَاوُدَ مَعَ أُورِيَّا زَوْجِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَزَوَّجَهَا دَاوُدُ حَيْثُ كَانَ لِدَاوُدَ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ امْرَأَةً وَلِأُورِيَّا امْرَأَةٌ وَاحِدَةٌ فَضَمَّهَا إِلَى نِسَائِهِ.
[24] {قَالَ} [ص: 24] أي قَالَ دَاوُدُ، {لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} [ص: 24](6/806)
أَيْ بِسُؤَالِهِ نَعْجَتَكَ لِيَضُمَّهَا إِلَى نِعَاجِهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ وَلَمْ يَكُنْ سَمِعَ قَوْلَ صَاحِبِهِ؟ قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُ فَقَدْ ظَلَمَكَ، وَقِيلَ: قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ اعْتِرَافِ صَاحِبِهِ بِمَا يَقُولُ. {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ} [ص: 24] الشُّرَكَاءِ {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} [ص: 24] يَظْلِمُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [ص: 24] فَإِنَّهُمْ لَا يَظْلِمُونَ أَحَدًا. {وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24] أَيْ قَلِيلٌ هُمْ، و (ما) صِلَةٌ، يَعْنِي: الصَّالِحِينَ الَّذِينَ لَا يَظْلِمُونَ قَلِيلٌ، قَالُوا: فَلَمَّا قَضَى بَيْنَهُمَا دَاوُدُ نَظَرَ أَحَدُهُمَا إِلَى صَاحِبِهِ فَضَحِكَ وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، فَعَلِمَ دَاوُدُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَلَاهُ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَظَنَّ دَاوُدُ} [ص: 24] أيقن وعلم، {أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} [ص: 24] إنما ابتليناه، وَقَالَ الْقَائِلُونَ بِتَنْزِيهِ الْأَنْبِيَاءِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ: إِنَّ ذَنْبَ دَاوُدَ إِنَّمَا كَانَ أَنَّهُ تَمَنَّى أَنْ تَكُونَ امْرَأَةُ أُورِيَّا حَلَالًا لَهُ، فَاتَّفَقَ غَزْوُ أُورِيَّا وَتَقَدُّمُهُ فِي الْحَرْبِ وَهَلَاكُهُ، فَلَمَّا بَلَغَ قَتْلُهُ دَاوُدَ لَمْ يَجْزَعْ عَلَيْهِ كَمَا جَزِعَ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ جُنْدِهِ إِذَا هَلَكَ، ثُمَّ تَزَوَّجَ امْرَأَتَهُ فَعَاتَبَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ ذُنُوبَ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ صَغُرَتْ فَهِيَ عظيمة عند الله {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] أَيْ سَاجِدًا، عَبَّرَ بِالرُّكُوعِ عَنِ السجود لأن كل واحد منهما فِيهِ انْحِنَاءٌ، قَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: سَأَلَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاهِرٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: 24] هَلْ يُقَالُ لِلرَّاكِعِ خَرَّ؟ قُلْتُ: لَا، وَمَعْنَاهُ فَخَرَّ بَعْدَمَا كَانَ راكعا أي [سجد] . {وَأَنَابَ} [ص: 24] أَيْ رَجَعَ وَتَابَ.
[25] {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} [ص: 25] يَعْنِي ذَلِكَ الذَّنْبَ، {وَإِنَّ لَهُ} [ص: 25] بعد المغفرة، {عِنْدَنَا} [ص: 25] يوم القيامة، {لَزُلْفَى} [ص: 25] لقربة ومكانة، {وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] أي حسن مرجع ومنقلب.
[26] قوله عز وجل: {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} [ص: 26] تُدَبِّرُ أُمُورَ الْعِبَادِ بِأَمْرِنَا، {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} [ص: 26] بِالْعَدْلِ، {وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26] أَيْ بِأَنْ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: بِتَرْكِهِمُ الْعَمَلَ لِذَلِكَ الْيَوْمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ يَوْمَ الْحِسَابِ بِمَا نَسُوا، أَيْ تَرَكُوا الْقَضَاءَ بالعدل.
[قوله تعالى وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا] بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا. . .
[27] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا} [ص: 27] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا لِثَوَابٍ وَلَا لِعِقَابٍ. {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [ص: 27] يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ هُمُ الَّذِينَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ خُلِقُوا لِغَيْرِ شَيْءٍ، وَأَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص: 27]
[28] {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} [ص: 28] قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ لِلْمُؤْمِنِينَ: إِنَّا نُعْطَى فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يُعْطَوْنَ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [ص: 28] أَيِ الْمُؤْمِنِينَ كَالْكُفَّارِ. وَقِيلَ: أَرَادَ(6/807)
بِالْمُتَّقِينَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَيْ لَا نَجْعَلُ ذلك.
[29] {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} [ص: 29] أَيْ هَذَا الْكِتَابُ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ، {مُبَارَكٌ} [ص: 29] كثير خيره ونفعه، {لِيَدَّبَّرُوا} [ص: 29] أي ليتدبروا، {آيَاتِهِ} [ص: 29] وليتفكروا فيها، وقرأ أبو جعفر (ليتدبروا) بِتَاءٍ وَاحِدَةٍ وَتَخْفِيفِ الدَّالِّ، قَالَ الْحَسَنُ: تَدَبُّرُ آيَاتِهِ اتِّبَاعُهُ، {وَلِيَتَذَكَّرَ} [ص: 29] ليتعظ، {أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص: 29] 30،
[31] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَوَهَبْنَا لِدَاوُدَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ - إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} [ص: 30 - 31] وَالصَّافِنَاتُ هِيَ الْخَيْلُ الْقَائِمَةُ عَلَى ثَلَاثِ قَوَائِمَ وَأَقَامَتْ وَاحِدَةً عَلَى طَرَفِ الْحَافِرِ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ، يُقَالُ: صَفَنَ الْفَرَسُ يَصْفِنُ صُفُونًا إِذَا قَامَ عَلَى ثَلَاثَةِ قَوَائِمَ، وَقَلَبَ أَحَدَ حَوَافِرِهِ. وَقِيلَ: الصافن في اللغة القائم. وَالْجِيَادُ الْخِيَارُ السِّرَاعُ، وَاحِدُهَا جَوَادٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا: يُرِيدُ الْخَيْلَ السَّوَابِقَ.
[32] {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص: 32] أَيْ آثَرْتُ حُبَّ الْخَيْرِ وَأَرَادَ بِالْخَيْرِ الْخَيْلَ، وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ الرَّاءِ وَاللَّامِ، فَتَقُولُ: خَتَلْتُ الرَّجُلَ وَخَتَرْتُهُ، أَيْ خَدَعْتُهُ، وَسُمِّيَتِ الْخَيْلُ خَيْرًا لِأَنَّهُ مَعْقُودٌ بِنَوَاصِيهَا الْخَيْرُ، الأجر والمغنم، قال مقاتل: يَعْنِي الْمَالَ فَهِيَ الْخَيْلُ الَّتِي عُرِضَتْ عَلَيْهِ. {عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] يَعْنِي عَنِ الصَّلَاةِ وَهِيَ صَلَاةُ العصر. {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} [ص: 32] أي توارت الشمس بالحجاب أي اسْتَتَرَتْ بِمَا يَحْجُبُهَا عَنِ الْأَبْصَارِ.
[33] {رُدُّوهَا عَلَيَّ} [ص: 33] أَيْ رُدُّوا الْخَيْلَ عَلَيَّ فَرَدُّوهَا، {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ} [ص: 33] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: طَفِقَ يَفْعَلُ مِثْلُ: مَا زَالَ يَفْعَلُ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْحِ الْقَطْعُ، فَجَعَلَ يَضْرِبُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِالسَّيْفِ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُقَاتِلٍ وَأَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَكَانَ ذَلِكَ مُبَاحًا لَهُ لِأَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ لَمْ يَكُنْ يَقْدَمُ عَلَى مُحَرَّمٍ، وَلَمْ يَكُنْ يَتُوبُ عَنْ ذَنْبٍ بِذَنْبٍ آخَرَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: لَمْ يُعَنِّفْهُ اللَّهُ عَلَى عَقْرِ الْخَيْلِ إذ كَانَ ذَلِكَ أَسَفًا عَلَى مَا فَاتَهُ مِنْ فَرِيضَةِ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ ذَبَحَهَا ذَبْحًا وَتَصَدَّقَ بِلُحُومِهَا، وَكَانَ الذَّبْحُ عَلَى ذَلِكَ الْوَجْهِ مُبَاحًا فِي شَرِيعَتِهِ. وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ أَنَّهُ حَبَسَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَكَوَى سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِكَيِّ الصَّدَقَةِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَابْنُ كَيْسَانَ: إِنَّهُ كَانَ يَمْسَحُ سُوقَهَا وَأَعْنَاقَهَا بِيَدِهِ يَكْشِفُ الْغُبَارَ عَنْهَا حُبًّا لَهَا وَشَفَقَةً عَلَيْهَا، وَهَذَا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالْمَشْهُورُ هو الأول.
[34] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ} [ص: 34] اختبرناه وابتليناه بسلب ملكه، {وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} [ص: 34] أَيْ رَجَعَ إِلَى مُلْكِهِ بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَلَمَّا رَجَعَ.
[35] {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] قَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ كَيْسَانَ: لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ(6/808)
مِنْ بَعْدِي، قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: يُرِيدُ هَبْ لِي مُلْكًا لَا تَسْلُبْنِيهِ فِي آخِرِ عمري، وتعطيه غَيْرِي كَمَا اسْتَلَبْتَهُ فِيمَا مَضَى مِنْ عُمُرِي. {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [ص: 35] قِيلَ: سَأَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ آيَةً لِنُبُوَّتِهِ وَدَلَالَةً عَلَى رِسَالَتِهِ، وَمُعْجِزَةً، وَقِيلَ: سَأَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ عَلَمًا عَلَى قَبُولِ تَوْبَتِهِ حَيْثُ أَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ وَرَدَّ إِلَيْهِ مُلْكَهُ، وزاده فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ لِسُلَيْمَانَ مُلْكًا وَلَكِنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِ: {لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} [ص: 35] تَسْخِيرَ الرِّيَاحِ وَالطَّيْرِ وَالشَّيَاطِينِ، بِدَلِيلِ ما بعده.
[36] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} [ص: 36] لَيِّنَةً لَيْسَتْ بِعَاصِفَةٍ، {حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36] حَيْثُ أَرَادَ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَصَابَ الصَّوَابَ فَأَخْطَأَ الْجَوَابَ تُرِيدُ أَرَادَ الصواب.
[37] {وَالشَّيَاطِينَ} [ص: 37] أي سخرنا له الشياطين، {كُلَّ بَنَّاءٍ} [ص: 37] يَبْنُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ محاريب وتماثيل، {وَغَوَّاصٍ} [ص: 37] يَسْتَخْرِجُونَ لَهُ اللَّآلِئَ مِنَ الْبَحْرِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنِ اسْتَخْرَجَ اللُّؤْلُؤَ مِنَ الْبَحْرِ.
[38] {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ} [ص: 38] مَشْدُودِينَ فِي الْقُيُودِ، أَيْ وَسَخَّرْنَا لَهُ آخَرِينَ يَعْنِي مَرَدَةَ الشَّيَاطِينِ سُخِّرُوا لَهُ حَتَّى قَرَّنَهُمْ فِي الأصفاد.
[39] {هَذَا عَطَاؤُنَا} [ص: 39] أَيْ قُلْنَا لَهُ هَذَا عَطَاؤُنَا، {فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ} [ص: 39] الْمَنُّ هُوَ الْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ تشاؤه ومن لا تشاؤه، مَعْنَاهُ: أَعْطِ مَنْ شِئْتَ وَأَمْسِكْ عمن شئت، {بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] لَا حَرَجَ عَلَيْكَ فِيمَا أَعْطَيْتَ وَفِيمَا أَمْسَكْتَ. قَالَ الْحَسَنُ: مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى أَحَدٍ نِعْمَةً إِلَّا عَلَيْهِ تَبِعَةٌ، إِلَّا سُلَيْمَانَ فإن أَعْطَى أُجر، وَإِنْ لَمْ يُعْطِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ تَبِعَةٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا فِي أَمْرِ الشَّيَاطِينِ، يَعْنِي: خَلِّ مَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَأَمْسِكْ مَنْ شِئْتَ فِي وِثَاقِكَ لَا تَبِعَةَ عَلَيْكَ فِيمَا تَتَعَاطَاهُ.
[40] {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 40]
[41] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ} [ص: 41] بِمَشَقَّةٍ وَضُرٍّ، قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (بنُصُب) بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِفَتْحِهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ، وَمَعْنَى الْكُلِّ وَاحِدٌ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: بِنُصْبٍ في الجسد، {وَعَذَابٍ} [ص: 41] فِي الْمَالِ وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ أيوب فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ [آية 83] .
[42] فَلَمَّا انْقَضَتْ مُدَّةُ بَلَائِهِ قِيلَ له: {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} [ص: 42] اضْرِبْ بِرِجْلِكَ الْأَرْضَ فَفَعَلَ فَنَبَعَتْ عين ماء، {هَذَا مُغْتَسَلٌ} [ص: 42] فأمره الله يَغْتَسِلَ مِنْهَا فَفَعَلَ فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ بِظَاهِرِهِ، ثُمَّ مَشَى أَرْبَعِينَ خُطْوَةً فَرَكَضَ الْأَرْضَ بِرِجْلِهِ الْأُخْرَى فَنَبَعَتْ عَيْنٌ أُخْرَى مَاءٌ عذب بارد، فَشَرِبَ مِنْهَا فَذَهَبَ كُلُّ دَاءٍ كَانَ بِبَاطِنِهِ، فَقَوْلُهُ: {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ} [ص: 42] يعني الذي اغتسل منه بارد، {وَشَرَابٌ} [ص: 42] أراد الذي شرب منه.
[قوله تعالى وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً] مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ. . .
[43، 44] {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ - وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا} [ص: 43 - 44] وَهُوَ مِلْءُ الْكَفِّ مِنَ الشَّجَرِ أَوِ الْحَشِيشِ، {فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ} [ص: 44] فِي يَمِينِكَ وَكَانَ قَدْ حَلَفَ أَنْ يَضْرِبَ امْرَأَتَهُ مِائَةَ سَوْطٍ فَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يَأْخُذَ ضِغْثًا يَشْتَمِلُ عَلَى مِائَةِ عُودٍ صِغَارٍ ويضربها ضَرْبَةً وَاحِدَةً، {إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ص: 44]
[45] {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا} [ص: 45] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (عَبْدَنَا) عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (عِبَادَنَا) بِالْجَمْعِ، {إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي} [ص: 45] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُولِي الْقُوَّةِ في طاعة الله، {وَالْأَبْصَارِ} [ص: 45] فِي الْمَعْرِفَةِ بِاللَّهِ أَيِ الْبَصَائِرُ فِي الدِّينِ، قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: أُعْطَوْا قُوَّةً فِي الْعِبَادَةِ وَبَصَرًا في الدين.
[46] {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ} [ص: 46] اصطفيناهم، {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} [ص: 46] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ (بِخَالِصَةِ) مُضَافًا وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّنْوِينِ، فَمَنْ أَضَافَ فَمَعْنَاهُ: أَخْلَصْنَاهُمْ بِذِكْرِ الدَّارِ الْآخِرَةِ وَأَنْ يَعْمَلُوا لَهَا، وَالذِّكْرَى بِمَعْنَى الذِّكْرِ، قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: نَزَعْنَا(6/809)
مِنْ قُلُوبِهِمْ حُبَّ الدُّنْيَا وَذِكْرَهَا، وَأَخْلَصْنَاهُمْ بِحُبِّ الْآخِرَةِ وَذِكْرِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانُوا يَدْعُونَ إِلَى الْآخِرَةِ وَإِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: أُخْلَصُوا بِخَوْفِ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَخْلَصْنَاهُمْ بِأَفْضَلِ مَا فِي الْآخِرَةِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: وَمَنْ قَرَأَ بِالتَّنْوِينِ: فَمَعْنَاهُ بِخُلَّةٍ خَالِصَةٍ، وَهِيَ ذِكْرَى الدَّارِ، فَيَكُونُ ذِكْرَى الدَّارِ بَدَلًا عَنِ الْخَالِصَةِ. وَقِيلَ: أَخْلَصْنَاهُمْ: جَعَلْنَاهُمْ مُخْلَصِينَ، بِمَا أَخْبَرْنَا عَنْهُمْ مِنْ ذِكْرِ الْآخِرَةِ.
[47- 49] {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ - وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ - هَذَا ذِكْرٌ} [ص: 47 - 49] أَيْ هَذَا الَّذِي يُتْلَى عَلَيْكُمْ ذكر، وقيل ذِكْرٌ أَيْ شَرَفٌ وَذِكْرٌ جَمِيلٌ تُذْكَرُونَ بِهِ {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 49]
[50] {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ} [ص: 50] أَيْ أَبْوَابُهَا مُفَتَّحَةً لَهُمْ. 51،
[52] {مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ - وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [ص: 51 - 52] مستويات الأسنان، بنات ثلاث وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَاحِدُهَا تَرْبٌ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: مُتَوَاخِيَاتٌ لَا يَتَبَاغَضْنَ وَلَا يَتَغَايَرْنَ.
[53] {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} [ص: 53] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (يُوعَدُونَ) بِالْيَاءِ هَاهُنَا وَفِي (ق) أَيْ مَا يُوعَدُ الْمُتَّقُونَ، وَافَقَ أَبُو عَمْرٍو هَاهُنَا وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ فِيهِمَا، أَيْ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ: هَذَا مَا توعدون، {لِيَوْمِ الْحِسَابِ} [ص: 53] أَيْ فِي يَوْمِ الْحِسَابِ.
[54] {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} [ص: 54] فناء وانقطاع.
[55] {هَذَا} [ص: 55] أَيِ الْأَمْرُ هَذَا {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ} [ص: 55] للكافرين، {لَشَرَّ مَآبٍ} [ص: 55] مرجع.
[56] {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} [ص: 56] يدخلونها {فَبِئْسَ الْمِهَادُ} [ص: 56]
[57] {هَذَا} [ص: 57] أَيْ هَذَا الْعَذَابُ، {فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} [ص: 57] قَالَ الْفَرَّاءُ: أَيْ هَذَا حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ فَلْيَذُوقُوهُ، وَالْحَمِيمُ الْمَاءُ الْحَارُّ الَّذِي انْتَهَى حَرُّهُ وَغَسَّاقٌ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ (وَغَسَّاقٌ) حَيْثُ كَانَ بِالتَّشْدِيدِ، وَخَفَّفَهَا الْآخَرُونَ، فَمَنْ شَدَّدَ جَعَلَهُ اسْمًا عَلَى فَعَّالٍ نَحْوَ الْخَبَّازِ وَالطَّبَّاخِ، وَمَنْ خَفَّفَ جَعَلَهُ اسْمًا عَلَى فَعَّالٍ نَحْوَ الْعَذَابِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْغَسَّاقِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الزَّمْهَرِيرُ يَحْرُقُهُمْ بِبَرْدِهِ، كَمَا تَحْرُقُهُمُ النَّارُ بحرها. قال مُقَاتِلٌ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي انْتَهَى بَرْدُهُ. وَقِيلَ: هُوَ الْمُنْتِنُ بِلُغَةِ التُّرْكِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا يَغْسِقُ أَيْ مَا يَسِيلُ مِنَ الْقَيْحِ وَالصَّدِيدِ مِنْ جُلُودِ أَهْلِ النَّارِ وَلُحُومِهِمْ وَفُرُوجِ الزُّنَاةِ، مِنْ قولهم غَسَقَتْ عَيْنُهُ إِذَا انْصَبَّتْ، وَالْغَسَقَانُ الانصباب.
[58] {وَآخَرُ} [ص: 58] قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ (وَأُخَرُ) بِضَمِّ الْأَلِفِ عَلَى جَمْعِ أُخْرَى، مِثْلَ الْكُبْرَى وَالْكُبَرِ، وَاخْتَارَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ لِأَنَّهُ نَعَتَهُ بِالْجَمْعِ، فَقَالَ:(6/810)
أَزْوَاجٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ مُشْبَعَةً عَلَى الْوَاحِدِ، {مِنْ شَكْلِهِ} [ص: 58] مِثْلِهِ أَيْ مِثْلُ الْحَمِيمِ وَالْغَسَّاقِ {أَزْوَاجٌ} [ص: 58] أَيْ أَصْنَافٌ أُخَرُ مِنَ الْعَذَابِ.
[59] {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ} [ص: 59] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا هُوَ أَنَّ الْقَادَةَ إِذَا دَخَلُوا النَّارَ ثُمَّ دَخَلَ بَعْدَهُمُ الْأَتْبَاعُ قَالَتِ الخزنة للكفار: هَذَا يَعْنِي الْأَتْبَاعُ فَوْجٌ: جَمَاعَةٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمُ النَّارَ، أَيْ دَاخِلُوهَا كَمَا أَنْتُمْ دَخَلْتُمُوهَا، وَالْفَوْجُ الْقَطِيعُ مِنَ النَّاسِ وَجَمْعُهُ أَفْوَاجٌ، وَالِاقْتِحَامُ الدُّخُولُ فِي الشَّيْءِ رَمْيًا بِنَفْسِهِ فِيهِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّهُمْ يُضْرَبُونَ بِالْمَقَامِعِ حَتَّى يُوقِعُوا أَنْفُسَهُمْ فِي النَّارِ خَوْفًا مِنْ تِلْكَ الْمَقَامِعِ، فَقَالَتِ الْقَادَةُ: {لَا مَرْحَبًا بِهِمْ} [ص: 59] يعني بالأتباع، {إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ} [ص: 59] أَيْ دَاخِلُوهَا كَمَا صَلَيْنَا.
[60] {قَالُوا} [ص: 60] فَقَالَ الْأَتْبَاعُ لِلْقَادَةِ، {بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ} [ص: 60] وَالْمَرْحَبُ وَالرَّحْبُ: السَّعَةُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرْحَبًا وَأَهْلًا وَسَهْلًا أَيْ أَتَيْتَ رَحْبًا وَسِعَةً، وَتَقُولُ: لَا مَرْحَبًا بِكَ أَيْ لَا رَحُبَتْ عَلَيْكَ الأرض. {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا} [ص: 60] يَقُولُ الْأَتْبَاعُ لِلْقَادَةِ: أَنْتُمْ بَدَأْتُمْ بِالْكُفْرِ قَبْلَنَا وَشَرَعْتُمْ وَسَنَنْتُمُوهُ لَنَا وَقِيلَ: أَنْتُمْ قَدَّمْتُمْ هَذَا الْعَذَابَ لَنَا بِدُعَائِكُمْ إِيَّانَا إِلَى الْكُفْرِ، {فَبِئْسَ الْقَرَارُ} [ص: 60] أَيْ فَبِئْسَ دَارُ الْقَرَارِ جَهَنَّمُ.
[61] {قَالُوا} [ص: 61] يَعْنِي الْأَتْبَاعُ، {رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا} [ص: 61] أَيْ شَرَعَهُ وَسَنَّهُ لَنَا، {فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} [ص: 61] أَيْ ضَعِّفْ عَلَيْهِ الْعَذَابَ فِي النَّارِ. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَعْنِي حيات وأفاعي.
[قوله تعالى وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ] مِنَ الْأَشْرَارِ. . .
[62] {وَقَالُوا} [ص: 62] يَعْنِي صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ وَهُمْ فِي النَّارِ، {مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ} [ص: 62] في الدنيا، {مِنَ الْأَشْرَارِ} [ص: 62] يَعْنُونَ فُقَرَاءَ الْمُؤْمِنِينَ: عَمَّارًا وَخَبَّابًا وَصُهَيْبًا وَبِلَالًا وَسَلْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثُمَّ ذَكَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْخَرُونَ مِنْ هَؤُلَاءِ، فَقَالُوا:
[63] {أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا} [ص: 63] قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (مِنَ الْأَشْرَارِ اتَّخَذْنَاهُمْ) وَصْلٌ، وَيَكْسِرُونَ الْأَلِفَ عِنْدَ الِابْتِدَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِقَطْعِ الْأَلِفِ وَفَتْحِهَا عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: الْقِرَاءَةُ الْأُولَى أُولَى لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُمُ اتَّخَذُوهُمْ سِخْرِيًّا فَلَا يَسْتَقِيمُ الِاسْتِفْهَامُ، وَتَكُونُ أَمْ عَلَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ بِمَعْنَى بَلْ، وَمَنْ فَتَحَ الْأَلِفَ قَالَ هُوَ عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى الْمَعْنَى لِيُعَادِلَ (أَمْ) فِي قَوْلِهِ: {أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 63] قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا مِنَ الِاسْتِفْهَامِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّوْبِيخُ وَالتَّعَجُّبُ، {أَمْ زاغَت} [ص: 63] أي مالت {عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ} [ص: 63] وَمَجَازُ الْآيَةِ: مَا لَنَا لَا نَرَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ اتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا لَمْ يَدْخُلُوا مَعَنَا النَّارَ؟ أَمْ دَخَلُوهَا فَزَاغَتْ عَنْهُمْ أَبْصَارُنَا فَلَمْ نرهم حين دخلوا؟ وَقِيلَ: أَمْ هُمْ فِي النَّارِ ولكن احتجبوا عن أبصارنا؟ فقال ابن كيسان: يعني أَمْ كَانُوا خَيْرًا مَنَّا وَلَكِنْ نحن لا نعلم، وكانت أَبْصَارُنَا تَزِيغُ عَنْهُمْ فِي الدُّنْيَا فَلَا نَعُدُّهُمْ شَيْئًا.
[64] {إِنَّ ذَلِكَ} [ص: 64] الذي ذكرت، {لَحَقٌّ} [ص: 64] ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ، {تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} [ص: 64] أَيْ تُخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ فِي النار لحق.
[65] {قُلْ} [ص: 65] يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ، {إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ} [ص: 65] مُخَوِّفٌ، {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [ص: 65]
[66] {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [ص: 66]
[67] قوله: {قُلْ} [ص: 67] يا محمد، {هُوَ} [ص: 67] يعني القرآن، {نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67] قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ، وقيل: هو يعني القيامة لقوله: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ - عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النَّبَأِ: 1 - 2]
[68] {أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ - مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى} [ص: 68 - 69] يعني الملائكة، {إِذْ يَخْتَصِمُونَ} [ص: 69] يَعْنِي فِي شَأْنِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، حِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا} [الْبَقَرَةِ: 30](6/811)
[70] {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [ص: 70] قَالَ الْفَرَّاءُ. إِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ {أَنَّمَا} [ص: 70] فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ أَيْ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا الْإِنْذَارُ، وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْمَعْنَى: مَا يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنِّي نَذِيرٌ مُبِينٌ. وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: (إِنَّمَا) بِكَسْرِ الألف، لأن الوحي قول.
[71] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} [ص: 71] يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
[72- 75] {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} [ص: 72] أَتْمَمْتُ خَلْقَهُ، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ - فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ - إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ - قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ} [ص: 72 - 75] أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ عَلَى أَلِفِ الْوَصْلِ، {أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص: 75] الْمُتَكَبِّرِينَ، اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَإِنْكَارٍ، يَقُولُ: أَسْتَكْبَرْتَ بِنَفْسِكَ حَتَّى أَبَيْتَ السُّجُودَ؟ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فَتَكَبَّرْتَ عَنِ السُّجُودِ لِكَوْنِكَ مِنْهُمْ؟ .
[76، 77] {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ - قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا} [ص: 76 - 77] أَيْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَقِيلَ: مِنَ السَّمَاوَاتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: أَيْ مِنَ الْخِلْقَةِ الَّتِي أَنْتِ فيها. قال الحسن بْنُ الْفَضْلِ: هَذَا تَأْوِيلٌ صَحِيحٌ لِأَنَّ إِبْلِيسَ تَجَبَّرَ وَافْتَخَرَ بِالْخِلْقَةِ، فَغَيَّرَ اللَّهُ خِلْقَتَهُ فَاسْوَدَّ وَقَبُحَ بعد حسنه، {فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [ص: 77] مَطْرُودٌ.
[78- 81] {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ - قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ - قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ - إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} [ص: 78 - 81] وهو النفخة الأولى.
[قوله تعالى قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ] مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ. . .
[82، 84] {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ - إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ - قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ} [ص: 82 - 84] قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ: (فَالْحَقُّ) بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: الْحَقُّ مِنِّي، وَنَصْبُ الثَّانِيَةِ أَيْ: وَأَنَا أَقُولُ الْحَقَّ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنَصْبِهِمَا، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِهِمَا، قِيلَ: نَصْبُ الأول عَلَى الْإِغْرَاءِ كَأَنَّهُ قَالَ: الْزَمِ الْحَقَّ، وَالثَّانِي بِإِيقَاعِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ أَيْ أَقُولُ الْحَقَّ. وَقِيلَ: الْأَوَّلُ قَسَمٌ أَيْ فَبِالْحَقِّ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَانْتُصِبَ بِنَزْعِ الْخَافِضِ، وَهُوَ حَرْفُ الصِّفَةِ، وَانْتِصَابُ الثَّانِي بِإِيقَاعِ الْقَوْلِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: الثَّانِي تَكْرَارُ الْقَسَمِ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِنَفْسِهِ. 85،
[86] {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ - قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ} [ص: 85 - 86] عَلَى تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، {مِنْ أَجْرٍ} [ص: 86] جُعْلٍ، {وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص: 86] الْمُتَقَوِّلِينَ الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي، وَكُلُّ مَنْ قَالَ شَيْئًا مِنْ تلقاء نفسه فقد تكلفه.
[87] قوله: {إِنْ هُوَ} [ص: 87] مَا هُوَ يَعْنِي الْقُرْآنَ، {إِلَّا ذِكْرٌ} [ص: 87] موعظة، {لِلْعَالَمِينَ} [ص: 87] للخلق أجمعين.
[88] {وَلَتَعْلَمُنَّ} [ص: 88] أَنْتُمْ يَا كُفَّارَ مَكَّةَ، {نَبَأَهُ} [ص: 88] خبر صدقه، {بَعْدَ حِينٍ} [ص: 88] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: بَعْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ(6/812)
الْكَلْبِيُّ: مَنْ بَقِيَ عَلِمَ ذَلِكَ إِذَا ظَهَرَ أَمْرُهُ وَعَلَا، وَمَنْ مَاتَ عَلِمَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَ الْحَسَنُ: ابْنَ آدَمَ عِنْدَ الْمَوْتِ يَأْتِيكَ الْخَبَرُ الْيَقِينُ.
[سُورَةُ الزُّمَرِ]
[قوله تعالى تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] . . .
(39) سورة الزمر [1] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ} [الزمر: 1] أي هذا تنزيل الكتاب. وَقِيلَ: تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ، {مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [الزمر: 1] أَيْ تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ لَا مِنْ غَيْرِهِ.
[2] {إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} [الزمر: 2] قال مقاتل: لم ينزله بَاطِلًا لِغَيْرِ شَيْءٍ، {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] الطَّاعَةَ.
[3] {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] قَالَ قَتَادَةُ: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: لَا يَسْتَحِقُّ الدِّينَ الْخَالِصَ إِلَّا اللَّهُ. وَقِيلَ: الدِّينُ الْخَالِصُ مِنَ الشَّرَكِ هُوَ لِلَّهِ. {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 3] أَيْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، {أَوْلِيَاءَ} [الزمر: 3] يعني الأصنام، {مَا نَعْبُدُهُمْ} [الزمر: 3] أَيْ قَالُوا مَا نَعْبُدُهُمْ، {إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَرِ: 3] وَكَذَلِكَ قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ، قَالَ قَتَادَةُ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ: مَنْ رَبُّكُمْ وَمَنْ خَلَقَكُمْ وَمَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ؟ قَالُوا: اللَّهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَمَا مَعْنَى عِبَادَتِكُمُ الْأَوْثَانَ؟ قَالُوا: لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى أَيْ قُرْبَى، وَهُوَ اسْمٌ أُقِيمَ فِي مَقَامِ الْمَصْدَرِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ تَقْرِيبًا وَيَشْفَعُوا لَنَا عِنْدَ اللَّهِ، {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} [الزمر: 3] يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 3] مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} [الزمر: 3] لَا يُرْشِدُ لِدِينِهِ مَنْ كَذَبَ فقال: إن الآلهة لتشفع. وَكَفَى بِاتِّخَاذِ الْآلِهَةِ دُونَهُ كَذِبًا وَكُفْرًا.
[4] {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى} [الزمر: 4] لَاخْتَارَ، {مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} [الزمر: 4] يعني الملائكة، كما قالوا: لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتخذناه من لدنا، ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ: {سُبْحَانَهُ} [الزمر: 4] تَنْزِيهًا لَهُ عَنْ ذَلِكَ وَعَمَّا لَا يَلِيقُ بِطَهَارَتِهِ، {هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [الزمر: 4]
[5] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} [الزمر: 5] قَالَ قَتَادَةُ: يُغْشِي هَذَا هَذَا، كَمَا قَالَ: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ} [الْأَعْرَافِ: 54] وَقِيلَ: يُدْخِلُ أَحَدَهُمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا قَالَ: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} [الْحَجِّ: 61] وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْكَلْبِيُّ: يُنْقِصُ مِنَ اللَّيْلِ فَيَزِيدُ فِي النَّهَارِ، وَيُنْقِصُ مِنَ النَّهَارِ فَيَزِيدُ فِي اللَّيْلِ، فَمَا نَقَصَ مِنَ اللَّيْلِ دَخَلَ فِي النَّهَارِ وَمَا نَقَصَ مِنَ النَّهَارِ دَخَلَ فِي اللَّيْلِ، وَمُنْتَهَى النُّقْصَانِ تِسْعُ سَاعَاتٍ وَمُنْتَهَى الزِّيَادَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَاعَةً، وَأَصْلُ التَّكْوِيرِ اللَّفُّ وَالْجَمْعُ، وَمِنْهُ: كَوَّرَ الْعِمَامَةَ. {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر: 5]
[قوله تعالى خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا] زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ. . .
[6] {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [الزمر: 6] يَعْنِي آدَمَ، {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الزمر: 6] يَعْنِي حَوَّاءَ، {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} [الزمر: 6](6/813)
معنى الإنزال ههنا: الْإِحْدَاثُ وَالْإِنْشَاءُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي} [الْأَعْرَافِ: 26] وَقِيلَ: إِنَّهُ أَنْزَلَ الْمَاءَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ نَبَاتِ الْقُطْنِ الَّذِي يَكُونُ مِنْهُ اللِّبَاسُ، وَسَبَبُ النَّبَاتِ الَّذِي تَبْقَى بِهِ الْأَنْعَامُ. وَقِيلَ: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ} [الزمر: 6] جَعَلَهَا لَكُمْ نُزُلًا وَرِزْقًا، {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] أصناف، مر تفسيرها في سورة الأنعام آية (143) . {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نُوحٍ: 14] {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ} [الزمر: 6] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ظُلْمَةُ الْبَطْنِ وَظُلْمَةُ الرَّحِمِ وَظُلْمَةُ الْمَشِيمَةِ، {ذَلِكُمُ اللَّهُ} [الزمر: 6] أي الَّذِي خَلَقَ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ، {رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6] عَنْ طَرِيقِ الْحَقِّ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ.
[7] {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} [الزمر: 7] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ: لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْكُفْرَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الْحِجْرِ: 42] فَيَكُونُ عَامًّا فِي اللَّفْظِ خَاصًّا فِي الْمَعْنَى، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} [الْإِنْسَانِ: 6] يُرِيدُ بَعْضَ الْعِبَادِ، وَأَجْرَاهُ قَوْمٌ عَلَى الْعُمُومِ، وَقَالُوا: لَا يَرْضَى لِأَحَدٍ مِنْ عِبَادِهِ الْكُفْرَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الكفر أن يكفروا به، ويروى ذَلِكَ عَنْ قَتَادَةَ، وَهُوَ قَوْلُ السَّلَفِ، قَالُوا: كُفْرُ الْكَافِرِ غَيْرُ مَرْضِيٍّ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنْ كان بإرادته، {وَإِنْ تَشْكُرُوا} [الزمر: 7] تُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَتُطِيعُوهُ، {يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] فَيُثِيبُكُمْ عَلَيْهِ، قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (يَرْضَهْ لَكُمْ) سَاكِنَةُ الْهَاءِ، وَيَخْتَلِسُهَا أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ، وَالْبَاقُونَ بِالْإِشْبَاعِ، {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الزمر: 7]
[8] {وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} [الزمر: 8] رَاجِعًا إِلَيْهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ، {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} [الزمر: 8] أعطاه نعمة منه، {نَسِيَ} [الزمر: 8] تَرَكَ، {مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} [الزمر: 8] أَيْ نَسِيَ الضُّرَّ الَّذِي كَانَ يَدْعُو اللَّهَ إِلَى كَشْفِهِ، {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا} [الزمر: 8] يَعْنِي الْأَوْثَانَ، {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الزمر: 8] لِيَزِلَّ عَنْ دِينِ اللَّهِ، {قُلْ} [الزمر: 8] لِهَذَا الْكَافِرِ، {تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا} [الزمر: 8] فِي الدُّنْيَا إِلَى أَجَلِكَ، {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} [الزمر: 8] قِيلَ: نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي حُذَيْفَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ. وَقِيلَ: عَامٌّ فِي كُلِّ كَافِرٍ.
[9] {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَحَمْزَةُ (أَمَنْ) بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهَا، فَمَنْ شَدَّدَ فَلَهُ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ الْمِيمُ فِي (أَمْ) صِلَةً، فَيَكُونُ مَعْنَى الْكَلَامِ اسْتِفْهَامًا وَجَوَابُهُ مَحْذُوفًا، مَجَازُهُ: أَمَّنَ هُوَ قَانِتٌ كَمَنْ هُوَ غَيْرُ قَانِتٍ؟ كَقَوْلِهِ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزُّمَرِ: 22] يَعْنِي كَمَنْ لَمْ يَشْرَحْ صَدْرَهُ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنَّهُ عَطَفَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، مَجَازُهُ: الَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا خَيْرٌ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ؟ وَمَنْ قَرَأَ(6/814)
بِالتَّخْفِيفِ فَهُوَ أَلِفُ اسْتِفْهَامٍ دَخَلَتْ على مَعْنَاهُ: أَهَذَا كَالَّذِي جَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا؟ وَقِيلَ: الْأَلِفُ فِي (أَمَنْ) بِمَعْنَى حَرْفِ النِّدَاءِ، تَقْدِيرُهُ: يَا مَنْ هُوَ قَانِتٌ، وَالْعَرَبُ تُنَادِي بِالْأَلِفِ كَمَا تُنَادِي بِالْيَاءِ، فَتَقُولُ: أَبَنِي فَلَانٍ وَيَا بَنِي فُلَانٍ، فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ. قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار، ويا مَنْ هُوَ قَانِتٌ {آنَاءَ اللَّيْلِ} [الزمر: 9] إِنَّكَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَفِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصَّدِيقِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي عُثْمَانَ، وَعَنِ الْكَلْبِيِّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي ابْنِ مَسْعُودٍ وَعَمَّارٍ وَسَلْمَانَ، وَالْقَانِتُ: الْمُقِيمُ عَلَى الطَّاعَةِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْقُنُوتُ قِرَاءَةُ القرآن وطول القيام، وآناء الليل: ساعاته، {سَاجِدًا وَقَائِمًا} [الزمر: 9] يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ، {يَحْذَرُ الْآخِرَةَ} [الزمر: 9] يَخَافُ الْآخِرَةَ، {وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] يَعْنِي كَمَنْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] قِيلَ: الَّذِينَ يَعْلَمُونَ عَمَّارٌ، وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ: أَبُو حُذَيْفَةَ الْمَخْزُومِيُّ، {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 9]
[10] {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} [الزمر: 10] بطاعته واجتناب معاصيه، {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر: 10] أَيْ آمَنُوا وَأَحْسَنُوا الْعَمَلَ، حَسَنَةٌ يَعْنِي الْجَنَّةَ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ يَعْنِي الصِّحَّةَ وَالْعَافِيَةَ، {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} [الزمر: 10] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي ارْتَحِلُوا مِنْ مَكَّةَ. وَفِيهِ حَثٌّ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنَ الْبَلَدِ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ الْمَعَاصِي. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي مُهَاجِرِي الْحَبَشَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جبير: من أمر بالمعاصي ببلد فليهرب منها إلى غيرها. {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] الذي صَبَرُوا عَلَى دِينِهِمْ فَلَمْ يَتْرُكُوهُ لِلْأَذَى. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَأَصْحَابِهِ، حَيْثُ لَمْ يَتْرُكُوا دِينَهُمْ لَمَّا اشْتَدَّ بِهِمُ الْبَلَاءُ , وَصَبَرُوا وَهَاجَرُوا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كُلُّ مُطِيعٍ يُكَالُ لَهُ كَيْلًا وَيُوزَنُ له وزنا إلا الصابرين، فإنه يحثى لهم حثيا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] حَتَّى يَتَمَنَّى أَهْلُ الْعَافِيَةِ فِي الدُّنْيَا أَنَّ أَجْسَادَهُمْ تُقْرَضُ بِالْمَقَارِيضِ مِمَّا يَذْهَبُ بِهِ أَهْلُ الْبَلَاءِ من الفضل.
[قوله تعالى قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا] لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ. . .
[11] {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 11] مُخْلِصًا لَهُ التَّوْحِيدَ لَا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.
[12] {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} [الزمر: 12] مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
[13] {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} [الزمر: 13] وَعَبَدْتُ غَيْرَهُ، {عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الزمر: 13] وَهَذَا حِينَ دُعِيَ إِلَى دِينِ آبَائِهِ. 14،
[15] {قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي - فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 14 - 15] أمر توبيخ وتهديده , {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ} [الزمر: 15](6/815)
أزواجهم وخدمهم، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} [الزمر: 15] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ لِكُلِّ إِنْسَانٍ مَنْزِلًا فِي الْجَنَّةِ وَأَهْلًا، فَمَنْ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ كَانَ ذَلِكَ الْمَنْزِلُ وَالْأَهْلُ لَهُ، وَمَنْ عَمِلَ بِمَعْصِيَةِ اللَّهِ دَخَلَ النَّارَ، وَكَانَ ذَلِكَ الْمَنْزِلُ وَالْأَهْلُ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ عَمِلَ بِطَاعَةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: خُسْرَانُ النَّفْسِ بِدُخُولِ النَّارِ، وَخُسْرَانُ الْأَهْلِ بِأَنْ يفرق بينه وبين أهله، وذلك هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
[16] {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ} [الزمر: 16] أَطْبَاقُ سُرَادِقَاتٍ مِنَ النَّارِ وَدُخَّانِهَا، {وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} [الزمر: 16] فِرَاشٌ وَمِهَادٌ مِنْ نَارٍ إِلَى أن ينتهي إلى القعر، سمي الْأَسْفَلَ ظُلَلًا لِأَنَّهَا ظُلَلٌ لِمَنْ تَحْتِهُمْ نَظِيرُهَا قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} [الْأَعْرَافِ: 41] {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يا عِبَادِ فَاتَّقُونِ} [الزمر: 16] 17،
[18] {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} [الزمر: 17] الْأَوْثَانَ، {أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} [الزمر: 17] رَجَعُوا إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ، {لَهُمُ الْبُشْرَى} [الزمر: 17] في الدنيا بالجنة وفي العقبى بالمغفرة، {فَبَشِّرْ عِبَادِ - الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ} [الزمر: 17 - 18] القرآن {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] قَالَ الْسُّدِّيُّ: أَحْسُنُ مَا يُؤْمَرُونَ به فيعملونه. وقيل: هو أن الله ذَكَرَ فِي الْقُرْآنِ الِانْتِصَارَ مِنَ الظَّالِمِ وَذَكَرَ الْعَفْوَ، وَالْعَفْوُ أَحْسَنُ الْأَمْرَيْنِ. وَقِيلَ: ذَكَرَ الْعَزَائِمَ [وَالرُّخَصَ فَيَتَّبِعُونَ الْأَحْسَنَ وَهُوَ الْعَزَائِمُ] (1) وَقِيلَ: يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ وَغَيْرَ الْقُرْآنِ فَيَتَّبِعُونَ الْقُرْآنَ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: آمَنَ أَبُو بَكْرٍ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَاءَهُ عُثْمَانُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ وَسَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ، فَسَأَلُوهُ فَأَخْبَرَهُمْ بِإِيمَانِهِ فَآمَنُوا، فَنَزَلَتْ فِيهِمْ: {فَبَشِّرْ عِبَادِ - الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 17 - 18] وَكُلُّهُ حَسَنٌ. {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18] وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ} [الزمر: 17] الْآيَتَانِ فِي ثَلَاثَةِ نَفَرٍ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بن نفيل وأبو ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ. وَالْأَحْسَنُ: قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
[19] {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} [الزمر: 19] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ. وَقِيلَ: كَلِمَةُ الْعَذَابِ قَوْلُهُ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18] وقيل: كلمة العذاب قَوْلُهُ: "هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي " (2) . {أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} [الزمر: 19] أَيْ لَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَبَا لَهَبٍ وَوَلَدَهُ.
[20] {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} [الزمر: 20] أَيْ مَنَازِلُ فِي الْجَنَّةِ رَفِيعَةٌ وَفَوْقَهَا مَنَازِلُ أَرْفَعُ مِنْهَا، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20] أَيْ وَعَدَهُمُ اللَّهُ تِلْكَ الْغُرَفَ والمنازل وعدا لا يخلفه.
[21] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ} [الزمر: 21] أدخل ذلك الماء، {يَنَابِيعَ} [الزمر: 21] عيونا وركايا، {فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21] قَالَ الشَّعْبِيُّ: كُلُّ مَاءٍ فِي الْأَرْضِ فَمِنَ السَّمَاءِ نَزَلَ، {ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ} [الزمر: 21] بالماء {زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} [الزمر: 21] أَحْمَرُ وَأَصْفَرُ وَأَخْضَرُ، {ثُمَّ يَهِيجُ} [الزمر: 21] ييبس، {فَتَرَاهُ} [الزمر: 21] بُعْدَ خُضْرَتِهِ وَنَضْرَتِهِ، {مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} [الزمر: 21] فُتَاتًا مُتَكَسِّرًا، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21]
[قوله تعالى أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ] عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ. . .
[22] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ} [الزمر: 22] وَسَّعَهُ لِقَبُولِ الْحَقِّ، {فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22] كمن أقسى الله قلبه؟ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزمر: 22] قَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ. مَا ضُرِبَ عَبْدٌ بِعُقُوبَةٍ أَعْظَمَ مِنْ قَسْوَةِ قَلْبٍ، وَمَا غَضِبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى قَوْمٍ إِلَّا نزع منهم الرحمة.
[23] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزُّمَرِ: 23] يُشْبِهُ بَعْضُهُ بَعْضًا فِي الْحُسْنِ، وَيُصَدِّقُ بَعْضُهُ بَعْضًا لَيْسَ فِيهِ تناقض ولا اختلاف.
_________
(1) أخرجه الإمام أحمد في المسند 5 / 239.
(2) ما بين المعكوفتين من نسخة محمد النمر وزملائه.(6/816)
{مَثَانِيَ} [الزمر: 23] يُثَنَّى فِيهِ ذِكْرُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْأَخْبَارِ وَالْأَحْكَامِ، {تَقْشَعِرُّ} [الزمر: 23] تَضْطَرِبُ وَتَشْمَئِزُّ، {مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الزمر: 23] وَالِاقْشِعْرَارُ تَغَيُّرٌ فِي جَلْدِ الْإِنْسَانِ عِنْدَ الْوَجَلِ وَالْخَوْفِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنَ الْجُلُودِ الْقُلُوبُ أَيْ قُلُوبُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ، {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23] أَيْ لِذِكْرِ اللَّهِ، أَيْ إِذَا ذُكِرَتْ آيَاتُ الْعَذَابِ اقْشَعَرَّتْ جُلُودُ الْخَائِفِينَ لِلَّهِ، وَإِذَا ذُكِرَتْ آيَاتُ الرَّحْمَةِ لَانَتْ وَسَكَنَتْ قُلُوبُهُمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرَّعْدِ: 28] وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى: أَنَّ قُلُوبَهُمْ تَقْشَعِرُّ مِنَ الخوف وتلين عند الرجاء. {ذَلِكَ} [الزمر: 23] يَعْنِي أَحْسَنَ الْحَدِيثِ، {هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]
[24] {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ} [الزمر: 24] أي شدته، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24] قَالَ مُجَاهِدٌ: يُجَرُّ عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ مَنْكُوسًا فَأَوَّلُ شيء تَمَسُّهُ النَّارُ وَجْهُهُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَنَّ الْكَافِرَ يُرْمَى بِهِ فِي النَّارِ مَغْلُولَةً يَدَاهُ إِلَى عُنُقِهِ , وَفِي عُنُقِهِ صَخْرَةٌ مِثْلُ جَبَلٍ عَظِيمٍ مِنَ الْكِبْرِيتِ فَتَشْتَعِلُ النَّارُ فِي الْحَجَرِ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ في عنقه فحرها وَوَهَجُهَا عَلَى وَجْهِهِ لَا يَطِيقُ دَفْعَهَا عَنْ وَجْهِهِ، لِلْأَغْلَالِ الَّتِي فِي عُنُقِهِ وَيَدِهِ. وَمَجَازُ الْآيَةِ: أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ كَمَنْ هُوَ آمِنٌ مِنَ الْعَذَابِ؟ {وَقِيلَ} [الزمر: 24] يَعْنِي تَقُولُ الْخَزَنَةُ {لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر: 24] أَيْ وَبَالَهُ.
[25] {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الزمر: 25] مِنْ قَبْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ كَذَّبُوا الرُّسُلَ، {فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ} [الزمر: 25] يَعْنِي وَهُمْ آمِنُونَ غَافِلُونَ مِنَ العذاب.
[26] {فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ} [الزمر: 26] الْعَذَابَ وَالْهَوَانَ، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 26]
[27] {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الزمر: 27] يتعظون.
[28] {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} [الزمر: 28] نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مُخْتَلِفٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ، غَيْرُ ذِي لَبْسٍ. قَالَ الْسُّدِّيُّ: غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وحكى عن سفيان ابن عُيَيْنَةَ عَنْ سَبْعِينَ مِنَ التَّابِعَيْنِ أَنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِخَالِقٍ وَلَا مخلوق، {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الزمر: 28] الكفر والتكذيب.
[29] {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا} [الزمر: 29] قَالَ الْكِسَائِيُّ نُصِبَ رَجُلًا لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لِلْمَثَلِ، {فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} [الزمر: 29] مُتَنَازِعُونَ مُخْتَلِفُونَ سَيِّئَةٌ أَخْلَاقُهُمْ، يُقَالُ رَجُلٌ شَكِسٌ شَرِسٌ إِذَا كَانَ سَيِّئَ الْخُلُقِ مُخَالِفًا لِلنَّاسِ لَا يَرْضَى بِالْإِنْصَافِ. {وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ} [الزمر: 29] قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَالْبَصْرَةِ (سَالِمًا) بِالْأَلِفِ أَيْ(6/817)
خَالِصًا لَهُ لَا شَرِيكَ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ فِيهِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (سَلَمًا) بِفَتْحِ اللَّامِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ، وَهُوَ الَّذِي لَا يُنَازَعُ فِيهِ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ لَكَ سَلَمٌ، أَيْ مُسَلَّمٌ لَا مُنَازِعَ لَكَ فِيهِ. {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} [الزمر: 29] هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْكَافِرِ الَّذِي يَعْبُدُ آلِهَةً شَتَّى، وَالْمُؤْمِنُ الَّذِي لَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ الْوَاحِدَ، وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ أَيْ لَا يَسْتَوِيَانِ، ثُمَّ قال: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} [الزمر: 29] أَيْ لِلَّهِ الْحَمْدُ كُلُّهُ دُونَ غَيْرِهِ مِنَ الْمَعْبُودِينَ. {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 29] مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ وَالْمُرَادُ بِالْأَكْثَرِ الكل.
[30] {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] أي ستموت، {وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30] أَيْ سَيَمُوتُونَ، قَالَ الْفَرَّاءُ وَالْكِسَائِيُّ: الْمَيِّتُ بِالتَّشْدِيدِ مَنْ لَمْ يَمُتْ وَسَيَمُوتُ، الْمَيْتُ بِالتَّخْفِيفِ مَنْ فَارَقَهُ الروح، ولذلك لم يخفف ههنا.
[31] {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْمُحِقَّ والمبطل والظالم والمظلوم.
[قَوْلُهُ تَعَالَى فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ] بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ. . .
[32] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 32] فَزَعْمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا، {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ} [الزمر: 32] بِالْقُرْآنِ، {إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى} [الزمر: 32] منزل ومقام، {لِلْكَافِرِينَ} [الزمر: 32] اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ.
[33] {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر: 33] يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ بِلَا إِلَهَ إلا الله {وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] الرَّسُولُ أَيْضًا بَلَّغَهُ إِلَى الْخَلْقِ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ جِبْرِيلُ جَاءَ بِالْقُرْآنِ، وَصَدَّقَ بِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدَّقَ بِهِ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصَدَّقَ بِهِ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، لِقَوْلِهِ عَزَّ وجل: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] وَقَالَ عَطَاءٌ: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ الْأَنْبِيَاءُ وَصَدَّقَ بِهِ الْأَتْبَاعُ، وَحِينَئِذٍ يكون الذي بمعنى الذين، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ صَدَّقُوا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَجَاءُوا بِهِ فِي الْآخِرَةِ. وَفِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: وَالَّذِينَ جَاءُوا بِالصِّدْقِ وَصَدَّقُوا بِهِ. {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] 34،
[35] {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ - لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} [الزمر: 34 - 35] يَسْتُرُهَا عَلَيْهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ، {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الزمر: 35] قَالَ مُقَاتِلٌ: يَجْزِيهِمْ بِالْمَحَاسِنِ مِنْ أَعْمَالِهِمْ وَلَا يَجْزِيهِمْ بِالْمَسَاوِئِ.
[36] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (عِبَادَهُ) بِالْجَمْعِ يَعْنِي الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، قَصَدَهُمْ قَوْمُهُمْ بِالسُّوءِ كَمَا قَالَ:(6/818)
{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غَافِرٍ: 5] فَكَفَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ مَنْ عَادَاهُمْ {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 36] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ خَوَّفُوا النَّبِيَّ صَلَّى الله عليه وسلم معرة معاداة الْأَوْثَانِ. وَقَالُوا: لَتَكُفَّنَّ عَنْ شَتْمِ آلِهَتِنَا أَوْ لَيُصِيبَنَّكَ مِنْهُمْ خَبَلٌ أَوْ جُنُونٌ، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23]
[37] {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ} [الزمر: 37] مَنِيعٌ فِي مُلْكِهِ مُنْتَقِمٌ مِنْ أَعْدَائِهِ.
[38] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ} [الزمر: 38] بِشِدَّةٍ وَبَلَاءٍ، {هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ} [الزمر: 38] بِنِعْمَةٍ وَبَرَكَةٍ، {هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ} [الزمر: 38] قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ (كَاشِفَاتٌ) وَ (ممسكات) بالتنوين، (ضره) و (رحمته) بِنَصْبِ الرَّاءِ وَالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِلَا تَنْوِينٍ وَجَرِّ الرَّاءِ وَالتَّاءِ عَلَى الْإِضَافَةِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: فَسَأَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَسَكَتُوا، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ} [الزمر: 38] ثِقَتِي بِهِ وَاعْتِمَادِي عَلَيْهِ، {عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 38] يَثِقُ بِهِ الْوَاثِقُونَ.
[39، 40] {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ - مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [الزمر: 39 - 40] أَيْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ عَذَابٌ دَائِمٌ.
[قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ] فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا. . .
[41] {إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} [الزمر: 41] وَبَالُ ضَلَالَتِهِ عَلَيْهِ، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الزمر: 41] بِحَفِيظٍ وَرَقِيبٍ لَمْ تُوَكَّلْ بِهِمْ ولا تؤخذ بِهِمْ.
[42] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} [الزمر: 42] أي الأرواح، {حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] فَيَقْبِضُهَا عِنْدَ فَنَاءِ أَكْلِهَا وَانْقِضَاءِ آجالها، وقوله: {حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] يُرِيدُ مَوْتَ أَجْسَادِهَا. {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ} [الزمر: 42] يُرِيدُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ الَّتِي لَمْ تمت، {فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] وَالَّتِي تُتَوَفَّى عِنْدَ النَّوْمِ هِيَ النَّفْسُ الَّتِي يَكُونُ بِهَا الْعَقْلُ وَالتَّمْيِيزُ، وَلِكُلِّ إِنْسَانٍ نَفْسَانِ إِحْدَاهُمَا نَفْسُ الْحَيَاةِ وَهِيَ الَّتِي تُفَارِقُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ فَتَزُولُ بِزَوَالِهَا النَّفْسُ، وَالْأُخْرَى نَفْسُ التَّمْيِيزِ وَهِيَ الَّتِي تُفَارِقُهُ إِذَا نَامَ، وَهُوَ بَعْدَ النَّوْمِ يَتَنَفَّسُ. {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} [الزمر: 42] فَلَا يَرُدُّهَا إِلَى الْجَسَدِ، قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (قُضِيَ) بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ الضَّادِ وَفَتْحِ الْيَاءِ، (الْمَوْتُ) رُفِعَ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْقَافِ وَالضَّادِ، (الْمَوْتَ) نُصِبَ لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: (اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ) . {وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى} [الزمر: 42] وَيَرُدُّ الْأُخْرَى، وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَقْضِ عَلَيْهَا الْمَوْتَ، إِلَى الْجَسَدِ، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الزمر: 42] إِلَى أَنْ يَأْتِيَ وَقْتُ مَوْتِهِ، وَيُقَالُ لِلْإِنْسَانِ نَفْسٌ وَرُوحٌ، فَعِنْدَ النوم يخرج النفس ويبقى الرُّوحُ. وَعَنْ عَلِيٍّ قَالَ: تَخْرُجُ الرُّوحُ عِنْدَ النَّوْمِ وَيَبْقَى شُعَاعُهُ فِي الْجَسَدِ، فَبِذَلِكَ يَرَى الرُّؤْيَا فَإِذَا انْتَبَهَ مِنَ النَّوْمِ عَادَ الروح إلى(6/819)
جسده، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الزمر: 42] لَدَلَالَاتٍ عَلَى قُدْرَتِهِ حَيْثُ لَمْ يَغْلَطْ فِي إِمْسَاكِ مَا يُمْسِكُ مِنَ الْأَرْوَاحِ وَإِرْسَالِ مَا يُرْسِلُ مِنْهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَعَلَامَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فِي أَمْرِ الْبَعْثِ، يَعْنِي إِنَّ تَوَفِّيَ نَفْسِ النَّائِمِ وَإِرْسَالَهَا بَعْدَ التَّوَفِّي دَلِيلٌ عَلَى الْبَعْثِ.
[43] {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ} [الزمر: 43] يا محمد، {أَوَلَوْ كَانُوا} [الزمر: 43] وَإِنْ كَانُوا يَعْنِي الْآلِهَةَ، {لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا} [الزمر: 43] من الشفاعة، {وَلَا يَعْقِلُونَ} [الزمر: 43] أنكم تعبدونهم، وجواب هذه مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: وَإِنْ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ تَتَّخِذُونَهُمْ.
[44] {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر: 44] قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يَشْفَعُ أَحَدٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ، {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزمر: 44]
[45] {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ} [الزمر: 45] نَفَرَتْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: انْقَبَضَتْ عَنِ التَّوْحِيدِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: اسْتَكْبَرَتْ. وَأَصْلُ الِاشْمِئْزَازِ النُّفُورُ وَالِاسْتِكْبَارُ، {قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ} [الزمر: 45] {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [الزمر: 45] يَعْنِي الْأَصْنَامَ، {إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر: 45] يَفْرَحُونَ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ. وَذَلِكَ حِينَ قَرَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُورَةَ وَالنَّجْمِ فَأَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ: تِلْكَ الْغَرَانِيقُ الْعُلَى، فَفَرِحَ بِهِ الْكُفَّارُ.
[46] {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الزمر: 46]
[47] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] قَالَ مُقَاتِلٌ: ظَهَرَ لَهُمْ حِينَ بُعِثُوا مَا لَمْ يَحْتَسِبُوا فِي الدُّنْيَا أَنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ فِي الْآخِرَةِ. قَالَ الْسُّدِّيُّ: ظَنُّوا أَنَّهَا حَسَنَاتٌ فَبَدَتْ لَهُمْ سَيِّئَاتٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَقَرَّبُونَ إِلَى اللَّهِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ فَلَمَّا عُوقِبُوا عَلَيْهَا بَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لم يحتسبوا.
[قوله تعالى وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ] مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ. . .
[48] {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48] أَيْ مَسَاوِئُ أَعْمَالِهِمْ مِنَ الشِّرْكِ وَالظُّلْمِ بِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ. {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزمر: 48]
[49] {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ} [الزمر: 49] شِدَّةٌ، {دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ} [الزمر: 49] أَعْطَيْنَاهُ، {نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} [الزمر: 49] أَيْ عَلَى عِلْمٍ مِنَ اللَّهِ أَنِّي لَهُ أَهْلٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى خَيْرٍ عَلِمَهُ اللَّهُ عِنْدِي، وَذَكَرَ الْكِنَايَةَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ النِّعْمَةِ الْإِنْعَامُ، {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} [الزمر: 49] يَعْنِي تِلْكَ النِّعْمَةُ فِتْنَةُ اسْتِدْرَاجٍ من الله وامتحان وبلية. وقيل: بل الكلمة الَّتِي قَالَهَا فِتْنَةٌ. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 49] أَنَّهُ اسْتِدْرَاجٌ وَامْتِحَانٌ.
[50] {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الزمر: 50] قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي قَارُونَ فَإِنَّهُ قَالَ: {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي} [الْقَصَصِ: 78] {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الزمر: 50] فَمَا أَغْنَى عَنْهُمُ الْكُفْرُ مِنَ الْعَذَابِ شَيْئًا.
[51] {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 51] أَيْ جَزَاؤُهَا يَعْنِي الْعَذَابَ، ثُمَّ [أَوْعَدَ] كُفَّارَ مَكَّةَ فَقَالَ: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر: 51] بِفَائِتِينَ لِأَنَّ مَرْجِعَهُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
[52] {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ} [الزمر: 52] أَيْ يُوَسِّعُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ، {وَيَقْدِرُ} [الزمر: 52] أَيْ يُقَتِّرُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الزمر: 52]
[53] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] أراد بالإسراف ارتكاب الكبائر. {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53]
[54] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ} [الزمر: 54] أَقْبِلُوا وَارْجِعُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ، {وَأَسْلِمُوا لَهُ} [الزمر: 54] وأخلصوا لَهُ التَّوْحِيدَ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [الزمر: 54]
[55] {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} [الزمر: 55] يَعْنِي الْقُرْآنَ، وَالْقُرْآنُ كُلُّهُ حَسَنٌ،(6/820)
وَمَعْنَى الْآيَةِ مَا قَالَهُ الْحَسَنُ: الْتَزِمُوا طَاعَتَهُ وَاجْتَنِبُوا مَعْصِيَتَهُ فَإِنَّ في الْقُرْآنَ ذَكَرَ الْقَبِيحَ لِتَجْتَنِبَهُ وَذَكَرَ الأدون لئلا يرغب فِيهِ، وَذَكَرَ الْأَحْسَنَ لِتُؤْثِرَهُ. قَالَ الْسُّدِّيُّ: الْأَحْسَنُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ فِي الْكِتَابِ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الزمر: 55]
[56] {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} [الزمر: 56] يعني لئلا تقول نفس، قَالَ الْمُبَرِّدُ: أَيْ بَادِرُوا وَاحْذَرُوا أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خَوْفَ أَنْ تَصِيرُوا إِلَى حَالٍ تقولون هذا القول، {يا حَسْرَتَا} [الزمر: 56] يَا نَدَامَتَا، وَالتَّحَسُّرُ الِاغْتِمَامُ عَلَى مَا فَاتَ، وَأَرَادَ يَا حَسْرَتِي عَلَى الْإِضَافَةِ، لَكِنَّ الْعَرَبَ تُحَوِّلُ ياء الْكِنَايَةِ أَلِفًا فِي الِاسْتِغَاثَةِ، فَتَقُولُ: يا ويلتا وَيَا نَدَامَتَا، وَرُبَّمَا أَلْحَقُوا بِهَا الْيَاءَ بَعْدَ الْأَلِفِ لِيَدُلَّ عَلَى الْإِضَافَةِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ يَا حَسْرَتَايَ، وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ يا حسرتا يَا أَيَّتُهَا الْحَسْرَةُ هَذَا وَقْتُكَ، {عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} [الزمر: 56] قَالَ الْحَسَنُ: قَصَّرْتُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَمْرِ اللَّهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ. فِي حَقِّ اللَّهِ. وَقِيلَ: ضَيَّعْتُ فِي ذَاتِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ قصرت في الجانب الذي يردني إِلَى رِضَاءِ اللَّهِ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْجَنْبَ جَانِبًا، {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر: 56] الْمُسْتَهْزِئِينَ بِدِينِ اللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ، قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَكْفِهِ أَنْ ضَيَّعَ طَاعَةَ اللَّهِ حَتَّى جعل يسخر بأهل طاعته.
[قوله تعالى أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ] الْمُتَّقِينَ. . .
[57، 58] {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ - أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ} [الزمر: 57 - 58] عَيَانًا، {لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً} [الزمر: 58] رَجْعَةً إِلَى الدُّنْيَا، {فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الزمر: 58] الموحدين.
[59] يُقَالُ لِهَذَا الْقَائِلِ: {بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي} [الزمر: 59] يعني القرآن، {فَكَذَّبْتَ بِهَا} [الزمر: 59] وَقُلْتَ إِنَّهَا لَيْسَتْ مِنَ اللَّهِ، {وَاسْتَكْبَرْتَ} [الزمر: 59] تَكَبَّرْتَ عَنِ الْإِيمَانِ بِهَا، {وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [الزمر: 59]
[60] {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ} [الزمر: 60] فَزَعَمُوا أَنَّ لَهُ وَلَدًا وَشَرِيكًا، {وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} [الزمر: 60] عَنِ الْإِيمَانِ.
[61] {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر: 61] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ (بِمَفَازَاتِهِمْ) بِالْأَلِفِ عَلَى الْجَمْعِ، أَيْ بِالطُّرُقِ الَّتِي تُؤَدِّيهِمْ إِلَى الْفَوْزِ والنجاة، وقرأ الآخرون {بِمَفَازَتِهِمْ} [الزمر: 61] عَلَى الْوَاحِدِ لِأَنَّ الْمَفَازَةَ بِمَعْنَى الْفَوْزِ، أَيْ يُنَجِّيهِمْ بِفَوْزِهِمْ مِنَ النَّارِ بِأَعْمَالِهِمُ الْحَسَنَةِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: الْمَفَازَةُ مَفْعَلَةٌ مِنَ الْفَوْزِ، وَالْجَمْعُ حَسَنٌ كَالسَّعَادَةِ وَالسَّعَادَاتِ. {لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ} [الزمر: 61] لَا يُصِيبُهُمُ الْمَكْرُوهُ، {وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 61]
[62] {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر: 62] أَيِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا مَوْكُولَةٌ إِلَيْهِ فَهُوَ الْقَائِمُ بِحِفْظِهَا.
[63] {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الزمر: 63] أي مفاتيح خزائن السماوات وَالْأَرْضِ، وَاحِدُهَا مِقْلَادٌ، مِثْلُ:(6/821)
مفتاح، مفاتيح. وقال قتادة ومقاتل: مفاتيح السماوات وَالْأَرْضِ بِالرِّزْقِ وَالرَّحْمَةِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: خَزَائِنُ الْمَطَرِ وَخَزَائِنُ النَّبَاتِ. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الزمر: 63]
[64] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64] ؟ قَالَ مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ دَعَوْهُ إِلَى دِينِ آبَائِهِ. قَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ (تَأْمُرُونَنِي) بِنُونَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ عَلَى الْأَصْلِ، وَقَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ خَفِيفَةٍ عَلَى الْحَذْفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنُونٍ وَاحِدَةٍ مُشَدَّدَةٍ عَلَى الْإِدْغَامِ.
[65] {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزُّمَرِ: 65] أي الَّذِي عَمِلْتَهُ قَبْلَ الشِّرْكِ وَهَذَا خطاب مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ غَيْرُهُ. وَقِيلَ: هَذَا أَدَبٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ وَتَهْدِيدٌ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ اللَّهَ تعالى عَصَمَهُ مِنَ الشرك. {وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر: 65]
[66] {بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر: 66] لِإِنْعَامِهِ عَلَيْكَ.
[67] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] مَا عَظَّمُوهُ حَقَّ عَظَمَتِهِ حِينَ أشركوا به، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ عَظَمَتِهِ فَقَالَ: {وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الزمر: 67] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «يطوي الله السماوات يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِيَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ ثُمَّ يَطْوِي الْأَرْضِينَ ثُمَّ يَأْخُذُهُنَّ بِشِمَالِهِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ أَيْنَ الْجَبَّارُونَ أَيْنَ الْمُتَكَبِّرُونَ» ، هَذَا حَدِيثٌ صحيح أخرجه مسلم (1) .
[قوله تَعَالَى وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ] وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ. . .
[68] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الزُّمَرِ: 68] أَيْ مَاتُوا مِنَ الْفَزَعِ، وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأَوْلَى، {إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [الزمر: 68] اختلفوا في الذين استثناهم عَزَّ وَجَلَّ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُمْ فِي سُورَةِ النَّمْلِ، قَالَ الْحَسَنُ: إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ يَعْنِي اللَّهَ وحده، {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ} [الزمر: 68] أي في الصور، {أُخْرَى} [الزمر: 68] أَيْ مَرَّةً أُخْرَى، {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] مِنْ قُبُورِهِمْ يَنْتَظِرُونَ أَمْرَ اللَّهِ فيهم.
[69] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ} [الزمر: 69] أضاءت، {بِنُورِ رَبِّهَا} [الزمر: 69] بِنُورِ خَالِقِهَا، وَذَلِكَ حِينَ يَتَجَلَّى الرَّبُّ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ خَلْقِهِ فَمَا يَتَضَارُّونَ فِي نُورِهِ كَمَا لَا يَتَضَارُّونَ فِي الشَّمْسِ فِي الْيَوْمِ الصَّحْوِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالسُّدِّيُّ: بِعَدْلِ رَبِّهَا، وَأَرَادَ بِالْأَرْضِ عَرَصَاتِ القيامة، {وَوُضِعَ الْكِتَابُ} [الزمر: 69] أَيْ كِتَابُ الْأَعْمَالِ، {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} [الزمر: 69] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الَّذِينَ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِتَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، وَهُمْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي الْحَفَظَةَ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21]
_________
(1) في صفات المنافقين برقم (2786) 4 / 2147.(6/822)
{وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر: 69] أَيْ بِالْعَدْلِ، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الزمر: 69] أَيْ لَا يُزَادُ فِي سَيِّئَاتِهِمْ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ حَسَنَاتِهِمْ.
[70] {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} [الزمر: 70] أَيْ ثَوَابَ مَا عَمِلَتْ، {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} [الزمر: 70] قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ أَنِّي عَالِمٌ بِأَفْعَالِهِمْ لَا أَحْتَاجُ إِلَى كَاتِبٍ ولا إلى شاهد.
[قوله تعالى وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زمرا. . .]
[71] {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ} [الزمر: 71] سوقا عنيفا، {زُمَرًا} [الزمر: 71] أَفْوَاجًا بَعْضُهَا عَلَى إِثْرِ بَعْضٍ، كُلُّ أُمَّةٍ عَلَى حِدَةٍ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: زُمُرًا أَيْ جَمَاعَاتٍ فِي تَفْرِقَةٍ، وَاحِدَتُهَا زُمْرَةٌ. {حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 71] السَّبْعَةُ وَكَانَتْ مُغْلَقَةً قَبْلَ ذَلِكَ، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ (فُتِحَتْ) بِالتَّخْفِيفِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّشْدِيدِ عَلَى التَّكْثِيرِ {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الزمر: 71] تَوْبِيخًا وَتَقْرِيعًا لَهُمْ، {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ} [الزمر: 71] وَجَبَتْ، {كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الزمر: 71] وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هُودٍ: 119]
[72، 73] {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ - وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 72 - 73] يُرِيدُ أَنَّ خَزَنَةَ الْجَنَّةِ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِمْ وَيَقُولُونَ طِبْتُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَابَ لَكُمُ الْمَقَامُ. قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ إِذَا قَطَعُوا النَّارَ حُبِسُوا عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ فَيَقْتَصُّ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى إِذَا هُذِّبُوا وَطُيِّبُوا أُدْخِلُوا الجنة.
[74] {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ} [الزمر: 74] أَيْ أَرْضَ الْجَنَّةِ. وَهُوَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ. {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 105] {نَتَبَوَّأُ} [الزمر: 74] نَنْزِلُ، {مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} [الزمر: 74] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} [الزمر: 74] ثَوَابُ الْمُطِيعِينَ.
[75] {وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} [الزمر: 75] أي محدقين محيطين بالعرش، المحيطين بحوافه أَيْ بِجَوَانِبِهِ، {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} [الزمر: 75] قِيلَ: هَذَا تَسْبِيحُ تَلَذُّذٍ لَا تسبيح تعبد لأن التكليف متروك فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} [الزمر: 75] أَيْ قُضِيَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ بِالْعَدْلِ، {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75] يقول أهل الجنة: شكرا حِينَ تَمَّ وَعْدُ اللَّهِ لَهُمْ.
[سورة غافر]
[قوله تعالى حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ] غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ. . .
(40) سورة غافر [1] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ (حم) قَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي حُرُوفِ التَّهَجِّي. قَالَ السُّدِّيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: حم اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنْهُ قَالَ: الر(6/823)
وَحم، وَنون، حُرُوفُ الرَّحْمَنِ مُقَطَّعَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: الْحَاءُ افْتِتَاحُ أَسْمَائِهِ حَكِيمٌ حَمِيدٌ حَيٌّ حَلِيمٌ حَنَّانٌ، وَالْمِيمُ افتتاح أسمائه ملك مَجِيدٌ مَنَّانٌ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ كأنه أشار إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ حُمَّ بِضَمِّ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ حِم بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا.
[2، 3] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [غَافِرٍ: 2] {غَافِرِ الذَّنْبِ} [غافر: 3] ساتر الذنب و {وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر: 3] يَعْنِي التَّوْبَةَ مَصْدَرُ تَابَ يَتُوبُ تَوْبًا. وَقِيلَ: التَّوْبُ جَمْعُ تَوْبَةٍ مِثْلُ دَوْمَةٍ وَدَوْمٍ وَحَوْمَةٍ وَحَوْمٍ. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ. غَافِرُ الذَّنْبِ لِمَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَابِلُ التَّوْبِ مِمَّنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله. {شَدِيدِ الْعِقَابِ} [غافر: 3] لِمَنْ لَا يَقُولُ لَا إِلَهَ إلا الله، {ذِي الطَّوْلِ} [غافر: 3] ذِي الْغِنَى عَمَّنْ لَا يَقُولُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. قَالَ مُجَاهِدٌ. ذِي الطَّوْلِ ذِي السَّعَةِ وَالْغِنَى. وَقَالَ الْحَسَنُ: ذُو الْفَضْلِ. قال قتادة: ذو النعم: ذُو الْقُدْرَةِ وَأَصْلُ الطَّوْلِ الْإِنْعَامُ الَّذِي تَطُولُ مُدَّتُهُ عَلَى صَاحِبِهِ. {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [غافر: 3]
[4] {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر: 4] في دفع آيات الله بالتعذيب والإنكار، {إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: آيَتَانِ مَا أَشَدَّهُمَا عَلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي الْقُرْآنِ: {مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 4] و {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [البقرة: 176] قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ} [غافر: 4] تَصَرُّفُهُمْ فِي الْبِلَادِ لِلتِّجَارَاتِ وَسَلَامَتُهُمْ فِيهَا مَعَ كُفْرِهِمْ، فَإِنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمُ الْعَذَابُ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ} [آلِ عِمْرَانَ: 196]
[5] {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر: 5] وَهُمُ الْكُفَّارُ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ بِالتَّكْذِيبِ مِنْ [بَعْدِ] قَوْمِ نُوحٍ، {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر: 5] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَقْتُلُوهُ وَيُهْلِكُوهُ، وَقِيلَ. لِيَأْسِرُوهُ. وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْأَسِيرَ أخيذا {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا} [غافر: 5] ليبطلوا، {بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5] الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ وَمُجَادَلَتُهُمْ مِثْلُ قَوْلِهِمْ: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ} [الْفَرْقَانِ: 21] وَنَحْوَ ذَلِكَ. {فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} [غافر: 5]
[6] {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر: 6] يَعْنِي كَمَا حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ حَقَّتْ {عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} [غافر: 6] مِنْ قَوْمِكَ، {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 6]
[7] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] حَمَلَةُ الْعَرْشِ وَالطَّائِفُونَ بِهِ وَهُمُ الكروبيون، وهم سادة المائكة. قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} [غافر: 7] يُصَدِّقُونَ بِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ له {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا} [غافر: 7] يَعْنِي يَقُولُونَ رَبَّنَا، {وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 7](6/824)
، قِيلَ: نُصِبَ عَلَى التَّفْسِيرِ، وَقِيلَ: عَلَى النَّقْلِ، أَيْ وَسِعَتْ رَحْمَتُكَ وَعِلْمُكَ كُلَّ شَيْءٍ، {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] دينك. {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [غافر: 7] قَالَ مُطَرِّفٌ: أَنْصَحُ عِبَادِ اللَّهِ للمؤمنين الْمَلَائِكَةُ وَأَغَشُّ الْخَلْقِ لِلْمُؤْمِنِينَ هُمُ الشياطين.
[قوله تعالى رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ] وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ. . .
[8] {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ} [غافر: 8] آمن، {مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [غافر: 8] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَدْخُلُ الْمُؤْمِنُ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ: أَيْنَ أَبِي أَيْنَ أُمِّي أَيْنَ وَلَدِي أَيْنَ زوجتي؟ فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ لَمْ يَعْمَلُوا مِثْلَ عَمَلِكَ، فَيَقُولُ: إِنِّي كُنْتُ أَعْمَلُ لي ولهم، فيقال: أدخلوهم (1) .
[9] {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} [غافر: 9] العقوبات، {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ} [غافر: 9] أَيْ وَمَنْ تَقِهِ السَّيِّئَاتِ يَعْنِي الْعُقُوبَاتِ، وَقِيلَ: جَزَاءَ السَّيِّئَاتِ، {يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [غافر: 9]
[10] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ} [غافر: 10] يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُمْ فِي النَّارِ وَقَدْ مَقَتُوا أَنْفُسَهُمْ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيْهِمْ سَيِّئَاتُهُمْ، وَعَايَنُوا الْعَذَابَ، فَيُقَالُ لَهُمْ،: {لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} [غافر: 10] يَعْنِي لَمَقْتُ اللَّهِ إِيَّاكُمْ فِي الدُّنْيَا إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمُ الْيَوْمَ أَنْفُسَكُمْ عِنْدَ حُلُولِ الْعَذَابِ بِكُمْ.
[11] {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} [غافر: 11] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: كَانُوا أَمْوَاتًا فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ فَأَحْيَاهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَمَاتَهُمُ الْمَوْتَةَ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُمَا مَوْتَتَانِ وَحَيَاتَانِ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 28] وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: أُمِيتُوا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ أُحْيَوْا فِي قُبُورِهِمْ لِلسُّؤَالِ، ثُمَّ أُمِيتُوا فِي قُبُورِهِمْ ثُمَّ أُحْيَوْا فِي الْآخِرَةِ. {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} [غافر: 11] أَيْ مِنْ خُرُوجٍ مِنَ النَّارِ إِلَى الدُّنْيَا فَنُصْلِحَ أَعْمَالَنَا وَنَعْمَلَ بِطَاعَتِكَ، نَظِيرُهُ: {هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 44]
[12] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} [غافر: 12] وَفِيهِ مَتْرُوكٌ اسْتُغْنِيَ عَنْهُ لِدَلَالَةِ الظَّاهِرِ عَلَيْهِ، مَجَازُهُ: فَأُجِيبُوا أَنْ لَا سَبِيلَ إِلَى ذَلِكَ، وَهَذَا الْعَذَابُ وَالْخُلُودُ فِي النَّارِ بِأَنَّكُمْ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ أي إِذَا قِيلَ لَا إِلَهَ إِلَّا الله أنكرتم، وَقُلْتُمْ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص: 5] {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ} [غافر: 12] غيره، {تُؤْمِنُوا} [غافر: 12] تُصَدِّقُوا ذَلِكَ الشِّرْكَ، {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ وَلَا أكبر.
_________
(1) أخرجه الطبري 23 / 45.(6/825)
[13] {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا} [غافر: 13] يَعْنِي الْمَطَرَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الأرزاق، {وَمَا يَتَذَكَّرُ} [غافر: 13] وَمَا يَتَّعِظُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ {إِلَّا مَنْ يُنِيبُ} [غافر: 13] يَرْجِعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ.
[14] {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] الطَّاعَةَ وَالْعِبَادَةَ. {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14]
[15] {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ} [غافر: 15] رَافِعُ دَرَجَاتِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ فِي الجنة {ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ} [غافر: 15] يُنَزِّلُ الْوَحْيَ، سَمَّاهُ رُوحًا لِأَنَّهُ تَحْيَا بِهِ الْقُلُوبُ كَمَا تَحْيَا الأبدان بالأرواح، {مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ قَضَائِهِ. وَقِيلَ: مِنْ قَوْلِهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِأَمْرِهِ. {عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ} [غافر: 15] أَيْ لِيُنْذِرَ النَّبِيُّ بِالْوَحْيِ، {يَوْمَ التَّلَاقِ} [غافر: 15] وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِالتَّاءِ أَيْ لِتُنْذِرَ أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ يَوْمَ التَّلَاقِ، يَوْمَ يَلْتَقِي أَهْلُ السَّمَاءِ وَأَهْلُ الأرض. وقال قَتَادَةُ: وَمُقَاتِلٌ: يَلْتَقِي فِيهِ الْخَلْقُ وَالْخَالِقُ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَتَلَاقَى الْعِبَادُ. وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: يَلْتَقِي الظَّالِمُ وَالْمَظْلُومُ وَالْخُصُومُ. وَقِيلَ: يَلْتَقِي الْعَابِدُونَ وَالْمَعْبُودُونَ. وَقِيلَ: يَلْتَقِي فِيهِ الْمَرْءُ مَعَ عَمَلِهِ.
[16] {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} [غافر: 16] خَارِجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ ظَاهِرُونَ لَا يَسْتُرُهُمْ شَيْءٌ، {لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ} [غافر: 16] من أعمالهم وأحوالهم، {شَيْءٌ} [غافر: 16] ويقول اللَّهُ تَعَالَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ، {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ} [غافر: 16] فلا أحد يجيبه فيجيب بنفسه فيقول، {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} [غافر: 16] الذي قهر الخلق بالموت.
[قوله تعالى الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ] الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ. . .
[17] {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] يُجْزَى الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، {لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 17]
[18] {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} [غافر: 18] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا قَرِيبَةٌ إِذْ كَلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} [النَّجْمِ: 57] أَيْ قَرُبَتِ الْقِيَامَةُ. {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} [غافر: 18] وَذَلِكَ أَنَّهَا تَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا مِنَ الْخَوْفِ حَتَّى تَصِيرَ إِلَى الحناجر، فهي لا تعود إلى أماكنها وهي لا تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ فَيَمُوتُوا وَيَسْتَرِيحُوا، {كَاظِمِينَ} [غافر: 18] مَكْرُوبِينَ مُمْتَلِئِينَ خَوْفًا وَحُزْنًا، وَالْكَظْمُ تَرَدُّدُ الْغَيْظِ وَالْخَوْفِ وَالْحُزْنِ فِي الْقَلْبِ حَتَّى يَضِيقَ بِهِ. {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} [غافر: 18] قَرِيبٌ يَنْفَعُهُمْ، {وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] فَيَشْفَعُ فِيهِمْ.
[19] {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ} [غافر: 19] أَيْ خِيَانَتَهَا وَهِيَ مُسَارَقَةُ النَّظَرِ إِلَى مَا لَا يَحِلُّ. قَالَ مجاهد: نَظَرُ الْأَعْيُنِ إِلَى مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19]
[20] {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} [غافر: 20] يَعْنِي الْأَوْثَانَ، {لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} [غافر: 20] لِأَنَّهَا لَا تَعْلَمُ شَيْئًا وَلَا تقدر على شيء {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 20]
[21] {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} [غافر: 21](6/826)
فَلَمْ يَنْفَعْهُمْ ذَلِكَ. {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} [غافر: 21] يدفع عنهم العذاب.
[22- 25] {ذَلِكَ} [غافر: 22] أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ الَّذِي نَزَلَ بِهِمْ، {بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ - وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ - إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ - فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا} [غافر: 22 - 25] يَعْنِي فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ، {اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [غافر: 25] قَالَ قَتَادَةُ: هَذَا غَيْرُ الْقَتْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ فِرْعَوْنَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ عَنْ قَتْلِ الْوِلْدَانِ، فَلَمَّا بُعِثَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَعَادَ الْقَتْلَ عَلَيْهِمْ، فَمَعْنَاهُ أَعِيدُوا عَلَيْهِمُ القتل، {وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ} [غافر: 25] ليصدوهم ببذلك عَنْ مُتَابَعَةِ مُوسَى وَمُظَاهَرَتِهِ، {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ} [غافر: 25] وَمَا مَكَرُ فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وَاحْتِيَالُهُمْ، {إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 25] أَيْ يَذْهَبُ كَيْدُهُمْ بَاطِلًا، وَيَحِيقُ بِهِمْ مَا يُرِيدُهُ اللَّهُ عَزَّ وجل.
[قوله تعالى وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ] رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ. . .
[26] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} [غافر: 26] لملئه، {ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} [غافر: 26] وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا لِأَنَّهُ كَانَ فِي خَاصَّةِ قَوْمِ فِرْعَوْنَ مَنْ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِهِ خَوْفًا مِنَ الهلاك، {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} [غافر: 26] أَيْ وَلْيَدْعُ مُوسَى رَبَّهُ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ أَرْسَلَهُ إِلَيْنَا فَيَمْنَعَهُ مِنَّا، {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ} [غافر: 26] أن يغير، {دِينَكُمْ} [غافر: 26] الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ} [غافر: 26] أراد بِالْفَسَادِ تَبْدِيلَ الدِّينِ وَعِبَادَةَ غَيْرِهِ.
[27، 28] {وَقَالَ مُوسَى} [غافر: 27] لَمَّا تَوَعَّدَهُ فِرْعَوْنُ بِالْقَتْلِ، {إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ - وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 27 - 28] وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْمُؤْمِنِ قَالَ مُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ: كَانَ قِبْطِيًّا ابْنَ عَمِّ فِرْعَوْنَ وَهُوَ الَّذِي حَكَى اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى} [الْقِصَصِ: 20] وَقَالَ قَوْمٌ: كَانَ إِسْرَائِيلِيًّا، وَمَجَازُ الْآيَةِ. وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَكَانَ اسمه حزبيل عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ اسْمُهُ جبريل. وَقِيلَ: كَانَ اسْمُ الرَّجُلِ الَّذِي آمَنَ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ حَبِيبًا. {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} [غافر: 28] لِأَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ، {وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28] أَيْ بِمَا يَدُلُّ عَلَى صِدْقِهِ، {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر: 28] لَا يَضُرُّكُمْ ذَلِكَ، {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا} [غافر: 28] فكذبتموه وهو صادق، {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} [غافر: 28] قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ الْكُلُّ، أَيْ إِنْ قَتَلْتُمُوهُ وَهُوَ صادق أصابكم ما وعدكم مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ اللَّيْثُ: (بَعْضُ) ههنا صِلَةٌ، يُرِيدُ: يُصِبُكُمُ الَّذِي يَعِدُكُمْ. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هَذَا عَلَى الظَّاهِرِ فِي الْحِجَاجِ كَأَنَّهُ قَالَ أَقَلُّ مَا فِي صِدْقِهِ أَنْ يُصِيبَكُمْ(6/827)
بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ وَفِي بَعْضِ ذَلِكَ هَلَاكُكُمْ، فَذَكَرَ الْبَعْضَ لِيُوجِبَ الْكُلَّ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي} [غافر: 28] إِلَى دِينِهِ، {مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} [غافر: 28] مشرك، {كَذَّابٌ} [غافر: 28] على الله.
[29] {يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ} [غافر: 29] غَالِبِينَ فِي أَرْضِ مِصْرَ، {فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ} [غافر: 29] مَنْ يَمْنَعُنَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، {إِنْ جَاءَنَا} [غافر: 29] وَالْمَعْنَى لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فَلَا تعرضوا لِعَذَابِ اللَّهِ بِالتَّكْذِيبِ وَقَتْلِ النَّبِيِّ، فَإِنَّهُ لَا مَانِعَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِنْ حَلَّ بِكُمْ، {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ} [غافر: 29] مِنَ الرَّأْيِ وَالنَّصِيحَةِ، {إِلَّا مَا أَرَى} [غافر: 29] لِنَفْسِي. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَا أُعْلِمُكُمْ إِلَّا مَا أَعْلَمُ، {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 29] مَا أَدْعُوكُمْ إِلَّا إِلَى طَرِيقِ الْهُدَى.
[30] {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ - مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} [غافر: 30 - 31] أَيْ مِثْلَ عَادَتِهِمْ فِي الْإِقَامَةِ عَلَى التَّكْذِيبِ حَتَّى أَتَاهُمُ الْعَذَابُ، {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} [غافر: 31] أي لا يهلكهم قبل إيجاب الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ.
[31] {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} [غافر: 32] يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُدْعَى كُلُّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ وَيُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيُنَادِي أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ، وَأَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ، وَيُنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ، وَيُنَادَى بِالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، أَلَا إن فلان ابن فُلَانٍ قَدْ سَعِدَ سَعَادَةً لَا يشقى بعدها أبدا، وفلان ابن فُلَانٍ قَدْ شَقِيَ شَقَاوَةً لَا يَسْعَدُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَيُنَادَى حِينَ يُذْبَحُ الْمَوْتُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: يَوْمَ التَّنَادِّ بِتَشْدِيدِ الدَّالِّ أَيْ يَوْمَ التَّنَافُرِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ هَرَبُوا فَنَدَّوْا فِي الْأَرْضِ كَمَا تَنِدُّ الْإِبِلُ إِذَا شردت عن أربابها. وقال الضَّحَّاكُ: وَكَذَلِكَ إِذَا سَمِعُوا زَفِيرَ النَّارِ نَدَّوْا هَرَبًا فَلَا يَأْتُونَ قُطْرًا مِنَ الْأَقْطَارِ إِلَّا وَجَدُوا الْمَلَائِكَةَ صُفُوفًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} [الْحَاقَّةِ: 17] وقوله: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا} [الرحمن: 33]
[قوله تعالى وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ] فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ. . .
[32-34] {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} [غافر: 33] مُنْصَرِفِينَ عَنْ مَوْقِفِ الْحِسَابِ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَارِّينَ غَيْرَ مُعْجِزِينَ، {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} [غافر: 33] يَعْصِمُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ، {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ - وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ} [غافر: 33 - 34] يَعْنِي يُوسُفَ بْنَ يَعْقُوبَ مِنْ قَبْلُ، أَيْ مِنْ قَبْلِ مُوسَى، {بِالْبَيِّنَاتِ} [غافر: 34] يَعْنِي قَوْلَهُ {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} [يُوسُفَ: 39] {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ} [غافر: 34] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ عِبَادَةِ اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، {حَتَّى إِذَا هَلَكَ} [غافر: 34] مَاتَ، {قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا} [غافر: 34] أَيْ أَقَمْتُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ وَظَنَنْتُمْ أن لَا يُجَدِّدُ عَلَيْكُمُ الْحُجَّةَ، {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} [غافر: 34] مشرك {مُرْتَابٌ} [غافر: 34] شَاكٌّ.
[35] {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر: 35] قَالَ الزَّجَّاجُ. هَذَا تَفْسِيرٌ لِلْمُسْرِفِ المرتاب يعني الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَيْ فِي إِبْطَالِهَا بِالتَّكْذِيبِ، {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ} [غافر: 35] حجة، {أَتَاهُمْ} [غافر: 35] من الله، {كَبُرَ مَقْتًا} [غافر: 35] أَيْ كَبُرَ ذَلِكَ الْجِدَالُ مَقْتًا، {عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} [غافر: 35] قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ عَامِرٍ (قلب) بالتنوين، قرأ الْآخَرُونَ بِالْإِضَافَةِ، دَلِيلُهُ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (عَلَى قَلْبِ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) .
[36، 37] {وَقَالَ فِرْعَوْنُ} [غافر: 36] لوزيره، {يا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} [غافر: 36] وَالصَّرْحُ الْبِنَاءُ الظَّاهِرُ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى النَّاظِرِ وَإِنْ بَعُدَ وَأَصْلُهُ مِنَ التَّصْرِيحِ وَهُوَ الْإِظْهَارُ، {لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ - أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} [غافر: 36 - 37] يَعْنِي طُرُقَهَا وَأَبْوَابَهَا مِنْ سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ، {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} [غافر: 37] قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ بِرَفْعِ الْعَيْنِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ. (أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ) ، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِنَصْبِ الْعَيْنِ وَهِيَ قِرَاءَةُ حُمَيْدٍ(6/828)
الْأَعْرَجِ، عَلَى جَوَابِ لَعَلَّ بِالْفَاءِ، {وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ} [غافر: 37] يعني موسى، {كَاذِبًا} [غافر: 37] فيما يقولون إِنَّ لَهُ رِبًّا غَيْرِي، {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} [غافر: 37] قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَيَعْقُوبُ (وَصُدَّ) بِضَمِّ الصَّادِ نَسَقًا عَلَى قَوْلِهِ: (زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: صَدَّهُ اللَّهُ عَنْ سَبِيلِ الْهُدَى. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ أَيْ صَدَّ فِرْعَوْنُ النَّاسَ عَنِ السَّبِيلِ. {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} [غافر: 37] يَعْنِي وَمَا كَيْدُهُ فِي إِبْطَالِ آيات الله وآيات مُوسَى إِلَّا فِي خَسَارٍ وَهَلَاكٍ.
[38] {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38] طريق الهدى.
[39] {يا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} [غافر: 39] مُتْعَةٌ تَنْتَفِعُونَ بِهَا مُدَّةً ثُمَّ تَنْقَطِعُ، {وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} [غافر: 39] الَّتِي لَا تَزُولُ.
[40] {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} [غافر: 40] قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا تَبِعَةَ عَلَيْهِمْ فِيمَا يُعْطَوْنَ فِي الْجَنَّةِ مِنَ الخير.
[قوله تعالى وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي] إِلَى النَّارِ. . .
[41] {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} [غافر: 41] يعني مالكم كما تقول العرب: مالي أراك حزينا؟ أي مالك؟ يَقُولُ: أَخْبِرُونِي عَنْكُمْ كَيْفَ هَذِهِ الْحَالُ أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ مِنَ النَّارِ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ، {وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} [غافر: 41] إِلَى الشِّرْكِ الَّذِي يُوجِبُ النَّارَ، ثُمَّ فَسَّرَ فَقَالَ:
[42] {تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} [غافر: 42] الغزيز فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ كَفَرَ، الْغَفَّارُ لِذُنُوبِ أَهْلِ التَّوْحِيدِ.
[43] {لَا جَرَمَ} [غافر: 43] حقا، {أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [غافر: 43] أَيْ إِلَى الْوَثَنِ، {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ} [غافر: 43] فقال الْسُّدِّيُّ: لَا يَسْتَجِيبُ لِأَحَدٍ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، يَعْنِي لَيْسَتْ لَهُ اسْتِجَابَةُ [دَعْوَةٍ] . وَقِيلَ: ليست به دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِ فِي الدُّنْيَا لِأَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ، وَلَا تَدْعُو إِلَى عِبَادَتِهَا، وَفِي الْآخِرَةِ تَتَبَرَّأُ مِنْ عَابِدِيهَا. {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} [غافر: 43] مَرْجِعُنَا إِلَى اللَّهِ فَيُجَازِي كُلًّا بما يستحق، {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ} [غافر: 43] المشركين، {هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} [غافر: 43]
[44] {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} [غافر: 44] إذا عاينتم العذاب حين ألا يَنْفَعُكُمُ الذِّكْرُ، {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ} [غافر: 44] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَوَعَّدُوهُ لِمُخَالَفَتِهِ دِينَهُمْ، {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر: 44] يَعْلَمُ الْمُحِقَّ مِنَ الْمُبْطِلِ ثُمَّ خَرَجَ الْمُؤْمِنُ مِنْ بَيْنِهِمْ، فَطَلَبُوهُ فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ.
[45] وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} [غافر: 45] مَا أَرَادُوا بِهِ مِنَ الشَّرِّ، قَالَ قَتَادَةُ: نَجَا مَعَ مُوسَى وكان قبطيا، {وَحَاقَ} [غافر: 45] نَزَلَ، {بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} [غافر: 45] الْغَرَقُ فِي الدُّنْيَا وَالنَّارُ فِي الآخرة.(6/829)
[46] وذلك قوله: {النَّارُ} [غافر: 46] هِيَ رَفْعٌ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ السُّوءِ، {يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46] صَبَاحًا وَمَسَاءً، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَرْوَاحُ آلِ فِرْعَوْنَ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ سُودٍ يُعْرَضُونَ عَلَى النَّارِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّتَيْنِ تَغْدُو وَتَرُوحُ إِلَى النَّارِ وَيُقَالُ: يَا آلَ فرعون هذه مأواكم حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: تُعْرَضُ رُوحُ كُلِّ كَافِرٍ عَلَى النَّارِ بُكْرَةً وعشيا ما دامت الدنيا. ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْ مُسْتَقَرِّهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا} [غافر: 46] مِنَ الدُّخُولِ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ ادْخُلُوا يَا {آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر: 46] وقيل مِنَ الْإِدْخَالِ، أَيْ يُقَالُ لِلْمَلَائِكَةِ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَلْوَانَ الْعَذَابِ غَيْرَ الَّذِي كَانُوا يُعَذَّبُونَ بِهِ مُنْذُ أُغْرِقُوا.
[47] {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} [غافر: 47] أَيْ اذْكُرْ يَا مُحَمَّدُ لِقَوْمِكَ إِذْ يَخْتَصِمُونَ يَعْنِي أَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ {فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} [غافر: 47] فِي الدُّنْيَا، {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} [غافر: 47] وَالتَّبَعُ يَكُونُ وَاحِدًا وَجَمْعًا فِي قول أهل البصرة، واحده تَابِعٌ، وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: هُوَ جَمْعٌ لَا وَاحِدَ لَهُ وَجَمْعُهُ أَتْبَاعٌ.
[48، 49] {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ - وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ} [غافر: 48 - 49] حِينَ اشْتَدَّ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، {لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} [غافر: 49]
[قوله تعالى قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ] قَالُوا بَلَى. . .
[50] {قَالُوا} [غافر: 50] يعني خزنة جهنم لهم، {أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا} [غافر: 50] أنتم إذا ربكم، أي إِنَّا لَا نَدْعُو لَكُمْ لِأَنَّهُمْ عَلِمُوا أَنَّهُ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى. {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} [غافر: 50] أَيْ يُبْطِلُ وَيُضِلُّ وَلَا يَنْفَعُهُمْ.
[51] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [غافر: 51] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: بِالْحُجَّةِ وَفِي الْآخِرَةِ بالعذاب. وَقِيلَ: بِالِانْتِقَامِ مِنَ الْأَعْدَاءِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ كَانَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْمُؤْمِنِينَ فَهُمْ مَنْصُورُونَ بِالْحُجَّةِ عَلَى مَنْ خَالَفَهُمْ، وَقَدْ نَصَرَهُمُ اللَّهُ بِالْقَهْرِ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِهِمْ، وَنَصَرَهُمْ بَعْدَ أَنْ قُتِلُوا بِالِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، كَمَا نَصَرَ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا لَمَّا قُتِلَ، قُتِلَ بِهِ سَبْعُونَ ألفا، فهو مَنْصُورُونَ بِأَحَدِ هَذِهِ الْوُجُوهِ، {وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَقُومُ الْحَفَظَةُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَشْهَدُونَ لِلرُّسُلِ بِالتَّبْلِيغِ وَعَلَى الْكَفَّارِ بِالتَّكْذِيبِ.
[52] {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غافر: 52] إِنِ اعْتَذَرُوا عَنْ كُفْرِهِمْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَابُوا لَمْ ينفعهم، {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} [غافر: 52] الْبُعْدُ مِنَ الرَّحْمَةِ، {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} [غافر: 52] يَعْنِي جَهَنَّمَ.(6/830)
[53] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} [غافر: 53] قَالَ مُقَاتِلٌ: الْهُدَى مِنَ الضَّلَالَةِ، يَعْنِي التَّوْرَاةَ، {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [غافر: 53] التَّوْرَاةَ.
[54] {هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [غافر: 54]
[55] {فَاصْبِرْ} [غافر: 55] يَا مُحَمَّدُ عَلَى أَذَاهُمْ، {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [غافر: 55] فِي إِظْهَارِ دِينِكَ، وَإِهْلَاكِ أَعْدَائِكَ {حَقٌّ} [غافر: 55] قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَسَخَتْ آيَةُ الْقِتَالِ آية الصبر، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55] هَذَا تَعَبُّدٌ مِنَ اللَّهِ لِيَزِيدَهُ بِهِ دَرَجَةً وَلِيَصِيرَ سُنَّةً لِمَنْ بعده، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [غافر: 55] صَلِّ شَاكِرًا لِرَبِّكَ، {بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ} [غافر: 55] قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي صَلَاةَ الْعَصْرِ وَصَلَاةَ الْفَجْرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ.
[56] {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ} [غافر: 56] مَا فِي قُلُوبِهِمْ وَالصَّدْرُ مَوْضِعُ الْقَلْبِ، فَكَنَّى بِهِ عَنِ الْقَلْبِ لقرب الجوار، {إِلَّا كِبْرٌ} [غافر: 56] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا يَحْمِلُهُمْ عَلَى تَكْذِيبِكَ إِلَّا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنَ الْكِبَرِ وَالْعَظَمَةِ، {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} [غافر: 56] قَالَ مُجَاهِدٌ: مَا هُمْ بِبَالِغِي مُقْتَضَى ذَلِكَ الْكِبَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مُذِلُّهُمْ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا تَكَبُّرٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَطَمَعٌ فِي أَنْ يَغْلِبُوهُ وَمَا هُمْ بِبَالِغِي ذَلِكَ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ صَاحِبَنَا الْمَسِيحَ بْنَ دَاوُدَ يَعْنُونَ الدَّجَّالَ يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ، فيبلغ سلطانه الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَيَرُدُّ الْمُلْكَ إِلَيْنَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [غافر: 56] مِنْ فِتْنَةِ الدَّجَّالِ، {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [غافر: 56]
[57] {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [غافر: 57] مع عظمهما، {أَكْبَرُ} [غافر: 57] أَعْظَمُ فِي الصُّدُورِ، {مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} [غافر: 57] أَيْ مِنْ إِعَادَتِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ} [غافر: 57] يعني الكفار، {لَا يَعْلَمُونَ} [غافر: 57] حيت لَا يَسْتَدِلُّونَ بِذَلِكَ عَلَى تَوْحِيدِ خَالِقِهَا. وَقَالَ قَوْمٌ: أَكْبَرُ أَيْ أَعْظَمُ مِنْ خَلْقِ الدَّجَّالِ، (وَلَكِنَّ أكثر الناس) ، يَعْنِي الْيَهُودَ الَّذِينَ يُخَاصِمُونَ فِي أمر الدجال.
[58] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر: 58] قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ (تَتَذَكَّرُونَ) بِالتَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِأَنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ وَآخِرَهَا خَبَرٌ عَنْ قَوْمٍ.
[قوله تعالى إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ] أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ. . .
[59] {إِنَّ السَّاعَةَ} [غافر: 59] أَيْ الْقِيَامَةَ {لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا} [غافر: 59] {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [غافر: 59]
[60] {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] أَيِ اعْبُدُونِي دُونَ غَيْرِي أُجِبْكُمْ وَأُثِبْكُمْ وَأَغْفِرْ لَكُمْ، فَلَمَّا عَبَّرَ عن العبادة بالدعاء جعل الإثابة استجابة، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ: «إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ» ، ثُمَّ قَرَأَ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60](6/831)
(1) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ لَمْ يَدْعُ اللَّهَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ» (2) وَقِيلَ: الدُّعَاءُ: هُوَ الذِّكْرُ وَالسُّؤَالُ، {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] صَاغِرِينَ ذَلِيلِينَ.
[61- 63] {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ - ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ - كَذَلِكَ} [غافر: 61 - 63] يَعْنِي كَمَا أُفِكْتُمْ عَنِ الْحَقِّ مَعَ قِيَامِ الدَّلَائِلِ، كَذَلِكَ {يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [غافر: 63]
[64، 65] {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} [غافر: 64] فراشا، {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [غافر: 64] سَقْفًا كَالْقُبَّةِ {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] قَالَ مُقَاتِلٌ: خَلَقَكُمْ فَأَحْسَنَ خَلْقَكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: خُلِقَ ابْنُ آدَمَ قَائِمًا مُعْتَدِلًا يَأْكُلُ وَيَتَنَاوَلُ بِيَدِهِ، وَغَيْرُ ابْنِ آدَمَ يَتَنَاوَلُ بفيه. {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [غافر: 64] قيل: هو مِنْ غَيْرِ رِزْقِ الدَّوَابِّ {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ - هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 64 - 65] قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ خَبَرٌ وَفِيهِ إِضْمَارُ الْأَمْرِ، مَجَازُهُ: فَادْعُوهُ وَاحْمَدُوهُ. وَرَوَى عَنْ مُجَاهِدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَلْيَقُلْ عَلَى إِثْرِهَا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 65]
[66] {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [غافر: 66] وَذَلِكَ حِينَ دُعِيَ إِلَى الْكُفْرِ.
[قَوْلُهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ] ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ. . .
[67] {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا} [غافر: 67] أَيْ أَطْفَالًا، {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} [غافر: 67] أَيْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَصِيرَ شيخا. {وَلِتَبْلُغُوا} [غافر: 67] جميعا، {أَجَلًا مُسَمًّى} [غافر: 67] وَقْتًا مَعْلُومًا مَحْدُودًا لَا تُجَاوِزُونَهُ، يُرِيدُ أَجَلَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ، {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [غافر: 67] أَيْ لِكَيْ تَعْقِلُوا تَوْحِيدَ رَبِّكُمْ وَقُدْرَتَهُ.
[68، 69] {هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ - أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ} [غافر: 68 - 69] يَعْنِي الْقُرْآنَ يَقُولُونَ لَيْسَ مِنْ عند
_________
(1) أخرجه أبو داود في الصلاة 2 / 141 والترمذي في التفسير 9 / 121 وقال (حديث حسن صحيح) والنسائي في التفسير 2 / 253 وابن ماجه في الدعاء برقم (3828) 2 / 1258 والحاكم 1 / 490 وصححه ووافقه الذهبي والمصنف في شرح السنة 5 / 188.
(2) أخرجه أحمد (2 / 442) ، والبخاري في الأدب المفرد (658) ، والترمذي (3373) وابن ماجه (3827) ، والحاكم (1 / 491) ، والمصنف في شرح السنة (رقم 1389) .(6/832)
الله، {أَنَّى يُصْرَفُونَ} [غافر: 69] كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ دِينِ الْحَقِّ. قِيلَ: هُمُ الْمُشْرِكُونَ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَجَمَاعَةٍ: أَنَّهَا نَزَلَتْ في القدرية. 70،
[71] {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ - إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ} [غافر: 70 - 71] يُجَرُّونَ.
[72] {فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} [غافر: 72] قَالَ مُقَاتِلٌ: تُوقَدُ بِهِمُ النَّارُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَصِيرُونَ وَقُودًا لِلنَّارِ. 73،
[74] {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ - مِنْ دُونِ اللَّهِ} [غافر: 73 - 74] يَعْنِي الْأَصْنَامَ، {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} [غافر: 74] فَقَدْنَاهُمْ فَلَا نَرَاهُمْ، {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا} [غافر: 74] قِيلَ: أَنْكَرُوا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا يَنْفَعُ وَيَضُرُّ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: أَيْ لَمْ نَكُنْ نَصْنَعُ مِنْ قَبْلُ شَيْئًا أَيْ ضَاعَتْ عِبَادَتُنَا لَهَا، كَمَا يَقُولُ مَنْ ضَاعَ عَمَلُهُ: مَا كُنْتُ أَعْمَلُ شَيْئًا. قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وجلّ-: {كَذَلِكَ} [غافر: 74] أَيْ كَمَا أَضَلَّ هَؤُلَاءِ، {يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} [غافر: 74]
[75] {ذَلِكُمْ} [غافر: 75] الْعَذَابُ الَّذِي نَزَلَ بِكُمْ، {بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ} [غافر: 75] تَبْطَرُونَ وَتَأْشَرُونَ، {فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} [غافر: 75] تَفْرَحُونَ وَتَخْتَالُونَ. 76،
[77] {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ - فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ} [غافر: 76 - 77] بِنَصْرِكَ، {حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} [غافر: 77] مِنَ الْعَذَابِ فِي حَيَاتِكَ، {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} [غافر: 77] قَبْلَ أَنْ يَحِلَّ ذَلِكَ بِهِمْ، {فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} [غافر: 77]
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ] قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ. . .
[78] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ} [غافر: 78] خَبَرَهُمْ فِي الْقُرْآنِ، {وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [غافر: 78] بِأَمْرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ، {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [غافر: 78] قَضَاؤُهُ بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ، {قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} [غافر: 78] 79،
[80] {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} [غافر: 79] بَعْضَهَا، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ - وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} [غافر: 79 - 80] فِي أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا وَأَلْبَانِهَا. {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} [غافر: 80] تَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَاتِكُمْ، {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [غافر: 80] أَيْ عَلَى الْإِبِلِ فِي الْبَرِّ وَعَلَى السُّفُنِ فِي الْبَحْرِ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الإسراء: 70]
[81] {وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ} [غافر: 81] دَلَائِلَ قُدْرَتِهِ، {فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} [غافر: 81]
[82] {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ} [غافر: 82] يَعْنِي مَصَانِعَهُمْ وَقُصُورَهُمْ، {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ} [غافر: 82] لَمْ يَنْفَعْهُمْ، {مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [غافر: 82] وَقِيلَ: هُوَ بِمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ، وَمَجَازُهُ: أَيُّ شَيْءٍ أَغْنَى عَنْهُمْ كَسْبُهُمْ؟(6/833)
[83،
[84] {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا} [غافر: 83] رَضُوا، {بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [غافر: 83] قَالَ مُجَاهِدٌ هُوَ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَعْلَمُ لَنْ نُبْعَثَ وَلَنْ نُعَذَّبَ، سَمَّى ذَلِكَ عِلْمًا عَلَى مَا يدعونه وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ جَهْلٌ. {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ - فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} [غافر: 83 - 84] يَعْنِي تَبَرَّأْنَا مِمَّا كُنَّا نَعْدِلُ بِاللَّهِ.
[85] {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} [غافر: 85] عذابنا، {سُنَّتَ اللَّهِ} [غافر: 85] قال نَصْبُهَا بِنَزْعِ الْخَافِضِ، أَيْ كَسُنَّةِ اللَّهِ. وَقِيلَ: عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقِيلَ: عَلَى الْإِغْرَاءِ أَيِ احْذَرُوا سُنَّةَ اللَّهِ، {الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} [غافر: 85] وَتِلْكَ السُّنَّةُ أَنَّهُمْ إِذَا عَايَنُوا عَذَابَ اللَّهِ آمَنُوا، وَلَا يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ. {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 85] بذهاب نعيم الدَّارَيْنِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الْكَافِرُ خَاسِرٌ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَلَكِنَّهُمْ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ خُسْرَانُهُمْ إِذَا رَأَوُا الْعَذَابَ.
[سورة فصلت]
[قوله تعالى حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ] آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. . .
(41) سورة فصلت
[1، 2] {حم - تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [فصلت: 1 - 2] قَالَ الْأَخْفَشُ: تَنْزِيلٌ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
[3] {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 3] بُيِّنَتْ آيَاتُهُ {قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] اللِّسَانُ الْعَرَبِيُّ وَلَوْ كَانَ بِغَيْرِ لِسَانِهِمْ مَا عَلِمُوهُ وَنُصِبَ قُرْآنًا بِوُقُوعِ الْبَيَانِ عَلَيْهِ أَيْ فَصَّلْنَاهُ قرآنا.
[4] {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [فصلت: 4] نَعْتَانِ لِلْقُرْآنِ أَيْ بَشِيرًا لِأَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَنَذِيرًا لِأَعْدَائِهِ، {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 4] أي لَا يَصْغُونَ إِلَيْهِ تَكَبُّرًا.
[5] {وَقَالُوا} [فصلت: 5] يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ {قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] فِي أَغْطِيَةٍ، {مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5] فَلَا نَفْقَهُ مَا تَقُولُ، {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] صَمَمٌ فَلَا نَسْمَعُ مَا تَقُولُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّا فِي تَرْكِ الْقَبُولِ عِنْدَكَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَفْهَمُ وَلَا يَسْمَعُ، {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5]
خِلَافٌ فِي الدِّينِ وَحَاجِزٌ فِي الْمِلَّةِ فَلَا نُوَافِقُكَ عَلَى مَا تقول، {فَاعْمَلْ} [فصلت: 5] أَنْتَ عَلَى دِينِكَ، {إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5] عَلَى دِينِنَا.
[6] {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} [فصلت: 6] يَعْنِي كَوَاحِدٍ مِنْكُمْ وَلَوْلَا الْوَحْيُ مَا دَعَوْتُكُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [فصلت: 6] قَالَ الْحَسَنُ: عَلَّمَهُ اللَّهُ التَّوَاضُعَ، {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ} [فصلت: 6] تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَلَا تَمِيلُوا عن سبيله، {وَاسْتَغْفِرُوهُ} [فصلت: 6] من ذنوبكم، {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ} [فصلت: 6]
[7] {الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} [فصلت: 7] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ لَا يَقُولُونَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهِيَ زَكَاةُ الْأَنْفُسِ، وَالْمَعْنَى: لَا يُطَهِّرُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ بِالتَّوْحِيدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَا يُقِرُّونَ بِالزَّكَاةِ وَلَا يَرَوْنَ إِيتَاءَهَا وَاجِبًا وكان يقول: الزَّكَاةُ قَنْطَرَةُ الْإِسْلَامِ فَمَنْ قَطَعَهَا نَجَا وَمَنْ تَخَلَّفَ عَنْهَا هَلَكَ.(6/834)
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: لَا يُنْفِقُونَ فِي الطَّاعَةِ وَلَا يَتَصَدَّقُونَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا يُزَكُّونَ أَعْمَالَهُمْ {وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 7]
[8] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [فصلت: 8] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَيْرُ مَقْطُوعٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: غَيْرُ مَنْقُوصٍ، وَمِنْهُ الْمَنُونُ لِأَنَّهُ يُنْقِصُ مُنَّةَ الْإِنْسَانِ وَقُوَّتَهُ، وَقِيلَ: غَيْرُ مَمْنُونٍ عَلَيْهِمْ بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَيْرُ مَحْسُوبٍ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْمَرْضَى وَالزَّمْنَى وَالْهَرْمَى، إِذَا عَجَزُوا عَنِ الطَّاعَةِ يُكْتَبُ لَهُمُ كَأَصَحِّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ فِيهِ.
[9] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] يوم الأحد ويوم الاثنين، {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [فصلت: 9]
[10] {وَجَعَلَ فِيهَا} [فصلت: 10] أي في الأرض، {رَوَاسِيَ} [فصلت: 10] جبالا ثوابت، {مِنْ فَوْقِهَا} [فصلت: 10] مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ، {وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت: 10] أَيْ فِي الْأَرْضِ بِمَا خَلَقَ فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ وَالْأَشْجَارِ والثمار، {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} [فصلت: 10] قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: قَسَّمَ فِي الْأَرْضِ أَرْزَاقَ الْعِبَادِ وَالْبَهَائِمِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَالضَّحَّاكُ: قَدَّرَ فِي كُلِّ بَلْدَةٍ مَا لَمْ يَجْعَلْهُ فِي الْأُخْرَى لِيَعِيشَ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ بِالتِّجَارَةِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: قَدَّرَ الْخُبْزَ لِأَهْلِ قُطْرٍ وَالذُّرَةَ لِأَهْلِ قُطْرٍ وَالسَّمَكَ لِأَهْلِ قُطْرٍ وَكَذَلِكَ أَقْوَاتُهَا. {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] يُرِيدُ خَلَقَ مَا فِي الْأَرْضِ وَقَدَّرَ الْأَقْوَاتَ فِي يَوْمَيْنِ يَوْمُ الثُّلَاثَاءِ وَالْأَرْبِعَاءِ فَهُمَا مَعَ الْأَحَدِ وَالِاثْنَيْنِ أَرْبَعَةُ أَيَّامٍ، رَدَّ الْآخِرَ على الأول في الذكر {سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 10] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (سَوَاءٌ) رَفْعٌ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَيْ هِيَ سَوَاءٌ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِالْجَرِّ عَلَى نَعْتِ قوله: {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} [فصلت: 10] وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (سَوَاءً) نَصْبٌ عَلَى المصدر استوت اسْتِوَاءً، وَمَعْنَاهُ: سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ عَنْ ذَلِكَ. قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: مَنْ سَأَلَ عَنْهُ فَهَكَذَا الْأَمْرُ سَوَاءٌ لَا زِيَادَةَ وَلَا نُقْصَانَ جَوَابًا لِمَنْ سَأَلَ فِي كَمْ خُلِقَتِ الْأَرْضُ وَالْأَقْوَاتُ؟
[11] {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ} [فصلت: 11] أَيْ عَمَدَ إِلَى خَلْقِ السَّمَاءِ، {وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] وَكَانَ ذَلِكَ الدُّخَانُ بُخَارَ الْمَاءِ، {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} [فصلت: 11] أَيِ: ائْتِيَا مَا آمُرُكُمَا أَيِ: افْعَلَاهُ، كَمَا يُقَالُ: ائْتِ مَا هذا الْأَحْسَنُ أَيِ افْعَلْهُ. وَقَالَ طَاوُسٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ائْتِيَا أَعْطِيَا، يَعْنِي: أَخْرِجَا مَا خَلَقْتُ فِيكُمَا مِنَ الْمَنَافِعِ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: أَمَّا أَنْتِ يَا سَمَاءُ فَأَطْلِعِي شَمْسَكِ وَقَمَرَكِ وَنُجُومَكِ، وَأَنْتِ يَا أَرْضُ فَشُقِّي أَنْهَارَكِ وَأَخْرِجِي ثِمَارَكِ وَنَبَاتَكِ، وَقَالَ لَهُمَا افْعَلَا مَا آمُرُكُمَا طَوْعًا وَإِلَّا أَلْجَأْتُكُمَا إِلَى ذَلِكَ حَتَّى تَفْعَلَاهُ كَرْهًا فأجابتا بالطوع، {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وَلَمْ يَقُلْ طَائِعَتَيْنِ لِأَنَّهُ ذَهَبَ بِهِ إِلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ، مَجَازُهُ: أَتَيْنَا بِمَا فِينَا طَائِعِينَ، فَلَمَّا وَصَفَهُمَا بِالْقَوْلِ أَجْرَاهُمَا فِي الْجَمْعِ مُجْرَى مَنْ يَعْقِلُ.
[قوله تعالى فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى] فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا. . .(6/835)
[12] {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] أَيْ أَتَمَّهُنُ وَفَرَغَ مِنْ خَلْقِهِنَّ، {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: خَلَقَ فِي كُلِّ سَمَاءٍ خَلْقَهَا مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَجِبَالِ الْبَرَدِ وَمَا لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ. يَعْنِي خَلَقَ فِيهَا شَمْسَهَا وَقَمَرَهَا وَنُجُومَهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَأَوْحَى إِلَى كُلِّ سَمَاءٍ مَا أَرَادَ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَالْجُمْعَةِ. {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [فصلت: 12] وكواكب، {وَحِفْظًا} [فصلت: 12] لَهَا، وَنَصَبَ حِفْظًا عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ حَفِظْنَاهَا بِالْكَوَاكِبِ حِفْظًا مِنَ الشَّيَاطِينِ الَّذِينَ يَسْتَرِقُّونَ السَّمْعَ، {ذَلِكَ} [فصلت: 12] الَّذِي ذُكِرَ مِنْ صُنْعِهِ، {تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ} [فصلت: 12] في ملكه، {الْعَلِيمِ} [فصلت: 12] بخلقه.
[13] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَإِنْ أَعْرَضُوا} [فصلت: 13] يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ عَنِ الْإِيمَانِ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ، {فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ} [فصلت: 13] خَوَّفْتُكُمْ، {صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13] أَيْ هَلَاكًا مِثْلَ هَلَاكِهِمْ، وَالصَّاعِقَةُ: الْمُهْلِكَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ.
[14] {إِذْ جَاءَتْهُمُ} [فصلت: 14] يعني عادا أو ثمودا، {الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت: 14] أَرَادَ بِقَوْلِهِ: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [فصلت: 14] الرُّسُلَ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى آبَائِهِمْ من قبلهم، {وَمِنْ خَلْفِهِمْ} [فصلت: 14] يعني من بَعْدِ الرُّسُلِ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَى آبَائِهِمُ الَّذِينَ أُرْسِلُوا إِلَيْهِمْ هُودٌ وَصَالِحٌ، فَالْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ رَاجِعَةٌ إِلَى عَادٍ وَثَمُودَ وَفِي قَوْلِهِ (وَمِنْ خَلْفِهِمْ) راجعة إلى الرسل، {أَلَّا} [فصلت: 14] بِأَنْ لَا، {تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ} [فصلت: 14] بدل هؤلاء الرسل، {مَلَائِكَةً} [فصلت: 14] أَيْ لَوْ شَاءَ رَبُّنَا دَعْوَةَ الْخَلْقِ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً، {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [فصلت: 14]
[15] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] وذلك أن هودا هَدَّدَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَقَالُوا: مَنْ أَشَدُّ منا قوة، ونحن نَقْدِرُ عَلَى دَفْعِ الْعَذَابِ عَنَّا بِفَضْلِ قُوَّتِنَا، وَكَانُوا ذَوِي أَجْسَامٍ طِوَالٍ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى رَدًّا عَلَيْهِمْ: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 15]
[16] {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [فصلت: 16] عَاصِفَةً شَدِيدَةَ الصَّوْتِ، مِنَ الصِّرَّةِ وَهِيَ الصَّيْحَةُ. وَقِيلَ: هِيَ الْبَارِدَةُ مِنَ الصِّر وَهُوَ الْبَرْدُ، {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَنَافِعٌ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ (نَحْسات) بِسُكُونِ الْحَاءِ، وقرأ الآخرون بكسرها نَكِدَاتٍ مَشْئُومَاتٍ ذَاتِ نُحُوسٍ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَمْسَكَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ ثَلَاثَ سِنِينَ وَدَامَتِ الرِّيَاحُ عَلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ مَطَرٍ، {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ} [فصلت: 16] أَيْ عَذَابَ الْهُونِ وَالذُّلِّ، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى} [فصلت: 16] أَشَدُّ إِهَانَةً {وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 16]
[17] {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] دَعَوْنَاهُمْ، قَالَهُ(6/836)
مُجَاهِدٌ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَّنَّا لَهُمْ سَبِيلَ الْهُدَى. وَقِيلَ: دَلَلْنَاهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، كَقَوْلِهِ: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الْإِنْسَانِ: 3] {فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] فَاخْتَارُوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ} [فصلت: 17] أي هلكة العذاب {الْهُونِ} [فصلت: 17] أي ذي الهون وهو الذي يهينهم، ويجزيهم {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [فصلت: 17] 18،
[19] {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ - وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} [فصلت: 18 - 19] قَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ: (نَحْشُرُ) بِالنُّونِ، (أَعْدَاءَ) نَصْبٌ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ وَرَفْعِهَا وَفَتَحَ الشِّينَ (أَعْدَاءُ) رَفْعٌ أَيْ يُجْمَعُ إِلَى النَّارِ {فَهُمْ يُوزَعُونَ} [فصلت: 19] يُسَاقُونَ وَيُدْفَعُونَ إِلَى النَّارِ، وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: يُحْبَسُ أَوَّلُهُمْ عَلَى آخِرِهِمْ لِيَتَلَاحَقُوا.
[20] {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} [فصلت: 20] جَاءُوا النَّارَ {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ} [فصلت: 20] أَيْ بَشْرَاتُهُمْ، {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 20] وقال السدي وجماعة: المراد بالجلد الْفُرُوجُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَنْطِقُ جَوَارِحُهُمْ بِمَا كَتَمَتِ الْأَلْسُنُ مِنْ عَمَلِهِمْ.
[قوله تعالى وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا] أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ. . .
[21] {وَقَالُوا} [فصلت: 21] يَعْنِي الْكُفَّارُ الَّذِينَ يُحْشَرُونَ إِلَى النَّارِ، {لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] تَمَّ الْكَلَامُ هَاهُنَا. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى، {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [فصلت: 21] وَلَيْسَ هَذَا مِنْ جَوَابِ الْجُلُودِ، {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [فصلت: 21]
[22] {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ} [فصلت: 22] أَيْ: تَسْتَخْفُونَ - عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَتَّقُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَظُنُّونَ. {أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22]
[23] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} [فصلت: 23] أَهْلَكَكُمْ، أَيْ: ظَنُّكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ، أَرْدَاكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: طَرَحَكُمْ فِي النَّارِ، {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [فصلت: 23] ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ حَالِهِمْ فَقَالَ:
[24] {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [فصلت: 24] مسكن لهم، {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا} [فصلت: 24] يسترضوا وطلبوا الْعُتْبَى، {فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} [فصلت: 24] الْمَرْضِيْنَ، وَالْمُعْتَبُ الَّذِي قُبِلَ عِتَابُهُ وَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ، يُقَالُ: أَعْتَبَنِي فَلَانٌ أَيْ أَرْضَانِي بَعْدَ إسخاطه إياي، واستعتبه طَلَبْتُ مِنْهُ أَنْ يَعْتِبَ أَيْ يرضى.
[25] {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ} [فصلت: 25] أَيْ بَعَثْنَا وَوَكَّلْنَا، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هَيَّأْنَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سَبَّبْنَا لَهُمْ. {قُرَنَاءَ} [فصلت: 25] نُظَرَاءَ مِنَ الشَّيَاطِينِ حَتَّى أَضَلُّوهُمْ، {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [فصلت: 25] مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا حَتَّى آثَرُوهُ على الآخرة، {وَمَا خَلْفَهُمْ} [فصلت: 25] مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ فَدَعَوْهُمْ إِلَى التَّكْذِيبِ بِهِ وَإِنْكَارِ الْبَعْثِ، {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ} [فصلت: 25] مَعَ أُمَمٍ {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [فصلت: 25](6/837)
[26] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [فصلت: 26] مِنْ مُشْرِكِي قُرَيْشٍ، {لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْغَطُوا فِيهِ، وَكَانَ بَعْضُهُمْ يُوصِي إِلَى بَعْضٍ. إِذَا رَأَيْتُمْ مُحَمَّدًا يَقْرَأُ فَعَارِضُوهُ بِالرَّجَزِ وَالشِّعْرِ وَاللَّغْوِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَالْغَوْا فِيهِ بالْمُكاء وَالصَّفِيرِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَكْثِرُوا الْكَلَامَ فَيَخْتَلِطُ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ. وَقَالَ الْسُّدِّيُّ: صِيحُوا فِي وَجْهِهِ. {لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} [فصلت: 26] مُحَمَّدًا عَلَى قِرَاءَتِهِ.
[27] {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي} [فصلت: 27] يَعْنِي بِأَسْوَأِ الَّذِي، أَيْ بِأَقْبَحِ الذي، {كَانُوا يَعْمَلُونَ} [فصلت: 27] فِي الدُّنْيَا وَهُوَ الشِّرْكُ بِاللَّهِ.
[28] {ذَلِكَ} [فصلت: 28] الَّذِي ذَكَرْتُ مِنَ الْعَذَابِ الشَّدِيدِ، {جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ} [فصلت: 28] ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ الْجَزَاءَ فَقَالَ: {النَّارُ} [فصلت: 28] أَيْ هُوَ النَّارُ، {لَهُمْ فِيهَا} [فصلت: 28] أَيْ فِي النَّارِ، {دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت: 28] دَارُ الْإِقَامَةِ لَا انْتِقَالَ مِنْهَا، {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [فصلت: 28]
[29] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [فصلت: 29] أَيْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ، {رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} [فصلت: 29] يَعْنُونَ إِبْلِيسَ وَقَابِيلَ بْنَ آدَمَ الَّذِي قَتَلَ أَخَاهُ لِأَنَّهُمَا سنَّا المعصية، {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت: 29] فِي النَّارِ {لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} [فصلت: 29] لِيَكُونَا فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيَكُونَا أشد عذابا منا.
[قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا] تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا. . .
[30] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} [فصلت: 30] سُئِلَ أَبُو بَكْرٍ الصَّدِيقُ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ- عَنِ الِاسْتِقَامَةِ فَقَالَ: أَنْ لَا تُشْرِكَ بِاللَّهِ شَيْئًا. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: الِاسْتِقَامَةُ أَنْ تَسْتَقِيمَ عَلَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَلَا تَرُوغَ رَوَغَانَ الثَّعْلَبِ. وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَخْلَصُوا الْعَمَلَ لِلَّهِ. وَقَالَ عَلِيٌّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَدَّوُا الْفَرَائِضَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اسْتَقَامُوا عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: اسْتَقَامُوا عَلَى أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَمِلُوا بِطَاعَتِهِ وَاجْتَنَبُوا مَعْصِيَتَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: اسْتَقَامُوا عَلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ حَتَّى لحقوا بالله {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ} [فصلت: 30] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عِنْدَ الْمَوْتِ. وقال قتادة ومقاتل: إذ قَامُوا مِنْ قُبُورِهِمْ. قَالَ وَكِيعُ بْنُ الْجِرَاحِ: الْبُشْرَى تَكُونُ فِي ثلاثة مَوَاطِنَ: عِنْدَ الْمَوْتِ وَفِي الْقَبْرِ وعند البعث. {أَلَّا تَخَافُوا} [فصلت: 30] مِنَ الْمَوْتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَخَافُوا عَلَى مَا تَقْدَمُونَ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ. {وَلَا تَحْزَنُوا} [فصلت: 30] عَلَى مَا خَلَّفْتُمْ مِنْ أَهْلٍ وَوَلَدٍ، فَإِنَّا نَخْلُفُكُمْ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: لَا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا عَلَى ذُنُوبِكُمْ فَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكُمْ، {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} [فصلت: 30]
[31] {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ} [فصلت: 31] تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ تَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ بِالْبِشَارَةِ: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ أَنْصَارُكُمْ وَأَحِبَّاؤُكُمْ، {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} [فصلت: 31] أي في الدنيا والآخرة. قال الْسُّدِّيُّ: تَقُولُ الْمَلَائِكَةُ نَحْنُ الْحَفَظَةُ الَّذِينَ كُنَّا مَعَكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَنَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْآخِرَةِ يَقُولُونَ لَا نُفَارِقُكُمْ حَتَّى تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ. {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ} [فصلت: 31] مِنَ الْكَرَامَاتِ وَاللَّذَّاتِ، {وَلَكُمْ فِيهَا} [فصلت: 31] في الجنة {مَا تَدَّعُونَ} [فصلت: 31] تتمنون. 32،
[33] {نُزُلًا} [فصلت: 32] رزقا، {مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ - وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ} [فصلت: 32 - 33] إِلَى طَاعَتِهِ، {وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [فصلت: 33] قال ابن سيرين. هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَعَا إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْمُؤْمِنُ الَّذِي أَجَابَ اللَّهَ فِي دَعْوَتِهِ، وَدَعَا النَّاسَ إِلَى مَا أَجَابَ إِلَيْهِ، وَعَمِلَ صَالِحًا فِي إِجَابَتِهِ، وَقَالَ: إنني مع الْمُسْلِمِينَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: أَرَى هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْمُؤَذِّنِينَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ. هُوَ الْمُؤَذِّنُ أَبُو أُمَامَةَ الْبَاهِلِيُّ، وَعَمِلَ صَالِحًا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ بَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ أَبِي حَازِمٍ: هُوَ الصَّلَاةُ بين الأذان الإقامة.(6/838)
[34] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} [فصلت: 34] قَالَ الْفَرَّاءُ: (لَا) هَاهُنَا صِلَةٌ، معناه: لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَالسَّيِّئَةُ، يَعْنِي الصَّبْرُ وَالْغَضَبُ، وَالْحِلْمُ وَالْجَهْلُ، وَالْعَفْوُ وَالْإِسَاءَةُ. {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [فصلت: 34] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَمَرَ بِالصَّبْرِ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَبِالْحِلْمِ عِنْدَ الْجَهْلِ، وَبِالْعَفْوِ عِنْدَ الْإِسَاءَةِ. {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ} [فصلت: 34] يَعْنِي إِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ خَضَعَ لَكَ عَدُوُّكَ وَصَارَ الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ، {كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] كَالصَّدِيقِ وَالْقَرِيبِ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَانَ لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِ بِالْمُصَاهَرَةِ الَّتِي حَصَلَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمَّ أَسْلَمَ فَصَارَ وَلِيًّا بِالْإِسْلَامِ، حَمِيمًا بالقرابة.
[35] {وَمَا يُلَقَّاهَا} [فصلت: 35] مَا يُلَقَّى هَذِهِ الْخَصْلَةَ وَهِيَ دَفْعُ السَّيِّئَةِ بِالْحَسَنَةِ، {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} [فصلت: 35] عَلَى كَظْمِ الْغَيْظِ وَاحْتِمَالِ الْمَكْرُوهِ، {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت: 35] فِي الْخَيْرِ وَالثَّوَابِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْحَظُّ الْعَظِيمُ الْجَنَّةُ، أَيْ مَا يُلَقَّاهَا إِلَّا مَنْ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ.
[36] {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ} [فصلت: 36] لاستعاذتك وأقوالك، {الْعَلِيمُ} [فصلت: 36] بأفعالك وأحوالك.
[37] قوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] إنما قال {خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] بِالتَّأْنِيثِ لِأَنَّهُ أَجْرَاهَا عَلَى طَرِيقِ جَمْعِ التَّكْسِيرِ، وَلَمْ يُجْرِهَا عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ لِلْمُذَكَّرِ عَلَى الْمُؤَنَّثِ، {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37]
[38] {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا} [فصلت: 38] عَنِ السُّجُودِ، {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [فصلت: 38] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ {يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] لا يملون ولا يفترون.
[قوله تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا] أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ. . .
[39] {وَمِنْ آيَاتِهِ} [فصلت: 39] دَلَائِلِ قُدْرَتِهِ، {أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً} [فصلت: 39] يا بسة غَبْرَاءَ لَا نَبَاتَ فِيهَا،
{فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 39]
[40] {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا} [فصلت: 40] يَمِيلُونَ عَنِ الْحَقِّ فِي أَدِلَّتِنَا، قَالَ مُجَاهِدٌ: يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا بِالْمُكَاءِ وَالتَّصْدِيَةِ وَاللَّغْوِ وَاللَّغَطِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَكْذِبُونَ فِي آيَاتِنَا. قَالَ الْسُّدِّيُّ: يُعَانِدُونَ وَيُشَاقُّونَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ. {لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ} [فصلت: 40] وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ، {خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [فصلت: 40] قِيلَ: هُوَ حَمْزَةُ. وَقِيلَ: عُثْمَانُ. وقيل: عمار بن يا سر. {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] أَمْرُ تَهْدِيدٍ وَوَعِيدٍ، {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] عَالَمٌ فَيُجَازِيكُمْ بِهِ.
[41] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ} [فصلت: 41] بالقرآن، {لَمَّا جَاءَهُمْ} [فصلت: 41] ثُمَّ أَخَذَ فِي وَصْفِ الذِّكْرِ وَتَرَكَ جَوَابَ: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) ، عَلَى تَقْدِيرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ(6/839)
يُجَازَوْنَ بِكُفْرِهِمْ. وَقِيلَ: خَبَرُهُ قَوْلُهُ مِنْ بَعْدِ: {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} [فصلت: 41] قَالَ الْكَلْبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: كَرِيمٌ عَلَى اللَّهِ: قَالَ قَتَادَةُ: أَعَزَّهُ اللَّهُ -عزّ وجلّ- فَلَا يَجِدُ الْبَاطِلُ إِلَيْهِ سَبِيلًا.
[42] وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] قَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: الْبَاطِلُ هُوَ الشَّيْطَانُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُغَيِّرَهُ أَوْ يَزِيدَ فِيهِ أَوْ يَنْقُصَ منه. قال الحجاج: مَعْنَاهُ أَنَّهُ مَحْفُوظٌ مِنْ أَنْ يُنْقَصَ مِنْهُ، فَيَأْتِيَهُ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ أَوْ يُزَادَ فِيهِ فَيَأْتِيَهُ الْبَاطِلُ مَنْ خَلْفِهِ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَى: الْبَاطِلُ الزِّيَادَةُ وَالنُّقْصَانُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَأْتِيهِ التَّكْذِيبُ مِنَ الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَلَا يَجِيءُ مِنْ بَعْدِهِ كِتَابٌ فَيُبْطِلُهُ. {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42] ثُمَّ عَزَّى نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى تَكْذِيبِهِمْ.
[43] فَقَالَ: {مَا يُقَالُ لَكَ} [فصلت: 43] مِنَ الْأَذَى، {إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} [فُصِّلَتْ: 43] يَقُولُ إِنَّهُ قَدْ قِيلَ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ قَبْلَكَ سَاحِرٌ كَمَا يُقَالُ لَكَ، وكُذِّبوا كَمَا كُذِّبْتَ، {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ} [فصلت: 43] لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ بِكَ {وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} [فصلت: 43] لِمَنْ أَصَرَّ عَلَى التَّكْذِيبِ.
[44] {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ} [فصلت: 44] أَيْ جَعَلَنَا هَذَا الْكِتَابَ الَّذِي تَقْرَؤُهُ عَلَى النَّاسِ، {قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} [فصلت: 44] بِغَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ، {لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ} [فصلت: 44] هَلَّا بُيِّنَتْ آيَاتُهُ بِالْعَرَبِيَّةِ حَتَّى نفهمها، {أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44] يَعْنِي أَكِتَابٌ أَعْجَمِيٌّ وَرَسُولٌ عَرَبِيٌّ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ عَلَى وَجْهِ الْإِنْكَارِ، أَيْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ: الْمُنَزَّلُ عَلَيْهِ عَرَبِيٌّ وَالْمُنَزَّلُ أَعْجَمِيٌّ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَدْخُلُ عَلَى يَسَارٍ غُلَامِ عَامِرِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ، وَكَانَ يَهُودِيًّا أَعْجَمِيًّا، يعني أَبَا فَكِيهَةَ، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ يَسَارٌ فَضَرَبَهُ سَيِّدُهُ، وَقَالَ: إِنَّكَ تُعَلِّمُ مُحَمَّدًا، فَقَالَ يَسَارٌ: هُوَ يُعَلِّمُنِي، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هذه الآية: {قُلْ} [فصلت: 44] يا محمد {هُوَ} [فصلت: 44] يَعْنِي الْقُرْآنُ، {لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44]
لِمَا فِي الْقُلُوبِ، وَقِيلَ: شِفَاءٌ مِنَ الْأَوْجَاعِ، {وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} [فصلت: 44] قَالَ قَتَادَةُ: عَمُوا عَنِ الْقُرْآنِ وَصُمُّوا عَنْهُ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهِ، {أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] أَيْ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَلَا يَفْهَمُونَ كَمَا أَنَّ مَنْ دُعِيَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ لَمْ يَسْمَعْ وَلَمْ يَفْهَمْ، وَهَذَا مَثَلٌ لِقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِمَا يُوعَظُونَ بِهِ كَأَنَّهُمْ يُنَادَوْنَ مِنْ حَيْثُ لَا يَسْمَعُونَ.
[45] {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} [فصلت: 45] فَمُصَدِّقٌ وَمُكَذِّبٌ كَمَا اخْتَلَفَ قَوْمُكَ فِي كِتَابِكَ، {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [فصلت: 45] فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنِ الْمُكَذِّبِينَ بالقرآن، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [فصلت: 45] لَفَرَغَ مِنْ عَذَابِهِمْ وَعَجَّلَ إِهْلَاكَهُمْ، {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ} [فصلت: 45] من صدقك، {مُرِيبٍ} [فصلت: 45] مُوْقِعٍ لَهُمُ الرِّيبَةَ.(6/840)
[46] {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [فصلت: 46]
[قوله تعالى إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ] ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا. . .
[47] {إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} [فصلت: 47] أَيْ عِلْمُهَا إِذَا سُئِلَ عَنْهَا مَرْدُودٌ إِلَيْهِ لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} [فصلت: 47] أوعيتها واحدها: كِمٌّ {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ} [فصلت: 47] إِلَّا بِإِذْنِهِ، يَقُولُ: يُرَدُّ إِلَيْهِ عِلْمُ السَّاعَةِ كَمَا يُرَدُّ إِلَيْهِ عِلْمُ الثِّمَارِ وَالنِّتَاجَ {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ} [فصلت: 47] يُنَادِي اللَّهُ الْمُشْرِكِينَ، {أَيْنَ شُرَكَائِي} [فصلت: 47] الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أَنَّهَا آلِهَةٌ، {قَالُوا} [فصلت: 47] يعني المشركين، {آذَنَّاكَ} [فصلت: 47] أَعْلَمْنَاكَ، {مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} [فصلت: 47] أَيْ مِنْ شَاهِدٍ بِأَنَّ لَكَ شَرِيكًا لَمَّا عَايَنُوا الْعَذَابَ تَبَرَّءُوا مِنَ الْأَصْنَامِ.
[48] {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ} [فصلت: 48] يعبدون، {مِنْ قَبْلُ} [فصلت: 48] في الدنيا، {وَظَنُّوا} [فصلت: 48] أَيْقَنُوا، {مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [فصلت: 48] مهرب.
[49] {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ} [فصلت: 49] لَا يَمَلُّ الْكَافِرُ، {مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} [فصلت: 49] لَا يَزَالُ يَسْأَلُ رَبَّهُ الْخَيْرَ، يَعْنِي الْمَالَ وَالْغِنَى وَالصِّحَّةَ، {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ} [فصلت: 49] الشدة والفقر، {فَيَئُوسٌ} [فصلت: 49] من روح الله، {قَنُوطٌ} [فصلت: 49] مِنْ رَحْمَتِهِ.
[50] {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا} [فصلت: 50] آتَيْنَاهُ خَيْرًا وَعَافِيَةً وَغِنًى، {مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} [فصلت: 50] مِنْ بَعْدِ شِدَّةٍ وَبَلَاءٍ أَصَابَتْهُ، {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} [فصلت: 50] أي بعملي وأنا محبوب بِهَذَا، {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50] يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ لَسْتُ عَلَى يَقِينٍ مِنَ الْبَعْثِ، فَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى ذَلِكَ، وَرُدِدْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى، أَيِ الْجَنَّةُ أَيْ كَمَا أَعْطَانِي فِي الدُّنْيَا سَيُعْطِينِي فِي الْآخِرَةِ. {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} [فصلت: 50] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنهما-: لنوقفنهم عَلَى مَسَاوِئِ أَعْمَالِهِمْ، {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت: 50]
[51] {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] كَثِيرٍ، وَالْعَرَبُ تَسْتَعْمِلُ الطُّولَ وَالْعَرْضَ في الكثرة، يقال: أَطَالَ فَلَانٌ الْكَلَامَ وَالدُّعَاءَ وَأَعْرَضَ، أَيْ أَكْثَرَ.
[52] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ} [فصلت: 52] هَذَا الْقُرْآنُ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 52] خِلَافٍ لِلْحَقِّ بَعِيدٍ عَنْهُ أَيْ فَلَا أَحَدَ أَضَلُّ مِنْكُمْ.
[53] {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ} [فصلت: 53] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: يَعْنِي مَنَازِلَ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} [فصلت: 53] بِالْبَلَاءِ وَالْأَمْرَاضِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي الْآفَاقِ يَعْنِي وَقَائِعَ اللَّهِ فِي الْأُمَمِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ. وقال مجاهد والحسن والسدي والكلبي: فِي الْآفَاقِ مَا يُفْتَحُ مِنَ الْقُرَى عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُسْلِمِينَ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ فَتْحُ مَكَّةَ. {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} [فصلت: 53] يَعْنِي دِينَ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ: الْقُرْآنُ يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَبَيَّنُ لَهُمْ أَنَّهُ مُؤَيَّدٌ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ عَطَاءٌ وَابْنُ(6/841)
زَيْدٍ: فِي الْآفَاقِ يَعْنِي أَقْطَارَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالنَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ، وَفِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ لَطِيفِ الصَّنْعَةِ وَبَدِيعِ الْحِكْمَةِ، حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ. {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] قَالَ مُقَاتِلٌ: أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ لِأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ شَاهِدٌ لَا يَغِيبُ عَنْهُ شَيْءٌ.
[54] {أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} [فصلت: 54] فِي شَكٍّ مِنَ الْبَعْثِ، {أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54] أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا.
[سُورَةُ الشورى]
[قوله تعالى حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ] قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. . .
(42) سورة الشورى [1، 2] {حم - عسق} [الشورى: 1 - 2] سُئِلَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ لِمَ يُقَطِّع حم عسق وَلَمْ يُقطِّع كهيعص؟ فقال: لأنها سور أَوَائِلُهَا حم فَجَرَتْ مَجْرَى نَظَائِرِهَا فَكَانَ حم مُبْتَدَأً وَعسق خَبَرَهُ، وَلِأَنَّهُمَا عُدَّا آيَتَيْنِ، وَأَخَوَاتُهَا مِثْلُ كهيعص المص المر عُدَّتْ آيَةً وَاحِدَةً. وَقِيلَ: لِأَنَّ أَهْلَ التَّأْوِيلِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي كهيعص وَأَخَوَاتِهَا أَنَّهَا حُرُوفُ التَّهَجِّي لَا غَيْرَ، وَاخْتَلَفُوا فِي حم فَأَخْرَجَهَا بَعْضُهُمْ مِنْ حَيِّزِ الْحُرُوفِ وَجَعَلَهَا فِعْلًا، وَقَالَ: مَعْنَاهَا: حَمَّ أَيْ قَضَى مَا هُوَ كَائِنٌ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: ح حِلْمُهُ، م مَجْدُهُ، ع عِلْمُهُ، س سَنَاؤُهُ، ق قُدْرَتُهُ، أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: ح حَرْبٌ يَعِزُّ فِيهَا الذَّلِيلُ وَيَذِلُّ فِيهَا الْعَزِيزَ مِنْ قُرَيْشٍ، م مُلْكٌ يَتَحَوَّلُ مِنْ قَوْمٍ إِلَى قَوْمٍ، ع عَدُوٌّ لِقُرَيْشٍ يَقْصِدُهُمْ، س سَيِّئٌ يَكُونُ فِيهِمْ، ق قُدْرَةُ اللَّهِ النَّافِذَةُ فِي خَلْقِهِ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ مِنْ نَبِيٍّ صَاحِبِ كِتَابٍ إِلَّا وَقَدْ أُوحِيَتْ إِلَيْهِ حم عسق.
[3] فَلِذَلِكَ قَالَ: {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ} [الشورى: 3] وقرأ ابْنُ كَثِيرٍ (يُوحَى) بِفَتْحِ الْحَاءِ وحجته قوله: (أوحينا إِلَيْكَ) ، {وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ} [الشورى: 3] وعلى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلُهُ: {اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الشورى: 3] تَبْيِينٌ لِلْفَاعِلِ كَأَنَّهُ قِيلَ: مَنْ يُوحِي؟ فَقِيلَ: اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (يُوحِي) بِكَسْرِ الْحَاءِ، إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: يُرِيدُ أَخْبَارَ الْغَيْبِ.
[4، 5] {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ - تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} [الشورى: 4 - 5] أَيْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا تَتَفَطَّرُ فَوْقَ الَّتِي تَلِيهَا مِنْ قَوْلِ المشركين: {اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [البقرة: 116] نَظِيرُهُ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا - لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} [مريم: 88 - 89] {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مَرْيَمَ: 90] {وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 5] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، {أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الشورى: 5](6/842)
[6] {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى: 6] يَحْفَظُ أَعْمَالَهُمْ وَيُحْصِيهَا عَلَيْهِمْ لِيُجَازِيَهُمْ بِهَا، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} [الشورى: 6] لم يوكلك الله عليهم حتى تؤخذ بهم.
[7] {وَكَذَلِكَ} [الشورى: 7] مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى} [الشورى: 7] مَكَّةَ يَعْنِي أَهْلَهَا، {وَمَنْ حَوْلَهَا} [الشورى: 7] يَعْنِي قُرَى الْأَرْضِ كُلَّهَا، {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} [الشورى: 7] أَيْ تُنْذِرُهُمْ بِيَوْمِ الْجَمْعِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ والآخرين وأهل السماوات والأرضين، {لَا رَيْبَ فِيهِ} [الشورى: 7] لَا شَكَّ فِي الْجَمْعِ أَنَّهُ كَائِنٌ ثُمَّ بَعْدَ الْجَمْعِ يَتَفَرَّقُونَ {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ} [الشورى: 7] فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ، {وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} [الشورى: 7] عَدْلٌ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ.
[8] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الشورى: 8] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: عَلَى مِلَّةِ الْإِسْلَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى} [الْأَنْعَامِ: 35] {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى: 8] في دين الإسلام، {وَالظَّالِمُونَ} [الشورى: 8] الْكَافِرُونَ، {مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ} [الشورى: 8] يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ، {وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 8] يَمْنَعُهُمْ مِنَ النَّارِ.
[9] {أَمِ اتَّخَذُوا} [الشورى: 9] بَلِ اتَّخَذُوا أَيْ الْكَافِرُونَ، {مِنْ دُونِهِ} [الشورى: 9] أَيْ مِنْ دُونِ اللَّهِ، {أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 9] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: وَلِيُّكَ يَا مُحَمَّدُ وَوَلِيُّ مَنِ اتَّبَعَكَ، {وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الشورى: 9]
[10] {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ} [الشورى: 10] مِنْ أَمْرِ الدِّينِ، {فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} [الشورى: 10] يَقْضِي فِيهِ وَيَحْكُمُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِالْفَصْلِ الَّذِي يُزِيلُ الرَّيْبَ، {ذَلِكُمُ اللَّهُ} [الشورى: 10] الَّذِي يَحْكُمُ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ هُوَ {رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [الشورى: 10]
[قوله تعالى فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ] أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ. . .
[11] {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} [الشورى: 11] مِنْ مِثْلِ خَلْقِكُمْ حَلَائِلَ، قِيلَ: إِنَّمَا قَالَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ لِأَنَّهُ خَلَقَ حَوَّاءَ مِنْ ضِلْعِ آدَمَ، {وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} [الشورى: 11] أصنافا ذكورا وإناثا {يَذْرَؤُكُمْ} [الشورى: 11] يخلقكم، {فِيهِ} [الشورى: 11] أَيْ فِي الرَّحِمِ. وَقِيلَ: فِي الْبَطْنِ. وَقِيلَ: عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنَ الْخِلْقَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: نَسَلًا بَعْدَ نَسْلٍ مِنَ النَّاسِ وَالْأَنْعَامِ. وَقِيلَ: فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ يَذْرَؤُكُمْ بِهِ. وَقِيلَ مَعْنَاهُ يُكَثِّرُكُمْ بالتزويج. {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] مِثْلُ صِلَةٌ أَيْ لَيْسَ هُوَ كَشَيْءٍ فَأَدْخَلَ الْمِثْلَ لِلتَّوْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ} [الْبَقَرَةِ: 137] وَقِيلَ: الْكَافُ صِلَةٌ، مَجَازُهُ: لَيْسَ مِثْلَهُ شَيْءٌ. قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: لَيْسَ لَهُ نَظِيرٌ. {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]
[12] {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشورى: 12] مفاتيح الرزق في السماوات وَالْأَرْضِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: الْمَطَرُ وَالنَّبَاتُ. {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [الشورى: 12] لِأَنَّ مَفَاتِيحَ الرِّزْقِ بِيَدِهِ، {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الشورى: 12]
[13] {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى: 13] بَيَّنَ وَسَنَّ لَكُمْ، {مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] وَهُوَ أَوَّلُ أَنْبِيَاءِ الشَّرِيعَةِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: أَوْصَيْنَاكَ وَإِيَّاهُ يَا مُحَمَّدُ دِينًا وَاحِدًا. {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الشورى: 13] مِنْ الْقُرْآنِ وَشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ، {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} [الشورى: 13] وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَتَادَةُ: تَحْلِيلُ الْحَلَالِ وَتَحْرِيمُ الْحَرَامِ. وَقَالَ الْحَكَمُ: تَحْرِيمُ الْأُمَّهَاتِ وَالْبَنَاتِ وَالْأَخَوَاتِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَمْ يَبْعَثِ الله نبيا إلا أوصاه بِإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالْإِقْرَارِ لله بالطاعة، فَذَلِكَ دِينُهُ الَّذِي شَرَعَ لَهُمْ. وَقِيلَ: هُوَ التَّوْحِيدُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: هُوَ مَا ذَكَرَ مِنْ بَعْدِ وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} [الشورى: 13] بَعَثَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ كُلَّهُمْ بِإِقَامَةِ الدِّينِ وَالْأُلْفَةِ وَالْجَمَاعَةِ وَتَرْكِ الْفُرْقَةِ وَالْمُخَالَفَةِ، {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] مِنَ التَّوْحِيدِ وَرَفْضِ الْأَوْثَانِ ثُمَّ قَالَ: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 13] يصطفي لدينه مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يَشَاءُ، {وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} [الشورى: 13] يُقبِل إِلَى طَاعَتِهِ.(6/843)
[14] {وَمَا تَفَرَّقُوا} [الشورى: 14] يَعْنِي أَهْلَ الْأَدْيَانِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَقَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: يعني أهل الْكِتَابَ. {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ} [الشورى: 14] بِأَنَّ الْفُرْقَةَ ضَلَالَةٌ وَلَكِنَّهُمْ فَعَلُوا ذلك، {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14] أَيْ لِلْبَغْيِ، قَالَ عَطَاءٌ: يَعْنِي بَغْيًا بَيْنَهُمْ عَلَى مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} [الشورى: 14] فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ، {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [الشورى: 14] وهو القيامة، {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 14] بَيْنَ مَنْ آمَنَ وَكَفَرَ، يَعْنِي أَنْزَلَ الْعَذَابَ بِالْمُكَذِّبِينَ فِي الدُّنْيَا، {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ} [الشورى: 14] يَعْنِي الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، {مِنْ بَعْدِهِمْ} [الشورى: 14] أي مِنْ بَعْدِ أَنْبِيَائِهِمْ، وَقِيلَ: مِنْ بَعْدِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ مِنْ قَبْلِ مُشْرِكِي مَكَّةَ. {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} [الشورى: 14] أَيْ مَنَّ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
[15] {فَلِذَلِكَ فَادْعُ} [الشورى: 15] أَيْ فَإِلَى ذَلِكَ كَمَا يُقَالُ دَعَوْتُ [إِلَى] فُلَانٍ وَلِفُلَانٍ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا وَصَّى بِهِ الْأَنْبِيَاءَ مِنَ التَّوْحِيدِ، {وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [الشورى: 15] أي اثْبُتْ عَلَى الدِّينِ الَّذِي أُمِرْتَ بِهِ، {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} [الشورى: 15] أَيْ آمَنْتُ بِكُتُبِ اللَّهِ كُلِّهَا، {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] أَنْ أَعْدِلَ بَيْنَكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أُمِرْتُ أَنْ لَا أَحِيفَ عَلَيْكُمْ بِأَكْثَرَ مِمَّا افْتَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ. وَقِيلَ: لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ وَالْأَشْيَاءِ، {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [الشورى: 15] يَعْنِي إِلَهُنَا وَاحِدٌ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَعْمَالُنَا فَكَلٌّ يُجَازَى بِعَمَلِهِ، {لَا حُجَّةَ} [الشورى: 15] لا خصومة، {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ، فَإِذَا لَمْ يُؤْمَرْ بِالْقِتَالِ وَأُمِرَ بِالدَّعْوَةِ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ لَا يُجِيبُ خُصُومَةٌ، {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا} [الشورى: 15] فِي الْمَعَادِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [الشورى: 15]
[قوله تعالى وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ] لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ. . .
[16] {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} [الشورى: 16] يُخَاصِمُونَ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالَ قَتَادَةُ: هُمُ الْيَهُودُ قَالُوا: كِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ وَنَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، فَنَحْنُ خَيْرٌ مِنْكُمْ، فَهَذِهِ خُصُومَتُهُمْ. {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} [الشورى: 16] أَيْ اسْتَجَابَ لَهُ النَّاسُ فَأَسْلَمُوا وَدَخَلُوا فِي دِينِهِ لِظُهُورِ مُعْجِزَتِهِ، {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ} [الشورى: 16] خُصُومَتُهُمْ بَاطِلَةٌ، {عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 16] فِي الْآخِرَةِ.
[17] {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ} [الشورى: 17] قال قتادة ومجاهد ومقاتل: العدل، سُمِّيَ الْعَدْلُ مِيزَانًا لِأَنَّ الْمِيزَانَ آلَةُ الْإِنْصَافِ وَالتَّسْوِيَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِالْوَفَاءِ، وَنَهَى عَنِ الْبَخْسِ. {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى: 17] وَلَمْ يَقُلْ قَرِيبَةً لِأَنَّ تَأْنِيثَهَا غير حقيقي، ومجازه: الوقت قريب. وقالي الْكِسَائِيُّ: إِتْيَانُهَا قَرِيبٌ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: ذَكَّرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- الساعة ذات يوم وعنده قوم من المشركين، فقالوا تَكْذِيبًا: مَتَى تَكُونُ السَّاعَةُ؟(6/844)
[18] فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 18] ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهَا غَيْرُ آتِيَةٍ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ} [الشورى: 18] أَيْ خَائِفُونَ، {مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} [الشورى: 18] أَنَّهَا آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، {أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ} [الشورى: 18] يخاصمون وقيل يدخلهم الْمِرْيَةُ وَالشَّكُّ، {فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [الشورى: 18]
[19] {اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} [الشورى: 19] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: حَفِيٌّ بِهِمْ. قَالَ عِكْرِمَةُ: بَارٌّ بِهِمْ. قَالَ الْسُّدِّيُّ. رَفِيقٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَطِيفٌ بالبَرِّ وَالْفَاجِرِ حيث لا يُهْلِكْهُمْ جُوعًا بِمَعَاصِيهِمْ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله: {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} [الشورى: 19] وَكُلُّ مَنْ رَزَقَهُ اللَّهُ مِنْ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ وَذِي رُوحٍ فَهُوَ مِمَّنْ يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ يَرْزُقَهُ. قَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الصَّادِقُ. اللُّطْفُ فِي الرِّزْقِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّهُ جَعَلَ رِزْقَكَ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَمْ يَدْفَعْهُ إليك مرة واحدة. {وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} [الشورى: 19]
[20] {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ} [الشورى: 20] الْحَرْثُ فِي اللُّغَةِ: الْكَسْبُ، يَعْنِي مَنْ كَانَ يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الْآخِرَةَ، {نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} [الشورى: 20] بِالتَّضْعِيفِ بِالْوَاحِدِ عَشَرَةً إِلَى مَا شَاءَ اللَّهُ مِنَ الزِّيَادَةِ، {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} [الشورى: 20] يُرِيدُ بِعَمَلِهِ الدُّنْيَا، {نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] قَالَ قَتَادَةُ: أَيْ نُؤْتِهِ بِقَدْرِ مَا قَسَمَ اللَّهُ لَهُ، كَمَا قَالَ: {عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الْإِسْرَاءِ: 18] {وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} [الشورى: 20] لأنه لم يعمل للآخرة.
[21] قوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] يعني كفار مكة، يقول ألهم آلِهَةٌ سَنُّوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: شَرَعُوا لَهُمْ دِينًا غَيْرَ دِينِ الْإِسْلَامِ، {وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ} [الشورى: 21] لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ حَكَمَ فِي كَلِمَةِ الْفَصْلِ بَيْنَ الْخَلْقِ بِتَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، حَيْثُ قَالَ: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ} [القمر: 46] {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} [الشورى: 21] لَفَرَغَ مِنْ عَذَابِ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَكَ في الدنيا، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 21]
المشركين، {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 21] في الآخرة.
[22] {تَرَى الظَّالِمِينَ} [الشورى: 22] المشركين يوم القيامة، {مُشْفِقِينَ} [الشورى: 22] وَجِلِينَ، {مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الشورى: 22] جزاء كسبهم وقع بِهِمْ، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} [الشورى: 22]
[قوله تعالى ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ] آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى. . .
[23] {ذَلِكَ الَّذِي} [الشورى: 23] ذَكَرْتُ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ، {يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 23] فَإِنَّهُمْ أَهْلُهُ، {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنهما-: يَعْنِي أَنْ تَحْفَظُوا قَرَابَتِي وَتَوَدُّونِي وتصلوا رحمي. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَى مَا أَدْعُوكُمْ إِلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا أَنْ تَحْفَظُونِي فِي قَرَابَتِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، وَلَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْكَذَّابُونَ. وقال الحسن: هُوَ الْقُرْبَى إِلَى اللَّهِ، يَقُولُ: إِلَّا التَّقَرُّبَ إِلَى اللَّهِ وَالتَّوَدُّدَ إِلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالْعَمَلِ(6/845)
الصَّالِحِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ تَوَدُّوا قَرَابَتِي وَعِتْرَتِي وَتَحْفَظُونِي فيهم. وَقَوْلُهُ: {إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} [الشورى: 23] لَيْسَ بِاسْتِثْنَاءٍ مُتَّصِلٍ بِالْأَوَّلِ حَتَّى يكون ذلك أجرا على مُقَابَلَةِ أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، بَلْ هُوَ مُنْقَطِعٌ، وَمَعْنَاهُ: وَلَكِنِّي أُذَكِّرُكُمُ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَأُذَكِّرُكُمْ قَرَابَتِي مِنْكُمْ {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} [الشورى: 23] أي من يكتسب طَاعَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا بالتضعيف، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ} [الشورى: 23] للذنوب، {شَكُورٌ} [الشورى: 23] لِلْقَلِيلِ حَتَّى يُضَاعِفَهَا.
[24] {أَمْ يَقُولُونَ} [الشورى: 24] بَلْ يَقُولُونَ يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، {افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} [الشورى: 24] قال مجاهد: نربط عَلَى قَلْبِكَ بِالصَّبْرِ حَتَّى لَا يَشُقَّ عَلَيْكَ أَذَاهُمْ، وَقَوْلُهُمْ إِنَّهُ مُفْتَرٍ، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي يَطْبَعُ عَلَى قَلْبِكَ فَيُنْسِيكَ الْقُرْآنَ وَمَا أَتَاكَ، فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَوِ افْتَرَى على الله كذبا لَفَعَلَ بِهِ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فقال: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} [الشورى: 24] قَالَ الْكِسَائِيُّ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مجازه: والله يمحو الباطل. فهو في محل رفع ولكنه حذفت مِنْهُ الْوَاوَ فِي الْمُصْحَفِ عَلَى اللَّفْظِ كَمَا حُذِفَتْ مِنْ قَوْلِهِ: {وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ} [الإسراء: 11] و {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [الْعَلَقِ: 18] أَخْبَرَ أَنَّ مَا يَقُولُونَهُ بَاطِلٌ يَمْحُوهُ اللَّهُ، {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} [الشورى: 24] أَيِ الْإِسْلَامَ بِمَا أَنْزَلَ مِنْ كِتَابِهِ، وَقَدْ فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ فَمَحَا بَاطِلَهُمْ وَأَعْلَى كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ، {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الشورى: 24]
[25] {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَوْلِيَاءَهُ وَأَهْلَ طَاعَتِهِ، قِيلَ: التَّوْبَةُ تَرْكُ الْمَعَاصِيَ نِيَّةً وَفِعْلًا، وَالْإِقْبَالُ عَلَى الطَّاعَةِ نِيَّةً وَفِعْلًا، قَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: التَّوْبَةُ الِانْتِقَالُ مِنَ الْأَحْوَالِ الْمَذْمُومَةِ إِلَى الْأَحْوَالِ المحمودة. {وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ} [الشورى: 25] إذا تابوا فلا يؤاخذهم بها {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ {تَفْعَلُونَ} [الشورى: 25] بِالتَّاءِ، وَقَالُوا: هُوَ خِطَابٌ لِلْمُشْرِكِينَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ لِأَنَّهُ بَيْنَ خَبَرَيْنِ عَنْ قَوْمٍ، فَقَالَ: قَبْلَهُ يقبل التوبة عَنْ عِبَادِهِ، وَبَعْدَهُ: وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فضله.
[26] {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا} [الشورى: 26] أَيْ وَيُجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا، {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى: 26] إِذَا دَعَوْهُ، وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيُثِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا. {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [الشورى: 26] سِوَى ثَوَابِ أَعْمَالِهِمْ تَفَضُّلًا مِنْهُ. وقال أَبُو صَالِحٍ عَنْهُ: يُشَفِّعُهُمْ فِي إِخْوَانِهِمْ، وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ قَالَ فِي إِخْوَانِ إِخْوَانِهِمْ. {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الشورى: 26]
[27] {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ} [الشورى: 27] قَالَ خَبَّابُ بْنُ الْأَرَتِّ: فِينَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَذَلِكَ أَنَّا نَظَرْنَا إِلَى أَمْوَالِ بَنِي قُرَيْظَةَ والنضير وَبَنِي قَيْنُقَاعَ فَتَمَنَّيْنَاهَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- هَذِهِ الْآيَةَ {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ} [الشورى: 27] وسع الله الرزق {لِعِبَادِهِ} [الشورى: 27] {لَبَغَوْا} [الشورى: 27] لطغوا وعتوا، {فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 27] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَغْيُهُمْ(6/846)
طَلَبُهُمْ مَنْزِلَةً بَعْدَ مَنْزِلَةٍ وَمَرْكَبًا بَعْدَ مَرْكَبٍ وَمَلْبَسًا بَعْدَ مَلْبَسٍ، {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ} [الشورى: 27] أرزاقهم، {بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 27] كَمَا يَشَاءُ نَظَرًا مِنْهُ لِعِبَادِهِ ولحكمة اقتضتها قدرته، {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} [الشورى: 27]
[28] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ} [الشورى: 28] الْمَطَرَ، {مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} [الشورى: 28] يَعْنِي مِنْ بَعْدِ مَا يَئِسَ النَّاسُ مِنْهُ وَذَلِكَ أَدْعَى لَهُمْ إِلَى الشُّكْرِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: حَبَسَ اللَّهُ الْمَطَرَ عَنْ أَهْلِ مَكَّةَ سَبْعَ سِنِينَ حَتَّى قَنِطُوا، ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ الْمَطَرَ فَذَكَّرَهُمُ اللَّهُ نعمته، {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} [الشورى: 28] يَبْسُطُ مَطَرَهُ، كَمَا قَالَ: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الْأَعْرَافِ: 57] {وَهُوَ الْوَلِيُّ} [الشورى: 28] لأهل طاعته، {الْحَمِيدُ} [الشورى: 28] عِنْدَ خَلْقِهِ.
[29] {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29] يعني بوم الْقِيَامَةِ.
[30] {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ (بِمَا كَسَبَتْ) بِغَيْرِ فَاءٍ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ، فَمَنْ حَذَفَ الْفَاءَ جَعَلَ (مَا) فِي أَوَّلِ الْآيَةِ بِمَعْنَى الَّذِي أَصَابَكُمْ بِمَا كَسَبَتْ أيديكم. {وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا مِنْ خَدْشِ عُودٍ وَلَا عَثْرَةِ قَدَمٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ إِلَّا بِذَنْبٍ، وَمَا يعفو الله عنه أكثر» . (1) ".
[31] {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الشورى: 31] بفائتين، {فِي الْأَرْضِ} [الشورى: 31] هربا يعني لا تعجزونني حيث ما كُنْتُمْ وَلَا تَسْبِقُونَنِي، {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 31]
[قوله تعالى وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ] إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ. . .
[32] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي} [الشورى: 32] يَعْنِي السُّفُنَ، وَاحِدَتُهَا جَارِيَةٌ وَهِيَ السائرة، {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الشورى: 32] أَيِ الْجِبَالِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: الْقُصُورُ، أحدها عَلَمٌ، وَقَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: كُلُّ شَيْءٍ مُرْتَفِعٌ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ عَلَمٌ.
[33] {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ} [الشورى: 33] التي تجريها، {فَيَظْلَلْنَ} [الشورى: 33] يعني الجواري، {رَوَاكِدَ} [الشورى: 33] ثوابت {عَلَى ظَهْرِهِ} [الشورى: 33] عَلَى ظَهْرِ الْبَحْرِ لَا تَجْرِي، {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [الشورى: 33] أَيْ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ لِأَنَّ صِفَةَ الْمُؤْمِنِ الصَّبْرُ فِي الشِّدَّةِ وَالشُّكْرُ في الرخاء.
[34] {أَوْ يُوبِقْهُنَّ} [الشورى: 34] يهلكهن ويغرقهن، {بِمَا كَسَبُوا} [الشورى: 34] أَيْ بِمَا كَسَبَتْ رُكْبَانُهَا مِنَ الذنوب، {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 34] مِنْ ذُنُوبِهِمْ فَلَا يُعَاقِبُ عَلَيْهَا.
[35] {وَيَعْلَمَ} [الشورى: 35] قرأ أهل المدينة والشام: (يعلم) بِرَفْعِ الْمِيمِ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ كَقَوْلِهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ: {وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ} [التَّوْبَةِ: 15] وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ عَلَى الصَّرْفِ وَالْجَزْمُ إِذَا صُرِفَ عَنْهُ مَعْطُوفُهُ نُصِبَ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 142] صُرِفَ مَنْ حَالِ الْجَزْمِ إِلَى النَّصْبِ اسْتِخْفَافًا وَكَرَاهِيَةً لِتَوَالِي الْجَزْمِ. {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} [الشورى: 35] أَيْ يَعْلَمُ الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِالْقُرْآنِ إِذَا صَارُوا إِلَى اللَّهِ بَعْدَ الْبَعْثِ أَنْ لَا مَهْرَبَ لَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
[36] {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ} [الشورى: 36] مِنْ رِيَاشِ الدُّنْيَا، {فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الشورى: 36] لَيْسَ مِنْ زَادِ الْمَعَادِ، {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ} [الشورى: 36] مِنَ الثَّوَابِ، {خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الشورى: 36] فِيهِ بَيَانُ أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَالْكَافِرَ يَسْتَوِيَانِ فِي أَنَّ الدُّنْيَا مَتَاعٌ لهم يتمتعان بها فإذا صار إِلَى الْآخِرَةِ كَانَ مَا عِنْدَ الله خيرا لِلْمُؤْمِنِ.
[37] {وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ} [الشورى: 37] قد ذَكَرْنَا مَعْنَى الْكَبَائِرِ فِي سُورَةِ النساء [آية: 31] {وَالْفَوَاحِشَ} [الشورى: 37]
_________
(1) ضعيف: أخرجه هناد في الزهد (رقم 431) ، وعزاه في الدر (6 / 9) لسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن المنذر، وأخرج ابن جرير (25 / 21) والبيهقي في الشعب وعبد بن حميد نحوه عن قتادة مرسلا، وأخرج نحوه ابن عساكر وابن مردويه عن البراء، وفي الصحيحين عن عائشة بمعناه وقد صححه الألباني في الجامع الصغير بلفظ: "ما اختلج عرق ولا عين إلا بذنب وما يدفع الله عنه أكثر.(6/847)
قَالَ الْسُّدِّيُّ: يَعْنِي الزِّنَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: مَا يُوجِبُ الْحَدَّ. {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] يَحْلُمُونَ وَيَكْظِمُونَ الْغَيْظَ وَيَتَجَاوَزُونَ.
[38] {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} [الشورى: 38] أَجَابُوهُ إِلَى مَا دَعَاهُمْ إِلَيْهِ مِنْ طَاعَتِهِ، {وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] يَتَشَاوَرُونَ فِيمَا يَبْدُو لَهُمْ وَلَا يعجلون {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [الشورى: 38]
[39] {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ} [الشورى: 39] الظلم والعدوان، {هُمْ يَنْتَصِرُونَ} [الشورى: 39] يَنْتَقِمُونَ مِنْ ظَالِمِيهِمْ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْتَدُوا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ صِنْفَيْنِ: صِنْفٌ يَعْفُونَ عَنْ ظَالِمِيهِمْ فَبَدَأَ بِذِكْرِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] وَصِنْفٌ يَنْتَصِرُونَ مِنْ ظَالِمِيهِمْ وَهُمُ الَّذِينَ ذُكِرُوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ كَانُوا يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَذِلُّوا فَإِذَا قَدَرُوا عَفَوْا. قَالَ عَطَاءٌ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ أَخْرَجَهُمُ الْكُفَّارُ مِنْ مكة وبغوا عليهم مَكَّنَهُمُ اللَّهُ فِي الْأَرْضِ حَتَّى انتصروا ممن ظلمهم، ثُمَّ ذَكَرَ اللَّهُ الِانْتِصَارَ فَقَالَ:
[40] {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشُّورَى: 40] سَمَّى الْجَزَاءَ سَيِّئَةً وَإِنْ لَمْ يكن سَيِّئَةً لِتَشَابُهِهِمَا فِي الصُّورَةِ. قَالَ مقاتل: يعني القصاصات فِي الْجِرَاحَاتِ وَالدِّمَاءِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيٌّ: هُوَ جَوَابُ الْقَبِيحِ إِذَا قال له أحد أخزاك الله يقول أَخْزَاكَ اللَّهُ، وَإِذَا شَتَمَكَ فَاشْتُمْهُ بِمِثْلِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ تَعْتَدِيَ. وقال هشام بن حجيرة: الْجَارِحُ إِذَا جَرَحَ يُقْتَصُّ مِنْهُ وَلَيْسَ هُوَ أَنْ يَشْتُمَكَ فَتَشْتُمَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ الْعَفْوَ فَقَالَ: {فَمَنْ عَفَا} [الشورى: 40] ظلمه، {وَأَصْلَحَ} [الشورى: 40] بِالْعَفْوِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ ظَالِمِهِ، {فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْيَقُمْ فَلَا يَقُومُ إِلَّا مَنْ عَفَا، ثُمَّ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ. {إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} [الشورى: 40] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ يَبْدَءُونَ بِالظُّلْمِ.
[41] {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} [الشورى: 41] أَيْ بَعْدَ ظُلْمِ الظَّالِمِ إِيَّاهُ، {فَأُولَئِكَ} [الشورى: 41] يَعْنِي الْمُنْتَصِرِينَ، {مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 41] بِعُقُوبَةٍ وَمُؤَاخَذَةٍ.
[42] {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} [الشورى: 42] يَبْدَءُونَ بِالظُّلْمِ، {وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [الشورى: 42] يَعْمَلُونَ فِيهَا بِالْمَعَاصِي، {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الشورى: 42]
[43] {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ} [الشورى: 43] فلم ينتصر، {إِنَّ ذَلِكَ} [الشورى: 43] الصَّبْرَ وَالتَّجَاوُزَ، {لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [الشورى: 43] حَقِّهَا وَجَزْمِهَا. قَالَ مُقَاتِلٌ: مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا. قَالَ الزَّجَّاجُ: الصَّابِرُ يُؤْتَى بِصَبْرِهِ الثَّوَابَ، فَالرَّغْبَةُ فِي الثَّوَابِ أَتَمُّ عَزْمًا.
[44] {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} [الشورى: 44] فماله مِنْ أَحَدٍ يَلِي هِدَايَتَهُ بَعْدَ إضلال الله إياه أو يمنعه مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ} [الشورى: 44] يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 44] يسألون الرجعة في الدنيا.
[قوله تعالى وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ] يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ. . .
[45] {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا} [الشورى: 45] أي على النار،(6/848)
{خَاشِعِينَ} [الشورى: 45] خَاضِعِينَ مُتَوَاضِعِينَ، {مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] خَفِيِّ النَّظَرِ لِمَا عَلَيْهِمْ مِنَ الذُّلِّ يُسَارِقُونَ النَّظَرَ إِلَى النَّارِ خَوْفًا مِنْهَا وَذِلَّةً فِي أَنْفُسِهِمْ. وَقِيلَ: (مِنْ) بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ بطرف خفي ضعيف مع الذُّلِّ. وَقِيلَ: إِنَّمَا قَالَ: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] لِأَنَّهُ لَا يَفْتَحُ عَيْنَهُ إِنَّمَا يَنْظُرُ بِبَعْضِهَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَنْظُرُونَ إِلَى النَّارِ بِقُلُوبِهِمْ لِأَنَّهُمْ يُحْشَرُونَ عُمْيًا وَالنَّظَرُ بِالْقَلْبِ خَفِيٌّ. {وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الشورى: 45] قِيلَ: خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَنْ صَارُوا إِلَى النَّارِ وَأَهْلِيهِمْ بِأَنْ صَارُوا لِغَيْرِهِمْ فِي الْجَنَّةِ. {أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} [الشورى: 45]
[46] {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} [الشورى: 46] طَرِيقٍ إِلَى الصَّوَابِ وَإِلَى الْوُصُولِ إِلَى الْحَقِّ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةِ في العقبى قد استدت عليهم طرق الخير.
[47] {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} [الشورى: 47] أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ يَعْنِي مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} [الشورى: 47] لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِهِ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ} [الشورى: 47] تَلْجَئُونَ إِلَيْهِ {يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} [الشورى: 47] مِنْ مُنْكِرٍ يُغَيِّرُ مَا بِكُمْ.
[48] {فَإِنْ أَعْرَضُوا} [الشورى: 48] عَنِ الْإِجَابَةِ، {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ} [الشورى: 48] مَا عَلَيْكَ، {إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} [الشورى: 48] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْغِنَى وَالصِّحَّةَ. {فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 48] قَحْطٌ، {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ} [الشورى: 48] أَيْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ يَنْسَى وَيَجْحَدُ بِأَوَّلِ شِدَّةٍ جَمِيعَ مَا سَلَفَ مِنَ النعم.
[قوله تعالى لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا] يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا. . .
[49] {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الشورى: 49] لَهُ التَّصَرُّفُ فِيهِمَا بِمَا يُرِيدُ، {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49] فَلَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ ذَكَرٌ، قِيلَ: مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَبْكِيرُهَا بِالْأُنْثَى قَبْلَ الذَّكَرِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ بِالْإِنَاثِ، {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] فَلَا يَكُونُ لَهُ أُنْثَى.
[50] {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} [الشورى: 50] يَجْمَعُ لَهُ بَيْنَهُمَا فَيُولَدُ لَهُ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 50] فَلَا يَلِدُ وَلَا يُولَدُ لَهُ. قِيلَ: هَذَا فِي الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} [الشورى: 49] يَعْنِي لُوطًا لَمْ يُولَدْ لَهُ ذَكَرٌ إِنَّمَا وُلِدَ لَهُ ابْنَتَانِ، {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} [الشورى: 49] يَعْنِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ يُولَدْ لَهُ أُنْثَى، {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} [الشورى: 50] يَعْنِي مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وُلِدَ لَهُ بَنُونَ وَبَنَاتٌ، {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 50] يَحْيَى وَعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَمْ يُولَدْ لَهُمَا، وَهَذَا عَلَى وَجْهِ التَّمْثِيلِ، وَالْآيَةُ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كَافَّةِ النَّاسِ، {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 50]
[51] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51] وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلَا تُكَلِّمُ اللَّهَ وَتَنْظُرُ إِلَيْهِ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى(6/849)
وَنَظَرَ إِلَيْهِ؟ فَقَالَ: لَمْ يَنْظُرْ مُوسَى إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا} [الشورى: 51] يُوحِي إِلَيْهِ فِي الْمَنَامِ أَوْ بِالْإِلْهَامِ، {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] يُسْمِعُهُ كَلَامَهُ وَلَا يَرَاهُ كَمَا كَلَّمَهُ مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} [الشورى: 51] إِمَّا جِبْرِيلَ أَوْ غَيْرَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} [الشورى: 51] أَيْ يُوحِيَ ذَلِكَ الرَّسُولُ إِلَى الْمُرْسَلِ إِلَيْهِ بِإِذْنِ اللَّهِ مَا يَشَاءُ، قَرَأَ نَافِعٌ: (أَوْ يُرْسِلُ) بِرَفْعِ اللَّامِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، (فَيُوحِي) سَاكِنَةَ الْيَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنَصْبِ اللَّامِ وَالْيَاءِ عَطْفًا عَلَى مَحَلِّ الْوَحْيِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ: وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُوحِيَ إِلَيْهِ أَوْ يُرْسِلَ رسولا {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الشورى: 51]
[52] {وَكَذَلِكَ} [الشورى: 52] أَيْ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى سَائِرِ رُسُلِنَا، {أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نُبُوَّةً. وَقَالَ الْحَسَنُ: رَحْمَةً. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: وَحْيًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كِتَابًا. وَقَالَ الرَّبِيعُ: جِبْرِيلَ. وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. {مَا كُنْتَ تَدْرِي} [الشورى: 52] قَبْلَ الْوَحْيِ، {مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ} [الشورى: 52] يَعْنِي شَرَائِعَ الْإِيمَانِ وَمَعَالِمَهُ، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ خُزَيْمَةَ: الْإِيمَانُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ الصَّلَاةُ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 143] وَأَهْلُ الْأُصُولِ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ كَانُوا مُؤْمِنِينَ قَبْلَ الْوَحْيَ وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَعْبُدُ اللَّهَ قَبْلَ الْوَحْيِ عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ شَرَائِعُ دِينِهِ {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا} [الشورى: 52] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْإِيمَانَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي الْقُرْآنَ. {نَهْدِي بِهِ} [الشورى: 52] نُرْشِدُ بِهِ، {مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} [الشورى: 52] أَيْ لَتَدْعُو، {إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] يَعْنِي الْإِسْلَامَ.
[53] {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 53] أَيْ أُمُورُ الْخَلَائِقِ كُلِّهَا فِي الآخرة.
[سورة الزُخْرُف]
[قوله تعالى حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا] عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. . .
(43) سورة الزُخْرُف [1، 2] {حم - وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} [الزخرف: 1 - 2] أقسم بالكتاب الذي أبان طرق الهدي من طرق الضَّلَالَةِ وَأَبَانَ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنَ الشَّرِيعَةِ.
[3] {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 3] قوله جعلناه أي: صيرنا هَذَا الْكِتَابَ عَرَبِيًّا. وَقِيلَ: بَيَّنَّاهُ. وَقِيلَ: سَمَّيْنَاهُ. وَقِيلَ: وَصَفْنَاهُ، يُقَالُ جَعَلَ فُلَانٌ زَيْدًا أَعْلَمَ النَّاسِ، أي وصفه بهذا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزُّخْرُفِ: 19] وَقَوْلُهُ: {جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ} [الْحِجْرِ: 91] وَقَالَ {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ} [التَّوْبَةِ: 19] كُلُّهَا بِمَعْنَى الْوَصْفِ وَالتَّسْمِيَةِ.
[4] {وَإِنَّهُ} [الزخرف: 4] يَعْنِي الْقُرْآنَ، {فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف: 4](6/850)
فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، قَالَ قَتَادَةُ: أُمُّ الْكِتَابِ أَصْلُ الْكِتَابِ، وَأُمُّ كُلِّ شَيْءٍ أَصْلُهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَخْلُقَ، فَالْكِتَابُ عِنْدَهُ، ثُمَّ قَرَأَ {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ} [الزخرف: 4] {لَدَيْنَا} [الزخرف: 4] فَالْقُرْآنُ مُثَبَّتٌ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ كَمَا قَالَ: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ - فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21 - 22] {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] قَالَ قَتَادَةُ: يُخْبِرُ عَنْ مَنْزِلَتِهِ وَشَرَفِهِ، أَيْ إِنْ كَذَّبْتُمْ بِالْقُرْآنِ يَا أَهْلَ مَكَّةَ فَإِنَّهُ عِنْدَنَا لَعَلِيٌّ رَفِيعٌ شَرِيفٌ مُحْكَمٌ مِنَ الْبَاطِلِ.
[5] {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} [الزخرف: 5] يُقَالُ: ضَرَبْتُ عَنْهُ وَأَضْرَبْتُ عَنْهُ إِذَا تَرَكْتُهُ وَأَمْسَكْتُ عَنْهُ، وَالصَّفْحُ مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ صَفَحْتَ عَنْهُ إِذَا أَعْرَضْتَ عَنْهُ، وَذَلِكَ بِأَنْ تُوَلِّيَهُ صَفْحَةَ وَجْهِكَ وَعُنُقِكَ وَالْمُرَادُ بِالذِّكْرِ الْقُرْآنُ، وَمَعْنَاهُ: أَفَنَتْرُكُ عَنْكُمُ الْوَحْيَ وَنُمْسِكُ عَنْ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ فَلَا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَنْهَاكُمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّكُمْ أَسْرَفْتُمْ فِي كُفْرِكُمْ وَتَرَكْتُمُ الْإِيمَانَ؟ اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ وَجَمَاعَةٍ، قَالَ قَتَادَةُ: وَاللَّهِ لَوْ كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ رُفِعَ حِينَ رَدَّهُ أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَهَلَكُوا، وَلَكِنَّ اللَّهَ عَادَ عَلَيْهِمْ بِعَائِدَتِهِ وَرَحْمَتِهِ، فَكَرَّرَهُ عَلَيْهِمْ عِشْرِينَ سَنَةً أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ. وقيل: معناه أفنضرب عنكم بذكرنا إِيَّاكُمْ صَافِحِينَ مُعْرِضِينَ. قَالَ الْكِسَائِيُّ والسدي: أَفَنَطْوِي عَنْكُمُ الذِّكْرَ طَيًّا فَلَا تُدْعَوْنَ وَلَا تُوعَظُونَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَفَنَتْرُكُكُمْ سُدًى لَا نَأْمُرُكُمْ وَلَا نَنْهَاكُمْ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ: أَفَنُعْرِضُ عَنْكُمْ وَنَتْرُكُكُمْ فَلَا نُعَاقِبَكُمْ عَلَى كُفْرِكُمْ. {أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} [الزخرف: 5] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى مَعْنَى إِذْ كُنْتُمْ كَقَوْلِهِ: {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [آلِ عِمْرَانَ: 139] وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ عَلَى مَعْنَى لِأَنْ كنتم مُسْرِفِينَ مُشْرِكِينَ.
[6، 7] {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ - وَمَا يَأْتِيهِمْ} [الزخرف: 6 - 7] أَيْ وَمَا كَانَ يَأْتِيهِمْ، {مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الزخرف: 7] كَاسْتِهْزَاءِ قَوْمِكَ بِكَ، يُعزِّي نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[8] {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} [الزخرف: 8] أَيْ أَقْوَى مِنْ قَوْمِكَ يَعْنِي الْأَوَّلِينَ الَّذِينَ أُهْلِكُوا بِتَكْذِيبِ الرُّسُلِ، {وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ} [الزخرف: 8] أَيْ صِفَتُهُمْ وَسُنَّتُهُمْ وَعُقُوبَتُهُمْ، فَعَاقِبَةُ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ فِي الْإِهْلَاكِ.
[9] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} [الزخرف: 9] أَيْ سَأَلْتَ قَوْمَكَ، {مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} [الزخرف: 9] وأقروا بِأَنَّ اللَّهَ خَالِقُهَا، وَأَقَرُّوا بِعِزِّهِ وَعِلْمِهِ ثُمَّ عَبَدُوا غَيْرَهُ وَأَنْكَرُوا قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ لِفَرْطِ جَهْلِهِمْ، إِلَى هَاهُنَا تَمَّ الْإِخْبَارُ عَنْهُمْ، ثُمَّ ابْتَدَأَ دَالًّا عَلَى نَفْسِهِ بِصُنْعِهِ فَقَالَ:
[10] {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الزخرف: 10] إلى مقاصدكم في أسفاركم.
[قوله تعالى وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا] بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ. . .
[11] {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} [الزخرف: 11] أَيْ بِقَدْرِ حَاجَتِكُمْ إِلَيْهِ لَا كَمَا أَنْزَلَ عَلَى قَوْمِ نُوحٍ بِغَيْرِ قَدْرٍ حَتَّى أَهْلَكَهُمْ. {فَأَنْشَرْنَا} [الزخرف: 11] أحيينا، {بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ} [الزخرف: 11] أَيْ كَمَا أَحْيَيْنَا هَذِهِ الْبَلْدَةَ الميتة بالمطر كذلك، {تُخْرَجُونَ} [الزخرف: 11] مِنْ قُبُورِكُمْ أَحْيَاءً.
[12] {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا} [الزخرف: 12] أَيِ الْأَصْنَافَ كُلَّهَا. {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ.
[13] {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] ذَكَرَ الْكِنَايَةِ لِأَنَّهُ رَدَّهَا إِلَى (مَا) ، {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 13] بِتَسْخِيرِ الْمَرَاكِبِ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، {وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} [الزخرف: 13] ذَلَّلَ لَنَا هَذَا، {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} [الزخرف: 13] مُطِيقِينَ، وَقِيلَ: ضَابِطِينَ.
[14] {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] لمنصرفون في المعاد.
[15] قوله تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا} [الزخرف: 15] أَيْ نَصِيبًا وَبَعْضًا وَهُوَ قَوْلُهُمْ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَمَعْنَى الْجَعْلِ هَاهُنَا الْحُكْمُ بِالشَّيْءِ وَالْقَوْلُ كَمَا(6/851)
تَقُولُ: جَعَلْتُ زَيْدًا أَفْضَلَ النَّاسِ، أَيْ وَصَفْتُهُ وَحَكَمْتُ بِهِ {إِنَّ الْإِنْسَانَ} [الزخرف: 15] يعني الكافر، {لَكَفُورٌ} [الزخرف: 15] جحود لنعم الله، {مُبِينٌ} [الزخرف: 15] ظَاهِرُ الْكُفْرَانِ.
[16] {أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ} [الزخرف: 16] هَذَا اسْتِفْهَامُ تَوْبِيخٍ وَإِنْكَارٍ، يَقُولُ: اتَّخَذَ رَبُّكُمْ لِنَفْسِهِ الْبَنَاتِ، {وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} [الزخرف: 16] كقوله: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} [الْإِسْرَاءِ: 40]
[17] {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا} [الزخرف: 17] بما جعل الله شَبَهًا وَذَلِكَ أَنَّ وَلَدَ كُلِّ شَيْءٍ يُشْبِهُهُ، يَعْنِي إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْبَنَاتِ كَمَا ذُكِرَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى} [النحل: 58] {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} [الزخرف: 17] من الغيظ والحزن.
[18] {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ} [الزخرف: 18] قرأ حمزة والكسائي يُنَشَّأُ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ النُّونِ وَتَشْدِيدِ الشِّينِ، أَيْ يُرَبَّى، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَسُكُونِ النُّونِ وَتَخْفِيفِ الشِّينِ، أَيْ يَنْبُتُ وَيَكْبُرُ، {فِي الْحِلْيَةِ} [الزخرف: 18] فِي الزِّينَةِ يَعْنِي النِّسَاءَ، {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} [الزخرف: 18] فِي الْمُخَاصَمَةِ غَيْرُ مُبِينٍ لِلْحُجَّةِ مِنْ ضَعْفِهِنَّ وَسَفَهِهِنَّ، قَالَ قَتَادَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَلَّمَا تَتَكَلَّمُ امرأة تريد أَنْ تَتَكَلَّمَ بِحُجَّتِهَا إِلَّا تَكَلَّمَتْ بالحجة عليها، (أومن) ، في مَحَلِّ مَنْ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: الرَّفْعُ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالنَّصْبُ عَلَى الْإِضْمَارِ، مَجَازُهُ: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ يَجْعَلُونَهُ بَنَاتِ اللَّهِ، وَالْخَفْضُ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: (مِمَّا يَخْلُقُ) ، وَقَوْلِهِ: (بِمَا ضَرَبَ) .
[19] {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} [الزُّخْرُفِ: 19] قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَبُو عَمْرٍو {عِبَادُ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: 19] بِالْبَاءِ وَالْأَلِفِ بَعْدَهَا وَرَفْعِ الدَّالِّ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 26] وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: (عِنْدَ الرَّحْمَنِ) بِالنُّونِ وَنَصْبِ الدَّالِ عَلَى الظَّرْفِ وتصديقه كقوله -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ} [الْأَعْرَافِ: 206] الْآيَةَ، {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ} [الزخرف: 19] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَلَى مَا لم يسم فاعله، ولينوا الهمزة الثانية بعد الِاسْتِفْهَامِ، أَيْ أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الشِّينِ أَيْ أَحَضَرُوا خَلْقَهُمْ حِينَ خُلِقُوا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} [الصافات: 150] {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} [الزخرف: 19] عَلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ، {وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] عَنْهَا، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: لَمَّا قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ سَأَلَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: «ما يدريكم أنهم بنات الله؟ قَالُوا: سَمِعْنَا مِنْ آبَائِنَا وَنَحْنُ نَشْهَدُ أَنَّهُمْ لَمْ يَكْذِبُوا "، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} [الزخرف: 19] » ، عَنْهَا فِي الْآخِرَةِ.
[20] {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزُّخْرُفِ: 20] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ والكلبي، وقال مُجَاهِدٌ: يَعْنِي الْأَوْثَانَ وَإِنَّمَا لَمْ يُعَجِّلْ عُقُوبَتَنَا عَلَى عِبَادَتِنَا إِيَّاهَا لرضاه منها بِعِبَادَتِهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20] فِيمَا يَقُولُونَ(6/852)
{إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ} [الزخرف: 20] مَا هُمْ إِلَّا كَاذِبُونَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَضِيَ منا عبادتها، وَقِيلَ: إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ إِنَاثٌ وَإِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.
[21] {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ} [الزخرف: 21] أَيْ مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ بِأَنْ يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ، {فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} [الزخرف: 21]
[22] {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] عَلَى دِينٍ وَمِلَّةٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى إِمَامٍ. {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22] جعلوا أنفسهم باتباع آبائهم الأولين مهتدين.
[قوله تعالى وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ] مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ. . .
[23] {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا} [الزخرف: 23] أَغْنِيَاؤُهَا وَرُؤَسَاؤُهَا، {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] بهم.
[24] {قَالَ} [الزخرف: 24] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ: (قَالَ) على الخبر، وقرأ آخرون (قُلْ) عَلَى الْأَمْرِ {أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ} [الزخرف: 24] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: (جِئْنَاكُمْ) عَلَى الْجَمْعِ، وَالْآخَرُونَ (جِئْتُكُمْ) عَلَى الْوَاحِدِ، {بِأَهْدَى} [الزخرف: 24] بِدِينٍ أَصْوَبَ، {مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ} [الزخرف: 24] قال الزجاج: قال لهم: أَتَتَّبِعُونَ مَا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ وَإِنْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِنْهُ "؟ فَأَبَوْا أن يقبلوه، {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 24]
[25] {فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} [الزخرف: 25] 26،
[27] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ} [الزخرف: 26] أَيْ بَرِيءٌ، وَلَا يُثَنَّى الْبَرَاءُ وَلَا يُجْمَعُ وَلَا يُؤَنَّثُ لِأَنَّهُ مَصْدَرٌ وُضِعَ مَوْضِعَ النَّعْتِ. {مِمَّا تَعْبُدُونَ - إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} [الزخرف: 26 - 27] يرشدني لدينه.
[28] {وَجَعَلَهَا} [الزخرف: 28] يَعْنِي هَذِهِ الْكَلِمَةَ، {كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} [الزخرف: 28] قَالَ مُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ: يَعْنِي كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ، وَهِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ أي فِي ذُرِّيَّتِهِ. قَالَ قَتَادَةُ: لَا يَزَالُ فِي ذُرِّيَّتِهِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَيُوَحِّدُهُ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: يَعْنِي جعل وَصِيَّةَ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي أَوْصَى بِهَا بَنِيهِ بَاقِيَةً فِي نَسْلِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَهُوَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [الْبَقَرَةِ: 132] وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي قَوْلَهُ: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الْبَقَرَةِ: 131] وَقَرَأَ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} [الْحَجِّ: 78] {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 28] لَعَلَّ أَهْلَ مَكَّةَ يَتَّبِعُونَ هَذَا الدِّينَ وَيَرْجِعُونَ عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ إِلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ. لَعَلَّهُمْ يَتُوبُونَ وَيَرْجِعُونَ إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ.
[29] {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ} [الزخرف: 29] يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ أعاجلهم بالعقوبة على كفرهم، {حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 29] يَعْنِي الْقُرْآنُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْإِسْلَامُ. {وَرَسُولٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 29] يُبَيِّنُ لَهُمُ الْأَحْكَامَ وَهُوَ مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ مِنْ حَقِّ هَذَا الْإِنْعَامِ أَنْ يُطِيعُوهُ، فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَعَصَوْا. 30،
[31] وَهُوَ قوله: {وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ} [الزخرف: 30] يَعْنِي الْقُرْآنُ، {قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ - وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} [الزخرف: 30 - 31] يَعْنُونَ(6/853)
الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَعُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثَّقَفِيَّ بِالطَّائِفِ، قَالَهُ قَتَادَةُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ مِنْ مَكَّةَ، وَابْنُ عبد يا ليل الثَّقَفِيُّ مِنَ الطَّائِفِ. وَقِيلَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنَ الطَّائِفِ حَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ الثَّقَفِيُّ. وَيُرْوَى هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا.
[32] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] يَعْنِي النُّبُوَّةَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَقُولُ بِأَيْدِيهِمْ مَفَاتِيحُ الرِّسَالَةِ فَيَضَعُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا؟ ثُمَّ قَالَ: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] فَجَعَلْنَا هَذَا غَنِيًّا وَهَذَا فَقَيرًا وَهَذَا مَلِكًا وَهَذَا مَمْلُوكًا فَكَمَا فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ كَمَا شِئْنَا، كَذَلِكَ اصْطَفَيْنَا بِالرِّسَالَةِ مَنْ شِئْنَا، {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] بِالْغِنَى وَالْمَالِ، {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [الزخرف: 32] لِيَسْتَخْدِمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَيُسَخِّرُ الْأَغْنِيَاءُ بِأَمْوَالِهِمُ الْأُجَرَاءَ الْفُقَرَاءَ بِالْعَمَلِ، فَيَكُونُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سَبَبَ الْمَعَاشِ هَذَا بِمَالِهِ، وَهَذَا بِأَعْمَالِهِ، فَيَلْتَئِمُ قِوَامُ أَمْرِ الْعَالَمِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: يَمْلِكُ بَعْضُهُمْ بِمَالِهِمْ بَعْضًا بِالْعُبُودِيَّةِ والملك. {وَرَحْمَتُ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] يعني الجنة، {خَيْرٌ} [الزخرف: 32] للمؤمنين، {مِمَّا يَجْمَعُونَ} [الزخرف: 32] مِمَّا يَجْمَعُ الْكُفَّارُ مِنَ الْأَمْوَالِ.
[33] {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الزخرف: 33] أَيْ لَوْلَا أَنْ يَصِيرُوا كُلُّهُمْ كُفَّارًا فَيَجْتَمِعُونَ عَلَى الْكُفْرِ، {لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ} [الزخرف: 33] مَصَاعِدَ وَدَرَجًا مِنْ فِضَّةٍ، {عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] يَعْلُونَ وَيَرْتَقُونَ، يُقَالُ: ظَهَرْتُ عَلَى السطح إذا علوته.
[قوله تعالى وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ] وَزُخْرُفًا. . .
[34] {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا} [الزخرف: 34] من فضة، {وَسُرُرًا} [الزخرف: 34] أَيْ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سُرُرًا مِنْ فضة، {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} [الزخرف: 34]
[35] {وَزُخْرُفًا} [الزخرف: 35] أي ولجعلنا مَعَ ذَلِكَ لَهُمْ زُخْرُفًا وَهُوَ الذَّهَبُ، نَظِيرُهُ: {أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ} [الْإِسْرَاءِ: 93] {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 35] قَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمٌ " لَمَّا " بِالتَّشْدِيدِ عَلَى مَعْنَى: وَمَا كُلُّ ذَلِكَ إِلَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَكَانَ: "لَمَّا" بِمَعْنَى إِلَّا، وَخَفَّفَهُ الْآخَرُونَ عَلَى مَعْنَى وَكُلُّ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ: (إِنْ) لِلِابْتِدَاءِ، و (ما) صِلَةٌ، يُرِيدُ إِنَّ هَذَا كُلَّهُ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا يَزُولُ وَيَذْهَبُ، {وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 35] خاصة يعني الجنة.
[36] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} [الزخرف: 36] أَيْ يُعْرِضُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ فَلَمْ يَخَفْ عِقَابَهُ، وَلَمْ يَرْجُ ثَوَابَهُ، يُقَالُ: عَشَوْتُ إِلَى النَّارِ أَعُشْو عَشْوًا، إِذَا قَصَدْتُهَا مُهْتَدِيًا بِهَا، وَعَشَوْتُ عَنْهَا أَعْرَضْتُ عَنْهَا، كَمَا يَقُولُ: عَدَلْتُ إِلَى فُلَانٍ وَعَدَلْتُ عَنْهُ وَمِلْتُ إِلَيْهِ وَمِلْتُ عَنْهُ. قَالَ الْقُرَظِيُّ: يُوَلِّي ظَهْرَهُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ وَهُوَ الْقُرْآنُ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: يَظْلِمُ بِصَرْفِ بَصَرِهِ عَنْهُ. قَالَ الْخَلِيلُ بْنُ أَحْمَدَ: أَصْلُ الْعَشْوِ النَّظَرُ بِبَصَرٍ ضَعِيفٍ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (وَمَنْ يَعْشَ) بِفَتْحِ الشِّينِ أَيْ يعم، يقال عشي يعشي عشيا إِذَا عَمِيَ فَهُوَ أَعْشَى، وَامْرَأَةٌ عشواء. {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} [الزخرف: 36] قَرَأَ يَعْقُوبُ: (يُقَيِّضْ) بِالْيَاءِ، وَالْبَاقُونَ بِالنُّونِ، نُسَبِّبُ لَهُ شَيْطَانًا وَنَضُمُّهُ إِلَيْهِ وَنُسَلِّطُهُ عَلَيْهِ، {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] لَا يُفَارِقُهُ يُزَيِّنُ لَهُ الْعَمَى وَيُخَيِّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ عَلَى الْهُدَى.
[37] {وَإِنَّهُمْ} [الزخرف: 37] يَعْنِي الشَّيَاطِينَ، {لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} [الزخرف: 37] أي ليمنعونهم عن الهدى {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 37] وَيَحْسَبُ كُفَّارُ بَنِي آدَمَ أَنَّهُمْ على هدى.
[38] {حَتَّى إِذَا جَاءَنَا} [الزخرف: 38] قَرَأَ أَهْلُ الْعِرَاقِ غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ: (جَاءَنَا) عَلَى الْوَاحِدِ يَعْنُونَ الْكَافِرَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: جَاءَانَا، عَلَى التثنية يعنون الكافر وقرينه قد جُعِلَا فِي سِلْسِلَةٍ وَاحِدَةٍ. {قَالَ} [الزخرف: 38] الْكَافِرُ لِقَرِينِهِ الشَّيْطَانِ، {يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} [الزخرف: 38] أَيْ بُعْدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ فَغَلَبَ اسْمُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا يُقَالُ لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ: الْقَمَرَانِ،(6/854)
وَلِأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ: الْعُمَرَانِ. وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْمَشْرِقَيْنِ مَشْرِقَ الصَّيْفِ وَمَشْرِقَ الشِّتَاءِ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} [الزخرف: 38] قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: إِذَا بُعث الكافر زُوِّج بقرينه الشيطان فَلَا يُفَارِقُهُ حَتَّى يَصِيرَ إِلَى النار.
[39] {وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ} [الزخرف: 39] في الآخرة، {إِذْ ظَلَمْتُمْ} [الزخرف: 39] أَشْرَكْتُمْ فِي الدُّنْيَا، {أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} [الزخرف: 39] يَعْنِي لَا يَنْفَعُكُمُ الِاشْتِرَاكُ فِي الْعَذَابِ وَلَا يُخَفِّفُ الِاشْتِرَاكُ عَنْكُمْ الْعَذَابِ، لِأَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْكُفَّارِ وَالشَّيَاطِينِ الْحَظَّ الْأَوْفَرَ مِنَ الْعَذَابِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَنْ يَنْفَعَكُمُ الِاعْتِذَارُ وَالنَّدَمُ الْيَوْمَ فَأَنْتُمْ وَقُرَنَاؤُكُمُ الْيَوْمَ مُشْتَرِكُونَ فِي الْعَذَابِ كَمَا كنتم مشتركين فِي الْكُفْرِ.
[40] {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الزخرف: 40] يَعْنِي الْكَافِرِينَ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ لَا يُؤْمِنُونَ.
[41] {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ} [الزخرف: 41] بِأَنْ نُمِيتَكَ قَبْلَ أَنْ نُعَذِّبَهُمْ، {فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} [الزخرف: 41] بالقتل بعدك.
[42] {أَوْ نُرِيَنَّكَ} [الزخرف: 42] في حياتك، {الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ} [الزخرف: 42] مِنَ الْعَذَابِ، {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} [الزخرف: 42] قَادِرُونَ مَتَى شِئْنَا عَذَّبْنَاهُمْ، وَأَرَادَ بِهِ مُشْرِكِي مَكَّةَ انْتَقَمَ مِنْهُمْ يوم بدر، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: عَنَى بِهِ أَهْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَقَدْ كَانَ بَعْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِقْمَةٌ شَدِيدَةٌ فِي أُمَّتِهِ، فَأَكْرَمَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَذَهَبَ بِهِ وَلَمْ يُرِهْ فِي أُمَّتِهِ إِلَّا الَّذِي يَقَرُّ عَيْنَهُ، وَأَبْقَى النِّقْمَةَ بعده.
[43] {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الزخرف: 43]
[44] {وَإِنَّهُ} [الزخرف: 44] يعني القرآن، {لَذِكْرٌ لَكَ} [الزخرف: 44] أي لشرف لك، {وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] مِنْ قُرَيْشٍ، نَظِيرُهُ: {لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} [الْأَنْبِيَاءِ: 10] أي شرفكم، {وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} [الزخرف: 44] عن حقه وأداء شكره. قال مُجَاهِدٌ: الْقَوْمُ هُمُ الْعَرَبُ، فَالْقُرْآنُ لَهُمْ شَرَفٌ إِذْ نَزَلَ بِلُغَتِهِمْ، ثُمَّ يَخْتَصُّ بِذَلِكَ الشَّرَفِ الْأَخَصَّ فَالْأَخَصَّ مِنَ الْعَرَبِ، حَتَّى يَكُونَ الْأَكْثَرُ لِقُرَيْشٍ وَلِبَنِي هَاشِمٍ. وَقِيلَ: ذَلِكَ شَرَفٌ لَكَ بِمَا أَعْطَاكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلِقَوْمِكَ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا هُدَاهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ عَنِ الْقُرْآنِ وَعَمَّا يَلْزَمُكُمْ مِنَ القيام بحقه.
[45] {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} [الزخرف: 45] اخْتَلَفُوا فِي هَؤُلَاءِ الْمَسْئُولِينَ، قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعَثَ اللَّهُ لَهُ آدَمَ وَوَلَدَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَأَذَّنَ جِبْرِيلُ ثُمَّ أَقَامَ، وَقَالَ يَا مُحَمَّدُ تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِهِمْ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: سَلْ يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَرْسَلْنَا قبلك من رسلنا، الْآيَةُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: " لَا أَسْأَلُ فَقَدِ اكْتَفَيْتُ» ، وَهَذَا قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ زَيْدٍ، قَالُوا: جَمَعَ اللَّهُ لَهُ الْمُرْسَلِينَ(6/855)
لَيْلَةَ أُسَرِيَ بِهِ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْأَلَهُمْ فَلَمْ يَشُكَّ وَلَمْ يَسْأَلْ. وَقَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: سَلْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ أَرْسَلْتُ إِلَيْهِمُ الْأَنْبِيَاءَ هَلْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ إِلَّا بالتوحيد؟ يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَأُبَيٍّ: (وَاسْأَلِ الَّذِينَ أَرْسَلَنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ رُسُلَنَا) ، وَمَعْنَى الْأَمْرِ بِالسُّؤَالِ التَّقْرِيرُ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِ رَسُولٌ وَلَا كِتَابٌ بِعِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ.
[46، 47] {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ - فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} [الزخرف: 46 - 47] استهزاء.
[قوله تعالى وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ] أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ. . .
[48] {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} [الزخرف: 48] قَرِينَتِهَا وَصَاحِبَتِهَا الَّتِي كَانَتْ قَبْلَهَا، {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} [الزخرف: 48] بِالسِّنِينَ وَالطُّوفَانِ وَالْجَرَادِ وَالْقُمَّلِ وَالضَّفَادِعِ وَالدَّمِ وَالطَّمْسِ، فَكَانَتْ هَذِهِ دَلَالَاتٍ لِمُوسَى، وَعَذَابًا لَهُمْ، فَكَانَتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ أَكْبَرَ مِنَ الَّتِي قَبْلَهَا، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الزخرف: 48] عن كفرهم.
[49] {وَقَالُوا} [الزخرف: 49] لِمُوسَى لَمَّا عَايَنُوا الْعَذَابَ، {يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ} [الزخرف: 49] يَا أَيُّهَا الْعَالِمُ الْكَامِلُ الْحَاذِقُ، إنما قَالُوا هَذَا تَوْقِيرًا وَتَعْظِيمًا لَهُ لِأَنَّ السِّحْرَ عِنْدَهُمْ كَانَ عِلْمًا عَظِيمًا وَصِفَةً مَمْدُوحَةً، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَا أَيُّهَا الَّذِي غَلَبَنَا بِسِحْرِهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: خَاطَبُوهُ بِهِ لِمَا تَقَدَّمَ لَهُ عِنْدَهُمْ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِالسَّاحِرِ. {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} [الزخرف: 49] أَيْ بِمَا أَخْبَرْتَنَا مِنْ عَهْدِهِ إِلَيْكَ إِنْ آمَنَّا كَشَفَ عَنَّا الْعَذَابَ فَاسْأَلْهُ يَكْشِفُ عَنَّا الْعَذَابَ، {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} [الزخرف: 49] مُؤْمِنُونَ فَدَعَا مُوسَى فَكَشَفَ عَنْهُمْ فَلَمْ يُؤْمِنُوا.
[50] فَذَلِكَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ} [الزخرف: 50] يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ وَيُصِرُّونَ عَلَى كُفْرِهِمْ.
[51] {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ} [الزخرف: 51] أَنْهَارُ النِّيلِ، {تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} [الزخرف: 51] مِنْ تَحْتِ قُصُورِي، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَجْرِي بَيْنَ يَدِي فِي جِنَانِي وَبَسَاتِينِي. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِأَمْرِي. {أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الزخرف: 51] عَظَمَتِي وَشِدَّةَ مُلْكِي.
[52] {أَمْ أَنَا خَيْرٌ} [الزخرف: 52] بَلْ أَنَا خَيْرٌ، (أَمْ) بِمَعْنَى بَلْ وَلَيْسَ بِحَرْفِ عَطْفٍ عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْوَقْفُ عَلَى قَوْلِهِ (أَمْ) وَفِيهِ إِضْمَارٌ مَجَازُهُ أَفَلَا تُبْصِرُونَ أَمْ تُبْصِرُونَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ أَنَا خَيْرٌ، {مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} [الزخرف: 52] ضَعِيفٌ حَقِيرٌ يَعْنِي مُوسَى، قَوْلُهُ: {وَلَا يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] يُفْصِحُ بِكَلَامِهِ لِلُثْغَتِهِ الَّتِي فِي لسانه.
[53] {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ} [الزخرف: 53] إِنْ كَانَ صَادِقًا، {أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53] قَرَأَ حَفْصٌ وَيَعْقُوبُ (أَسْوِرَةٌ) جَمَعَ سِوَارٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (أَسَاوِرَةٌ) عَلَى جَمْعِ الْأَسْوِرَةِ، وَهِيَ جَمْعُ الْجَمْعِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا إِذَا سَوَّدُوا رَجُلًا سَوَّرُوهُ بِسِوَارٍ وَطَوَّقُوهُ بِطَوْقٍ مِنْ ذَهَبٍ يَكُونُ ذَلِكَ دَلَالَةً لِسِيَادَتِهِ، فَقَالَ فِرْعَوْنُ: هَلَّا(6/856)
أَلْقَى رَبُّ مُوسَى عَلَيْهِ أَسْوِرَةً مِنْ ذَهَبٍ إِنْ كَانَ سَيِّدًا تَجِبُ عَلَيْنَا طَاعَتُهُ. {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} [الزخرف: 53] متتابعين يتابع بَعْضُهُمْ بَعْضًا يَشْهَدُونَ لَهُ بِصِدْقِهِ وَيُعِينُونَهُ عَلَى أَمْرِهِ.
[54] قَالَ اللَّهُ تعالى: {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ} [الزخرف: 54] أَيِ اسْتَخَفَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ الْقِبْطَ، أَيْ وَجَدَهُمْ جُهَّالًا. وَقِيلَ حَمَلَهُمْ عَلَى الْخِفَّةِ وَالْجَهْلِ. يُقَالُ اسْتَخَفَّهُ عَنْ رَأْيِهِ إِذَا حَمَلَهُ عَلَى الْجَهْلِ وَأَزَالَهُ عَنِ الصَّوَابِ، {فَأَطَاعُوهُ} [الزخرف: 54] عَلَى تَكْذِيبِ مُوسَى، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الزخرف: 54] 55،
[56] {فَلَمَّا آسَفُونَا} [الزخرف: 55] أَغْضَبُونَا، {انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ - فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا} [الزخرف: 55 - 56] هم الْمَاضُونَ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنَ الْأُمَمِ، يُقَالُ: سَلُفَ يُسْلِفُ إِذَا تَقَدَّمَ، وَالسَّلَفُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْآبَاءِ فَجَعَلْنَاهُمْ مُتَقَدِّمِينَ لِيَتَّعِظَ بِهِمُ الْآخَرُونَ، {وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ} [الزخرف: 56] عِبْرَةً وَعِظَةً لِمَنْ بَقِيَ بَعْدَهُمْ. وَقِيلَ: سَلَفًا لِكُفَّارِ هَذِهِ الْأُمَّةِ إِلَى النَّارِ وَمَثَلًا لِمَنْ يَجِيءُ بَعْدَهُمْ.
[57] {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا} [الزخرف: 57] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي مُجَادَلَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزَّبْعَرِيِّ مَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي شَأْنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، لما نزل قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَالْكِسَائِيُّ (يَصُدُّونَ) بِضَمِّ الصَّادِ، أَيْ يُعْرِضُونَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِ الصَّادِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ يَعْرُشُونَ وَيَعْرِشُونَ، وَشَدَّ عَلَيْهِ يَشُدُّ وَيَشِدُّ، وَنَمَّ بِالْحَدِيثِ يَنُمُّ وَيَنِمُّ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ يَضِجُّونَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: يَصِيحُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعُجُّونَّ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَجْزَعُونَ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: يضجرون. لما ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ يَقُولُونَ مَا يريد منا محمد إِلَّا أَنْ نَعْبُدَهُ وَنَتَّخِذَهُ إِلَهًا كَمَا عَبَدَتِ النَّصَارَى عِيسَى.
[58] {وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} [الزخرف: 58] قَالَ قَتَادَةُ: أَمْ هُوَ يَعْنُونَ مُحَمَّدًا فَنَعْبُدُهُ وَنُطِيعُهُ وَنَتْرُكُ آلِهَتَنَا. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَابْنُ زَيْدٍ أَمْ هو يعنون عِيسَى، قَالُوا: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ أَنَّ كُلُّ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فِي النَّارِ فَنَحْنُ نَرْضَى أَنْ تَكُونَ آلِهَتُنَا مَعَ عِيسَى وَعُزَيْرٍ وَالْمَلَائِكَةِ فِي النَّارِ، وَقَالَ الله تعالى: {مَا ضَرَبُوهُ} [الزخرف: 58] يَعْنِي هَذَا الْمَثَلَ، {لَكَ إِلَّا جَدَلًا} [الزخرف: 58] خُصُومَةً بِالْبَاطِلِ وَقَدْ عَلِمُوا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 98] هَؤُلَاءِ الْأَصْنَامُ. {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58]
[59] ثُمَّ ذَكَرَ عِيسَى فَقَالَ: {إِنْ هُوَ} [الزخرف: 59] مَا هُوَ يَعْنِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، {إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} [الزخرف: 59] بالنبوة، {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا} [الزخرف: 59] آية وعبرة، {لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} [الزخرف: 59] يَعْرِفُونَ بِهِ قُدْرَةَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى مَا يَشَاءُ حَيْثُ خَلَقَهُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ.
[60] {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً} [الزخرف: 60] أَيْ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَهْلَكْنَاكُمْ وَجَعَلْنَا بَدَلًا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً، {فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ} [الزخرف: 60] يكونون خلفاء مِنْكُمْ يُعَمِّرُونَ الْأَرْضَ وَيَعْبُدُونَنِي وَيُطِيعُونَنِي. وقيل: يخلف بعضهم بعضا.
[قوله تعالى وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا] وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ. . .
[61] {وَإِنَّهُ} [الزخرف: 61] يَعْنِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ {لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} [الزخرف: 61] يَعْنِي نُزُولَهُ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ يُعْلَمُ بِهِ قُرْبُهَا، وَقَرَأَ ابْنُ عباس وأبو هريرة وقتادة: (إنه لَعَلَمٌ لِلسَّاعَةِ) بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْعَيْنِ أي أمارة وعلامة، وَقَالَ الْحَسَنُ وَجَمَاعَةٌ: وَإِنَّهُ يَعْنِي وَإِنَّ الْقُرْآنَ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ يُعْلِمُكُمْ قِيَامَهَا، وَيُخْبِرُكُمْ بِأَحْوَالِهَا وَأَهْوَالِهَا، {فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا} [الزخرف: 61] فَلَا تَشُكَّنَّ فِيهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تُكَذِّبُوا بِهَا، {وَاتَّبِعُونِ} [الزخرف: 61] على التوحيد، {هَذَا} [الزخرف: 61] الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ، {صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [الزخرف: 61]
[62] {وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ} [الزخرف: 62] لا يصرفنكم،(6/857)
{الشَّيْطَانُ} [الزخرف: 62] عَنْ دِينِ اللَّهِ، {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [الزخرف: 62]
[63] {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} [الزخرف: 63] بِالنُّبُوَّةِ، {وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} [الزخرف: 63] مِنْ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ، قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي اخْتِلَافَ الْفِرَقِ الَّذِينَ تَحَزَّبُوا عَلَى أَمْرِ عِيسَى. قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ إِنَّمَا هُوَ بَعْضُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَبَيَّنَ لَهُمْ فِي غَيْرِ الْإِنْجِيلِ مَا احْتَاجُوا إِلَيْهِ. {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الزخرف: 63]
[64 - 66] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ - فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ - هَلْ يَنْظُرُونَ} [الزخرف: 64 - 66] هل ينتظرون، {إِلَّا السَّاعَةَ} [الزخرف: 66] يَعْنِي أَنَّهَا تَأْتِيهِمْ لَا مَحَالَةَ فَكَأَنَّهُمْ يَنْتَظِرُونَهَا، {أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} [الزخرف: 66] فجأة، {وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} [الزخرف: 66]
[67] {الْأَخِلَّاءُ} [الزخرف: 67] عَلَى الْمَعْصِيَةِ فِي الدُّنْيَا، {يَوْمَئِذٍ} [الزخرف: 67] يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 67] إِلَّا الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ -عَزَّ وجلّ. 68،
[69] {يا عِبَادِ} [الزخرف: 68] أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ يَا عِبَادِي، {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ - الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} [الزخرف: 68 - 69] فَيَيْأَسُ النَّاسُ مِنْهَا غَيْرَ الْمُسْلِمِينَ.
[70] فَيُقَالُ لَهُمُ: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70] تُسَرُّونَ وَتُنَعَّمُونَ.
[71] {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ} [الزخرف: 71] جَمْعُ صَحْفَةٍ وَهِيَ الْقَصْعَةُ الْوَاسِعَةُ، {مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71] جَمْعُ كُوبٍ وَهُوَ إِنَاءٌ مُسْتَدِيرٌ مُدَوَّرُ الرَّأْسِ لَا عُرَى لَهَا، {وَفِيهَا} [الزخرف: 71] أَيْ فِي الْجَنَّةِ، {مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [الزخرف: 71] 72،
[73] {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف: 72 - 73]
[قوله تعالى إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ] لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ. . .
[74 - 77] {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} [الزخرف: 74] الْمُشْرِكِينَ، {فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ - لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ - وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ - وَنَادَوْا يَا مَالِكُ} [الزخرف: 74 - 77] يَدْعُونَ خَازِنَ النَّارِ، {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] لِيُمِتْنَا رَبُّكَ فَنَسْتَرِيحَ فَيُجِيبُهُمْ مَالِكٌ بَعْدَ أَلْفِ سَنَةٍ، {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77] مقيمون في العذاب.
[78] {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 78] يَقُولُ أَرْسَلَنَا إِلَيْكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ رَسُولَنَا بِالْحَقِّ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} [الزخرف: 78]
[79] {أَمْ أَبْرَمُوا} [الزخرف: 79] أحكموا {أَمْرًا} [الزخرف: 79] فِي الْمَكْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} [الزخرف: 79] مُحْكِمُونَ أَمْرًا فِي مُجَازَاتِهِمْ، قَالَ مُجَاهِدٌ: إِنْ كَادُوا شَرًّا كِدْتُهُمْ مِثْلَهُ. 80،
[81] {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [الزخرف: 80] مَا يُسِرُّونَهُ مِنْ غَيْرِهِمْ وَيَتَنَاجَوْنَ به بينهم، {بَلَى} [الزخرف: 80] نسمع ذلك ونعلم، {وَرُسُلُنَا} [الزخرف: 80] أَيْضًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَعْنِي الْحَفَظَةَ، {لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ - قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 80 - 81](6/858)
يَعْنِي إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فِي قَوْلِكُمْ وَعَلَى زَعْمِكُمْ، فَأَنَا أول من عبده بِأَنَّهُ وَاحِدٌ لَا شَرِيكَ لَهُ ولا ولد. قال ابْنِ عَبَّاسٍ: (إِنْ كَانَ) أَيْ مَا كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ الشَّاهِدِينَ لَهُ بِذَلِكَ، جعل (إن) بمعنى الجحد. قال السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ لَوْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ ولد فأنا أول من أعبده بِذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا وَلَدَ لَهُ. وقيل: العابدين بمعنى الآنفين، يعنى أَوَّلُ الْجَاحِدِينَ وَالْمُنْكِرِينَ لِمَا قُلْتُمْ. وَيُقَالُ: مَعْنَاهُ أَنَا أَوَّلُ مَنْ غَضِبَ لِلرَّحْمَنِ أَنْ يُقَالَ لَهُ وَلَدٌ، يُقَالُ: عَبَدَ يَعْبُدُ - إِذَا أنف أو غضب - عبدا. وَقَالَ قَوْمٌ: قُلْ مَا يُقال: عَبَدَ فَهُوَ عَابِدٌ، إِنَّمَا يُقَالُ: عَبَدَ فَهُوَ عَبْدٌ.
[82] ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ فَقَالَ: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الزخرف: 82] عَمَّا يَقُولُونَ مِنَ الْكَذِبِ.
[83] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} [الزخرف: 83] في باطلهم، {وَيَلْعَبُوا} [الزخرف: 83] فِي دُنْيَاهُمْ، {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف: 83] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
[84] {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] قَالَ قَتَادَةُ: يُعْبَد فِي السَّمَاءِ وَفِي الْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هو {وَهُوَ الْحَكِيمُ} [الزخرف: 84] في تدبير خلقه، {الْعَلِيمُ} [الزخرف: 84] بِمَصَالِحِهِمْ.
[85] {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [الزخرف: 85] قرأ ابن كثير والنسائي (يَرْجِعُونَ) بِالْيَاءِ، وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ.
[86] {وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} [الزخرف: 86] وَهُمْ عِيسَى وَعُزَيْرٌ وَالْمَلَائِكَةُ فَإِنَّهُمْ عُبدوا مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَلَهُمُ الشَّفَاعَةُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ (مَنْ) فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، وَقِيلَ: (مَنْ) فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ، وَأَرَادَ بِالَّذِينِ يدعون عيسى وعزير والملائكة، بعني أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا لمن شهد الحق والأولى أَصَحُّ، وَأَرَادَ بِشَهَادَةِ الْحَقِّ قَوْلَهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ كَلِمَةً التوحيد، {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] بِقُلُوبِهِمْ مَا شَهِدُوا بِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ.
[87] {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87] يُصْرَفُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ.
[88] {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ} [الزخرف: 88] يَعْنِي قَوْلَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- شَاكِيًا إِلَى رَبِّهِ يَا رَبِّ، {إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف: 88] قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (وَقِيلِهِ) بِجَرِّ اللَّامِ وَالْهَاءِ عَلَى مَعْنَى وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَعِلْمُ قِيلِهِ يَا رَبِّ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنَّصْبِ، وَلَهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا مَعْنَاهُ: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَقِيلِهِ يَا رَبِّ، وَالثَّانِي: وَقَالَ قيله.
[89] {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ} [الزخرف: 89] أعرض عنهم، {وَقُلْ سَلَامٌ} [الزخرف: 89] مَعْنَاهُ الْمُتَارَكَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [الْقَصَصِ: 55] {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89] قرأ أهل المدية والشام بالتاء، وقرأ الباقون بالياء، وقال مُقَاتِلٌ: نَسَخَتْهَا آيَةُ السَّيْفِ.
[سُورَةُ الدُخَانٍ]
[قوله تعالى حم وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ] مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. . .(6/859)
(44) سورة الدُخَانِ [1 - 3] {حم - وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ - إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان: 1 - 3] قَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ لَيْلَةُ الْقَدْرِ أَنْزَلَ اللَّهُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ نزل جبريل عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً. وَقَالَ آخَرُونَ هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ من شعبان {إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ} [الدخان: 3]
[4] {فِيهَا} [الدخان: 4] أَيْ فِي اللَّيْلَةِ الْمُبَارَكَةِ، {يُفْرَقُ} [الدخان: 4] أي يفصل، {كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] مُحْكَمٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَكْتُبُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا هُوَ كَائِنٌ فِي السَّنَةِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالْأَرْزَاقِ وَالْآجَالِ حَتَّى الْحُجَّاجِ، يُقَالُ: يَحُجُّ فُلَانٌ وَيَحُجُّ فُلَانٌ، قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: يُبْرَمُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ كُلُّ أَجَلٍ وَعَمَلٍ وَخَلْقٍ وَرِزْقٍ، وَمَا يَكُونُ فِي تِلْكَ السَّنَةِ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ. هِيَ لَيْلَةُ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ يُبْرَمُ فِيهَا أَمْرُ السَّنَةِ وَتُنْسَخُ الْأَحْيَاءُ مِنَ الْأَمْوَاتِ فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ أَحَدٌ وَلَا يُنْقَصُ منهم أحد.
[5] {أَمْرًا} [الدخان: 5] أَيْ أَنْزَلْنَا أَمْرًا، {مِنْ عِنْدِنَا} [الدخان: 5] قَالَ الْفَرَّاءُ: نَصَبَ عَلَى مَعْنَى فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فرقا وأمرا، أي نأمر أمرا ببيان ذلك. {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ} [الدخان: 5] مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
[6، 7] {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 6] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَأْفَةً مِنِّي بِخَلْقِي وَنِعْمَتِي عَلَيْهِمْ بِمَا بَعَثَنَا إِلَيْهِمْ مِنَ الرُّسُلِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ لِلرَّحْمَةِ {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ - رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الدخان: 6 - 7] قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: (رَبِّ) جَرًّا رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: (مِنْ رَبِّكَ) ، وَرَفَعَهُ الْآخَرُونَ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: (هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ، وَقِيلَ: عَلَى الابتداء، {إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ} [الدخان: 7] أَنَّ اللَّهَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.
[8، 9] {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ - بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ} [الدخان: 8 - 9] من هذا القرآن، {يَلْعَبُونَ} [الدخان: 9] يَهْزَءُونَ بِهِ لَاهُونَ عَنْهُ. 10،
[11] {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ - يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الدخان: 10 - 11] تقديره: هو عذاب إلهي ويجوز: أن يكون حكاية لكلامهم بما بعده، أي يقولون هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ. 12،
[13] {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ - أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى} [الدخان: 12 - 13] مِنْ أَيْنَ لَهُمُ التَّذَكُّرُ وَالِاتِّعَاظُ؟ يَقُولُ: كَيْفَ يَتَذَكَّرُونَ وَيَتَّعِظُونَ؟ {وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} [الدخان: 13] ظَاهِرُ الصِّدْقِ يَعْنِي مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[14] {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} [الدخان: 14] أعرضوا عنه، {وَقَالُوا مُعَلَّمٌ} [الدخان: 14] أي يعلمه بشر، {مَجْنُونٌ} [الدخان: 14]
[15] قال الله تعالى: {إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ} [الدخان: 15] أي عذاب الجوع {قَلِيلًا} [الدخان: 15] أَيْ زَمَانًا يَسِيرًا، قَالَ(6/860)
مُقَاتِلٌ: إِلَى يَوْمِ بَدْرٍ. {إِنَّكُمْ عَائِدُونَ} [الدخان: 15] إِلَى كُفْرِكُمْ.
[16] {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى} [الدخان: 16] وَهُوَ يَوْمُ بَدْرٍ، {إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} [الدخان: 16] وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ وَقَالَ الْحَسَنُ: يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَرَوَى عِكْرِمَةُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عباس.
[17] {وَلَقَدْ فَتَنَّا} [الدخان: 17] بلونا، {قَبْلَهُمْ} [الدخان: 17] قَبْلَ هَؤُلَاءِ، {قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ} [الدخان: 17] عَلَى اللَّهِ وَهُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ.
[18] {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ} [الدخان: 18] يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ أَطْلِقْهُمْ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ، {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الدخان: 18] على الوحي.
[قوله تعالى وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ] مُبِينٍ. . .
[19] {وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ} [الدخان: 19] أي لَا تَتَجَبَّرُوا عَلَيْهِ بِتَرْكِ طَاعَتِهِ {إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 19] بِبُرْهَانٍ بَيِّنٍ عَلَى صِدْقِ قَوْلِي، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ تَوَعَّدُوهُ بِالْقَتْلِ.
[20] فَقَالَ {وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20] أن تقتلون، وقال ابن عباس: تشتمونِ وَتَقُولُوا هُوَ سَاحِرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: تَرْجُمُونِي بِالْحِجَارَةِ.
[21] {وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ} [الدخان: 21] فَاتْرُكُونِي لَا مَعِيَ وَلَا عَلَيَّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَاعْتَزِلُوا أَذَايَ بِالْيَدِ وَاللِّسَانِ، فَلَمْ يُؤْمِنُوا.
[22] {فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ} [الدخان: 22] مُشْرِكُونَ فَأَجَابَهُ اللَّهُ وَأَمَرَهُ أَنْ يَسْرِيَ.
[23] فَقَالَ: {فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا} [الدخان: 23] أَيْ بِبَنِي إِسْرَائِيلَ، {إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ} [الدخان: 23] يَتْبَعُكُمْ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ.
[24] {وَاتْرُكِ الْبَحْرَ} [الدخان: 24] إِذَا قَطَعْتَهُ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ، {رَهْوًا} [الدخان: 24] سَاكِنًا عَلَى حَالَتِهِ وَهَيْئَتِهِ، بَعْدَ أَنْ ضَرَبْتَهُ وَدَخَلْتَهُ، مَعْنَاهُ لَا تَأْمُرْهُ أَنْ يَرْجِعَ اتْرُكْهُ حَتَّى يَدْخُلَهُ آلُ فِرْعَوْنَ، وَأَصْلُ الرَّهْوِ: السُّكُونُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ اتْرُكِ البحر رَاهِيًا أَيْ سَاكِنًا، فَسُمِّيَ بِالْمَصْدَرِ، أَيْ ذَا رَهْوٍ. وَقَالَ كَعْبٌ: اتْرُكْهُ طَرِيقًا. قَالَ قَتَادَةُ: طَرِيقًا يا بسا. قَالَ قَتَادَةُ: لَمَّا قَطَعَ مُوسَى الْبَحْرَ عَطَفَ لِيَضْرِبَ الْبَحْرَ بِعَصَاهُ لِيَلْتَئِمَ وَخَافَ أَنْ يَتْبَعَهُ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ، فَقِيلَ لَهُ: اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا كَمَا هُوَ، {إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ} [الدخان: 24] أَخْبَرَ مُوسَى أَنَّهُ يُغْرِقُهُمْ لِيُطَمْئِنَ قلبه في تركه كَمَا جَاوَزَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا تَرَكُوا بِمِصْرَ. 25،
[26] فَقَالَ: {كَمْ تَرَكُوا} [الدخان: 25] يَعْنِي بَعْدَ الْغَرَقِ، {مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} [الدخان: 25 - 26] مَجْلِسٍ شَرِيفٍ، قَالَ قَتَادَةُ: الْكَرِيمُ الحسن.
[27] {وَنَعْمَةٍ} [الدخان: 27] وَمُتْعَةٍ وَعَيْشٍ لَيِّنٍ، {كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ} [الدخان: 27] ناعمين وفاكهين أشرين بطرين.
[28] {كَذَلِكَ} [الدخان: 28] قَالَ الْكَلْبِيُّ: كَذَلِكَ أَفْعَلُ بِمَنْ عصاني، {وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ} [الدخان: 28] يَعْنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ.
[29] {فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} [الدخان: 29] وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا مَاتَ تَبْكِي عَلَيْهِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَهَؤُلَاءِ لَمْ يَكُنْ يَصْعَدُ لَهُمْ عَمَلٌ صَالِحٌ فَتَبْكِي السَّمَاءُ عَلَى فَقْدِهِ، وَلَا لَهُمْ عَلَى الأرض عمل صالح فتبكي الأرض عليه. {وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ} [الدخان: 29] لَمْ يَنْظُرُوا حِينَ أَخَذَهُمُ الْعَذَابُ لِتَوْبَةٍ وَلَا لِغَيْرِهَا.
[30] {وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ} [الدخان: 30] قَتْلِ الْأَبْنَاءِ وَاسْتِحْيَاءِ النِّسَاءِ وَالتَّعَبِ فِي الْعَمَلِ. 31،
[32] {مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ - وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ} [الدخان: 31 - 32] يَعْنِي مُؤْمِنِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، {عَلَى عِلْمٍ} [الدخان: 32] بهم {عَلَى الْعَالَمِينَ} [الدخان: 32] عَلَى عَالِمِي زَمَانِهِمْ.
[33] {وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ} [الدخان: 33] قَالَ قَتَادَةُ: نِعْمَةٌ بَيِّنَةٌ مَنْ فَلْقِ الْبَحْرِ وَتَظْلِيلِ الْغَمَامِ وَإِنْزَالِ الْمَنِّ وَالسَّلْوَى، وَالنِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَهَا عليهم. قال ابْنُ زَيْدٍ: ابْتَلَاهُمْ بِالرَّخَاءِ وَالشِّدَّةِ، وقرأ (ويبلوكم بالشر والخير فتنة) . 34،
[35] {إِنَّ هَؤُلَاءِ} [الدخان: 34] يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ {لَيَقُولُونَ - إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى} [الدخان: 34 - 35] أَيْ لَا مَوْتَةَ إِلَّا هَذِهِ الَّتِي نَمُوتُهَا فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَا بَعْثَ بَعْدَهَا. وَهُوَ(6/861)
قوله. {وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ} [الدخان: 35] بِمَبْعُوثِينَ بَعْدَ مَوْتَتِنَا. 36،
[37] {فَأْتُوا بِآبَائِنَا} [الدخان: 36] الَّذِينَ مَاتُوا، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الدخان: 36] أنَّا نُبْعَثُ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ، ثُمَّ خَوَّفَهُمْ مِثْلَ عَذَابِ الْأُمَمِ الْخَالِيَةِ فَقَالَ: {أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} [الدخان: 37] أَيْ لَيْسُوا خَيْرًا مِنْهُمْ، يَعْنِي أَقْوَى وَأَشَدَّ وَأَكْثَرَ مِنْ قَوْمٍ تُبَّعٍ. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ تُبَّعٌ الْحِمْيَرِيُّ، وَكَانَ سَارَ بِالْجُيُوشِ حَتَّى حَيَّرَ الْحِيرَةَ، وَبَنَى سَمَرْقَنْدَ وَكَانَ مِنْ مُلُوكِ الْيَمَنِ، سُمّي تُبَّعا لِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ يُسَمَّى تُبَّعًا لِأَنَّهُ يَتْبَعُ صَاحِبَهُ، وكان هذا الملك يَعْبُدُ النَّارَ فَأَسْلَمَ وَدَعَا قَوْمَهُ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُمْ حِمْيَر، فَكَذَّبُوهُ {وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الدخان: 37] مِنَ الْأُمَمِ الْكَافِرَةِ {أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} [الدخان: 37] 38،
[39] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الدخان: 38] {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان: 39] قِيلَ: يَعْنِي لِلْحَقِّ وَهُوَ الثَّوَابُ عَلَى الطَّاعَةِ وَالْعِقَابِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 39]
[قوله تعالى إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ. . .]
[40] {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} [الدخان: 40] يَوْمَ يَفْصِلُ الرَّحْمَنُ بَيْنَ الْعِبَادِ {مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الدخان: 40] يُوَافِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ.
[41] {يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا} [الدخان: 41] لَا يَنْفَعُ قَرِيبٌ قَرِيبَهُ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ شَيْئًا، {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الدخان: 41] لَا يُمْنَعُونَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ.
[42] {إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ} [الدخان: 42] يُرِيدُ الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُ يَشْفَعُ بَعْضُهُمْ لبعض، {إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ} [الدخان: 42] فِي انْتِقَامِهِ مِنْ أَعْدَائِهِ، {الرَّحِيمُ} [الدخان: 42] بالمؤمنين. 43،
[44] {إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ - طَعَامُ الْأَثِيمِ} [الدخان: 43 - 44] ذِي الْإِثْمِ، وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ. 45،
[46] {كَالْمُهْلِ} [الدخان: 45] وهو دُرْدِيُّ الزَّيْتِ الْأَسْوَدِ، {يَغْلِي فِي الْبُطُونِ} [الدخان: 45] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ (يَغْلِي) بالياء، جعلا الْفِعْلَ لِلْمُهْلِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ لتأنيث الشجرة، {فِي الْبُطُونِ} [الدخان: 45] أَيْ بُطُونِ الْكُفَّارِ {كَغَلْيِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 46] كَالْمَاءِ الْحَارِّ إِذَا اشْتَدَّ غَلَيَانُهُ.
[47] قوله تعالى: {خُذُوهُ} [الدخان: 47] أَيْ يُقَالُ لِلزَّبَانِيَةِ خُذُوهُ يَعْنِي الأثيم، {فَاعْتِلُوهُ} [الدخان: 47] قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِكَسْرِ التَّاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِضَمِّهَا، وَهُمَا لُغَتَانِ، أَيِ ادْفَعُوهُ وَسُوقُوهُ، يُقَالُ: عَتَلَهُ يَعْتِلُهُ عَتْلًا إِذَا سَاقَهُ بِالْعُنْفِ وَالدَّفْعِ والجذب، {إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ} [الدخان: 47] وَسَطِهِ.
[48] {ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ} [الدخان: 48] قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنْ خَازِنَ النَّارِ يَضْرِبُهُ عَلَى رَأْسِهِ فَيَنْقُبُ رَأْسَهُ عَنْ دِمَاغِهِ ثُمَّ يَصُبُّ فِيهِ مَاءً حَمِيمًا قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ.
[49] ثم يقال له: {ذُقْ} [الدخان: 49] هذا العذاب، {إِنَّكَ} [الدخان: 49] قَرَأَ الْكِسَائِيُّ (أَنَّكَ) بِفَتْحِ الْأَلِفِ، أَيْ لِأَنَّكَ كُنْتَ تَقُولُ أَنَا العزيز الكريم، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِكَسْرِهَا عَلَى الِابْتِدَاءِ، {أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} [الدخان: 49](6/862)
عِنْدَ قَوْمِكَ بِزَعْمِكَ، وَذَلِكَ أَنَّ أَبَا جَهْلٍ كَانَ يَقُولُ: أَنَا أعز أهل الوادي وأكرمهم، فتقول له هذا اللفظ خزنة النار على طريق الاستهزاء وَالتَّوْبِيخِ.
[50] {إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} [الدخان: 50] تشكُّون فيه ولا وتؤمنون بِهِ. ثُمَّ ذَكَرَ مُسْتَقَرَّ الْمُتَّقِينَ، فَقَالَ:
[51] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ} [الدخان: 51] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ: (فِي مُقَامٍ) بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيْ فِي إِقَامَةٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْمِيمِ، أَيْ فِي مَجْلِسٍ أَمِينٍ، أَمِنُوا فِيهِ مِنَ الْغَيْرِ، أَيْ مِنَ الْمَوْتِ وَمِنَ الْخُرُوجِ مِنْهُ.
[52 - 54] {فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ - كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ} [الدخان: 52 - 54] أَيْ كَمَا أَكْرَمْنَاهُمْ بِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْجَنَّاتِ وَالْعُيُونِ وَاللِّبَاسِ كَذَلِكَ أَكْرَمْنَاهُمْ بِأَنْ زَوَّجْنَاهُمْ {بِحُورٍ عِينٍ} [الدخان: 54] أَيْ قَرَنَّاهُمْ بِهِنَّ لَيْسَ مَنْ عَقْدِ التَّزْوِيجِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ: زَوَّجْتُهُ بِامْرَأَةٍ، قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: جعلناهم أزواجا لهم كأنما يزوج النعل بالنعل، أي جعلناهم اثنين اثنين، والحور هُنَّ النِّسَاءُ النَّقِيَّاتُ الْبَيَاضِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَحَارُ فِيهِنَّ الطَّرْفُ مِنْ بَيَاضِهِنَّ وَصَفَاءِ لَوْنِهِنَّ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْحُورُ هُنَّ شَدِيدَاتُ بَيَاضِ الْأَعْيُنِ الشَّدِيدَاتُ سَوَادِهَا وَاحِدُهَا أَحْوَرُ، والمرأة حوراء، والعين جَمْعُ الْعَيْنَاءِ وَهِيَ عَظِيمَةُ الْعَيْنَيْنِ.
[55] {يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ} [الدخان: 55] اشتهوها، {آمِنِينَ} [الدخان: 55] مِنْ نَفَادِهَا وَمِنْ مَضَرَّتِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: آمَنِينَ مِنَ الْمَوْتِ وَالْأَوْصَابِ وَالشَّيَاطِينِ.
[56] {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدخان: 56] أي سوى الموتة الأولى التي ذاقوها في الدنيا، وَقِيلَ: إِنَّمَا اسْتَثْنَى الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَهِيَ فِي الدُّنْيَا مِنْ مَوْتٍ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّ السُّعَدَاءَ حِينَ يَمُوتُونَ يَصِيرُونَ بِلُطْفٍ إِلَى أَسْبَابِ الْجَنَّةِ، يَلْقَوْنَ الرُّوحَ وَالرَّيْحَانَ وَيَرَوْنَ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ، فَكَانَ مَوْتُهُمْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ لِاتِّصَالِهِمْ بِأَسْبَابِهَا، وَمُشَاهَدَتِهِمْ إِيَّاهَا. {وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الدخان: 56]
[57] {فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ} [الدخان: 57] أَيْ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ فَضْلًا مِنْهُ، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الدخان: 57]
[58] {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ} [الدخان: 58] سَهَّلْنَا الْقُرْآنَ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مذكور، {بِلِسَانِكَ} [الدخان: 58] على لسانك، {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} [الدخان: 58] يتعظون.
[59] {فَارْتَقِبْ} [الدخان: 59] فَانْتَظِرِ النَّصْرَ مِنْ رَبِّكَ. وَقِيلَ: فَانْتَظِرْ لَهُمُ الْعَذَابَ، {إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ} [الدخان: 59] منتظرون قهرك بزعمهم.
[سورة الجَاثِيَةً]
[قوله تعالى حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ. . .
(45) سورة الجَاثِيَة [1 - 4] {حم} [الجاثية: 1] {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ - وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ} [الجاثية: 2 - 4] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ (آيَاتٍ) (وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٍ) بِكَسْرِ(6/863)
التَّاءِ فِيهِمَا رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ: (لِآيَاتٍ) وَهُوَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِرَفْعِهِمَا عَلَى الِاسْتِئْنَافِ عَلَى أَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ إِنَّ لِي عَلَيْكَ مَالًا وَعَلَى أَخِيكَ مَالٌ، يَنْصِبُونَ الثَّانِي وَيَرْفَعُونَهُ، {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 4] أَنَّهُ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ.
[5] {وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ} [الجاثية: 5] يَعْنِي الْغَيْثَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ أَرْزَاقِ الْعِبَادِ، {فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5]
[6] {تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 6] يُرِيدُ هَذَا الَّذِي قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ نَقُصُّهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ، {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ} [الجاثية: 6] بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ، {وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} [الجاثية: 6] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ: (تُؤْمِنُونَ) بِالتَّاءِ عَلَى مَعْنَى قُلْ لَهُمْ يَا مُحَمَّدُ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ تُؤْمِنُونَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ.
[7] {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7] كَذَّابٍ صَاحِبِ إِثْمٍ يَعْنِي النَّضِرَ بْنَ الْحَارِثِ.
[8، 9] {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} [الجاثية: 8] {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} [لقمان: 7] {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا} [الجاثية: 8 - 9] قَالَ مُقَاتِلٌ: مِنَ الْقُرْآنِ {شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الجاثية: 9] وَذُكِرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ رَدًّا إِلَى كُلِّ فِي قَوْلِهِ: {لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الجاثية: 7]
[10] {مِنْ وَرَائِهِمْ} [الجاثية: 10] أمامهم، {جَهَنَّمُ} [الجاثية: 10] يَعْنِي أَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا مُمَتَّعُونَ بِأَمْوَالِهِمْ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ النَّارُ يَدْخُلُونَهَا، {وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا} [الجاثية: 10] مِنَ الْأَمْوَالِ، {شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ} [الجاثية: 10] وَلَا مَا عَبَدُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنَ الْآلِهَةِ، {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الجاثية: 10]
[11] {هَذَا} [الجاثية: 11] يعني هذا القرآن، {هُدًى} [الجاثية: 11] بَيَانٌ مِنَ الضَّلَالَةِ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الجاثية: 11] 12،
[13] {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ - وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الجاثية: 12 - 13] وَمَعْنَى تَسْخِيرِهَا أَنَّهُ خَلَقَهَا لِمَنَافِعِنَا، فَهُوَ مُسَخَّرٌ لَنَا مِنْ حَيْثُ إِنَّا نَنْتَفِعُ بِهِ، {جَمِيعًا مِنْهُ} [الجاثية: 13] فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: جَمِيعًا مِنْهُ كُلُّ ذَلِكَ رَحْمَةً مِنْهُ. قَالَ الزَّجَّاجُ: كُلُّ ذَلِكَ تَفَضُّلٌ مِنْهُ وَإِحْسَانٌ. {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الجاثية: 13]
[قوله تَعَالَى قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ] أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ. . .
[14] {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} [الْجَاثِيَةِ: 14] أَيْ لَا يَخَافُونَ وَقَائِعَ اللَّهِ وَلَا يُبَالُونَ نِقْمَتَهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي غِفَارٍ شَتْمَهُ بِمَكَّةَ فهمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ أَنَّ يَبْطِشَ بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، وَأَمَرُهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ. وقال القرظي والسدي: نزل فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ ثُمَّ نَسَخَتْهَا آيَةُ(6/864)
القتال. {لِيَجْزِيَ قَوْمًا} [الجاثية: 14] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (لنجزي) بالنون، قرأ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، أَيْ لِيَجْزِيَ اللَّهُ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (ليُجزى) بِضَمِّ الْيَاءِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ وَفَتْحِ الزَّايِ، قَالَ أَبُو عَمْرٍو: وَهُوَ لَحْنٌ. قَالَ الْكِسَائِيُّ: مَعْنَاهُ لِيَجْزِيَ الْجَزَاءَ قَوْمًا، {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الجاثية: 14] 15،
[16] {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ - وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} [الجاثية: 15 - 16] التَّوْرَاةُ، {وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} [الجاثية: 16] الْحَلَالَاتِ يَعْنِي الْمَنَّ وَالسَّلْوَى، {وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [الجاثية: 16] أَيْ عَالَمِي زَمَانِهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنَ الْعَالَمِينَ فِي زَمَانِهِمْ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ وَلَا أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْهُمْ.
[17] {وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ} [الجاثية: 17] يَعْنِي الْعِلْمَ بِمَبْعَثِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا بَيَّنَ لَهُمْ مِنْ أَمْرِهِ، {فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} [الجاثية: 17]
[18] {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ} [الجاثية: 18] يا محمد {عَلَى شَرِيعَةٍ} [الجاثية: 18] سُنَّةٍ وَطَرِيقَةٍ بَعْدَ مُوسَى، {مِنَ الْأَمْرِ} [الجاثية: 18] مِنَ الدِّينِ، {فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الجاثية: 18] يَعْنِي مُرَادَ الْكَافِرِينَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ لَهُ ارْجِعْ إِلَى دِينِ آبَائِكِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَفْضَلَ مِنْكَ.
[19] فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الجاثية: 19] لَنْ يَدْفَعُوا عَنْكَ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا إِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ، {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 19]
[20] {هَذَا} [الجاثية: 20] يعني القرآن، {بَصَائِرُ} [الجاثية: 20] معالم، {لِلنَّاسِ} [الجاثية: 20] فِي الْحُدُودِ وَالْأَحْكَامِ يُبْصِرُونَ بِهَا، {وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [الجاثية: 20]
[21] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ} [الجاثية: 21] بل حسب، {اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ} [الجاثية: 21] اكْتَسَبُوا الْمَعَاصِيَ وَالْكُفْرَ {أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الجاثية: 21] نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: لَئِنْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقًّا لَنُفَضَّلَنَّ عَلَيْكُمْ فِي الْآخِرَةِ كَمَا فُضِّلْنَا عَلَيْكُمْ في الدنيا، {سَوَاءً مَحْيَاهُمْ} [الجاثية: 21] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَيَعْقُوبُ (سَوَاءً) بِالنَّصْبِ أَيْ نَجْعَلُهُمْ سَوَاءً، يَعْنِي أَحَسِبُوا أَنَّ حَيَاةَ الْكَافِرِينَ {وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: 21] كَحَيَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَوْتِهِمْ سَوَاءً كَلَّا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَالْخَبَرِ أَيْ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَوَاءٌ فَالضَّمِيرُ فِيهِمَا يَرْجِعُ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ جَمِيعًا، مَعْنَاهُ الْمُؤْمِنُ مُؤْمِنٌ مَحْيَاهُ وَمَمَاتَهُ أَيْ فِي الدُّنْيَا والآخرة والكافر كافر محياه ومماته فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، {سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية: 21] بئس ما يقضون.
[22] {وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الجاثية: 22]
[قوله تعالى أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ] اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ. . .
[23] {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: معناه ذَلِكَ الْكَافِرُ اتَّخَذَ دِينَهُ مَا يَهْوَاهُ، فَلَا يَهْوَى شَيْئًا إِلَّا رَكِبَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ(6/865)
وَلَا يَخَافُهُ، وَلَا يُحَرِّمُ مَا حرم الله. وقال الآخرون: مَعْنَاهُ اتَّخَذَ مَعْبُودَهُ هَوَاهُ فَيَعْبُدُ مَا تَهْوَاهُ نَفْسُهُ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَتِ الْعَرَبُ يَعْبُدُونَ الْحِجَارَةَ وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ، فَإِذَا وَجَدُوا شَيْئًا أَحْسَنَ مِنَ الْأَوَّلِ رَمَوْهُ وكسروه، وَعَبَدُوا الْآخَرَ. قَالَ الشِّعْبِيُّ: إِنَّمَا سُمي الْهَوَى لِأَنَّهُ يَهْوِي بِصَاحِبِهِ فِي النَّارِ، {وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23] مِنْهُ بِعَاقِبَةِ أَمْرِهِ وَقِيلَ عَلَى ما سبق في عمله أَنَّهُ ضَالٌّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَهُ، {وَخَتَمَ} [الجاثية: 23] طبع، {عَلَى سَمْعِهِ} [الجاثية: 23] فلم يسمع الهدى، {وَقَلْبِهِ} [الجاثية: 23] فَلَمْ يَعْقِلِ الْهُدَى، {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] قرأ حمزة والكسائي غشاوة بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَسُكُونِ الشِّينِ، وَالْبَاقُونَ غِشَاوَةً ظُلْمَةً فَهُوَ لَا يُبْصِرُ الْهُدَى، {فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ} [الجاثية: 23] أَيْ فَمَنْ يَهْدِيهِ بَعْدَ أَنْ أضله الله، {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [الجاثية: 23]
[24] {وَقَالُوا} [الجاثية: 24] يَعْنِي مُنْكِرِي الْبَعْثِ، {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} [الجاثية: 24] أَيْ مَا الْحَيَاةُ إِلَّا حَيَاتُنَا الدنيا، {نَمُوتُ وَنَحْيَا} [الجاثية: 24] أَيْ يَمُوتُ الْآبَاءُ وَيَحْيَا الْأَبْنَاءُ، وَقَالَ الزُّجَاجُ: يَعْنِي نَمُوتُ وَنَحْيَا، فَالْوَاوُ لِلِاجْتِمَاعِ، {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ} [الجاثية: 24] أَيْ وَمَا يُفْنِينَا إِلَّا مرُّ الزَّمَانِ وَطُولُ الْعُمْرِ وَاخْتِلَافُ اللَّيْلِ والنهار. {وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ} [الجاثية: 24] أي الذي قالوه، {مِنْ عِلْمٍ} [الجاثية: 24] أَيْ لَمْ يَقُولُوهُ عَنْ عِلْمٍ، {إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ} [الجاثية: 24]
[25 - 27] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الجاثية: 25 - 26] أَيْ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، {لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ - وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ} [الجاثية: 26 - 27] يعني الكافرين هُمْ أَصْحَابُ الْأَبَاطِيلِ، يَظْهَرُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خُسْرَانُهُمْ بِأَنْ يَصِيرُوا إلى النار.
[قوله تعالى وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى] إِلَى كِتَابِهَا. . .
[28] {وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] بَارِكَةً عَلَى الرُّكَبِ وَهِيَ جِلْسَةُ الْمُخَاصِمِ بَيْنَ يَدَيِ الْحَاكِمِ يَنْتَظِرُ القضاء من الله، قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: إِنَّ فِي الْقِيَامَةِ سَاعَةٌ هِيَ عَشْرُ سِنِينَ يَخِرُّ النَّاسُ فِيهَا جُثَاةً عَلَى رُكَبِهِمْ حَتَّى إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يُنَادِي رَبَّهُ لَا أَسْأَلُكَ إِلَّا نَفْسِي. {كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا} [الجاثية: 28] الذي فيه أعمالها، وَيُقَالُ لَهُمُ، {الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 28]
[29] {هَذَا كِتَابُنَا} [الجاثية: 29] يَعْنِي دِيوَانَ الْحَفَظَةِ. {يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ} [الجاثية: 29] يَشْهَدُ عَلَيْكُمْ بِبَيَانٍ شَافٍ، فَكَأَنَّهُ يَنْطِقُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكِتَابِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ. {إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجاثية: 29] أَيْ نَأْمُرُ الْمَلَائِكَةَ بِنَسْخِ أَعْمَالِكُمْ، أَيْ بِكَتْبِهَا وَإِثْبَاتِهَا عَلَيْكُمْ. وَقِيلَ تستنسخ أي تأخذ نسخه، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلِكَيْنِ يَرْفَعَانِ عَمَلَ الْإِنْسَانِ فَيُثْبِتُ اللَّهُ مِنْهُ مَا كَانَ لَهُ فِيهِ ثَوَابٌ أَوْ عِقَابٌ، وَيَطْرَحُ مِنْهُ اللَّغْوَ نَحْوَ قَوْلِهِمْ هَلُمَّ وَاذْهَبْ، وَقِيلَ: الِاسْتِنْسَاخُ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ تَنْسَخُ الْمَلَائِكَةُ كل عام ما يكون أعمال من بَنِي آدَمَ، وَالِاسْتِنْسَاخُ لَا يَكُونُ إِلَّا مِنْ أَصْلٍ، فَيُنْسَخُ كِتَابٌ من كتاب. وقال الضحاك: تستنسخ أي يثبت. وقال(6/866)
السدي. تكتب. وقال الحسن: تحفظ.
[30] {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الجاثية: 30] الظَّفْرُ الظَّاهِرُ.
[31] {وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا} [الجاثية: 31] يُقَالُ لَهُمْ، {أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ} [الجاثية: 31] مُتَكَبِّرِينَ كَافِرِينَ.
[32] {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا} [الجاثية: 32] قَرَأَ حَمْزَةُ: (وَالسَّاعَةَ) نَصَبَ عَطَفَهَا عَلَى الْوَعْدِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، {قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا} [الجاثية: 32] أَيْ مَا نَعْلَمُ ذَلِكَ إِلَّا حَدْسًا وَتَوَهُّمًا. {وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] أنها كائنة.
[33] {وَبَدَا لَهُمْ} [الجاثية: 33] فِي الْآخِرَةِ، {سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية: 33] فِي الدُّنْيَا أَيْ جَزَاؤُهَا {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الجاثية: 33] 34،
[35] {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ} [الجاثية: 34] نَتْرُكُكُمْ فِي النَّارِ، {كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} [الجاثية: 34] تَرَكْتُمُ الْإِيمَانَ، وَالْعَمَلَ لِلِقَاءِ هَذَا الْيَوْمِ، {وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ - ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الجاثية: 34 - 35] حَتَّى قُلْتُمْ: لَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ، {فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا} [الجاثية: 35] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، {وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} [الجاثية: 35] لَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى طَاعَةِ اللَّهِ، لِأَنَّهُ لَا يَقْبَلُ ذَلِكَ الْيَوْمَ عُذْرًا وَلَا تَوْبَةَ. 36،
[37] {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ - وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ} [الجاثية: 36 - 37] الْعَظْمَةُ، {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجاثية: 37]
[سورة الأحقاف]
[قوله تعالى حم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ] مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى. . .
(46) سورة الأحقاف [1 - 3] {حم - تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى} [الأحقاف: 1 - 3] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَهُوَ الْأَجَلُ الذي تنتهي إليه السماوات وَالْأَرْضُ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى فَنَائِهِمَا، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا} [الأحقاف: 3] خُوِّفُوا بِهِ فِي الْقُرْآنِ مِنَ البعث الحساب، {مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3]
[4] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا} [الأحقاف: 4] أَيْ بِكِتَابٍ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ قَبْلَ الْقُرْآنِ فِيهِ بَيَانُ مَا تَقُولُونَ، {أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ} [الأحقاف: 4] قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَيْ بَقِيَّةٍ مِنْ علم يؤثر على الْأَوَّلِينَ، أَيْ يُسْنَدُ إِلَيْهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: رِوَايَةٌ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: خَاصَّةٌ مِنْ عِلْمٍ. وَأَصْلُ الْكَلِمَةِ مِنَ الْأَثَرِ وَهُوَ الرِّوَايَةُ، يُقَالُ: أَثَرْتُ الْحَدِيثَ أَثَرًا وَأَثَارَةً، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْخَبَرِ. أثر. {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الأحقاف: 4]
[5] {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف: 5] يَعْنِي الْأَصْنَامَ لَا تُجِيبُ عَابِدِيهَا إِلَى(6/867)
شَيْءٍ يَسْأَلُونَهَا، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأحقاف: 5] يعني أَبَدًا مَا دَامَتِ الدُّنْيَا؟ {وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ} [الأحقاف: 5] لِأَنَّهَا جَمَادٌ لَا تَسْمَعُ وَلَا تفهم.
[قوله تعالى وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا] بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ. . .
[6] {وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف: 6] جَاحِدِينَ بَيَانُهُ قَوْلُهُ: {تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ} [الْقَصَصِ: 63]
[7] {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 7] يُسَمُّونَ الْقُرْآنَ سِحْرًا.
[8] {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [الأحقاف: 8] مُحَمَّدٌ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ، فَقَالَ الله -عزّ وجلّ-: {قُلْ} [الأحقاف: 8] يا محمد، {إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [الأحقاف: 8] لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَرُدُّوا عَنِّي عَذَابَهُ إِنْ عَذَّبَنِي عَلَى افْتِرَائِي، فكيفا أَفْتَرِي عَلَى اللَّهِ مِنْ أَجْلِكُمْ، {هُوَ أَعْلَمُ} [الأحقاف: 8] الله أعلم، {بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ} [الأحقاف: 8] تَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ وَالْقَوْلِ فِيهِ إِنَّهُ سِحْرٌ. {كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأحقاف: 8] أَنَّ الْقُرْآنَ جَاءَ مِنْ عِنْدِهِ، {وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الأحقاف: 8] فِي تَأْخِيرِ الْعَذَابِ عَنْكُمْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا دُعَاءٌ لَهُمْ إِلَى التَّوْبَةِ، مَعْنَاهُ: إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- غَفُورٌ لِمَنْ تَابَ مِنْكُمْ رَحِيمٌ بِهِ.
[9] {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 9] أي لَسْتُ بِأَوَّلِ مُرْسَلٍ، قَدْ بُعِثَ قَبْلِي كَثِيرٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، فَكَيْفَ تُنْكِرُونَ نُبُوَّتِي. {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعْنَاهُ مَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَرِحَ الْمُشْرِكُونَ، فَقَالُوا: وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى مَا أَمْرُنَا وَأَمْرُ مُحَمَّدٍ عِنْدَ اللَّهِ إِلَّا وَاحِدٌ، وَمَا لَهُ عَلَيْنَا مِنْ مَزِيَّةٍ وَفَضْلٍ، وَلَوْلَا أَنَّهُ ابْتَدَعَ مَا يَقُولُهُ مِنْ ذَاتِ نَفْسِهِ لَأَخْبَرَهُ الَّذِي بَعَثَهُ بِمَا يُفعل بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ. {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الْفَتْحِ: 2] فَقَالَتِ الصَّحَابَةُ: هَنِيئًا لَكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ قَدْ عَلِمْنَا مَا يُفْعَلُ بِكَ، فَمَاذَا يُفْعَلُ بِنَا؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5] الآية، وَأَنْزَلَ: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا} [الْأَحْزَابِ: 47] فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى مَا يُفْعَلُ به ربهم وقالت جَمَاعَةٌ. قَوْلُهُ {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] فِي الدُّنْيَا، أَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ فِي الْجَنَّةِ، وَأَنَّ مَنْ كَذَّبَهُ فَهُوَ فِي النَّارِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: «لَمَّا اشْتَدَّ الْبَلَاءُ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَأَى رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا يَرَى النَّائِمُ وَهُوَ بِمَكَّةَ أَرْضًا ذَاتَ سِبَاخٍ وَنَخْلٍ رُفِعَتْ لَهُ يُهَاجِرُ إِلَيْهَا، فَقَالَ لَهُ أَصْحَابُهُ: مَتَى تُهَاجِرُ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي أُرِيتَ فَسَكَتَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ: {وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ} [الأحقاف: 9] » ، أَأُتْرَكُ فِي مَكَانِي أَمْ أَخْرُجُ أنا وأنتم إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي رُفِعَتْ لِي، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِلَى ماذا يصير عاقبة أَمْرِي وَأَمْرُكُمْ فِي الدُّنْيَا، بِأَنْ أُقِيمَ مَعَكُمْ فِي مَكَانِكُمْ أَمْ أخرج كما خرجت(6/868)
الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي، أَمْ أُقْتَلَ كَمَا قُتِلَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبْلِي، وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الْمُصَدِّقُونَ لَا أَدْرِي تُخْرَجُونَ مَعِي أَمْ تُتْرَكُونَ، أَمْ ماذا يفعل بكم أَيُّهَا الْمُكَذِّبُونَ، أَتُرْمَوْنَ بِالْحِجَارَةِ مِنَ السماء أم يخسف بكم، أي شيء يفعل بكم، كما فُعِلَ بِالْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ؟ ثُمَّ أَخْبَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- أَنَّهُ يُظْهِرُ دِينَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ، فَقَالَ: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33] وَقَالَ فِي أُمَّتِهِ: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الْأَنْفَالِ: 33] فَأَخْبَرَ اللَّهُ مَا يُصْنَعُ به وأمته {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9] أَيْ مَا أَتَّبِعُ إِلَّا الْقُرْآنَ وَلَا أَبْتَدِعُ مِنْ عِنْدِي شَيْئًا، {وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الأحقاف: 9]
[10] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ} [الأحقاف: 10] مَعْنَاهُ أَخْبَرُونِي مَاذَا تَقُولُونَ {إِنْ كَانَ} [الأحقاف: 10] يَعْنِي الْقُرْآنَ {مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ} [الأحقاف: 10] أَيُّهَا الْمُشْرِكُونَ، {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ} [الأحقاف: 10] الْمِثْلُ: صِلَةٌ يَعْنِي عَلَيْهِ، أَيْ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، {فَآمَنَ} [الأحقاف: 10] يعني الشاهد، {وَاسْتَكْبَرْتُمْ} [الأحقاف: 10] عن الإيمان به وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا. الشَّاهِدِ قَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ، شَهِدَ عَلَى نُبُوَّةِ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَآمَنَ بِهِ، وَاسْتَكْبَرَ الْيَهُودُ فَلَمْ يؤمنوا. وَقَالَ الْآخَرُونَ: الشَّاهِدُ هُوَ مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ قَالَ مَسْرُوقٌ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بن سلام، لأن حم نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَإِنَّمَا أَسْلَمَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ بِالْمَدِينَةِ، وَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي مُحَاجَّةٍ كَانَتْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِقَوْمِهِ، وَمِثْلُ الْقُرْآنِ التَّوْرَاةُ فَشَهِدَ مُوسَى عَلَى التَّوْرَاةِ وَمُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- على القرآن، وَكُلُّ وَاحِدٍ يُصَدِّقُ الْآخَرَ. وَقِيلَ: هُوَ نَبِيٌّ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فآمن واستكبرتم فلم تؤمنوا.
[11] {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الأحقاف: 11] مِنَ الْيَهُودِ، {لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ} [الأحقاف: 11] دِينُ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَامٍ وَأَصْحَابَهُ، وَقَالَ قَتَادَةُ نَزَلَتْ فِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، قَالُوا: لَوْ كَانَ مَا يَدْعُونَا إِلَيْهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ فَلَانٌ وَفُلَانٌ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الَّذِينَ كَفَرُوا أَسَدٌ وَغَطَفَانُ، قَالُوا لِلَّذِينِ آمَنُوا يَعْنِي جُهَيْنَةَ وَمُزَيْنَةَ: لَوْ كَانَ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ خَيْرًا مَا سَبَقَنَا إِلَيْهِ رِعَاءُ الْبُهُمِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ} [الأحقاف: 11] يَعْنِي بِالْقُرْآنِ كَمَا اهْتَدَى بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ، {فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ} [الأحقاف: 11] كَمَا قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ.
[12] {وَمِنْ قَبْلِهِ} [الأحقاف: 12] أَيْ وَمِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ {كِتَابُ مُوسَى} [الأحقاف: 12] يعني التوراة، {إِمَامًا} [الأحقاف: 12] يقتدى به {وَرَحْمَةً} [الأحقاف: 12] مِنَ اللَّهِ لِمَنْ آمَنَ بِهِ {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ} [الأحقاف: 12] أَيِ الْقُرْآنُ مُصَدِّقٌ لِلْكُتُبِ الَّتِي قبله {لِسَانًا عَرَبِيًّا} [الأحقاف: 12] نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ: بِلِسَانٍ عربي، {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} [الأحقاف: 12] يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَالشَّامِ وَيَعْقُوبُ: لِتُنْذِرَ بِالتَّاءِ عَلَى خِطَابِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ يعني الكتاب، {وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} [الأحقاف: 12] {وَبُشْرَى} [الأحقاف: 12] فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ، أَيْ هَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ وَبُشْرَى.
[13- 14] {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ - أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأحقاف: 13 - 14]
[قوله تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ] أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا. . .
[15] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15] يريد شدة الطلق {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ} [الأحقاف: 15] فطامه {ثَلَاثُونَ شَهْرًا} [الأحقاف: 15] يُرِيدُ أَقَلَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ وَهِيَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ وَأَكْثَرَ مُدَّةِ الرِّضَاعِ أربعة وعشرون شَهْرًا، {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف: 15] نِهَايَةَ قُوَّتِهِ، وَغَايَةَ شَبَابِهِ وَاسْتِوَائِهِ، وَهُوَ مَا بَيْنَ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً إِلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَذَلِكَ قوله: {وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] وَقَالَ السُّدِّيُّ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَقَدْ مَضَتِ الْقِصَّةُ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَأَبِيهِ قُحَافَةَ عُثْمَانَ بْنِ عَمْرٍو، وَأُمِّهِ أُمِّ الْخَيْرِ بِنْتِ صَخْرِ بْنِ عَمْرٍو. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ: الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي(6/869)
أَبِي بَكْرٍ أَسْلَمَ أَبَوَاهُ جَمِيعًا وَلَمْ يَجْتَمِعْ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ أسلم أَبَوَاهُ غَيْرُهُ، أَوْصَاهُ اللَّهُ بِهِمَا، وَلَزِمَ ذَلِكَ مِنْ بَعْدِهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ صَحِبَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً وَالنَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابْنُ عِشْرِينَ سنة في تجارة الشَّامِ، فَلَمَّا بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً ونُبِّئ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- آمَنَ بِهِ وَدَعَا رَبَّهُ فـ {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي} [الأحقاف: 15] أَلْهِمْنِي، {أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} [الأحقاف: 15] بِالْهِدَايَةِ وَالْإِيمَانِ، {وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} [الأحقاف: 15] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَجَابَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فَأَعْتَقَ تِسْعَةً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ يُعَذَّبُونَ فِي اللَّهِ، وَلَمْ يُرِدْ شَيْئًا مِنَ الْخَيْرِ إِلَّا أَعَانَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَدَعَا أَيْضًا فَقَالَ: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي} [الأحقاف: 15] فَأَجَابَهُ اللَّهُ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ إِلَّا آمَنُوا جَمِيعًا، فَاجْتَمَعَ لَهُ إِسْلَامُ أَبَوَيْهِ وَأَوْلَادِهِ جَمِيعًا فَأَدْرَكَ أَبُو قُحَافَةَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَابْنُهُ أَبُو بَكْرٍ وَابْنُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ وَابْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَبُو عَتِيقٍ كُلُّهُمْ أَدْرَكُوا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِأَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. قَوْلُهُ: {إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الأحقاف: 15]
[16] {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا} [الأحقاف: 16] يَعْنِي أَعْمَالَهُمُ الصَّالِحَةَ الَّتِي عَمِلُوهَا في الدنيا، وكلها حسن، والأحسن بِمَعْنَى الْحَسَنِ، فَيُثِيبُهُمْ عَلَيْهَا، {وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ} [الأحقاف: 16] فلا نعاقبهم عليها {فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} [الأحقاف: 16] مَعَ أَصْحَابِ الْجَنَّةِ، {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 16] وَهُوَ قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [التَّوْبَةِ: 72]
[17] {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ} [الأحقاف: 17] إِذْ دَعَوَاهُ إِلَى الْإِيمَانِ بِاللَّهِ والإقرار بالبعث، {أُفٍّ لَكُمَا} [الأحقاف: 17] وَهِيَ كَلِمَةُ كَرَاهِيَةٍ، {أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ} [الأحقاف: 17] مِنْ قَبْرِي حَيًّا، {وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي} [الأحقاف: 17] فَلَمْ يُبْعَثْ مِنْهُمْ أَحَدٌ، {وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ} [الأحقاف: 17] يَسْتَصْرِخَانِ وَيَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ عَلَيْهِ وَيَقُولَانِ لَهُ، {وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا} [الأحقاف: 17] مَا هَذَا الَّذِي تَدْعُوَانِي إِلَيْهِ، {إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأحقاف: 17] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالسُّدِّيُّ وَمُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ كَانَ أَبَوَاهُ يَدْعُوَانِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ يَأْبَى، وَيَقُولُ: أَحْيُوا لِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ جُدْعَانَ وَعَامِرَ بْنَ كَعْبٍ وَمَشَايِخَ قُرَيْشٍ حَتَّى أَسْأَلَهُمْ عَمَّا تَقُولُونَ، وَأَنْكَرَتْ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- أَنْ يَكُونَ هَذَا فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي كَافِرٍ عَاقٍّ لِوَالِدَيْهِ، قَالَهُ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ، يُبْطِلُهُ قَوْلُهُ:
[18] {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [الأحقاف: 18] الْآيَةَ، أَعْلَمَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ مُؤْمِنٌ مِنْ أَفَاضِلِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَكُونُ مِمَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ، وَمَعْنَى أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ وَجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَذَابُ، {فِي أُمَمٍ} [الأحقاف: 18] مَعَ أُمَمٍ، {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} [الأحقاف: 18](6/870)
[19] {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأحقاف: 19] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنهما-: يُرِيدُ مَنْ سَبَقَ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَهُوَ أَفْضَلُ مِمَّنْ تَخَلَّفَ عَنْهُ ولو بساعة. قال مُقَاتِلٌ: وَلِكُلٍّ فَضَائِلُ بِأَعْمَالِهِمْ فَيُوَفِّيهِمُ اللَّهُ جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ. وَقِيلَ: وَلِكُلٍّ يَعْنِي وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ المؤمنين والكافرين درجات، يعني مَنَازِلُ، وَمَرَاتِبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْمَالِهِمْ، فَيُجَازِيهِمْ عَلَيْهَا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ درج أهل النار تذهب سفالا، وَدَرَجُ أَهْلُ الْجَنَّةِ تَذْهَبُ عُلْوًا. {وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [الأحقاف: 19] ليكتمل لهم ثواب أعمالهم، {وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [الأحقاف: 19]
[20] {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف: 20] فَيُقَالُ لَهُمْ {أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا} [الأحقاف: 20] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ: (أَأَذْهَبْتُمْ) ، بِالِاسْتِفْهَامِ، وَيَهْمِزُ ابْنُ عَامِرٍ هَمْزَتَيْنِ، وَالْآخَرُونَ بِلَا اسْتِفْهَامٍ عَلَى الْخَبَرِ وَكِلَاهُمَا فَصِيحَانِ، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَسْتَفْهِمُ بِالتَّوْبِيخِ، وتترك الِاسْتِفْهَامِ فَتَقُولُ: أَذَهَبْتَ فَفَعَلْتَ كَذَا؟ {وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا} [الأحقاف: 20] يقول: أذهبت طَيِّبَاتِكُمْ يَعْنِي اللَّذَّاتِ وَتَمَتَّعْتُمْ بِهَا {فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ} [الأحقاف: 20] أَيِ الْعَذَابَ الَّذِي فِيهِ ذُلٌّ وخزي، {بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} [الأحقاف: 20] تَتَكَبَّرُونَ، {فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ} [الأحقاف: 20] فَلَمَّا وَبَّخَ اللَّهُ الْكَافِرِينَ بِالتَّمَتُّعِ بِالطَّيِّبَاتِ فِي الدُّنْيَا آثَرَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ الصالحون اجْتِنَابَ اللَّذَّاتِ فِي الدُّنْيَا رَجَاءَ ثواب الآخرة.
[قوله تعالى وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ] وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ. . .
[21] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ} [الأحقاف: 21] يعني هودا، {إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: 21] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْأَحْقَافُ: وَادٍ بَيْنَ عُمَانَ وَمَهْرَةَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَتْ مَنَازِلُ عَادٍ بِالْيَمَنِ فِي حَضْرَمَوْتَ بِمَوْضِعٍ يُقَالُ لَهُ: مَهْرَةُ وَإِلَيْهَا تُنْسَبُ الْإِبِلُ الْمُهْرِيَّةُ، وَكَانُوا أَهْلَ عُمُدٍ سَيَّارَةٍ فِي الرَّبِيعِ فَإِذَا هَاجَ الْعُودُ رَجَعُوا إِلَى مَنَازِلِهِمْ، وَكَانُوا مِنْ قَبِيلَةِ إِرَمَ. قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ عَادًا كَانُوا أَحْيَاءً بِالْيَمَنِ وَكَانُوا أَهْلَ رَمْلٍ مُشْرِفِينَ عَلَى الْبَحْرِ بأرض يقال لها الشِّحْر. والأحقاف جَمْعُ حِقْفٍ وَهِيَ الْمُسْتَطِيلُ الْمُعْوَجُّ مِنَ الرِّمَالِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ مَا اسْتَطَالَ مِنَ الرَّمْلِ، كَهَيْئَةِ الْجَبَلِ وَلَمْ يَبْلُغْ أَنْ يَكُونَ جَبَلًا، قَالَ الْكِسَائِيُّ: هِيَ ما استدار من الرمال، {وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ} [الأحقاف: 21] مَضَتِ الرُّسُلُ، {مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} [الأحقاف: 21] أَيْ مِنْ قَبْلِ هُودٍ، {وَمِنْ خَلْفِهِ} [الأحقاف: 21] إِلَى قَوْمِهِمْ، {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21]
[22] {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا} [الأحقاف: 22] لتصرفنا، {عَنْ آلِهَتِنَا} [الأحقاف: 22] أَيْ عَنْ عِبَادَتِهَا، {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [الأحقاف: 22] مِنَ الْعَذَابِ، {إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِنَا.
[23] {قَالَ} [الأحقاف: 23] هُودٌ، {إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحقاف: 23] وَهُوَ يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِيكُمُ الْعَذَابُ {وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ} [الأحقاف: 23](6/871)
مِنَ الْوَحْيِ {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} [الأحقاف: 23]
[24] {فَلَمَّا رَأَوْهُ} [الأحقاف: 24] يَعْنِي مَا يُوعَدُونَ بِهِ مِنَ العذاب، {عَارِضًا} [الأحقاف: 24] سَحَابًا يَعْرِضُ أَيْ يَبْدُو فِي نَاحِيَةٍ مِنَ السَّمَاءِ ثُمَّ يُطَبِّقُ السماء، {مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ} [الأحقاف: 24] فَخَرَجَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ سَوْدَاءُ مِنْ وَادٍ لَهُمْ يُقَالُ لَهُ: الْمُغِيثُ، وَكَانُوا قَدْ حُبِسَ عَنْهُمُ الْمَطَرُ، فَلَمَّا رَأَوْهَا اسْتَبْشَرُوا، {قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأحقاف: 24] فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَحْمِلُ الْفُسْطَاطَ وَتَحْمِلُ الظَّعِينَةَ حَتَّى تُرَى كَأَنَّهَا جَرَادَةٌ.
[25] {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25] مَرَّتْ بِهِ مِنْ رِجَالِ عَادٍ وأموالها، {بِأَمْرِ رَبِّهَا} [الأحقاف: 25] فَأَوَّلُ مَا عَرَفُوا أَنَّهَا عَذَابٌ رَأَوْا مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ دِيَارِهِمْ مِنَ الرِّجَالِ وَالْمَوَاشِي تَطِيرُ بِهِمُ الرِّيحُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَدَخَلُوا بُيُوتَهُمْ وَأَغْلَقُوا أَبْوَابَهُمْ فَجَاءَتِ الرِّيحُ فَقَلَعَتْ أَبْوَابَهُمْ وَصَرَعَتْهُمْ، وَأَمَرَ اللَّهُ الرِّيحَ فَأَمَالَتْ عَلَيْهِمُ الرِّمَالَ، وكانوا تَحْتَ الرَّمْلِ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ، لَهُمْ أَنِينٌ، ثُمَّ أَمَرَ اللَّهُ الرِّيحَ فَكَشَفَتْ عَنْهُمُ الرِّمَالَ فَاحْتَمَلَتْهُمْ فَرَمَتْ بِهِمْ فِي الْبَحْرِ {فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ} [الأحقاف: 25] قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَيَعْقُوبُ (يُرَى) بِضَمِّ الْيَاءِ (مَسَاكِنُهُمْ) بِرَفْعِ النُّونِ يَعْنِي لَا يُرَى شَيْءٌ إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ وَفَتْحِهَا، (مَسَاكِنَهُمْ) نَصْبٌ يَعْنِي لَا تَرَى أَنْتَ يَا مُحَمَّدُ إِلَّا مَسَاكِنَهُمْ لِأَنَّ السُّكَّانَ وَالْأَنْعَامَ بَادَتْ بِالرِّيحِ، فليم يَبْقَ إِلَّا هُودٌ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ. {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [الأحقاف: 25]
[26] {وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ} [الأحقاف: 26] يَعْنِي فِيمَا لَمْ نُمَكِّنْكُمْ فِيهِ مِنْ قُوَّةِ الْأَبْدَانِ وَطُولِ الْعُمْرِ وَكَثْرَةِ الْمَالِ. قَالَ الْمُبَرِّدُ: (مَا) فِي قَوْلِهِ (فِيمَا) بِمَنْزِلَةِ الَّذِي، (إِنَّ) بِمَنْزِلَةِ مَا، وَتَقْدِيرُهُ: وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الَّذِي مَا مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ. {وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأحقاف: 26]
[27] {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ} [الأحقاف: 27] يَا أَهْلَ مَكَّةَ، {مِنَ الْقُرَى} [الأحقاف: 27] كَحِجْرٍ ثَمُودٍ وَأَرْضِ سَدُومَ وَنَحْوِهِمَا، {وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ} [الأحقاف: 27] الحجج والبينات، {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأحقاف: 27] عَنْ كُفْرِهِمْ فَلَمْ يَرْجِعُوا، فَأَهْلَكْنَاهُمْ، يخوّف مشركي مكة.
[28] {فَلَوْلَا} [الأحقاف: 28] فَهَلَّا {نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً} [الأحقاف: 28] يعني الأوثان التي اتَّخَذُوهَا آلِهَةً يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الْقُرْبَانُ كُلُّ مَا يُتَقَرَّبُ بِهِ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَجَمْعُهُ قَرَابِينُ، كَالرُّهْبَانِ والرهابين، {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} [الأحقاف: 28] قَالَ مُقَاتِلٌ بَلْ ضَلَّتِ الْآلِهَةُ عَنْهُمْ فَلَمْ تَنْفَعْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ العذاب، {وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ} [الأحقاف: 28] أَيْ كَذِبُهُمُ الَّذِي كَانُوا يَقُولُونَ: إِنَّهَا تُقَرِّبُهُمْ إِلَى اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- وَتَشْفَعُ لَهُمْ، {وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأحقاف: 28] يكذبون أنها آلهة.
[قوله تعالى وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ] الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا. . .
[29] {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29] اخْتَلَفُوا فِي عَدَدِ ذَلِكَ النَّفَرِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانُوا سَبْعَةً مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ، فَجَعَلَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ. وَقَالَ آخَرُونَ: كَانُوا تِسْعَةً. وَرَوَى عَاصِمٌ عَنْ زِرِّ بْنِ حُبَيْشٍ: كَانَ زَوْبَعَةُ مِنَ التِّسْعَةِ الَّذِينَ اسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ. {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا} [الأحقاف: 29] قالوا: صه. قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَنْصِتُوا وَاسْكُتُوا لِنَسْتَمِعَ إِلَى قِرَاءَتِهِ، فَلَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الِاسْتِمَاعِ شَيْءٌ، فَأَنْصَتُوا وَاسْتَمَعُوا الْقُرْآنَ حَتَّى كَادَ يَقَعُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْ شِدَّةِ حرصهم، {فَلَمَّا قُضِيَ} [الأحقاف: 29] فَرَغَ مِنْ تِلَاوَتِهِ، {وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ} [الأحقاف: 29] انصرفوا إليهم، {مُنْذِرِينَ} [الأحقاف: 29] مُخَوِّفِينَ دَاعِينَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[30] {قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف: 30] قَالَ عَطَاءٌ: كَانَ دِينُهُمُ الْيَهُودِيَّةُ، لِذَلِكَ قَالُوا: إِنَّا سَمِعَنَا كِتَابًا أَنْزِلُ مِنْ بَعْدِ مُوسَى.
[31] {يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ} [الأحقاف: 31] يَعْنِي مُحَمَّدًا(6/872)
-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] (مِنْ) صِلَةٌ أَيْ ذُنُوبِكُمْ، {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف: 31] وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ مَبْعُوثًا إِلَى الْجِنِّ وَالْإِنْسِ جَمِيعًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَمْ يُبْعَثْ قَبْلَهُ نَبِيٌّ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ جَمِيعًا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ مُؤْمِنِي الْجِنِّ، فقال: لَيْسَ لَهُمْ ثَوَابٌ إِلَّا نَجَاتُهُمْ من النار، وَحَكَى سُفْيَانُ عَنْ لَيْثٍ قَالَ: الْجِنُّ ثَوَابُهُمْ أَنْ يُجَارُوا مِنَ النَّارِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ كُونُوا ترابا، وهذا مثل البهائم. وَقَالَ الْآخَرُونَ. يَكُونُ لَهُمُ الثَّوَابُ فِي الْإِحْسَانِ كَمَا يَكُونُ عَلَيْهِمُ العقاب في الإساءة كالإنس. وَقَالَ جَرِيرٌ عَنِ الضَّحَّاكِ: الْجِنُّ يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: إِنَّ مُؤْمِنِي الْجِنِّ حَوْلَ الْجَنَّةِ فِي رَبَضٍ وَرِحَابٍ وَلَيْسُوا فِيهَا.
[32] {وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ} [الأحقاف: 32] لَا يُعْجِزُ اللَّهَ فَيَفُوتُهُ، {وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءُ} [الأحقاف: 32] أَنْصَارٌ يَمْنَعُونَهُ مِنَ اللَّهِ {أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 32]
[33] {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ} [الأحقاف: 33] لَمْ يَعْجِزْ عَنْ إِبْدَاعِهِنَّ، {بِقَادِرٍ} [الأحقاف: 33] هَكَذَا قِرَاءَةُ الْعَامَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي وَجْهِ دُخُولِ الْبَاءِ فِيهِ، فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْأَخْفَشُ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ للتأكيد، كقوله: {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20] وَقَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ: الْعَرَبُ تُدْخِلُ الْبَاءَ فِي الِاسْتِفْهَامِ مَعَ الْجَحْدِ فتقول: ما أظنك بقائم {عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأحقاف: 33]
[34] {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ} [الأحقاف: 34] فَيُقَالُ لَهُمْ، {أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ} [الأحقاف: 34] أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ، {فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} [الأحقاف: 34]
[35] {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. ذَوُو الْحَزْمِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ذَوُو الْجِدِّ وَالصَّبْرِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِمْ، فَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كُلُّ الرُّسُلِ كَانُوا أُولِي عَزْمٍ لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ ذَا عَزْمٍ وَحَزْمٍ، وَرَأْيٍ وَكَمَالِ عَقْلٍ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ مِنْ لِلتَّجْنِيسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ كَمَا يُقَالُ: اشْتَرَيْتُ أَكْسِيَةً مِنَ الْخَزِّ وَأَرْدِيَةً مِنَ الْبَزِّ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ أُولُو عَزْمٍ إِلَّا يُونُسَ بْنَ مَتَّى لِعَجَلَةٍ كَانَتْ مِنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قِيلَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] وَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ نُجَبَاءُ الرُّسُلِ المذكورين فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِهِمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} [الْأَنْعَامِ: 90] وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمُ الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ وَأَظْهَرُوا الْمُكَاشَفَةَ مَعَ أَعْدَاءِ الدِّينِ. وَقِيلَ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَلُوطٌ وَشُعَيْبٌ وَمُوسَى -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- وَهُمُ الْمَذْكُورُونَ عَلَى النَّسَقِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَالشُّعَرَاءِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَإِبْرَاهِيمُ صَبَرَ عَلَى النَّارِ، وَإِسْحَاقُ صَبَرَ عَلَى الذَّبْحِ، وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ(6/873)
وَلَدِهِ وَذَهَابِ بَصَرِهِ، وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى الْبِئْرِ وَالسِّجْنِ، وَأَيُّوبُ صَبَرَ عَلَى الضُّرِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ: هُمْ نُوحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَمُوسَى وَعِيسَى أَصْحَابُ الشَّرَائِعِ، فَهُمْ مَعَ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَمْسَةٌ، قُلْتُ: ذَكَرَهُمُ اللَّهُ عَلَى التَّخْصِيصِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [الْأَحْزَابِ: 7] وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا} [الشورى: 13] الآية.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ} [الأحقاف: 35] أَيْ وَلَا تَسْتَعْجِلِ الْعَذَابَ لَهُمْ، فَإِنَّهُ نَازِلٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ، كَأَنَّهُ ضَجَرَ بَعْضَ الضَّجَرِ فَأَحَبَّ أَنْ يَنْزِلَ الْعَذَابُ بِمَنْ أَبَى مِنْهُمْ، فَأُمِرَ بِالصَّبْرِ وَتَرَكِ الِاسْتِعْجَالِ، ثُمَّ أُخْبِرَ عَنْ قُرْبِ الْعَذَابِ فَقَالَ: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 35] مِنَ الْعَذَابِ فِي الْآخِرَةِ، {لَمْ يَلْبَثُوا} [الأحقاف: 35] فِي الدُّنْيَا، {إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ} [الأحقاف: 35] أَيْ إِذَا عَايَنُوا الْعَذَابَ صَارَ طُولُ لُبْثِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْبَرْزَخِ كَأَنَّهُ سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ، لِأَنَّ مَا مَضَى وَإِنْ كَانَ طَوِيلًا كَأَنَّ لَمْ يَكُنْ، ثُمَّ قَالَ: {بَلَاغٌ} [الأحقاف: 35] أَيْ هَذَا الْقُرْآنُ وَمَا فِيهِ مِنَ الْبَيَانِ بَلَاغٌ مِنَ اللَّهِ إِلَيْكُمْ، وَالْبَلَاغُ بِمَعْنَى التَّبْلِيغِ، {فَهَلْ يُهْلَكُ} [الأحقاف: 35] بِالْعَذَابِ إِذَا نَزَلَ {إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} [الأحقاف: 35] الْخَارِجُونَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ لَا يَهْلَكُ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ وَفَضْلِهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ، وَلِهَذَا قَالَ قَوْمٌ: مَا فِي الرَّجَاءِ لِرَحْمَةِ اللَّهِ آيَةٌ أَقْوَى مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ
[سُورَةُ محمد]
[قوله تعالى الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ] أَعْمَالَهُمْ. . .
(47) سورة محمد [1] {الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1] أَبْطَلَهَا فَلَمْ يَقْبَلْهَا، وَأَرَادَ بِالْأَعْمَالِ مَا فَعَلُوا مِنْ إِطْعَامِ الطَّعَامِ وَصِلَةِ الْأَرْحَامِ، قَالَ الضَّحَّاكُ: أَبْطَلَ كَيْدَهُمْ وَمَكْرَهُمْ بِالنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَجَعَلَ الدَّائِرَةَ عَلَيْهِمْ.
[2] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ} [مُحَمَّدٍ: 2] قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: يَعْنِي لَمْ يُخَالِفُوهُ فِي شَيْءٍ، {وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 2] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنهما-: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا) مُشْرِكُو مَكَّةَ، وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ الْأَنْصَارُ. {كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} [محمد: 2] حَالَهُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا-: عَصَمَهُمْ أَيَّامَ حَيَاتِهِمْ، يَعْنِي أَنَّ هَذَا الْإِصْلَاحَ يَعُودُ إِلَى إِصْلَاحِ أَعْمَالِهِمْ حَتَّى لَا يَعْصُوا.
[3] {ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ} [محمد: 3] الشَّيْطَانَ، {وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ} [محمد: 3] يَعْنِي الْقُرْآنَ {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ} [محمد: 3] أَشْكَالَهُمْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ أَمْثَالَ حَسَنَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِضْلَالِ أَعْمَالِ الْكَافِرِينَ.
[4] {فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4] نَصْبٌ عَلَى الْإِغْرَاءِ، أَيْ: فَاضْرِبُوا رِقَابَهُمْ يَعْنِي: أَعْنَاقَهُمْ {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ} [محمد: 4] بَالَغْتُمْ فِي الْقَتْلِ وَقَهَرْتُمُوهُمْ، {فَشُدُّوا الْوَثَاقَ} [محمد: 4] يَعْنِي فِي الْأَسْرِ حَتَّى لَا يُفْلِتُوا مِنْكُمْ، وَالْأَسْرُ يَكُونُ بَعْدَ الْمُبَالَغَةِ فِي الْقَتْلِ، كَمَا قَالَ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} [الْأَنْفَالِ: 67] {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] يَعْنِي بَعْدَ أَنْ تَأْسِرُوهُمْ فَإِمَّا أَنْ تَمُنُّوا عَلَيْهِمْ مَنًّا بِإِطْلَاقِهِمْ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ، وَإِمَّا أَنْ تُفَادُوهُمْ فِدَاءً، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حُكْمِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ} [الْأَنْفَالِ: 57] وَبِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} [التوبة: 5] قَالُوا: لَا يَجُوزُ الْمَنُّ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي الْأَسْرِ مِنَ الْكُفَّارِ وَلَا الْفِدَاءُ، وَذَهَبَ آخَرُونَ إِلَى أَنَّ الْآيَةَ مُحْكَمَةٌ وَالْإِمَامُ بِالْخِيَارِ فِي الرِّجَالِ الْعَاقِلِينَ مِنَ الْكُفَّارِ إِذَا وَقَعُوا فِي الْأَسْرِ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَهُمْ أَوْ يَسْتَرِقَّهُمْ أَوْ يَمُنَّ عَلَيْهِمْ فَيُطْلِقُهُمْ بِلَا عِوَضٍ أَوْ يُفَادِيهِمْ بِالْمَالِ أَوْ بأسارى المسلمين، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا كَثُرَ الْمُسْلِمُونَ وَاشْتَدَّ سُلْطَانُهُمْ أَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي الْأُسَارَى (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) ،(6/874)
وَهَذَا هُوَ الْأَصَحُّ وَالِاخْتِيَارُ، لِأَنَّهُ عَمِلَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْخُلَفَاءَ بَعْدَهُ.
قوله تعالى: {حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} [محمد: 4] أَيْ أَثْقَالَهَا وَأَحْمَالَهَا، يَعْنِي حَتَّى تَضَعَ أَهْلُ الْحَرْبِ السِّلَاحَ، فَيُمْسِكُوا عَنِ الْحَرْبِ، وَأَصْلُ الْوِزْرِ مَا يَحْتَمِلُ الْإِنْسَانُ، فَسَمَّى الْأَسْلِحَةَ أَوْزَارًا لِأَنَّهَا تُحْمَلُ، وَقِيلَ: الْحَرْبُ هُمُ الْمُحَارِبُونَ كَالشُّرْبِ وَالرَّكْبِ، وَقِيلَ: الْأَوْزَارُ الْآثَامُ، وَمَعْنَاهُ حَتَّى يَضَعَ الْمُحَارِبُونَ آثَامَهَا، بِأَنْ يَتُوبُوا مِنْ كَفْرِهِمْ فَيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ. وَقِيلَ: حَتَّى تَضَعَ حَرْبُكُمْ وَقِتَالُكُمْ أَوْزَارَ الْمُشْرِكِينَ وَقَبَائِحَ أَعْمَالِهِمْ بِأَنْ يُسْلِمُوا، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَثْخِنُوا الْمُشْرِكِينَ بِالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ حَتَّى يَدْخُلَ أَهْلُ الْمِلَلِ كُلِّهَا فِي الْإِسْلَامِ، وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَلَا يَكُونُ بَعْدَهُ جِهَادٌ ولا قتال، وذلك عند قدوم عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ -عَلَيْهِمَا السَّلَامُ- وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: حَتَّى يُسْلِمُوا أَوْ يُسَالِمُوا، وَقَالَ الْفَرَّاءُ: حَتَّى لَا يَبْقَى إِلَّا مُسْلِمٌ أَوْ مُسَالِمٌ، {ذَلِكَ} [محمد: 4] الَّذِي ذَكَرْتُ وَبَيَّنْتُ مِنْ حُكْمِ الْكُفَّارِ، {وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ} [محمد: 4] فَأَهْلَكَهُمْ وَكَفَاكُمْ أَمْرَهُمْ بِغَيْرِ قِتَالٍ، {وَلَكِنْ} [محمد: 4] أَمَرَكُمْ بِالْقِتَالِ، {لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ} [محمد: 4] فَيَصِيرُ مَنْ قُتِلَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى الثَّوَابِ وَمَنْ قَتَلَ مِنَ الكفار إِلَى الْعَذَابِ، {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 4] قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَحَفْصٌ: (قُتِلُوا) بِضَمِّ الْقَافِ وَكَسْرِ التَّاءِ خَفِيفٌ، يَعْنِي الشُّهَدَاءَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ، (قَاتَلُوا) بِالْأَلْفِ مِنَ الْمُقَاتَلَةِ، وَهُمُ الْمُجَاهِدُونَ، {فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 4] قَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ يَوْمَ أُحُدٍ، وَقَدْ فَشَتْ فِي الْمُسْلِمِينَ الْجِرَاحَاتُ والقتل.
[5] {سَيَهْدِيهِمْ} [محمد: 5] أَيَّامَ حَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا إِلَى أَرْشَدِ الْأُمُورِ، وَفِي الْآخِرَةِ إِلَى الدرجات، {وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 5] يُرْضِي خصماءَهم وَيَقْبَلُ أَعْمَالَهُمْ.
[6] {وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6] أَيْ بَيَّنَ لَهُمْ مَنَازِلَهُمْ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى يَهْتَدُوا إِلَى مَسَاكِنِهِمْ لا يخطئونها وَلَا يَسْتَدِلُّونَ عَلَيْهَا أَحَدًا، كَأَنَّهُمْ سُكَّانُهَا مُنْذُ خُلِقُوا فَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ أَهْدَى إِلَى دَرَجَتِهِ، وَزَوْجَتِهِ وَخَدَمِهِ إِلَى مَنْزِلِهِ وَأَهْلِهِ فِي الدُّنْيَا، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَرَوَى عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (عَرَّفَهَا لَهُمْ) أَيْ طَيَّبَهَا لَهُمْ مِنَ الْعَرْفِ، وَهُوَ الرِّيحُ الطَّيِّبَةُ وَطَعَامٌ معرَّف أَيْ مطيَّب.
[7] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ} [محمد: 7] أي دينه ورسوله، {يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] على عدوكم، {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] عِنْدَ الْقِتَالِ.
[8] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ} [محمد: 8] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بُعْدًا لَهُمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: سُقُوطًا لَهُمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: خَيْبَةً لَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: شَقَاءً لَهُمْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، عَلَى سَبِيلِ الدُّعَاءِ. وَقِيلَ: فِي الدُّنْيَا الْعَثْرَةُ، وَفِي الْآخِرَةِ التَّرَدِّي فِي النَّارِ. وَيُقَالُ لِلْعَاثِرِ: تَعْسًا إِذَا لَمْ يُرِيدُوا(6/875)
قِيَامَهُ، وَضِدُّهُ لَعًا إِذَا أَرَادُوا قيامه، {وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 8] لِأَنَّهَا كَانَتْ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ.
[9] {ذَلِكَ} [محمد: 9] التَّعْسُ وَالْإِضْلَالُ، {بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9] ثُمَّ خَوَّفَ الْكُفَّارَ فَقَالَ:
[10] {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [محمد: 10] أي أهلكهم، {وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} [محمد: 10] أي لَمْ يُؤْمِنُوا، يَتَوَعَّدُ مُشْرِكِي مَكَّةَ.
[11] {ذَلِكَ} [محمد: 11] الَّذِي ذَكَرْتُ، {بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 11] وَلِيُّهُمْ وَنَاصِرُهُمْ، {وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 11] لَا نَاصِرَ لَهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ مآل الفريقين فقال:
[قوله تعالى إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ] جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .
[12] {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ} [محمد: 12] فِي الدُّنْيَا، {وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ} [محمد: 12] لَيْسَ لَهُمْ هِمَّةً إِلَّا بُطُونُهُمْ وَفُرُوجُهُمْ، وَهُمْ لَاهُونَ سَاهُونَ عَمَّا فِي غَدٍ، قِيلَ: الْمُؤْمِنُ فِي الدُّنْيَا يَتَزَوَّدُ، وَالْمُنَافِقُ يَتَزَيَّنُ وَالْكَافِرُ يتمتع، {وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} [محمد: 12]
[13] {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ} [محمد: 13] أي: أشد قوة من أهل مكة، {الَّتِي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] أَيْ أَخْرَجَكَ أَهْلُهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمْ رِجَالٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ؟ يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله: {أَهْلَكْنَاهُمْ} [محمد: 13] وَلَمْ يَقُلْ. أَهْلَكْنَاهَا، {فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13]
[14] {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [محمد: 14] يَقِينٍ مِنْ دِينِهِ، مُحَمَّدٌ وَالْمُؤْمِنُونَ، {كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 14] يَعْنِي عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ، وَهُمْ أَبُو جَهْلٍ وَالْمُشْرِكُونَ.
[15] {مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [محمد: 15] أَيْ صِفَتُهَا، {فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ} [محمد: 15] آسن مُتَغَيِّرٍ مُنْتِنٍ، قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ (أَسِنٍ) بِالْقَصْرِ، وَالْآخَرُونَ بِالْمَدِّ، وَهُمَا لُغَتَانِ يُقَالُ: أَسَنَ الْمَاءُ يأسنُ أسنًا، وآسَنَ يأسُنُ وياسن، وأجن يأجن وياجن، أُسُونًا وَأُجُونًا إِذَا تَغَّيرَ، {وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ} [محمد: 15] لذيذة، {لِلشَّارِبِينَ} [محمد: 15] لَمْ تُدَنِّسْهَا الْأَرْجُلُ وَلَمْ تُدَنِّسْهَا الْأَيْدِي، {وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ} [محمد: 15] أَيْ مَنْ كَانَ فِي هَذَا النَّعِيمِ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار، {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا} [محمد: 15] شديد الحر تسعر عليه جَهَنَّمُ مُنْذُ خُلِقَتْ، إِذَا أُدْنِيَ منهم يشوي وُجُوهَهُمْ وَوَقَعَتْ فَرْوَةُ رُءُوسِهِمْ فَإِذَا شربوه، {فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} [محمد: 15] فَخَرَجَتْ مِنْ أَدْبَارِهِمْ، وَالْأَمْعَاءُ جَمِيعُ مَا فِي الْبَطْنِ مِنَ الْحَوَايَا واحدها معي.
[16] {وَمِنْهُمْ} [محمد: 16] يَعْنِي مِنْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارِ، {مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [محمد: 16] وَهْمُ الْمُنَافِقُونَ يَسْتَمِعُونَ قَوْلَكَ فَلَا يَعُونَهُ وَلَا يَفْهَمُونَهُ تَهَاوُنًا بِهِ وَتَغَافُلًا، {حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ} [محمد: 16] يَعْنِي فَإِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ، {قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [محمد: 16] مِنَ الصَّحَابَةِ، {مَاذَا قَالَ} [مُحَمَّدٌ: 16] محمد، {آنِفًا} [محمد: 16] يعنى الآن، وهو مِنَ الِائْتِنَافِ وَيُقَالُ: ائْتَنَفْتُ الْأَمْرَ أَيِ ابْتَدَأْتُهُ وَأُنْفُ الشَّيْءِ(6/876)
أَوَّلُهُ، قَالَ مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يَخْطُبُ وَيَعِيبُ الْمُنَافِقِينَ، فَإِذَا خَرَجُوا مِنَ الْمَسْجِدِ سَأَلُوا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ اسْتِهْزَاءً مَاذَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَقَدْ سُئِلَتْ فِيمَنْ سُئِلَ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [محمد: 16] فلم يؤمنوا، {وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [محمد: 16] فِي الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ.
[17] {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا} [محمد: 17] يعني المؤمنين، {زَادَهُمْ} [محمد: 17] ما قال الرسول، {هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [محمد: 17] وَفَّقَهُمْ لِلْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ، وَهُوَ التَّقْوَى، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَآتَاهُمْ ثَوَابَ تَقْوَاهُمْ.
[18] {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} [محمد: 18] أَمَارَاتُهَا وَعَلَامَاتُهَا وَاحِدُهَا شَرْطٌ، وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أشراط الساعة {فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} [محمد: 18] فَمِنْ أَيْنَ لَهُمُ التَّذَكُّرُ وَالِاتِّعَاظُ وَالتَّوْبَةُ إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ، نَظِيرُهُ: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الْفَجْرِ: 23]
[19] {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ} [محمد: 19] قِيلَ: الْخِطَابُ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُهُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فاثبتْ عَلَيْهِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: فَازْدَدْ عِلْمًا عَلَى عِلْمِكَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ عُيَيْنَةَ. هُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ مَعْنَاهُ: إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا مَلْجَأَ وَلَا مَفْزَعَ عِنْدَ قِيَامِهَا إِلَّا إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ الْمَمَالِكَ تَبْطُلُ عِنْدَ قِيَامِهَا فَلَا مُلْكَ وَلَا حُكْمَ لِأَحَدٍ إِلَّا الله، {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19] أُمر بِالِاسْتِغْفَارِ مَعَ أَنَّهُ مَغْفُورٌ له لتستن به أمته {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] هَذَا إِكْرَامٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِهَذِهِ الْأُمَّةِ حَيْثُ أَمَرَ نَبِيَّهُمْ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِنَّ يَسْتَغْفِرَ لِذُنُوبِهِمْ وَهُوَ الشَّفِيعُ الْمُجَابُ فِيهِمْ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ} [محمد: 19] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ: مُتَقَلَّبَكُمْ مُتَصَرَّفُكُمْ وَمُنْتَشَرُكُمْ فِي أَعْمَالِكُمْ فِي الدُّنْيَا، وَمَثْوَاكُمْ مَصِيرُكُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَى الْجَنَّةِ أَوْ إِلَى النَّارِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَابْنُ جَرِيرٍ: مُتَقَلَّبَكُمْ مُنْصَرَفُكُمْ لِأَشْغَالِكُمْ بِالنَّهَارِ وَمَثْوَاكُمْ مَأْوَاكُمْ إِلَى مَضَاجِعِكُمْ بِاللَّيْلِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مُتَقَلَّبَكُمْ مِنْ أَصْلَابِ الْآبَاءِ إِلَى أَرْحَامِ الْأُمَّهَاتِ وَمَثْوَاكُمْ مَقَامُكُمْ فِي الْأَرْضِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مُتَقَلَّبَكُمْ مِنْ ظَهْرٍ إِلَى بَطْنٍ، وَمَثْوَاكُمْ مَقَامُكُمْ فِي الْقُبُورِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ أَحْوَالِكُمْ فَلَا يَخْفَى عليه شيء منها.
[قوله تعالى وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ] . . .
[20] {وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا} [محمد: 20] حِرْصًا مِنْهُمْ عَلَى الْجِهَادِ، {لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ} [محمد: 20] تَأْمُرُنَا بِالْجِهَادِ، {فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ} [محمد: 20] قَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ سُورَةٍ ذُكِرَ فِيهَا الْجِهَادُ فَهِيَ مُحَكَّمَةٌ وَهِيَ أَشَدُّ الْقُرْآنِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ، {رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [محمد: 20] يعني المنافقين، {يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ} [محمد: 20] شَزَرًا بِتَحْدِيقٍ شَدِيدٍ، كَرَاهِيَةً مِنْهُمْ لِلْجِهَادِ وَجُبْنًا عَنْ لِقَاءِ الْعَدُوِّ، {نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [محمد: 20] نظر الشَّاخِصُ بَصَرُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، {فَأَوْلَى لَهُمْ} [محمد: 20] وَعِيدٌ وَتَهْدِيدٌ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمْ فِي التَّهْدِيدِ أَوْلَى لَكَ أَيْ وَلِيَكَ وَقَارَبَكَ مَا تَكْرَهُ.
[21] ثُمَّ قَالَ: {طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} [محمد: 21] وَهَذَا ابْتِدَاءٌ مَحْذُوفُ الْخَبَرِ تَقْدِيرُهُ: طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ أَمْثَلُ، أَيْ لَوْ أَطَاعُوا وَقَالُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا كَانَ أَمْثَلُ وَأَحْسَنُ. وَقِيلَ: مَجَازُهُ يَقُولُ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ قَبْلَ نُزُولِ السُّورَةِ الْمُحْكَمَةِ: طَاعَةٌ، رَفَعَ عَلَى الْحِكَايَةِ أَيْ أَمْرُنَا طَاعَةٌ أَوْ مِنَّا طَاعَةٌ، وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ حَسَنٌ. وَقِيلَ: هُوَ مُتَّصِلٌ بِمَا قَبْلَهُ واللام في قولهم بِمَعْنَى الْبَاءِ، مَجَازُهُ: فَأَوْلَى بِهِمْ طَاعَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ بِالْإِجَابَةِ، أَيْ لَوْ أَطَاعُوا كَانَتِ الطَّاعَةُ وَالْإِجَابَةُ أَوْلَى بِهِمْ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ. {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} [محمد: 21] أَيْ جَدَّ الْأَمْرُ وَلَزِمَ فَرْضُ الْقِتَالِ وَصَارَ الْأَمْرُ مَعْزُومًا، {فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ} [محمد: 21] فِي إِظْهَارِ الْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ، {لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [محمد: 21] وَقِيلَ: جَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ فَإِذَا عَزَمَ(6/877)
الْأَمْرُ نَكَّلُوا وَكَذَّبُوا فِيمَا وَعَدُوا، وَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لهم.
[22] {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22] فلعلكم، {إِنْ تَوَلَّيْتُمْ} [محمد: 22] أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْقُرْآنِ وَفَارَقْتُمْ أَحْكَامَهُ، {أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [محمد: 22] تَعُودُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَتُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالْمَعْصِيَةِ وَالْبَغْيِ وَسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَتَرْجِعُوا إلى الفرقة بعدما جَمَعَكُمُ اللَّهُ بِالْإِسْلَامِ. {وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] قَرَأَ يَعْقُوبُ: (وَتَقْطَعُوا) بِفَتْحِ التَّاءِ خفيف، والآخرون بالتشديد مِنَ التَّقْطِيعِ عَلَى التَّكْثِيرِ لِأَجْلِ الْأَرْحَامِ، قَالَ قَتَادَةُ: كَيْفَ رَأَيْتُمُ الْقَوْمَ حِينَ تَوَلَّوْا عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، أَلَمْ يَسْفِكُوا الدَّمَ الْحَرَامَ، وَقَطَّعُوا الْأَرْحَامَ، وَعَصَوُا الرَّحْمَنَ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مِنَ الْوِلَايَةِ. وَقَالَ الْمُسَيِّبُ بْنُ شَرِيكٍ وَالْفَرَّاءُ: يَقُولُ فَهَلْ عسيتُم إِنَّ وُليتم أَمْرَ النَّاسِ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بِالظُّلْمِ، نَزَلَتْ فِي بَنِي أُمِّيَّةَ وَبَنِي هَاشِمٍ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (تُوُليتم) بِضَمِّ التَّاءِ وَالْوَاوِ وَكَسْرِ اللَّامِ، يَقُولُ إِنْ وَلَّيْتُكُمْ وُلَاةً جَائِرَةً خرجتم معهم في الفتنة وعاونتوهم.
[23] {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] عَنِ الْحَقِّ.
[24] {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24] فَلَا تَفْهَمُ مَوَاعِظَ الْقُرْآنِ وَأَحْكَامَهُ، و (أم) بمعنى (بل) .
[25] {إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ} [محمد: 25] رَجَعُوا كُفَّارًا، {مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى} [محمد: 25] قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ كُفَّارُ أَهْلِ الْكِتَابِ كَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ مَا عَرَفُوهُ وَوَجَدُوا نَعْتَهُ فِي كِتَابِهِمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: هُمُ المنافقون، {الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ} [محمد: 25] زَيَّنَ لَهُمُ الْقَبِيحَ، {وَأَمْلَى لَهُمْ} [محمد: 25] قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ بِضَمِّ الْأَلْفِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَفَتْحِ الْيَاءِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ: بِإِرْسَالِ الْيَاءِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ، وَتُرْوَى هَذِهِ الْقِرَاءَةُ عَنْ يَعْقُوبَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (وَأَملى لَهُمْ) بِفَتْحِ الْأَلِفِ أَيْ وَأَمْلَى الشَّيْطَانُ لَهُمْ مَدَّ لَهُمْ فِي الْأَمَلِ.
[26] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} [محمد: 26] يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ أَوِ الْيَهُودَ، {قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ} [محمد: 26] وَهْمُ الْمُشْرِكُونَ، {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} [محمد: 26] فِي التَّعَاوُنِ عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالْقُعُودِ عَنِ الْجِهَادِ، وَكَانُوا يَقُولُونَهُ سِرًّا فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} [محمد: 26] قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ غَيْرُ أَبِي بَكْرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ عَلَى الْمَصْدَرِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى جَمْعِ السِّرِّ.
[27] {فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [محمد: 27]
[28] {ذَلِكَ} [محمد: 28] أي الضَّرْبُ، {بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ} [محمد: 28] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِمَا كَتَمُوا مِنَ(6/878)
التَّوْرَاةِ وَكَفَرُوا بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- {وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ} [محمد: 28] كَرِهُوا مَا فِيهِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَهُوَ الطَّاعَةُ وَالْإِيمَانُ، {فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 28]
[29] {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [محمد: 29] يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ، {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ} [محمد: 29] أن لَنْ يُظْهِرَ أَحْقَادَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فَيُبْدِيهَا حَتَّى يَعْرِفُوا نِفَاقَهُمْ، وَاحِدُهَا ضِغْنٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَسَدُهُمْ.
[قوله تعالى وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ] وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ. . .
[30] {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} [محمد: 30] أَيْ لَأَعْلَمْنَاكَهُمْ وَعَرَّفْنَاكَهُمْ، {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ} [محمد: 30] بِعَلَامَتِهِمْ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا عَلَى الْمُنَافِقِينَ عَلَامَةً تَعْرِفُهُمْ بِهَا. قَالَ أَنَسٌ: مَا خَفِيَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانَ يَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ. {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} [محمد: 30] فِي مَعْنَاهُ وَمَقْصِدِهِ، وَاللَّحْنُ: وَجْهَانِ صَوَابٌ وَخَطَأٌ، فَالْفِعْلُ مِنَ الصَّوَابِ لَحِنَ يَلْحَنُ لَحْنًا فَهُوَ لَحِنٌ إِذَا فَطِنَ لِلشَّيْءِ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» ، وَالْفِعْلُ مِنَ الْخَطَأِ لَحَنَ يَلْحَنُ لَحْنًا فَهُوَ لَاحِنٌ، وَالْأَصْلُ فِيهِ إِزَالَةُ الْكَلَامِ عَنْ جِهَتِهِ، وَالْمَعْنَى إِنَّكَ تَعْرِفُهُمْ فيما يعرضون له مِنْ تَهْجِينِ أَمْرِكَ وَأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِمْ، فَكَانَ بَعْدَ هَذَا لَا يَتَكَلَّمُ مُنَافِقٌ عِنْدَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَلَا عَرَفَهُ بِقَوْلِهِ، وَيَسْتَدِلُّ بِفَحْوَى كَلَامِهِ على فساد خلقه وعقيدته، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30]
[31] {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [محمد: 31] وَلِنُعَامِلَنَّكُمْ مُعَامَلَةَ الْمُخْتَبِرِ بِأَنْ نَأْمُرَكُمْ بِالْجِهَادِ وَالْقِتَالِ، {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [محمد: 31] أَيْ عِلْمَ الْوُجُودِ، يُرِيدُ حَتَّى يَتَبَيَّنَ الْمُجَاهِدُ وَالصَّابِرُ عَلَى دِينِهِ من غيره، {وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 31] أَيْ نُظْهِرُهَا وَنَكْشِفُهَا بِإِبَاءِ مَنْ يَأْبَى الْقِتَالَ، وَلَا يَصْبِرُ عَلَى الْجِهَادِ، وَقَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (وَلَيَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى يَعْلَمَ) ، وَيَبْلُو بِالْيَاءِ فِيهِنَّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 30] وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ فِيهِنَّ، لِقَوْلِهِ تعالى {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ} [محمد: 30] وَقَرَأَ يَعْقُوبُ (وَنَبْلُوا) سَاكِنَةَ الْوَاوِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْفَتْحِ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِ (حَتَّى نَعْلَمَ) .
[32] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 32] أي: رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} [محمد: 32] إِنَّمَا يَضُرُّونَ أَنْفُسَهُمْ، {وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 32] فَلَا يَرَوْنَ لَهَا ثَوَابًا فِي الْآخِرَةِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ الله عنهما-: هم المطعمون يوم بدر، ونظيرها قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36]
[33] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] قَالَ عَطَاءٌ: بِالشَّكِّ وَالنِّفَاقِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بِالرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ:(6/879)
بِالْمَعَاصِي وَالْكَبَائِرِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَرَوْنَ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِخْلَاصِ ذَنْبٌ، كَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فَخَافُوا الكبائر بعد أَنْ تُحْبِطَ الْأَعْمَالَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا تَمُنُّوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ، نَزَلَتْ فِي بَنِي أَسَدٍ وَسَنَذْكُرُهُ فِي سُورَةِ الْحُجُرَاتِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (1) .
[34] {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [محمد: 34] هُمْ أَصْحَابُ الْقَلِيبِ وَحُكْمُهَا عَامٌّ.
[35] {فَلَا تَهِنُوا} [محمد: 35] لَا تَضْعُفُوا {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} [محمد: 35] أَيْ لَا تَدْعُوَا إِلَى الصُّلْحِ، ابْتِدَاءً مَنَعَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَدْعُوا الْكَفَّارَ إِلَى الصُّلْحِ، وَأَمَرَهُمْ بِحَرْبِهِمْ حَتَّى يُسْلِمُوا، {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} [محمد: 35] الغالبون، قال الكلبي: آخر الأمم لَكُمْ وَإِنْ غَلَبُوكُمْ فِي بَعْضِ الأوقات، {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} [محمد: 35] بِالْعَوْنِ وَالنُّصْرَةِ {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 35] لن ينقصكم شيئا من ثوب أَعْمَالِكُمْ، يُقَالُ: وَتِرَهُ يَتِرُهُ وَتَرًا إِذَا نَقَصَ حَقَّهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالضَّحَّاكُ: لَنْ يَظْلِمَكُمْ أَعْمَالَكُمُ الصَّالِحَةَ بَلْ يُؤْتِيكُمْ أُجُورَهَا.
[36] ثُمَّ حَضَّ عَلَى طَلَبِ الْآخِرَةِ فَقَالَ: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} [محمد: 36] بَاطِلٌ وَغُرُورٌ، {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا} [محمد: 36] الفواحش، {يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} [محمد: 36] جَزَاءَ أَعْمَالِكُمْ فِي الْآخِرَةِ {وَلَا يَسْأَلْكُمْ} [محمد: 36] ربكم {أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36] لِإِيتَاءِ الْأَجْرِ بَلْ يَأْمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ لِيُثِيبَكُمْ عَلَيْهَا الْجَنَّةَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} [الذَّارِيَاتِ: 57] وَقِيلَ: لَا يَسْأَلُكُمْ مُحَمَّدٌ أَمْوَالَكُمْ، نَظِيرُهُ: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الْفُرْقَانِ: 57] وَقِيلَ مَعْنَى الْآيَةِ: لَا يَسْأَلُكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْوَالَكُمْ كُلَّهَا فِي الصَّدَقَاتِ، إِنَّمَا يَسْأَلَانِكُمْ غَيْضًا مِنْ فَيْضٍ، رُبْعَ الْعُشْرِ فَطِيبُوا بِهَا نفسا، وقروا بها عينا وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ ذَهَبَ ابْنُ عُيينة، يَدُلُّ عَلَيْهِ سِيَاقُ الْآيَةِ:
[37] {إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ} [محمد: 37] أَيْ يُجْهِدُكُمْ وَيُلْحِفُ عَلَيْكُمْ بِمَسْأَلَةِ جَمِيعِهَا، يُقَالُ: أَحْفَى فَلَانٌ فَلَانًا إِذَا جَهِدَهُ، وَأَلْحَفَ عَلَيْهِ بِالْمَسْأَلَةِ، {تَبْخَلُوا} [محمد: 37] بِهَا فَلَا تُعْطُوهَا، {وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ} [محمد: 37] بُغْضَكُمْ وَعَدَاوَتِكُمْ، قَالَ قَتَادَةُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِي مَسْأَلَةِ الْأَمْوَالِ خروج الأضغان.
[38] {هَاأَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [محمد: 38] يَعْنِي إِخْرَاجَ مَا فَرَضَ اللَّهُ عليكم، {فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ} [محمد: 38] بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ مِنَ الزَّكَاةِ، {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ} [محمد: 38] عَنْ صَدَقَاتِكُمْ وَطَاعَتِكُمْ، {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} [محمد: 38] إِلَيْهِ وَإِلَى مَا عِنْدَهُ مِنَ الْخَيْرِ. {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] بَلْ يَكُونُوا أَمْثَلَ مِنْكُمْ وَأَطْوَعَ لِلَّهِ مِنْكُمْ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُمْ كِنْدَةُ وَالنَّخْعُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْعَجَمُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: فَارِسٌ وَالرُّومِ.
[سورة الفتح]
[قوله تعالى إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا لِيَغْفِرَ لَكَ] اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ. . .
(48) سُورَةُ الفتح [1] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] أَيْ قَضَيْنَا لَكَ قَضَاءً بَيِّنًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا بِغَيْرِ قِتَالٍ، وَكَانَ الصلح من الفتح المبين، واختلفوا في هذا الفتح، عَنْ أَنَسٍ: أَنَّهُ فَتْحُ مَكَّةَ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فَتْحُ خَيْبَرَ، وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّهُ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَمَعْنَى الْفَتْحِ فَتْحُ الْمُنْغَلِقِ، وَالصُّلْحُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ بِالْحُدَيْبِيَةِ كَانَ مُتَعَذِّرًا حَتَّى فتحه الله -عزّ وجلّ.
[2] {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ} [الفتح: 2] فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الرِّسَالَةِ، {وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] إلى وقت نزول هذه
_________
(1) آية (14) .(6/880)
السورة. وقيل: ما تأخر مما يكون، وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: مَا تَقَدَّمَ مِمَّا عَمِلْتَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَمَا تَأَخَّرَ كُلُّ شَيْءٍ لَمْ تَعْمَلْهُ، وَيُذْكَرُ مِثْلُ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ التأكيد، وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ: يَعْنِي ذَنْبَ أَبَوَيْكَ آدَمَ وَحَوَّاءَ بِبَرَكَتِكَ، وَمَا تَأَخَّرَ ذُنُوبُ أُمَّتِكَ بِدَعْوَتِكَ. {وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} [الفتح: 2] بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ {وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 2] أَيْ يُثَبِّتُكَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى لِيَجْتَمِعَ لَكَ مَعَ الْفَتْحِ تَمَامُ النِّعْمَةِ والمغفرة وَالْهِدَايَةِ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ وَهُوَ الْإِسْلَامُ. وَقِيلَ: وَيَهْدِيَكَ أَيْ يَهْدِي بِكَ.
[3] {وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 3] غَالِبًا. وَقِيلَ: مُعِزًّا.
[4] {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ} [الفتح: 4] الطُّمَأْنِينَةَ وَالْوَقَارَ {فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 4] لِئَلَّا تَنْزَعِجَ نُفُوسُهُمْ لِمَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ سَكِينَةٍ فِي الْقُرْآنِ فَهِيَ طُمَأْنِينَةٌ إِلَّا الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقْرَةِ، {لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ اللَّهُ رسوله لشهادة أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمَّا صَدَّقُوهُ زَادَهُمُ الصَّلَاةَ ثُمَّ الزَّكَاةَ ثُمَّ الصِّيَامَ ثُمَّ الْحَجَّ ثُمَّ الْجِهَادَ، حَتَّى أَكْمَلَ لَهُمْ دِينَهُمْ، فَكُلَّمَا أُمِرُوا بِشَيْءٍ فَصَدَّقُوهُ ازْدَادُوا تَصْدِيقًا إِلَى تَصْدِيقِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَقِينًا مَعَ يَقِينِهِمْ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: هَذَا فِي أَمْرِ الْحُدَيْبِيَةِ حِينَ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ، {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الفتح: 4]
[5] {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا} [الفتح: 5] عَنْ أَنَسٍ أَنَّ الصَّحَابَةَ قَالَوا لَمَّا نَزَلَ {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ} [الفتح: 2] هَنِيئًا مَرِيئًا فَمَا يَفْعَلُ بِنَا فَنَزَلَ: {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} [الفتح: 5] الْآيَةَ.
[6] {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} [الفتح: 6] يريد أَهْلَ النِّفَاقِ بِالْمَدِينَةِ وَأَهْلَ الشِّرْكِ بِمَكَّةَ، {الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 6] أَنْ لَنْ يَنْصُرَ مُحَمَّدًا وَالْمُؤْمِنِينَ، {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} [الفتح: 6] بِالْعَذَابِ وَالْهَلَاكِ، {وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]
[7 - 9] {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا - إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا - لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ} [الفتح: 7 - 9] أي تعينوه وتنصروه، {وَتُوَقِّرُوهُ} [الفتح: 9] تُعَظِّمُوهُ وَتُفَخِّمُوهُ هَذِهِ الْكِنَايَاتُ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- وهاهنا وقف، {وَتُسَبِّحُوهُ} [الفتح: 9] أَيْ تُسَبِّحُوا اللَّهَ يُرِيدُ تُصَلُّوا له، {بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9] بالغداة والعشي.
[قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ] اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ. . .
[10] {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ} [الفتح: 10] يا محمد بالحديبية على ألا يفروا، {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} [الفتح: 10] لِأَنَّهُمْ بَاعُوا أَنْفُسَهُمْ مِنَ اللَّهِ بالجنة، {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عنهما-: يد الله بالوفاء لما وَعَدَهُمْ مِنَ الْخَيْرِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ. وقال السدي: كانوا يأخذونه بِيَدِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُبَايِعُونَهُ، وَيَدُ اللَّهِ فوق أيديهم في المبايعة، {فَمَنْ نَكَثَ} [الفتح: 10] نَقَضَ(6/881)
الْبَيْعَةَ، {فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] عَلَيْهِ وَبَالُهُ، {وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ} [الفتح: 10] ثبت على البيعة، {فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 10] وَهُوَ الْجَنَّةُ.
[11] {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} [الفتح: 11] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: يَعْنِي أعراب بني غِفَارٍ وَمُزَيْنَةَ وَجُهَيْنَةَ، وَأَشْجَعَ وَأَسْلَمَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى مَكَّةَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ مُعْتَمِرًا اسْتَنْفَرَ مَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ مِنَ الْأَعْرَابِ وَأَهْلِ الْبَوَادِي لِيَخْرُجُوا مَعَهُ حَذَرًا مِنْ قُرَيْشٍ أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبٍ، أَوْ يَصُدُّوهُ عَنِ الْبَيْتِ، فَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ لِيَعْلَمَ النَّاسُ أَنَّهُ لَا يُرِيدُ حَرْبًا، فَتَثَاقَلَ عَنْهُ كَثِيرٌ مِنَ الْأَعْرَابِ وَتَخَلَّفُوا وَاعْتَلُّوا بِالشُّغْلِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ} [الفتح: 11] يَعْنِي الَّذِينَ خَلَّفَهُمُ اللَّهُ -عَزَّ وجلّ- عن صحبتك، فإذا انصرفت من سفرك إليهم فعاتبهم على التخلف عنك، {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11] يَعْنِي النِّسَاءَ وَالذَّرَارِي أَيْ لَمْ يَكُنْ لَنَا مَنْ يَخْلُفُنَا فِيهِمْ {فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح: 11] تَخَلُّفَنَا عَنْكَ، فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- فِي اعْتِذَارِهِمْ فَقَالَ: {يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11] مِنْ أَمْرِ الِاسْتِغْفَارِ، فَإِنَّهُمْ لَا يُبَالُونَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَوْ لَا، {قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا} [الفتح: 11] سُوءًا، {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا} [الفتح: 11] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (ضُرًّا) بِضَمِّ الضَّادِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا لِأَنَّهُ قَابَلَهُ بِالنَّفْعِ وَالنَّفْعُ ضِدُّ الضَّرِّ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ تَخَلُّفَهُمْ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَدْفَعُ عَنْهُمُ الضَّرَّ، وَيُعَجِّلُ لَهُمُ النَّفْعَ بِالسَّلَامَةِ فِي أَنْفُسِهِمْ وأموالهم، فأخبرهم الله تعالى: إِنْ أَرَادَ بِهِمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِهِ. {بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} [الفتح: 11]
[12] {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا} [الفتح: 12] أَيْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ الْعَدُوَّ يَسْتَأْصِلُهُمْ فَلَا يَرْجِعُونَ، {وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ} [الفتح: 12] زَيَّنَ الشَّيْطَانُ ذَلِكَ الظَّنَّ فِي قلوبكم، {وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ} [الفتح: 12]
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةُ رَأْسٍ، فَلَا يَرْجِعُونَ، فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ مَعَهُ انْتَظِرُوا مَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِهِمْ. {وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا} [الفتح: 12] هَلْكَى لَا تَصْلُحُونَ لِخَيْرٍ.
[13 - 15] {وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا - وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا - سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ} [الفتح: 13 - 15] يَعْنِي هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنِ الحديبية، {إِذَا انْطَلَقْتُمْ} [الفتح: 15] سِرْتُمْ وَذَهَبْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، {إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا} [الفتح: 15] يَعْنِي غَنَائِمَ خَيْبَرَ، {ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح: 15] إلى خيبر نشهد مَعَكُمْ قِتَالَ أَهْلِهَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا انْصَرَفُوا مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعَدَهُمُ اللَّهُ فَتْحَ خَيْبَرَ وَجَعَلَ غَنَائِمَهَا لِمَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ خَاصَّةً عِوَضًا عَنْ غَنَائِمِ أَهْلِ مَكَّةَ إِذِ انْصَرَفُوا عَنْهُمْ عَلَى صُلْحٍ وَلَمْ يُصِيبُوا مِنْهُمْ شَيْئًا،(6/882)
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ} [الفتح: 15] يُرِيدُونَ أَنْ يُغَيِّرُوا مَوَاعِيدَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ بِغَنِيمَةِ خَيْبَرَ خَاصَّةً، وقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَمْرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- ألا يسير منهم أحد، قال ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ قَوْلُ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-: {فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا} [التَّوْبَةِ: 83] وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ، وَعَلَيْهِ عَامَّةُ أَهْلِ التأويل، {قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15] إِلَى خَيْبَرَ، {كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 15] أَيْ مِنْ قَبْلِ مَرْجِعِنَا إِلَيْكُمْ أَنَّ غَنِيمَةَ خَيْبَرَ لِمَنْ شَهِدَ الْحُدَيْبِيَةَ لَيْسَ لِغَيْرِهِمْ فِيهَا نَصِيبٌ، {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} [الفتح: 15] أي يمنعكم الحسد أَنْ نُصِيبَ مَعَكُمُ الْغَنَائِمَ، {بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ} [الفتح: 15] لَا يَعْلَمُونَ عَنِ اللَّهِ مَا لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ مِنَ الدِّينِ، {إِلَّا قَلِيلًا} [الفتح: 15] مِنْهُمْ وَهُوَ مِنْ صِدْقِ اللَّهِ والرسول.
[قوله تعالى قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ] إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ. . .
[16] {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} [الفتح: 16] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَعَطَاءٌ: هُمْ أَهْلُ فَارِسَ. وَقَالَ كَعْبٌ: هُمُ الرُّومُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: فَارِسُ وَالرُّومُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَوَازِنُ وَثَقِيفٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَوَازِنُ وَغَطَفَانُ يَوْمَ حُنَيْنٍ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ وَمُقَاتِلٌ وَجَمَاعَةٌ: هُمْ بَنُو حَنِيفَةَ أَهْلُ الْيَمَامَةِ أَصْحَابُ مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ. قال زافر بْنُ خَدِيجٍ: كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةِ وَلَا نَعْلَمُ مَنْ هُمْ حَتَّى دَعَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ، فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ هم. وقال ابن جريش دَعَاهُمْ عُمَرُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- إِلَى قِتَالِ فَارِسَ. وَقَالَ أَبُو هريرة: لم يأت تأويل هَذِهِ الْآيَةُ بَعْدُ. {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا} [الفتح: 16] يعني الجنة، {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا} [الفتح: 16] تُعْرِضُوا {كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 16] عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، {يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16] وَهُوَ النَّارُ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ أَهْلُ الزَّمَانَةِ: كَيْفَ بنا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
[17] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ} [الفتح: 17] يَعْنِي فِي التَّخَلُّفِ عَنِ الْجِهَادِ، {وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 17]
[18] {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ} [الفتح: 18] بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يُنَاجِزُوا قُرَيْشًا ولا يفروا، {تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح: 18] وكانت سمرة، {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 18] مِنَ الصِّدْقِ وَالْوَفَاءِ، {فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ} [الفتح: 18] الطُّمَأْنِينَةَ وَالرِّضَا، {عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 18] يَعْنِي فَتْحَ خَيْبَرَ.
[19] {وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 19] مِنْ أَمْوَالِ يَهُودِ خَيْبَرَ، وَكَانَتْ خَيْبَرُ ذَاتَ عَقَارٍ وَأَمْوَالٍ، فَاقْتَسَمَهَا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَيْنَهُمْ، {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 19]
[20] {وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا} [الفتح: 20] وَهِيَ الْفُتُوحُ الَّتِي تُفْتَحُ لَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، {فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ} [الفتح: 20] يَعْنِي خَيْبَرَ، {وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ} [الفتح: 20](6/883)
وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمَّا قَصَدَ خَيْبَرَ وَحَاصَرَ أَهْلَهَا هَمَّتْ قَبَائِلُ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ أَنْ يُغِيرُوا عَلَى عِيَالِ الْمُسْلِمِينَ وَذَرَارِيِّهِمْ بِالْمَدِينَةِ، فَكَفَّ اللَّهُ أَيْدِيَهُمْ بِإِلْقَاءِ الرُّعْبِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَقِيلَ: كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ بالصلح، {وَلِتَكُونَ} [الفتح: 20] كفهم وسلامتكم، {آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 20] عَلَى صِدْقِكَ وَيَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْمُتَوَلِّي حِيَاطَتَهُمْ وَحِرَاسَتَهُمْ فِي مَشْهَدِهِمْ وَمَغِيبِهِمْ، {وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا} [الفتح: 20] يُثَبِّتُكُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ وَيَزِيدُكُمْ بَصِيرَةً وَيَقِينًا بِصُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَفَتْحِ خَيْبَرَ.
[21] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا} [الفتح: 21] وَعْدُكُمُ اللَّهَ فَتَحَ بَلْدَةٍ أُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا، {قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا} [الفتح: 21] حَتَّى يَفْتَحَهَا لَكُمْ كَأَنَّهُ حَفِظَهَا وَمَنَعَهَا مِنْ غَيْرِكُمْ حَتَّى تَأْخُذُوهَا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَلَّمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَفْتَحُهَا لَكُمْ، وَاخْتَلَفُوا فِيهَا، فقال ابن عباس وَمُقَاتِلٌ: هِيَ فَارِسُ وَالرُّومُ، وَمَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَقْدِرُ عَلَى قِتَالِ فَارِسَ وَالرُّومِ، بَلْ كَانُوا خُوَّلًا لَهُمْ حَتَّى قَدَرُوا عَلَيْهَا بِالْإِسْلَامِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ: هِيَ خَيْبَرُ وَعْدَهَا اللَّهُ نَبِيَّهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَبْلَ أَنْ يُصِيبَهَا، وَلَمْ يَكُونُوا يَرْجُونَهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ مَكَّةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حُنَيْنٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا فَتَحُوا حَتَّى الْيَوْمَ، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الفتح: 21]
[22] {وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: 22] يعني أسد وَغَطَفَانَ وَأَهْلَ خَيْبَرَ، {لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ} [الفتح: 22] لَانْهَزَمُوا، {ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} [الفتح: 22]
[23] {سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ} [الفتح: 23] أي سنة اللَّهِ فِي نَصْرِ أَوْلِيَائِهِ وَقَهْرِ أَعْدَائِهِ، {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} [الفتح: 23]
[قوله تَعَالَى وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ] عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ. . .
[24] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} [الفتح: 24]
[25] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الفتح: 25] يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، {وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الفتح: 25] أن تطوفوا به عام الحديبية، {وَالْهَدْيَ} [الفتح: 25] أَيْ وَصَدُّوا الْهَدْيَ وَهِيَ الْبُدْنُ الَّتِي سَاقَهَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَتْ سَبْعِينَ بدنة، {مَعْكُوفًا} [الفتح: 25] مَحْبُوسًا، يُقَالُ: عَكَفْتُهُ عَكْفًا إِذَا حَبَسْتُهُ وَعُكُوفًا لَازِمٌ، كَمَا يُقَالُ: رَجَعَ رَجْعًا وَرُجُوعًا، {أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] مَنْحَرَهُ وَحَيْثُ يَحُلُّ نَحْرُهُ يَعْنِي الْحَرَمَ، {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح: 25] يَعْنِي الْمُسْتَضْعَفِينَ بِمَكَّةَ، {لَمْ تَعْلَمُوهُمْ} [الفتح: 25] لم تعرفوهم، {أَنْ تَطَئُوهُمْ} [الفتح: 25] بالقتال وَتُوقِعُوا بِهِمْ، {فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الفتح: 25] قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعَرَّةٌ إِثْمٌ. وَقَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: غُرْمُ الدِّيَةِ. وقيل: الكفارة لأن الله أَوْجَبَ عَلَى قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ - إِذَا لَمْ يُعْلَمُ إِيمَانُهُ - الْكَفَّارَةَ دُونَ الدِّيَةِ، فَقَالَ: {فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النِّسَاءِ: 92] وَقِيلَ: هُوَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَعِيبُونَكُمْ وَيَقُولُونَ قَتَلُوا أَهْلَ دِينَهُمْ، وَالْمَعَرَّةُ الْمَشَقَّةُ، يَقُولُ: لَوْلَا أَنْ تَطَئُوا رِجَالًا مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءً مُؤْمِنَاتٍ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ فَيَلْزَمُكُمْ بِهِمْ كَفَّارَةٌ أَوْ يَلْحَقُكُمْ سُبَّةٌ، وَجَوَابُ لَوْلَا مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: لَأُذِنَ لَكُمْ فِي دُخُولِهَا وَلَكِنَّهُ حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ. {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الفتح: 25] فَاللَّامُ فِي لِيُدْخِلَ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، يَعْنِي حَالَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ذَلِكَ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ فِي دِينِ الْإِسْلَامِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ بَعْدَ الصُّلْحِ قَبْلَ أَنْ تدخلوها، {لَوْ تَزَيَّلُوا} [الفتح: 25] لَوْ تَمَيَّزُوا يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْكُفَّارِ، {لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 25] بِالسَّبْيِ وَالْقَتْلِ بِأَيْدِيكُمْ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: لَعَذَّبْنَا جَوَابٌ لِكَلَامَيْنِ أَحَدِهِمَا: (لَوْلَا رِجَالٌ) ، وَالثَّانِي: (لَوْ تَزَيَّلُوا) ، ثُمَّ قَالَ: {لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} [الفتح: 25] يعني المؤمنين والمؤمنات، وقوله: (في رحمته) ، أي جنته. وَقَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إن الله يدفع بالمؤمن عن الكفار كما دفع بالمستضعفين من المؤمنين عن مشركي مكة.(6/884)
[26] {إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ} [الفتح: 26] حِينَ صَدُّوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابَهُ عَنِ البيت عام الحديبية، وَلَمْ يُقِرُّوا بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَأَنْكَرُوا مُحَمَّدًا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالْحَمِيَّةُ: الْأَنَفَةُ، يُقَالُ: فَلَانَ ذُو حَمِيَّةٍ إِذَا كَانَ ذَا غَضَبٍ وَأَنَفَةٍ. قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ أَهْلُ مَكَّةَ: قَدْ قَتَلُوا أَبْنَاءَنَا وَإِخْوَانَنَا ثُمَّ يَدْخُلُونَ عَلَيْنَا، فَتَتَحَدَّثُ الْعَرَبُ أَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْنَا عَلَى رَغْمِ أَنْفِنَا، وَاللَّاتِ وَالْعُزَّى لَا يَدْخُلُونَهَا عَلَيْنَا، فهذه {حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ} [الفتح: 26] الَّتِي دَخَلَتْ قُلُوبَهُمْ، {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 26] حَتَّى لَمْ يَدْخُلْهُمْ مَا دَخْلَهُمْ مِنَ الْحَمِيَّةِ فَيَعْصُوا اللَّهَ فِي قتالهم، {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى} [الفتح: 26] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: كَلِمَةُ التَّقْوَى "لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ". وَرُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ مَرْفُوعًا. وَقَالَ عَلِيٌّ وَابْنُ عُمَرَ: كَلِمَةُ التَّقْوَى لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ. وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ. وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: هِيَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. {وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا} [الفتح: 26] من كفار مكة، {وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] أَيْ وَكَانُوا أَهْلَهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَ لِدِينِهِ وَصُحْبَةِ نَبِيِّهِ أَهْلَ الْخَيْرِ {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} [الفتح: 26]
[قوله تَعَالَى لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ] لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ. . .
[27] {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أُرِيَ فِي الْمَنَامِ بِالْمَدِينَةِ قَبْلَ أَنْ يَخْرُجَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ يَدْخُلُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ آمِنِينَ وَيُحَلِّقُونَ رَءُوسَهُمْ وَيُقَصِّرُونَ، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ أَصْحَابَهُ، فَفَرِحُوا وحبوا أَنَّهُمْ دَاخِلُو مكةَ عَامَهُمْ ذَلِكَ فَلَمَّا انْصَرَفُوا وَلَمْ يَدْخُلُوا شَقَّ عليهم ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَرُوِيَ عَنْ مَجْمَعِ بْنِ [جَارِيَةَ] الْأَنْصَارِيِّ. قَالَ «شَهْدِنَا الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَلَمَّا انْصَرَفْنَا عَنْهَا إِذَا النَّاسُ يَهُزُّونَ الْأَبَاعِرَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا بَالُ النَّاسِ؟ فَقَالُوا: أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- قال فخرجنا نرجف، فَوَجَدْنَا النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاقِفًا عَلَى رَاحِلَتِهِ عِنْدَ كُرَاعِ الْغَمِيمِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ قَرَأَ: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا} [الفتح: 1] فقال عمر: أوفتح هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ) » (1) . فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَتَحَقُّقُ الرُّؤْيَا كَانَ فِي الْعَامِ الْمُقْبِلِ، فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ} [الفتح: 27] أَخْبَرَ أَنَّ الرُّؤْيَةَ الَّتِي أَرَاهُ إِيَّاهَا فِي مَخْرَجِهِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ أَنَّهُ يَدْخُلُ هُوَ وَأَصْحَابُهُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ صِدْقٌ وَحَقٌّ. قَوْلُهُ: (لَتَدْخُلُنَّ) يَعْنِي وَقَالَ: لَتَدْخُلُنَّ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: لَتَدْخُلُنَّ مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
_________
(1) أخرجه أحمد (3 / 420) ، وأبو داود (2 / 52) ، والحاكم (2 / 131) وقال: "صحيح الإسناد ولم يخرجاه" ووفقه الذهبي.(6/885)
لِأَصْحَابِهِ حِكَايَةً عَنْ رُؤْيَاهُ، فَأَخْبَرَ الله عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا اسْتَثْنَى مَعَ عِلْمِهِ بِدُخُولِهَا بِإِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى، تَأَدُّبًا بِآدَابِ اللَّهِ، حَيْثُ قَالَ لَهُ: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا - إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الْكَهْفِ: 23 - 24] وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: (إِنْ) بِمَعْنَى إِذْ مَجَازُهُ: إِذْ شَاءَ اللَّهُ، كَقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِثْنَاءُ مِنَ الدُّخُولِ لِأَنَّ بَيْنَ الرُّؤْيَا وَتَصْدِيقِهَا سَنَةٌ، وَمَاتَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ نَاسٌ فَمَجَازُ الْآيَةِ: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ كُلُّكُمْ إِنْ شَاءَ اللَّهُ) ، وَقِيلَ الاستثناء واقع على الأمر لَا عَلَى الدُّخُولِ، لِأَنَّ الدُّخُولَ لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَكٌّ، كَقَوْلِ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عِنْدَ دُخُولِ الْمَقْبَرَةِ: «وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ» (1) . فَالِاسْتِثْنَاءُ راجع إلى اللحوق بِأَهْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَا إِلَى الْمَوْتِ. {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27] كلها، {وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] بِأَخْذِ بَعْضِ شُعُورِهَا، {لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا} [الفتح: 27] أَنَّ الصَّلَاحَ كَانَ فِي الصُّلْحِ وَتَأْخِيرِ الدُّخُولِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ} [الفتح: 25] الآية. {فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} [الفتح: 27] أَيْ مِنْ قَبْلِ دُخُولِكُمْ الْمَسْجِدَ الحرام، {فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] وَهُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ، وَقِيلَ: فَتْحُ خَيْبَرَ.
[28] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] على أنك نبي صادق صالح فِيمَا تُخْبِرُ.
[29] {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ} [الفتح: 29] تم الكلام هاهنا، قال ابْنُ عَبَّاسٍ، شَهِدَ لَهُ بِالرِّسَالَةِ، ثُمَّ قَالَ مُبْتَدِئًا {وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29] قالوا: وفيه واو الاستئناف أَيْ وَالَّذِينَ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} [الفتح: 29] غِلَاظٌ عَلَيْهِمْ كَالْأَسَدِ عَلَى فَرِيسَتِهِ لَا تَأْخُذُهُمْ فِيهِمْ رَأْفَةٌ، {رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] مُتَعَاطِفُونَ مُتَوَادُّونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَالْوَلَدِ مَعَ الْوَالِدِ، كَمَا قَالَ: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54] {تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا} [الفتح: 29] أَخْبَرَ عَنْ كَثْرَةِ صَلَاتِهِمْ وَمُدَاوَمَتِهِمْ عَلَيْهَا، {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ} [الفتح: 29] أن يدخلهم الجنة، {وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] أن يرضى عنهم، {سِيمَاهُمْ} [الفتح: 29] أَيْ عَلَامَتُهُمْ، {فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} [الفتح: 29] اختلفوا في هذا السِّيمَا، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ نُورٌ وَبَيَاضٌ فِي وُجُوهِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُعْرَفُونَ بِهِ أَنَّهُمْ سَجَدُوا فِي الدُّنْيَا، وَهُوَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: اسْتَنَارَتْ وُجُوهُهُمْ مِنْ كَثْرَةِ مَا صَلُّوا. وَقَالَ شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ: تَكُونُ. مَوَاضِعُ السُّجُودِ مِنْ وُجُوهِهِمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ السَّمْتُ الْحَسَنُ وَالْخُشُوعُ وَالتَّوَاضُعُ. وَهُوَ رِوَايَةُ الْوَالِبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَيْسَ بِالَّذِي تَرَوْنَ لَكِنَّهُ سِيمَاءُ الْإِسْلَامِ وَسَجِيَّتُهُ وَسَمْتُهُ وَخُشُوعُهُ. وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ: وَالْمَعْنَى أَنَّ السُّجُودَ أَوْرَثَهُمُ الْخُشُوعَ وَالسَّمْتُ الْحَسَنُ الَّذِي يُعْرَفُونَ بِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ صُفْرَةُ الْوَجْهِ مِنَ السَّهَرِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ مَرْضَى وَمَا هُمْ بِمَرْضَى. قَالَ عِكْرِمَةُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ أَثَرُ التُّرَابِ عَلَى الجباه. قال أبو العالية لأنهم يَسْجُدُونَ عَلَى التُّرَابِ لَا عَلَى الْأَثْوَابِ. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ كُلُّ مَنْ حَافَظَ عَلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. {ذَلِكَ} [الفتح: 29] الذي ذكرت، {مَثَلُهُمْ} [الفتح: 29] صفتهم {فِي التَّوْرَاةِ} [الفتح: 29] هَاهُنَا تَمَّ الْكَلَامُ ثُمَّ ذَكَرَ نَعْتَهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ، فَقَالَ: {وَمَثَلُهُمْ} [الفتح: 29] صِفَتُهُمْ، {فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} [الفتح: 29] أراد فراخه، يُقَالُ أَشْطَأَ الزَّرْعُ فَهُوَ مُشْطِئٌ إِذَا أَفْرَخَ، قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ نَبْتٌ وَاحِدٌ فَإِذَا خَرَجَ مَا بَعْدَهُ فَهُوَ شَطْؤُهُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ. هُوَ أَنْ يُخْرِجَ مَعَهُ الطَّاقَةَ الأخرى. قوله: {فَآزَرَهُ} [الفتح: 29] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: (فَأَزَرَهُ) بِالْقَصْرِ. وَالْبَاقُونَ بِالْمَدِّ، أَيْ قَوَّاهُ وَأَعَانَهُ وشد أزره، {فَاسْتَغْلَظَ} [الفتح: 29] ذلك الزرع، {فَاسْتَوَى} [الفتح: 29] أَيْ تَمَّ وَتَلَاحَقَ نَبَاتُهُ وَقَامَ، {عَلَى سُوقِهِ} [الفتح: 29]
_________
(1) قطعة من حديث أخرجه مسلم في الجنائز برقم (975) 2 / 671.(6/886)
، أصوله، {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ} [الفتح: 29] أَعْجَبَ ذَلِكَ زُرَّاعَهُ، هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْإِنْجِيلِ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ قَلِيلًا، ثُمَّ يَزْدَادُونَ وَيَكْثُرُونَ. قَالَ قَتَادَةُ: مَثَلُ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْإِنْجِيلِ مَكْتُوبٌ أَنَّهُ سَيَخْرُجُ قَوْمٌ يَنْبُتُونَ نَبَاتَ الزَّرْعِ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وَقِيلَ: الزَّرْعُ مُحَمَّدٌ والشطء أصحابه والمؤمنون، {لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29] أَيْ إِنَّمَا كَثَّرَهُمْ وَقَوَّاهُمْ لِيَكُونُوا غَيْظًا لِلْكَافِرِينَ. قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْ أَصْبَحَ وَفِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ أصابته هَذِهِ الْآيَةَ. {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ} [الفتح: 29] قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي مِنَ الشَّطْءِ الَّذِي أَخْرَجَهُ الزَّرْعُ، وَهُمُ الدَّاخِلُونَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ الزَّرْعِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَرَدَّ الْهَاءَ وَالْمِيمَ عَلَى مَعْنَى الشَّطْءِ لَا عَلَى لَفْظِهِ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ: منه، {مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] يعني الجنة. والله أعلم.
[سورة الحجرات]
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ] يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ. . .
(49) سورة الحجرات [1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] قَرَأَ يَعْقُوبُ: (لَا تقدَّموا) بِفَتْحِ التَّاءِ وَالدَّالِ، مِنَ التَّقَدُّمِ أَيْ لَا تَتَقَدَّمُوا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، مِنَ التَّقْدِيمِ، وهو لازم بمعنى التقدم، مثل بين وتبين، وقيل: هو متعد على ظاهره والمفعول محذوف، أي: لا تقدموا القول بالفعل بين يدي الله ورسوله. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ تَقُولُ الْعَرَبُ: لَا تَقَدَّمْ بَيْنَ يَدَيِ الْإِمَامِ وَبَيْنَ يَدَيِ الْأَبِ، أَيْ لَا تعجل بالأمر والنهي دونه، ومعنى: بَيْنَ الْيَدَيْنِ الْأَمَامُ وَالْقُدَّامُ: أَيْ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ أَمْرِهِمَا وَنَهْيِهِمَا. وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ جَابِرٍ أَنَّهُ فِي الذَّبْحِ يَوْمَ الْأَضْحَى، وَهُوَ قَوْلُ الحسين، أَيْ لَا تَذْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَذَلِكَ أَنَّ نَاسًا ذَبَحُوا قَبْلَ صَلَاةِ النَّبِيِّ، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُعِيدُوا الذبح، وَرَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهُ فِي النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ، أَيْ لَا تَصُومُوا قَبْلَ أن يصوم نبيكم. وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي نَاسٍ كَانُوا يَقُولُونَ لَوْ أُنْزِلَ في كذا، وصُنع فِي كَذَا وَكَذَا، فَكَرِهَ اللَّهُ ذلك. وقال مجاهد: لا تفتئوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِشَيْءٍ حَتَّى يَقْضِيَهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي فِي الْقِتَالِ وَشَرَائِعِ الدِّينِ لَا تَقْضُوا أَمْرًا دُونَ اللَّهِ ورسوله. {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات: 1] فِي تَضْيِيعِ حَقِّهِ وَمُخَالَفَةِ أَمْرِهِ، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ} [الحجرات: 1] لأقوالكم، {عَلِيمٌ} [الحجرات: 1] بِأَفْعَالِكُمْ.
[2] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ} [الحجرات: 2] أَمَرَهُمْ أَنْ يُبَجِّلُوهُ وَيُفَخِّمُوهُ وَلَا يرفعوا أصواتهم عنه وَلَا يُنَادُونَهُ كَمَا يُنَادِي بَعْضُهُمْ بعضا، {أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ} [الحجرات: 2] لِئَلَّا تَحْبَطَ حَسَنَاتُكُمْ. وَقِيلَ: مَخَافَةَ أَنْ(6/887)
تَحْبَطَ حَسَنَاتُكُمْ: {وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات: 2]
[3] {إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ} [الحجرات: 3] يَخْفِضُونَ {أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ} [الحجرات: 3] إِجْلَالًا لَهُ، {أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى} [الحجرات: 3] اخْتَبَرَهَا وَأَخْلَصَهَا كَمَا يُمْتَحَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ فَيَخْرُجُ خَالِصُهُ، {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [الحجرات: 3]
[4] {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ} [الْحُجُرَاتِ: 4] قَرَأَ الْعَامَّةُ بِضَمِّ الْجِيمِ، وقرأ أبو جعفر فتح الْجِيمِ، وَهُمَا لُغَتَانِ، وَهِيَ جَمْعُ الحُجَر، والحُجَر جُمَعُ الحُجْرة فَهِيَ جمع الجمع. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَرِيَّةً إِلَى بَنِي الْعَنْبَرِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ عُيَيْنَةَ بْنَ حِصْنٍ الْفَزَارِيَّ، فَلَمَّا عَلِمُوا أَنَّهُ تَوَجَّهَ نَحْوَهُمْ هَرَبُوا وَتَرَكُوا عِيَالَهُمْ، فَسَبَاهُمْ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنٍ وَقَدِمَ بِهِمْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَجَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ رِجَالُهُمْ يَفْدُونَ الذراري، فَجَعَلُوا يُنَادُونَ: يَا مُحَمَّدُ اخْرُجْ إلينا، ويصيحون، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات: 4] وصفهم بالجهل وقلة العقل.
[قوله تعالى وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ] لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ. . .
[5] {وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ} [الحجرات: 5] قَالَ مُقَاتِلٌ: لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ لِأَنَّكَ كُنْتَ تَعْتِقُهُمْ جَمِيعًا وَتُطْلِقُهُمْ بِلَا فِدَاءٍ، {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 5] وَقَالَ قَتَادَةُ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنْ أَعْرَابِ بَنِي تَمِيمٍ جَاءُوا إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- فَنَادَوْا عَلَى الْبَابِ: اخْرُجْ إِلَيْنَا يا محمد.
[6] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: « {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6] الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، بَعَثَهُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى بَنِي الْمُصْطَلِقِ بَعْدَ الْوَقْعَةِ مُصَدِّقًا وَكَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَدَاوَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَلَمَّا سَمِعَ بِهِ الْقَوْمُ تَلَقُّوهُ تَعْظِيمًا لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَحَدَّثَهُ الشَّيْطَانُ أَنَّهُمْ يُرِيدُونَ قَتْلَهُ فَهَابَهُمْ فَرَجَعَ مِنَ الطَّرِيقِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- وقال: إِنْ بَنِي الْمُصْطَلِقِ قَدْ مَنَعُوا صَدَقَاتِهِمْ وَأَرَادُوا قَتْلِي، فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وهمّ أن يغزوهم، وَبَعَثَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَيْهِمْ خُفْيَةً فِي عَسْكَرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يُخْفِيَ عَلَيْهِمْ قُدُومَهُ، وَقَالَ لَهُ: انْظُرْ فَإِنْ رَأَيْتَ مِنْهُمْ مَا يَدُلُّ عَلَى إِيمَانِهِمْ فَخُذْ مِنْهُمْ زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ، وَإِنْ لَمْ تَرَ ذَلِكَ فَاسْتَعْمِلْ فِيهِمْ مَا يُسْتَعْمَلُ فِي الْكُفَّارِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ خَالِدٌ وَوَافَاهُمْ فَسَمِعَ مِنْهُمْ أَذَانَ صَلَاتَيِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، فَأَخَذَ مِنْهُمْ صَدَقَاتِهِمْ وَلَمْ يَرَ مِنْهُمْ إِلَّا الطَّاعَةَ وَالْخَيْرَ، فَانْصَرَفَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَخْبَرَهُ الْخَبَرَ» (1) فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ) يَعْنِي الْوَلِيدَ بْنَ عُقْبَةَ، (بنبأ) ، بخبر، {أَنْ تُصِيبُوا} [الحجرات: 6] كَيْ لَا تُصِيبُوا بِالْقَتْلِ وَالْقِتَالِ، {قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] من إصابتكم بالخطأ.
_________
(1) أخرجه الطبري 26 / 123 والإمام أحمد 4 / 279 وعبد الرزاق في التفسير 2 / 231.(6/888)
[7] {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ} [الحجرات: 7] فَاتَّقُوا اللَّهَ أَنْ تَقُولُوا بَاطِلًا أَوْ تُكَذِّبُوهُ، فَإِنَّ اللَّهَ يُخْبِرُهُ وَيُعَرِّفُهُ أَحْوَالَكُمْ فَتَفْتَضِحُوا، {لَوْ يُطِيعُكُمْ} [الحجرات: 7] أَيِ الرَّسُولُ، {فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ} [الحجرات: 7] مِمَّا تُخْبِرُونَهُ بِهِ فَيَحْكُمُ بِرَأْيِكُمْ، {لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7] لَأَثِمْتُمْ وَهَلَكْتُمْ، وَالْعَنَتُ: الْإِثْمُ وَالْهَلَاكُ. {وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ} [الحجرات: 7] فَجَعَلَهُ أَحَبَّ الْأَدْيَانِ إِلَيْكُمْ، {وَزَيَّنَهُ} [الحجرات: 7] حسنه، {فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 7] حتى اخترتموه وتطيعوا رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ} [الحجرات: 7] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْكَذِبَ، {وَالْعِصْيَانَ} [الحجرات: 7] جَمِيعَ مَعَاصِي اللَّهِ، ثُمَّ عَادَ مِنَ الْخِطَابِ إِلَى الْخَبَرِ، وَقَالَ: {أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ} [الحجرات: 7] المهتدون.
[8] {فَضْلًا} [الحجرات: 8] أَيْ كَانَ هَذَا فَضْلًا، {مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الحجرات: 8]
[9] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9] بِالدُّعَاءِ إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ وَالرِّضَا بِمَا فِيهِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا، {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا} [الحجرات: 9] تعدت إحداهما، {عَلَى الْأُخْرَى} [الحجرات: 9] وَأَبَتِ الْإِجَابَةَ إِلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ، {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ} [الحجرات: 9] ترجع {إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] في كتابه وحكمه، {فَإِنْ فَاءَتْ} [الحجرات: 9] رَجَعَتْ إِلَى الْحَقِّ، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} [الحجرات: 9] بِحَمْلِهِمَا عَلَى الْإِنْصَافِ وَالرِّضَا بِحُكْمِ الله، {وَأَقْسِطُوا} [الحجرات: 9] اعْدِلُوا {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]
[10] {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فِي الدِّينِ وَالْوِلَايَةِ، {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] إذا اختلفا واقتتلا، {وَاتَّقُوا اللَّهَ} [الحجرات: 10] فَلَا تَعْصُوهُ وَلَا تُخَالِفُوا أَمْرَهُ، لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ.
[11] وَقَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} [الحجرات: 11] أي رجال من رجال، والقوم اسْمٌ يَجْمَعُ الرِّجَالَ وَالنِّسَاءَ، وَقَدْ يَخْتَصُّ بِجَمْعِ الرِّجَالِ، {عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] أَيْ لَا يَعِبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَلَا يَطْعَنْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، {وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ} [الحجرات: 11] التَّنَابُزُ التَّفَاعُلُ مِنَ النَّبْزِ وَهُوَ اللَّقَبُ، وَهُوَ أَنْ يُدْعَى الْإِنْسَانُ بِغَيْرِ مَا سُمّي بِهِ. قَالَ عكرمة: وهو قَوْلُ الرَّجُلِ لِلرَّجُلِ: يَا فَاسِقُ يَا مُنَافِقُ يَا كَافِرُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَ الْيَهُودِيُّ وَالنَّصْرَانِيُّ يُسْلِمُ، فَيُقَالُ لَهُ بَعْدَ إِسْلَامِهِ يَا يهودي يا نصراني، فنهوا عنه ذَلِكَ. قَالَ عَطَاءٌ: هُوَ أَنْ تَقُولَ لِأَخِيكَ: يَا كَلْبُ يَا حِمَارُ يَا خِنْزِيرُ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: التَّنَابُزُ بِالْأَلْقَابِ أَنْ يَكُونَ الرَّجُلُ عَمِلَ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابَ عَنْهَا فنُهي أَنْ يعير بما سلف عن عَمَلِهِ، {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} [الحجرات: 11] أَيْ بِئْسَ الِاسْمُ أَنْ يَقُولَ: يَا يَهُودِيُّ أَوْ يَا فَاسِقُ بَعْدَ مَا آمَنَ وَتَابَ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّ مَنْ فَعَلَ مَا نُهي عَنْهُ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالنَّبْزِ فَهُوَ فَاسِقٌ، وَبِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ، فَلَا تَفْعَلُوا ذَلِكَ فَتَسْتَحِقُّوا اسْمَ الْفُسُوقِ، {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ} [الحجرات: 11] مِنْ ذَلِكَ {فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ] الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ. . .
[12] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] وَأَرَادَ أَنْ يَظُنَّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ شرا، {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12] قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: الظَّنُّ ظَنَّانِ أَحَدُهُمَا إِثْمٌ، وَهُوَ أَنْ تَظُنَّ وَتَتَكَلَّمَ بِهِ، وَالْآخَرُ لَيْسَ بِإِثْمٍ وَهُوَ أَنْ تَظُنَّ وَلَا تَتَكَلَّمَ. {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12] التَّجَسُّسُ هُوَ الْبَحْثُ عَنْ عُيُوبِ النَّاسِ، نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ البحث عن المستور من عيوب النَّاسِ وَتَتَبُّعِ عَوْرَاتِهِمْ حَتَّى لَا يَظْهَرَ عَلَى مَا سَتَرَهُ اللَّهُ منها، {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [الحجرات: 12] يَقُولُ: لَا يَتَنَاوَلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِظَهْرِ الْغَيْبِ بِمَا يَسُوءُهُ مِمَّا هو فِيهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «أَتُدْرُونَ مَا الْغَيْبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ما تقول فقد بهته» (1) . {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12]
_________
(1) أخرجه مسلم في البر والصلة برقم (2589) 4 / 2001 والمصنف في شرح السنة 13 / 138.(6/889)
، قَالَ مُجَاهِدٌ: لَمَّا قِيلَ لَهُمْ {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] قالوا: لا، قيل: {فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات: 12] أَيْ فَكَمَا كَرِهْتُمْ هَذَا فَاجْتَنِبُوا ذكره بالسوء غائبا. وقال الزَّجَّاجُ: تَأْوِيلُهُ: إِنَّ ذِكْرَكَ مَنْ لَمْ يَحْضُرْكَ بِسُوءٍ بِمَنْزِلَةِ أَكْلِ لَحْمِ أَخِيكَ، وَهُوَ مَيِّتٌ لَا يحس بذلك، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 12]
[13] {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} [الحجرات: 13] يَعْنِي آدَمَ وَحَوَّاءَ أَيْ إِنَّكُمْ مُتَسَاوُونَ فِي النَّسَبِ. {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا} [الحجرات: 13] جَمْعُ شَعْبٍ بِفَتْحِ الشِّينِ، وَهِيَ رُءُوسُ الْقَبَائِلِ مِثْلُ رَبِيعَةَ وَمُضَرَ وَالْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، سُمُّوا شُعُوبًا لِتَشَعُّبِهِمْ وَاجْتِمَاعِهِمْ، كَشُعَبِ أَغْصَانِ الشَّجَرِ، وَالشَّعْبُ مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ: شَعَبَ أَيْ جَمَعَ وَشَعَبَ أَيْ فَرَّقَ.
{وَقَبَائِلَ} [الحجرات: 13] هي دُونُ الشُّعُوبِ، وَاحِدَتُهَا قَبِيلَةٌ وَهِيَ كَبَكْرٍ مِنْ رَبِيعَةَ وَتَمِيمٍ مِنْ مُضَرَ، وَدُونَ الْقَبَائِلِ الْعَمَائِرُ، وَاحِدَتُهَا عمارة، بفتح العين وهي كَشَيْبَانَ مِنْ بِكْرٍ وَدَارِمٍ مِنْ تَمِيمٍ، وَدُونَ الْعَمَائِرِ الْبُطُونُ، وَاحِدَتُهَا بطن، وهي كَبَنِي غَالِبٍ وَلُؤَيٍّ مِنْ قُرَيْشٍ، وَدُونَ الْبُطُونِ الْأَفْخَاذُ وَاحِدَتُهَا فَخِذٌ وَهُمْ كَبَنِي هَاشِمٍ وَأُمَيَّةَ مِنْ بَنِي لُؤَيٍّ، ثُمَّ الْفَصَائِلُ وَالْعَشَائِرُ وَاحِدَتُهَا فَصِيلَةٌ وَعَشِيرَةٌ، وَلَيْسَ بَعْدَ الْعَشِيرَةِ حَيٌّ يُوصَفُ بِهِ وَقِيلَ: الشُّعُوبُ مِنَ الْعَجَمِ، وَالْقَبَائِلُ مِنَ الْعَرَبِ، وَالْأَسْبَاطُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وقال أبو روق: الشعوب من الَّذِينَ لَا يَعْتَزُّونَ إِلَى أَحَدٍ، بَلْ يَنْتَسِبُونَ إِلَى الْمَدَائِنِ وَالْقُرَى، وَالْقَبَائِلُ الْعَرَبُ الَّذِينَ يَنْتَسِبُونَ إِلَى آبائهم. {لِتَعَارَفُوا} [الحجرات: 13] لِيَعْرِفَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي قُرْبِ النَّسَبِ وَبُعْدِهِ، لَا لِيَتَفَاخَرُوا. ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ أَرْفَعَهُمْ مَنْزِلَةً عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاهُمْ فَقَالَ {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13] قَالَ قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: إِنَّ أَكْرَمَ الْكَرَمِ التَّقْوَى، وَأَلْأَمُ اللؤم الفجور.
[14] قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات: 14] الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي نَفَرٍ مِنَ بَنِي أَسَدِ بْنِ خُزَيْمَةَ قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي سَنَةٍ جَدْبَةٍ فَأَظْهَرُوا الْإِسْلَامَ وَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ فِي السِّرِّ، فَأَفْسَدُوا طُرُقَ الْمَدِينَةِ بِالْعَذِرَاتِ وَأَغْلَوْا أَسْعَارَهَا وَكَانُوا يَغْدُونَ وَيَرُوحُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيَقُولُونَ: أَتَتْكَ الْعَرَبُ بِأَنْفُسِهَا عَلَى ظُهُورِ رَوَاحِلِهَا، وَجِئْنَاكَ بِالْأَثْقَالِ وَالْعِيَالِ وَالذَّرَارِيِّ، وَلَمْ نُقَاتِلْكَ كَمَا قَاتَلَكَ بْنُو فُلَانٍ وَبْنُو فُلَانٍ، يُمَنُّونَ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُرِيدُونَ الصَّدَقَةَ، وَيَقُولُونَ أَعْطِنَا، فَأَنْزِلَ اللَّهُ فِيهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي الْأَعْرَابِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ، وَهُمْ أعراب من جُهَيْنَةَ وَمُزَيْنَةَ وَأَسْلَمَ وَأَشْجَعَ وَغِفَارٍ، كَانُوا يَقُولُونَ: آمَنَّا لِيَأْمَنُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، فَلَمَّا اسْتُنْفِرُوا إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ تَخَلَّفُوا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وجلّ- هذه الآية فيهم، {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا} [الحجرات: 14] صَدَّقْنَا، {قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14](6/890)
انْقَدْنَا وَاسْتَسْلَمْنَا مَخَافَةَ الْقَتْلِ وَالسَّبْيِ، {وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14] فَأَخْبَرَ أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ، وَأَنَّ الْإِقْرَارَ بِاللِّسَانِ وَإِظْهَارِ شَرَائِعِهِ بِالْأَبْدَانِ لَا يَكُونُ إِيمَانًا دون التصديق بالقلب والإخلاص، {وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الحجرات: 14] ظَاهِرًا وَبَاطِنًا سِرًّا وَعَلَانِيَةً. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ. تُخْلِصُوا الْإِيمَانَ، {لَا يَلِتْكُمْ} [الحجرات: 14] قرأ أبو عمر (يألتكم) بالألف كقوله تَعَالَى: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} [الطُّورِ: 21] وَالْآخَرُونَ بِغَيْرِ أَلْفٍ وَهُمَا لُغَتَانِ مَعْنَاهُمَا لَا يَنْقُصُكُمْ، يُقَالُ: أَلِتَ يَأْلِتُ أَلْتًا وَلَاتَ يَلِيتُ لَيْتًا إِذَا نقص، {مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا} [الحجرات: 14] أَيْ لَا يَنْقُصُ مِنْ ثَوَابِ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحجرات: 14] ثُمَّ بَيَّنَ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ.
[15] فَقَالَ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] لَمْ يَشُكُّوا فِي دِينِهِمْ، {وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] فِي إِيمَانِهِمْ. فَلَمَّا نَزَلَتْ هَاتَانِ الْآيَتَانِ أَتَتِ الْأَعْرَابُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ صَادِقُونَ، وَعَرَفَ اللَّهُ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْهُمْ.
[16] فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ} [الحجرات: 16] وَالتَّعْلِيمُ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بِدِينِكُمْ وَأَدْخَلَ الْبَاءَ فِيهِ، يَقُولُ أَتُخْبِرُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمُ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم} [الحجرات: 16] أي لَا يَحْتَاجُ إِلَى إِخْبَارِكُمْ.
[17] {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ} [الحجرات: 17] أَيْ بِإِسْلَامِكُمْ، {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات: 17] إِنَّكُمْ مُؤْمِنُونَ.
[18] {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحجرات: 18] قرأ ابن كثير بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ.
[سُورَةُ ق]
[قوله تعالى ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ] مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ. . .
(50) سورة ق [1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ قَسَمٌ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ لِلسُّورَةِ، وَقِيلَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: هُوَ مِفْتَاحُ اسمه القدير، والقادر والقاهر والقريب والقابض. {وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ} [ق: 1] الشَّرِيفِ الْكَرِيمِ عَلَى اللَّهِ الْكَثِيرِ الخير. واختلفوا في جواب هذا الْقَسَمِ، فَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: جَوَابُهُ بَلْ عَجِبُوا وَقِيلَ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ، مَجَازُهُ: وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ لَتُبْعَثُنَّ. وَقِيلَ: جَوَابُهُ قَوْلُهُ مَا يَلْفِظُ مِنْ قول. وقيل: قد علمنا.
[2] {بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ} [ق: 2] مخوف، {مِنْهُمْ} [ق: 2] يَعْرِفُونَ نَسَبَهُ وَصِدْقَهُ وَأَمَانَتَهُ، {فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ} [ق: 2] غَرِيبٌ.
[3] {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا} [ق: 3] نُبْعَثُ، تَرَكَ ذِكْرَ الْبَعْثِ لِدَلَالَةِ الكلام عليه، {ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ} [ق: 3] وَغَيْرُ كَائِنٍ أَيْ يَبْعُدُ أَنْ نُبْعَثَ بَعْدَ الْمَوْتِ.
[4] قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ} [ق: 4] أي ما تَأْكُلُ مِنْ لُحُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَعِظَامِهِمْ لَا يَعْزُبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ. قَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْمَوْتُ، يَقُولُ: قَدْ عَلِمْنَا مَنْ يَمُوتُ مِنْهُمْ وَمَنْ يَبْقَى، {وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ} [ق: 4] مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ وَمِنْ أَنْ يدس ويتغير، وَقِيلَ: حَفِيظٌ أَيْ حَافِظٌ لِعِدَّتِهِمْ وأسمائهم.
[5] {بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ} [ق: 5] بِالْقُرْآنِ، {لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ} [ق: 5] مُخْتَلِطٍ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مُلْتَبِسٌ. قَالَ قَتَادَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْ تَرَكَ الْحَقَّ مُرِجَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ وَالْتَبَسَ عَلَيْهِ دِينُهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا تَرَكَ قَوْمٌ الْحَقَّ إِلَّا مُرِجَ أَمْرُهُمْ. وَذَكَرَ الزَّجَّاجُ مَعْنَى اخْتِلَاطِ أَمْرِهِمْ فَقَالَ: هُوَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلنَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرَّةً شَاعِرٌ، وَمَرَّةً سَاحِرٌ، وَمَرَّةً(6/891)
مُعَلَّمٌ، وَيَقُولُونَ لِلْقُرْآنِ مَرَّةً سِحْرٌ، وَمَرَّةً رَجَزٌ، وَمَرَّةً مُفْتَرًى، فَكَانَ أمرهم مختلطا ملتبسا عليهم، ثُمَّ دَلَّهُمْ عَلَى قُدْرَتِهِ.
[6] فَقَالَ: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا} [ق: 6] بغير عمد، {وَزَيَّنَّاهَا} [ق: 6] بِالْكَوَاكِبِ، {وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ} [ق: 6] شُقُوقٍ وَفُتُوقٍ وَصُدُوعٍ وَاحِدُهَا فَرْجٌ.
[7] {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا} [ق: 7] بَسَطْنَاهَا عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [ق: 7] جِبَالًا ثَوَابِتَ، {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] حَسَنٍ كَرِيمٍ يُبْهَجُ بِهِ، أَيْ يسر.
[8] {تَبْصِرَةً} [ق: 8] أَيْ جَعَلْنَا ذَلِكَ تَبْصِرَةً، {وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} [ق: 8] أي ليبصروا بِهِ وَيَتَذَكَّرَ بِهِ.
[9] {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9] كَثِيرَ الْخَيْرِ وَفِيهِ حَيَاةُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْمَطَرُ، {فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} [ق: 9] يَعْنِي الْبُرَّ وَالشَّعِيرَ وَسَائِرَ الْحُبُوبِ الَّتِي تَحْصُدُ فَأَضَافَ الْحَبَّ إِلَى الْحَصِيدِ، وَهُمَا وَاحِدٌ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ، كَمَا يُقَالُ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ وَرَبِيعُ الأول. وقيل: حب الْحَصِيدِ أَيْ وَحَبُّ النَّبْتِ الْحَصِيدِ.
[10] {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ} [ق: 10] قَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وقَتَادَةُ: طِوَالًا. يُقَالُ: بَسَقَتِ النَّخْلَةُ بُسُوقًا إِذَا طَالَتْ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مستويات. {لَهَا طَلْعٌ} [ق: 10] ثَمَرٌ وَحَمْلٌ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَطَّلِعُ، وَالطَّلْعُ أَوَّلُ مَا يَظْهَرُ قبل أن ينشق، {نَضِيدٌ} [ق: 10] مُتَرَاكِبٌ مُتَرَاكِمٌ مَنْضُودٌ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ فِي أَكْمَامِهِ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ أَكْمَامِهِ فَلَيْسَ بِنَضِيدٍ.
[11] {رِزْقًا لِلْعِبَادِ} [ق: 11] أَيْ جَعَلْنَاهَا رِزْقًا لِلْعِبَادِ، {وَأَحْيَيْنَا بِهِ} [ق: 11] بالمطر، {بَلْدَةً مَيْتًا} [ق: 11] أَنْبَتْنَا فِيهَا الْكَلَأَ {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 11] مِنَ الْقُبُورِ.
[12 - 14] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ- {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ - وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ - وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ} [ق: 12 - 14] وَهُوَ تُبَّعٌ الْحِمْيَرِيُّ، وَاسْمُهُ أَسْعَدُ أَبُو كَرِبٍ، قَالَ قَتَادَةُ: ذَمَّ الله قومه وَلَمْ يَذُمَّهُ، ذَكَرْنَا قِصَّتَهُ فِي سُورَةِ الدُّخَانِ (1) {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ} [ق: 14] أَيْ كُلٌّ مِنْ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ كذب الرسل، {فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14] وجب لهما عَذَابِي، ثُمَّ أَنْزَلَ جَوَابًا لِقَوْلِهِمْ ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ.
[15] {أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ} [ق: 15] يَعْنِي أَعَجَزْنَا حِينَ خَلَقْنَاهُمْ أَوَّلًا فَنَعْيَا بِالْإِعَادَةِ وَهَذَا تَقْرِيرٌ لَهُمْ لِأَنَّهُمُ اعْتَرَفُوا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ، وَيُقَالُ لِكُلِّ مَنْ عَجَزَ عَنْ شَيْءٍ عَيِيَ بِهِ. {بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ} [ق: 15] أَيْ فِي شَكٍّ، {مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} [ق: 15] وهو البعث.
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ] بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ. . .
[16] {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] يحدث به قلبه فلا يَخْفَى عَلَيْنَا سَرَائِرُهُ وَضَمَائِرُهُ، {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ} [ق: 16] أَعْلَمُ بِهِ، {مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]
_________
(1) آية (37) .(6/892)
لِأَنَّ أَبْعَاضَهُ وَأَجْزَاءَهُ يَحْجُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَلَا يَحْجُبُ عِلْمَ اللَّهِ شيء، وحبل الْوَرِيدِ عِرْقُ الْعُنُقِ، وَهُوَ عِرْقٌ بَيْنَ الْحُلْقُومِ وَالْعِلْبَاوَيْنِ، يَتَفَرَّقُ فِي سائر الْبَدَنِ، وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ، فَأُضِيفَ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ.
[17] {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ} [ق: 17] إذ يَتَلَقَّى وَيَأْخُذُ الْمَلَكَانِ الْمُوَكَّلَانِ بِالْإِنْسَانِ عَمَلَهُ وَمَنْطِقَهُ يَحْفَظَانِهِ وَيَكْتُبَانِهِ، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ} [ق: 17] أَيْ أَحَدُهُمَا عَنْ يَمِينِهِ وَالْآخَرُ عَنْ شِمَالِهِ، فَالَّذِي عَنِ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ، وَالَّذِي عَنِ الشِّمَالِ يكتب السيئات. {قَعِيدٌ} [ق: 17] أَيْ قَاعِدٌ، وَلَمْ يَقُلْ قَعِيدَانِ لِأَنَّهُ أَرَادَ عَنِ الْيَمِينِ قَعِيدٌ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ، فَاكْتَفَى بِأَحَدِهِمَا عَنِ الْآخَرِ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقَالَ أَهْلُ الْكُوفَةِ: أَرَادَ قعودا كالرسول يجعل لِلِاثْنَيْنِ وَالْجَمْعِ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الِاثْنَيْنِ: {فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 16] قيل: أَرَادَ بِالْقَعِيدِ الْمُلَازِمَ الَّذِي لَا يَبْرَحُ، لَا الْقَاعِدَ الَّذِي هُوَ ضد القائم. قال مُجَاهِدٌ: الْقَعِيدُ الرَّصِيدُ.
[18] {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ} [ق: 18] مَا يَتَكَلَّمُ مِنْ كَلَامٍ فَيَلْفِظُهُ أَيْ يَرْمِيهِ مِنْ فِيهِ، {إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ} [ق: 18] حافظ، {عَتِيدٌ} [ق: 18] حَاضِرٌ أَيْنَمَا كَانَ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَجْتَنِبُونَ الْإِنْسَانَ عَلَى حَالَيْنِ عِنْدُ غَائِطِهِ وَعِنْدَ جِمَاعِهِ.
[19] {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ} [ق: 19] غَمْرَتُهُ وَشِدَّتُهُ الَّتِي تَغْشَى الْإِنْسَانَ وتغلب على عقله، {بِالْحَقِّ} [ق: 19] أَيْ بِحَقِيقَةِ الْمَوْتِ، وَقِيلَ: بِالْحَقِّ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ حَتَّى يَتَبَيَّنَهُ الْإِنْسَانُ وَيَرَاهُ بِالْعِيَانِ. وَقِيلَ: بِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ أَمْرُ الْإِنْسَانِ مِنَ السَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ. وَيُقَالُ: لِمَنْ جَاءَتْهُ سَكْرَةُ الْمَوْتِ، {ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] تميل، قال الحسن: تهرب. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكْرَهُ، وَأَصْلُ الحَيْد الْمَيْل، يُقَالُ: حدتُ عَنِ الشَّيْءِ أَحِيدُ حَيْدًا ومَحِيدًا إِذَا مِلْتُ عنه.
[20] {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [ق: 20] يَعْنِي نَفْخَةَ الْبَعْثِ، {ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ} [ق: 20] أَيْ ذَلِكَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْوَعِيدِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ لِلْكُفَّارِ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ فِيهِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي بِالْوَعِيدِ الْعَذَابَ أَيْ يَوْمَ وُقُوعِ الوعيد.
[21] {وَجَاءَتْ} [ق: 21] ذَلِكَ الْيَوْمَ، {كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ} [ق: 21] يسوقها إلى المحشر، {وَشَهِيدٌ} [ق: 21] يشهد عليها بما عملت، وهو عمله، قَالَ الضَّحَّاكُ: السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالشَّاهِدُ مِنْ أَنْفُسِهِمُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُمَا جَمِيعًا من الملائكة.
[22] فيقول الله لها: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: 22] الْيَوْمِ فِي الدُّنْيَا، {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ} [ق: 22] الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَلْبِكَ وَسَمْعِكَ وَبَصَرِكَ، {فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22] نَافِذٌ تُبْصِرُ مَا كُنْتَ تُنْكِرُ فِي الدُّنْيَا. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: يَعْنِي نَظَرَكَ إِلَى لِسَانِ مِيزَانِكَ حِينَ تُوزَنُ حَسَنَاتُكَ وَسَيِّئَاتُكَ.
[23] {وَقَالَ قَرِينُهُ} [ق: 23] الْمَلِكُ الْمُوَكَّلُ بِهِ، {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] مُعَدٌّ مَحْضَرٌ، وَقِيلَ: (مَا) بِمَعْنَى (من) ، وقال مُجَاهِدٌ: يَقُولُ هَذَا الَّذِي وَكَّلَتْنِي بِهِ مِنَ ابْنِ آدَمَ حَاضِرٌ عندك قَدْ أَحْضَرْتُهُ وَأَحْضَرْتُ دِيوَانَ أَعْمَالِهِ.
[24] فَيَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- لِقَرِينِهِ: {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق: 24] هَذَا خِطَابٌ لِلْوَاحِدِ بِلَفْظِ التَّثْنِيَةِ على عادة العرب، يقولون: وَيْلَكَ ارْحَلَاهَا وَازْجُرَاهَا وَخُذَاهَا وَأَطْلِقَاهَا، لِلْوَاحِدِ، قَالَ الْفَرَّاءُ: وَأَصْلُ ذَلِكَ أَنَّ أَدْنَى أَعْوَانِ الرَّجُلِ فِي إِبِلِهِ وَغَنَمِهِ وَسِفْرِهِ اثْنَانِ، فَجَرَى كَلَامُ الْوَاحِدِ عَلَى صَاحِبَيْهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الشِّعْرِ لِلْوَاحِدِ خليليَّ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هَذَا أَمْرٌ لِلسَّائِقِ وَالشَّهِيدِ، وَقِيلَ: للمتلقيينِ. {كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ} [ق: 24] مُعْرِضٍ عَنِ الْحَقِّ. قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ: مُجَانِبٌ لِلْحَقِّ مُعَانِدٌ لِلَّهِ.
[25] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [ق: 25] أَيْ لِلزَّكَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَكُلِّ حَقٍّ وجب في ماله، {مُعْتَدٍ} [ق: 25] ظَالِمٍ لَا يُقِرُّ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ {مُرِيبٍ} [ق: 25] شَاكٍّ فِي التَّوْحِيدِ، وَمَعْنَاهُ: دَاخِلٌ فِي الرَّيْبِ.(6/893)
{الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ} [ق: 26] وهو النار.
[27] {قَالَ قَرِينُهُ} [ق: 27] يَعْنِي الشَّيْطَانَ الَّذِي قُيِّضَ لِهَذَا الكافر، {رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ} [ق: 27] مَا أَضْلَلْتُهُ وَمَا أَغْوَيْتُهُ، {وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ} [ق: 27] عن الحق فيتبرأ منه شَيْطَانُهُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُقَاتِلٌ: قَالَ قَرِينُهُ يَعْنِي الْمَلِكَ، قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَقُولُ الْكَافِرُ يَا رَبِّ إِنَّ الْمَلِكَ زَادَ عَلَيَّ فِي الْكِتَابَةِ، فَيَقُولُ الْمَلِكُ: رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ، يَعْنِي مَا زِدْتُ عَلَيْهِ وَمَا كتبتُ إِلَّا مَا قَالَ وَعَمِلَ، وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ طَوِيلٍ لَا يَرْجِعُ عَنْهُ إلى الحق.
[28] {قَالَ} [ق: 28] يعني يقول اللَّهُ {لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ} [ق: 28] فِي الْقُرْآنِ وَأَنْذَرَتْكُمْ وَحَذَّرَتْكُمْ عَلَى لِسَانِ الرَّسُولِ، وَقَضَيْتُ عَلَيْكُمْ مَا أَنَا قَاضٍ.
[29] {مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ} [ق: 29] لَا تَبْدِيلَ لِقَوْلِي وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 119] وَقَالَ قَوْمٌ. مَعْنَى قَوْلِهِ: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) أَيْ: لَا يكذب القول عِنْدِي، وَلَا يُغَيَّرُ الْقَوْلُ عَنْ وَجْهِهِ لِأَنِّي أَعْلَمُ الْغَيْبَ. وَهَذَا قَوْلُ الْكَلْبِيِّ وَاخْتِيَارُ الْفَرَّاءِ، لِأَنَّهُ قَالَ: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) ولم يقل ما يبدل لي. {وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 29] فَأُعَاقِبُهُمْ بِغَيْرِ جُرْمٍ.
[30] {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ} [ق: 30] قرأ نافع وأبو بكر بِالْيَاءِ، أَيْ يَقُولُ اللَّهُ لِقَوْلِهِ: (قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالنُّونِ، {هَلِ امْتَلَأْتِ} [ق: 30] وَذَلِكَ لِمَا سَبَقَ لَهَا مِنْ وَعْدِهِ إِيَّاهَا أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ، وَهَذَا السُّؤَالُ مِنَ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- لِتَصْدِيقِ خَبَرِهِ وتحقيق وعده، {وَتَقُولُ} [ق: 30] جهنم، {هَلْ مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30] قيل: معناه قد امتلأت فلم يَبْقَ فِيَّ مَوْضِعٌ لَمْ يَمْتَلِئْ، فَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، هَذَا قَوْلُ عَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ وَمُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمَانَ، وَقِيلَ: هَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الِاسْتِزَادَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ أَبِي صَالِحٍ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ السُّؤَالُ بِقَوْلِهِ:
(هَلِ امْتَلَأْتِ) ، قيل دُخُولِ جَمِيعِ أَهْلِهَا فِيهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَبَقَتْ كَلِمَتُهُ {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هُودٍ: 119] فَلَمَّا سِيقَ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَيْهَا لَا يُلْقَى فِيهَا فَوْجٌ إِلَّا ذَهَبَ فِيهَا وَلَا يَمْلَؤُهَا شَيْءٌ.
[31] {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ} [ق: 31] قربت وأدنيت، {لِلْمُتَّقِينَ} [ق: 31] الشرك، {غَيْرَ بَعِيدٍ} [ق: 31] يَنْظُرُونَ إِلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَدْخُلُوهَا.
[32] {هَذَا مَا تُوعَدُونَ} [ق: 32] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِالْيَاءِ وَالْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، يُقَالُ لَهُمْ: هَذَا الَّذِي تَرَوْنَهُ مَا تُوعَدُونَ عَلَى أَلْسِنَةِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، {لِكُلِّ أَوَّابٍ} [ق: 32] رَجَّاعٍ إِلَى الطَّاعَةِ عَنِ الْمَعَاصِي، قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ هُوَ الَّذِي يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ ثُمَّ يُذْنِبُ ثُمَّ يَتُوبُ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: الَّذِي يَذْكُرُ ذُنُوبَهُ فِي الْخَلَاءِ فَيَسْتَغْفِرُ مِنْهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ التَّوَّابُ.(6/894)
وقال ابن عباس وعطاء: هو الْمُسَبِّحُ، مِنْ قَوْلِهِ: {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} [سَبَأٍ: 10] وَقَالَ قَتَادَةُ: هو المصلي. {حَفِيظٍ} [ق: 32] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْحَافِظُ لِأَمْرِ اللَّهِ، وَعَنْهُ أَيْضًا: هُوَ الَّذِي يَحْفَظُ ذُنُوبَهُ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهَا وَيَسْتَغْفِرَ مِنْهَا. قَالَ قَتَادَةُ: حَفِيظٌ لِمَا اسْتَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ حَقِّهِ. قال الضحاك: المحافظ عَلَى نَفْسِهِ الْمُتَعَهِّدُ لَهَا. قَالَ الشَّعْبِيُّ: الْمُرَاقِبُ. قَالَ سَهْلُ بْنُ عبد الله: هو الْمُحَافِظُ عَلَى الطَّاعَاتِ وَالْأَوَامِرِ.
[33] {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} [ق: 33] مَحَلُّ (مَنْ) جَرٌّ عَلَى نَعْتِ الأواب. وقيل: رفع على الاستئناف، وَمَعْنَى الْآيَةِ: مَنْ خَافَ الرَّحْمَنَ وَأَطَاعَهُ بِالْغَيْبِ وَلَمْ يَرَهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: يَعْنِي فِي الْخَلْوَةِ حَيْثُ لَا يَرَاهُ أَحَدٌ. قَالَ الْحَسَنُ: إِذَا أَرْخَى السِّتْرَ وَأَغْلَقَ الباب. {وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ} [ق: 33] مُخْلِصٍ مُقْبِلٍ إِلَى طَاعَةَ اللَّهِ.
[34] {ادْخُلُوهَا} [ق: 34] أَيْ يُقَالُ لِأَهْلِ هَذِهِ الصِّفَةِ: ادْخُلُوهَا، أَيِ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ. {بِسَلَامٍ} [ق: 34] بِسَلَامَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَالْهُمُومِ. وَقِيلَ: بِسَلَامٍ مِنَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ عَلَيْهِمْ. وَقِيلَ: بِسَلَامَةٍ مِنْ زَوَالِ النِّعَمِ، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق: 34]
[35] {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا} [ق: 35] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَنْتَهِيَ مَسْأَلَتُهُمْ فَيُعْطَوْنَ مَا شَاءُوا، ثُمَّ يَزِيدُهُمُ اللَّهُ مِنْ عِنْدِهِ مَا لَمْ يَسْأَلُوهُ، وَهُوَ قوله: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] يَعْنِي الزِّيَادَةَ لَهُمْ فِي النَّعِيمِ مما لَمْ يَخْطُرْ بِبَالِهِمْ. وَقَالَ جَابِرٌ وَأَنَسٌ: هُوَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الله الكريم.
[قوله تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ] مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ. . .
[36] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ} [ق: 36] ضَرَبُوا وَسَارُوا وَتَقَلَّبُوا وَطَافُوا، وَأَصْلُهُ مِنَ النَّقْبِ وَهُوَ الطَّرِيقُ كَأَنَّهُمْ سَلَكُوا كُلَّ طَرِيقٍ، {هَلْ مِنْ مَحِيصٍ} [ق: 36] فَلَمْ يَجِدُوا مَحِيصًا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: هَلْ مِنْ مَحِيصٍ: مَفَرٍّ مِنَ الْمَوْتِ؟ فَلَمْ يَجِدُوا منه مفرًّا، وإنذار لِأَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَّهُمْ عَلَى مِثْلِ سَبِيلِهِمْ لَا يَجِدُونَ مَفَرًّا عَنِ الْمَوْتِ، يَمُوتُونَ فَيَصِيرُونَ إِلَى عَذَابِ الله.
[37] {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [ق: 37] فيما ذكرت من العبر والعذاب وإهلاك القرى، {لَذِكْرَى} [ق: 37] تَذْكِرَةً وَعِظَةً، {لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ} [ق: 37] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ عَقْلٌ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هَذَا جَائِزٌ فِي العربية، تقول: مالك قَلْبٌ وَمَا قَلْبُكَ مَعَكَ، أَيْ مَا عَقْلُكَ مَعَكَ. وَقِيلَ: لَهُ قَلْبٌ حَاضِرٌ مَعَ اللَّهِ. {أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ} [ق: 37] اسْتَمَعَ الْقُرْآنَ، وَاسْتَمَعَ مَا يُقَالُ لَهُ لَا يُحَدِّثُ نَفْسَهُ بِغَيْرِهِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: ألقِ إليَّ سمعكَ، يعني استمع، {وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ويعني حَاضِرُ الْقَلْبِ لَيْسَ بِغَافِلٍ وَلَا ساه.
[38] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38] إعياء وتعب.
[39] {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [ق: 39] مِنْ كَذِبِهِمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَهُمْ بِالْمِرْصَادِ، وَهَذَا قَبْلَ الْأَمْرِ بِقِتَالِهِمْ، {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [ق: 39] أَيْ صلِّ حَمْدًا لِلَّهِ، {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [ق: 39] يَعْنِي صَلَاةَ الصُّبْحِ، {وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39] يَعْنِي صَلَاةَ الْعَصْرِ. ورُوي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَبْلَ الْغُرُوبِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ.
[40] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [ق: 40] يَعْنِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: وَمِنَ اللَّيْلِ أَيْ صَلَاةِ اللَّيْلِ أَيَّ وَقْتٍ صَلَّى. {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40] قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَحَمْزَةَ: (وَإِدْبَارَ السُّجُودِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ، مَصْدَرُ أَدْبَرَ إدبار، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِهَا عَلَى جَمْعِ الدُّبُرِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخِطَابِ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ: أَدْبَارَ السُّجُودِ الرَّكْعَتَانِ بَعْدَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ، وَأَدْبَارُ النُّجُومِ الرَّكْعَتَانِ قَبْلَ صَلَاةَ الْفَجْرِ، وقال مجاهد: قوله: (أدبار السُّجُودِ) هُوَ التَّسْبِيحُ بِاللِّسَانِ فِي أدبار الصلوات المكتوبات.
[41] قَوْلُهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: {وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] أَيْ وَاسْتَمِعْ يَا مُحَمَّدُ صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ(6/895)
وَالنُّشُورِ يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِي، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي إِسْرَافِيلَ يُنَادِي بِالْحَشْرِ يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ الْبَالِيَةُ وَالْأَوْصَالُ الْمُتَقَطِّعَةُ وَاللُّحُومُ الْمُتَمَزِّقَةُ وَالشُّعُورُ الْمُتَفَرِّقَةُ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُنَّ أَنْ تَجْتَمِعْنَ لفصل القضاء.
[42] {يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ} [ق: 42] وَهِيَ الصَّيْحَةُ الْأَخِيرَةُ، {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ} [ق: 42] مِنَ الْقُبُورِ. 43،
[44] {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ - يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق: 43 - 44] جَمْعُ سَرِيعٍ أَيْ يَخْرُجُونَ سِرَاعًا، {ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا} [ق: 44] جمع علينا {يَسِيرٌ} [ق: 44]
[45] {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ} [ق: 45] يَعْنِي كَفَّارَ مَكَّةَ فِي تَكْذِيبِكَ، {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45] بِمُسَلَّطٍ تُجْبِرُهُمْ عَلَى الْإِسْلَامِ إِنَّمَا بُعِثْتَ مُذَكِّرًا، {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] أَيْ مَا أَوْعَدْتُ بِهِ مَنْ عَصَانِي مِنَ الْعَذَابِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ خَوَّفَتْنَا، فَنَزَلَتْ: {فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45]
[سورة الذاريات]
[قوله تعالى وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ] يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا. . .
(51) سورة الذاريات [1] {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا} [الذاريات: 1] يَعْنِي الرِّيَاحَ الَّتِي [تَذْرُو] التُّرَابَ ذَرْوًا، يُقَالُ: ذَرَتِ الرِّيحُ التُّرَابَ وأذرت.
[2] {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} [الذاريات: 2] يعني السحاب التي تَحْمِلُ ثُقْلًا مِنَ الْمَاءِ.
[3] {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} [الذاريات: 3] هِيَ السُّفُنُ تَجْرِي فِي الْمَاءِ جريا سهلًا.
[4] {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} [الذاريات: 4] هِيَ الْمَلَائِكَةُ يُقَسِّمُونَ الْأُمُورَ بَيْنَ الْخَلْقِ عَلَى مَا أُمِرُوا بِهِ، أَقْسَمَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ لِمَا فِيهَا مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى صُنْعِهِ وَقُدْرَتِهِ.
[5] ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقْسَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 5] من الثواب والعقاب، {لَصَادِقٌ} [الذاريات: 5]
[6] {وَإِنَّ الدِّينَ} [الذاريات: 6] الحساب والجزاء، {لَوَاقِعٌ} [الذاريات: 6] لِكَائِنٌ.
[7] ثُمَّ ابْتَدَأَ قَسَمًا آخَرَ فقال: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ} [الذاريات: 7] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ: ذَاتِ الْخَلْقِ الْحَسَنِ الْمُسْتَوِي، يُقَالُ لِلنَّسَّاجِ إِذَا نَسَجَ [الثَّوْبَ] فَأَجَادَ: مَا أَحْسَنَ [حَبْكَه] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ذَاتُ الزِّينَةِ. قَالَ الْحَسَنُ: حُبِكَتْ بِالنُّجُومِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ الْمُتْقَنَةُ الْبُنْيَانِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: ذَاتُ الطَّرَائِقِ كَحُبُكِ الْمَاءِ إِذَا ضَرَبَتْهُ الرِّيحُ، وَحُبُكِ الرَّمْلِ وَالشَّعْرِ الْجَعْدِ، وَلَكِنَّهَا لَا تُرَى لِبُعْدِهَا مِنَ النَّاسِ، وَهِيَ جَمْعُ حِبَاكٍ وَحَبِيكَةٍ، وَجَوَابُ الْقَسَمِ قوله في الآية التالية:
[8] {إِنَّكُمْ} [الذاريات: 8] يَا أَهْلَ مَكَّةَ، {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} [الذاريات: 8] فِي الْقُرْآنِ وَفِي مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تَقُولُونَ فِي الْقُرْآنِ سِحْرٌ وَكِهَانَةٌ وَأَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَفِي مُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- سَاحِرٌ وَشَاعِرٌ وَمَجْنُونٌ. وَقِيلَ: لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ أَيْ مُصَدِّقٍ وَمُكَذِّبٍ.(6/896)
[9] {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} [الذاريات: 9] يُصْرَفُ عَنِ الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ صُرِفَ حَتَّى يُكَذِّبَهُ، يَعْنِي مَنْ حَرَمَهُ اللَّهُ الْإِيمَانَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِالْقُرْآنِ.
وَقِيلَ (عَنْ) بِمَعْنَى: مِنْ أَجْلِ، أَيْ يُصْرَفُ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْقَوْلِ الْمُخْتَلِفِ أَوْ بِسَبَبِهِ عَنِ الْإِيمَانِ من يصرف.
وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَلَقَّوْنَ الرَّجُلَ إِذَا أَرَادَ الْإِيمَانَ فَيَقُولُونَ: إِنَّهُ سَاحِرٌ وَكَاهِنٌ وَمَجْنُونٌ، فَيَصْرِفُونَهُ عَنِ الإيمان.
[قوله تعالى قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ] . . .
[10] {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} [الذاريات: 10] لُعِنَ الْكَذَّابُونَ، يُقَالُ: تَخَرَّصَ عَلَى فُلَانٍ الْبَاطِلَ، وَهُمُ الْمُقْتَسِمُونَ الَّذِينَ اقتسموا الْقَوْلَ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَصْرِفُوا النَّاسَ عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُمُ الْكَهَنَةُ.
[11] {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ} [الذاريات: 11] غفلة وعمى وجهالة، {سَاهُونَ} [الذاريات: 11] لَاهُونَ غَافِلُونَ عَنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، وَالسَّهْوُ: الْغَفْلَةُ عَنِ الشَّيْءِ، وَهُوَ ذَهَابُ الْقَلْبِ عَنْهُ.
[12] {يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} [الذاريات: 12] يَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ مَتَى يَوْمُ الْجَزَاءِ، يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَكْذِيبًا وَاسْتِهْزَاءً.
[13] قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَوْمَ هُمْ} [الذاريات: 13] أَيْ يَكُونُ هَذَا الْجَزَاءُ فِي يَوْمَ هُمْ {عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أَيْ: يُعَذَّبُونَ وَيُحْرَقُونَ بِهَا كَمَا يُفْتَنُ الذَّهَبُ بِالنَّارِ.
وَقِيلَ: عَلَى بِمَعْنَى الْبَاءِ أَيْ بِالنَّارِ، وَتَقُولُ لَهُمْ خَزَنَةُ النَّارِ:
[14] {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] عَذَابَكُمْ، {هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [الذاريات: 14] فِي الدُّنْيَا تَكْذِيبًا بِهِ. 15،
[16] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ - آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ} [الذاريات: 15 - 16] أعطاهم، {رَبُّهُمْ} [الذاريات: 16] مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} [الذاريات: 16] قبل دخولهم الجنة، {مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 16] فِي الدُّنْيَا.
[17] {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] وَالْهُجُوعُ النَّوْمُ بِاللَّيْلِ دُونَ النَّهَارِ، وَمَا صِلَةٌ، وَالْمَعْنَى: كَانُوا يَهْجَعُونَ قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ أَيْ يُصَلُّونَ أَكْثَرَ اللَّيْلِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَانَ اللَّيْلُ الَّذِي يَنَامُونَ فِيهِ كُلُّهُ قليلا، هذا مَعْنَى قَوْلِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، يَعْنِي: كَانُوا قَلَّ لَيْلَةٌ تَمُرُّ بِهِمْ إِلَّا صَلَّوْا فِيهَا شَيْئًا إِمَّا مِنْ أولها أو من أوسطها، وَوَقَفَ بَعْضُهُمْ عَلَى قَوْلِهِ: قَلِيلًا أَيْ كَانُوا مِنَ النَّاسِ قَلِيلًا، ثُمَّ ابْتَدَأَ: {مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] وَجَعَلَهُ جَحْدًا، أَيْ: لَا يَنَامُونَ بِاللَّيْلِ الْبَتَّةَ، بَلْ يَقُومُونَ لِلصَّلَاةِ والعبادة.
[18] {وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 18] قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَنَامُونَ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا أَقَلَّهُ، وَرُبَّمَا نَشِطُوا فَمَدُّوا إِلَى السَّحَرِ، ثُمَّ أَخَذُوا في الأسحار بالاستغفار.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: وَبِالْأَسْحَارِ يُصَلُّونَ، وَذَلِكَ أَنَّ صَلَاتَهُمْ بِالْأَسْحَارِ طلب المغفرة.
[19] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [الذاريات: 19] السَّائِلُ الَّذِي يَسْأَلُ النَّاسَ، وَالْمَحْرُومُ الذي ليس له في الغنيمة سَهْمٌ، وَلَا يُجْرَى عَلَيْهِ مِنَ الْفَيْءِ شَيْءٌ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عباس وسعيد بن(6/897)
المسيب، قال: الْمَحْرُومُ الَّذِي لَيْسَ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ سَهْمٌ، وَمَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ: الَّذِي مُنِعَ الْخَيْرَ وَالْعَطَاءَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالزُّهْرِيُّ: الْمَحْرُومُ الْمُتَعَفِّفُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ.
وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هُوَ الْمُصَابُ ثَمَرُهُ أَوْ زَرْعُهُ أَوْ نَسْلُ مَاشِيَتِهِ.
وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قال: المحروم صاحب الحاجة، ثم قرأ: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة: 66] {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 67] 20،
[21] {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ} [الذاريات: 20] عبر، {لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] إِذَا سَارُوا فِيهَا، مِنَ الْجِبَالِ وَالْبِحَارِ وَالْأَشْجَارِ وَالثِّمَارِ وَأَنْوَاعِ النَّبَاتِ.
{وَفِي أَنْفُسِكُمْ} [الذاريات: 21] آيات إذا كَانَتْ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً ثُمَّ عَظْمًا إِلَى أَنْ نُفِخَ فِيهَا الرُّوحُ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ اخْتِلَافَ الألسنة والصور والألوان والطبائع.
{أَفَلَا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] قَالَ مُقَاتِلٌ: أَفَلَا تُبْصِرُونَ كَيْفَ خَلَقَكُمْ فَتَعْرِفُوا قُدْرَتَهُ عَلَى الْبَعْثِ.
[22] {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ} [الذاريات: 22] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْمَطَرَ الَّذِي هُوَ سَبَبُ الأرزاق، {وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] قَالَ عَطَاءٌ: مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَمَا تُوعَدُونَ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، ثُمَّ أَقْسَمَ بِنَفْسِهِ فَقَالَ:
[23] {فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] أَيْ: مَا ذَكَرْتُ مِنْ أَمْرِ الرزق لَحَقٌّ، {مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} [الذاريات: 23] فَتَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
وَقِيلَ: شَبَّهَ تَحْقِيقَ مَا أَخْبَرَ عَنْهُ بِتَحْقِيقِ نُطْقِ الْآدَمِيِّ، كَمَا تَقُولُ: إِنَّهُ لِحَقٌّ كَمَا أَنْتَ ههنا، وَإِنَّهُ لَحَقٌّ كَمَا أَنَّكَ تَتَكَلَّمُ، وَالْمَعْنَى: إِنَّهُ فِي صِدْقِهِ وَوُجُودِهِ كَالَّذِي تَعْرِفُهُ ضَرُورَةً.
قَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: يَعْنِي كَمَا أَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ يَنْطِقُ بِلِسَانِ نَفْسِهِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْطِقَ بِلِسَانِ غَيْرِهِ كذلك كَلُّ إِنْسَانٍ يَأْكُلُ رِزْقَ نَفْسِهِ الَّذِي قُسِمَ لَهُ، وَلَا يَقْدِرُ أن يأكل رزق غيره.
[24] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات: 24] وهم الملائكة الذين جاءوه بالبشرى كما في سورة هود آية (69) ، {الْمُكْرَمِينَ} [الذاريات: 24] قِيلَ: سَمَّاهُمْ مُكْرَمِينَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَلَائِكَةً كِرَامًا عِنْدَ اللَّهِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِهِمْ.
{بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} [الْأَنْبِيَاءِ: 26] وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ كَانُوا ضَيْفَ إِبْرَاهِيمَ وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ أَكْرَمَ الْخَلِيقَةِ، وَضَيْفُ الْكِرَامِ مُكْرَمُونَ.
وَقِيلَ: لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَكْرَمَهُمْ بِتَعْجِيلِ قِرَاهُمْ، وَالْقِيَامِ بِنَفْسِهِ عَلَيْهِمْ بِطَلَاقَةِ الْوَجْهِ.
وَقَالَ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ: خدمته بنفسه إياهم.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمَّاهُمْ مُكْرَمِينَ لِأَنَّهُمْ جَاءُوا غَيْرَ مَدْعُوِّينَ.
[25] {إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ} [الذاريات: 25] إبراهيم، {سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 25] أَيْ: غُرَبَاءُ لَا نَعْرِفُكُمْ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ فِي نَفْسِهِ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا نَعْرِفُهُمْ.
وَقِيلَ: إِنَّمَا أَنْكَرَ أَمْرَهُمْ لِأَنَّهُمْ دَخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: أَنْكَرَ سَلَامَهُمْ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ وَفِي تِلْكَ الْأَرْضِ.
[26] {فَرَاغَ} [الذاريات: 26] فَعَدَلَ وَمَالَ، {إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ} [الذاريات: 26] مشوي.
[27 - 29] {فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ} [الذاريات: 27] لِيَأْكُلُوا فَلَمْ يَأْكُلُوا، {قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ - فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ - فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 27 - 29] أَيْ صَيْحَةٍ، قِيلَ: لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ إِقْبَالًا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ، وَإِنَّمَا هُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ: أَقْبَلَ يَشْتُمُنِي، بِمَعْنَى أَخَذَ فِي شَتْمِي، أَيْ أَخَذَتْ تُوَلْوِلُ كَمَا قال الله تعالى: {قَالَتْ يا وَيْلَتَى} [هود: 72] {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا} [الذاريات: 29] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَطَمَتْ وَجْهَهَا، وَقَالَ الْآخَرُونَ: جَمَعَتْ أَصَابِعَهَا فَضَرَبَتْ جَبِينَهَا تَعَجُّبًا، كَعَادَةِ النِّسَاءِ إِذَا أَنْكَرْنَ شَيْئًا، وَأَصْلُ الصَّكِّ: ضَرْبُ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ الْعَرِيضِ.
{وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} [الذاريات: 29] مَجَازُهُ: أَتَلِدُ عَجُوزٌ عَقِيمٌ، وَكَانَتْ سَارَةُ لَمْ تَلِدْ قَبْلَ ذَلِكَ.
[30] {قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ} [الذاريات: 30] أَيْ: كَمَا قُلْنَا لَكَ قَالَ رَبُّكِ: إِنَّكَ سَتَلِدِينَ غُلَامًا،(6/898)
{إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} [الذاريات: 30]
[قوله تعالى قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ. . .]
[31 - 32] {قَالَ} [الذاريات: 31] إِبْرَاهِيمَ، {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ - قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ} [الذاريات: 31 - 32] يَعْنِي قَوْمَ لُوطٍ. 33،
[34] {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ - مُسَوَّمَةً} [الذاريات: 33 - 34] معلمة، {عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ} [الذاريات: 34] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِلْمُشْرِكِينَ، وَالشِّرْكُ أَسْرَفُ الذُّنُوبِ وَأَعْظَمُهَا.
[35] {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا} [الذاريات: 35] أَيْ: فِي قُرَى قَوْمِ لُوطٍ، {مَنْ كَانَ} [الذاريات: 35] وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} [هُودٍ: 81]
[36] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ} [الذاريات: 36] أَيْ غَيْرَ أَهْلِ بَيْتٍ {مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] يَعْنِي لُوطًا وَابْنَتَيْهِ، وَصْفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ جَمِيعًا لِأَنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلَّا وَهُوَ مسلم.
[37] {وَتَرَكْنَا فِيهَا} [الذاريات: 37] أَيْ فِي مَدِينَةِ قَوْمِ لُوطٍ، {آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} [الذاريات: 37] أَيْ عَلَامَةً لِلْخَائِفِينَ تَدُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَهْلَكَهُمْ فَيَخَافُونَ مثل عذابهم.
[38] {وَفِي مُوسَى} [الذاريات: 38] أَيْ وَتَرَكْنَا فِي إِرْسَالِ مُوسَى آيَةً وَعِبْرَةً.
وَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: {وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] وَفِي مُوسَى، {إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الذاريات: 38] بحجة ظاهرة.
[39] {فَتَوَلَّى} [الذاريات: 39] أي فَأَعْرَضَ وَأَدْبَرَ عَنِ الْإِيمَانِ، {بِرُكْنِهِ} [الذاريات: 39] أي بجمعه وجنوده الذين [كان] يَتَقَوَّى بِهِمْ، كَالرُّكْنِ الَّذِي يُقَوَّى به البنيان، نظيره قوله.
{أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هُودٍ: 80] {وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 39] قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَوْ بِمَعْنَى الْوَاوِ.
[40] {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الذاريات: 40] أغرقناهم فيه {وَهُوَ مُلِيمٌ} [الذاريات: 40] أَيْ آتٍ بِمَا يُلَامُ عَلَيْهِ من دعوى الربوبية وتكذيب الرسل.
[41] {وَفِي عَادٍ} [الذاريات: 41] أَيْ وَفِي إِهْلَاكِ عَادٍ أَيْضًا آيَةٌ، {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ} [الذاريات: 41] وَهِيَ الَّتِي لَا خَيْرَ فِيهَا وَلَا بَرَكَةَ وَلَا تُلَقِّحُ شَجَرًا وَلَا تَحْمِلُ مَطَرًا.
[42] {مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ} [الذاريات: 42] من أنفسهم وأنعامهم ومواشيهم وأموالهم، {إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 42] كَالشَّيْءِ الْهَالِكِ الْبَالِي، وَهُوَ نَبَاتُ الْأَرْضِ.
إِذَا يَبِسَ وَدِيسَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَالتِّبْنِ الْيَابِسِ. قَالَ قَتَادَةُ: كَرَمِيمِ الشَّجَرِ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: كَالتُّرَابِ الْمَدْقُوقِ. وَقِيلَ: أَصِلُهُ مِنَ الْعَظْمِ الْبَالِي.
[43] {وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات: 43] يَعْنِي وَقْتَ فَنَاءِ آجَالِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا عَقَرُوا النَّاقَةَ قِيلَ لَهُمْ: تَمَتَّعُوا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ.
[44] {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ} [الذاريات: 44] يَعْنِي بَعْدَ مُضِيِّ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ، وَهِيَ الْمَوْتُ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْعَذَابَ "والصاعقة. كُلُّ عَذَابٍ مُهْلِكٌ، وَقَرَأَ الْكِسَائِيُّ (الصَّعْقَةُ) ، وَهِيَ(6/899)
الصَّوْتُ الَّذِي يَكُونُ مِنَ الصَّاعِقَةِ، {وَهُمْ يَنْظُرُونَ} [الذاريات: 44] يَرَوْنَ ذَلِكَ عِيَانًا.
[45] {فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ} [الذاريات: 45] فَمَا قَامُوا بَعْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ بِهِمْ وَلَا قَدَرُوا عَلَى نُهُوضٍ.
قَالَ قَتَادَةُ: لَمْ يَنْهَضُوا مِنْ تِلْكَ الصَّرْعَةِ، {وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} [الذاريات: 45] منتقمين مِنَّا.
قَالَ قَتَادَةُ: مَا كَانَتْ عِنْدَهُمْ قُوَّةٌ يَمْتَنِعُونَ بِهَا مِنَ الله.
[46] {وَقَوْمَ نُوحٍ} [الذاريات: 46] قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (وقومِ) بِجَرِّ الْمِيمِ، أَيْ وَفِي قَوْمِ نُوحٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنَصْبِهَا بِالْحَمْلِ عَلَى الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ} [الذاريات: 40] معناه.
أغرقناهم، كأنه قال: أَغْرَقْنَاهُمْ وَأَغْرَقْنَا قَوْمَ نُوحٍ.
{مِنْ قَبْلُ} [الذاريات: 46] أَيْ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ، وَهُمْ عَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ فِرْعَوْنَ، {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} [الذاريات: 46]
[47] {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} [الذاريات: 47] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهما: لقادرون.
وَعَنْهُ أَيْضًا لَمُوسِعُونَ الرِّزْقَ عَلَى خلقنا.
وقيل: ذو سعة، وقال الضَّحَّاكُ: أَغْنِيَاءُ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ} [الْبَقَرَةِ: 236] قال الحسن: المطيقون.
[48] {وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا} [الذاريات: 48] بَسَطْنَاهَا وَمَهَّدْنَاهَا لَكُمْ، {فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ} [الذاريات: 48] الْبَاسِطُونَ نَحْنُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ نِعْمَ مَا وَطَّأْتُ لِعِبَادِي.
[49] {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذَّارِيَاتِ: 49] صِنْفَيْنِ وَنَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ كَالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالْبَرِّ وَالْبَحْرِ، وَالسَّهْلِ وَالْجَبَلِ وَالشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ، وَالذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَالنُّورِ وَالظُّلْمَةِ، وَالْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ، وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، والجنة والنار، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْحُلْوِ وَالْمُرِّ.
{لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49] فَتَعْلَمُونَ أَنَّ خَالِقَ الْأَزْوَاجِ فَرْدٌ. 50،
[51] {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ} [الذاريات: 50] فَاهْرُبُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ إِلَى ثَوَابِهِ بِالْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِرُّوا مِنْهُ إِلَيْهِ وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ.
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: فِرُّوا مِمَّا سِوَى اللَّهِ إِلَى اللَّهِ.
{إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ - وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50 - 51]
[قوله تعالى كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ] إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ. . .
[52] {كَذَلِكَ} [الذاريات: 52] أي كما كذبك قومك يا محمد وَقَالُوا: سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ، كَذَلِكَ {مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الذاريات: 52] مِنْ قَبْلِ كُفَّارِ مَكَّةَ، {مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ} [الذاريات: 52] 53،
[54] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {أَتَوَاصَوْا بِهِ} [الذاريات: 53] أَيْ أَوْصَى أَوَّلُهُمْ آخِرَهُمْ وَبَعْضُهُمْ بعضا بالتكذيب وتواطؤوا عَلَيْهِ؟ وَالْأَلْفُ فِيهِ لِلتَّوْبِيخِ، {بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ} [الذاريات: 53] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَمَلَهُمُ الطُّغْيَانُ فِيمَا أَعْطَيْتُهُمْ وَوَسَّعْتُ عَلَيْهِمْ عَلَى تكذيبك، {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [الذاريات: 54] فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ، {فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ} [الذاريات: 54] لَا لَوْمَ عَلَيْكَ فَقَدْ أَدَّيْتَ الرِّسَالَةَ وَمَا قَصَّرْتَ فِيمَا أُمِرْتَ بِهِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ حَزِنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَظَنُّوا أَنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَأَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَضَرَ إِذْ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَتَوَلَّى عَنْهُمْ.
[55] فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 55] فَطَابْتُ أَنْفُسُهُمْ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ عِظْ بِالْقُرْآنِ كُفَّارَ مَكَّةَ، فَإِنَّ الذكرى تنفع من فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنْ يُؤْمِنَ منهما.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عِظْ بِالْقُرْآنِ مَنْ آمَنَ مِنْ قَوْمِكَ، فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُهُمْ.
[56] {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] قَالَ الْكَلْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ وَسُفْيَانُ: هَذَا خَاصٌّ لِأَهْلِ طَاعَتِهِ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ -مِنَ الْمُؤْمِنِينَ- إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) ، ثُمَّ قَالَ في آية أُخْرَى.
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ} [الْأَعْرَافِ: 179] وَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَمَا خَلَقْتُ السُّعَدَاءَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِلَّا لِعِبَادَتِي وَالْأَشْقِيَاءَ مِنْهُمْ إِلَّا لِمَعْصِيَتِي، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، قَالَ: هم عَلَى مَا جُبِلُوا عَلَيْهِ مِنَ الشَّقَاوَةِ وَالسَّعَادَةِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ(6/900)
الله عنه: إِلَّا لِيَعْبُدُونِ أَيْ إِلَّا لِآمُرَهُمْ أن يعبدوني وأدعوهم لعبادتي، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} [التَّوْبَةِ: 31] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِلَّا لِيَعْرِفُونِي.
وَهَذَا أَحْسَنُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَخْلُقْهُمْ لَمْ يُعْرَفْ وُجُودُهُ وَتَوْحِيدُهُ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزُّخْرُفِ: 87] وَقِيلَ: مَعْنَاهُ إِلَّا لِيَخْضَعُوا إِلَيَّ وَيَتَذَلَّلُوا.
وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي اللُّغَةِ، التَّذَلُّلُ وَالِانْقِيَادُ، فَكُلُّ مَخْلُوقٌ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ خَاضِعٌ لِقَضَاءِ اللَّهِ ومتذلل لِمَشِيئَتِهِ لَا يَمْلِكُ أَحَدٌ لِنَفْسِهِ خروجا عما خلق عليه قدر ذرة من نفع أو ضرر.
وقيل إلا ليعبدون إلا ليوحدون، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُوَحِّدُهُ فِي الشِّدَّةِ وَالْبَلَاءِ دُونَ النِّعْمَةِ وَالرَّخَاءِ.
[57] {مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ} [الذاريات: 57] أَيْ أَنْ يَرْزُقُوا أَحَدًا مِنْ خَلْقِي وَلَا أَنْ يَرْزُقُوا أَنْفُسَهُمْ، {وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] أَيْ أَنْ يُطْعِمُوا أَحَدًا مِنْ خلقي، وإنما أسند الطعام إِلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْخَلْقَ عِيَالُ اللَّهِ وَمَنْ أَطْعَمَ عِيَالَ أَحَدٍ فقد أطعمه.
ثم بين أن الرزاق هُوَ لَا غَيْرُهُ فَقَالَ:
[58] {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ} [الذاريات: 58] يَعْنِي لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، {ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] وَهُوَ الْقَوِيُّ الْمُقْتَدِرُ الْمُبَالِغُ فِي الْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ.
[59] {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الذاريات: 59] كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، {ذَنُوبًا} [الذاريات: 59] مِنَ الْعَذَابِ، {مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} [الذاريات: 59] مثل نصيب أصحابهم الذين أهلكوا مَنْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ، وَأَصْلُ الذَّنُوبِ فِي اللُّغَةِ: الدَّلْوُ الْعَظِيمَةُ الْمَمْلُوءَةُ مَاءً، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ فِي الْحَظِّ وَالنَّصِيبِ {فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ} [الذاريات: 59] بِالْعَذَابِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ أُخِّرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
[60] يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الذاريات: 60] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ يَوْمُ بدر.
[سورة الطور]
[قوله تعالى وَالطُّورِ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ.] . .
(52) سورة الطور [1] {وَالطُّورِ} [الطور: 1] أَرَادَ بِهِ الْجَبَلَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، أَقْسَمَ اللَّهُ تعالى به.
[2] {وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ} [الطور: 2] مكتوب.
[3] {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3] الرق: مَا يُكْتَبُ فِيهِ، وَهُوَ أَدِيمُ المصحف، والمنشور الْمَبْسُوطُ، وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الْكِتَابِ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ مَا كَتَبَ اللَّهُ بِيَدِهِ لِمُوسَى مِنَ التَّوْرَاةِ [وَمُوسَى يَسْمَعُ صَرِيرَ الْقَلَمِ] .
وَقِيلَ: هو اللوح المحفوظ.
وقيل: هو دَوَاوِينُ الْحَفَظَةِ تَخْرُجُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْشُورَةً، فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشِمَالِهِ.
دَلِيلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا} [الْإِسْرَاءِ: 13]
[4] {وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ} [الطور: 4] بِكَثْرَةِ الْغَاشِيَةِ وَالْأَهْلِ،(6/901)
وهو بيت في السماء السابعة حِذَاءَ الْعَرْشِ بِحِيَالِ الْكَعْبَةِ يُقَالُ لَهُ: الضُّرَاحُ، حُرْمَتُهُ فِي السَّمَاءِ كَحُرْمَةِ الْكَعْبَةِ فِي الْأَرْضِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَطُوفُونَ بِهِ وَيُصَلُّونَ فِيهِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ أَبَدًا.
[5] {وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ} [الطور: 5] يَعْنِي السَّمَاءَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} [الأنبياء: 32]
[6] {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6] قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، والضحاك: يعني الموقد المحمى.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: الْمَسْجُورُ الْمَمْلُوءُ، يُقَالُ: سَجَّرْتُ الْإِنَاءَ إِذَا مَلَأْتُهُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ: هُوَ الْيَابِسُ الَّذِي قَدْ ذَهَبَ مَاؤُهُ وَنَضَبَ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أنس: هو المختلط العذب بالملح.
وَرَوَى الضَّحَّاكُ عَنِ النَّزَّالِ بْنِ سَبْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ فِي الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ.
هُوَ بَحْرٌ تحت العرش، سعته كما بين سبع سماوات إِلَى سَبْعِ أَرْضِينَ، فِيهِ مَاءٌ غَلِيظٌ يُقَالُ لَهُ بَحْرُ الْحَيَوَانِ.
تمطر الْعِبَادَ بَعْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى مِنْهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَيَنْبُتُونَ فِي قُبُورِهِمْ.
هَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ.
أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
[7] {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ} [الطور: 7] نَازِلٌ كَائِنٌ.
[8] {مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ} [الطور: 8] مانع، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّهُ مَتَى يَقَعُ فَقَالَ.
[9] {يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا} [الطور: 9] أَيْ تَدُورُ كَدَوَرَانِ الرَّحَى وَتَتَكَفَّأُ بِأَهْلِهَا تَكَفُّؤَ السَّفِينَةِ.
قَالَ قَتَادَةُ: تَتَحَرَّكُ.
قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: تَخْتَلِفُ أَجْزَاؤُهَا بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ.
وَقِيلَ: تضطرب، والمور يَجْمَعُ هَذِهِ الْمَعَانِي فَهُوَ فِي اللُّغَةِ: الذَّهَابُ وَالْمَجِيءُ وَالتَّرَدُّدُ وَالدَّوَرَانُ والاضطراب.
[10] {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [الطور: 10] فَتَزُولُ عَنْ أَمَاكِنِهَا وَتَصِيرُ هَبَاءً منثورا. 11،
[12] {فَوَيْلٌ} [الطور: 11] فَشِدَّةُ عَذَابٍ، {يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ - الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ} [الطور: 11 - 12] يَخُوضُونَ فِي الْبَاطِلِ يَلْعَبُونَ غَافِلِينَ لاهين.
[13] {يَوْمَ يُدَعُّونَ} [الطور: 13] يُدْفَعُونَ، {إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] دَفْعًا بِعُنْفٍ وَجَفْوَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّ خَزَنَةَ جَهَنَّمَ يَغُلُّونَ أَيْدِيَهُمْ إِلَى أَعْنَاقِهِمْ، وَيَجْمَعُونَ نَوَاصِيَهُمْ إِلَى أَقْدَامِهِمْ، ثم يدفعونهم إِلَى النَّارِ دَفْعًا عَلَى وُجُوهِهِمْ، وَزَجًّا فِي أَقْفِيَتِهِمْ حَتَّى يَرِدُوا النَّارَ، فَإِذَا دَنَوْا مِنْهَا قَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا:
[14] {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} [الطور: 14] في الدنيا.
[قوله تعالى أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ. . .]
[15] {أَفَسِحْرٌ هَذَا} [الطور: 15] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْسُبُونَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى السِّحْرِ، وَإِلَى أَنَّهُ يُغَطِّي عَلَى الْأَبْصَارِ بِالسِّحْرِ، فَوُبِّخُوا بِهِ، وَقِيلَ لهم: {أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ} [الطور: 15]
[16] {اصْلَوْهَا} [الطور: 16] قَاسُوا شِدَّتَهَا، {فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16] الصَّبْرُ وَالْجَزَعُ، {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] 17،
[18] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ - فَاكِهِينَ} [الطور: 17 - 18] مُعْجَبِينَ بِذَلِكَ نَاعِمَيْنِ، {بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} [الطور: 18] وَيُقَالُ لَهُمْ:
[19] {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا} [الطور: 19] مَأْمُونُ الْعَاقِبَةِ مِنَ التُّخَمَةِ وَالسَّقَمِ، {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 19]
[20] {مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ} [الطور: 20] مَوْضُوعَةٍ بَعْضُهَا إِلَى جَنْبِ بَعْضٍ، {وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ} [الطور: 20]
[21] {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ} [الطور: 21] اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ يَعْنِي أَوْلَادَهُمُ الصِّغَارَ وَالْكِبَارَ، فَالْكِبَارُ بِإِيمَانِهِمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَالصِّغَارُ بِإِيمَانِ آبَائِهِمْ، فَإِنَّ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِأَحَدِ الْأَبَوَيْنِ.
{أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ} [الطور: 21] الْمُؤْمِنِينَ فِي الْجَنَّةِ بِدَرَجَاتِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغُوا بِأَعْمَالِهِمْ دَرَجَاتِ آبَائِهِمْ تَكْرِمَةً لِآبَائِهِمْ لِتَقَرَّ بِذَلِكَ أَعْيُنُهُمْ، وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمُ الْبَالِغُونَ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمُ الصِّغَارَ الَّذِينَ لَمْ يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم، أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ(6/902)
يَجْمَعُ لِعَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ ذُرِّيَّتَهُ فِي الْجَنَّةِ كَمَا كَانَ يُحِبُّ فِي الدُّنْيَا أَنْ يَجْتَمِعُوا إِلَيْهِ، يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِهِ وَيُلْحِقُهُمْ بِدَرَجَتِهِ بِعَمَلِ أَبِيهِ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ الْآبَاءَ مِنْ أَعْمَالِهِمْ شَيْئًا، فَذَلِكَ قوله: {وَمَا أَلَتْنَاهُمْ} [الطور: 21] أَيْ مَا نَقَصْنَاهُمْ يَعْنِي الْآبَاءَ، {مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] قَالَ مُقَاتِلٌ: كُلُّ امْرِئٍ كَافِرٍ بِمَا عَمِلَ مِنَ الشِّرْكِ مُرْتَهَنٌ فِي النَّارِ وَالْمُؤْمِنُ لَا يَكُونُ مُرْتَهَنًا، لِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ - إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر: 38 - 39] ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَزِيدُهُمْ مِنَ الْخَيْرِ وَالنِّعْمَةِ.
[22] فَقَالَ: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ} [الطور: 22] زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ لَهُمْ، {وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الطور: 22] من أنواع اللحمان.
[23] {يَتَنَازَعُونَ} [الطور: 23] يَتَعَاطَوْنَ وَيَتَنَاوَلُونَ، {فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا} [الطور: 23] وهو الباطل.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَا فُضُولَ فِيهَا.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: لَا رَفَثَ فِيهَا.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لَا سِبَابَ وَلَا تَخَاصُمَ فِيهَا وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: لَا تَذْهَبُ عُقُولُهُمْ فَيَلْغُوا وَيَرْفُثُوا {وَلَا تَأْثِيمٌ} [الطور: 23] أَيْ لَا يَكُونُ مِنْهُمْ مَا يُؤَثِّمُهُمْ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا يَجْرِي بَيْنَهُمْ مَا يُلْغِي وَلَا مَا فِيهِ إِثْمٌ كَمَا يَجْرِي فِي الدنيا بشربة الْخَمْرِ.
وَقِيلَ: لَا يَأْثَمُونَ فِي شربها.
[24] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ} [الطور: 24] بالخدمة، {غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ} [الطور: 24] فِي الْحُسْنِ وَالْبَيَاضِ وَالصَّفَاءِ، {لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور: 24] مَخْزُونٌ مَصُونٌ لَمْ تَمَسَّهُ الْأَيْدِي.
قال سعيد بن جبير: مكنون يعني في الصدف.
[25] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} [الطور: 25] يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَذَاكَرُونَ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ التَّعَبِ وَالْخَوْفِ فِي الدُّنْيَا.
[26] {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا} [الطور: 26] في الدنيا، {مُشْفِقِينَ} [الطور: 26] خَائِفِينَ مِنَ الْعَذَابِ.
[27] {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} [الطور: 27] بالمغفرة، {وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [الطور: 27] قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَذَابَ النَّارِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: السَّمُومُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ.
[28] {إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ} [الطور: 28] في الدنيا {نَدْعُوهُ} [الطور: 28] نخلص له العبادة، {إِنَّهُ} [الطور: 28] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكِسَائِيُّ (أَنَّهُ) بِفَتْحِ الْأَلِفِ، أَيْ لِأَنَّهُ أَوْ بِأَنَّهُ.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْكَسْرِ عَلَى الاستئناف، {هُوَ الْبَرُّ} [الطور: 28] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: اللَّطِيفُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الصَّادِقُ فِيمَا وَعَدَ {الرَّحِيمُ} [الطور: 28]
[29] {فَذَكِّرْ} [الطور: 29] يَا مُحَمَّدُ بِالْقُرْآنِ أَهْلَ مَكَّةَ {فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ} [الطور: 29] برحمته وعصمته، {بِكَاهِنٍ} [الطور: 29] تبتدع القرآن وَتُخْبِرُ بِمَا فِي غَدٍ مِنْ غير وحي، {وَلَا مَجْنُونٍ} [الطور: 29] نَزَلَتْ فِي الَّذِينَ اقْتَسَمُوا عِقَابَ مَكَّةَ يَرْمُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْكِهَانَةِ وَالسِّحْرِ والجنون والشعر.
[30] {أَمْ يَقُولُونَ} [الطور: 30] بَلْ يَقُولُونَ يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْمُقْتَسِمِينَ الخراصين.
{شَاعِرٌ} [الطور: 30] أَيْ هُوَ شَاعِرٌ، {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] حَوَادِثَ الدَّهْرِ وَصُرُوفَهُ(6/903)
فَيَمُوتُ وَيَهْلَكُ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الشُّعَرَاءِ، وَيَتَفَرَّقُ أَصْحَابُهُ وأَنَّ أَبَاهُ مَاتَ شَابًّا وَنَحْنُ نَرْجُو أَنْ يَكُونَ مَوْتُهُ كَمَوْتِ أبيه، والمنون يَكُونُ بِمَعْنَى الدَّهْرِ وَيَكُونُ بِمَعْنَى الْمَوْتِ، سُمِّيَا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمَا يَقْطَعَانِ الأجل.
[31] {قُلْ تَرَبَّصُوا} [الطور: 31] انْتَظَرُوا بِيَ الْمَوْتَ، {فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ} [الطور: 31] مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ الله فيكم فتعذبوا يوم بدر بالسيف.
[قوله تعالى أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ] طَاغُونَ. . .
[32] {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ} [الطور: 32] عقولهم، {بِهَذَا} [الطور: 32] وَذَلِكَ أَنَّ عُظَمَاءَ قُرَيْشٍ كَانُوا يُوصَفُونَ بِالْأَحْلَامِ وَالْعُقُولِ، فَأَزْرَى اللَّهُ بعقولهم حين لم تتم لَهُمْ مَعْرِفَةُ الْحَقِّ مِنَ الْبَاطِلِ، {أَمْ هُمْ} [الطور: 32] بل هم، {قَوْمٌ طَاغُونَ} [الطور: 32]
[33] {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ} [الطور: 33] أي تخلق الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَالتَّقَوُّلُ: تكلف القول، ولا يستعمل ذلك إلا في الكذب وليس الْأَمْرُ كَمَا زَعَمُوا، {بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الطور: 33] بِالْقُرْآنِ اسْتِكْبَارًا.
[34] ثُمَّ أَلْزَمَهُمُ الْحُجَّةَ فقال: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ} [الطور: 34] أي مثل القرآن في نظمه وَحُسْنِ بَيَانِهِ، {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [الطور: 34] أن محمدا تقوله من تلقاء نَفْسِهِ.
[35] {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور: 35] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ غَيْرِ رَبٍّ، وَمَعْنَاهُ: أَخُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ خَلَقَهُمْ فَوُجِدُوا بِلَا خَالِقٍ، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ، لِأَنَّ تَعَلُّقَ الْخَلْقِ بِالْخَالِقِ من ضرورة الاسم، فلا بد له من خالق، فَإِنْ أَنْكَرُوا الْخَالِقَ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُوجَدُوا بِلَا خَالِقٍ، {أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور: 35] لأنفسهم ذلك فِي الْبُطْلَانِ أَشَدُّ، لِأَنَّ مَا لَا وُجُودَ لَهُ كَيْفَ يَخْلُقُ.
فَإِذَا بَطَلَ الْوَجْهَانِ قَامَتِ الْحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِأَنْ لَهُمْ خَالِقًا فَلْيُؤْمِنُوا بِهِ، ذَكَرَ هَذَا الْمَعْنَى أَبُو سليمان الخطابي.
قال الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ أَخُلِقُوا بَاطِلًا لَا يُحَاسَبُونَ وَلَا يُؤْمَرُونَ؟ .
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَخُلِقُوا عَبَثًا وَتُرِكُوا سُدًى لَا يُؤْمَرُونَ وَلَا يُنْهَوْنَ، فَهُوَ كَقَوْلِ الْقَائِلِ فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أَيْ لِغَيْرِ شَيْءٍ، أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فَلَا يَجِبْ عَلَيْهِمْ لِلَّهِ أَمْرٌ؟
[36] {أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الطور: 36] فَيَكُونُوا هُمُ الْخَالِقِينَ، لَيْسَ الْأَمْرُ كذلك، {بَل لَا يُوقِنُونَ} [الطور: 36]
[37] {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ} [الطور: 37] قَالَ عِكْرِمَةُ: يَعْنِي النُّبُوَّةَ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: أَبِأَيْدِيهِمْ مَفَاتِيحُ رَبِّكَ بِالرِّسَالَةِ فَيَضَعُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا؟
قَالَ الْكَلْبِيُّ: خَزَائِنُ الْمَطَرِ وَالرِّزْقِ، {أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ} [الطور: 37] الْمُسَلَّطُونَ الْجَبَّارُونَ، قَالَ عَطَاءٌ: أَرْبَابٌ قَاهِرُونَ فَلَا يَكُونُوا تَحْتَ أَمْرٍ ونهي، ويفعلون ما شاءوا.
[38] {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ} [الطور: 38] مَرْقًى وَمِصْعَدٌ إِلَى السَّمَاءِ، {يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38] أَيْ يَسْتَمِعُونَ عَلَيْهِ الْوَحْيَ، كَقَوْلِهِ: {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه: 71] أي عليها، أي أَلَهُمْ سُلَّمٌ يَرْتَقُونَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ، فَيَسْتَمِعُونَ الْوَحْيَ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ مَا هُمْ عَلَيْهِ حَقٌّ بِالْوَحْيِ، فهم متمسكون به كذلك؟ {فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ} [الطور: 38] إِنِ ادَّعَوْا ذَلِكَ، {بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [الطور: 38] بحجة بَيِّنَةٍ.
[39] {أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ} [الطور: 39] هَذَا إِنْكَارٌ عَلَيْهِمْ حِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ، كَقَوْلِهِ: {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ} [الصَّافَّاتِ: 149]
[40] {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا} [الطور: 40] جُعْلًا عَلَى مَا جِئْتَهُمْ بِهِ وَدَعَوْتَهُمْ إِلَيْهِ مِنَ الدِّينِ، {فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} [الطور: 40] أثقلهم ذلك الغرم الذي تسألهم، فمنعهم ذَلِكَ عَنِ الْإِسْلَامِ.
[41] {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ} [الطور: 41] أَيْ عِلْمُ مَا غَابَ عَنْهُمْ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّ مَا يُخْبِرُهُمُ الرَّسُولُ مِنْ أَمْرِ الْقِيَامَةِ وَالْبَعْثِ بَاطِلٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: {نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ} [الطور: 30] يَقُولُ: أَعِنْدَهُمْ عِلْمُ الْغَيْبِ حَتَّى عَلِمُوا أَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُوتُ قَبْلَهُمْ؟ {فَهُمْ يَكْتُبُونَ} [الطور: 41] قال القتيبي: فَهُمْ يَكْتُبُونَ أَيْ يَحْكُمُونَ، وَالْكِتَابُ الْحُكْمُ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلَيْنِ اللَّذَيْنِ تَخَاصَمَا إِلَيْهِ: «أَقْضِي بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللَّهِ» ، أَيْ بِحُكْمِ اللَّهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَمْ عِنْدَهُمُ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ مَا فِيهِ وَيُخْبِرُونَ النَّاسَ بِهِ؟ .(6/904)
[42] {أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا} [الطور: 42] مَكْرًا بِكَ لِيُهْلِكُوكَ، {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} [الطور: 42] أَيْ هُمُ الْمَجْزِيُّونَ بِكَيْدِهِمْ يُرِيدُ أَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ يَعُودُ عَلَيْهِمْ، وَيَحِيقُ مَكْرُهُمْ بِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ مَكَرُوا بِهِ فِي دَارِ النَّدْوَةِ فَقُتِلُوا بِبَدْرٍ.
[43] {أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ} [الطور: 43] يَرْزُقُهُمْ وَيَنْصُرُهُمْ، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الطور: 43] قَالَ الْخَلِيلُ: مَا فِي هَذِهِ السورة من ذكر أم كلمة اسْتِفْهَامٌ وَلَيْسَ بِعَطْفٍ.
[44] {وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا} [الطور: 44] قطعة، {مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا} [الطور: 44] هَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [الشعراء: 187] يَقُولُ: لَوْ عَذَّبْنَاهُمْ بِسُقُوطِ بَعْضٍ مِنَ السَّمَاءِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَنْتَهُوا عن كفرهم، {يَقُولُوا} [الطور: 44] لمعاندتهم هذا {سَحَابٌ مَرْكُومٌ} [الطور: 44] بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ يَسْقِينَا.
[45] {فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا} [الطور: 45] يعاينوا، {يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45] يموتون، أي حتى يعاينوا الموت.
[46] {يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} [الطور: 46] أَيْ لَا يَنْفَعُهُمْ كَيْدُهُمْ يَوْمَ الْمَوْتِ وَلَا يَمْنَعُهُمْ مِنَ الْعَذَابِ مانع.
[47] {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} [الطور: 47] كفروا، {عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ} [الطور: 47] أَيْ عَذَابًا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ عَذَابِ الْآخِرَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْقَتْلَ يَوْمَ بَدْرٍ.
وَقَالَ مجاهد: هُوَ الْجُوعُ وَالْقَحْطُ سَبْعَ سِنِينَ.
وَقَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ: هُوَ عَذَابُ الْقَبْرِ.
{وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الطور: 47] أَنَّ الْعَذَابَ نَازِلٌ بِهِمْ.
[48] {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور: 48] إِلَى أَنْ يَقَعَ بِهِمُ الْعَذَابُ الَّذِي حَكَمْنَا عَلَيْهِمْ، {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48] أَيْ بِمَرْأًى مِنَّا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَرَى مَا يُعْمَلُ بِكَ.
وقال الزجاج: معناه إِنَّكَ بِحَيْثُ نَرَاكَ وَنَحْفَظُكَ فَلَا يَصِلُونَ إِلَى مَكْرُوهِكَ.
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} [الطور: 48] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ أَيْ قُلْ حِينَ تَقُومُ مِنْ مَجْلِسِكَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ، فَإِنْ كان المجلس خيرا ازددت إِحْسَانًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ كان كفارة له.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: مَعْنَاهُ صَلِّ لِلَّهِ حِينَ تَقُومُ مِنْ مَقَامِكَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ، إِذَا قُمْتُ إِلَى الصَّلَاةِ فَقُلْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ وَتَبَارَكَ اسْمُكَ وَتَعَالَى جَدُّكَ وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ ذِكْرُ اللَّهِ بِاللِّسَانِ حِينَ تَقُومُ من الفراش إلى أن يدخل في صلاته.
[49] {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ} [الطور: 49] أَيْ صَلِّ لَهُ، قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ.
{وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49] يعني ركعتين قَبْلَ صَلَاةِ الْفَجْرِ، وَذَلِكَ حِينَ تُدْبِرُ النُّجُومُ أَيْ تَغِيبُ بِضَوْءِ الصُّبْحِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ فَرِيضَةُ صَلَاةِ الصبح.
[سورة النجم]
[قوله تعالى وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى] . . .(6/905)
(53) سورة النجم [1] {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [النجم: 1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - فِي رِوَايَةِ الْوَالِبِيِّ وَالْعَوْفِيِّ -: يَعْنِي الثُّرَيَّا إِذَا سقطت وغابت، وهويه مغيبه، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ نُجُومُ السَّمَاءِ كُلُّهَا حِينَ تَغْرُبُ، لَفْظُهُ وَاحِدٌ وَمَعْنَاهُ الْجَمْعُ؟ سُمِّيَ الْكَوْكَبُ نَجْمًا لِطُلُوعِهِ، وَكُلُّ طَالِعٍ نَجْمٌ يُقَالُ: نَجَمَ السِّنُّ وَالْقَرْنُ وَالنَّبْتُ إِذَا طلع.
عن ابن عباس: ما ترمى بها الشياطين عند استراقهم السمع، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالنَّجْمِ الْقُرْآنُ سَمِّيَ نَجْمًا؛ لِأَنَّهُ نُزِّلَ نُجُومًا مُتَفَرِّقَةً فِي عِشْرِينَ سَنَةً، وَسُمِّي التَّفْرِيقُ: تنجيما، والمفرق: منجما، والهوى: النُّزُولُ مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ.
[2، 3] وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} [النجم: 2] يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا ضَلَّ عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى، {وَمَا غَوَى - وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 2 - 3] يعني بِالْهَوَى يُرِيدُ لَا يَتَكَلَّمُ بِالْبَاطِلِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ الْقُرْآنَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ.
[4] {إِنْ هُوَ} [النجم: 4] مَا نُطْقُهُ فِي الدِّينِ، وَقِيلَ: القرآن، {إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 4] يعني وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ يُوحَى إِلَيْهِ.
[5] {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى} [النجم: 5] وهو جِبْرِيلُ، وَالْقُوَى جَمْعُ الْقُوَّةِ.
[6] {ذُو مِرَّةٍ} [النجم: 6] قُوَّةٍ وَشِدَّةٍ فِي خَلْقِهِ، يَعْنِي جِبْرِيلَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ذُو مِرَّةٍ يَعْنِي ذُو مَنْظَرٍ حَسَنٍ.
وقال قتادة: ذُو خَلْقٍ طَوِيلٍ حَسَنٍ.
{فَاسْتَوَى} [النجم: 6] يعني جبريل.
[7] {وَهُوَ} [النجم: 7] يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، وَمَعْنَى الْآيَةِ: اسْتَوَى جِبْرِيلُ وَمُحَمَّدٌ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ، {بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى} [النجم: 7] وَهُوَ أَقْصَى الدُّنْيَا عِنْدَ مَطْلَعِ الشَّمْسِ، وَقِيلَ: فَاسْتَوَى يَعْنِي جِبْرِيلَ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ جِبْرِيلَ أَيْضًا، أَيْ قَامَ فِي صُورَتِهِ الَّتِي خَلَقَهُ اللَّهُ، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى} [النجم: 8]
[8، 9] قوله عز وجل: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] اختلفوا في معناه، فقيل: جبريل فَمَعْنَى الْآيَةِ: ثُمَّ دَنَا جِبْرِيلُ بَعْدَ اسْتِوَائِهِ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى مِنَ الْأَرْضِ، فَتَدَلَّى فَنَزَلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، بل أدنى، وقال آخرون: ثم دنا الله عَزَّ وَجَلَّ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَدَلَّى، فَقَرُبَ مِنْهُ حَتَّى كَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أو أدنى، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: دَنَا جِبْرِيلُ مِنْ رَبِّهِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: دَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ رَبِّهِ فَتَدَلَّى فَأَهْوَى لِلسُّجُودِ، فَكَانَ مِنْهُ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: قَابَ قَوْسَيْنِ أَيْ قدر قوسين، والقاب والقيب، والقاد والقيد عبارة عن المقدار، والقوس: ما يرمى به، فَأَخْبَرَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَ جِبْرِيلَ وبين مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقدار قوسين.
[10] {فَأَوْحَى} [النجم: 10] أَيْ أَوْحَى اللَّهُ، {إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10] مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال ابن عباس، مَعْنَاهُ أَوْحَى جِبْرِيلُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا أَوْحَى إِلَيْهِ رَبُّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَوْحَى إِلَيْهِ: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضُّحَى: 6] إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشَّرْحِ: 4] وَقِيلَ: أَوْحَى إِلَيْهِ إِنَّ الْجَنَّةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أَنْتَ، وَعَلَى الْأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتُكَ.
[11] {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى} [النجم: 11] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ: مَا كَذَّبَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ، أَيْ: مَا كَذَّبَ قَلَبُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا رَأَى بِعَيْنِهِ تِلْكَ اللَّيْلَةَ، بَلْ صَدَّقَهُ وَحَقَّقَهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، أَيْ مَا كَذَبَ فُؤَادُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي رَأَى، بَلْ صَدَقَهُ، يُقَالُ: كَذَبَهُ إِذَا قَالَ لَهُ الكذب، وصدقه إذا قال له الصدق، مَجَازُهُ: مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ فِيمَا رَأَى، وَاخْتَلَفُوا فِي الَّذِي رَآهُ، فقال قوم: رأى جبريل، وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الرُّؤْيَةِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: جَعَلَ بَصَرَهُ في فؤاده فرأى بِفُؤَادِهِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ رَآهُ بعينه.(6/906)
[12] {أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى} [النجم: 12] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ: (أَفَتَمْرُونَهُ) بفتح التاء بِلَا أَلْفٍ، أَيْ أَفَتَجْحَدُونَهُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: مَرَيْتُ الرَّجُلَ حَقَّهُ إِذَا جَحَدْتُهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: (أَفَتُمَارُونَهُ) بِالْأَلْفِ وَضَمِّ التَّاءِ، عَلَى مَعْنَى أَفَتُجَادِلُونَهُ عَلَى مَا يَرَى، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ جَادَلُوهُ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ، فَقَالُوا: صف لنا بيت المقدس.
[13] {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] يَعْنِي رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ التي خلق عليه نَازِلًا مِنَ السَّمَاءِ نَزْلَةً أُخْرَى.
وَذَلِكَ أَنَّهُ رَآهُ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً فِي الْأَرْضِ وَمَرَّةً فِي السَّمَاءِ.
[14] {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} [النجم: 14] وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَى.
{نَزْلَةً أُخْرَى} [النجم: 13] هُوَ أَنَّهُ كَانَتْ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَرَجَاتٌ فِي تلك الليلة لمسألته التَّخْفِيفِ مِنْ أَعْدَادِ الصَّلَوَاتِ، فَيَكُونُ لِكُلِّ عَرْجَةٍ نَزْلَةٌ، فَرَأَى رَبَّهُ في بعضها، وَالسِّدْرَةُ شَجْرَةُ النَّبْقِ، وَقِيلَ لَهَا: سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى لِأَنَّهُ إِلَيْهَا يَنْتَهِي علم الخلق.
[15] {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: جنة المأوى جَنَّةٌ يَأْوِي إِلَيْهَا جِبْرِيلُ وَالْمَلَائِكَةُ.
وقال مقاتل والكلبي: تأوي إِلَيْهَا أَرْوَاحُ الشُّهَدَاءِ.
[16] {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النَّجْمِ: 16] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ، وقال مقاتل: تغشاها الملائكة وقال السدي: من الطيور، وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: غَشِيَهَا نُورُ رب العزة فاستنارت.
[17] {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى} [النجم: 17] أَيْ مَا مَالَ بَصَرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وَمَا طَغَى، أَيْ مَا جَاوَزَ مَا رَأَى.
وَقِيلَ: مَا جَاوَزَ مَا أُمِرَ بِهِ وَهَذَا وَصْفُ أَدَبِهِ فِي ذَلِكَ الْمَقَامِ إِذْ لَمْ يَلْتَفِتْ جَانِبًا.
[18] {لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 18] يَعْنِي الْآيَاتِ الْعِظَامِ.
وَقِيلَ: أَرَادَ مَا رَأَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي مسيره وعوده.
[19] قوله: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى} [النجم: 19] هَذِهِ أَسْمَاءُ أَصْنَامٍ اتَّخَذُوهَا آلِهَةً يعبدونها.
[20] {وَمَنَاةَ} [النجم: 20] قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ لِخُزَاعَةَ كَانَتْ بقديد، وقال ابْنُ زَيْدٍ: بَيْتٌ كَانَ بِالْمُشَلَّلِ يَعْبُدُهُ بْنُو كَعْبٍ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: مَنَاةُ صَنَمٌ لِهُذَيْلٍ وَخُزَاعَةَ يَعْبُدُهَا أَهْلُ مَكَّةَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ أَصْنَامٌ مِنْ حِجَارَةٍ كَانَتْ فِي جَوْفِ الْكَعْبَةِ يَعْبُدُونَهَا، وأما قوله: {الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 20] فَالثَّالِثَةُ نَعْتٌ لِمَنَاةَ أَيِ الثَّالِثَةَ للصنمين في الذكر، ومعنى الآية: أفرأيتم أخبرونا أَيُّهَا الزَّاعِمُونَ أَنَّ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ومناة بنات الله، تعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. 21،
[22] فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى مُنْكِرًا عَلَيْهِمْ: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى - تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى} [النجم: 21 - 22] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ: أَيْ قِسْمَةٌ جَائِرَةٌ حَيْثُ جَعَلْتُمْ لِرَبِّكُمْ مَا تَكْرَهُونَ لِأَنْفُسِكُمْ.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: قِسْمَةٌ(6/907)
عَوْجَاءُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: غَيْرُ مُعْتَدِلَةٍ.
[23] {إِنْ هِيَ} [النجم: 23] مَا هَذِهِ الْأَصْنَامُ، {إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [النجم: 23] حجة وبرهان بِمَا تَقُولُونَ إِنَّهَا آلِهَةً، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى الْخَبَرِ بَعْدَ الْمُخَاطَبَةِ فَقَالَ: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ} [النجم: 23] فِي قَوْلِهِمْ إِنَّهَا آلِهَةً، {وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ} [النجم: 23] وَهُوَ مَا زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ، {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] الْبَيَانُ بِالْكِتَابِ وَالرَّسُولِ أَنَّهَا لَيْسَتْ بآلهة، وأن الْعِبَادَةَ لَا تَصْلُحُ إِلَّا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ.
[24] {أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى} [النجم: 24] أَيُظَنُّ الْكَافِرُ أَنَّ لَهُ مَا يَتَمَنَّى وَيَشْتَهِي مِنْ شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ.
[25] {فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى} [النجم: 25] لَيْسَ كَمَا ظَنَّ الْكَافِرُ وَتَمَنَّى، بَلْ لِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأَوْلَى لَا يَمْلِكَ أَحَدٌ فِيهِمَا شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِهِ.
[26] {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ} [النجم: 26] ممن يَعْبُدُهُمْ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارُ وَيَرْجُونَ شَفَاعَتَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ، {لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ} [النجم: 26] فِي الشَّفَاعَةِ، {لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26] أَيْ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ لَا تَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ إِلَّا لِمَنْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَجَمَعَ الْكِنَايَةَ فِي قَوْلِهِ: شَفَاعَتُهُمْ وَالْمَلَكُ وَاحِدٌ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ، الْكَثْرَةُ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الْحَاقَّةِ: 47]
[قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ] الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى. . .
[27] {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى} [النجم: 27] أَيْ بِتَسْمِيَةِ الْأُنْثَى حِينَ قَالُوا: إِنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ.
[28] {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} [النجم: 28] قَالَ مُقَاتِلٌ: مَعْنَاهُ مَا يَسْتَيْقِنُونَ أنهم إناث، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] وَالْحَقُّ بِمَعْنَى الْعِلْمِ أَيْ لَا يَقُومُ الظَّنُّ مَقَامَ الْعِلْمِ.
وَقِيلَ: الْحَقُّ بِمَعْنَى الْعَذَابِ، أَيْ أَظُنُّهُمْ لا ينقذهم من العذاب.
[29] {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا} [النجم: 29] يَعْنِي الْقُرْآنَ.
وَقِيلَ: الْإِيمَانُ، {وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29]
[30] ثُمَّ صَغَّرَ رَأْيَهُمْ، فَقَالَ: {ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} [النجم: 30] أَيْ ذَلِكَ نِهَايَةُ عِلْمِهِمْ وَقَدْرُ عُقُولِهِمْ أَنْ آثَرُوا الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: لَمْ يَبْلُغُوا مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا ظَنَّهُمْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ، وَأَنَّهَا تَشْفَعُ لَهُمْ فَاعْتَمَدُوا عَلَى ذَلِكَ وَأَعْرَضُوا عَنِ الْقُرْآنِ.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى} [النجم: 30] أَيْ هُوَ عَالِمٌ بِالْفَرِيقَيْنِ فَيُجَازِيهِمْ.
[31] {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النجم: 31] وَهَذَا مُعْتَرِضٌ بَيْنَ الْآيَةِ الْأُولَى وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا} [النجم: 31] فَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: (لِيَجْزِيَ) مُتَعَلِّقٌ بِمَعْنَى الْآيَةِ الْأُولَى، لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ أَعْلَمَ بِهِمْ جَازَى كُلًّا بما يستحقه، الذين أساءوا أي أشركوا بِمَا عَمِلُوا مِنَ الشِّرْكِ، {وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} [النجم: 31] وَحَّدُوا رَبَّهُمْ بِالْحُسْنَى بِالْجَنَّةِ، وَإِنَّمَا يُقَدَّرُ عَلَى مُجَازَاةِ الْمُحْسِنِ وَالْمُسِيءِ إِذَا كَانَ كَثِيرَ الْمُلْكِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [النجم: 31]
[32] ثُمَّ وَصَفَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ} [النجم: 32] اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ صَحِيحٌ، وَاللَّمَمُ: مِنَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِلَّا أَنْ يُلِمَّ بِالْفَاحِشَةِ مَرَّةً ثُمَّ يَتُوبُ، وَيَقَعُ الْوَقْعَةَ ثُمَّ ينتهي، وَأَصْلُ اللَّمَمِ وَالْإِلْمَامِ مَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ الْحِينَ بَعْدَ الْحِينِ، وَلَا يكون له إعادة ولا إقامة عليه.
وَقَالَ آخَرُونَ: هَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ مَجَازُهُ لَكِنِ اللَّمَمَ، وَلَمْ يَجْعَلُوا اللَّمَمَ مِنَ الْكَبَائِرِ وَالْفَوَاحِشِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي مَعْنَاهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَا سَلَفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فلا يؤاخذهم الله به، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صِغَارُ الذُّنُوبِ كَالنَّظْرَةِ وَالْغَمْزَةِ وَالْقُبْلَةِ وَمَا كَانَ دون الزنا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: اللَّمَمُ عَلَى وَجْهَيْنِ كُلُّ ذَنْبٍ لَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ عَلَيْهِ حَدًّا فِي الدُّنْيَا وَلَا عذابا في الآخرة فلذلك الَّذِي تُكَفِّرُهُ الصَّلَوَاتُ مَا لَمْ يَبْلُغِ الْكَبَائِرَ وَالْفَوَاحِشَ، وَالْوَجْهُ الْآخَرُ هُوَ: الذَّنْبُ(6/908)
الْعَظِيمُ يُلِمُّ بِهِ الْمُسْلِمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ فَيَتُوبُ مِنْهُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: هُوَ مَا لَمَّ عَلَى الْقَلْبِ أَيْ خَطَرَ.
وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: اللَّمَمُ النَّظْرَةُ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ فَهُوَ مغفور، فإن أعاد النظر فَلَيْسَ بِلَمَمٍ وَهُوَ ذَنْبٌ.
{إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} [النجم: 32] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنْ فَعَلَ ذلك وتاب، تم الكلام ههنا، ثُمَّ قَالَ: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} [النجم: 32] أَيْ: خَلَقَ أَبَاكُمْ آدَمَ مِنَ التراب، {وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ} [النجم: 32] جَمْعُ جَنِينٍ، سُمِّيَ جَنِينًا لِاجْتِنَانِهِ فِي الْبَطْنِ، {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ} [النجم: 32] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَمْدَحُوهَا.
قَالَ الْحَسَنُ: عَلِمَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ نَفْسٍ مَا هِيَ صَانِعَةٌ وَإِلَى مَا هِيَ صَائِرَةٌ، فَلَا تزكوا أنفسكم، فلا تبرؤها عَنِ الْآثَامِ وَلَا تَمْدَحُوهَا بِحُسْنِ أعمالها {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32] أَيْ بَرَّ وَأَطَاعَ وَأَخْلَصَ الْعَمَلَ لله تعالى.
[33] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى} [النجم: 33] نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، كَانَ قَدِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى دِينِهِ فعيره بعض المشركين، وقال: أَتَرَكْتَ دِينَ الْأَشْيَاخِ وَضَلَلْتَهُمْ؟ قَالَ: إِنِّي خَشِيتُ عَذَابَ اللَّهِ فَضَمِنَ الذي عاتبه إن هو أَعْطَاهُ كَذَا مِنْ مَالِهِ وَرَجَعَ إِلَى شِرْكِهِ أَنْ يَتَحَمَّلَ عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ، فَرَجَعَ الْوَلِيدُ إِلَى الشِّرْكِ وَأَعْطَى الَّذِي عَيَّرَهُ بَعْضَ ذَلِكَ الْمَالِ الَّذِي ضَمِنَ وَمَنْعَهُ تَمَامَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى) أَدْبَرَ عَنِ الإيمان.
[34] {وَأَعْطَى} [النجم: 34] صاحبه، {قَلِيلًا وَأَكْدَى} [النجم: 34] بخل بالباقي، وَمَعْنَى أَكْدَى: يَعْنِي قَطَعَ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْكُدْيَةِ وَهِيَ حَجَرٌ يَظْهَرُ فِي الْبِئْرِ يَمْنَعُ مِنَ الْحَفْرِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَكْدَى الْحَافِرَ وَأَجْبَلَ إِذَا بَلَغَ فِي الْحَفْرِ الْكُدْيَةَ وَالْجَبَلَ.
[35] {أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى} [النجم: 35] مَا غَابَ عَنْهُ وَيَعْلَمُ أَنَّ صَاحِبَهُ يَتَحَمَّلُ عَنْهُ عَذَابَهُ.
[36] {أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ} [النجم: 36] لَمْ يُخْبَرْ، {بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى} [النجم: 36] يعني: أسفار التوراة.
[37] {وَإِبْرَاهِيمَ} [النجم: 37] وفي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {الَّذِي وَفَّى} [النجم: 37] تَمَّمَ وَأَكْمَلَ مَا أُمِرَ بِهِ.
قَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقَتَادَةُ: عَمِلَ بِمَا أُمِرَ بِهِ وَبَلَّغَ رِسَالَاتِ رَبِّهِ إِلَى خَلْقِهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَفَّى بِمَا فُرِضَ عَلَيْهِ.
قَالَ الرَّبِيعُ: وَفَّى رُؤْيَاهُ وَقَامَ بِذَبْحِ ابْنِهِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: اسْتَكْمَلَ الطَّاعَةَ.
وَقَالَ أَبُو العالية: وفى سهام الإسلام، وَالتَّوْفِيَةُ الْإِتْمَامُ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: وَفَّى ميثاق المناسك.
[38] ثُمَّ بَيَّنَ مَا فِي صُحُفِهِمَا فَقَالَ: {أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [النجم: 38] أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ حَامِلَةٌ حِمْلَ أُخْرَى، وَمَعْنَاهُ: لَا تُؤْخَذُ نفس بإثم غيرها.
[39] {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} [النجم: 39] أَيْ عَمِلَ كَقَوْلِهِ: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [اللَّيْلِ: 4] وَهَذَا أَيْضًا فِي صحف إبراهيم وموسى.
[40] {وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى} [النجم: 40] فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ(6/909)
القيامة، مأخوذة من: مِنْ أَرَيْتُهُ الشَّيْءَ.
[41] {ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} [النجم: 41] الْأَكْمَلَ وَالْأَتَمَّ أَيْ يُجْزَى الْإِنْسَانُ بِسَعْيهِ، يُقَالُ: جَزَيْتُ فُلَانًا سَعْيَهُ وبسعيه.
[42] {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النَّجْمِ: 42] أَيْ مُنْتَهَى الْخَلْقِ وَمَصِيرُهُمْ إِلَيْهِ، وَهُوَ مُجَازِيهِمْ بِأَعْمَالِهِمْ.
وَقِيلَ: مِنْهُ ابْتِدَاءُ الْمِنَّةِ وَإِلَيْهِ انْتِهَاءُ الْآمَالِ.
[43] {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى} [النجم: 43] فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يَعْمَلُهُ الْإِنْسَانُ فَبِقَضَائِهِ وَخَلْقِهِ حَتَّى الضَّحِكُ وَالْبُكَاءُ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْكَلْبِيُّ: أَضْحَكَ أَهْلَ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ، وَأَبْكَى أَهْلَ النَّارِ فِي النَّارِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَضْحَكَ الْأَرْضَ بِالنَّبَاتِ، وَأَبْكَى السَّمَاءَ بِالْمَطَرِ.
قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي مُسْلِمٍ: يَعْنِي فرح وَأَحْزَنُ، لِأَنَّ الْفَرَحَ يَجْلِبُ الضَّحِكَ، والحزن يجلب البكاء.
[44] {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 44] أَيْ أَمَاتَ فِي الدُّنْيَا وَأَحْيَا لِلْبَعْثِ.
وَقِيلَ أَمَاتَ الْآبَاءَ وَأَحْيَا الْأَبْنَاءَ.
وَقِيلَ: أَمَاتَ الْكَافِرَ بِالنَّكِرَةِ وأحيا المؤمن بالمعرفة.
[قوله تعالى وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى] . . .
[45] {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [النجم: 45] مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ.
[46] {مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى} [النجم: 46] أَيْ تُصَبُّ فِي الرَّحِمِ، يُقَالُ منى الرجل وأمنى وقيل: تُقَدَّرُ، يُقَالُ: مَنَيْتُ الشَّيْءَ إِذَا قَدَّرْتُهُ.
[47] {وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى} [النجم: 47] أَيِ الْخَلْقَ الثَّانِي لِلْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
[48] {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [النجم: 48] قَالَ أَبُو صَالِحٍ: أَغْنَى النَّاسَ بِالْأَمْوَالِ، وَأَقْنَى أَيْ: أَعْطَى الْقِنْيَةَ وَأُصُولَ الْأَمْوَالِ وَمَا يَدَّخِرُونَهُ بَعْدَ الْكِفَايَةِ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: أَغْنَى بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَصُنُوفِ الْأَمْوَالِ وَأَقْنَى بِالْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: أَقْنَى أَخْدَمَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَغْنَى وَأَقْنَى: أَعْطَى فَأَرْضَى.
قَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: أَقْنَى أَرْضَى بِمَا أَعْطَى وَقَنَعَ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَغْنَى: أَكْثَرَ، وَأَقْنَى: أَقَلَّ، وَقَرَأَ: (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ) ، وَقَالَ الْأَخْفَشُ: أَقْنَى أَفْقَرَ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَوْلَدَ.
[49] {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [النجم: 49] وهو كوكب خلف الجوزاء وكانت خزاعة تعبدها.
[50] {وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى} [النَّجْمِ: 50] وَهُمْ قَوْمُ هُودٍ أُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ فَكَانَ لَهُمْ عَقِبٌ فَكَانُوا عادا الأخرى.
[51] {وَثَمُودَ} [النجم: 51] وهم قَوْمُ صَالِحٍ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ بِالصَّيْحَةِ، {فَمَا أَبْقَى} [النجم: 51] مِنْهُمْ أَحَدًا.
[52] {وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ} [النجم: 52] أَيْ أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلِ عَادٍ وَثَمُودَ {إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى} [النجم: 52] لِطُولِ دَعْوَةِ نُوحٍ إِيَّاهُمْ وَعُتُوِّهُمْ عَلَى اللَّهِ بِالْمَعْصِيَةِ وَالتَّكْذِيبِ.
[53] {وَالْمُؤْتَفِكَةَ} [النجم: 53] يعني: قرى قوم لوط، {أَهْوَى} [النجم: 53] أسقط أي أهواها جبريل بعد ما رفعها إلى السماء.
[54] {فَغَشَّاهَا} [النجم: 54] ألبسها الله، {مَا غَشَّى} [النجم: 54] يَعْنِي الْحِجَارَةَ الْمَنْضُودَةَ الْمُسَوَّمَةَ.
[55] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ} [النجم: 55] نِعَمِ رَبِّكَ أَيُّهَا الْإِنْسَانُ، وَقِيلَ: أَرَادَ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةَ، {تَتَمَارَى} [النجم: 55] تشك وتجادل، قال ابْنُ عَبَّاسٍ: تَكْذِبُ.
[56] {هَذَا نَذِيرٌ} [النجم: 56] يعني محمدا، {مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى} [النجم: 56] أي رسول من الرسل أرسل إِلَيْكُمْ كَمَا أُرْسِلُوا إِلَى أَقْوَامِهِمْ، وَقَالَ قَتَادَةُ: يَقُولُ أَنْذَرَ مُحَمَّدٌ كَمَا أَنْذَرَ الرُّسُلُ مِنْ قَبْلِهِ.
[57] {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} [النجم: 57] دَنَتِ الْقِيَامَةُ وَاقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ.
[58] {لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ} [النجم: 58] أَيْ مُظْهِرَةٌ مُقِيمَةٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ} [الْأَعْرَافِ: 187] وَالْهَاءُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ نَفْسٌ كَاشِفَةٌ، وَيَجُوزُ أن تكون الكاشفة مصدرا كالخيالة وَالْعَافِيَةِ، وَالْمَعْنَى: لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفٌ، أَيْ لَا(6/910)
يَكْشِفُ عَنْهَا وَلَا يُظْهِرُهَا غَيْرُهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَيْسَ لَهَا رَادٌّ يَعْنِي إِذَا غَشِيَتِ الْخَلْقَ أَهْوَالُهَا وَشَدَائِدُهَا لَمْ يَكْشِفْهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا عنهم أحد. 59،
[60] {أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ} [النجم: 59] يعني القرآن، {تَعْجَبُونَ - وَتَضْحَكُونَ} [النجم: 59 - 60] الاستهزاء، {وَلَا تَبْكُونَ} [النجم: 60] لما فيه من الوعد والوعيد.
[61] {وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ} [النجم: 61] لاهون غافلون.
والسمود الْغَفْلَةُ عَنِ الشَّيْءِ وَاللَّهْوُ، يُقَالُ: دع عنا سُمُودَكَ أَيْ لَهْوَكَ، هَذَا رِوَايَةُ الْوَالِبِيُّ وَالْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ عَنْهُ: هُوَ الْغِنَاءُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْيَمَنِ وَكَانُوا إِذَا سَمِعُوا الْقُرْآنَ تَغَنَّوْا وَلَعِبُوا، وَقَالَ الضحاك: آشرون بطرون.
[62] {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] أي واعبدوه.
[سورة الْقَمَرُ]
[قوله تعالى اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. . .]
(54) سورة الْقَمَرُ [1] {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ} [القمر: 1] دنت القيامة، {وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر: 1] عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يُرِيَهُمْ آيَةً فَأَرَاهُمُ الْقَمَرَ شَقَّتَيْنِ حتى رأوا حراء بينهما (1) .
[2] {وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ} [القمر: 2] أَيْ ذَاهِبٌ وَسَوْفَ يَذْهَبُ وَيَبْطُلُ مِنْ قَوْلِهِمْ مَرَّ الشَّيْءُ وَاسْتَمَرَّ إِذَا ذَهَبَ، مِثْلُ قَوْلِهِمْ: قَرَّ واستقر، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالضَّحَّاكُ: مُسْتَمِرٌّ أَيْ قَوِيٌّ شَدِيدٌ يَعْلُو كُلَّ سِحْرٍ، مِنْ قَوْلِهِمْ: مَرَّ الْحَبْلُ إِذَا صلب واشتد، وأمررته أنا إِذَا أَحْكَمْتُ فَتْلَهُ وَاسْتَمَرَّ الشَّيْءُ إِذَا قَوِيَ وَاسْتَحْكَمَ.
[3] {وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ} [القمر: 3] أَيْ كَذَّبُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا عَايَنُوا مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَاتَّبَعُوا مَا زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنْ الباطل، {وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 3] قَالَ الْكَلْبِيُّ: لِكُلِّ أَمْرٍ حَقِيقَةٌ، مَا كَانَ مِنْهُ فِي الدُّنْيَا فَسَيَظْهَرُ وَمَا كَانَ مِنْهُ فِي الْآخِرَةِ فَسَيُعْرَفُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ فَالْخَيْرُ مُسْتَقِرُّ بِأَهْلِ الْخَيْرِ، وَالشَّرُّ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِ الشَّرِّ.
وَقِيلَ كُلُّ أَمْرٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ مُسْتَقِرٌّ قَرَارُهُ، فَالْخَيْرُ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ فِي الْجَنَّةِ، وَالشَّرُّ مُسْتَقِرٌّ بِأَهْلِهِ فِي النَّارِ.
وَقِيلَ: يَسْتَقِرُّ قَوْلُ الْمُصَدِّقِينَ وَالْمُكَذِّبِينَ حَتَّى يَعْرِفُوا حَقِيقَتَهُ بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لِكُلِّ حَدِيثٍ مُنْتَهَى.
وَقِيلَ: كل ما قدر كائن وواقع لا محالة.
[4] {وَلَقَدْ جَاءَهُمْ} [القمر: 4] يَعْنِي أَهَّلَ مَكَّةَ، {مِنَ الْأَنْبَاءِ} [القمر: 4] من أَخْبَارِ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ فِي الْقُرْآنِ، {مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ} [القمر: 4] مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الِازْدِجَارِ، أَيْ نَهْيٌ وَعِظَةٌ، يُقَالُ زَجَرْتُهُ وَازْدَجَرْتُهُ إِذَا نَهَيْتُهُ عَنِ السُّوءِ، وَأَصْلُهُ مُزْتَجَرٌ، قُلِبَتِ التَّاءُ دَالًا.
[5] {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر: 5] يَعْنِي: الْقُرْآنُ حِكْمَةٌ تَامَّةٌ قَدْ بلغت الغاية في الزجر، {فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ} [القمر: 5] يجوز
_________
(1) أخرجه البخاري في مناقب الأنصار 7 / 187.(6/911)
أَنْ تَكُونَ (مَا) نَفْيًا عَلَى مَعْنَى فَلَيْسَتْ تُغْنِي النُّذُرُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْتِفْهَامًا، وَالْمَعْنَى: فَأَيَّ شَيْءٍ تُغْنِي النُّذُرُ إِذَا خَالَفُوهُمْ وَكَذَّبُوهُمْ، كَقَوْلِهِ: {وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ} [يونس: 101] والنذر جمع نذير.
[6] {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ} [القمر: 6] أي أَعْرِضْ عَنْهُمْ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ.
قيل: ههنا وَقَفٌ تَامٌّ.
وَقِيلَ: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ.
{يَوْمَ يَدْعُو الدَّاعِ} [القمر: 6] أَيْ إِلَى يَوْمِ الدَّاعِي، قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ إِسْرَافِيلُ يَنْفُخُ قَائِمًا عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، {إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ} [القمر: 6] مُنْكَرٍ فَظِيعٍ لَمْ يَرَوْا مِثْلَهُ فينكروه استعظاما.
[قوله تعالى خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ] كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ. . .
[7] {خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ} [القمر: 7] في قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ: (خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ) أَيْ: ذَلِيلَةً خَاضِعَةً عِنْدَ رُؤْيَةِ العذاب.
{يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} [القمر: 7] مِنَ الْقُبُورِ، {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [القمر: 7] مُنْبَثٌّ حَيَارَى، وَذَكَرَ الْمُنْتَشِرَ عَلَى لَفْظِ الْجَرَادِ، نَظِيرُهُا: {كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [الْقَارِعَةِ: 4] وَأَرَادَ أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ فَزِعِينَ لَا جِهَةَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ يَقْصِدُهَا كَالْجَرَادِ لَا جِهَةَ لَهَا تَكُونُ مُخْتَلِطَةً بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ.
[8] {مُهْطِعِينَ} [القمر: 8] مسرعين مقبلين، {إِلَى الدَّاعِي} [القمر: 8] إِلَى صَوْتِ إِسْرَافِيلَ، {يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ} [القمر: 8] صَعْبٌ شَدِيدٌ.
[9] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ} [القمر: 9] أَيْ قَبْلَ أَهْلِ مَكَّةَ، {قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا} [القمر: 9] نوحا، {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر: 9] أَيْ زَجَرُوهُ عَنْ دَعْوَتِهِ وَمَقَالَتِهِ بِالشَّتْمِ وَالْوَعِيدِ، وَقَالُوا: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} [الشُّعَرَاءِ: 116] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَعْنَى ازْدُجِرَ أَيِ اسْتُطِيرَ جُنُونًا.
[10] {فَدَعَا} [القمر: 10] نوح، {رَبَّهُ} [القمر: 10] وقال، {أَنِّي مَغْلُوبٌ} [القمر: 10] مقهور، {فَانْتَصِرْ} [القمر: 10] فَانْتَقِمْ لِي مِنْهُمْ.
[11] {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 11] مُنْصَبٍّ انْصِبَابًا شَدِيدًا لَمْ يَنْقَطِعْ أربعين يوما.
[12] {وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ} [القمر: 12] يَعْنِي مَاءَ السَّمَاءِ وَمَاءَ الْأَرْضِ، وإنما قال: التقى الْمَاءُ وَالِالْتِقَاءُ لَا يَكُونُ مِنْ وَاحِدٍ إِنَّمَا يَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا لِأَنَّ الْمَاءَ يَكُونُ جَمْعًا وواحدا، {عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] أَيْ قُضِيَ عَلَيْهِمْ فِي أُمِّ الْكِتَابِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: قَدَّرَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ الْمَاءَانِ سَوَاءً فَكَانَا على قدر.
[13] {وَحَمَلْنَاهُ} [القمر: 13] يَعْنِي نُوحًا، {عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} [القمر: 13] أَيْ سَفِينَةٍ ذَاتِ أَلْوَاحٍ، ذَكَرَ النَّعْتَ وَتَرَكَ الِاسْمَ، أَرَادَ بِالْأَلْوَاحِ خَشَبَ السَّفِينَةِ الْعَرِيضَةِ، (وَدُسُرٍ) أَيِ الْمَسَامِيرُ الَّتِي تُشَدُّ بِهَا الْأَلْوَاحُ، وَاحِدُهَا دِسَارٌ وَدَسِيرٌ، يُقَالُ: دَسَرْتُ السَّفِينَةَ إِذَا شَدَدْتُهَا بِالْمَسَامِيرِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: الدُّسُرُ صَدْرُ السَّفِينَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَدْسُرُ الْمَاءَ بِجُؤْجُئِهَا، أَيْ تَدْفَعُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ عَوَارِضُ السَّفِينَةِ.
وَقِيلَ: أَضْلَاعُهَا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: الْأَلْوَاحُ جَانِبَاهَا، وَالدُّسُرُ أَصْلُهَا وطرفاها.
[14] {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا} [القمر: 14] أَيْ بِمَرْأًى مِنَّا.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: بِحِفْظِنَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ لِلْمُوَدَّعِ: عَيْنُ اللَّهِ عَلَيْكَ.
وَقَالَ سُفْيَانُ: بِأَمْرِنَا.
{جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 14] يَعْنِي فِعْلَنَا بِهِ وَبِهِمْ مِنْ إِنْجَاءِ نُوحٍ وَإِغْرَاقِ قَوْمِهِ ثَوَابًا لِمَنْ كَانَ كُفِرَ بِهِ وَجُحِدَ أَمْرُهُ، وَهُوَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقِيلَ: (مَنْ) بِمَعْنَى (مَا) أَيْ جَزَاءً لِمَا كَانَ كُفِرَ مِنْ أَيَادِي اللَّهِ وَنِعَمِهِ عِنْدَ الَّذِينَ أَغْرَقَهُمْ، أَوْ جَزَاءً لِمَا صُنْعَ بِنُوحٍ وَأَصْحَابِهِ، وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ (جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْفَاءِ، يَعْنِي كَانَ الْغَرَقُ جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كَفَرَ بِاللَّهِ وَكَذَّبَ رسوله.
[15] {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا} [القمر: 15] يَعْنِي الْفِعْلَةَ الَّتِي فَعَلْنَا، {آيَةً} [القمر: 15] يُعْتَبَرُ بِهَا.
وَقِيلَ: أَرَادَ السَّفِينَةَ.
قَالَ قَتَادَةُ: أَبْقَاهَا اللَّهُ بِبَاقِرِ دِي مِنْ أَرْضِ الْجَزِيرَةِ، عِبْرَةً وَآيَةً حَتَّى نَظَرَتْ إِلَيْهَا أَوَائِلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 15] أَيْ مُتَذَكِّرٍ مُتَّعِظٍ مُعْتَبِرٍ خَائِفٍ مثل عقوبتهم.(6/912)
[16] {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 16] أَيْ إِنْذَارِي، قَالَ الْفَرَّاءُ: الْإِنْذَارُ وَالنُّذُرُ مَصْدَرَانِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَنْذَرْتُ إِنْذَارًا وَنُذُرًا، كَقَوْلِهِمْ أَنْفَقْتُ إِنْفَاقًا وَنَفَقَةً، وَأَيْقَنْتُ إِيقَانًا وَيَقِينًا، أُقِيمَ الِاسْمُ مَقَامَ الْمَصْدَرِ.
[17] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا} [القمر: 17] سهلنا، {الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ} [القمر: 17] لِيُتَذَكَّرَ وَيُعْتَبَرَ بِهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَسَّرْنَاهُ لِلْحِفْظِ وَالْقِرَاءَةِ، وَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ يُقْرَأُ كُلُّهُ ظَاهِرًا إِلَّا الْقُرْآنَ.
{فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17] مُتَّعِظٍ بِمَوَاعِظِهِ. 18،
[19] {كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} [القمر: 18 - 19] شَدِيدَةَ الْهُبُوبِ، {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ} [القمر: 19] شَدِيدٍ دَائِمِ الشُّؤْمِ، اسْتَمَرَّ عَلَيْهِمْ بِنَحْوِ سَنَةٍ فَلَمْ يُبْقِ مِنْهُمْ أحد إِلَّا أَهْلَكَهُ، قِيلَ: كَانَ ذَلِكَ يَوْمُ الْأَرْبِعَاءِ فِي آخِرِ الشَّهْرِ.
[20] {تَنْزِعُ النَّاسَ} [القمر: 20] تَقْلَعُهُمْ ثُمَّ تَرْمِي بِهِمْ عَلَى رؤوسهم فَتَدُقُّ رِقَابَهُمْ.
وَرُوِيَ أَنَّهَا كَانَتْ تَنْزِعُ النَّاسَ مِنْ قُبُورِهِمْ، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ} [القمر: 20] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُصُولُهَا، وَقَالَ الضحاك: أوراك نخل.
{مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20] منقلع مِنْ مَكَانِهِ سَاقِطٍ عَلَى الْأَرْضِ وَوَاحِدُ الْأَعْجَازِ عَجُزٍ، مِثْلَ عَضُدٍ وَأَعْضَادُ، وَإِنَّمَا قَالَ: (أَعْجَازُ نَخْلٍ) وَهِيَ أُصُولُهَا الَّتِي قُطِّعَتْ فُرُوعُهُا لأن الريح كانت تبين رؤوسهم مِنْ أَجْسَادِهِمْ، فَتُبْقِي أَجْسَادُهُمْ بِلَا رؤوس.
[21 - 23] {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ - كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر: 21 - 23] بِالْإِنْذَارِ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ صَالِحٌ.
[24] {فَقَالُوا أَبَشَرًا} [القمر: 24] آدميا، {مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ} [القمر: 24] وَنَحْنُ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَهُوَ وَاحِدٌ، {إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ} [القمر: 24] خَطَأٍ وَذَهَابٍ عَنِ الصَّوَابِ، {وَسُعُرٍ} [القمر: 24] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَذَابٌ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: شِدَّةُ عَذَابٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: عَنَاءٌ، يَقُولُونَ: إِنَّا إِذًا لَفِي عَنَاءٍ وَعَذَابٍ مِمَّا يَلْزَمُنَا مِنْ طَاعَتِهِ.
قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: هُوَ جَمْعُ سَعِيرٍ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: جُنُونٌ، يُقَالُ نَاقَةٌ مَسْعُورَةٌ إِذَا كَانَتْ خَفِيفَةَ الرَّأْسِ هَائِمَةً عَلَى وجهها.
وقال وهب: وسعر: أبعد عن الحق.
[25] {أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ} [القمر: 25] أأنزل، الذكر: الوحي، {عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر: 25] بَطِرٌ مُتَكَبِّرٌ يُرِيدُ أَنْ يَتَعَظَّمَ عَلَيْنَا بِادِّعَائِهِ النُّبُوَّةِ، وَالْأَشَرُ الْمَرَحُ والتجبر.
[26] {سَيَعْلَمُونَ} [القمر: 26] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ: (سَتَعْلَمُونَ) ، بِالتَّاءِ عَلَى مَعْنَى قَالَ صَالِحٌ لَهُمْ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، يَقُولُ الله تعالى: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا} [القمر: 26] حِينَ يَنْزِلُ بِهِمُ الْعَذَابُ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَذِكْرُ الْغَدِ لِلتَّقْرِيبِ عَلَى عَادَةِ النَّاسِ، يَقُولُونَ: إِنَّ مَعَ الْيَوْمِ غَدًا، {مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} [القمر: 26]
[27] {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ} [القمر: 27] أَيْ بَاعِثُوهَا وَمُخْرِجُوهَا مِنَ الْهَضْبَةِ التي سألوا أن يخرجها منها، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَعَنَّتُوا عَلَى صَالِحٍ، فَسَأَلُوهُ أَنْ(6/913)
يُخْرِجَ لَهُمْ مِنْ صَخْرَةٍ نَاقَةً حَمْرَاءَ عَشْرَاءَ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فِتْنَةً لَهُمْ} [القمر: 27] محنة واختبارا لهم، {فَارْتَقِبْهُمْ} [القمر: 27] فَانْتَظَرَ مَا هُمْ صَانِعُونَ، {وَاصْطَبِرْ} [القمر: 27] عَلَى ارْتِقَابِهِمْ، وَقِيلَ: عَلَى مَا يصيبك من الأذى.
[قوله تعالى وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ] شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ. . .
[28] {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ} [القمر: 28] وَبَيْنَ النَّاقَةِ، يَوْمٌ لَهَا وَيَوْمٌ لَهُمْ، وَإِنَّمَا قَالَ: "بَيْنَهُمْ" لِأَنَّ الْعَرَبَ إِذَا أَخْبَرَتْ عَنْ بَنِي آدَمَ وَعَنِ الْبَهَائِمِ غَلَّبَتْ بَنِي آدَمَ.
عَلَى الْبَهَائِمِ، {كُلُّ شِرْبٍ} [القمر: 28] نصيب من الماء، {مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28] يَحْضُرُهُ مَنْ كَانَتْ نَوْبَتُهُ، فَإِذَا كان يوم الناقة حَضَرَتْ شِرْبَهَا، وَإِذَا كَانَ يَوْمُهُمْ حضروا شربهم، وأحضر وحضر بِمَعْنًى وَاحِدٍ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي يَحْضُرُونَ الْمَاءَ إِذَا غَابَتِ النَّاقَةُ، فَإِذَا جَاءَتِ النَّاقَةُ حَضَرُوا اللَّبَنَ.
[29] {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} [القمر: 29] وَهُوَ قِدَارُ بْنُ سَالِفٍ، {فَتَعَاطَى} [القمر: 29] فتناول الناقة بسيفه {فَعَقَرَ} [القمر: 29] أَيْ فَعَقَرَهَا.
[30] {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 30] ثُمَّ بَيَّنَ عَذَابَهُمْ.
[31] فَقَالَ: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً} [القمر: 31] قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ صَيْحَةَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 31] كَيَبَسِ الشَّجَرِ إِذَا تَحَطَّمَ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي كُلَّ شَيْءٍ كَانَ رَطْبًا فَيَبِسَ هَشِيمًا.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَالْعِظَامِ النَّخِرَةِ الْمُحْتَرِقَةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُوَ التُّرَابُ الَّذِي يَتَنَاثَرُ مِنَ الْحَائِطِ.
[32 - 34] {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ - كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ - إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا} [القمر: 32 - 34] ريحا ترميهم بالحصباء، وهي الحصا، قال الضَّحَّاكُ: يَعْنِي صِغَارَ الْحَصَى.
وَقِيلَ: الْحَصْبَاءُ هِيَ الْحَجَرُ الَّذِي دُونَ مِلْءِ الْكَفِّ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَاصِبُ الرَّامِي، فَيَكُونُ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا: أرسلنا عليهم عذابا يحصبهم، يعني يَرْمِيهِمْ بِالْحِجَارَةِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: {إِلَّا آلَ لُوطٍ} [القمر: 34] يعني لوطا وابنتيه، {نَجَّيْنَاهُمْ} [القمر: 34] من العذاب، {بِسَحَرٍ} [القمر: 34]
[35] {نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} [القمر: 35] يعني جَعَلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا عَلَيْهِمْ حَيْثُ أنجيناهم، {كَذَلِكَ} [القمر: 35] يعني كَمَا أَنْعَمَنَا عَلَى آلِ لُوطٍ، {نَجْزِي مَنْ شَكَرَ} [القمر: 35] قَالَ مُقَاتِلٌ: مَنْ وَحَّدَ اللَّهَ لَمْ يُعَذِّبْهُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ.
[36] {وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ} [القمر: 36] لوط، {بَطْشَتَنَا} [القمر: 36] أَخْذَنَا إِيَّاهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، {فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ} [القمر: 36] شَكُّوا بِالْإِنْذَارِ وَكَذَّبُوا وَلَمْ يُصَدِّقُوا.
[37] {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ} [القمر: 37] طَلَبُوا أَنْ يُسَلِّمَ إِلَيْهِمْ أَضْيَافَهُ {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} [القمر: 37] وَذَلِكَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَصَدُوا دَارَ لُوطٍ وَعَالَجُوا الْبَابَ لِيَدْخُلُوا، قَالَتِ الرُّسُلُ لِلُوطٍ: خَلِّ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الدُّخُولِ فَإِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ، فَدَخَلُوا الدَّارَ فَصَفَقَهُمْ جِبْرِيلُ بِجَنَاحِهِ بِإِذْنِ اللَّهِ فَتَرَكَهُمْ عُمْيًا يَتَرَدَّدُونَ مُتَحَيِّرِينَ لَا يَهْتَدُونَ إِلَى الْبَابِ، فَأَخْرَجَهُمْ لُوطٌ عُمْيًا لَا يُبْصِرُونَ.
قَوْلُهُ: (فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ) يعني صَيَّرْنَاهَا(6/914)
كَسَائِرِ الْوَجْهِ لَا يُرَى لَهَا شَقٌّ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: طَمَسَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ فَلَمْ يَرَوُا الرُّسُلَ، فَقَالُوا: قَدْ رَأَيْنَاهُمْ حِينَ دَخَلُوا الْبَيْتَ فَأَيْنَ ذَهَبُوا، فَلَمْ يَرَوْهُمْ فَرَجَعُوا.
{فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 37] أَيْ مَا أَنْذَرَكُمْ بِهِ لُوطٌ مِنَ الْعَذَابِ.
[38] {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً} [القمر: 38] جَاءَهُمْ وَقْتَ الصُّبْحِ، {عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ} [القمر: 38] دَائِمٌ اسْتَقَرَّ فِيهِمْ حَتَّى أَفْضَى بِهِمْ إِلَى عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: عَذَابٌ حَقٌّ.
[39 - 41] {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ - وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ - وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ} [القمر: 39 - 41] يَعْنِي مُوسَى وَهَارُونُ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَقِيلَ: هِيَ الْآيَاتُ الَّتِي أَنْذَرَهُمْ بِهَا مُوسَى.
[42] {كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا} [القمر: 42] وهي الآيات التسع، {فَأَخَذْنَاهُمْ} [القمر: 42] بالعذاب، {أَخْذَ عَزِيزٍ} [القمر: 42] غالب في انتقامه، {مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42] قَادِرٍ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ لَا يُعْجِزُهُ ما أراد بهم، ثُمَّ خَوَّفَ أَهْلَ مَكَّةَ فَقَالَ:
[قوله تعالى أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ] فِي الزُّبُرِ. . .
[43] {أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ} [القمر: 43] أَشَدُّ وَأَقْوَى مِنَ الَّذِينَ أَحْلَلْتُ بِهِمْ نِقْمَتِي مَنْ قَوْمِ نُوحٍ وعاد وثمود وقالا لُوطٍ وَآلِ فِرْعَوْنَ؟ وَهَذَا اسْتِفْهَامٌ بِمَعْنَى الْإِنْكَارِ، أَيْ لَيْسُوا بِأَقْوَى منهم، {أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ} [القمر: 43] من العذاب، {فِي الزُّبُرِ} [القمر: 43] فِي الْكُتُبِ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَ الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ.
[44] {أَمْ يَقُولُونَ} [القمر: 44] يَعْنِي كُفَّارُ مَكَّةَ، {نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 44] قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَحْنُ جَمِيعُ أَمْرِنَا منتصر من أعدائنا، والمعنى: نَحْنُ يَدٌ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ خَالَفْنَا، مُنْتَصِرٌ مِمَّنْ عَادَانَا، وَلَمْ يقل منتصرون لموافقة رؤوس الْآيِ.
[45] قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ} [القمر: 45] يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، {وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] يعني الأدبار فوحد لأجل رؤوس الْآيِ، كَمَا يُقَالُ: ضَرَبْنَا مِنْهُمُ الرؤوس وَضَرَبْنَا مِنْهُمُ الرَّأْسَ إِذَا كَانَ الواحد يؤدي معنى الجمع.
[46] {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [القمر: 46] قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: «سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَمَّا نَزَلَتْ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} [القمر: 45] كُنْتُ لَا أَدْرِي أَيَّ جَمْعٍ سيهزم، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ بَدْرٍ رَأَيْتُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَثِبُ فِي دِرْعِهِ وَيَقُولُ: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ - بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} [الْقَمَرِ: 45 - 46] » (1) أي أعظم داهية وبلية وَأَشَدُّ مَرَارَةً مِنَ الْأَسْرِ وَالْقَتْلِ يوم بدر.
[47] {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ} [القمر: 47] المشركين، {فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] قِيلَ: فِي ضَلَالٍ بُعْدٍ عَنِ الْحَقِّ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: وَسُعُرٍ أَيْ نار تسعر عليهم.
وقيل: في ضَلَالٌ: ذَهَابٌ عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ، وَسُعُرٍ: نَارٌ مُسَعَّرَةٌ، قال الحسين بن فضل: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ فِي الدُّنْيَا وَنَارٍ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي عَنَاءٍ وَعَذَابٍ.
[48] ثُمَّ بَيَّنَ عَذَابَهُمْ فَقَالَ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ} [القمر: 48] يُجَرُّونَ، {فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] وَيُقَالُ لَهُمْ {ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [القمر: 48]
[49] {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] أَيْ مَا خَلَقْنَاهُ فَمَقْدُورٌ وَمَكْتُوبٌ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، قَالَ الْحَسَنُ: قَدَّرَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ مِنْ خَلْقِهِ قَدَرَهُ الَّذِي يَنْبَغِي لَهُ.
[50] {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] قوله: واحدة ترجع إِلَى الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ، أَيْ: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا مَرَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَمَا أَمْرُنَا لِلشَّيْءِ إِذَا أَرَدْنَا تَكْوِينَهُ إِلَّا كَلِمَةٌ وَاحِدَةٌ: كُنْ فَيَكُونُ، لَا مُرَاجَعَةَ فِيهَا كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ.
قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ أَنَّ قَضَائِي فِي خَلْقِي أَسْرَعُ مِنْ لَمْحِ الْبَصَرِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ عَنْهُ: وما أمرنا بمجيء السَّاعَةِ فِي السُّرْعَةِ إِلَّا كَطَرَفِ البصر.
[51] {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ} [القمر: 51] أشباهكم
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق 2 / 259 والطبري 27 / 108 والإمام أحمد 1 / 329.(6/915)
وَنُظَرَاءَكُمْ فِي الْكُفْرِ مِنَ الْأُمَمِ السالفة، {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 51] مُتَّعِظٍ يَعْلَمُ أَنَّ ذَلِكَ حَقٌّ فَيَخَافُ وَيْعَتَبِرُ.
[52] {وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ} [القمر: 52] يَعْنِي فَعَلَهُ الْأَشْيَاعُ مِنْ خَيْرٍ وشر، {فِي الزُّبُرِ} [القمر: 52] فِي كِتَابِ الْحَفَظَةِ، وَقِيلَ: فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ.
[53] {وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ} [القمر: 53] مِنَ الْخَلْقِ وَأَعْمَالِهِمْ وَآجَالِهِمْ، {مُسْتَطَرٌ} [القمر: 53] مَكْتُوبٌ، يُقَالُ: سَطَّرْتُ وَاسْتَطَرْتُ وَكَتَبْتُ وَاكْتَتَبْتُ.
[54] {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ} [القمر: 54] بساتين، {وَنَهَرٍ} [القمر: 54] أي أنهار، ووحده لأجل رؤوس الْآيِ، وَأَرَادَ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ مِنَ الْمَاءِ وَالْخَمْرِ وَاللَّبَنِ وَالْعَسَلِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يَعْنِي فِي ضِيَاءٍ وَسَعَةٍ، وَمِنْهُ النَّهَارُ.
وَقَرَأَ الْأَعْرَجُ: (وَنُهُرٍ) بضمتين جمع النهار يعني لا دليل لهم.
[55] {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ} [القمر: 55] فِي مَجْلِسِ حَقٍّ لَا لَغْوَ فِيهِ وَلَا تَأْثِيمَ، {عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 55] مَلِكٍ قَادِرٍ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
[سورة الرحمن]
[قوله تعالى الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ عَلَّمَهُ] الْبَيَانَ. . .
(55) سورة الرحمن [1] {الرَّحْمَنُ} [الرحمن: 1] نَزَلَتْ حِينَ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ وَقِيلَ.
هُوَ جَوَابٌ لِأَهْلِ مَكَّةَ حِينَ قَالُوا: إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ.
[2] {عَلَّمَ الْقُرْآنَ} [الرحمن: 2] قَالَ الْكَلْبِيُّ عَلَّمَ الْقُرْآنَ مُحَمَّدًا.
وَقِيلَ: عَلَّمَ الْقُرْآنَ يَسَّرَهُ لِلذِّكْرِ.
[3] {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [الرحمن: 3] يعني آدم عليه السلام.
[4] {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ، وَقِيلَ: عَلَّمَهُ اللُّغَاتِ كُلَّهَا، وَكَانَ آدَمُ يَتَكَلَّمُ بسبعمائة لُغَةٍ أَفْضَلُهَا الْعَرَبِيَّةُ.
وَقَالَ الْآخَرُونَ: الْإِنْسَانُ اسْمُ جِنْسٍ، وَأَرَادَ بِهِ جَمِيعَ النَّاسِ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ: النُّطْقَ وَالْكِتَابَةَ وَالْفَهْمَ وَالْإِفْهَامَ حَتَّى عَرَفَ مَا يَقُولُ وَمَا يُقَالُ لَهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: عَلَّمَ كُلَّ قَوْمٍ لِسَانَهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ.
وَقَالَ ابن كيسان: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ} [الرحمن: 3] يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 4] يَعْنِي بَيَانَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يُبِينُ عَنِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَعَنْ يَوْمِ الدِّينِ.
[5] {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} [الرحمن: 5] قال مجاهد: كحسبان الرحى يدوران في مثل قطب الرحا، قال غيره: معناه أَيْ يَجْرِيَانِ بِحِسَابٍ وَمَنَازِلَ لَا يعدونها، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وقَتَادَةُ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ وَابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي بهما تحسب الأوقات والآجال، وقال الضحاك: يجريان بقدر.
[6] {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] النَّجْمُ مَا لَيْسَ لَهُ سَاقٌ مِنَ النَّبَاتِ، وَالشَّجَرُ مَا لَهُ سَاقٌ يَبْقَى فِي الشِّتَاءِ، وَسُجُودُهُمَا سجود ظلهما كما قال: {يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل: 48] وقال مُجَاهِدٌ: النَّجْمُ هُوَ الْكَوْكَبُ وَسُجُودُهُ طلوعه.
[7] {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] فوق الأرض،(6/916)
{وَوَضَعَ الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7] قَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ بِالْمِيزَانِ الْعَدْلَ، الْمَعْنَى أَنَّهُ أَمَرَ بِالْعَدْلِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
[8] {أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ} [الرحمن: 8] أَيْ لَا تُجَاوِزُوا الْعَدْلَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: أَرَادَ بِهِ الَّذِي يُوزَنُ بِهِ لِيُوصَلَ بِهِ الْإِنْصَافِ وَالِانْتِصَافِ، وَأَصْلُ الْوَزْنِ التَّقْدِيرُ.
أَلَّا تَطْغَوْا: يَعْنِي لِئَلَّا تَمِيلُوا وَتَظْلِمُوا وَتُجَاوِزُوا الْحَقَّ فِي الْمِيزَانِ.
[9] {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9] بِالْعَدْلِ، وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَعَطَاءٌ: مَعْنَاهُ أَقِيمُوا لِسَانَ الْمِيزَانِ بِالْعَدْلِ.
قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الْإِقَامَةُ بِالْيَدِ والقسط بالقلب، {وَلَا تُخْسِرُوا} [الرحمن: 9] ولا تنقصوا {الْمِيزَانَ} [الرحمن: 9] وَلَا تُطَفِّفُوا فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ.
[10] {وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ} [الرحمن: 10] لِلْخَلْقِ الَّذِينَ بَثَّهُمْ فِيهَا.
[11] {فِيهَا فَاكِهَةٌ} [الرحمن: 11] يَعْنِي أَنْوَاعَ الْفَوَاكِهِ، قَالَ ابْنُ كيسان: مَا يَتَفَكَّهُونَ بِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى، {وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ} [الرحمن: 11] الأوعية التي يكون فيها التمر، لأن تمر النَّخْلِ يَكُونُ فِي غِلَافٍ مَا لَمْ يَنْشَقَّ، وَاحِدُهَا كِمٌّ، وَكُلُّ مَا سَتَرَ شَيْئًا فَهُوَ كِمٌّ، وَكِمَّةٌ، وَمِنْهُ كُمُّ الْقَمِيصِ، وَيُقَالُ لِلْقَلَنْسُوَةِ كُمَّةٌ، قَالَ الضَّحَّاكُ: ذَاتُ الْأَكْمَامِ أَيْ ذَاتُ الْغُلُفِ.
وَقَالَ الحسن: أكمامها ليفها.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ الطَّلْعُ قبل أن ينفتق.
[12] {وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ} [الرحمن: 12] أَرَادَ بِالْحَبِّ جَمِيعَ الْحُبُوبِ الَّتِي يقتات بها.
قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ وَرَقُ الزَّرْعِ.
والعصف وَرَقُ كُلِّ شَيْءٍ يَخْرُجُ مِنْهُ الحب، وقال ابن عباس: هو التبن.
وعنه: هُوَ وَرَقُ الزَّرْعِ الْأَخْضَرِ إِذَا قطع رؤوسه وَيَبِسَ، نَظِيرُهُ: {كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الْفِيلِ: 5]
{وَالرَّيْحَانُ} [الرحمن: 12] هُوَ الرِّزْقُ فِي قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ رَيْحَانٍ في القرآن فهو رزق.
قال الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: هُوَ رَيْحَانُكُمُ الَّذِي يُشَمُّ، قَالَ الضَّحَّاكُ: الْعَصْفُ هو التبن والريحان ثمرته.
[13] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 13] أَيُّهَا الثَّقَلَانِ يُرِيدُ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الْمَذْكُورَةِ وَكَرَّرَ هَذِهِ الْآيَةَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ تَقْرِيرًا لِلنِّعْمَةِ وَتَأْكِيدًا فِي التَّذْكِيرِ بِهَا عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْإِبْلَاغِ وَالْإِشْبَاعِ، يُعَدِّدُ عَلَى الْخَلْقِ آلَاءَهُ وَيَفْصِلُ بَيْنَ كُلِّ نِعْمَتَيْنِ بِمَا يُنَبِّهُهُمْ عَلَيْهَا، كَقَوْلِ الرِّجْلِ لِمَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَتَابَعَ عَلَيْهِ بِالْأَيَادِي وَهُوَ يُنْكِرُهَا وَيَكْفُرُهَا: أَلَمْ تَكُنْ فَقِيرًا فَأَغْنَيْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ تَكُنْ عُرْيَانًا فَكَسَوْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ أَلَمْ تَكُ خَامِلًا فَعَزَّزْتُكَ أَفَتُنْكِرُ هَذَا؟ ومثل هذا التكرار سائغ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ حَسَنٌ تَقْرِيرًا.
[14] {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ} [الرحمن: 14]
[15] {وَخَلَقَ الْجَانَّ} [الرحمن: 15] وَهُوَ أَبُو الْجِنِّ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ إِبْلِيسُ، {مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 15] وَهُوَ الصَّافِي مِنْ لَهَبِ النَّارِ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَهُوَ مَا اخْتَلَطَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ مِنَ اللَّهَبِ الْأَحْمَرِ وَالْأَصْفَرِ وَالْأَخْضَرِ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إِذَا أُوقِدَتْ، مِنْ قَوْلِهِمْ مَرَجَ أَمْرُ القوم إذا اختلط.
[قوله تعالى رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ. . .]
[16 - 17] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ} [الرحمن: 16 - 17] مَشْرِقِ الصَّيْفِ وَمَشْرِقِ الشِّتَاءِ.
{وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ} [الرحمن: 17] مَغْرِبِ الصَّيْفِ وَمَغْرِبِ الشِّتَاءِ.
[18] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 18]
[19] {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ} [الرحمن: 19] الْعَذْبَ وَالْمَالِحَ أَرْسَلَهُمَا وَخَلَّاهُمَا {يَلْتَقِيَانِ} [الرحمن: 19]
[20] {بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ} [الرحمن: 20] حَاجِزٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى، {لَا يَبْغِيَانِ} [الرحمن: 20] لَا يَخْتَلِطَانِ وَلَا يَتَغَيَّرَانِ وَلَا يَبْغِي أَحَدُهُمَا عَلَى صَاحِبِهِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا يَطْغَيَانِ عَلَى النَّاسِ بالغرق.
[21] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 21]
[22] {يَخْرُجُ مِنْهُمَا} [الرحمن: 22] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْبَصْرَةِ (يُخْرَجُ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ الرَّاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ، {اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرَّحْمَنِ: 22] وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنَ الْمَالِحِ دُونَ الْعَذْبِ، وَهَذَا جَائِزٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ أَنْ يَذْكُرَ شَيْئَانِ ثُمَّ يَخُصُّ أَحَدَهُمَا بِفِعْلٍ كَمَا(6/917)
قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] وكان الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ دُونَ الْجِنِّ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَخْرُجُ مِنْ مَاءِ السَّمَاءِ وَمَاءِ الْبَحْرِ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: إِذَا أَمْطَرْتِ السَّمَاءُ فَتَحَتِ الْأَصْدَافُ أَفْوَاهَهَا فَحَيْثُمَا وَقَعَتْ قَطْرَةٌ كَانَتْ لُؤْلُؤَةً، وَاللُّؤْلُؤَةُ مَا عَظُمَ من الدر، والمرجان صغارها.
[23، 24] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - وَلَهُ الْجَوَارِ} [الرحمن: 23 - 24] السفن الكبار، {الْمُنْشَآتُ} [الرحمن: 24] وقرأ حمزة وأبو بكر: (المنشآت) بكسر الشين، أي المنشآت السير يَعْنِي اللَّاتِي ابْتَدَأْنَ وَأَنْشَأْنَ السَّيْرَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الشِّينِ أَيْ الْمَرْفُوعَاتُ وَهِيَ الَّتِي رُفِعَ خَشَبُهَا بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ.
وَقِيلَ: هِيَ مَا رُفِعَ قَلْعُهُ مِنَ السُّفُنِ، وَأَمَّا مَا لَمْ يُرْفَعْ قَلْعُهُ فليس من المنشآت.
وَقِيلَ: الْمَخْلُوقَاتُ الْمُسَخَّرَاتُ، {فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن: 24] كَالْجِبَالِ جَمْعُ عَلَمٍ وَهُوَ الْجَبَلُ الطَّوِيلُ شَبَّهَ السُّفُنَ فِي الْبَحْرِ بِالْجِبَالِ فِي الْبَرِّ.
[25] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 25]
[26] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا} [الرحمن: 26] أَيْ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ حَيَوَانٍ فإنه، {فَانٍ} [الرحمن: 26] هالك.
[27] {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 27] أَيْ مُكْرِمُ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ بِلُطْفِهِ مَعَ جَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ. 28،
[29] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرحمن: 28 - 29] مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسٍ وَجِنٍّ.
وَقَالَ قتادة: معناه لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَهْلُ السَّمَاوَاتِ يَسْأَلُونَهُ الْمَغْفِرَةَ وَأَهْلُ الْأَرْضِ يسألونه الرزق وَالتَّوْبَةَ وَالْمَغْفِرَةَ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُسْأَلُهُ أَهْلُ الْأَرْضِ الرِّزْقَ وَالْمَغْفِرَةَ، وَتَسْأَلُهُ الْمَلَائِكَةُ أَيْضًا لَهُمُ الرِّزْقَ وَالْمَغْفِرَةَ.
{كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] قَالَ مُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ حِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْضِي يَوْمَ السَّبْتَ شَيْئًا.
قَالَ المفسرون: من شأنه أن يحصي وَيُمِيتَ وَيَرْزُقَ، وَيُعِزَّ قَوْمًا وَيُذِلَّ قَوْمًا وَيَشْفِيَ مَرِيضًا وَيَفُكَّ عَانِيًا وَيُفَرِّجَ مَكْرُوبًا وَيُجِيبَ دَاعِيًا وَيُعْطِيَ سَائِلًا وَيَغْفِرَ ذَنْبًا إِلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَحْدَاثِهِ في خلقه ما يشاء. 30،
[31] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - سَنَفْرُغُ لَكُمْ} [الرحمن: 30 - 31] وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِلْخَلْقِ بِالْمُحَاسَبَةِ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ لَأَتَفَرَّغَنَّ لَكَ، وَمَا بِهِ شُغْلٌ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ، وَإِنَّمَا حَسُنَ هَذَا الْفَرَاغُ لِسَبْقِ ذِكْرِ الشَّأْنِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهُ سَنَقْصِدُكُمْ بَعْدَ التَّرْكَ وَالْإِمْهَالِ وَنَأْخُذُ فِي أَمْرِكُمْ، كقول القائل الذي لا شغل له: قد تفرغت لك.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَ أَهْلَ التَّقْوَى وَأَوْعَدَ أَهْلَ الْفُجُورِ، ثُمَّ قَالَ: سَنَفْرُغُ لَكُمْ مِمَّا وَعَدْنَاكُمْ، وَأَخْبَرَنَاكُمْ فَنُحَاسِبُكُمْ وَنُجَازِيكُمْ وَنُنْجِزُ لكم ما وَعَدْنَاكُمْ، وَأَخْبَرَنَاكُمْ فَنُحَاسِبُكُمْ وَنُجَازِيكُمْ وَنُنْجِزُ لكم ما وعدناكم، فنتم ذلك ونفرغ مِنْهُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ الْحَسَنُ ومقاتل.
{أَيُّهَ الثَّقَلانِ} [الرحمن: 31] أَيِ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ، سُمِّيَا ثَقَلَيْنِ(6/918)
لأنهما ثقلا على الأرض أحياء وأمواتا. 32،
[33] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا} [الرحمن: 32 - 33] أَيْ تَجُوزُوا وَتَخْرُجُوا، {مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الرحمن: 33] أَيْ مِنْ جَوَانِبِهِمَا وَأَطْرَافِهِمَا، {فَانْفُذُوا} [الرحمن: 33] مَعْنَاهُ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْمَوْتِ بِالْخُرُوجِ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاهْرُبُوا وَاخْرُجُوا مِنْهَا.
وَالْمَعْنَى حَيْثُمَا كُنْتُمْ أَدْرَكَكُمُ الْمَوْتُ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ} [النِّسَاءِ: 78] وَقِيلَ: يقال لهما هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَجُوزُوا أَطْرَافَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَتُعْجِزُوا رَبَّكُمْ حَتَّى لَا يَقْدِرَ عَلَيْكُمْ فَجُوزُوا، {لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] أَيْ: بِمُلْكٍ، وَقِيلَ: بِحُجَّةٍ، وَالسُّلْطَانُ: الْقُوَّةُ الَّتِي يَتَسَلَّطُ بِهَا عَلَى الْأَمْرِ، فَالْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ وَالْحُجَّةُ كُلُّهَا سُلْطَانٌ، يُرِيدُ حَيْثُمَا تَوَجَّهْتُمْ كُنْتُمْ فِي مُلْكِي وَسُلْطَانِي.
وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: مَعْنَاهُ: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَاعْلَمُوا وَلَنْ تَعْلَمُوهُ إِلَّا بِسُلْطَانٍ أَيْ بِبَيِّنَةٍ مِنَ الله عز وجل.
[34] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 34]
[35] {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ} [الرحمن: 35] وَهُوَ اللَّهِيبُ الَّذِي لَا دُخَانَ فِيهِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ اللَّهَبُ الْأَخْضَرُ المنقطع من النار، {وَنُحَاسٌ} [الرحمن: 35] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالْكَلْبِيُّ: النُّحَاسُ الدُّخَانُ، وَهُوَ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: النُّحَاسُ هُوَ الصُّفْرُ الْمُذَابُ يصب على رؤوسهم، وَهُوَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مسعود النحاس هو المهل.
{فَلَا تَنْتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] أي فلا تمتنعان مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا يَكُونُ لَكُمْ نَاصِرٌ مِنْهُ. 36،
[37] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - فَإِذَا انْشَقَّتِ} [الرحمن: 36 - 37] انفرجت، {السَّمَاءُ} [الرحمن: 37] فَصَارَتْ أَبْوَابًا لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ {فَكَانَتْ وَرْدَةً} [الرحمن: 37] أَيْ كَلَوْنِ الْفَرَسِ الْوَرِدِ، وَهُوَ الْأَبْيَضُ الَّذِي يَضْرِبُ إِلَى الْحُمْرَةِ والصفرة، {كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37] جَمْعُ دُهْنٍ، شَبَّهَ تَلَوُّنَ السَّمَاءِ بِتَلَوُّنِ الْوَرْدِ مِنَ الْخَيْلِ، وَشَبَّهَ الْوَرْدَةَ فِي اخْتِلَافِ أَلْوَانِهَا بِالدُّهْنِ وَاخْتِلَافِ أَلْوَانِهِ، وَهُوَ قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ، وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: كَالدِّهَانِ كَعَصِيرِ الزَّيْتِ يَتَلَوَّنُ فِي السَّاعَةِ أَلْوَانًا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَدُهْنِ الْوَرْدِ الصَّافِي.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ تَصِيرُ السَّمَاءُ كَالدُّهْنِ الذَّائِبِ وَذَلِكَ حِينَ يُصِيبُهَا حَرُّ جَهَنَّمَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: كَالدِّهَانِ أَيْ كَالْأَدِيمِ الْأَحْمَرِ وَجَمْعُهُ أَدْهِنَةٌ وَدُهُنٌ.
[38 - 39] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرَّحْمَنِ: 38 - 39] قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: لَا يُسْأَلُونَ عَنْ ذُنُوبِهِمْ لِتُعْلَمَ مِنْ جِهَتِهِمْ، لِأَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلِمَهَا مِنْهُمْ، وَكَتَبَتِ الْمَلَائِكَةُ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَعَنْهُ أَيْضًا: لَا تَسْأَلُ الْمَلَائِكَةُ الْمُجْرِمِينَ لِأَنَّهُمْ يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ، دَلِيلُهُ مَا بَعْدَهُ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٌ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ هَذِهِ الْآيَةِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الْحِجْرِ: 92] قَالَ: لَا يَسْأَلُهُمْ هَلْ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَسْأَلُهُمْ لِمَ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ وَعَنْ عِكْرِمَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا مَوَاطِنُ يَسْأَلُ فِي بَعْضِهَا وَلَا يَسْأَلُ فِي بَعْضِهَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا لَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ شَفَقَةٍ وَرَحْمَةٍ وَإِنَّمَا يُسْأَلُونَ سُؤَالَ تَقْرِيعٍ وَتَوْبِيخٍ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُسْأَلُ غَيْرُ الْمُجْرِمِ عَنْ ذنب المجرم.
[قوله تعالى يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي] وَالْأَقْدَامِ. . .
[40 - 41] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ} [الرحمن: 40 - 41] وَهُوَ سَوَادُ الْوُجُوهِ وَزُرْقَةُ الْعُيُونِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آلِ عمران: 106] {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41] تُجْعَلُ الْأَقْدَامُ مَضْمُومَةً إِلَى النَّوَاصِي مِنْ خَلْفٍ وَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ.
[42] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 42]
[43] ثُمَّ يُقَالُ لَهُمْ {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ} [الرحمن: 43](6/919)
الْمُشْرِكُونَ.
[44] {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] قَدِ انْتَهَى حَرُّهُ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: أَنَى يَأْنَى فَهُوَ آنٌ إِذَا انْتَهَى فِي النُّضْجِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَسْعَوْنَ بَيْنَ الْجَحِيمِ وَالْحَمِيمِ فَإِذَا اسْتَغَاثُوا مِنْ حَرِّ النَّارِ جُعِلَ عَذَابُهُمُ الْحَمِيمَ الْآنِيَ الَّذِي صَارَ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} [الْكَهْفِ: 29] وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: آنٍ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ يَجْتَمِعُ فِيهِ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ فَيُنْطَلَقُ بِهِمْ فِي الْأَغْلَالِ فَيُغْمَسُونَ فِي ذَلِكَ الْوَادِي حَتَّى تَنْخَلِعَ أَوْصَالُهُمْ ثُمَّ يَخْرُجُونَ مِنْهُ وَقَدْ أَحْدَثَ اللَّهُ تَعَالَى بهم خَلْقًا جَدِيدًا فَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44]
[45] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 45] وَكُلُّ مَا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ قَوْلِهِ: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] إلى ههنا مَوَاعِظُ وَزَوَاجِرُ وَتَخْوِيفٌ، وَكُلُّ ذَلِكَ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهَا تَزْجُرُ عَنِ الْمَعَاصِي، وَلِذَلِكَ خَتَمَ كل آية بقول {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 45] ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَعَدَّهُ لِمَنِ اتَّقَاهُ وَخَافَهُ.
[46] فَقَالَ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] أَيْ مَقَامَهُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ لِلْحِسَابِ فَتَرَكَ الْمَعْصِيَةَ وَالشَّهْوَةَ.
وَقِيلَ: قِيَامُ رَبِّهِ عَلَيْهِ بَيَانُهُ قَوْلُهُ: {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرَّعْدِ: 33] وَقَالَ إبراهيم النخعي وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الَّذِي يَهُمُّ بِالْمَعْصِيَةِ فَيَذْكُرُ اللَّهَ فَيَدَعَهَا مِنْ مَخَافَةِ الله.
وقوله: {جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] قَالَ مُقَاتِلٌ: جَنَّةُ عَدْنٍ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ التِّرْمِذِيُّ: جَنَّةٌ لِخَوْفِهِ رَبَّهُ وَجَنَّةٌ لِتَرْكِهِ شَهْوَتَهُ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: هَذَا لِمَنْ رَاقَبَ اللَّهَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ بِعِلْمِهِ مَا عَرَضَ لَهُ مِنْ مُحَرَّمٍ تَرَكَهُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا عَمِلَ مِنْ خَيْرٍ أَفْضَى بِهِ إِلَى اللَّهِ لَا يُحِبُّ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ خَافُوا ذَلِكَ الْمَقَامَ فَعَمِلُوا لِلَّهِ وَدَأَبُوا بالليل والنهار.
[47] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 47] ثُمَّ وَصَفَ الْجَنَّتَيْنِ.
[48] فَقَالَ: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] أَغْصَانٍ وَاحِدُهَا فَنَنٌ، وَهُوَ الْغُصْنُ الْمُسْتَقِيمُ طُولًا.
وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْكَلْبِيِّ، وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ظِلُّ الْأَغْصَانِ عَلَى الْحِيطَانِ.
قَالَ الْحَسَنُ: ذَوَاتَا ظِلَالٍ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ألوان، وَقَالَ قَتَادَةُ: ذَوَاتَا فَضْلٍ وَسَعَةٍ عَلَى مَا سِوَاهُمَا.
[49 - 50] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: 49 - 50] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِالْكَرَامَةِ وَالزِّيَادَةِ عَلَى أَهْلِ الْجَنَّةِ.
قَالَ الْحَسَنُ: تَجْرِيَانِ بِالْمَاءِ الزُّلَالِ إِحْدَاهُمَا التَّسْنِيمُ والأخرى السلسبيل.
وقال عطاء: إِحْدَاهُمَا مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَالْأُخْرَى مَنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ.
[51 - 52] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ} [الرحمن: 51 - 52] صِنْفَانِ وَنَوْعَانِ، قِيلَ: مَعْنَاهُ إِنَّ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ مَا يُتَفَكَّهُ بِهِ ضَرْبَيْنِ رَطْبًا وَيَابِسًا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فِي الدُّنْيَا ثَمَرَةٌ حُلْوَةٌ وَلَا مُرَّةٌ إِلَّا وَهِيَ فِي الْجَنَّةِ حَتَّى الْحَنْظَلُ إِلَّا أَنَّهُ حُلْوٌ.
[53 - 54] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ} [الرحمن: 53 - 54] جمع فراش، {بَطَائِنُهَا} [الرحمن: 54] جَمْعُ بِطَانَةٍ وَهِيَ الَّتِي تَحْتَ الظِّهَارَةِ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَهِيَ مِمَّا يلي الأرض.
{مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] وَهُوَ مَا غَلُظَ مِنَ الدِّيبَاجِ.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ: هَذِهِ الْبَطَائِنُ فَمَا ظَنَّكُمْ بِالظَّوَاهِرِ؟ وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَصَفَ الْبَطَائِنَ وَتَرَكَ الظَّوَاهِرَ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الْأَرْضِ أَحَدٌ يَعْرِفُ مَا الظَّوَاهِرُ.
{وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54] الْجَنَى مَا يُجْتَنَى مِنَ الثِّمَارِ، يريد ثمرهما دَانٍ قَرِيبٌ يَنَالُهُ الْقَائِمُ وَالْقَاعِدُ وَالنَّائِمُ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَدْنُو الشَّجَرَةُ حَتَّى يَجْتَنِيَهَا وَلِيُّ اللَّهِ إِنْ شَاءَ قَائِمًا وَإِنْ شَاءَ قَاعِدًا.
قَالَ قَتَادَةُ: لَا يَرُدُّ أَيْدِيَهُمْ عَنْهَا بُعْدٌ وَلَا شَوْكٌ.
[55 - 56] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} [الرحمن: 55 - 56] غَاضَّاتُ الْأَعْيُنِ، قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ ولا يردن غيرهم، {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [الرحمن: 56] لَمْ يُجَامِعْهُنَّ وَلِمَ يَفْتَرِعْهُنَّ،(6/920)
وأصله من الدَّمُ، وَمِنْهُ قِيلَ لِلْحَائِضِ طَامِثٌ، كأنه قال لم يدمهن بِالْجِمَاعِ، {إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 56] قال مقاتل: لأنهن خلقهن فِي الْجَنَّةِ.
فَعَلَى قَوْلِهِ هَؤُلَاءِ مِنْ حُورِ الْجَنَّةِ.
وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُنَّ مِنْ نِسَاءِ الدُّنْيَا لَمْ يمسسن مند أنشئن، وهو قول الكلبي: يعني لما يُجَامِعْهُنَّ فِي هَذَا الْخَلْقِ الَّذِي أُنْشِئْنَ فِيهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ.
[57 - 58] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 57 - 58] قَالَ قَتَادَةُ: صَفَاءُ الْيَاقُوتِ فِي بياض المرجان.
[59 - 60] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ} [الرحمن: 59 - 60] أَيْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَحْسَنَ فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَعَمِلَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا الْجَنَّةُ.
[61 - 62] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 61 - 62] أَيْ مِنْ دُونِ الْجَنَّتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ جَنَّتَانِ أُخْرَيَانِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ دُونِهِمَا فِي الدَّرَجِ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مِنْ دُونِهِمَا فِي الْفَضْلِ.
وَقَالَ أَبُو مُوسَى الْأَشْعَرِيُّ: جَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ لِلسَّابِقِينَ وَجَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ لِلتَّابِعِينَ.
وَقَالَ ابْنُ جريج: هن أربع جنان لِلْمُقَرَّبِينَ السَّابِقِينَ فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ، وَجَنَّتَانِ لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ والتابعين فيها فاكهة ونخل ورمان.
وقال الكسائي: {وَمِنْ دُونِهِمَا} [الرحمن: 62] أَيْ أَمَامَهُمَا وَقَبْلَهُمَا، يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الضَّحَّاكِ: الْجَنَّتَانِ الْأُولَيَانِ مِنْ ذهب وفضة والأخريان من يا قوت.
[63 - 64] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 63 - 64] نَاعِمَتَانِ سَوْدَاوَانِ مِنْ رَيِّهِمَا وَشِدَّةِ خُضْرَتِهِمَا، لِأَنَّ الْخُضْرَةَ إِذَا اشْتَدَّتْ ضَرَبَتْ إِلَى السَّوَادِ، يُقَالُ: ادهامَّ الزرعُ إِذَا عَلَاهُ السَّوَادُ رَيًّا ادْهِيمَامًا فَهُوَ مُدْهَامٌّ.
[65 - 66] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} [الرحمن: 65 - 66] فَوَّارَتَانِ بِالْمَاءِ لَا تَنْقَطِعَانِ، وَالنَّضْخُ فوران الماء من العين.
[قوله تَعَالَى فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ. . .]
[67 - 68] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 67 - 68] قَالَ بَعْضُهُمْ: لَيْسَ النَّخْلُ وَالرُّمَّانُ مِنَ الْفَاكِهَةِ، وَالْعَامَّةُ عَلَى أَنَّهَا مِنَ الْفَاكِهَةِ، وَإِنَّمَا أَعَادَ ذِكْرَ النَّخْلِ وَالرُّمَّانِ وَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الفواكه للتخصيص والتفصيل.
[69 - 70] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - فِيهِنَّ} [الرحمن: 69 - 70] يَعْنِي فِي الْجَنَّاتِ الْأَرْبَعِ، {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] رَوَى الْحَسَنُ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «قُلْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ: {خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] قَالَ: "خَيْرَاتُ الْأَخْلَاقِ حِسَانُ الْوُجُوهِ» (1) .
_________
(1) رواه الإمام الطبري في تفسيره، بإسناده مرفوعا إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ج 27 / 92.(6/921)
[71 - 72] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - حُورٌ مَقْصُورَاتٌ} [الرحمن: 71 - 72] مَحْبُوسَاتٌ مَسْتُورَاتٌ فِي الْحِجَالِ، يُقَالُ: امْرَأَةٌ مَقْصُورَةٌ وَقَصِيرَةٌ إِذَا كَانَتْ مُخَدَّرَةً مَسْتُورَةً لَا تَخْرُجُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي قَصَرْنَ طَرْفَهُنَّ وَأَنْفُسَهُنَّ على أزواجهن فلا يبغين بهم بدلا، {فِي الْخِيَامِ} [الرحمن: 72] جمع خيمة.
[73 - 76] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ - فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ} [الرحمن: 73 - 76] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الرَّفْرَفُ رِيَاضُ الْجَنَّةِ خُضْرٍ مُخَضَّبَةٍ.
وَيُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَاحِدَتُهَا رَفْرَفَةٌ، وَقَالَ: الرَّفَارِفُ جَمْعُ الْجَمْعِ، وَقِيلَ: الرَّفْرَفُ الْبُسُطُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُقَاتِلٍ وَالْقُرَظِيِّ.
وَرَوَى الْعَوْفِيُّ عن ابن عباس: الرفيف فُضُولُ الْمَجَالِسِ وَالْبُسُطِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَقَتَادَةُ: هِيَ مَجَالِسُ خُضْرٌ فَوْقَ الْفُرُشِ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هِيَ الْمَرَافِقُ.
وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: الزَّرَابِيُّ.
وَقَالَ غَيْرُهُ: كُلُّ ثَوْبٍ عَرِيضٍ عِنْدَ الْعَرَبِ فَهُوَ رَفْرَفٌ.
{وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76] هِيَ الزَّرَابِيُّ وَالطَّنَافِسُ الثِّخَانُ، وَهِيَ جَمْعٌ وَاحِدَتُهَا عَبْقَرِيَّةٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْعَبْقَرِيُّ عِتَاقُ الزَّرَابِيِّ، وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: هِيَ الطَّنَافِسُ الْمُخَمَّلَةُ إِلَى الرِّقَّةِ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: كُلُّ ثَوْبٍ مُوَشًّى عِنْدَ الْعَرَبِ عَبْقَرِيٌّ.
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ هُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَرْضٍ يُعْمَلُ بِهَا الْوَشْيُ.
قَالَ الْخَلِيلُ: كُلٌّ جَلِيلٍ نَفِيسٍ فَاخِرٍ مِنَ الرِّجَالِ وَغَيْرِهِمْ عِنْدَ الْعَرَبِ عَبْقَرِيٌّ، وَمِنْهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا يَفْرِي فَرْيَهُ» (1) .
[77، 78] {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ - تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن: 77 - 78] قَرَأَ أَهْلُ الشَّامِ (ذُو الْجَلَالِ) بِالْوَاوِ وَكَذَلِكَ هُوَ فِي مَصَاحِفِهِمْ إجراء على الاسم.
[سورة الواقعة]
[قوله تعالى إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ] . . .
(56) سورة الواقعة [1] {إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الْوَاقِعَةُ: 1] إِذَا قَامَتِ الْقِيَامَةُ.
وَقِيلَ: إِذَا نَزَلَتْ صَيْحَةُ الْقِيَامَةِ، وَهِيَ النفخة الأخيرة.
[2] {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا} [الواقعة: 2] لمجيئها {كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] كَذِبٌ، كَقَوْلِهِ: {لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} [الغاشية: 11] أي لغو، يَعْنِي أَنَّهَا تَقَعُ صِدْقًا وَحَقًّا.
والكاذبة اسْمٌ كَالْعَافِيَةِ وَالنَّازِلَةِ.
[3] {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} [الواقعة: 3] تَخْفِضُ أَقْوَامًا إِلَى النَّارِ، وَتَرْفَعُ آخَرِينَ إِلَى الْجَنَّةِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَخْفِضُ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُرْتَفِعِينَ، وَتَرْفَعُ أَقْوَامًا كَانُوا فِي الدُّنْيَا مُسْتَضْعَفِينَ.
[4] {إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا} [الواقعة: 4] حركت وزلزلت زلزلة، قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا أَوْحَى إِلَيْهَا اضْطَرَبَتْ فَرَقًا.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: تُرَجُّ كَمَا يُرَجُّ الصَّبِيُّ فِي الْمَهْدِ حَتَّى يَنْهَدِمَ كُلُّ بِنَاءٍ عَلَيْهَا وَيَنْكَسِرَ كُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنَ الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا.
وَأَصْلُ الرَّجِّ فِي اللُّغَةِ التَّحْرِيكُ، يُقَالُ: رَجَجْتُهُ فَارْتَجَّ.
[5] {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا} [الواقعة: 5] قال عطاء ومقاتل ومجاهد: فتتت فَتًّا فَصَارَتْ كَالدَّقِيقِ الْمَبْسُوسِ وَهُوَ الْمَبْلُولُ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالسُّدِّيُّ: كُسِرَتْ كَسْرًا، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: سُيِّرَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ تَسْيِيرًا.
قَالَ الْحَسَنُ: قُلِعَتْ مِنْ أَصْلِهَا فَذَهَبَتْ، نَظِيرُهَا: {فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [طه: 105] قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: جُعِلَتْ كَثِيبًا مَهِيلًا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ شَامِخَةً طَوِيلَةً.
[6] {فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا} [الواقعة: 6] غُبَارًا مُتَفَرِّقًا كَالَّذِي يُرَى فِي شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا دَخَلَ الْكُوَّةَ وهو الهباء.
[7] {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا} [الواقعة: 7] أصنافا، {ثَلَاثَةً} [الواقعة: 7]
[8] ثُمَّ فَسَّرَهَا فَقَالَ: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة: 8] هُمُ الَّذِينَ يُؤْخَذُ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى يَمِينِ آدَمَ حِينَ أُخْرِجَتِ الذُّرِّيَّةُ من صلبه، وَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هم الذين
_________
(1) قطعة من حديث أخرجه البخاري في فضائل الصحابة 7 / 41، ومسلم في فضائل الصحابة برقم (2393) 4 / 1862.(6/922)
يُعْطَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَالرَّبِيعُ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَيَامِينَ مُبَارَكِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَكَانَتْ أَعْمَارُهُمْ فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَهُمُ التَّابِعُونَ بِإِحْسَانٍ، ثُمَّ عَجَّبَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: {مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} [الواقعة: 8] وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ مَا زَيْدٌ يُرَادُ زَيْدٌ شَدِيدٌ.
[9] {وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} [الواقعة: 9] يَعْنِي أَصْحَابَ الشِّمَالِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْيَدَ الْيُسْرَى الشُّؤْمَى، وَمِنْهُ يُسَمَّى الشام واليمين، لِأَنَّ الْيَمَنَ عَنْ يَمِينِ الْكَعْبَةِ، وَالشَّامُ عَنْ شِمَالِهَا، وَهُمُ الَّذِينَ يؤخد بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى شِمَالِ آدَمَ عِنْدَ إِخْرَاجِ الذُّرِّيَّةِ وَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: هَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمُ الَّذِينَ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشِمَالِهِمْ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْمَشَائِيمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَكَانَتْ أَعْمَارُهُمْ في المعاصي.
[10] {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} [الواقعة: 10] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: السَّابِقُونَ إِلَى الْهِجْرَةِ هُمُ السَّابِقُونَ فِي الْآخِرَةِ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: السَّابِقُونَ إِلَى الْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ سِيرِينَ: هُمُ الَّذِينَ صَلَّوْا إِلَى الْقِبْلَتَيْنِ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التَّوْبَةِ: 100] قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: السَّابِقُونَ إِلَى إِجَابَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا هُمُ السَّابِقُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي الْعُقْبَى.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَى إِجَابَةِ الأنبياء صلوات الله عليهم بِالْإِيمَانِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِلَى الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إلى الجهاد.
وقام سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمُ الْمُسَارِعُونَ إِلَى التَّوْبَةِ وَإِلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الحديد: 21] ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61] قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: وَالسَّابِقُونَ إِلَى كُلِّ مَا دَعَا اللَّهُ إِلَيْهِ.
وروي عن كعب: هُمْ أَهْلُ الْقُرْآنِ الْمُتَوَّجُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقِيلَ: هُمْ أَوَّلُهُمْ رَوَاحًا إِلَى الْمَسْجِدِ وَأَوَّلُهُمْ خُرُوجًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: إِلَى كل خير.
[11] {أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [الواقعة: 11] مِنَ اللَّهِ. 12،
[13] {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ - ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} [الواقعة: 12 - 13] أَيْ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى زَمَانِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، والثلة: الجماعة غَيْرُ مَحْصُورَةِ الْعَدَدِ.
[14] {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 14] يَعْنِي مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالَ الزَّجَّاجُ: الَّذِينَ عَايَنُوا جَمِيعَ النَّبِيِّينَ مِنْ لَدُنْ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَصَدَّقُوهُمْ، أَكْثَرُ مِمَّنْ عَايَنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
[15] {عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} [الواقعة: 15] مَنْسُوجَةٍ كَمَا تُوَضَنُ حِلَقُ الدِّرْعِ فَيُدْخَلُ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: هِيَ مَوْصُولَةٌ مَنْسُوجَةٌ بِالذَّهَبِ وَالْجَوَاهِرِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَوْضُونَةٌ مَصْفُوفَةٌ.
[16] {مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ} [الواقعة: 16] لَا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ فِي قَفَا بعض.
[قوله تعالى يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ] وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ. . .(6/923)
[17] {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ} [الواقعة: 17] للخدمة، {وِلْدَانٌ} [الواقعة: 17] غلمان، {مُخَلَّدُونَ} [الواقعة: 17] لَا يَمُوتُونَ وَلَا يَهْرَمُونَ وَلَا يَتَغَيَّرُونَ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: تَقُولُ الْعَرَبُ لمن كبر ولمن شمط إِنَّهُ مُخَلَّدٌ.
قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: يَعْنِي وِلْدَانًا لَا يُحَوَّلُونَ مِنْ حَالَةٍ إِلَى حَالَةٍ.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مُقَرَّطُونَ يُقَالُ خَلَّدَ جَارِيَتَهُ إِذَا حَلَّاهَا بِالْخِلْدِ، وَهُوَ الْقِرْطُ.
قَالَ الْحَسَنُ: هُمْ أَوْلَادُ أَهْلِ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لَهُمْ حَسَنَاتٌ فَيُثَابُوا عَلَيْهَا وَلَا سَيِّئَاتٌ فَيُعَاقَبُوا عَلَيْهَا لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا ولادة فيها فهم خدم أهل الجنة.
[18] {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة: 18] فَالْأَكْوَابُ جَمْعُ كُوبٍ وَهِيَ الْأَقْدَاحُ الْمُسْتَدِيرَةُ الْأَفْوَاهِ لَا آذَانَ لَهَا ولا عرف، وَالْأَبَارِيقُ وَهِيَ ذَوَاتُ الْخَرَاطِيمِ سُمِّيَتْ أَبَارِيقَ لِبَرِيقِ لَوْنِهَا مِنَ الصَّفَاءِ.
{وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} [الواقعة: 18] خَمْرٍ جَارِيَةٍ.
[19] {لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا} [الواقعة: 19] لا تصدع رؤوسهم من شربها، {وَلَا يُنْزِفُونَ} [الواقعة: 19] أَيْ لَا يَسْكَرُونَ، هَذَا إِذَا قُرِئَ بِفَتْحِ الزَّايِ وَمَنْ كَسَرَ فَمَعْنَاهُ لَا يَنْفَدُ شَرَابُهُمْ.
[20] {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} [الواقعة: 20] يَخْتَارُونَ مَا يَشْتَهُونَ، يُقَالُ تَخَيَّرْتُ الشَّيْءَ إِذَا أَخَذْتُ خَيْرَهُ.
[21] {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَخْطُرُ عَلَى قَلْبِهِ لَحْمُ الطَّيْرِ فَيَصِيرُ مُمَثَّلًا بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى مَا اشْتَهَى، وَيُقَالُ إِنَّهُ يَقَعُ عَلَى صَحْفَةِ الرَّجُلِ فَيَأْكُلُ مِنْهُ مَا يَشْتَهِي ثُمَّ يَطِيرُ فَيَذْهَبُ.
[22] {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِ الرَّاءِ وَالنُّونِ، أَيْ وَبِحُورٍ عين، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَيُكْرَمُونَ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمِ طير وحور عِينٌ وَقَالَ الْأَخْفَشُ رُفِعَ عَلَى مَعْنَى لَهُمْ حُورٌ عِينٌ، وَجَاءَ في تفسيره في حور بِيضٌ ضِخَامُ الْعُيُونِ.
[23] {كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} [الواقعة: 23] الْمَخْزُونِ فِي الصَّدَفِ لَمْ تَمَسَّهُ الأيدي.
[24] {جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الواقعة: 24]
[25،
[26] {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا - إِلَّا قِيلًا} [الواقعة: 25 - 26] أي قولا: {سَلَامًا سَلَامًا} [الواقعة: 26] نَصَبَهُمَا اتِّبَاعًا لِقَوْلِهِ قِيلًا أَيْ يَسْمَعُونَ قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا.
قَالَ عَطَاءٌ: يُحَيِّي بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِالسَّلَامِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَصْحَابَ الْيَمِينِ وَعَجَّبَ مِنْ شَأْنِهِمْ فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ:
[27،
[28] {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ - فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [الواقعة: 27 - 28] لَا شَوْكَ فِيهِ كَأَنَّهُ خُضِدَ شَوْكُهُ أَيْ قُطِعَ وَنُزِعَ مِنْهُ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَا يَعْقِرُ الْأَيْدِيَ.
قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ الَّذِي لا أذى فيه.
قَالَ الضَّحَّاكُ وَمُجَاهِدٌ: هُوَ الْمُوَقَرُ حملا.
[29] {وَطَلْحٍ} [الواقعة: 29] أَيْ مَوْزٍ، وَاحِدَتُهَا طَلْحَةٌ، عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْسَ هو بالموز ولكنه شجر لها ظِلٌّ بَارِدٌ طَيِّبٌ.
قَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: الطَّلْحُ عِنْدَ الْعَرَبِ شَجَرٌ عِظَامٌ لَهَا شَوْكٌ.
وَرَوَى مجاهد عن الحسن بن سعيد قَالَ: قَرَأَ رَجُلٌ عِنْدَ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} [الواقعة: 29] فَقَالَ.
وَمَا شَأْنُ الطَّلْحِ إِنَّمَا هو طلح مَنْضُودٌ ثُمَّ قَرَأَ {طَلْعُهَا هَضِيمٌ} [الشعراء: 148] قُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّهَا فِي الْمُصْحَفِ بِالْحَاءِ أَفَلَا تَحَوِّلُهَا؟ فَقَالَ: إِنَّ الْقُرْآنَ لَا يُهَاجُ اليوم ولا يحول، والمنضود الْمُتَرَاكِمُ الَّذِي قَدْ نُضِّدَ بِالْحَمْلِ من أوله إلى آخره، ليس هو سُوقٌ بَارِزَةٌ، قَالَ مَسْرُوقٌ: أَشْجَارُ الجنة من عروقها إلى أفنانها ثمر كله.
[30] {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30] دَائِمٌ لَا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ وَالْعَرَبُ تَقُولُ لِلشَّيْءِ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ ممدود.
[31] {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ} [الواقعة: 31] مَصْبُوبٍ يَجْرِي دَائِمًا فِي غَيْرِ أُخْدُودٍ لَا يَنْقَطِعُ. 32،
[33] {وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ - لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ} [الواقعة: 32 - 33] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا تَنْقَطِعُ إِذَا جُنِيَتْ وَلَا تَمْتَنِعُ مِنْ أَحَدٍ أَرَادَ أَخْذَهَا وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا مَقْطُوعَةٍ بِالْأَزْمَانِ وَلَا مَمْنُوعَةٍ بالأثمان، كما ينقطع أثر ثِمَارِ الدُّنْيَا إِذَا جَاءَ الشِّتَاءُ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إِلَيْهَا إِلَّا بِالثَّمَنِ.
وَقَالَ الْقُتَيْبِيُّ: يَعْنِي لَا يُحْظَرُ عَلَيْهَا كَمَا(6/924)
يحظر على بساتين الدنيا.
[34] {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} [الواقعة: 34] عَلَى الْأَسِرَّةِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ فَهِيَ مرفوعة عالية.
وَقِيلَ: أَرَادَ بِالْفُرُشِ النِّسَاءَ وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَرْأَةَ فِرَاشًا وَلِبَاسًا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ، مَرْفُوعَةٍ رُفِعْنَ بِالْجَمَالِ وَالْفَضْلِ عَلَى نِسَاءِ الدُّنْيَا دَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ فِي عَقِبِهِ:
[35] {إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً} [الواقعة: 35] خَلَقْنَاهُنَّ خَلْقًا جَدِيدًا، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الْآدَمِيَّاتِ الْعُجْزَ الشُّمْطَ، يَقُولُ خَلَقْنَاهُنَّ بَعْدَ الْهَرَمِ خَلْقًا آخر.
[36] {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} [الواقعة: 36] وقال المسيب ابن شَرِيكٍ: هُنَّ عَجَائِزُ الدُّنْيَا أَنْشَأَهُنَّ اللَّهُ تَعَالَى خَلْقًا جَدِيدًا كُلَّمَا أَتَاهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَجَدُوهُنَّ أَبْكَارًا.
وَذَكَرَ الْمُسَيَّبُ عَنْ غَيْرِهِ أَنَّهُنَّ فُضِّلْنَ عَلَى الْحُورِ الْعِينِ بِصَلَاتِهِنَّ فِي الدُّنْيَا.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: هُنَّ الْحُورُ الْعِينُ أَنْشَأَهُنَّ اللَّهُ لَمْ يَقَعْ عَلَيْهِنَّ وِلَادَةٌ فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عَذَارَى وَلَيْسَ هُنَاكَ وَجَعٌ.
[37] {عُرُبًا} [الواقعة: 37] جمع عروب أي عواشق محببات إلى أزواجهن.
وَقَالَ أُسَامَةُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَبِيهِ: عُرُبًا حَسَنَاتِ الْكَلَامِ.
{أَتْرَابًا} [الواقعة: 37] مُسْتَوِيَاتٍ فِي السِّنِّ عَلَى سِنٍّ واحد.
[38] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 38] يريد أنشأهن لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ.
[39] {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} [الواقعة: 39] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
[40] {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 40] من مؤمني هذه الأمة، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّ الثُّلَّتَيْنِ جميعا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.
[41 - 42] قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ - فِي سَمُومٍ} [الواقعة: 41 - 42] ريح حارة، {وَحَمِيمٍ} [الواقعة: 42] مَاءٍ حَارٍّ.
[43] {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة: 43] دُخَانٍ شَدِيدِ السَّوَادِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: أَسْوَدُ يَحْمُومٌ إِذَا كَانَ شَدِيدَ السَّوَادِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّارُ سَوْدَاءُ وَأَهْلُهَا سُودٌ، وَكُلُّ شَيْءٍ فِيهَا أَسْوَدُ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْيَحْمُومُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ.
[44] {لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [الواقعة: 44] قَالَ قَتَادَةُ: لَا بَارِدَ الْمَنْزِلِ وَلَا كَرِيمَ الْمَنْظَرِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: وَلَا كَرِيمَ: وَلَا حَسَنَ، نَظِيرُهُ {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشُّعَرَاءِ: 7]
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: طَيِّبٌ.
[45] {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ} [الواقعة: 45] يعني في الدنيا، {مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45] منعمين.
[46] {وَكَانُوا يُصِرُّونَ} [الواقعة: 46] يقيمون {عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] عَلَى الذَّنْبِ الْكَبِيرِ وَهُوَ الشِّرْكُ.
وقال الشعبي: {الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 46] الْيَمِينِ الْغَمُوسِ.
وَمَعْنَى هَذَا: أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْلِفُونَ أَنَّهُمْ لَا يُبْعَثُونَ وَكَذَبُوا فِي ذَلِكَ.(6/925)
[47] {وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 47] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَنَافِعٌ وَالْكِسَائِيُّ وَيَعْقُوبُ (أَئِذَا) مُسْتَفْهِمًا، (إِنَّا) بِتَرْكِهِ، وقرأ الآخرون بالاستفهام فيهما.
[قوله تعالى ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ] لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ. . .
[48 - 55] {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ - قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ - لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ - ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ - لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ - فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ - فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ - فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة: 48 - 55] وَ (الْهِيمُ) الْإِبِلُ الْعِطَاشُ، قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: الْهُيَامُ دَاءٌ يُصِيبُ الْإِبِلَ لَا تُرْوَى مَعَهُ وَلَا تَزَالُ تَشْرَبُ حَتَّى تَهْلَكَ.
يُقَالُ: جَمَلٌ أَهْيَمُ، وَنَاقَةٌ هَيْمَاءُ، وَالْإِبِلُ هِيمٌ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَابْنُ عُيَيْنَةَ: (الْهِيمُ) الْأَرْضُ السَّهْلَةُ ذَاتُ الرَّمْلِ.
[56] {هَذَا نُزُلُهُمْ} [الواقعة: 56] يَعْنِي مَا ذُكِرَ مِنَ الزَّقُّومِ وَالْحَمِيمِ، أَيْ رِزْقُهُمْ وَغِذَاؤُهُمْ وَمَا أعد لهم، {يَوْمَ الدِّينِ} [الواقعة: 56] يَوْمَ يُجَازَوْنَ بِأَعْمَالِهِمْ، ثُمَّ احْتَجَّ عليهم في البعث:
[57] فقال تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ} [الواقعة: 57] قَالَ مُقَاتِلٌ: خَلَقْنَاكُمْ وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذَلِكَ، {فَلَوْلَا} [الواقعة: 57] فهلا {تُصَدِّقُونَ} [الواقعة: 57] بالبعث.
[58] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} [الواقعة: 58] تَصُبُّونَ فِي الْأَرْحَامِ مِنَ النُّطَفِ. 59،
[60] {أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ} [الواقعة: 59] يعني أأنتم تخلقون مَا تُمْنُونَ بَشَرًا، {أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ - نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ} [الواقعة: 59 - 60] قَالَ مُقَاتِلٌ: فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْلُغُ الْهَرَمَ وَمِنْكُمْ مَنْ يَمُوتُ صَبِيًّا وَشَابًّا.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَقْدِيرُهُ إِنَّهُ جَعَلَ أَهْلَ السَّمَاءِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ فِيهِ سَوَاءً، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مَعْنَى (قَدَّرْنَا) : قَضَيْنَا.
{وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 60] بمغلومين عَاجِزِينَ عَنْ إِهْلَاكِكُمْ وَإِبْدَالِكُمْ بِأَمْثَالِكُمْ فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ:
[61] {عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ} [الواقعة: 61] يَعْنِي نَأْتِي بِخَلْقٍ مِثْلِكُمْ بَدَلًا منكم، {وَنُنْشِئَكُمْ} [الواقعة: 61] نَخْلُقُكُمْ {فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الواقعة: 61] الصُّوَرِ، قَالَ مُجَاهِدٌ: فِي أَيِّ خَلْقٍ شِئْنَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيْ نُبَدِّلَ صِفَاتَكُمْ فَنَجْعَلَكُمْ قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ كَمَا فَعَلْنَا بِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، يَعْنِي: إِنْ أَرَدْنَا أَنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ مَا فَاتَنَا ذَلِكَ.
وَقَالَ سعيد بن المسيب: فيما لَا تَعْلَمُونَ يَعْنِي فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ سُودٍ تَكُونُ بِبَرَهُوتَ كَأَنَّهَا الْخَطَاطِيفُ.
وبَرَهُوتُ: وَادٍ بِالْيَمَنِ.
[62] {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى} [الواقعة: 62] الْخِلْقَةَ الْأُولَى وَلَمْ تَكُونُوا شَيْئًا.
{فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 62] أَنِّي قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِكُمْ كَمَا قَدَرْتُ عَلَى إِبْدَائِكُمْ.
[63] {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ} [الواقعة: 63] يَعْنِي: تُثِيرُونَ مِنَ الْأَرْضِ وَتُلْقُونَ فِيهَا مِنَ الْبَذْرِ.
[64] {أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ} [الواقعة: 64] تنبتونه، {أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 64] الْمُنْبِتُونَ.
[65] {لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا} [الواقعة: 65] قال عطاء: نبتا لَا قَمْحَ فِيهِ، وَقِيلَ: هَشِيمًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي مَطْعَمٍ وغذاء، {فَظَلْتُمْ} [الواقعة: 65] وَأَصْلُهُ فَظَلَلْتُمْ، حُذِفَتْ إِحْدَى اللَّامَيْنِ تخفيفا.
{تَفَكَّهُونَ} [الواقعة: 65] تَتَعَجَّبُونَ بِمَا نَزَلَ بِكُمْ فِي زَرْعِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ وَمُقَاتِلٍ.
وَقِيلَ: تَنْدَمُونَ عَلَى نَفَقَاتِكُمْ، وَهُوَ قَوْلُ يَمَانٍ، نَظِيرُهُ: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا} [الْكَهْفِ: 42] وَقَالَ الْحَسَنُ: تَنْدَمُونَ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْكُمْ مِنَ الْمَعْصِيَةِ الَّتِي أَوْجَبَتْ تِلْكَ الْعُقُوبَةَ.
وَقَالَ عِكْرِمَةُ: تَتَلَاوَمُونَ.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: تَحْزَنُونَ.
قَالَ الْكِسَائِيُّ: هُوَ تَلَهُّفٌ عَلَى مَا فَاتَ وَهُوَ مِنَ الْأَضْدَادِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: تَفَكَّهَتْ أي: تنعمت، وتفكهت أي: حزنت.
[66] {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} [الواقعة: 66] قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ (أَئِنَّا) بِهَمْزَتَيْنِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ عَلَى الضم، وَمَجَازُ الْآيَةِ فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ وَتَقُولُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: لموقع (1) . بِنَا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وُقُتَادَةُ: معذبون، والغرام: العذاب.
وقال
_________
(1) في نسخة: (لمولع بنا) .(6/926)
الضَّحَّاكُ وَابْنُ كَيْسَانَ: غَرِمْنَا أَمْوَالَنَا وَصَارَ مَا أَنْفَقْنَا غُرْمًا عَلَيْنَا، وَالْمُغْرَمُ: الَّذِي ذَهَبَ مَالُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَهُوَ قَوْلُهُ:
[67] {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [الواقعة: 67] مَحْدُودُونَ مَمْنُوعُونَ، أَيْ حُرِمْنَا مَا كُنَّا نَطْلُبُهُ مِنَ الرِّيعِ فِي الزَّرْعِ.
[68 - 70] {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ - أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ} [الواقعة: 68 - 69] السَّحَابِ، وَاحِدَتُهَا مُزْنَةٌ، {أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} [الواقعة: 69] لَوْ {نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا} [الواقعة: 70] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَدِيدُ الْمُلُوحَةِ، قَالَ الْحَسَنُ: مُرًّا.
{فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة: 70]
[71] {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ} [الْوَاقِعَةِ: 71] تَقْدَحُونَ وَتَسْتَخْرِجُونَ مِنْ زَنْدِكُمْ. 72،
[73] {أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} [الواقعة: 72] الَّتِي تُقْدَحُ مِنْهَا النَّارُ وَهِيَ الْمَرْخُ وَالْعِفَارُ، {أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ - نَحْنُ جَعَلْنَاهَا} [الواقعة: 72 - 73] خلقناها يعني نار الدنيا، {تَذْكِرَةً} [الواقعة: 73] لِلنَّارِ الْكُبْرَى إِذَا رَآهَا الرَّائِي ذَكَرَ جَهَنَّمَ، قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: مَوْعِظَةٌ يَتَّعِظُ بها المؤمن، {وَمَتَاعًا} [الواقعة: 73] بلغة ومنفعة، {لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73] المسافرين.
والمقوي: النازل في الأرض، وَالْقِيُّ وَالْقَوُّ هُوَ: الْقَفْرُ الْخَالِيَةُ الْبَعِيدَةُ مِنَ الْعُمْرَانِ، يُقَالُ أَقْوَتِ الدَّارُ إِذَا خَلَتْ مِنْ سُكَّانِهَا، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهَا أَهْلُ الْبَوَادِي وَالْأَسْفَارِ، فَإِنَّ مَنْفَعَتَهُمْ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَةِ الْمُقِيمِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُوقِدُونَهَا لَيْلًا لِتَهْرَبَ مِنْهُمَ السِّبَاعُ وَيَهْتَدِيَ بِهَا الضُّلَّالُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْمَنَافِعِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.
وقال مجاهد وعكرمة: {لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73] يَعْنِي: لِلْمُسْتَمْتِعِينَ بِهَا مِنَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ الْمُسَافِرِينَ وَالْحَاضِرِينَ يَسْتَضِيئُونَ بِهَا فِي الظُّلْمَةِ وَيَصْطَلُونَ مِنَ الْبَرْدِ، وَيَنْتَفِعُونَ بِهَا فِي الطَّبْخِ وَالْخَبْزِ.
قَالَ الْحَسَنُ: بُلْغَةٌ لِلْمُسَافِرِينَ يَتَبَلَّغُونَ بها إلى أسفارهم، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: لِلْجَائِعِينَ تَقُولُ الْعَرَبُ أَقْوَيْتُ مُنْذُ كَذَا وَكَذَا أَيْ مَا أَكَلْتُ شَيْئًا.
قَالَ قُطْرُبُ: (الْمُقْوِي) مِنَ الْأَضْدَادِ يُقَالُ لِلْفَقِيرِ: مُقْوٍ لِخُلُوِّهِ مِنَ الْمَالِ، وَيُقَالُ لِلْغَنِيِّ مُقْوٍ لِقُوَّتِهِ عَلَى مَا يُرِيدُ، يُقَالُ: أَقْوَى الرَّجُلُ إِذَا قَوِيَتْ دَوَابُّهُ وَكَثُرَ مَالُهُ، وَصَارَ إِلَى حَالَةِ الْقُوَّةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ فِيهَا مَتَاعًا لِلْأَغْنِيَاءِ وَالْفُقَرَاءِ جَمِيعًا لَا غِنًى لِأَحَدٍ عَنْهَا.
[74] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74]
[75] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75] قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ أُقْسِمُ وَ (لَا) صِلَةٌ، وَكَانَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ يَقْرَأُ: (فَلَأُقْسِمُ) عَلَى التحقيق.
وقيل: قوله (لا) رَدٌّ لِمَا قَالَهُ الْكُفَّارُ فِي الْقُرْآنِ إِنَّهُ سِحْرٌ وَشِعْرٌ وَكَهَانَةٌ، مَعْنَاهُ لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا يَقُولُونَ ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقَسَمَ، فَقَالَ (أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ) .
قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ: (بِمَوْقِعِ) عَلَى التَّوْحِيدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (بِمَوَاقِعِ) عَلَى الْجَمْعِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَرَادَ نُجُومَ الْقُرْآنِ فَإِنَّهُ كان نَزَلَ عَلَى(6/927)
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُتَفَرِّقًا نُجُومًا.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: أَرَادَ مَغَارِبَ النُّجُومِ وَمَسَاقِطَهَا.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: أَرَادَ مَنَازِلَهَا.
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ انْكِدَارَهَا وَانْتِثَارَهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
[قوله تعالى إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ لَا يَمَسُّهُ] إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ. . .
[76 - 77] {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ - إِنَّهُ} [الواقعة: 76 - 77] يَعْنِي هَذَا الْكِتَابَ وَهُوَ مَوْضِعُ القسم، {لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] عَزِيزٌ مَكْرَمٌ لِأَنَّهُ كَلَامُ اللَّهِ.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: الْكَرِيمُ الَّذِي مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعْطِيَ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ.
[78] {فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 78] مَصُونٍ عِنْدَ اللَّهِ فِي اللَّوْحِ المحفوظ من الشياطين.
[79] {لَا يَمَسُّهُ} [الواقعة: 79] أَيْ ذَلِكَ الْكِتَابَ الْمَكْنُونَ، {إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} [الواقعة: 79] وهم الملائكة الموصوفون بالطهارة، وَرَوَى حَسَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: هُمُ السَّفَرَةُ الْكِرَامُ الْبَرَرَةُ.
وَرَوَى محمد بن الفضل عَنْهُ: لَا يَقْرَؤُهُ إِلَّا الْمُوَحِّدُونَ.
قَالَ عِكْرِمَةُ: وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَنْهَى أَنْ يُمَكَّنَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ.
قَالَ الْفَرَّاءُ: لَا يَجِدُ طَعْمَهُ وَنَفْعَهُ إِلَّا مَنْ آمَنَ بِهِ.
وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ مِنَ الْأَحْدَاثِ وَالْجَنَابَاتِ.
وَظَاهِرُ الْآيَةِ نَفْيٌ وَمَعْنَاهَا نَهْيٌ، قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلْجُنُبِ وَلَا لِلْحَائِضِ وَلَا الْمُحْدِثِ حَمْلُ الْمُصْحَفِ وَلَا مَسُّهُ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَسَالِمٍ وَالْقَاسِمِ وَأَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ.
وَقَالَ الْحَكَمُ وَحَمَّادُ وَأَبُو حَنِيفَةَ: يَجُوزُ لِلْمُحْدِثِ والجنب حمل المصحف ومسه بغلاف، والأول قول أكثر الفقهاء.
[80] {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 80] أَيِ الْقُرْآنُ مُنَّزَّلٌ مِنْ عِنْدِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، سُمِّيَ الْمُنَّزَّلُ تَنْزِيلًا عَلَى اتِّسَاعِ اللُّغَةِ؟ كَمَا يُقَالُ لِلْمَقْدُورِ قَدْرٌ وَلِلْمَخْلُوقِ خَلْقٌ.
[81] {أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ} [الواقعة: 81] يعني القرآن، {أَنْتُمْ} [الواقعة: 81] يا أهل مكة، {مُدْهِنُونَ} [الواقعة: 81] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُكَذِّبُونَ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَافِرُونَ، نَظِيرُهُ: {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [الْقَلَمِ: 9] وَالْمُدْهِنُّ وَالْمُدَاهِنُ الْكَذَّابُ وَالْمُنَافِقُ، وَهُوَ مِنَ الْإِدْهَانِ وَهُوَ الْجَرْيُ فِي الْبَاطِنِ عَلَى خِلَافِ الظَّاهِرِ، هَذَا أَصْلُهُ ثُمَّ قِيلَ لِلْمُكَذِّبِ مُدْهِنٌ وَإِنْ صَرَّحَ بِالتَّكْذِيبِ وَالْكُفْرِ.
[82] {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} [الواقعة: 82] حَظَّكُمْ وَنَصِيبَكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ، {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] قَالَ الْحَسَنُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: خَسِرَ عَبْدٌ لَا يَكُونُ حَظُّهُ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا التَّكْذِيبَ بِهِ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ وَتَجْعَلُونَ شُكْرَكُمْ أَنَّكُمْ تَكْذِبُونَ.
وَقَالَ الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ: إِنَّ مِنْ لُغَةِ أَزِدِ شَنُوءَةَ: مَا رَزَقَ فُلَانٌ بِمَعْنَى مَا شَكَرَ وَهَذَا فِي الِاسْتِسْقَاءِ بِالْأَنْوَاءِ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقُولُونَ إِذَا مُطِرُوا: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَلَا يَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقِيلَ لَهُمْ: أَتُجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَيْ شُكْرَكُمْ بِمَا رُزِقْتُمْ يَعْنِي شُكْرَ رزقكم التكذيب، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه.(6/928)
[83] قوله عز وجل: {فَلَوْلَا} [الواقعة: 83] فهلا، {إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83] أَيْ بَلَغَتِ النَّفْسُ الْحُلْقُومَ عِنْدَ الموت.
[84] {وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ} [الواقعة: 84] يُرِيدُ وَأَنْتُمْ يَا أَهْلَ الْمَيِّتِ تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ مَتَى تَخْرُجُ نَفْسُهُ.
وَقِيلَ: مَعْنَى قَوْلِهِ: (تَنْظُرُونَ) أَيْ إِلَى أَمْرِي وَسُلْطَانِي لَا يُمْكِنُكُمُ الدَّفْعُ وَلَا تَمْلِكُونَ شَيْئًا.
[85] {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ} [الواقعة: 85] بِالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ وَالرُّؤْيَةِ.
وَقِيلَ: وَرُسُلُنَا الَّذِينَ يَقْبِضُونَ رُوحَهُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ منكم، {وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ} [الواقعة: 85] الذين حضروه.
[86] {فَلَوْلَا} [الواقعة: 86] فَهَلَّا {إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة: 86] مَمْلُوكِينَ، وَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: مُحَاسَبِينَ وَمَجْزِيِّينَ.
[87] {تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الواقعة: 87] أَيْ تَرُدُّونَ نَفْسَ هَذَا الْمَيِّتِ إِلَى جَسَدِهِ بَعْدَمَا بَلَّغَتِ الْحُلْقُومَ فَأَجَابَ عَنْ قَوْلِهِ: {فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} [الواقعة: 83] وَعَنْ قَوْلِهِ {فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} [الواقعة: 86] بِجَوَابٍ وَاحِدٍ، وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [الْبَقَرَةِ: 38] أُجِيبَا بِجَوَابٍ وَاحِدٍ، مَعْنَاهُ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ أَنَّهُ لَا بَعْثَ وَلَا حِسَابَ وَلَا إِلَهَ يُجَازِي فَهَلَّا تَرُدُّونَ نَفْسَ مَنْ يَعِزُّ عَلَيْكُمْ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ، وَإِذَا لَمْ يُمْكِنُكُمْ ذَلِكَ فَاعْلَمُوا أَنَّ الْأَمْرَ إِلَى غَيْرِكُمْ وَهُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ طَبَقَاتِ الْخَلْقِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَبَيَّنَ دَرَجَاتِهِمْ فَقَالَ:
[88] {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [الواقعة: 88] وهم السابقون.
[89] {فَرَوْحٌ} [الواقعة: 89] قَرَأَ يَعْقُوبُ (فَرُوحٌ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا فَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ، قَالَ الْحَسَنُ مَعْنَاهُ: تَخْرُجُ رُوحُهُ فِي الرَّيْحَانِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الرُّوحُ: الرَّحْمَةُ أَيْ لَهُ الرَّحْمَةُ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ فَحَيَاةٌ وَبَقَاءٌ لَهُمْ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ مَعْنَاهُ: فَلَهُ رَوْحٌ وَهُوَ الرَّاحَةُ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فَرَحٌ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: مَغْفِرَةٌ وَرَحْمَةٌ.
{وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] اسْتِرَاحَةٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: رِزْقٌ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ الرِّزْقُ بِلِسَانِ حِمْيَرَ، يُقَالُ خَرَجْتُ أَطْلُبُ رَيْحَانَ اللَّهِ أَيْ رِزْقَ اللَّهِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ الرَّيْحَانُ الَّذِي يُشَمُّ قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُفَارِقُ أَحَدٌ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ الدُّنْيَا حَتَّى يُؤْتَى بِغُصْنٍ مِنْ رَيْحَانِ الْجَنَّةِ فَيَشُمُّهُ ثُمَّ تُقْبَضُ روحه.
{وَجَنَّةُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: الرَّوْحُ النجاة من النار، والريحان دُخُولُ دَارِ الْقَرَارِ.
[90,91] {وَأَمَّا إِنْ كَانَ} [الواقعة: 90] الْمُتَوَفَّى، {مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ - فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ} [الواقعة: 90 - 91] أَيْ سَلَامَةٌ لَكَ يَا مُحَمَّدُ مِنْهُمْ فَلَا تَهْتَمَّ لَهُمْ فَإِنَّهُمْ سَلِمُوا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، أَوْ أنك ترى فيهم من تُحِبُّ مِنَ السَّلَامَةِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ وَيَقْبَلُ حَسَنَاتِهِمْ.
وَقَالَ الفراء وغيره: فسلام لَكَ أَنَّهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، أو يقال لصاحب اليمين: سلام لَكَ أَنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فألقيت إن كان الرجل يَقُولُ إِنِّي مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ، فتقول لَهُ: أَنْتَ مُصَدَّقٌ مُسَافِرٌ عَنْ قَلِيلٍ، وَقِيلَ: فَسَلَامٌ لَكَ أَيْ عَلَيْكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ.
[92] {وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ} [الواقعة: 92] بالبعث، {الضَّالِّينَ} [الواقعة: 92] عن الهدى وهم أصحاب المشأمة.
[93] {فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ} [الواقعة: 93] فَالَّذِي يُعَدُّ لَهُمْ حَمِيمُ جَهَنَّمَ.
[94] {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94] وَإِدْخَالُ نَارٍ عَظِيمَةٌ.
[95] {إِنَّ هَذَا} [الواقعة: 95] يَعْنِي مَا ذَكَرَ مِنْ قِصَّةِ المحتضرين، {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] أَيِ الْحَقُّ الْيَقِينُ أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ.
[96] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 96] قِيلَ: فَصَلِّ بِذِكْرِ رَبِّكَ وَأَمْرِهِ، وَقِيلَ: الْبَاءُ زَائِدَةٌ أَيْ فَسُبَحِ اسم ربك العظيم.
[سورة الحديد]
[قوله تعالى سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ] الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. . .
(57) سورة الحديد [1] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحديد: 1]
[2] {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحديد: 2]
[3] {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} [الحديد: 3] يَعْنِي(6/929)
هُوَ الْأَوَّلُ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ بلا ابتداء بل كَانَ هُوَ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ موجودا، والآخر بَعْدَ فَنَاءِ كُلِّ شَيْءٍ بِلَا انْتِهَاءٍ، تَفْنَى الْأَشْيَاءُ وَيَبْقَى هُوَ والظاهر الْغَالِبُ الْعَالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، والباطن الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ يَمَانٌ: هو الأول القديم والآخر الرحيم، والظاهر الحليم، والباطن الْعَلِيمُ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ الْأَوَّلُ بِبِرِّهِ إِذْ عَرَّفَكَ تَوْحِيدَهُ، وَالْآخِرُ بِجُودِهِ إِذْ عَرَّفَكَ التَّوْبَةَ عَلَى مَا جَنَيْتَ، وَالظَّاهِرُ بِتَوْفِيقِهِ إِذْ وَفَّقَكَ لِلسُّجُودِ لَهُ، وَالْبَاطِنُ بِسَتْرِهِ إذا عَصَيْتَهُ فَسَتَرَ عَلَيْكَ.
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: هُوَ الْأَوَّلُ بِشَرْحِ الْقُلُوبِ، وَالْآخِرُ بِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ، وَالظَّاهِرُ بِكَشْفِ الْكُرُوبِ، وَالْبَاطِنُ بِعِلْمِ الْغُيُوبِ.
وَسَأَلَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ كَعْبًا عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ: مَعْنَاهَا إِنَّ عِلْمَهُ بِالْأَوَّلِ كَعِلْمِهِ بِالْآخَرِ، وَعِلْمَهُ بِالظَّاهِرِ كَعِلْمِهِ بِالْبَاطِنِ. {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3]
[4] {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ} [الحديد: 4] بالعلم، {أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]
[5] {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الحديد: 5]
[6, 7] {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحديد: 6 - 7] يُخَاطِبُ كُفَّارَ مَكَّةَ، {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] مُمَلَّكِينَ فِيهِ يَعْنِي الْمَالَ الَّذِي كَانَ بِيَدِ غَيْرِهِمْ فَأَهْلَكَهُمْ وَأَعْطَاهُ قُرَيْشًا فَكَانُوا فِي ذَلِكَ الْمَالِ خلفاء ممن مَضَوْا، {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الحديد: 7]
[8] {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} [الحديد: 8] قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (أُخِذَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْخَاءِ (مِيثَاقُكُمْ) بِرَفْعِ الْقَافِ عَلَى مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ والخاء ونصب القاف، أَيْ: أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَكُمْ حِينَ أَخْرَجَكُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِأَنَّ اللَّهَ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ لَكُمْ سِوَاهُ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَقِيلَ: أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ بِإِقَامَةِ الْحُجَجِ وَالدَّلَائِلِ الَّتِي تَدْعُو إِلَى مُتَابَعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [الحديد: 8] يَوْمًا فَالْآنَ أَحْرَى الْأَوْقَاتِ أَنْ تُؤْمِنُوا لِقِيَامِ الْحُجَجِ وَالْإِعْلَامِ بِبَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنُزُولِ الْقُرْآنِ.
[9] {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ} [الحديد: 9] مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الحديد: 9] يعني بالقرآن، {لِيُخْرِجَكُمْ} [الحديد: 9] اللَّهُ بِالْقُرْآنِ، {مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 9] وَقِيلَ: لِيُخْرِجَكُمُ الرَّسُولُ بِالدَّعْوَةِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ أَيْ مِنَ ظُلُمَاتِ الشِّرْكِ إِلَى نُورِ الْإِيمَانِ، {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 9]
[10] {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 10] يَقُولُ: أَيُّ شَيْءٍ لَكُمْ فِي تَرْكِ(6/930)
الْإِنْفَاقِ فِيمَا يُقَرِّبُ مِنَ اللَّهِ وَأَنْتُمْ مَيِّتُونَ تَارِكُونَ أَمْوَالَكُمْ، ثُمَّ بَيَّنَ فَضْلَ مَنْ سَبَقَ بِالْإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَبِالْجِهَادِ فَقَالَ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ} [الحديد: 10] يَعْنِي فَتْحَ مَكَّةَ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُوَ صلح الحديبية، {وَقَاتَلَ} [الحديد: 10] لَا يَسْتَوِي فِي الْفَضْلِ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ وَقَاتَلَ الْعَدُوَّ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ مَعَ مَنْ أَنْفَقَ وَقَاتَلَ بَعْدَهُ، {أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [الحديد: 10] أَيْ كِلَا الْفَرِيقَيْنِ وَعَدَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ.
قَالَ عَطَاءٌ: دَرَجَاتُ الْجَنَّةِ تَتَفَاضَلُ فَالَّذِينَ أَنْفَقُوا قَبْلَ الْفَتْحِ فِي أَفْضَلِهَا.
وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ (وَكُلٌّ) بِالرَّفْعِ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 10]
[قوله تعالى يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى] نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ. . .
[11 - 12] {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ - يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ} [الحديد: 11 - 12] يَعْنِي عَلَى الصِّرَاطِ، {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [الحديد: 12] يَعْنِي عَنْ أَيْمَانِهِمْ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ جَمِيعَ جَوَانِبِهِمْ فَعَبَّرَ بِالْبَعْضِ عَنِ الْكُلِّ وَذَلِكَ دَلِيلُهُمْ إِلَى الجنة، وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رضي الله عنه: يُؤْتَوْنَ نُورَهُمْ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُورَهُ كَالنَّخْلَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْتَى نُورَهُ كَالرَّجُلِ الْقَائِمِ، وَأَدْنَاهُمْ نُورًا مَنْ نُورُهُ أَعْلَى إِبْهَامِهِ فَيُطْفَأُ مَرَّةً وَيَقِدُ مَرَّةً.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ: يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ كُتُبُهُمْ يُرِيدُ أَنَّ كُتُبَهُمُ الَّتِي أُعْطُوهَا بِأَيْمَانِهِمْ وَنُورِهِمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَتَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ.
{بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الحديد: 12]
[13] {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا} [الحديد: 13] قَرَأَ الْأَعْمَشُ وَحَمْزَةُ: (أَنْظِرُونَا) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الظَّاءِ يَعْنِي أَمْهِلُونَا.
وَقِيلَ: انْتَظِرُونَا.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِحَذْفِ الْأَلْفِ فِي الْوَصْلِ وَضَمِّهَا فِي الِابْتِدَاءِ وَضَمِّ الظَّاءِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: انْظُرْنِي وَأَنْظِرْنِي يَعْنِي انْتَظِرْنِي.
{نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] نَسْتَضِيءُ مِنْ نُورِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعْطِي الْمُؤْمِنِينَ نُورًا عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمْشُونَ بِهِ عَلَى الصِّرَاطِ، وَيُعْطِي الْمُنَافِقِينَ أَيْضًا نُورًا خَدِيعَةً لَهُمْ، وَهُوَ قَوْلُهُ عز وجل: (وهو خادعهم) ، بينما هم يمشون إذا بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ رِيحًا وَظُلْمَةً فَأَطْفَأَتْ نُورَ الْمُنَافِقِينَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} [التَّحْرِيمِ: 8] مَخَافَةَ أَنْ يُسْلَبُوا نُورَهُمْ كَمَا سُلِبَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: بَلْ يَسْتَضِيءُ الْمُنَافِقُونَ بِنُورِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا يُعْطَوْنَ النُّورَ فَإِذَا سَبَقَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ، {قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ} [الحديد: 13] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَقُولُ لَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: تَقُولُ لَهُمُ الْمَلَائِكَةُ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ مِنْ حَيْثُ جئتم، {فَالْتَمِسُوا نُورًا} [الحديد: 13] فَاطْلُبُوا هُنَاكَ لِأَنْفُسِكُمْ نُورًا فَإِنَّهُ لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى الِاقْتِبَاسِ مِنْ نُورِنَا، فَيَرْجِعُونَ فِي طَلَبِ النُّورِ فَلَا يَجِدُونَ شَيْئًا فَيَنْصَرِفُونَ إِلَيْهِمْ لِيَلْقُوهُمْ فَيُمَيَّزُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} [الحديد: 13] أي سور، والباء صِلَةٌ يَعْنِي بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ حَائِطٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، له أي لذلك السور، {لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} [الحديد: 13] أَيْ فِي بَاطِنِ ذَلِكَ السُّورِ الرحمة وهي الجنة {وَظَاهِرُهُ} [الحديد: 13] أَيْ خَارِجَ ذَلِكَ السُّورِ، {مِنْ قِبَلِهِ} [الحديد: 13] أَيْ مِنْ قِبَلِ ذَلِكَ الظَّاهِرِ، {الْعَذَابُ} [الحديد: 13] وهو النار.
[14] {يُنَادُونَهُمْ} [الحديد: 14] يعني: ينادون الْمُنَافِقُونَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ وَرَاءِ السُّورِ حين حجب بَيْنَهُمْ بِالسُّورِ وَبَقُوا فِي الظُّلْمَةِ: {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} [الحديد: 14] فِي الدُّنْيَا نُصَلِّي وَنَصُومُ: {قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} [الحديد: 14] أَهْلَكْتُمُوهَا بِالنِّفَاقِ وَالْكُفْرِ، وَاسْتَعْمَلْتُمُوهَا فِي الْمَعَاصِي وَالشَّهَوَاتِ، وَكُلُّهَا فِتْنَةٌ، {وَتَرَبَّصْتُمْ} [الحديد: 14] بالإيمان والتوبة.
وقال مقاتل: وتربصتم بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقُلْتُمْ يُوشِكُ أَنْ يَمُوتَ فَنَسْتَرِيحُ منه،(6/931)
{وَارْتَبْتُمْ} [الحديد: 14] شَكَكْتُمْ فِي نُبُوَّتِهِ وَفِيمَا أَوْعَدَكُمْ به، {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ} [الحديد: 14] الْأَبَاطِيلُ وَمَا كُنْتُمْ تَتَمَنَّوْنَ مِنْ نِزُولِ الدَّوَائِرِ بِالْمُؤْمِنِينَ، {حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ} [الحديد: 14] يَعْنِي الْمَوْتَ، {وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} [الحديد: 14] يَعْنِي الشَّيْطَانَ، قَالَ قَتَادَةُ: مَا زَالُوا عَلَى خُدْعَةٍ مِنَ الشَّيْطَانِ حَتَّى قَذَفَهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ.
[15] {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] بَدَلٌ وَعِوَضٌ بِأَنْ تَفْدُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ الْعَذَابِ، {وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الحديد: 15] يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ، {مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 15] صَاحِبُكُمْ وَأَوْلَى بِكُمْ لِمَا أَسْلَفْتُمْ من الذنوب {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 15]
[16] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ سَأَلُوا سَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالُوا حَدِّثْنَا عَنِ التَّوْرَاةِ فَإِنَّ فِيهَا الْعَجَائِبَ، فَنَزَلَتْ: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} [يُوسُفَ: 3] فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْقُرْآنَ أَحْسَنُ قَصَصًا مِنْ غَيْرِهِ، فَكَفُّوا عَنْ سُؤَالِ سَلْمَانَ مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ عَادُوا فَسَأَلُوا سَلْمَانَ عَنْ مِثْلِ ذَلِكَ فَنَزَلَ: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا} [الزُّمَرِ: 23] فَكَفُّوا عَنْ سُؤَالِهِ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ عَادُوا فَقَالُوا: حَدِّثْنَا عَنِ التَّوْرَاةِ فَإِنَّ فِيهَا الْعَجَائِبَ فَنَزَلَتْ هذه الآية.
فعلى هذا تأويل قَوْلُهُ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] يَعْنِي فِي الْعَلَانِيَةِ وَبِاللِّسَانِ.
وَقَالَ الآخرون: نَزَلَتْ فِي الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: "مَا كَانَ بَيْنَ إِسْلَامِنَا وَبَيْنَ أَنْ عَاتَبْنَا اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} [الحديد: 16] إِلَّا أَرْبَعُ سِنِينَ".
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ اسْتَبْطَأَ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ فَعَاتَبَهُمْ عَلَى رَأْسِ ثَلَاثَ عشر مِنْ نِزُولِ الْقُرْآنِ، فَقَالَ: {أَلَمْ يَأْنِ} [الحديد: 16] أَلَمْ يَحِنْ لِلَّذِينِ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ تَرِقَّ وَتَلِينَ وَتَخْضَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، {وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد: 16] وَهُوَ الْقُرْآنُ، {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} [الحديد: 16] وَهُمُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى، {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} [الحديد: 16] الزَّمَانُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَنْبِيَائِهِمْ، {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحديد: 16] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَالُوا إِلَى الدُّنْيَا وَأَعْرَضُوا عَنْ مَوَاعِظِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَنْهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَكُونُوا فِي صحبة القرآن كاليهود الَّذِينَ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ لَمَّا طَالَ عليهم الدهر.
{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 16] يَعْنِي الَّذِينَ تَرَكُوا الْإِيمَانَ بِعِيسَى ومحمد عليهما الصلاة والسلام.
[17 - 18] وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ - إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} [الحديد: 17 - 18] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ: بِتَخْفِيفِ الصَّادِ فِيهِمَا مِنَ التَّصْدِيقِ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهِمَا، أَيِ الْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الصَّادِ، {وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الحديد: 18] بِالصَّدَقَةِ وَالنَّفَقَةِ(6/932)
فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، {يُضَاعَفُ لَهُمْ} [الحديد: 18] ذَلِكَ الْقَرْضُ {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} [الحديد: 18] ثواب حسن وهو الجنة.
[قوله تعالى وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ] الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ. . .
[19] {وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] وَالصِّدِّيقُ الْكَثِيرُ الصِّدْقَ، قَالَ مُجَاهِدٌ: كل من آمن بالله ورسله فَهُوَ صِدِّيقٌ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ.
قَالَ الضَّحَّاكُ: هُمْ ثَمَانِيَةُ نَفَرٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَبَقُوا أَهْلَ الْأَرْضِ فِي زَمَانِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ أَبُو بَكْرٍ وَعَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَعُثْمَانُ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَسَعْدٌ وَحَمْزَةُ، وَتَاسِعُهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رِضْوَانُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ أَلْحَقَهُ اللَّهُ بِهِمْ لِمَا عَرَفَ مِنْ صِدْقِ نيته.
{وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [الحديد: 19] اخْتَلَفُوا فِي نَظْمِ هَذِهِ الْآيَةِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: هِيَ مُتَّصِلَةٌ بما قبلها والواو وَاوُ النَّسَقِ، وَأَرَادَ بِالشُّهَدَاءِ الْمُؤْمِنِينَ المخلصين.
وقال الضحاك: هم الذين سميناهم.
وقال مُجَاهِدٌ: كُلُّ مُؤْمِنٍ صِدِّيقٌ شَهِيدٌ، وَتلَا هَذِهِ الْآيَةَ، وَقَالَ قَوْمٌ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الحديد: 19] ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ ربهم، والواو وَاوُ الِاسْتِئْنَافِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٍ وَجَمَاعَةٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِيهِمْ فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ الْأَنْبِيَاءُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ عَلَى الْأُمَمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عباس وهو قول مقاتل بن حياد.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُمُ الَّذِينَ اسْتُشْهِدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، {لَهُمْ أَجْرُهُمْ} [الحديد: 19] بِمَا عَمِلُوا مِنَ الْعَمَلِ الصَّالِحِ، {وَنُورُهُمْ} [الحديد: 19] عَلَى الصِّرَاطِ {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [الحديد: 19]
[20] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} [الحديد: 20] أي الحياة الدنيا، (مَا) صِلَةٌ أَيْ أَنَّ الْحَيَاةَ في هذه الدار، {لَعِبٌ} [الحديد: 20] بَاطِلٌ لَا حَاصِلَ لَهُ، {وَلَهْوٌ} [الحديد: 20] فرح ثم ينقضي، {وَزِينَةٌ} [الحديد: 20] مَنْظَرٌ تَتَزَيَّنُونَ بِهِ {وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ} [الحديد: 20] يَفْخَرُ بِهِ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، {وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} [الحديد: 20] أَيْ مُبَاهَاةٌ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهَا مَثَلًا فَقَالَ {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ} [الحديد: 20] أي الزراع، {نَبَاتُهُ} [الحديد: 20] مَا نَبَتَ مِنْ ذَلِكَ الْغَيْثِ، {ثُمَّ يَهِيجُ} [الحديد: 20] ييبس، {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} [الحديد: 20] بَعْدَ خُضْرَتِهِ وَنَضْرَتِهِ، {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد: 20] يَتَحَطَّمُ وَيَتَكَسَّرُ بَعْدَ يُبْسِهِ وَيَفْنَى، {وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 20] قَالَ مُقَاتِلٌ: لِأَعْدَاءِ اللَّهِ، {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} [الحديد: 20] لِأَوْلِيَائِهِ وَأَهْلِ طَاعَتِهِ، {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [الحديد: 20] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: مَتَاعُ الغرور لمن لم يَشْتَغِلُ فِيهَا بِطَلَبِ الْآخِرَةِ، وَمَنِ اشْتَغَلَ بِطَلَبِهَا فَلَهُ مَتَاعُ بِلَاغٍ إِلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ.
[21] {سَابِقُوا} [الحديد: 21] سَارَعُوا، {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} [الحديد: 21] لَوْ وُصِلَ بَعْضُهَا بِبَعْضٍ، {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21](6/933)
فَبَيَّنَ أَنَّ أَحَدًا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إِلَّا بِفَضْلِ اللَّهِ.
[22] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} [الحديد: 22] يَعْنِي قَحْطَ الْمَطَرِ وَقِلَّةَ النَّبَاتِ وَنَقْصَ الثِّمَارِ، {وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ} [الحديد: 22] يَعْنِي الْأَمْرَاضَ وَفَقْدَ الْأَوْلَادِ، {إِلَّا فِي كِتَابٍ} [الحديد: 22] يَعْنِي اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد: 22] مِنْ قَبْلِ أَنْ نَخْلُقَ الْأَرْضَ وَالْأَنْفُسَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَ الْمُصِيبَةَ.
وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: يَعْنِي النَّسَمَةَ، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحديد: 22] أَيْ إِثْبَاتَ ذَلِكَ عَلَى كَثْرَتِهِ هَيِّنٌ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
[23] {لِكَيْلَا تَأْسَوْا} [الحديد: 23] تحزنوا، {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] مِنَ الدُّنْيَا، {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بِقَصْرِ الْأَلْفِ لقوله {فَاتَكُمْ} [الحديد: 23] فَجَعَلَ الْفِعْلَ لَهُ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (آتَاكُمْ) بِمَدِّ الْأَلِفِ، أَيْ: أَعْطَاكُمْ.
{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} [الحديد: 23] مُتَكَبِّرٍ بِمَا أُوتِيَ مِنَ الدُّنْيَا، {فَخُورٍ} [الحديد: 23] يفخر به على الناس.
[24] {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} [الحديد: 24] قِيلَ: هُوَ فِي مَحَلِّ الْخَفْضِ عَلَى نَعْتِ الْمُخْتَالِ.
وَقِيلَ: هُوَ رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ فِيمَا بَعْدَهُ.
{وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ} [الحديد: 24] أَيْ يُعْرِضْ عَنِ الْإِيمَانِ {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الحديد: 24]
[قوله تعالى لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا] مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ. . .
[25] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} [الحديد: 25] بِالْآيَاتِ وَالْحُجَجِ، {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ} [الحديد: 25] يَعْنِي الْعَدْلَ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: هُوَ مَا يُوزَنُ بِهِ أَيْ وَوَضَعْنَا الْمِيزَانَ كَمَا قَالَ: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا} [الرحمن: 7] بأن وضع الميزان {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد: 25] لِيَتَعَامَلُوا بَيْنَهُمْ بِالْعَدْلِ، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} [الحديد: 25] قال أَهْلُ الْمَعَانِي مَعْنَى قَوْلِهِ: (أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ) ، أَنْشَأْنَا وَأَحْدَثْنَا، أَيْ أَخْرَجَ لَهُمُ الْحَدِيدَ مِنَ الْمَعَادِنِ وَعَلَّمَهُمْ صَنَعْتَهُ بِوَحْيهِ.
وَقَالَ قُطْرُبٌ: هَذَا مِنَ النَّزْلِ كَمَا يُقَالُ أَنْزَلَ الْأَمِيرُ عَلَى فُلَانٍ نَزْلًا حَسَنًا فَمَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ نَزْلًا لَهُمْ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6]
{فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} [الحديد: 25] قُوَّةٌ شَدِيدَةٌ يَعْنِي السِّلَاحَ لِلْحَرْبِ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: فِيهِ جُنَّةٌ وَسِلَاحٌ يَعْنِي آلَةُ الدَّفْعِ وَآلَةُ الضَّرْبِ {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] مِمَّا يَنْتَفِعُونَ بِهِ فِي مَصَالِحِهِمْ كَالسِّكِّينِ وَالْفَأْسِ وَالْإِبْرَةِ وَنَحْوِهَا إِذْ هُوَ آلَةٌ لِكُلِّ صَنْعَةٍ، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} [الحديد: 25] أَيْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لِيَتَعَامَلَ النَّاسُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ وَلِيَرَى اللَّهُ، {مَنْ يَنْصُرُهُ} [الحديد: 25] أي دينه، {وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الحديد: 25] أي قام بنصرة الدين لم يَرَ اللَّهَ وَلَا الْآخِرَةَ وَإِنَّمَا يُحْمَدُ وَيُثَابُ مَنْ أَطَاعَ اللَّهَ بِالْغَيْبِ.
{إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] قَوِيٌّ فِي أَمْرِهِ عَزِيزٌ فِي مُلْكِهِ.(6/934)
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ - ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} [الحديد: 26 - 27] على دينه {رَأْفَةً} [الحديد: 27] وهي أشد الرقة، {وَرَحْمَةً} [الحديد: 27] كَانُوا مُتَوَادِّينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي وَصْفِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: (رحماء بينهم) ، {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} [الحديد: 27] مِنْ قِبَلِ أَنْفُسِهِمْ وَلَيْسَ هَذَا بِعَطْفٍ عَلَى مَا قَبْلَهُ وَانْتِصَابُهُ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ كَأَنَّهُ قَالَ: وَابْتَدَعُوا رَهْبَانِيَّةً أَيْ جَاءُوا بِهَا مِنْ قبل أنفسهم، {مَا كَتَبْنَاهَا} [الحديد: 27] أَيْ مَا فَرَضْنَاهَا، {عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] يَعْنِي وَلَكِنَّهُمُ ابْتَغَوْا رِضْوَانَ اللَّهِ بِتِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةِ، وَتِلْكَ الرَّهْبَانِيَّةُ مَا حَمَّلُوا أَنْفُسَهَمْ مِنَ الْمَشَاقِّ فِي الِامْتِنَاعِ مِنَ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالنِّكَاحِ وَالتَّعَبُّدِ فِي الْجِبَالِ، {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} [الحديد: 27] أَيْ لَمْ يَرْعَوْا الرَّهْبَانِيَّةَ حَقَّ رِعَايَتِهَا بَلْ ضَيَّعُوهَا وَكَفَرُوا بِدِينِ عِيسَى فَتَهَوَّدُوا وَتَنَصَّرُوا وَدَخَلُوا فِي دين ملوكهم وتركوا الترهيب، وَأَقَامَ مِنْهُمْ أُنَاسٌ عَلَى دِينِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَتَّى أَدْرَكُوا مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَآمَنُوا بِهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} [الحديد: 27] وَهُمُ الَّذِينَ ثَبَتُوا عَلَيْهَا وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ، {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد: 27] وَهُمُ الَّذِينَ تَرَكُوا الرَّهْبَانِيَّةَ وَكَفَرُوا بِدِينِ عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
[28] فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} [الحديد: 28] الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ مِنَ الْيَهُودِ والنصارى، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بِمُوسَى وَعِيسَى اتَّقَوْا اللَّهَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ} [الحديد: 28] مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} [الحديد: 28] نصيبين، {مِنْ رَحْمَتِهِ} [الحديد: 28] يَعْنِي يُؤْتِكُمْ أَجْرَيْنِ لِإِيمَانِكُمْ بِعِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَالْإِنْجِيلِ، وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقُرْآنِ، وَقَالَ قَوْمٌ: انْقَطَعَ الْكَلَامُ عِنْدَ قوله (رحمة) ثم قال: وَرَهْبَانِيَّةٌ ابْتَدَعُوهَا وَذَلِكَ أَنَّهُمْ تَرَكُوا الْحَقَّ فَأَكَلُوا الْخِنْزِيرَ وَشَرِبُوا الْخَمْرَ وَتَرَكُوا الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ مِنَ الْجَنَابَةِ وَالْخِتَانَ، فَمَا رَعَوْهَا يَعْنِي الطَّاعَةَ وَالْمِلَّةَ حَقَ رِعَايَتِهَا كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ، فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ، وَهُمْ أَهْلُ الرَّأْفَةِ وَالرَّحْمَةِ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ، وَهُمُ الَّذِينَ ابْتَدَعُوا الرَّهْبَانِيَّةَ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مُجَاهِدٌ.
مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27] عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ: مَا أَمَرْنَاهُمْ وما كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ الله، وما أمرنا لهم بالترهب.
{وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} [الحديد: 28] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي عَلَى الصِّرَاطِ، كَمَا قَالَ: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} [التَّحْرِيمِ: 8] وَيُرْوَى عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ النُّورَ هُوَ الْقُرْآنُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ الْهُدَى وَالْبَيَانُ، أَيْ يَجْعَلْ لَكُمْ سَبِيلًا وَاضِحًا في الدين تهمدون بِهِ، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الحديد: 28]
[29] ثُمَّ قَالَ: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29] قَالَ قَتَادَةُ: حَسَدَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29] قَالَ مُجَاهِدٌ: قَالَتِ الْيَهُودُ: يُوشِكُ أَنْ يَخْرُجَ مِنَّا نَبِيٌّ يَقْطَعُ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ، فَلَمَّا خَرَجَ مِنَ الْعَرَبِ كَفَرُوا بِهِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29] أَيْ لِيَعْلَمَ وَ (لَا) صِلَةٌ، {أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الحديد: 29] أَيْ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ لَمْ يُؤْمِنُوا أَنَّهُمْ لَا أَجْرَ لَهُمْ، وَلَا نَصِيبَ لَهُمْ فِي فَضْلِ اللَّهِ، {وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 29]
[سورة المجادلة]
[قوله تعالى قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا] وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ. . .
(58) سورة المجادلة [1] {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ كَانَتْ تَحْتَ أَوْسِ بْنِ الصَّامِتِ وَكَانَتْ حَسَنَةَ الْجِسْمِ وَكَانَ بِهِ لَمَمٌ فَأَرَادَهَا فَأَبَتْ، فَقَالَ لَهَا: أَنْتِ عَلِيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، ثُمَّ نَدِمَ عَلَى مَا قَالَ وَكَانَ الظِّهَارُ وَالْإِيلَاءُ مِنْ طَلَاقِ أهل الجاهلية، فَأَتَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَتْ: «يَا(6/935)
رسول الله إن زوجي ظَاهَرَ مِنِّي، وَقَدْ نَدِمَ فَهَلْ من شيء يجمعني وإياه، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "حَرُمْتِ عَلَيْهِ " فَقَالَتْ أَشْكُو إِلَى اللَّهِ فَاقَتِي وَوَحْدَتِي، فَجَعَلَتْ تُرَاجِعُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} [المجادلة: 1] » الْآيَاتِ (1) وَمَعْنَى قَوْلِهِ {قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ} [المجادلة: 1] وتخاصمك وَتُحَاوِرُكَ وَتَرَاجِعُكَ فِي زَوْجِهَا، {وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] مُرَاجَعَتَكُمَا الْكَلَامَ، {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] سَمِيعٌ لِمَا تُنَاجِيهِ وَتَتَضَرَّعُ إِلَيْهِ، بصير بمن يشكو إليه.
[2] ثُمَّ ذَمَّ الظِّهَارَ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] أي ما اللواتي يجعلونهن مع زوجاتهم كالأمهات، الْمَعْنَى لَيْسَ هُنَّ بِأُمَّهَاتِهِمْ، {إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ} [المجادلة: 2] أَيْ مَا أُمَّهَاتُهُمْ، {إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ} [المجادلة: 2] لَا يُعْرَفُ فِي شَرْعٍ {وَزُورًا} [المجادلة: 2] كَذِبًا، {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} [المجادلة: 2] عَفَا عَنْهُمْ وَغَفَرَ لَهُمْ بِإِيجَابِ الكفارة عليهم.
[3] {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] اختلف أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْعَوْدِ فَقَالَ أَهْلُ الظَّاهِرِ: هُوَ إِعَادَةُ لَفْظِ الظِّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي الْعَالِيَةِ، وقال: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] أَيْ إِلَى مَا قَالُوا، أَيْ أَعَادُوهُ مَرَّةً أُخْرَى، فَإِنْ لَمْ يُكَرِّرِ اللَّفْظَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَذَهَبَ قَوْمٌ إِلَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ تَجِبُ بِنَفْسِ الظِّهَارِ وَالْمُرَادُ مِنَ الْعَوْدِ هُوَ الْعَوْدُ إِلَى مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ نَفْسِ الظِّهَارِ، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالثَّوْرِيِّ.
وَقَالَ قَوْمٌ: الْمُرَادُ مِنَ الْعَوْدِ الْوَطْءُ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَطَاوُسٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَقَالُوا لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَطَأْهَا، وَقَالَ قَوْمٌ هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِ الرأي، وَفَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْعَوْدَ بِالنَّدَمِ، فَقَالَ.
يَنْدَمُونَ فَيَرْجِعُونَ إِلَى الْأُلْفَةِ وَمَعْنَاهُ هَذَا.
قَالَ الْفَرَّاءُ: يُقَالُ عَادَ فُلَانٌ لِمَا قَالَ أَيْ فِيمَا قَالَ: وَفِي نَقْضِ مَا قَالَ، يَعْنِي رَجَعَ عَمَّا قَالَ، قَوْلُهُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] والمراد بالتماس الْمُجَامَعَةُ فَلَا يَحِلُّ لِلْمُظَاهِرِ وَطْءُ امرأته التي ظاهر عنها مَا لَمْ يُكَفِّرْ سَوَاءٌ أَرَادَ التَّكْفِيرَ بِالْإِعْتَاقِ أَوْ بِالصِّيَامِ أَوْ بِالْإِطْعَامِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ: إِنْ أَرَادَ التَّكْفِيرَ بِالْإِطْعَامِ يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ قَبْلَهُ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ الْعِتْقَ وَالصَّوْمَ بِمَا قَبِلَ الْمَسِيسِ وَقَالَ فِي الْإِطْعَامِ: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] وَلَمْ يَقُلْ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 4] وعند الآخرين الإطلاق في الطعام مَحْمُولٌ عَلَى الْمُقَيَّدِ فِي الْعِتْقِ والصيام.
{ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} [المجادلة: 3] تُؤْمَرُونَ بِهِ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 3]
[4] {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 4] يعني الرقبة،
_________
(1) أخرجه عبد الرزاق في التفسير 2 / 277 وصححه الحاكم 2 / 481 وانظر تفسير ابن كثير 4 / 319.(6/936)
{فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] يعني المظاهر إذ لَمْ يَسْتَطِعِ الصَّوْمَ لِمَرَضٍ أَوْ كبر أو فرط شهوة لا يَصْبِرُ عَنِ الْجِمَاعِ يَجِبُ عَلَيْهِ إطعام سِتِّينَ مِسْكِينًا، {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [المجادلة: 4] لِتُصَدِّقُوا مَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ الله عز جل، {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [المجادلة: 4] يَعْنِي مَا وُصِفَ مِنَ الْكَفَّارَاتِ فِي الظِّهَارِ، {وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 4] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِمَنْ جَحَدَهُ وَكَذَّبَ بِهِ.
[5] {إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 5] أَيْ يُعَادُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيُشَاقُّونَ ويخالفون أمرهما، {كُبِتُوا} [المجادلة: 5] أُذِلُّوا وَأُخْزُوا وَأُهْلِكُوا، {كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا} [المجادلة: 5] إليك، {آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 5]
[قوله تَعَالَى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ] وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ. . .
[6 - 7] {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ} [المجادلة: 6] حَفِظَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ، {وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ} [المجادلة: 6 - 7] أَيْ مِنْ سِرَارِ ثَلَاثَةٍ يَعْنِي مِنَ الْمُسَارَّةِ، أَيْ: مَا مِنْ شَيْءٍ يُنَاجِي بِهِ الرَّجُلُ صَاحِبَيْهِ، {إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] بِالْعِلْمِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا يَكُونُ مِنْ مُتَنَاجِينَ ثَلَاثَةٍ يُسَارُّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ بِالْعِلْمِ يَعْلَمُ نَجْوَاهُمْ {وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [المجادلة: 7]
[8] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} [المجادلة: 8] نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا بَيْنَهُمْ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْظُرُونَ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَيَتَغَامَزُونَ بِأَعْيُنِهِمْ يُوهِمُونَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ يَتَنَاجَوْنَ فِيمَا يَسُوءُهُمْ، فَيَحْزَنُونَ لِذَلِكَ، فَلَمَّا طَالَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَكَثُرَ شَكُوا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم فأمرهم ألا يَتَنَاجَوْا دُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَنْتَهُوا عَنْ ذَلِكَ وَعَادُوا إِلَى مُنَاجَاتِهِمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى} [المجادلة: 8] أَيِ الْمُنَاجَاةِ {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} [المجادلة: 8] أَيْ يَرْجِعُونَ إِلَى الْمُنَاجَاةِ الَّتِي نهوا عنها {وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} [المجادلة: 8] وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ نَهَاهُمْ عَنِ النَّجْوَى فَعَصَوْهُ، {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ} [المجادلة: 8] وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَدْخُلُونَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم {وَيَقُولُونَ} [المجادلة: 8] السَّامُ عَلَيْكَ، وَالسَّامُ الْمَوْتُ وَهُمْ يُوهِمُونَهُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ السَّلَامُ عَلَيْكَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُ: "عَلَيْكُمْ " فَإِذَا خَرَجُوا قَالُوا: {فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] يُرِيدُونَ لَوْ كَانَ نَبِيًّا حَقًّا لَعَذَّبَنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [المجادلة: 8]
[9] فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ} [المجادلة: 9] أَيْ كَفِعْلِ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: (آمَنُوا) الْمُنَافِقِينَ أَيْ آمَنُوا بِلِسَانِهِمْ.
قَالَ عَطَاءٌ: يريد الذي آمَنُوا(6/937)
بِزَعْمِهِمْ قَالَ لَهُمْ لَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ، {وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المجادلة: 9]
[10] {إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ} [الْمُجَادَلَةِ: 10] أَيْ مِنْ تَزْيِينِ الشَّيْطَانِ، {لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المجادلة: 10] أَيْ إِنَّمَا يُزَيِّنُ لَهُمْ ذَلِكَ ليحزن المؤمنين، {وَلَيْسَ} [المجادلة: 10] التناجي، {بِضَارِّهِمْ شَيْئًا} [المجادلة: 10] وَقِيلَ: لَيْسَ الشَّيْطَانُ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا، {إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [المجادلة: 10] قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كُنْتُمْ ثَلَاثَةً فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ» .
[11] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا} [الْمُجَادَلَةِ: 11] أَيْ تَوَسَّعُوا فِي الْمَجْلِسِ، قَرَأَ الْحَسَنُ وَعَاصِمٌ: فِي الْمَجَالِسِ لِأَنَّ الْكُلَّ جَالِسٌ مَجْلِسًا مَعْنَاهُ لِيَتَفَسَّحْ كُلُّ رَجُلٍ فِي مَجْلِسِهِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (فِي الْمَجْلِسِ) عَلَى التَّوْحِيدِ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ مَجْلِسُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {فَافْسَحُوا} [المجادلة: 11] أوسعوا، يقول فَسَحَ يَفْسَحُ فَسْحًا إِذَا وَسَّعَ فِي الْمَجْلِسِ، {يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ} [المجادلة: 11] يُوَسِّعُ اللَّهُ لَكُمُ الْجَنَّةَ، وَالْمَجَالِسَ فيها، {وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا} [المجادلة: 11] أَيِ ارْتَفِعُوا، قِيلَ: ارْتَفِعُوا عَنْ مَوَاضِعِكُمْ حَتَّى تُوَسِّعُوا لِإِخْوَانِكُمْ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: مَعْنَاهُ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْهَضُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَإِلَى الْجِهَادِ وَإِلَى مَجَالِسِ كُلِّ خَيْرٍ وَحَقٍّ فَقُومُوا لَهَا وَلَا تُقَصِّرُوا، {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} [المجادلة: 11] بِطَاعَتِهِمْ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقِيَامِهِمْ مِنْ مَجَالِسِهِمْ وَتَوْسِعَتِهِمْ لِإِخْوَانِهِمْ، {وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [المجادلة: 11] مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بِفَضْلِ عِلْمِهِمْ وَسَابِقَتِهِمْ، {دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] قَالَ الْحَسَنُ: قَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ هَذِهِ الْآيَةَ وَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ افهموا هذه الآية ولترغبنكم فِي الْعِلْمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] الْمُؤْمِنُ الْعَالِمُ فَوْقَ الَّذِي لَا يعلم درجات.
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ] فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً. . .
[12] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ} [المجادلة: 12] أمام مناجاتكم، {صَدَقَةً} [المجادلة: 12] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَكْثَرُوا حَتَّى شَقُّوا عَلَيْهِ، فَأَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَلَى نَبِيِّهِ وَيُثَبِّطَهُمْ وَيَرْدَعَهُمْ عَنْ ذَلِكَ فَأَمَرَهُمْ أَنْ يُقَدِّمُوا صَدَقَةً عَلَى الْمُنَاجَاةِ مَعَ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, {ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ} [المجادلة: 12] يَعْنِي تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُنَاجَاةِ، {وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12] يَعْنِي الْفُقَرَاءَ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ مَعْفُوٌّ عَنْهُمْ.
[13] {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا} [المجادلة: 13] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَبَخِلْتُمْ؟ وَالْمَعْنَى: أَخِفْتُمُ الْعَيْلَةَ وَالْفَاقَةَ إِنْ قَدَّمْتُمْ، {بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا} [المجادلة: 13] مَا أُمِرْتُمْ بِهِ، {وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] تَجَاوَزَ عَنْكُمْ وَلَمْ يُعَاقِبْكُمْ بِتَرْكِ الصَّدَقَةِ، وَقِيلَ: الْوَاوُ صِلَةٌ مَجَازُهُ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا تَابَ اللَّهُ عليكم تجاوز عنكم وخفف عنكم، وَنَسَخَ الصَّدَقَةَ.
قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: كَانَ ذَلِكَ عَشْرَ لَيَالٍ ثُمَّ نُسِخَ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مَا كَانَتْ إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ.
{فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [المجادلة: 13] المفروضة، {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [المجادلة: 13] الْوَاجِبَةَ، {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة: 13]
[14] {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة: 14] نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ تَوَلَّوُا الْيَهُودَ وَنَاصَحُوهُمْ وَنَقَلُوا أَسْرَارَ الْمُؤْمِنِينَ إِلَيْهِمْ وَأَرَادَ بِقَوْلِهِ: {غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [المجادلة: 14] الْيَهُودَ، {مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ} [المجادلة: 14] يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ لَيْسُوا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في الدين والولاية وَلَا مِنَ الْيَهُودِ وَالْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَ: {مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ} [النِّسَاءِ: 143] {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [المجادلة: 14] قَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نَبْتَلٍ الْمُنَافِقِ كَانَ يُجَالِسُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ يَرْفَعُ حَدِيثَهُ إِلَى الْيَهُودِ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حجرة من حجراته إِذْ قَالَ: «يَدْخُلُ عَلَيْكُمُ الْآنَ رَجُلٌ قَلْبُهُ قَلْبُ جَبَّارٍ وَيَنْظُرُ بِعَيْنَيْ شَيْطَانٍ " فَدَخْلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ(6/938)
نَبْتَلَ وَكَانَ أَزْرَقَ الْعَيْنَيْنِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عَلَامَ تَشْتُمُنِي أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ؟! " فَحَلَفَ بِاللَّهِ مَا فَعَلَ وَجَاءَ بِأَصْحَابِهِ فَحَلَفُوا بِاللَّهِ مَا سَبُّوهُ،» فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَذِهِ الْآيَاتِ (1) فقال: ويحلفون عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّهُمْ كَذَبَةٌ.
[15 - 16] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ - اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ} [المجادلة: 15 - 16] الكاذبة, {جُنَّةً} [المجادلة: 16] يَسْتَجِنُّونَ بِهَا مِنَ الْقَتْلِ وَيَدْفَعُونَ بِهَا عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المجادلة: 16] صَدُّوا الْمُؤْمِنِينَ عَنْ جِهَادِهِمْ بِالْقَتْلِ وَأَخَذِ أَمْوَالِهِمْ، {فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 16]
[17 - 18] {لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ} [المجادلة: 17] يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ - يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ} [المجادلة: 17 - 18] مَا كَانُوا مُشْرِكِينَ، {كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ} [المجادلة: 18] فِي الدُّنْيَا {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: 18] مِنْ أَيْمَانِهِمُ الْكَاذِبَةِ، {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18]
[19 - 20] {اسْتَحْوَذَ} [المجادلة: 19] غَلَبَ وَاسْتَوْلَى، {عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ - إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ} [المجادلة: 19 - 20] الْأَسْفَلِينَ أَيْ هُمْ فِي جُمْلَةِ مَنْ يَلْحَقُهُمُ الذُّلُّ فِي الدُّنْيَا والآخرة.
[قوله تعالى كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ] قَوِيٌّ عَزِيزٌ. . .
[21] {كَتَبَ اللَّهُ} [المجادلة: 21] قَضَى اللَّهُ قضَاءً ثَابِتًا، {لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] نَظِيرُهُ قَوْلُهُ: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ - إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ} [الصَّافَاتِ: 171 - 172] قَالَ الزَّجَّاجُ: غَلَبَةُ الرُّسُلِ عَلَى نَوْعَيْنِ: مَنْ بُعِثَ مِنْهُمْ بِالْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ بِالْحَرْبِ، وَمَنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِالْحَرْبِ فَهُوَ غَالِبٌ بالحجة.
[22] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ أَخْبَرَ أَنَّ إِيمَانَ الْمُؤْمِنِينَ يفسد بموادة الكفار وَأَنَّ مَنْ كَانَ مُؤْمِنًا لَا يوالي من كفر، إن كان من عشيرته، {أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [المجادلة: 22] أَثْبَتَ التَّصْدِيقَ فِي قُلُوبِهِمْ فَهِيَ مُوقِنَةٌ مُخْلِصَةٌ.
وَقِيلَ: حَكَمَ لَهُمْ بِالْإِيمَانِ فَذَكَرَ الْقُلُوبَ لِأَنَّهَا مَوْضِعَهُ.
{وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ} [المجادلة: 22] قَوَّاهُمْ بِنَصْرٍ مِنْهُ، قَالَ الْحَسَنُ: سَمَّى نَصْرَهُ إِيَّاهُمْ رُوحًا لِأَنَّ أَمْرَهُمْ يَحْيَا بِهِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: يَعْنِي بِالْإِيمَانِ.
وَقَالَ الرَّبِيعُ: يَعْنِي بالقران وحججه، كَمَا قَالَ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشُّورَى: 52] وَقِيلَ: بِرَحْمَةٍ مِنْهُ.
وَقِيلَ: أَمَدَّهُمْ بِجِبْرِيلَ عليه السلام.
_________
(1) ذكره الواحدي في أسباب النزول ص761، وقال ابن حجر في الكافي: "لم أجده هكذا"، ثم ذكر نحوه من رواية سماك عن ابن جبير عن ابن عباس، وقد أخرجه أحمد والبزار والطبراني وابن أبي حاتم والحاكم.(6/939)
{وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22]
[سورة الحشر]
[قوله تعالى سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ] وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. . .
(59) سورة الحشر [1 - 2] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 1] {هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 2] يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ، {مِنْ دِيَارِهِمْ} [الحشر: 2] الَّتِي كَانَتْ بِيَثْرِبَ، قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: كَانَ إِجْلَاءُ بَنِي النَّضِيرِ بَعْدَ مَرْجِعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أُحُدٍ، وَفَتْحَ قُرَيْظَةَ عِنْدَ مَرْجِعِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ وبينهما سنتان.
{لِأَوَّلِ الْحَشْرِ} [الْحَشْرِ: 2] قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَانُوا مِنْ سِبْطٍ لَمْ يُصِبْهُمْ جَلَاءٌ فِيمَا مَضَى، وَكَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ كَتَبَ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ شَكَّ أَنَّ الحشر بِالشَّامِ فَلْيَقْرَأْ هَذِهِ الْآيَةَ فَكَانَ هَذَا أَوَّلُ حَشْرٍ إِلَى الشَّامِ، قَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اخْرُجُوا) قَالُوا: إِلَى أَيْنَ؟ قَالَ: "إِلَى أَرْضِ الْمَحْشَرِ" ثَمَّ يُحْشَرُ الْخَلْقُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الشَّامِ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّمَا قَالَ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا أول مع أُجْلِيَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ جريرة الْعَرَبِ، ثُمَّ أَجْلَى آخِرَهُمْ عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
قَالَ مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ: كَانَ أَوَّلُ الْحَشْرِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَالْحَشْرُ الثَّانِي مِنْ خَيْبَرَ وَجَمِيعِ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ إِلَى أَذَرِعَاتٍ وَأَرِيحَاءَ مِنَ الشَّامِ فِي أَيَّامِ عُمَرَ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ هَذَا أَوَّلُ الْحَشْرِ، وَالْحَشْرُ الثَّانِي نَارٌ تَحْشُرُهُمْ مِنَ الْمَشْرِقِ إِلَى الْمَغْرِبِ تَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا {مَا ظَنَنْتُمْ} [الحشر: 2] أيها المؤمنون، {أَنْ يَخْرُجُوا} [الحشر: 2] مِنَ الْمَدِينَةِ لِعِزَّتِهِمْ وَمَنَعَتِهِمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ حُصُونٍ وَعَقَارٍ وَنَخِيلٍ كَثِيرَةٍ، {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 2] أَيْ وَظَنَّ بَنُو النَّضِيرِ أَنَّ حُصُونَهُمْ تَمْنَعُهُمْ مِنْ سُلْطَانِ اللَّهِ، {فَأَتَاهُمُ اللَّهُ} [الحشر: 2] أَيْ أَمْرُ اللَّهِ وَعَذَابُهُ، {مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا} [الحشر: 2] وهو أَنَّهُ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقِتَالِهِمْ وَإِجْلَائِهِمْ وَكَانُوا لَا يَظُنُّونَ ذَلِكَ، {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ} [الحشر: 2] بِقَتْلِ سَيِّدِهِمْ كَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ، {يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ} [الحشر: 2] قَالَ الزُّهْرِيُّ: وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا صَالَحَهُمْ عَلَى أَنَّ لَهُمْ مَا أَقَلَّتِ الْإِبِلُ كَانُوا يَنْظُرُونَ إِلَى الْخَشَبِ فِي مَنَازِلِهِمْ فَيَهْدِمُونَهَا وُيَنْزِعُونَ مِنْهَا مَا يَسْتَحْسِنُونَهُ فَيَحْمِلُونَهُ عَلَى إِبِلِهِمْ، وَيُخَرِّبُ الْمُؤْمِنُونَ بَاقِيَهَا.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: كَانُوا يَقْلَعُونَ الْعُمُدَ وَيَنْقُضُونَ السُّقُوفَ وَيَنْقُبُونَ الْجُدْرَانَ وَيَقْلَعُونَ الْخَشَبَ حَتَّى الْأَوْتَادَ يُخَرِّبُونَهَا لِئَلَّا يَسْكُنَهَا الْمُؤْمِنُونَ حَسَدًا مِنْهُمْ وَبُغْضًا.
قَالَ قَتَادَةُ: كَانَ الْمُسْلِمُونَ يُخَرِّبُونَ مَا يَلِيهِمْ مِنْ ظَاهِرِهَا وَيُخَرِّبُهَا الْيَهُودُ مِنْ دَاخِلِهَا.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: كُلَّمَا ظَهَرَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى دَارٍ مِنْ دُورِهِمْ هَدَمُوهَا لِتَتَّسِعَ لَهُمُ الْمَقَاتِلُ، وَجَعَلَ أَعْدَاءُ اللَّهِ يَنْقُبُونَ دَوْرَهُمْ فِي أَدْبَارِهَا(6/940)
فَيَخْرُجُونَ إِلَى الَّتِي بَعْدَهَا فَيَتَحَصَّنُونَ فِيهَا وَيَكْسِرُونَ مَا يَلِيهِمْ وَيَرْمُونَ بِالَّتِي خَرَجُوا مِنْهَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فذلك قوله عز وجل: {فَاعْتَبِرُوا} [الحشر: 2] فَاتَّعِظُوا وَانْظُرُوا فِيمَا نَزَلَ بِهِمْ، {يا أُولِي الْأَبْصَارِ} [الحشر: 2] يا ذوي العقول والبصائر.
[قوله تعالى وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ] فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ. . .
[3 - 4] {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} [الحشر: 3] الْخُرُوجَ مِنَ الْوَطَنِ، {لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا} [الحشر: 3] بِالْقَتْلِ وَالسَّبْيِ كَمَا فَعَلَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ، {وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ - ذَلِكَ} [الحشر: 3 - 4] الَّذِي لَحِقَهُمْ، {بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 4]
[5] {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ} [الحشر: 5] الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِبَنِي النَّضِيرِ وَتَحَصَّنُوا بِحُصُونِهِمْ أمر بقطع نخليهم وَإِحْرَاقِهَا، فَجَزِعَ أَعْدَاءُ اللَّهِ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالُوا: يَا مُحَمَّدُ زَعَمْتَ أَنَّكَ تُرِيدُ الصَّلَاحَ أَفَمِنَ الصَّلَاحِ عَقْرُ الشَّجَرِ وَقَطْعُ النَّخِيلِ؟ فَهَلْ وَجَدْتَ فِيمَا زَعَمْتَ أَنَّهُ أُنْزِلَ عَلَيْكَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ، فَوَجَدَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ وَخَشُوا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَسَادًا، وَاخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَقْطَعُوا فَإِنَّهُ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْنَا.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَغِيظُهُمْ بِقَطْعِهَا، فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ، بِتَصْدِيقِ مَنْ نَهَى عَنْ قَطْعِهِ وَتَحْلِيلِ مَنْ قَطَعَهُ مِنَ الإثم، أَخْبَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أن ما قطعتموه وما تركوه فبإذن الله، {أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} [الحشر: 5] وَاخْتَلَفُوا فِي اللِّينَةِ فَقَالَ قَوْمٌ: النَّخْلُ كُلُّهَا لِينَةٌ مَا خَلَا العجوة، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعَطِيَّةُ: هِيَ النَّخْلُ كُلُّهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ، وَقَالَ سُفْيَانُ: هِيَ كِرَامُ النَّخْلِ.
وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ ضَرْبٌ مِنَ النَّخْلِ يُقَالُ لِثَمَرِهَا اللَّوْنُ، وَهُوَ شَدِيدُ الصُّفْرَةِ يُرَى نَوَاهُ مِنْ خَارِجٍ يَغِيبُ فِيهَا الضِّرْسُ، وَكَانَ مِنْ أَجْوَدِ تَمْرِهِمْ وَأَعْجَبِهَا إِلَيْهِمْ، وَكَانَتِ النَّخْلَةُ الْوَاحِدَةُ مِنْهَا ثَمَنُهَا ثَمَنُ وَصِيفٍ، وَأَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ وَصِيفٍ، فَلَمَّا رَأَوْهُمْ يَقْطَعُونَهَا شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَقَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: إِنَّكُمْ تَكْرَهُونَ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ وَأَنْتُمْ تُفْسِدُونَ، دَعُوا هَذَا النَّخْلَ قَائِمًا هُوَ لمن غلب عليه، فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ بِإِذْنِهِ.
[6] {وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ} [الحشر: 6] أَيْ: رَدَّهُ عَلَى رَسُولِهِ، يُقَالُ: فاء يفيء أي رجع وفاءها الله، {مِنْهُمْ} [الحشر: 6] أَيْ مِنْ يَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ، {فَمَا أَوْجَفْتُمْ} [الحشر: 6] أَوْضَعْتُمْ، {عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ} [الحشر: 6] يُقَالُ: وَجَفَ الْفَرَسُ وَالْبَعِيرُ يَجِفُ وَجِيفًا وَهُوَ سُرْعَةُ السَّيْرِ، وَأَوْجَفَهُ صَاحِبُهُ إِذَا حَمَلَهُ عَلَى السَّيْرِ، وَأَرَادَ بِالرِّكَابِ الْإِبِلَ الَّتِي تَحْمِلُ الْقَوْمَ.
وَذَلِكَ أَنَّ بَنِي النَّضِيرِ لَمَّا تَرَكُوا رِبَاعَهُمْ وَضِيَاعَهَمْ طَلَبَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَقْسِمَهَا بَيْنَهُمْ، كَمَا فَعَلَ بِغَنَائِمِ خَيْبَرَ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهَا فَيْءٌ لَمْ يُوجِفِ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهَا خَيْلًا وَلَا رِكَابًا وَلَمْ يَقْطَعُوا إِلَيْهَا شُقَّةً وَلَا نَالُوا مَشَقَّةً وَلَمْ يَلْقَوْا حَرْبًا.
{وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الحشر: 6](6/941)
فَجَعَلَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً يَضَعُهَا حَيْثُ يَشَاءُ, فَقَسَمَهَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ وَلَمْ يُعْطِ الْأَنْصَارَ مِنْهَا شَيْئًا إِلَّا ثَلَاثَةَ نَفَرٍ كَانَتْ بِهِمْ حَاجَةٌ وَهُمْ أَبُو دُجَانَةَ سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ وَسَهْلُ بْنُ حَنِيفٍ وَالْحَارِثُ بْنُ الصمة.
[7] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] يَعْنِي مِنْ أَمْوَالِ كُفَّارِ أَهْلِ الْقُرَى، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ قُرَيْظَةُ وَالنَّضِيرُ وَفَدَكُ وَخَيْبَرُ وَقُرَى عُرَيْنَةَ: {فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [الحشر: 7] قَدْ ذَكَرْنَا فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ حُكْمَ الْغَنِيمَةِ وَحُكْمَ الْفَيْءِ: إِنَّ مَالَ الْفَيْءِ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ فِي حَيَاتِهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ وَكَانَ يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةَ سَنَتِهِمْ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ مجعل مال الله, {كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً} [الحشر: 7] قرأ العامة بالياء {دُولَةً} [الحشر: 7] نُصِبَ أَيْ لِكَيْلَا يَكُونَ الْفَيْءُ دُولَةً, وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ (تَكُونَ) بِالتَّاءِ (دُولَةٌ) بِالرَّفْعِ عَلَى اسْمِ كَانَ أَيْ كَيْلَا يَكُونَ الْأَمْرُ إِلَى دُولَةٍ, وَجَعَلَ الْكَيْنُونَةَ بِمَعْنَى الْوُقُوعِ وَحِينَئِذٍ لَا خَبَرَ لَهُ وَالدُّولَةُ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الَّذِي يَتَدَاوَلُهُ الْقَوْمُ بَيْنَهُمْ, {بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} [الحشر: 7] يعني بين الرؤساء والأقوياء, معناه كيلا يكون الفيء دولة بين الأغنياء وَالْأَقْوِيَاءِ فَيَغْلِبُوا عَلَيْهِ الْفُقَرَاءَ وَالضُّعَفَاءَ, وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا إِذَا اغْتَنَمُوا غَنِيمَةً أَخْذَ الرَّئِيسُ رُبُعَهَا لِنَفْسِهِ, وَهُوَ الْمِرْبَاعُ, ثُمَّ يَصْطَفِي مِنْهَا بَعْدَ الْمِرْبَاعِ مَا شَاءَ, فَجَعَلَهُ اللَّهُ لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُهُ فِيمَا أُمِرَ بِهِ, ثُمَّ قَالَ {وَمَا آتَاكُمُ} [الحشر: 7] أعطاكم, {الرَّسُولُ} [الحشر: 7] مِنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ, {فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ} [الحشر: 7] من الغلول وغيره, {فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَهَذَا نَازِلٌ فِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ, وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَا أَمَرَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم ونهى عَنْهُ, {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7] ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ لَهُ الْحَقُّ فِي الْفَيْءِ فَقَالَ:
[8] {لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا} [الحشر: 8] رزقا {مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الحشر: 8] أَيْ أُخْرِجُوا إِلَى دَارِ الْهِجْرَةِ طَلَبًا لِرِضَا اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ, {وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحشر: 8] فِي إِيمَانِهِمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: هَؤُلَاءِ الْمُهَاجِرُونَ الَّذِينَ تَرَكُوا الدِّيَارَ وَالْأَمْوَالَ وَالْعَشَائِرَ وَخَرَجُوا حُبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ, وَاخْتَارُوا الْإِسْلَامَ عَلَى مَا كَانُوا فيه من شدة.
[9] {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ} [الحشر: 9] وهم الْأَنْصَارُ تَبَوَّءُوا الدَّارَ تُوَطَّنُوا الدَّارَ, أَيْ الْمَدِينَةَ اتَّخَذُوهَا دَارَ الْهِجْرَةِ والإيمان, {مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 9] أَيْ أَسْلَمُوا فِي دِيَارِهِمْ وَآثَرُوا الْإِيمَانَ وَابْتَنَوْا الْمَسَاجِدَ قَبْلَ قُدُومِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِسَنَتَيْنِ.
وَنَظْمُ الْآيَةِ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَيْ مِنْ قَبْلِ قُدُومِ الْمُهَاجِرِينَ عَلَيْهِمْ, وَقَدْ آمَنُوا لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِمَكَانِ تبوأ, {يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً} [الحشر: 9] حَزَازَةً وَغَيْظًا وَحَسَدًا, {مِمَّا أُوتُوا} [الحشر: 9] أَيْ مِمَّا أَعْطَى الْمُهَاجِرِينَ دُونَهُمْ مِنَ الْفَيْءِ, وَذَلِكَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسَّمَ أَمْوَالَ بَنِي النَّضِيرِ بَيْنَ الْمُهَاجِرِينَ, وَلَمْ يُعْطِ مِنْهَا الْأَنْصَارَ فَطَابَتْ أَنْفُسُ الْأَنْصَارِ بِذَلِكَ, {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ} [الحشر: 9] أَيْ يُؤْثِرُونَ عَلَى إِخْوَانِهِمْ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ, {وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] فَاقَةٌ وَحَاجَةٌ إِلَى مَا يُؤْثِرُونَ, وذلك أنهم قاسموا ديارهم وأموالهم, {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] الشح فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْبُخْلُ وَمَنْعُ الْفَضْلِ.
وَفَرَّقَ الْعُلَمَاءُ بَيْنَ الشُّحِّ والبخل.
قال ابْنُ عُمَرَ: لَيْسَ الشُّحُّ أَنْ يَمْنَعَ الرَّجُلَ مَالَهُ إِنَّمَا الشُّحُّ أَنْ تَطْمَحَ عَيْنُ الرَّجُلِ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ, وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الشُّحُّ هُوَ أَخْذُ الْحَرَامِ وَمَنْعُ الزَّكَاةِ.
وَقِيلَ: الشُّحُّ هُوَ الْحِرْصُ الشَّدِيدُ الَّذِي يَحْمِلُهُ على ارتكاب المحارم.
[قوله تعالى وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا] اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ. . .
[10] {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ} [الْحَشْرِ: 10] يَعْنِي التَّابِعِينَ وَهُمَ الَّذِينَ يَجِيئُونَ بَعْدَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ, ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ لِأَنْفُسِهِمْ وَلِمَنْ سَبَقَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَالْمَغْفِرَةِ, فَقَالَ:(6/942)
{يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا} [الحشر: 10] غَشًا وَحَسَدًا وَبُغْضًا، {لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحشر: 10] فكل مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ غِلٌّ عَلَى أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يَتَرَحَّمْ عَلَى جَمِيعِهِمْ، فَإِنَّهُ لَيْسَ مِمَّنْ عَنَاهُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ، الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ والتابعين الموصوفين بما ذكر، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ التَّابِعِينَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ كَانَ خَارِجًا مِنْ أَقْسَامِ الْمُؤْمِنِينَ.
قَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى النَّاسُ عَلَى ثَلَاثَةِ مَنَازِلَ: الْمُهَاجِرِينَ، وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ، وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ، فَاجْتَهِدْ أَنْ لَا تَكُونَ خَارِجًا مِنْ هذه المنازل، وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: أُمِرْتُمْ بِالِاسْتِغْفَارِ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَسَبَبْتُمُوهُمْ! سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَا تَذْهَبُ هَذِهِ الْأُمَّةُ حَتَّى يَلْعَنَ آخِرُهَا أَوَّلَهَا» (1) وَقَالَ مالك بن مغول: قال عمر بْنُ شَرَاحِيلَ الشَّعْبِيُّ: يَا مَالِكُ تَفَاضَلَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى الرَّافِضَةِ بِخَصْلَةٍ، سُئِلَتِ الْيَهُودُ مَنْ خَيْرُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ فَقَالَتْ: أَصْحَابُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسُئِلَتِ النَّصَارَى مَنْ خَيْرُ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ فَقَالُوا: حَوَارِيُّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَسُئِلَتِ الرَّافِضَةُ مَنْ شَرُّ أَهْلِ مِلَّتِكُمْ؟ فَقَالُوا: أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! أُمِرُوا بِالِاسْتِغْفَارِ لَهُمْ فَسَبُّوهُمْ، فَالسَّيْفُ عَلَيْهِمْ مَسْلُولٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تَقُومُ لَهُمْ رَايَةٌ وَلَا يَثْبُتُ لَهُمْ قَدَمٌ، وَلَا تَجْتَمِعُ لَهُمْ كَلِمَةٌ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ بِسَفْكِ دِمَائِهِمْ وَتَفْرِيقِ شَمْلِهِمْ، وَإِدْحَاضِ حُجَّتِهِمْ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنَ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلَّةِ (2) قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: مَنْ يُبْغِضُ أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ كَانَ فِي قَلْبِهِ عَلَيْهِمْ غِلٌّ فَلَيْسَ لَهُ حَقٌّ فِي فَيْءِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ تَلَا: {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [الحشر: 7] حَتَّى أَتَى عَلَى هَذِهِ الْآيَةِ.
[11] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا} [الحشر: 11] أَيْ أَظْهَرُوا خِلَافَ مَا أَضْمَرُوا يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ وَأَصْحَابَهُ، {يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [الحشر: 11] وهم الْيَهُودِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ جَعْلَ الْمُنَافِقِينَ إِخْوَانَهُمْ فِي الدِّينِ؛ لِأَنَّهُمْ كُفَّارٌ مِثْلَهُمْ.
{لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ} [الحشر: 11] مِنَ الْمَدِينَةِ، {لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا} [الحشر: 11] يَسْأَلُنَا خِذْلَانَكُمْ وَخِلَافَكُمْ، {أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ} [الحشر: 11] يعني المنافقين، {لَكَاذِبُونَ} [الحشر: 11]
_________
(1) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف 15 / 125، ويشهد له ما أخرجه في التفسير عن عروة قال: قالت لي عائشة: يا ابن أختي، أمروا أن يستغفروا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فسبوهم.
(2) أخرجه اللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة 85 / 1461، وذكره ابن تيمية في منهاج السنة 1 / 23-26 وقال: هذا الأثر قد روي عن عبد الرحمن بن مالك بن مغول من وجوه متعددة يصدق بعضها بعضا.(6/943)
[12] {لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ} [الحشر: 12] وَكَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُمْ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ فَلَمْ يَخْرُجِ الْمُنَافِقُونَ مَعَهُمْ، وَقُوتِلُوا فَلَمْ يَنْصُرُوهُمْ، قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [الحشر: 12] أَيْ لَوْ قُدِّرَ وُجُودُ نَصْرِهِمْ.
قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَوْ قَصَدُوا نَصْرَ الْيَهُودِ لَوَلَّوْا الْأَدْبَارَ مُنْهَزِمِينَ، {ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} [الحشر: 12] يَعْنِي بَنِي النَّضِيرِ لَا يَصِيرُونَ مَنْصُورِينَ إِذَا انْهَزَمَ نَاصِرُهُمْ.
[13] {لَأَنْتُمْ} [الحشر: 13] يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، {أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ} [الحشر: 13] أَيْ يَرْهَبُونَكُمْ أَشَدَّ مِنْ رَهْبَتِهِمْ من الله، {ذَلِكَ} [الحشر: 13] أَيْ ذَلِكَ الْخَوْفُ مِنْكُمْ، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الحشر: 13] عظمة الله.
[14] {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ} [الحشر: 14] يَعْنِي الْيَهُودَ، {جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ} [الحشر: 14] أَيْ لَا يَبْرُزُونَ لِقِتَالِكُمْ إِنَّمَا يُقَاتِلُونَكُمْ مُتَحَصِّنِينَ بِالْقُرَى وَالْجُدْرَانِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ} [الحشر: 14] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو (جِدَارٍ) عَلَى الْوَاحِدِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (جُدُرٍ) بِضَمِّ الْجِيمِ وَالدَّالِ عَلَى الجمع.
{بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ} [الحشر: 14] أَيْ بَعْضُهُمْ فَظٌّ عَلَى بَعْضٍ وَعَدَاوَةُ بَعْضِهِمْ بَعْضًا شَدِيدَةٌ.
وَقِيلَ: بَأْسُهُمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ مِنْ وَرَاءِ الْحِيطَانِ وَالْحُصُونِ شَدِيدٌ، فَإِذَا خَرَجُوا لَكُمْ فَهُمْ أَجْبَنُ خَلْقِ اللَّهِ {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14] مُتَفَرِّقَةٌ مُخْتَلِفَةٌ، قَالَ قَتَادَةُ: أَهْلُ الْبَاطِلِ مُخْتَلِفَةٌ أَهْوَاؤُهُمْ مُخْتَلِفَةٌ شَهَادَتُهُمْ، مُخْتَلِفَةٌ أَعْمَالُهُمْ، وَهُمْ مُجْتَمِعُونَ فِي عَدَاوَةِ أَهْلِ الْحَقِّ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَرَادَ أَنَّ دِينَ الْمُنَافِقِينَ يُخَالِفُ دِينَ الْيَهُودِ {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ} [الحشر: 14]
[15] {كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الحشر: 15] يَعْنِي مَثَلُ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ كَمَثَلِ الذين من قبلهم، {قَرِيبًا} [الحشر: 15] يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ، {ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [الحشر: 15] يَعْنِي الْقَتْلَ بِبَدْرٍ، وَكَانَ ذَلِكَ قَبْلَ غَزْوَةِ بَنِي النَّضِيرِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي بَنِي قَيْنُقَاعَ.
وَقِيلَ: مَثَلُ قُرَيْظَةَ كَمَثَلِ بَنِي النَّضِيرِ وَكَانَ بَيْنَهُمَا سَنَتَانِ {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الحشر: 15]
ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا لِلْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودِ جميعا في تخادعهم.
[قوله تعالى كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ] فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ. . .
[16] فقال: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ} [الحشر: 16] أَيْ مَثَلُ الْمُنَافِقِينَ فِي غُرُورِهِمْ بَنِي النَّضِيرِ وَخِذْلَانِهِمْ كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ، {إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]
[17] {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا} [الحشر: 17] يَعْنِي الشَّيْطَانَ وَذَلِكَ الْإِنْسَانَ {أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ} [الحشر: 17] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ضَرَبَ اللَّهُ هَذَا الْمَثَلَ لِيَهُودِ بَنِي النَّضِيرِ وَالْمُنَافِقِينَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْلَاءِ بَنِي النَّضِيرِ عَنِ الْمَدِينَةِ فَدَسَّ الْمُنَافِقُونَ إِلَيْهِمْ، وَقَالُوا: لَا تُجِيبُوا مُحَمَّدًا إِلَى مَا دَعَاكُمْ وَلَا تَخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ فَإِنْ قَاتَلَكُمْ فَإِنَّا مَعَكُمْ وَإِنْ أَخْرَجَكُمْ خرجنا معكم، فأجابوهم ودربوا عَلَى حُصُونِهِمْ وَتَحَصَّنُوا فِي دِيَارِهِمْ رَجَاءَ نَصْرِ الْمُنَافِقِينَ، حَتَّى جَاءَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَاصَبُوهُ الْحَرْبَ يَرْجُونَ نَصْرَ الْمُنَافِقِينَ، فخذلوهم وتبرؤوا منهم.
[18] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ} [الحشر: 18] يَعْنِي لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، أَيْ لِيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ أَيَّ شَيْءٍ قَدَّمَ لِنَفْسِهِ عَمَلًا صَالِحًا يُنْجِيهِ أَمْ سَيِّئًا يُوبِقُهُ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18]
[19] {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ} [الحشر: 19] تَرَكُوا أَمْرَ اللَّهِ، {فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19] أَيْ حُظُوظَ أَنْفُسِهِمْ حَتَّى لَمْ يُقَدِّمُوا لَهَا خَيْرًا، {أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [الحشر: 19]
[20] {لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 20]
[21] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] قِيلَ: لَوْ جُعِلَ فِي الْجَبَلِ تَمْيِيزٌ وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ لَخَشَعَ وَتَشَقَّقَ وَتَصَدَّعَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ مَعَ صَلَابَتِهِ وَرَزَانَتِهِ،(6/944)
حَذَرًا مِنْ أَنْ لَا يُؤَدِّيَ حَقَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَعْظِيمِ الْقُرْآنِ، وَالْكَافِرُ يُعْرِضُ عَمَّا فِيهِ مِنَ الْعِبَرِ كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا، يَصِفُهُ بِقَسَاوَةِ الْقَلْبِ، {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21]
[22] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الحشر: 22] الْغَيْبُ مَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِمَّا لَمْ يُعَايِنُوهُ وَلَمْ يَعْلَمُوهُ, وَالشَّهَادَةُ مَا شَاهَدُوهُ وَمَا عَلِمُوهُ، {هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [الحشر: 22]
[23] {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} [الحشر: 23] الطَّاهِرُ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ الْمُنَزَّهُ عَمًّا لَا يَلِيقُ بِهِ، {السَّلَامُ} [الحشر: 23] الَّذِي سَلِمَ مِنَ النَّقَائِصِ، {الْمُؤْمِنُ} [الحشر: 23] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الَّذِي أَمِنَ النَّاسَ مِنْ ظُلْمِهِ وَأَمِنَ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنْ عَذَابِهِ، وهو مِنَ الْأَمَانِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ التَّخْوِيفِ كَمَا قَالَ: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قُرَيْشٍ: 4] وَقِيلَ: مَعْنَاهُ الْمُصَدِّقُ لِرُسُلِهِ بِإِظْهَارِ الْمُعْجِزَاتِ, وَالْمُصَدِّقُ لِلْمُؤْمِنِينَ بما وعدهم من الثواب، والكافرين بما وعدهم من العقاب {الْمُهَيْمِنُ} [الحشر: 23] الشَّهِيدُ عَلَى عِبَادِهِ بِأَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَالسُّدِّيِّ وَمُقَاتِلٌ، يُقَالُ: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُوَ مُهَيْمِنٌ إِذَا كَانَ رَقِيبًا عَلَى الشَّيْءِ، وَقِيلَ: هُوَ فِي الْأَصْلِ مُؤَيْمِنٌ قُلِبَتِ الْهَمْزَةُ هَاءً، كَقَوْلِهِمْ أَرَقْتُ وَهَرَقْتُ، وَمَعْنَاهُ الْمُؤْمِنُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: الْأَمِينُ.
وَقَالَ الْخَلِيلُ: هُوَ الرَّقِيبُ الْحَافِظُ وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْمُصَدِّقُ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالضَّحَّاكُ: الْقَاضِي.
وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هُوَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْكُتُبِ وَاللَّهُ أعلم بتأويله.
{الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ} [الحشر: 23] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْجَبَّارُ هُوَ الْعَظِيمُ، وَجَبَرُوتُ اللَّهِ عَظَمَتُهُ، وَهُوَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ صِفَةُ ذَاتِ اللَّهِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنَ الْجَبْرِ وهو الإصلاح، يقال: جبرت الكسر والأمر، وَجَبَرْتُ الْعَظْمَ إِذَا أَصْلَحْتُهُ بَعْدَ الْكَسْرِ، فَهُوَ يُغْنِي الْفَقِيرَ وَيُصْلِحُ الْكَسِيرَ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الَّذِي يَقْهَرُ النَّاسَ وَيُجْبِرُهُمْ عَلَى مَا أَرَادَ.
وَسُئِلَ بَعْضُهُمْ عَنْ مَعْنَى الْجَبَّارِ فَقَالَ: هُوَ الْقَهَّارُ الَّذِي إِذَا أَرَادَ أَمْرًا فَعَلَهُ لَا يَحْجِزُهُ عَنْهُ حَاجِزٌ.
{الْمُتَكَبِّرُ} [الحشر: 23] الَّذِي تَكَبَّرَ عَنْ كُلِّ سُوءٍ.
وَقِيلَ: الْمُتَعَظِّمُ عَمًّا لَا يَلِيقُ بِهِ وَأَصْلُ الْكِبْرِ وَالْكِبْرِيَاءِ الِامْتِنَاعُ.
وَقِيلَ: ذُو الْكِبْرِيَاءِ وَهُوَ الْمَلِكُ، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23]
[24] {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ} [الحشر: 24] الْمُقَدِّرُ وَالْمُقَلِّبُ لِلشَّيْءِ بِالتَّدْبِيرِ إِلَى غَيْرِهِ، كَمَا قَالَ {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} [الزمر: 6] {الْبَارِئُ} [الحشر: 24] المنشىء لِلْأَعْيَانِ مِنَ الْعَدَمِ إِلَى الْوُجُودِ {الْمُصَوِّرُ} [الحشر: 24] الْمُمَثِّلُ لِلْمَخْلُوقَاتِ بِالْعَلَامَاتِ الَّتِي يَتَمَيَّزُ بعضها عن بعض.
هَذِهِ صُورَةُ الْأَمْرِ أَيْ مِثَالُهُ، فَأَوَّلًا يَكُونُ خَلْقًا ثُمَّ بَرْءًا ثُمَّ تَصْوِيرًا.
{لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الحشر: 24]
[سورة الممتحنة]
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي] وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ. . .(6/945)
(60) سورة الممتحنة [1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [الممتحنة: 1] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ حِينَ كتب إِلَى نَاسٍ بِمَكَّةَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُخْبِرُهُمْ بِبَعْضِ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يَا حَاطِبُ مَا هَذَا؟ " قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا تَعْجَلْ عَلَيَّ إِنِّي كُنْتُ امْرَأً مُلْصَقًا في قريش، وَكَانَ مَنْ مَعَكَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ لَهُمْ قَرَابَاتٌ يَحْمُونَ بِهَا أَهْلِيهِمْ وَأَمْوَالَهَمْ، فَأَحْبَبْتُ إِذْ فَاتَنِي ذَلِكَ مِنَ النَّسَبِ فِيهِمْ أَنْ أَتَّخِذَ عِنْدَهُمْ يَدًا يَحْمُونَ قَرَابَتِي، وَلَمْ أَفْعَلْهُ ارْتِدَادًا عَنْ دِينِي وَلَا رِضًا بِالْكُفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكُمْ" فَقَالَ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ، فَقَالَ: "إِنَّهُ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ اللَّهَ اطَّلَعَ عَلَى مَنْ شَهِدَ بَدْرًا فَقَالَ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لكم» فأنزل الله هذه السورة (1) {تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] قِيلَ: أَيِ الْمَوَدَّةَ، وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ كَقَوْلِهِ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} [الْحَجِّ: 25] وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ كقوله إِلَيْهِمْ أَخْبَارَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسِرَّهُ بِالْمَوَدَّةِ الَّتِي بينكم وبينهم، {وَقَدْ كَفَرُوا} [الممتحنة: 1] الْوَاوُ لِلْحَالِ أَيْ وَحَالُهُمْ أَنَّهُمْ كَفَرُوا، {بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ} [الممتحنة: 1] يَعْنِي الْقُرْآنَ {يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] من مكة، {أَنْ تُؤْمِنُوا} [الممتحنة: 1] أَيْ لِأَنْ آمَنْتُمْ، كَأَنَّهُ قَالَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ لِإِيمَانِكُمْ، {بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ} [الممتحنة: 1] هَذَا شَرْطٌ جَوَابُهُ مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] {جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1] قَالَ مُقَاتِلٌ بِالنَّصِيحَةِ، {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ} [الممتحنة: 1] مِنَ الْمَوَدَّةِ لِلْكُفَّارِ {وَمَا أَعْلَنْتُمْ} [الممتحنة: 1] أَظْهَرْتُمْ بِأَلْسِنَتِكُمْ، {وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [الممتحنة: 1] أَخْطَأَ طَرِيقَ الْهُدَى.
[2] {إِنْ يَثْقَفُوكُمْ} [الممتحنة: 2] يَظْفَرُوا بِكُمْ وَيَرَوْكُمْ، {يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [الممتحنة: 2] بالضرب والقتل، {وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ} [الممتحنة: 2] بالشتم، {وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 2] كَمَا كَفَرُوا.
يَقُولُ: لَا تُنَاصِحُوهُمْ فَإِنَّهُمْ لَا يُنَاصِحُونَكُمْ وَلَا يُوَادُّونَكُمْ.
[3] {لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ} [الممتحنة: 3] مَعْنَاهُ لَا يَدْعُوَنَّكُمْ وَلَا يَحْمَلَنَّكُمْ ذوو أرحامكم وقراباتكم وأولادكم التي بِمَكَّةَ إِلَى خِيَانَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ وَتَرْكِ مُنَاصَحَتِهِمْ وَمُوَالَاةِ أَعْدَائِهِمْ فَلَنْ تَنْفَعَكُمْ أرحامكم، {وَلَا أَوْلَادُكُمْ} [الممتحنة: 3] الَّذِينَ عَصَيْتُمُ اللَّهَ لِأَجْلِهِمْ، {يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ} [الممتحنة: 3] فَيُدْخِلُ أَهْلَ طَاعَتِهِ الْجَنَّةَ وَأَهْلَ معصيته النار {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة: 3]
_________
(1) أخرجه البخاري في الجهاد 6 / 143 ومسلم في فضائل الصحابة برقم (2494) 4 / 1941.(6/946)
[4] {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ} [الممتحنة: 4] قُدْوَةٌ {حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الممتحنة: 4] مِنْ أَهْلِ الْإِيمَانِ {إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ} [الممتحنة: 4] مِنَ الْمُشْرِكِينَ، {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ} [الممتحنة: 4] جَمْعُ بَرِيءٍ، {وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ} [الممتحنة: 4] جَحَدْنَا وَأَنْكَرْنَا دِينَكُمْ، {وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة: 4] يَأْمُرُ حَاطِبًا وَالْمُؤْمِنِينَ بِالِاقْتِدَاءِ بِإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالَّذِينَ مَعَهُ.
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي التَّبَرُّؤِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، {إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] يَعْنِي لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَأُمُورِهِ إِلَّا فِي اسْتِغْفَارِهِ لِأَبِيهِ الْمُشْرِكِ، فَإِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَانَ قَدْ قَالَ لِأَبِيهِ: لِأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، ثُمَّ تَبَرَّأَ مِنْهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ {وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ} [الممتحنة: 4] يَقُولُ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ: مَا أُغْنِي عَنْكَ وَلَا أَدْفَعُ عَنْكَ عَذَابَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتَهُ وَأَشْرَكْتَ بِهِ، {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا} [الممتحنة: 4] يقول إِبْرَاهِيمُ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، {وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [الممتحنة: 4]
[5] {رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [الممتحنة: 5] قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا تُظْهِرْهُمْ عَلَيْنَا فيظنوا أنهم على الحق فيفتتنوا.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُعَذِّبْنَا بِأَيْدِيهِمْ وَلَا بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِكَ فَيَقُولُونَ: لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْحَقِّ مَا أَصَابَهُمْ ذَلِكَ.
{وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الممتحنة: 5]
[قوله تعالى لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ] كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ. . .
[6] {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ} [الممتحنة: 6] أَيْ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ {أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} [الممتحنة: 6] هَذَا بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لَكُمْ، وَبَيَانٌ أَنَّ هَذِهِ الْأُسْوَةَ لِمَنْ يَخَافُ اللَّهَ وَيَخَافُ عَذَابَ الْآخِرَةِ، {وَمَنْ يَتَوَلَّ} [الممتحنة: 6] يُعْرِضْ عَنِ الْإِيمَانِ وَيُوَالِ الْكُفَّارَ، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ} [الممتحنة: 6] عن خلقه، {الْحَمِيدُ} [الممتحنة: 6] فوالى أولياءه وَأَهْلِ طَاعَتِهِ.
قَالَ مُقَاتِلٌ: فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِعَدَاوَةِ الْكُفَّارِ عَادَى الْمُؤْمِنُونَ أَقْرِبَاءَهُمُ الْمُشْرِكِينَ وَأَظْهَرُوا لَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَرَاءَةَ، وَيَعْلَمُ اللَّهُ شِدَّةَ وَجْدِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ فَأَنْزَلَ اللَّهُ:
[7] {عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ} [الممتحنة: 7] أَيْ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ، {مَوَدَّةً} [الممتحنة: 7] فَفَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ بِأَنْ أَسْلَمَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فَصَارُوا لَهُمْ أَوْلِيَاءَ وَإِخْوَانًا وَخَالَطُوهُمْ وَنَاكَحُوهُمْ، {وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 7] ثُمَّ رَخَّصَ اللَّهُ تَعَالَى فِي صِلَةِ الَّذِينَ لَمْ يُعَادُوا الْمُؤْمِنِينَ وَلَمْ يُقَاتِلُوهُمْ فَقَالَ:
[8] {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8] أَيْ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنْ بِرِّ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ، {وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ} [الممتحنة: 8] تَعْدِلُوا فِيهِمْ بِالْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الممتحنة: 8] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي خُزَاعَةَ كَانُوا قَدْ صَالَحُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنْ لَا يُقَاتِلُوهُ وَلَا يُعِينُوا عَلَيْهِ أَحَدًا، فَرَخَّصَ اللَّهُ فِي برهم ثُمَّ ذَكَرَ الَّذِينَ نَهَاهُمْ عَنْ صِلَتِهِمْ فَقَالَ:
[9] {إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ} [الممتحنة: 9] وَهُمْ مُشْرِكُو(6/947)
مَكَّةَ، {أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الممتحنة: 9]
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ] مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ. . .
[10] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ} [الممتحنة: 10] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: امْتِحَانُهَا أَنْ تُسْتَحْلَفَ مَا خَرَجَتْ لِبُغْضِ زَوْجِهَا وَلَا عِشْقًا لِرَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلَا رَغْبَةً عَنْ أَرْضٍ إِلَى أرض، ولا لحديث أَحْدَثَتْهُ، وَلَا لِالْتِمَاسِ دُنْيَا، وَمَا خَرَجَتْ إِلَّا رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ وحبا لله ورسوله.
{اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ} [الممتحنة: 10] أَيْ هَذَا الِامْتِحَانُ لَكُمْ وَاللَّهِ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ، {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] مَا أَحَلَّ اللَّهُ مُؤْمِنَةً لِكَافِرٍ، {وَآتُوهُمْ} [الممتحنة: 10] يعني أزواجهم الْكُفَّارَ، مَا أَنْفَقُوا، عَلَيْهِنَّ يَعْنِي الْمَهْرَ الَّذِي دَفَعُوا إِلَيْهِنَّ، {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الممتحنة: 10] أَيْ مُهُورَهُنَّ، أَبَاحَ اللَّهُ نِكَاحَهُنَّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَ لَهُنَّ أَزْوَاجٌ فِي دَارِ الْكُفْرِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فَرَّقَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَ أَزْوَاجِهِنَّ الْكُفَّارِ، {وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} [الممتحنة: 10] وَالْعِصَمُ جُمْعُ الْعِصْمَةِ وَهِيَ مَا يُعْتَصَمُ بِهِ مِنَ الْعَقْدِ وَالنَّسَبِ، والكوافر جمع الكافرة، ونهى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْمُقَامِ عَلَى نِكَاحِ الْمُشْرِكَاتِ، يَقُولُ مَنْ كَانَتْ لَهُ امْرَأَةٌ كَافِرَةٌ بِمَكَّةَ فَلَا يَعْتَدُّ بِهَا، فَقَدِ انْقَطَعَتْ عِصْمَةُ الزَّوْجِيَّةِ بَيْنَهُمَا.
قَالَ الزُّهْرِيُّ: فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ طَلَّقَ عُمَرُ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ امْرَأَتَيْنِ كَانَتَا لَهُ بِمَكَّةَ مُشْرِكَتَيْنِ {وَاسْأَلُوا} [الممتحنة: 10] أيها المؤمنون، {مَا أَنْفَقْتُمْ} [الممتحنة: 10] أَيْ إِنْ لَحِقَتِ امْرَأَةٌ مِنْكُمْ بِالْمُشْرِكِينَ مُرْتَدَّةً فَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ مِنَ الْمَهْرِ إِذَا مَنَعُوهَا مِمَّنْ تزوجها منهم، {وَلْيَسْأَلُوا} [الممتحنة: 10] يَعْنِي الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَحِقَتْ أَزْوَاجُهُمْ بكم {مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 10] مِنَ الْمَهْرِ مِمَّنْ تَزَوَجَهَا مِنْكُمْ، {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [الممتحنة: 10] قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَوْلَا الْهُدْنَةُ وَالْعَهْدُ الَّذِي كَانَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لَأَمْسَكَ النِّسَاءَ وَلِمَ يَرُدَّ الصَّدَاقَ، وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ بِمَنْ جَاءَهُ مِنَ الْمُسَلِّمَاتِ قَبْلَ الْعَهْدِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أَقَرَّ الْمُؤْمِنُونَ بِحُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَدَّوْا مَا أُمِرُوا بِهِ مِنْ نَفَقَاتِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى نِسَائِهِمْ، وَأَبَى الْمُشْرِكُونَ أَنْ يُقِرُّوا بحكم الله فيما أمروا مِنْ أَدَاءِ نَفَقَاتِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى نِسَائِهِمْ.
[11] فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ فَاتَكُمْ} [الممتحنة: 11] أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، {شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 11] فلحقن بهم مرتدات، {فَعَاقَبْتُمْ} [الممتحنة: 11] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: مَعْنَاهُ غَنِمْتُمْ أَيْ غَزَوْتُمْ فَأَصَبْتُمْ مِنَ الْكُفَّارِ عُقْبَى وَهِيَ الْغَنِيمَةُ، وَقِيلَ: ظَهَرْتُمْ وَكَانَتِ الْعَاقِبَةُ لَكُمْ، وَقِيلَ: أَصَبْتُمُوهُمْ فِي القتال بعقوبة حتى غنمتم {فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ} [الممتحنة: 11] إِلَى الْكُفَّارِ مِنْكُمْ، {مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا} [الممتحنة: 11] عَلَيْهِنَّ مِنَ الْغَنَائِمِ الَّتِي صَارَتْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ.
وقيل: فعاقبتم المرتدة بالقتل {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ} [الممتحنة: 11]
[12] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ} [الممتحنة: 12] الْآيَةَ، وَذَلِكَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ لَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَيْعَةِ الرِّجَالِ، وَهُوَ عَلَى الصَّفَا وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَسْفَلَ مِنْهُ، وَهُوَ يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ صلي الله عليه وسلم ويبايعهن عَنْهُ، وَهِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ امْرَأَةُ أَبِي سُفْيَانَ مُتَنَقِّبَةٌ مُتَنَكِّرَةٌ مَعَ النِّسَاءِ خَوْفًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَعْرِفَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم: «أبايعهن {عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] فَرَفَعَتْ هِنْدٌ رَأْسَهَا وَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَأْخُذُ عَلَيْنَا أَمْرًا مَا رَأَيْنَاكَ أَخَذْتَهُ عَلَى الرِّجَالِ، وَبَايَعَ الرِّجَالَ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْإِسْلَامِ وَالْجِهَادِ فَقَطْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: {وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] » ، وَهِيَ أَنْ تَقْذِفَ وَلَدًا عَلَى زَوْجِهَا لَيْسَ مِنْهُ، قَالَتْ هِنْدٌ: وَاللَّهِ إِنَّ الْبُهْتَانَ لَقَبِيحٌ، وَمَا تَأْمُرُنَا إِلَّا بِالرُّشْدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، فَقَالَ: {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] قَالَتْ هِنْدٌ: مَا جَلَسْنَا مَجْلِسَنَا هَذَا وُفِي أَنْفُسِنَا أَنْ نَعْصِيَكَ فِي شَيْءٍ.
فَأَقَرَّ النِّسْوَةُ بِمَا أخذ عليهن، قوله: {وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ} [الممتحنة: 12] أَرَادَ وَأْدَ الْبَنَاتِ الَّذِي كَانَ يفعل أَهْلُ(6/948)
الْجَاهِلِيَّةِ، قَوْلُهُ: {وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ نَهْيَهُنَّ عَنِ الزِّنَا لِأَنَّ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، بَلِ الْمُرَادُ مِنْهُ أَنَّ تَلْتَقِطَ مَوْلُودًا وَتَقُولَ لِزَوْجِهَا هَذَا وَلَدِي مِنْكَ، فَهُوَ الْبُهْتَانُ الْمُفْتَرَى بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ، لِأَنَّ الْوَلَدَ إِذَا وَضَعَتْهُ الْأُمُّ سَقَطَ بَيْنَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا، قَوْلُهُ {وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ} [الممتحنة: 12] أَيْ فِي كُلِّ أَمْرٍ وَافَقَ طَاعَةَ اللَّهِ.
قَالَ بَكْرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيُّ: فِي كُلِّ أمر فيه رشد.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تَخْلُو الْمَرْأَةُ بِالرِّجَالِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْكَلْبِيُّ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: هُوَ النَّهْيُ عَنِ النَّوْحِ وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَتَمْزِيقِ الثَّوْبِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ وَنَتْفِهِ وَخَمْشِ الْوَجْهِ، وَلَا تُحَدِّثُ الْمَرْأَةُ الرِّجَالَ إِلَّا ذَا مَحْرَمٍ، وَلَا تَخْلُو بِرَجُلٍ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ، وَلَا تُسَافِرُ إِلَّا مَعَ ذي محرم.
قوله: {فَبَايِعْهُنَّ} [الممتحنة: 12] يَعْنِي إِذَا بَايَعْنَكَ فَبَايِعْهُنَّ، {وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الممتحنة: 12] عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَايِعُ النِّسَاءَ بِالْكَلَامِ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
{لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا} [الممتحنة: 12] قَالَتْ: وَمَا مَسَّتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَ امْرَأَةٍ إِلَّا امْرَأَةً يَمْلِكُهَا» (1) .
[13] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} [الممتحنة: 13] وَهَمُّ الْيَهُودُ وَذَلِكَ أَنَّ أُنَاسًا مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يُخْبِرُونَ الْيَهُودَ أَخْبَارَ الْمُسْلِمِينَ، يَتَوَصَّلُونَ إِلَيْهِمْ بِذَلِكَ فَيُصِيبُونَ مِنْ ثِمَارِهِمْ، فَنَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ، {قَدْ يَئِسُوا} [الممتحنة: 13] يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْيَهُودَ، {مِنَ الْآخِرَةِ} [الممتحنة: 13] بِأَنْ يَكُونَ لَهُمْ فِيهَا ثَوَابٌ وَخَيْرٌ، {كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ} [الممتحنة: 13] أَيْ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ الَّذِينَ مَاتُوا وَصَارُوا فِي الْقُبُورِ مِنْ أَنْ يَكُونَ لَهُمْ حَظٌّ وَثَوَابٌ في الآخرة.
[سورة الصف]
[قوله تعالى سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ] وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ. . .
(61) سورة الصف [1 - 2] {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الصف: 1] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَعَمِلْنَاهُ وَلِبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا وَأَنْفُسَنَا، فَأَنْزَلَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] فَابْتُلُوا بِذَلِكَ يَوْمَ أُحُدٍ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى {لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: لَمَّا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَهُ صَلَّى الله عليه وسلم بثواب الشهداء بَدْرٍ، قَالَتِ الصَّحَابَةُ: لَئِنْ لَقِينَا بَعْدَهُ قِتَالًا لِنُفْرِغَنَّ فِيهِ وُسْعَنَا، فَفَرُّوا يَوْمَ أُحُدٍ فَعَيَّرَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْقِتَالِ، كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ: قَاتَلْتُ وَلَمْ يُقَاتِلْ، وَطَعَنْتُ وَلَمْ يَطْعَنْ، وَضَرَبْتُ وَلَمْ يَضْرِبْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ كانوا يعدون النصر
_________
(1) أخرجه البخاري في الأحكام 13 / 203 ومسلم في الإمارة برقم (1866) 3 / 1489.(6/949)
لِلْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ كَاذِبُونَ.
[3] {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا} [الصف: 3] قوله: {أَنْ تَقُولُوا} [الصف: 3] في موضع رفع، فَهُوَ كَقَوْلِكَ بِئْسَ رَجُلًا أَخُوكَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ أَيْ عَظُمَ ذَلِكَ فِي الْمَقْتِ وَالْبُغْضِ عِنْدَ اللَّهِ، أَيْ إِنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ بُغْضًا شَدِيدًا أَنْ تَقُولُوا {مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] أي تَعِدُوا مِنْ أَنْفُسِكُمْ شَيْئًا ثُمَّ لم تفوا بِهِ.
[4] {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} [الصف: 4] أَيْ يَصُفُّونَ أَنْفُسَهُمْ عِنْدَ الْقِتَالِ صَفًّا وَلَا يَزُولُونَ عَنْ أَمَاكِنِهِمْ، {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} [الصف: 4] قَدْ رُصَّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ أَيْ أُلْزِقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وَأُحْكِمَ فَلَيْسَ فِيهِ فُرْجَةٌ وَلَا خَلَلٌ.
وَقِيلَ: أحكم بالرصاص.
[5] {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ} [الصف: 5] مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} [الصف: 5] وَذَلِكَ حِينَ رَمَوْهُ بِالْأُدْرَةِ، {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} [الصف: 5] والرسول يعظم ويحترم، {فَلَمَّا زَاغُوا} [الصف: 5] عَدَلُوا عَنِ الْحَقِّ، {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] أَمَالَهَا عَنِ الْحَقِّ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا تَرَكُوا الْحَقَّ بِإِيذَاءِ نَبِيِّهِمْ أَمَالَ اللَّهُ قُلُوبَهَمْ عَنِ الْحَقِّ، {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [الصف: 5] قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي لَا يَهْدِي مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ فاسق.
[قوله تعالى وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ] إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ. . .
[6] {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} [الصف: 6] وَالْأَلِفُ فِيهِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْحَمْدِ، وَلَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّهُ مُبَالَغَةٌ مِنَ الْفَاعِلِ أَيِ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ حَمَّادُونَ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَكْثَرُ حَمْدًا لِلَّهِ مِنْ غَيْرِهِ، والثاني أنه مبالغة من الْمَفْعُولِ أَيِ الْأَنْبِيَاءُ كُلُّهُمْ مَحْمُودُونَ لِمَا فِيهِمْ مِنَ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ وهو أكثر مناقبا وَأَجْمَعُ لِلْفَضَائِلِ وَالْمَحَاسِنِ الَّتِي يُحْمَدُ بِهَا {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصف: 6]
[7، 8] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ - يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 7 - 8]
[9] {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} [الصف: 9]
[10] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ} [الصف: 10] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ: تنجِّيكم بِالتَّشْدِيدِ وَالْآخَرُونَ بِالتَّخْفِيفِ، {مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] نَزَلَ هَذَا حِينَ قَالُوا: لَوْ نَعْلَمُ أَيَّ الْأَعْمَالِ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَعَمِلْنَاهُ، وَجَعَلَ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ التِّجَارَةِ لِأَنَّهُمْ يَرْبَحُونَ فيها رِضَا اللَّهِ وَنَيْلَ جَنَّتِهِ وَالنَّجَاةَ مِنَ النَّارِ، ثُمَّ بَيَّنَ تِلْكَ التِّجَارَةَ فَقَالَ:
[11 - 12] {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ - يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصف: 11 - 12]
[13] {وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا} [الصف: 13] ولكم خصلة أخرى تحبونها فِي الْعَاجِلِ مَعَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَتِلْكَ الْخَصْلَةُ(6/950)
{نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ} [الصف: 13] قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ النَّصْرُ عَلَى قُرَيْشٍ، وَفَتْحُ مَكَّةَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ فَتْحَ فَارِسَ وَالرُّومِ.
{وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [الصف: 13] يَا مُحَمَّدُ بِالنَّصْرِ فِي الدُّنْيَا وَالْجَنَّةِ فِي الْآخِرَةِ ثُمَّ حَضَّهُمْ على نصرة الدِّينِ وَجِهَادِ الْمُخَالِفِينَ.
[14] فَقَالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ} [الصف: 14] أَيِ انْصُرُوا دِينَ اللَّهِ مِثْلَ نُصْرَةِ الْحَوَارِيِّينَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [الصف: 14] أَيْ مَنْ يَنْصُرُنِي مَعَ اللَّهِ، {قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ} [الصف: 14] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي فِي زَمَنِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا رُفِعَ تَفَرَّقَ قَوْمُهُ ثَلَاثَ فِرَقٍ: فِرْقَةٌ قَالُوا: كَانَ اللَّهَ فَارْتَفَعَ، وَفِرْقَةٌ قَالُوا: كَانَ ابن الله فرفعه إِلَيْهِ، وَفِرْقَةٌ قَالُوا: كَانَ عَبْدَ الله ورسوله فرفعه الله إِلَيْهِ وَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ، وَاتَّبَعَ كُلَّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ، فَاقْتَتَلُوا فَظَهَرَتِ الْفِرْقَتَانِ الْكَافِرَتَانِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَتَّى بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَظَهَرَتِ الْمُؤْمِنَةُ عَلَى الْكَافِرَةِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] غَالِبِينَ، وَرَوَى مُغِيرَةُ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: فَأَصْبَحَتْ حُجَّةُ مِنْ آمَنَ بِعِيسَى ظَاهِرَةً بِتَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ عِيسَى كَلِمَةُ اللَّهِ وَرُوحُهُ.
[سُورَةُ الْجُمُعَةِ]
[قوله تعالى يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ] الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ. . .
(62) سورة الجمعة
[1 - 2] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ - هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ} [الجمعة: 1 - 2] يَعْنِي الْعَرَبَ كَانَتْ أُمَّةً أُمِّيَّةً لَا تَكْتُبُ وَلَا تَقْرَأُ {رَسُولًا مِنْهُمْ} [الجمعة: 2] يَعْنِي مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم نسبُه نسبُهم، {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2] أَيْ مَا كَانُوا قَبْلَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ يعبدون الأوثان.
[3] {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ} [الجمعة: 3] أي الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَدِينُونَ بِدِينِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ إِذَا أَسْلَمُوا صَارُوا مِنْهُمْ، فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ كُلَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِمْ فَقَالَ قَوْمٌ: هُمُ العجم وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ: هُمُ التَّابِعُونَ.
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هُمْ جَمِيعُ مَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ} [الجمعة: 3] أَيْ لَمْ يُدْرِكُوهُمْ وَلَكِنَّهُمْ يَكُونُونَ بَعْدَهُمْ.
وَقِيلَ: لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ أَيْ فِي الْفَضْلِ وَالسَّابِقَةِ لِأَنَّ التَّابِعِينَ لَا يُدْرِكُونَ شَأْوَ الصَّحَابَةِ {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 3]
[4] {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [الجمعة: 4] يَعْنِي الْإِسْلَامَ وَالْهِدَايَةَ {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الجمعة: 4]
[5] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ} [الجمعة: 5] أَيْ كُلِّفُوا الْقِيَامَ بِهَا وَالْعَمَلَ بِمَا فِيهَا، {ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا} [الجمعة: 5] لَمْ يَعْمَلُوا بِمَا فِيهَا وَلَمْ يُؤَدُّوا حَقَّهَا، {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا} [الجمعة: 5] أَيْ كُتُبًا مِنْ الْعِلْمِ وَاحِدُهَا سِفْرٌ، قَالَ الْفَرَّاءُ: هِيَ الْكُتُبُ(6/951)
الْعِظَامُ يَعْنِي كَمَا أَنَّ الْحِمَارَ يَحْمِلُهَا وَلَا يَدْرِي مَا فِيهَا وَلَا يَنْتَفِعُ بِهَا، كَذَلِكَ الْيَهُودُ يقرؤون التَّوْرَاةَ وَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا لِأَنَّهُمْ خَالَفُوا مَا فِيهَا، {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الجمعة: 5] الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَكْذِيبِ الْأَنْبِيَاءِ يَعْنِي مَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أنه لَا يَهْدِيهِمْ.
[6] {قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ} [الجمعة: 6] مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ} [الجمعة: 6] فَادْعُوا بِالْمَوْتِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الجمعة: 6] أَنَّكُمْ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ فَإِنَّ الْمَوْتَ هُوَ الَّذِي يُوصِلُكُمْ إِلَيْهِ.
[7 - 8] {وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ - قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الجمعة: 7 - 8]
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ] مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ. . .
[9] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الْجُمُعَةِ: 9] أَيْ في يوم الجمعة وَأَرَادَ بِهَذَا النِّدَاءِ الْأَذَانَ عِنْدَ قُعُودِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ لِلْخُطْبَةِ {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الْجُمُعَةِ: 9] أَيْ: فَامْضُوا إِلَيْهِ وَاعْمَلُوا لَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنَ السَّعْيِ الْإِسْرَاعَ إنما المراد منه الْعَمَلُ وَالْفِعْلُ، كَمَا قَالَ: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ} [الْبَقَرَةِ: 205] وَقَالَ: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [اللَّيْلِ: 4] وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَقْرَأُ: (فَامْضُوا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ) وَكَذَلِكَ هِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: أَمَا وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالسَّعْي عَلَى الْأَقْدَامِ وَلَقَدْ نُهُوا أَنْ يَأْتُوا الصَّلَاةَ إِلَّا وَعَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع.
وعن قَتَادَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ، قَالَ: فَالسَّعْيُ أَنْ تَسْعَى بِقَلْبِكَ وَعَمَلِكَ وَهُوَ المشي إليها {إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الْجُمُعَةِ: 9] أَيْ الصَّلَاةِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الْجُمُعَةِ: 9] قَالَ هُوَ مَوْعِظَةُ الْإِمَامِ، {وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] يَعْنِي الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ لِأَنَّ اسْمَ الْبَيْعِ يَتَنَاوَلُهُمَا جَمِيعًا.
وَإِنَّمَا يَحْرُمُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ عِنْدَ الْأَذَانِ الثَّانِي، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: عِنْدَ خُرُوجِ الْإِمَامِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ حرم البيع والشراء، {ذَلِكُمْ} [الجمعة: 9] الَّذِي ذَكَرْتُ مِنْ حُضُورِ الْجُمُعَةِ وترك البيع {خَيْرٌ لَكُمْ} [الجمعة: 9] مِنَ الْمُبَايَعَةِ، {إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] مَصَالِحَ أَنْفُسِكُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ مِنْ فُرُوضِ الْأَعْيَانِ فَتَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ جَمَعَ الْعَقْلَ وَالْبُلُوغَ وَالْحُرِّيَّةَ وَالذُّكُورَةَ وَالْإِقَامَةَ إِذَا لم يكن له عذر فمن تركها استحق الوعيد، أما الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ فَلَا جُمُعَةَ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ أَنْ يَلْزَمَهُمَا فَرْضُ الْأَبْدَانِ لِنُقْصَانِ أَبْدَانِهِمَا، وَلَا جُمُعَةَ عَلَى النِّسَاءِ بِالِاتِّفَاقِ.
[10] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الْجُمُعَةِ: 10] أَيْ إِذَا فُرِغَ مِنَ الصَّلَاةِ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لِلتِّجَارَةِ وَالتَّصَرُّفِ فِي حَوَائِجِكُمْ {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] يَعْنِي الرِّزْقَ وَهَذَا أَمْرُ إِبَاحَةٍ كَقَوْلِهِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [الْمَائِدَةِ: 2] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنْ شِئْتَ فَاخْرُجْ وَإِنْ شِئْتَ فَاقْعُدْ وَإِنْ شِئْتَ فَصَلِّ إِلَى الْعَصْرِ، وَقِيلَ: فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ لَيْسَ لِطَلَبِ الدُّنْيَا وَلَكِنْ لِعِيَادَةِ مَرِيضٍ وَحُضُورِ جِنَازَةٍ وَزِيَارَةِ أَخٍ فِي اللَّهِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمَكْحُولٌ: {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: 10] هُوَ طَلَبُ الْعِلْمِ {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 10]
[11] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] الآية، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: «أَقْبَلَتْ عِيرٌ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَنَحْنُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَثَارَ النَّاسُ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] » (1) وَأَرَادَ بِاللَّهْوِ الطَّبْلَ.
وَقِيلَ: كَانَتِ الْعِيرُ إِذَا قَدِمَتِ الْمَدِينَةَ اسْتَقْبَلُوهَا بِالطَّبْلِ وَالتَّصْفِيقِ.
وَقَوْلُهُ: {انْفَضُّوا إِلَيْهَا} [الْجُمُعَةِ: 11] رَدَّ الْكِنَايَةَ إِلَى التِّجَارَةِ لِأَنَّهَا أَهَمُّ.
وَقَالَ عَلْقَمَةُ: «سُئِلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: أَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب قائما
_________
(1) أخرجه البخاري في التفسير (8 / 643) ، ومسلم في الجمعة (2 / 590 رقم 863) .(6/952)
أَوْ قَاعِدًا؟ قَالَ: أَمَا تَقْرَأُ: {وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] » وَأَقَلُّ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الْخُطْبَةِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ وَيُصَلِّيَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُوصِيَ بِتَقْوَى اللَّهِ، هَذِهِ الثَّلَاثَةُ فَرْضٌ فِي الْخُطْبَتَيْنِ جَمِيعًا، وَيَجِبُ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى آيَةً مِنَ الْقُرْآنِ وَيَدْعُو لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الثَّانِيَةِ فَلَوْ تَرَكَ وَاحِدَةً مِنْ هَذِهِ الْخَمْسِ لَا تَصِحُّ جَمْعَتُهُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَتَى بِتَسْبِيحَةٍ أَوْ تَحْمِيدَةٍ أَوْ تَكْبِيرَةٍ أَجَزَأَهُ.
وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَقَعُ عَلَيْهِ اسْمُ الخطبة، وهو مأمور بالخطبة {قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ} [الجمعة: 11] أَيْ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الثَّوَابِ عَلَى الصَّلَاةِ وَالثَّبَاتِ مَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ {وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 11] لِأَنَّهُ مُوجِدُ الْأَرْزَاقِ فَإِيَّاهُ فَاسْأَلُوا ومنه فاطلبوا.
[سورة المنافقون]
[قوله تعالى إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ] لَرَسُولُ اللَّهِ. . .
(63) سورة المنافقون [1] {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 1] يَعْنِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ ابْنَ سَلُولَ وَأَصْحَابَهُ، {قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] لِأَنَّهُمْ أَضْمَرُوا خِلَافَ مَا أَظْهَرُوا.
[2] {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} [المنافقون: 2] سُتْرَةً {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [المنافقون: 2] مَنَعُوا النَّاسَ عَنِ الْجِهَادِ وَالْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون: 2]
[3] {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا} [المنافقون: 3] أَقَرُّوا بِاللِّسَانِ إِذَا رَأَوْا الْمُؤْمِنِينَ، {ثُمَّ كَفَرُوا} [المنافقون: 3] إِذَا خَلَوْا إِلَى الْمُشْرِكِينَ {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المنافقون: 3] بالكفر، {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 3] الْإِيمَانَ.
[4] {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} [المنافقون: 4] يَعْنِي أَنَّ لَهُمْ أَجْسَامًا وَمَنَاظِرَ، {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} [المنافقون: 4] فَتَحَسَبُ أَنَّهُ صِدْقٌ، قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ جَسِيمًا فَصِيحًا ذَلِقَ اللِّسَانِ، فَإِذَا قَالَ سَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] أَشْبَاحٌ بِلَا أَرْوَاحٍ وَأَجْسَامٌ بِلَا أحلام {مُسَنَّدَةٌ} [المنافقون: 4] مُمَالَةٌ إِلَى جِدَارٍ مِنْ قَوْلِهِمْ أسندت الشيء إذا أملته، وَأَرَادَ أَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَشْجَارٍ تُثْمِرُ وَلَكِنَّهَا خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ إِلَى حَائِطٍ، {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} [المنافقون: 4] أَيْ لَا يَسْمَعُونَ صَوْتًا فِي العسكر إن نَادَى مُنَادٍ أَوِ انْفَلَتَتْ دَابَّةٌ أو أنشدت ضَالَّةٌ إِلَّا ظَنُّوا مِنْ جُبْنِهِمْ وَسُوءِ ظَنِّهِمْ أَنَّهُمْ يُرَادُونَ بِذَلِكَ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ أُتُوا، لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الرُّعْبِ.
وَقِيلَ: ذَلِكَ لِكَوْنِهِمْ عَلَى وَجَلٍ مِنْ أَنْ يُنْزِلَ اللَّهُ فِيهِمْ أَمْرًا يَهْتِكُ أَسْتَارَهُمْ وَيُبِيحُ دِمَاءَهُمْ ثُمَّ قال: {هُمُ الْعَدُوُّ} [المنافقون: 4] هذا ابتداء وخبره، {فَاحْذَرْهُمْ} [المنافقون: 4] ولا تأمنهم، {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} [المنافقون: 4] لعنهم الله {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المنافقون: 4] يصرفون عن الحق.
[قَوْلُهُ تَعَالَى وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ] اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. . .
[5] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} [المنافقون: 5] أَيْ عَطَفُوا وَأَعْرَضُوا بِوُجُوهِهِمْ رَغْبَةً(6/953)
عن الاستغفار {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ} [المنافقون: 5] يُعْرِضُونَ عَمَّا دُعُوا إِلَيْهِ، {وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} [المنافقون: 5] مُتَكَبِّرُونَ عَنِ اسْتِغْفَارِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ.
[6] {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ} [المنافقون: 6] يَا مُحَمَّدُ، {أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [المنافقون: 6] قيل لعبد اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ في مرض موته: اذهب إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ، فَلَوَى رَأْسَهُ ثُمَّ قَالَ: أَمَرْتُمُونِي أَنْ أُؤْمِنَ فَآمَنْتُ، وَأَمَرْتُمُونِي أَنْ أُعْطِيَ زَكَاةَ مَالِي فَقَدْ أَعْطَيْتُ، فَمَا بَقِيَ إِلَّا أَنْ أَسْجُدَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ! فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} [المنافقون: 5] الْآيَةَ.
[7] وَنَزَلَ: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} [المنافقون: 7] يَتَفَرَّقُوا، {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [المنافقون: 7] فَلَا يُعْطِي أَحَدٌ أَحَدًا شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِهِ وَلَا يَمْنَعُهُ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ، {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} [المنافقون: 7] أَنَّ أَمْرَهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ.
[8] {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} [المنافقون: 8] عن غَزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ، {لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] فَعِزَّةُ اللَّهِ قَهْرُهُ مَنْ دُونَهُ، وَعِزَّةُ رَسُولِهِ إِظْهَارُ دِينِهِ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَعِزَّةُ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرُ اللَّهِ إِيَّاهُمْ عَلَى أَعْدَائِهِمْ.
{وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [المنافقون: 8] ذَلِكَ، وَلَوْ عَلِمُوا مَا قَالُوا هذه المقالة.
[9] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ} [المنافقون: 9] لَا تَشْغَلْكُمْ {أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يَعْنِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ {لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [النور: 37] {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ} [المنافقون: 9] أَيْ مَنْ شَغَلَهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 178]
[10] {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ زَكَاةَ الْأَمْوَالِ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ} [المنافقون: 10] فَيَسْأَلُ الرَّجْعَةَ، {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي} [المنافقون: 10] هَلَّا أَخَّرْتَنِي أَمْهَلْتَنِي، وَقِيلَ: (لَا) صِلَةٌ فَيَكُونُ الْكَلَامُ بِمَعْنَى التَّمَنِّي أَيْ لَوْ أَخَّرْتَنِي، {إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ} [المنافقون: 10] فَأَتَصَدَّقَ وَأُزَكِّي مَالِي، {وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [المنافقون: 10] أَيْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، نَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ} [الرعد: 23] هَذَا قَوْلُ مُقَاتِلٍ وَجَمَاعَةٍ، وَقَالُوا: نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْمُنَافِقِينَ.
وَقِيلَ: نزَلَتِ الْآيَةُ فِي الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمُرَادُ بِالصَّلَاحِ هُنَا الْحَجُّ، وَرَوَى الضَّحَّاكُ وعطية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ وَكَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ وَأَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ إِلَّا سَأَلَ الرَّجْعَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَقَرَأَ هذه الآية.
[11] {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المنافقون: 11] قَرَأَ أَبُو بَكْرٍ (يَعْمَلُونَ) بِالْيَاءِ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ.
[سُورَةُ التَّغَابُنِ]
[قوله تعالى يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ] لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. . .(6/954)
(64) سورة التغابن [1 - 2] {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [التغابن: 1 - 2] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ خَلْقَ بَنِي آدَمَ مُؤْمِنًا وَكَافِرًا يُعِيدُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا خَلَقَهُمْ مؤمنا وكافرا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: مَعْنَى الْآيَةِ إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الْخَلْقَ ثُمَّ كَفَرُوا وَآمَنُوا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ الْخَلْقَ ثُمَّ وَصَفَهُمْ بِفِعْلِهِمْ، فَقَالَ {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التَّغَابُنِ: 2] ثم اختلفوا في تأويلها، فروي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ.
فَمِنْكُمْ كَافِرٌ فِي حَيَاتِهِ مُؤْمِنٌ فِي الْعَاقِبَةِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ فِي حَيَاتِهِ كَافِرٌ فِي الْعَاقِبَةِ.
وَقَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: فَمِنْكُمْ كَافِرٌ بِاللَّهِ مُؤْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِاللَّهِ كَافِرٌ بِالْكَوَاكِبِ.
وَقِيلَ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَهُ وَهُوَ مَذْهَبُ الدَّهْرِيَّةِ، وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بِأَنَّ اللَّهَ خَلَقَهُ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّ اللَّهَ خلق الكافر، وكفره فعلا له وكسبا، وخلق المؤمن، وإيمانه فعلا له وكسبا، فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ كَسْبٌ وَاخْتِيَارٌ وَكَسْبُهُ وَاخْتِيَارُهُ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ وَمَشِيئَتِهِ، فَالْمُؤْمِنُ بَعْدَ خَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهُ يَخْتَارُ الْإِيمَانَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَدَّرَهُ عليه وعلم مِنْهُ، وَالْكَافِرُ بَعْدَ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ يَخْتَارُ الْكُفْرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَادَ ذَلِكَ مِنْهُ وَقَدَّرَهُ عَلَيْهِ وَعَلِمَهُ مِنْهُ، وَهَذَا طَرِيقُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ مَنْ سَلَكَهُ أَصَابَ الْحَقَّ وَسَلِمَ مِنَ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ.
[3] {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} [التغابن: 3]
[4 - 5] {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ - أَلَمْ يَأْتِكُمْ} [التغابن: 4 - 5] يُخَاطِبُ كُفَّارَ مَكَّةَ، {نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ} [التغابن: 5] يَعْنِي الْأُمَمَ الْخَالِيَةَ، {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [التغابن: 5] يَعْنِي مَا لَحِقَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التغابن: 5] في الآخرة.
[6] {ذَلِكَ} [التغابن: 6] الْعَذَابُ، {بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] وَلَمْ يَقُلْ: يَهْدِينَا لِأَنَّ الْبَشَرَ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ وَاحِدًا فَإِنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَهُوَ اسْمُ الْجِنْسِ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لفظه، وواحده إنسان، ومعناه يُنْكِرُونَ وَيَقُولُونَ آدَمِيٌّ مِثْلُنَا يَهْدِينَا، {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} [التغابن: 6] عن إيمانهم، {وَاللَّهُ غَنِيٌّ} [التغابن: 6] عن خلقه، {حَمِيدٌ} [التغابن: 6] فِي أَفْعَالِهِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ إِنْكَارِهِمُ الْبَعْثَ.
[7 - 8] فَقَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ} [التغابن: 7] يَا مُحَمَّدُ، {بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ - فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} [التغابن: 7 - 8] وَهُوَ الْقُرْآنُ، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [التغابن: 8](6/955)
[9] {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} [التغابن: 9] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ فِيهِ أَهَّلَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} [التَّغَابُنِ: 9] وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنَ الْغَبْنِ وهو فوت الحظ والمراد، فالمغبون مَنْ غُبِنَ عَنْ أَهْلِهِ وَمَنَازِلِهِ فِي الْجَنَّةِ فَيَظْهَرُ يَوْمَئِذٍ غَبْنُ كُلِّ كَافِرٍ بِتَرْكِهِ الْإِيمَانَ، وَغَبْنُ كُلِّ مُؤْمِنٍ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْإِحْسَانِ، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التغابن: 9]
[قوله تعالى وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ] أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. . .
[10] {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التغابن: 10]
[11] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن: 11] بِإِرَادَتِهِ وَقَضَائِهِ، {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [التغابن: 11] فَيُصَدِّقْ أَنَّهُ لَا يُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ {يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] يُوَفِّقُهُ لِلْيَقِينِ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ فَيُسَلِّمَ لِقَضَائِهِ، {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [التغابن: 11]
[12] {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [التغابن: 12]
[13] {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13]
[14] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ.
هَؤُلَاءِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ أَسْلَمُوا وَأَرَادُوا أَنْ يُهَاجِرُوا إِلَى الْمَدِينَةِ فَمَنَعَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ، وَقَالُوا صَبَرْنَا عَلَى إِسْلَامِكُمْ فَلَا نَصْبِرُ عَلَى فِرَاقِكُمْ فَأَطَاعُوهُمْ، وَتَرَكُوا الْهِجْرَةَ، فَقَالَ تَعَالَى: {فَاحْذَرُوهُمْ} [التغابن: 14] أن تطيعوهم وتدعو الْهِجْرَةَ، {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التغابن: 14] هَذَا فِيمَنْ أَقَامَ عَلَى الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ وَلَمْ يُهَاجِرْ فَإِذَا هَاجَرَ رأى الذين سبقوه بالهجرة وقد فَقِهُوا فِي الدِّينِ هَمَّ أَنْ يعاقب زوجته وولده الذين ثبطوه عَنِ الْهِجْرَةِ، وَإِنْ لَحِقُوا بِهِ فِي دَارِ الْهِجْرَةِ لَمْ يُنْفِقْ عَلَيْهِمْ وَلَمْ يُصِبْهُمْ بِخَيْرٍ، فَأَمَرَهُمُ الله عز وجل بالعفو عنهم والصفح.
[15] {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] بَلَاءٌ وَاخْتِبَارٌ وَشُغْلٌ عَنِ الْآخِرَةِ، يَقَعُ بِسَبَبِهَا الْإِنْسَانُ فِي الْعَظَائِمِ وَمَنْعِ الْحَقِّ وَتَنَاوُلِ الْحَرَامِ، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التغابن: 15] قَالَ بَعْضُهُمْ.
لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ الْعَدَاوَةَ أَدْخَلَ فِيهِ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ، فَقَالَ.
{إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} [التغابن: 14] لِأَنَّ كُلَّهُمْ لَيْسُوا بِأَعْدَاءٍ، وَلَمْ يذكر "من" في قول: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] لِأَنَّهَا لَا تَخْلُو عَنِ الْفِتْنَةِ واشتغال القلب.
[16] {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التَّغَابُنِ: 16] أي أَطَقْتُمْ، هَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} [التغابن: 16] اللَّهَ وَرَسُولَهُ، {وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} [التغابن: 16] أي أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِكُمْ خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ، {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن: 16] حَتَّى يُعْطِيَ حَقَّ اللَّهِ مِنْ ماله {فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [التغابن: 16](6/956)
[17 - 18] {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ - عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [التغابن: 17 - 18]
[سورة الطلاق]
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ] فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ. . .
(65) سورة الطلاق [1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} [الطلاق: 1] نَادَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ خَاطَبَ أُمَّتَهُ لِأَنَّهُ السَّيِّدُ الْمُقَدَّمُ، فَخِطَابُ الْجَمِيعِ مَعَهُ، وَقِيلَ: مَجَازُهُ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأُمَّتِكَ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ، أي إِذَا أَرَدْتُمْ تَطْلِيقَهُنَّ، كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النَّحْلِ: 98] أَيْ إِذَا أَرَدْتَ القراءة.
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي لطهرهن بالذي يقضينه من عدتهن {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1] أي عدد أقرائها فاحفظوها، قِيلَ: أَمَرَ بِإِحْصَاءِ الْعِدَّةِ لِتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى الْأَقْرَاءِ إِذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا.
وَقِيلَ: لِلْعِلْمِ بِبَقَاءِ زَمَانِ الرَّجْعَةِ وَمُرَاعَاةِ أَمْرِ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى.
{وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَرَادَ بِهِ إِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ لِلزَّوْجِ لَا يجوز أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْهُ، {وَلَا يَخْرُجْنَ} [الطلاق: 1] وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَخْرُجَ ما لم تنقض العدة، فَإِنْ خَرَجَتْ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ أَوْ حاجة أثمت {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} [الطلاق: 1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْفَاحِشَةُ الْمُبَيِّنَةُ أن تبذأ عَلَى أَهْلِ زَوْجِهَا فَيَحِلُّ إِخْرَاجُهَا، وَقَالَ جَمَاعَةٌ: أَرَادَ بِالْفَاحِشَةِ أَنْ تَزْنِيَ فَتُخْرَجُ لِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، ثم ترد إلى منزلها، ويروى ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَقَالَ قَتَادَةُ: مَعْنَاهُ إِلَّا أَنْ يُطَلِّقَهَا عَلَى نُشُوزِهَا فَلَهَا أَنْ تَتَحَوَّلَ مِنْ بَيْتِ زَوْجِهَا، وَالْفَاحِشَةُ: النُّشُوزُ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالسُّدِّيُّ: خُرُوجُهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَاحِشَةٌ.
{وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [الطلاق: 1] يَعْنِي مَا ذُكِرَ مِنْ سَنَةَ الطَّلَاقِ وَمَا بَعْدَهَا، {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} [الطلاق: 1] يُوقِعُ فِي قَلْبِ الزَّوْجِ مُرَاجَعَتَهَا بَعْدَ الطَّلْقَةِ وَالطَّلْقَتَيْنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ يُفَرِّقَ الطَّلَقَاتِ، وَلَا يُوقِعَ الثَّلَاثَ دُفْعَةً واحدة حتى إذا ندم أمكنته المراجعة.
[2] {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} [الطلاق: 2] أَيْ قَرُبْنَ مِنَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهِنَّ، {فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] أَيْ رَاجِعُوهُنَّ، {بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 2] أَيِ اتْرُكُوهُنَّ حَتَّى تَنْقَضِيَ عِدَّتُهُنَّ فَتَبِينَ مِنْكُمْ، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] على الرجعة أو الفراق أَمَرَ بِالْإِشْهَادِ عَلَى الرَّجْعَةِ وَعَلَى الطلاق، {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] أيها الشهود، {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] قَالَ عِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: وَمَنْ يَتُقِ اللَّهَ فَيُطَلِّقْ لِلسَّنَةِ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا إِلَى الرَّجْعَةِ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: نَزَلَتْ فِي عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ أَسَرَ الْمُشْرِكُونَ ابْنًا لَهُ يُسَمَّى مَالِكًا فَأَتَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْرَ العدو ابني وشكا(6/957)
إليه أيضا الْفَاقَةَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اتَّقِ اللَّهَ وَاصْبِرْ وَأَكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ» فَفَعَلَ الرَّجُلُ ذَلِكَ، فَبَيْنَمَا هُوَ فِي بَيْتِهِ إِذْ أَتَاهُ ابْنُهُ وَقَدْ غَفَلَ عَنْهُ الْعَدُوُّ، فَأَصَابَ إبلا وجاء إلى أبيه (1) .
[3] {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] ما ساق من الغنم.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عنهما وابن مسعود: هُوَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهُ رَازِقُهُ.
وقال الرببع بْنُ خُثَيْمٍ: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] مِنْ كُلِّ شَيْءٍ ضَاقَ عَلَى الناس.
وقال أبو العالية: {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] مِنْ كُلِّ شِدَّةٍ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: {مَخْرَجًا} [الطلاق: 2] عما نهاه الله عَنْهُ.
{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3] يَتَّقِ اللَّهَ فِيمَا: نَابَهُ كَفَاهُ ما أهمه {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] أي منفذه أَمْرَهُ، مُمْضٍ فِي خَلْقِهِ قَضَاءَهُ.
{قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} [الطلاق: 3] أي جعل الله لِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ أجلا ينتهي إليه.
[4] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} [الطلاق: 4] فلا يرجون أن يحضن، {إِنِ ارْتَبْتُمْ} [الطلاق: 4] أَيْ شَكَكْتُمْ فَلَمْ تَدْرُوا مَا عدتهن، {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] يَعْنِي الصِّغَارَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فعدتهن أيضا ثلاثة أَشْهُرٍ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ، أَمَّا الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا فعدتها أربعة أشهر وعشر سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ أَوْ لا تحيض، وأما الْحَامِلُ فَعِدَّتُهَا بِوَضْعِ الْحَمْلِ سَوَاءٌ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} [الطلاق: 4] أي يُسَهِّلْ عَلَيْهِ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
[5] {ذَلِكَ} [الطلاق: 5] يَعْنِي مَا ذَكَرَ مِنَ الْأَحْكَامِ، {أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} [الطلاق: 5]
[قوله تعالى أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ] وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ. . .
[6] {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] يَعْنِي مُطَلَّقَاتِ نِسَائِكُمْ {مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} [الطلاق: 6] (مِنْ) صِلَةٌ أَيْ أَسْكِنُوهُنَّ حَيْثُ سكنتم {مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] سَعَتَكُمْ وَطَاقَتَكُمْ يَعْنِي إِنْ كَانَ مُوسِرًا يُوَسِّعُ عَلَيْهَا فِي الْمَسْكَنِ وَالنَّفَقَةِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا فَعَلَى قدر الطاقة، {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} [الطلاق: 6] لا تؤذوهن، {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} [الطلاق: 6] مَسَاكِنَهُنَّ فَيَخْرُجْنَ، {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] فيخرجن من عدتهن.
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} [الطلاق: 6] أَيْ أَرْضَعْنَ أَوْلَادَكُمْ، {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] عَلَى إِرْضَاعِهِنَّ، {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} [الطلاق: 6] لِيَقْبَلَ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ إِذَا أمره بالمعروف، وقال الْكِسَائِيُّ: شَاوِرُوا، قَالَ مُقَاتِلٌ: بِتَرَاضِي الْأَبِ وَالْأُمِّ عَلَى أَجْرٍ مُسَمَّى، وَالْخِطَابُ لِلزَّوْجَيْنِ جَمِيعًا، يَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْتُوا بِالْمَعْرُوفِ وَبِمَا هُوَ الْأَحْسَنُ، ولا يقصدوا
_________
(1) أورد الواحدي بغير سند، وأورده السيوطي في الدر (6 / 233) من رواية ابن مردويه من طريق الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابن عباس، وكذا أخرجه الثعلبي من هذا الوجه كما في الكافي الشافي لابن حجر، وأخرجه الطبري من طريق سالم بن أبي الجعد مرسلا، ووصله الحاكم عن جابر، وفي سنده عبيد الله بن كثير تركه الأزدي، ورواه الخطيب في تاريخه من طريق جويبر (متروك) عن الضحاك.(6/958)
الضرار، {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} [الطلاق: 6] فِي الرَّضَاعِ وَالْأُجْرَةِ فَأَبَى الزَّوْجُ أن يعطي المرأة أجرتها وَأَبَتِ الْأُمُّ أَنْ تُرْضِعَهُ فَلَيْسَ لَهُ إِكْرَاهُهَا عَلَى إِرْضَاعِهِ، وَلَكِنَّهُ يَسْتَأْجِرُ لِلصَّبِيِّ مُرْضِعًا غَيْرَ أُمِّهِ وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} [الطلاق: 6]
[7] {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] عَلَى قَدْرِ غِنَاهُ، {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} [الطلاق: 7] مِنَ الْمَالِ، {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا} [الطلاق: 7] فِي النَّفَقَةِ، {إِلَّا مَا آتَاهَا} [الطلاق: 7] أَعْطَاهَا مِنَ الْمَالِ، {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 7] بُعْدَ ضَيِّقٍ وَشِدَّةٍ غِنًى وَسَعَةً.
[8] قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ} [الطلاق: 8] عَصَتْ وَطَغَتْ، {عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} [الطلاق: 8] أَيْ وَأَمْرِ رُسُلِهِ، {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} [الطلاق: 8] بالمعاقبة وَالِاسْتِقْصَاءِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: حَاسَبَهَا بِعَمَلِهَا فِي الدُّنْيَا فَجَازَاهَا بِالْعَذَابِ، وَهُوَ قوله: {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} [الطلاق: 8] مُنْكَرًا فَظِيعًا وَهُوَ عَذَابُ النَّارِ، لَفْظُهُمَا مَاضٍ وَمَعْنَاهُمَا الِاسْتِقْبَالُ، وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ مَجَازُهَا: فَعَذَّبْنَاهَا فِي الدُّنْيَا بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ وَالسَّيْفِ وَسَائِرِ الْبَلَايَا وَحَاسَبْنَاهَا فِي الْآخِرَةِ حِسَابًا شَدِيدًا.
[9] {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: 9] جَزَاءَ أَمْرِهَا، وَقِيلَ: ثِقَلَ عَاقِبَةِ كُفْرِهَا، {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} [الطلاق: 9] خُسْرَانًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
[10] {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} [الطلاق: 10] يعني القرآن.
[11] {رَسُولًا} [الطلاق: 11] بدلا مِنَ الذِّكْرِ، وَقِيلَ: أَنْزَلَ إِلَيْكُمْ قُرْآنًا وَأَرْسَلَ رَسُولًا وَقِيلَ مَعَ الرَّسُولِ، وَقِيلَ: الذِّكْرُ هُوَ الرَّسُولُ.
وَقِيلَ: ذِكْرًا أَيْ شَرَفًا، ثُمَّ بين ما هو فقال {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} [الطلاق: 11] يَعْنِي الْجَنَّةَ الَّتِي لَا يَنْقَطِعُ نَعِيمُهَا.
[12] {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] فِي الْعَدَدِ، {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] بِالْوَحْي مِنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ إِلَى الْأَرْضِ السُّفْلَى، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هُوَ مَا يُدَبِّرُ فِيهِنَّ مِنْ عَجِيبِ تَدْبِيرِهِ فَيُنْزِلُ الْمَطَرَ وَيُخْرِجُ النَّبَاتَ، وَيَأْتِي بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، وَيَخْلُقُ الْحَيَوَانَ عَلَى اخْتِلَافِ هَيْئَاتِهَا وَيَنْقُلُهَا مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي كُلِّ أَرْضٍ مِنْ أُرْضِهِ وَسَمَاءٍ مِنْ سمائه وخلق مِنْ خَلْقِهِ وَأَمْرٌ مِنْ أَمْرِهِ وَقَضَاءٌ مِنْ قَضَائِهِ.
{لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ.
[سُورَةُ التحريم]
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ] لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. . .
(66) سورة التحريم [1] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1] يعني العسل ومارية {تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [التحريم: 1] وأمر أن يكفر عن يَمِينَهُ وَيُرَاجِعَ أَمَتَهُ، فَقَالَ:
[2] {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] أَيْ بَيَّنَ وَأَوجَبَ أَنْ تُكَفِّرُوهَا إِذَا حَنِثْتُمْ وَهِيَ مَا ذَكَرَ فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ، {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ} [التحريم: 2] وَلِيُّكُمْ وَنَاصِرُكُمْ، {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [التحريم: 2] وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي لَفْظِ التَّحْرِيمِ، فَقَالَ قَوْمٌ: لَيْسَ هُوَ بِيَمِينٍ فَإِنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ أَوْ حَرَّمْتُكِ، فَإِنَّ نَوَى بِهِ طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقٌ، وَإِنَّ نَوَى بِهِ ظِهَارًا فَظِهَارٌ، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ ذَاتِهَا أَوْ أَطْلَقَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ بِنَفْسِ اللَّفْظِ، وَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لِجَارِيَتِهِ: فَإِنَّ نَوَى عِتْقًا عُتِقَتْ، وَإِنْ نَوَى تَحْرِيمَ ذَاتِهَا أَوْ أَطْلَقَ، فعليه كفارة اليمين، فإن قَالَ لِطَعَامٍ حَرَّمْتُهُ عَلَى نَفْسِي فَلَا شَيْءِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَمِينٌ، فَإِنْ قَالَ ذَلِكَ لِزَوْجَتِهِ أَوْ جَارِيَتِهِ فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ مَا لَمْ يَقْرَبْهَا، كَمَا لَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَطَأَهَا، وَإِنْ حَرَّمَ طَعَامًا(6/959)
فهو كما لو حلف ألا يَأْكُلَهُ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ مَا لَمْ يَأْكُلْ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعَائِشَةَ، وَبِهِ قَالَ الْأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه.
[3] {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] وَهُوَ تَحْرِيمُ فَتَاتِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَوْلُهُ لِحَفْصَةَ: «لَا تُخْبِرِي بِذَلِكَ أَحَدًا» .
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَسَرَّ أَمْرَ الْخِلَافَةِ بَعْدَهُ فَحَدَّثَتْ بِهِ حَفْصَةُ.
قَالَ.
الْكَلْبِيُّ: أَسَرَّ إِلَيْهَا أَنَّ أَبَاكِ وَأَبَا عَائِشَةَ يَكُونَانِ خَلِيفَتَيْنِ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي.
وَقَالَ ميمون بن مهران: أسر إليها أَنَّ أَبَا بَكْرٍ خَلِيفَتِي مِنْ بعدي.
{فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} [التحريم: 3] أَخْبَرَتْ بِهِ حفصةُ عائشةَ، {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} [التحريم: 3] أَيْ أَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَى أَنَّهَا أَنْبَأَتْ بِهِ، {عَرَّفَ بَعْضَهُ} [التحريم: 3] قَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالْكِسَائِيُّ (عَرَفَ) بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ عَرَفَ بَعْضَ الْفِعْلِ الَّذِي فَعَلَتْهُ مِنْ إِفْشَاءِ سِرِّهِ، أَيْ غَضِبَ مِنْ ذَلِكَ عَلَيْهَا وَجَازَاهَا بِهِ، مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ لِمَنْ أَسَاءَ إِلَيْهِ لِأَعْرِفَنَّ لَكَ مَا فَعَلْتَ، أَيْ لِأُجَازِيَنَّكَ عَلَيْهِ، وَجَازَاهَا بِهِ عَلَيْهِ بِأَنْ طَلَّقَهَا، فَلَمَّا بَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ قَالَ: لَوْ كَانَ فِي آلِ الْخَطَّابِ خَيْرٌ لَمَا طَلَّقَكِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَاءَ جِبْرِيلُ وَأَمَرَهُ بِمُرَاجَعَتِهَا، وَاعْتَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نِسَاءَهُ شَهْرًا وَقَعَدَ فِي مَشْرُبَةِ أُمِّ إِبْرَاهِيمَ مَارِيَةَ، حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ التَّخْيِيرِ.
وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: لَمْ يُطَلِّقْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَفْصَةَ وَإِنَّمَا هَمَّ بِطَلَاقِهَا فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَالَ: لَا تُطَلِّقْهَا فَإِنَّهَا صَوَّامَةٌ قَوَّامَةٌ وإنها من جملة نِسَائِكَ فِي الْجَنَّةِ، فَلَمْ يُطَلِّقْهَا.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (عَرَّفَ) بِالتَّشْدِيدِ أَيْ عَرَّفَ حَفْصَةَ بَعْدَ ذَلِكَ الْحَدِيثَ، أَيْ أَخْبَرَهَا بِبَعْضِ الْقَوْلِ الَّذِي كَانَ مِنْهَا، {وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3] يَعْنِي لَمْ يُعَرِّفْهَا إِيَّاهُ، وَلَمْ يُخْبِرْهَا بِهِ.
قَالَ الْحَسَنُ: مَا اسْتَقْصَى كَرِيمٌ قَطُّ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} [التحريم: 3] وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَأَى الْكَرَاهِيَةَ فِي وَجْهِ حَفْصَةَ أَرَادَ أَنْ يترضاها فَأَسَرَّ إِلَيْهَا شَيْئَيْنِ: تَحْرِيمَ الْأَمَةِ عَلَى نَفْسِهِ وَتَبْشِيرَهَا بِأَنَّ الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ فِي أَبِي بَكْرٍ وَفِي أَبِيهَا عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وَأَطْلَعَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ عَلَيْهِ، عرف حفصة وأخبرها ببعض مما أَخْبَرَتْ بِهِ عَائِشَةُ وَهُوَ تَحْرِيمُ الْأَمَةِ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ يَعْنِي ذِكْرَ الْخِلَافَةِ، كَرِهَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنَّ يَنْتَشِرَ ذَلِكَ فِي النَّاسِ، {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} [التحريم: 3] أي أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم حَفْصَةَ بِمَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، {قَالَتْ} [التحريم: 3] حفصة، {مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} [التحريم: 3] أَيْ مَنْ أَخْبَرَكَ بِأَنِّي أَفْشَيْتُ السِّرَّ؟ {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [التحريم: 3]
[4] {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} [التحريم: 4] أَيْ مِنَ التَّعَاوُنِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْإِيذَاءِ يُخَاطِبُ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] أَيْ زَاغَتْ وَمَالَتْ عَنِ الْحَقِّ وَاسْتَوْجَبْتُمَا التَّوْبَةَ.
قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مالت قلوبكما بأن سرهما ما ذكره رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من اجتناب جاريته.
قوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا} [التحريم: 4] أَيْ تَتَظَاهَرَا(6/960)
وَتَتَعَاوَنَا عَلَى أَذَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَرَأَ أَهْلُ الْكُوفَةِ بِتَخْفِيفِ الظَّاءِ، وَالْآخَرُونَ بِتَشْدِيدِهَا، {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ} [التحريم: 4] أي وليه وناصره.
قوله: {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي بْنِ كَعْبٍ: (وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ) أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وقال الْكَلْبِيُّ: هُمُ الْمُخْلِصُونَ الَّذِي لَيْسُوا بمنافقين.
قوله: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4] أَيْ: أَعْوَانٌ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَهَذَا مِنَ الْوَاحِدِ الَّذِي يُؤَدِّي عَنِ الْجَمْعِ، كَقَوْلِهِ {وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النَّسِاءِ: 69]
[5] {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] أَيْ وَاجِبٌ مِنَ اللَّهِ إِنْ طَلَّقَكُنَّ رَسُولُهُ، {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ} [التحريم: 5] خاضعات لله بالطاعة، {مُؤْمِنَاتٍ} [التحريم: 5] مصدقات بتوحيد الله، {قَانِتَاتٍ} [التحريم: 5] طَائِعَاتٍ، وَقِيلَ: دَاعِيَاتٍ، وَقِيلَ: مُصَلِّيَاتٍ، {تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} [التحريم: 5] صَائِمَاتٍ، وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مهاجرات. وقيل- يسحن معه حيثما ساح، {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5] وَهَذَا فِي الْإِخْبَارِ عَنِ الْقُدْرَةِ لَا عَنِ الْكَوْنِ لِأَنَّهُ قَالَ: {إِنْ طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يُطَلِّقُهُنَّ وَهَذَا كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38] وهذا إخبار عن القدرة، لا في الوجود أمة هم خَيْرٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[6] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ} [التحريم: 6] قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَيْ بِالِانْتِهَاءِ عَمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - عَنْهُ وَالْعَمَلِ بِطَاعَتِهِ، {وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} [التحريم: 6] يَعْنِي مُرُوهُمْ بِالْخَيْرِ وَانْهُوهُمْ عَنِ الشَّرِّ، وَعَلِّمُوهُمْ وَأَدِّبُوهُمْ تَقُوهُمْ بِذَلِكَ نَارًا، {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ} [التحريم: 6] يعني خزنة النار {غِلَاظٌ} [التحريم: 6] فِظَاظٌ عَلَى أَهْلِ النَّارِ {شِدَادٌ} [التحريم: 6] أَقْوِيَاءُ يَدْفَعُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ بِالدَّفْعَةِ الْوَاحِدَةِ سَبْعِينَ أَلْفًا فِي النَّارِ وَهُمُ الزَّبَانِيَةُ لَمْ يَخْلُقِ اللَّهُ فِيهِمُ الرَّحْمَةَ، {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]
[قَوْلُهُ تَعَالَى يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ] تَوْبَةً نَصُوحًا. . .
[7 - 8] {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 7 - 8] أَيْ تَوْبَةً ذَاتَ نُصْحٍ تَنْصَحُ صَاحِبَهَا بِتَرْكِ الْعَوْدِ إِلَى مَا تاب منه، واختلفوا في معناه قَالَ عُمَرُ وأُبي وَمُعَاذٌ: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَى الذَّنْبِ، كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضَّرْعِ. قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ نَادِمًا عَلَى مَا مَضَى مُجْمِعًا عَلَى أَلَّا يَعُودَ فِيهِ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَوْبَةً تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ. قَالَ الْقُرَظِيُّ: يَجْمَعُهَا أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: الِاسْتِغْفَارُ بِاللِّسَانِ، وَالْإِقْلَاعُ بِالْأَبْدَانِ، وَإِضْمَارُ تَرْكِ الْعَوْدِ بِالْجَنَانِ، وَمُهَاجَرَةُ سَيِّئِ الْإِخْوَانِ.
{عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} [التحريم: 8] أَيْ لَا يُعَذِّبُهُمُ اللَّهُ بِدُخُولِ النَّارِ. {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} [التحريم: 8](6/961)
، على الصراط، {يَقُولُونَ} [التحريم: 8] إِذْ طَفِئَ نُورُ الْمُنَافِقِينَ {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8]
[9] {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [التحريم: 9] ثُمَّ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلصَّالِحِينَ وَالصَّالِحَاتِ مِنَ النِّسَاءِ.
[10] فَقَالَ - جَلَّ ذِكْرُهُ -: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ} [التحريم: 10] واسمها واعلة , {وَامْرَأَتَ لُوطٍ} [التحريم: 10] اسمها وَاهِلَةُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَالِعَةُ وَوَالِهَةُ، {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} [التحريم: 10] وَهُمْا نُوحٌ وَلُوطٌ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -, {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا بَغَتِ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ، وَإِنَّمَا كَانَتْ خِيَانَتُهُمَا أَنَّهُمَا كَانَتَا عَلَى غَيْرِ دِينِهِمَا، فَكَانَتِ امْرَأَةُ نُوحٍ تَقُولُ لِلنَّاسِ: إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَإِذَا آمَنَ بِهِ أَحَدٌ أَخْبَرَتْ بِهِ الْجَبَابِرَةَ، وَأَمَّا امْرَأَةُ لُوطٍ فَإِنَّهَا كَانَتْ تَدُلُّ قَوْمَهُ عَلَى أَضْيَافِهِ, إِذَا نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ بِاللَّيْلِ أَوْقَدَتِ النَّارَ, وَإِذَا نَزَلَ بِالنَّهَارِ دَخَّنَتْ لِيَعْلَمَ قَوْمُهُ أَنَّهُ نَزَلَ بِهِ ضَيْفٌ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ، أَسَرَّتَا النِّفَاقَ وَأَظْهَرَتَا الْإِيمَانَ: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} [التحريم: 10] لَمْ يَدْفَعَا عَنْهُمَا مَعَ نُبُوَّتِهِمَا، عَذَابَ اللَّهِ , {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} [التحريم: 10] قَطَعَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ طَمَعَ كُلِّ مَنْ يَرْكَبُ الْمَعْصِيَةَ أَنْ ينفعه صلاح غيره, ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ مَعْصِيَةَ غَيْرِهِ لَا تَضُرُّهُ إِذَا كَانَ مُطِيعًا.
[11] فَقَالَ: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} [التحريم: 11] وَهِيَ آسِيَةُ بِنْتُ مُزَاحِمٍ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمَّا غَلَبَ مُوسَى السَّحَرَةَ آمَنَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وَلَمَّا تَبَيَّنَ لِفِرْعَوْنَ إِسْلَامُهَا أَوْتَدَ يَدَيْهَا وَرِجْلَيْهَا بِأَرْبَعَةِ أَوْتَادٍ وَأَلْقَاهَا فِي الشَّمْسِ، قَالَ سَلْمَانُ: كَانَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ تُعَذَّبُ بِالشَّمْسِ فَإِذَا انْصَرَفُوا عَنْهَا ظلتها الْمَلَائِكَةُ: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} [التحريم: 11] فَكَشْفَ اللَّهُ لَهَا عَنْ بَيْتِهَا في الجنة حتى رأته: {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} [التحريم: 11] قَالَ مُقَاتِلٌ: وَعَمَلِهِ يَعْنِي الشِّرْكَ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَعَمَلِهِ، قَالَ: جِمَاعُهُ: {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [التحريم: 11] الْكَافِرِينَ.
[12] {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ} [التحريم: 12] أَيْ فِي جَيْبِ دِرْعِهَا، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الْكِنَايَةَ، {مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا} [التحريم: 12] يَعْنِي الشَّرَائِعَ الَّتِي شَرَعَهَا اللَّهُ للعباد بكلماته المنزلة {وَكُتُبِهِ} [التحريم: 12] أراد الكتب الَّتِي أُنْزِلَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَدَاودَ وَعِيسَى - عَلَيْهِمُ السَّلَامُ -.
{وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} [التحريم: 12] أَيْ مِنَ الْقَوْمِ الْقَانِتِينَ الْمُطِيعِينَ لِرَبِّهَا وَلِذَلِكَ لَمْ يَقُلْ مِنَ الْقَانِتَاتِ, وَقَالَ عَطَاءٌ: مِنَ الْقَانِتِينَ أَيْ مِنَ الْمَصَلِّينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِالْقَانِتِينَ رَهْطَهَا وَعَشِيرَتَهَا فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ صَلَاحٍ مُطِيعِينَ لِلَّهِ.
[سورة الملك]
[قوله تعالى تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ] شَيْءٍ قَدِيرٌ. . .
(67) سُورَةُ الملك
[1 - 2] {تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ - الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ} [الملك: 1 - 2]
قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْمَوْتَ فِي الدُّنْيَا وَالْحَيَاةَ فِي الْآخِرَةِ, وَقَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ مَوْتَ الْإِنْسَانِ وَحَيَاتَهُ فِي الدُّنْيَا وجعل اللَّهُ الدُّنْيَا دَارَ حَيَاةٍ وَفَنَاءٍ, وَجَعْلَ الْآخِرَةَ دَارَ جَزَاءٍ وَبَقَاءٍ: قِيلَ: إِنَّمَا قَدَّمَ الْمَوْتَ لِأَنَّهُ إِلَى الْقَهْرِ أَقْرَبُ. وَقِيلَ: قَدَّمَهُ لِأَنَّهُ أَقْدَمُ, لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ فِي الِابْتِدَاءِ كَانَتْ فِي حُكْمِ الْمَوْتِ كالنطفة والتراب ونحوهما، ثم طرأت عليها الحياة: {لِيَبْلُوَكُمْ} [الملك: 2] فِيمَا بَيْنَ الْحَيَاةِ إِلَى الْمَوْتِ: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2] رُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا (أَحْسَنُ عَمَلًا) أَحْسَنُ عَقْلًا وَأَوْرَعُ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ, وَأَسْرَعُ فِي طاعة الله, وقال الفضيل بْنُ عِيَاضٍ: أَحْسَنُ عَمَلًا أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ, وَقَالَ: الْعَمَلُ لَا يُقْبَلُ حتى يكون خالصا صوابا, فالخالص إِذَا كَانَ لِلَّهِ, وَالصَّوَابُ إِذَا كَانَ عَلَى السُّنَّةِ, وَقَالَ الْحَسَنُ: أَيُّكُمْ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَأَتْرَكُ لها وقال الفراء: لم تقع الْبَلْوَى عَلَى أَيٍّ إِلَّا(6/962)
وَبَيْنَهُمَا إِضْمَارٌ، كَمَا تَقُولُ: بَلَوْتُكُمْ لِأَنْظُرَ أَيُّكُمْ أَطْوَعُ، وَمِثْلُهُ سَلْهُمْ أيهم بذلك زعيم أي سلهم وانظر أيهم {وَهُوَ الْعَزِيزُ} [الملك: 2] فِي انْتِقَامِهِ مِمَّنْ عَصَاهُ، {الْغَفُورُ} [الملك: 2] لِمَنْ تَابَ إِلَيْهِ.
[3] {الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا} [الملك: 3] طَبَقًا عَلَى طَبَقٍ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ. {مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ} [الملك: 3] معناه. ما ترى يا بن آدَمَ فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنَ اعْوِجَاجٍ وَاخْتِلَافٍ وَتَنَاقُضٍ، بَلْ هِيَ مُسْتَقِيمَةٌ مُسْتَوِيَةٌ وَأَصْلُهُ مِنَ الْفَوْتِ وَهُوَ أَنْ يَفُوتَ بَعْضُهَا بَعْضًا لقلة استوائها، {فَارْجِعِ الْبَصَرَ} [الملك: 3] كَرِّرِ النَّظَرَ، مَعْنَاهُ: انْظُرْ ثُمَّ ارْجِعْ، {هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ} [الملك: 3] شُقُوقٍ وَصُدُوعٍ.
[4] {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَرَّةً بَعْدَ مرة، {يَنْقَلِبْ} [الملك: 4] يَنْصَرِفْ وَيَرْجِعْ {إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا} [الملك: 4] صَاغِرًا ذَلِيلًا مُبْعَدًا لَمْ يَرَ ما يهوى، {وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] كَلِيلٌ مُنْقَطِعٌ لَمْ يُدْرِكْ مَا طلب.
[5] {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] أَرَادَ الْأَدْنَى مِنَ الْأَرْضِ وَهِيَ التي يراها الناس. وقوله: (بمصابيح) الْكَوَاكِبَ، وَاحِدُهَا مِصْبَاحٌ، وَهُوَ السِّرَاجُ سُمِّيَ الْكَوْكَبُ مِصْبَاحًا لِإِضَاءَتِهِ، {وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا} [الملك: 5] مرامي, {لِلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] إِذَا اسْتَرَقُوا السَّمْعَ، {وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ} [الملك: 5] في الآخرة، {عَذَابَ السَّعِيرِ} [الملك: 5] النَّارَ الْمُوقَدَةَ.
[6, 7] {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ - إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا} [الملك: 6 - 7] وَهُوَ أَوَّلُ نَهِيقِ الْحِمَارِ وَذَلِكَ أقبح الأصوات، {وَهِيَ تَفُورُ} [الملك: 7] تغلي كَغَلْيِ الْمِرْجَلِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: تَفُورُ بِهِمْ كَمَا يَفُورُ الْمَاءُ الْكَثِيرُ بالحب القليل.
[8] {تَكَادُ تَمَيَّزُ} [الملك: 8] تتقطع، {مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8] مِنْ تَغِيُّظِهَا عَلَيْهِمْ, قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ، تَكَادُ تَنْشَقُّ غَيْظًا عَلَى الْكُفَّارِ {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ} [الملك: 8] جماعة منهم, {سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا} [الملك: 8] سُؤَالَ تَوْبِيخٍ , {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] رَسُولٌ يُنْذِرُكُمْ.
[9] {قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا} [الملك: 9] لِلرُّسُلِ {مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ} [الملك: 9]
[10] {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ} [الملك: 10] مِنَ الرُّسُلِ مَا جَاءُونَا بِهِ، {أَوْ نَعْقِلُ} [الملك: 10] مِنْهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ الْهُدَى أَوْ نَعْقِلُهُ فَنَعْمَلُ بِهِ، {مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 10] قَالَ الزَّجَّاجُ: لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ سَمْعَ مَنْ يَعِي وَيَتَفَكَّرُ أَوْ نَعْقِلُ عَقْلَ مَنْ يُمَيِّزُ وَيَنْظُرُ مَا كُنَّا مِنْ أَهْلِ النَّارِ.
[11] {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا} [الملك: 11] بعدا، {لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك: 11]
[قوله تعالى وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ] بِذَاتِ الصُّدُورِ. . .
[12 - 13] {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ - وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الملك: 12 - 13] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُشْرِكِينَ، كَانُوا يَنَالُونَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُخْبِرُهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا قَالُوا: فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ:(6/963)
أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ كَيْ لَا يَسْمَعَ إِلَهُ مُحَمَّدٍ.
[14] فَقَالَ اللَّهُ - جَلَّ ذِكْرُهُ -: {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] أَلَّا يَعْلَمُ مَا فِي الصُّدُورِ مَنْ خَلَقَهَا، {وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] لَطِيفٌ عِلْمُهُ فِي الْقُلُوبِ، الْخَبِيرُ بما فيها من السر وَالْوَسْوَسَةِ. وَقِيلَ: (مَنْ) يَرْجِعُ إِلَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ أَلَّا يَعْلَمَ اللَّهُ مَخْلُوقَهُ.
[15] {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا} [الملك: 15] سَهْلًا لَا يَمْتَنِعُ الْمَشْيُ فِيهَا بالحزونة، {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا} [الملك: 15] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: فِي جِبَالِهَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فِي آكَامِهَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: فِي طُرُقِهَا وَفِجَاجِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: فِي سُبُلِهَا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: فِي أَطْرَافِهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فِي نَوَاحِيهَا. قَالَ الْفَرَّاءُ: فِي جَوَانِبِهَا. وَالْأَصْلُ فِي الْكَلِمَةِ الْجَانِبُ {وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] مِمَّا خَلَقَهُ رِزْقًا لَكُمْ فِي الأرض، {وَإِلَيْهِ النُّشُورُ} [الملك: 15] أَيْ: وَإِلَيْهِ تُبْعَثُونَ مِنْ قُبُورِكُمْ.
[16] ثُمَّ خَوَّفَ الْكُفَّارَ فَقَالَ: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ عَذَابٌ مَنْ فِي السَّمَاءِ إِنْ عَصَيْتُمُوهُ، {أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16] قَالَ الْحَسَنُ: تَتَحَرَّكُ بِأَهْلِهَا. وَقِيلَ: تَهْوِي بِهِمْ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - يُحَرِّكُ الْأَرْضَ عِنْدَ الْخَسْفِ بِهِمْ حَتَّى تُلْقِيَهُمْ إِلَى أَسْفَلَ، تَعْلُو عَلَيْهِمْ وَتَمُرُّ فَوْقَهُمْ. يُقَالُ: مار يمور إذا جَاءَ وَذَهَبَ.
[17] {أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك: 17] رِيحًا ذَاتَ حِجَارَةٍ كَمَا فَعَلَ بقوم لوط. {فَسَتَعْلَمُونَ} [الملك: 17] فِي الْآخِرَةِ وَعِنْدَ الْمَوْتِ، {كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 17] أَيْ إِنْذَارِي إِذَا عَايَنْتُمُ الْعَذَابَ.
[18] {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [الملك: 18] يَعْنِي كُفَّارَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} [الملك: 18] أَيْ إِنْكَارِي عَلَيْهِمْ بِالْعَذَابِ.
[19] {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} [الملك: 19] تَصُفُّ أَجْنِحَتَهَا فِي الْهَوَاءِ، {وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] أجنحتهن بعد البسط {مَا يُمْسِكُهُنَّ} [الملك: 19] فِي حَالِ الْقَبْضِ وَالْبَسْطِ أَنْ يَسْقُطْنَ، {إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} [الملك: 19]
[20] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ} [الملك: 20] اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ مَنَعَةٌ لَكُمْ، {يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ} [الملك: 20] يَمْنَعُكُمْ مِنْ عَذَابِهِ وَيَدْفَعُ عَنْكُمْ مَا أَرَادَ بِكُمْ. {إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20] أَيْ فِي غُرُورٍ مِنَ الشَّيْطَانِ يَغُرُّهُمْ بِأَنَّ الْعَذَابَ لَا يَنْزِلُ بِهِمْ.
[21] {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ} [الملك: 21] أَيْ مِنَ الَّذِي يَرْزُقُكُمُ الْمَطَرَ إِنْ أَمْسَكَ اللَّهُ عَنْكُمْ، {بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ} [الملك: 21] تمادوا في الضلال، {وَنُفُورٍ} [الملك: 21] تباعد من الحق.
[22] ثُمَّ ضَرَبَ مَثَلًا فَقَالَ: {أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ} [الملك: 22] رَاكِبًا رَأْسَهُ فِي الضَّلَالَةِ وَالْجَهَالَةِ أعمى العين والقلب لَا يُبْصِرُ يَمِينًا وَلَا شِمَالًا وهو الكافر. قال قتادة: راكبا عَلَى الْمَعَاصِي فِي الدُّنْيَا فَحَشَرَهُ اللَّهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا} [الملك: 22] مُعْتَدِلًا يُبْصِرُ الطَّرِيقَ وَهُوَ، {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الملك: 22](6/964)
وهو مؤمن. قَالَ قَتَادَةُ: يَمْشِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ سويا.
[قوله تعالى قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ] وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ. . .
[23] {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي أَنَّهُمْ لَا يَشْكُرُونَ رَبَّ هَذِهِ النِّعَمِ.
[24 - 27] {قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ - وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ - قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ - فَلَمَّا رَأَوْهُ} [الملك: 24 - 27]
، يَعْنِي الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يعني العذاب ببدر، {زُلْفَةً} [الملك: 27] أَيْ قَرِيبًا وَهُوَ اسْمٌ يُوصَفُ بِهِ الْمَصْدَرُ يَسْتَوِي فِيهِ الْمُذَكَّرُ والمؤنث والواحد والاثنان والجمع، {سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [الملك: 27] اسودت وعلتها الكآبة، فالمعنى قُبِّحَتْ وُجُوهُهُمْ بِالسَّوَادِ، يُقَالُ سَاءَ الشَّيْءُ يَسُوءُ فَهُوَ سَيِّئٌ إِذَا قبح، وسيئ يساء إذا قبح، {وَقِيلَ} [الملك: 27] لها أي قال لهم الخزنة، {هَذَا} [الملك: 27] أَيْ هَذَا الْعَذَابُ، {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ} [الملك: 27] تفتعلون من الدعاء أي أن تدعوه وتتمنوه أنه يجعله لَكُمْ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ: تَدْعُونَ بِالتَّخْفِيفِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ قَتَادَةَ وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ مثل تذكرون وتذكرون.
[28] {قُلْ} [الملك: 28] يَا مُحَمَّدُ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ الَّذِينَ يَتَمَنَّوْنَ هَلَاكَكَ، {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ} [الملك: 28] من المؤمنين، {أَوْ رَحِمَنَا} [الملك: 28] فأبقاها إلى منتهى آجَالنَا، {فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الملك: 28] فَإِنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ لَا مَحَالَةَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله فيعذبني ومن معي أو رحمنا فيغفر لَنَا، فَنَحْنُ مَعَ إِيمَانِنَا خَائِفُونَ أَنْ يُهْلِكَنَا بِذُنُوبِنَا، لِأَنَّ حُكْمَهُ نافذ فينا، فمن يجير الكافرين فمن يجيركم ويمنعكم مع عَذَابِهِ وَأَنْتُمْ كَافِرُونَ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
[29] {قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ} [الملك: 29] الَّذِي نَعْبُدُهُ، {آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ} [الملك: 29] قَرَأَ الْكِسَائِيُّ بِالْيَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّاءِ. {مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الملك: 29] أَيْ سَتَعْلَمُونَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْعَذَابِ من الضال منا أنحن أَمْ أَنْتُمْ؟(6/965)
[30] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا} [الملك: 30] أي غَائِرًا ذَاهِبًا فِي الْأَرْضِ لَا تَنَالُهُ الْأَيْدِي وَالدِّلَاءُ، قَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي مَاءَ زَمْزَمٍ، {فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ} [الملك: 30] ظَاهِرٍ تَرَاهُ الْعُيُونُ وَتَنَالُهُ الْأَيْدِي وَالدِّلَاءُ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عباس: معين أي جار.
[سورة القلم]
[قوله تعالى ن والقلم وما يسطرون. . .]
(68) سورة القلم [1] {ن} [القلم: 1] اختلفوا فيه فقال بعضهم: إن نُونٌ آخَرُ حُرُوفِ الرَّحْمَنِ، وَهِيَ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: النُّونُ الدَّوَاةُ. وَقِيلَ: هُوَ قَسَمٌ أَقْسَمَ اللَّهُ بِهِ. وَقِيلَ: فَاتِحَةُ السُّورَةِ {وَالْقَلَمِ} [القلم: 1] هُوَ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ بِهِ الذكر {وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] يَكْتُبُونَ أَيْ مَا تَكْتُبُ الْمَلَائِكَةُ الْحَفَظَةُ مِنْ أَعْمَالِ بَنِي آدَمَ.
[2] {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ} [القلم: 2] بنبوة، {رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم: 2] هذا جَوَابٌ لِقَوْلِهِمْ {يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الْحِجْرِ: 6] فَأَقْسَمَ اللَّهُ بِالنُّونِ وَالْقَلَمِ وما يكتب من الأعمال أَيْ: إِنَّكَ لَا تَكُونُ مَجْنُونًا وَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهَ عَلَيْكَ بِالنُّبُوَّةِ وَالْحِكْمَةِ. وَقِيلَ: بِعِصْمَةِ رَبِّكَ. وَقِيلَ: هُوَ كَمَا يُقَالُ مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ مَا أَنْتَ بِمَجْنُونٍ وَالنِّعْمَةُ لِرَبِّكَ، كَقَوْلِهِمْ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ أَيْ وَالْحَمْدُ لَكَ.
[3] {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] أَيْ مَنْقُوصٍ وَلَا مَقْطُوعٍ بِصَبْرِكِ عَلَى افْتِرَائِهِمْ عَلَيْكَ.
[4] {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: دِينٌ عَظِيمٌ لَا دِينَ أَحَبُّ إِلَيَّ وَلَا أَرْضَى عِنْدِي مِنْهُ، وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ آداب الْقُرْآنَ، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ مَا كَانَ يَأْتَمِرُ بِهِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَيَنْتَهِي عَنْهُ مِنْ نَهْيِ الله، والمعنى إنك لعلى الْخُلُقِ الَّذِي أَمَرَكَ اللَّهُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: سَمَّى اللَّهُ خُلُقَهُ عَظِيمًا لِأَنَّهُ امْتَثَلَ تَأْدِيبَ اللَّهِ إِيَّاهُ بِقَوْلِهِ: {خُذِ الْعَفْوَ} [الأعراف: 199] الآية.(6/965)
[5] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ - {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} [القلم: 5] فَسَتُرَى يَا مُحَمَّدُ وَيَرَوْنَ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ إِذَا نَزَلَ بِهِمُ العذاب.
[6] {بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ} [القلم: 6] قيل معناه بأيكم المجنون. فالمفتون مفعول بمعنى المصدر، وَقِيلَ: الْبَاءُ بِمَعْنَى (فِي) مَجَازُهُ: فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ فِي أَيِّ الْفَرِيقَيْنِ الْمَجْنُونُ فِي فَرِيقِكَ أَمْ فِي فريقهم؟ وقيل: بأيكم المفتون وهو الشيطان الَّذِي فُتِنَ بِالْجُنُونِ، وَهَذَا قَوْلُ مجاهد. وقال آخرون: الباء فيه زَائِدَةٌ مَعْنَاهُ: أَيُّكُمُ الْمَفْتُونُ؟ أَيِ الْمَجْنُونُ الَّذِي فُتِنَ بِالْجُنُونِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ.
[7] {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ - فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ} [القلم: 7 - 8] يَعْنِي مُشْرِكِي مَكَّةَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَدْعُونَهُ إِلَى دِينِ آبَائِهِ فَنَهَاهُ أَنْ يُطِيعَهُمْ.
[9] {وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] قال الضحاك: لو تكفرون فيكفرون. وقال الْكَلْبِيُّ: لَوْ تَلِينُ لَهُمْ فَيَلِينُونَ لَكَ. قَالَ الْحَسَنُ: لَوْ تُصَانِعُهُمْ في دينك فيصانعون فِي دِينِهِمْ. قَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: لَوْ تُنَافِقُ وَتُرَائِي فَيُنَافِقُونَ.
[10] {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ} [القلم: 10] كَثِيرِ الْحَلِفِ بِالْبَاطِلِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ. الْأُسُودُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ: وَقَالَ عطاء: الأخنس بن شريق. قوله: {مَهِينٍ} [القلم: 10] ضَعِيفٍ حَقِيرٍ قِيلَ: هُوَ فَعِيلٌ مِنَ الْمَهَانَةِ وَهِيَ قِلَّةُ الرَّأْي وَالتَّمْيِيزِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَذَّابٌ، وَهُوَ قَرِيبٌ مِنَ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِنَّمَا يَكْذِبُ لِمَهَانَةِ نَفْسِهِ عليه.
[11] {هَمَّازٍ} [القلم: 11] مُغْتَابٍ يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ بِالطَّعْنِ والغيبة، وقال الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَغْمِزُ بِأَخِيهِ فِي الْمَجْلِسِ، كَقَوْلِهِ (هُمَزَةٍ) {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} [القلم: 11] قَتَّاتٍ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ بَيْنَ النَّاسِ ليفسد بينهم.
[12] {مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ} [القلم: 12] بِخَيْلٍ بِالْمَالِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ أَيْ لِلْإِسْلَامِ يَمْنَعُ وَلَدَهُ وَعَشِيرَتَهُ عَنِ الْإِسْلَامِ, يَقُولُ: لَئِنْ دَخَلَ وَاحِدٌ مِنْكُمْ فِي دِينِ مُحَمَّدٍ لَا أَنْفَعُهُ بِشَيْءٍ أبدا. {مُعْتَدٍ} [القلم: 12] ظلوم يتعدي الحق, {أَثِيمٍ} [القلم: 12] فاجر.
[13] {عُتُلٍّ} [القلم: 13] الْعُتُلُّ: الْغَلِيظُ الْجَافِي. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الْفَاحِشُ الْخُلُقِ، السَّيِّئُ الْخُلُقِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ الشَّدِيدُ الْخُصُومَةِ فِي الْبَاطِلِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الشَّدِيدُ فِي كَفْرِهِ، وَكُلُّ شَدِيدٍ عِنْدَ الْعَرَبِ عُتُلٌّ، وَأَصْلُهُ مِنَ العتل وهو الدفع بالعنف {بَعْدَ ذَلِكَ} [القلم: 13] أَيْ مَعَ ذَلِكَ يُرِيدُ مَعَ ما وصفناه به، {زَنِيمٍ} [القلم: 13] وَهُوَ الدَّعِيُّ الْمُلْصَقُ بِالْقَوْمِ، وَلَيْسَ منهم، قال عطاء كن ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَعَ هَذَا هُوَ دَعِيٌّ فِي قُرَيْشٍ وَلَيْسَ مِنْهُمْ. قَالَ مُرَّةُ الْهَمْدَانِيُّ: إِنَّمَا ادَّعَاهُ أَبُوهُ بَعْدَ ثَمَانِي عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ: الزَّنِيمُ الَّذِي لَهُ زَنَمَةٌ كَزَنَمَةِ الشَّاةِ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ في هذه الآية: نعت من لا يُعْرَفْ حَتَّى قِيلَ: زَنِيمٌ فَعُرِفَ، وَكَانَتْ لَهُ زَنَمَةً فِي عُنُقِهِ(6/966)
يُعْرَفُ بِهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: يُعْرَفُ بِالشَّرِّ كَمَا تُعْرَفُ الشَّاةُ بِزَنَمَتِهَا. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَا نحلم أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ أَحَدًا وَلَا ذَكَرَ مِنْ عُيُوبِهِ مَا ذَكَرَ مِنْ عُيُوبِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَأَلْحَقَ بِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ في الدنيا والآخرة.
[14] {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ وَيَعْقُوبُ (أَإِنْ) بالاستفهام وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِلَا اسْتِفْهَامٍ عَلَى الْخَبَرِ، فَمَنْ قَرَأَ بِالِاسْتِفْهَامِ فَمَعْنَاهُ: أَلَإِنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ.
[15] {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 15] أَيْ جَعَلَ مُجَازَاةَ النِّعَمِ الَّتِي خُوِّلَهَا مِنَ الْبَنِينَ وَالْمَالِ الْكُفْرَ بِآيَاتِنَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ أَلَإِنْ كَانَ ذَا مَالِ وَبَنِينَ تُطِيعُهُ. وَمَنْ قَرَأَ عَلَى الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ: لَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ لِأَنَّ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ، أَيْ لَا تُطِعْهُ لِمَالِهِ وَبَنِيهِ، {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [القلم: 15]
[قوله تعالى سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ. . .]
[16] ثُمَّ أَوْعَدَهُ فَقَالَ: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} [القلم: 16] الْخُرْطُومُ الْأَنْفُ. قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُجَاهِدٌ: أَيْ نُسَوِّدُ وَجْهَهُ فَنَجْعَلُ لَهُ عَلَمًا فِي الْآخِرَةِ يُعْرَفُ بِهِ وَهُوَ سَوَادُ الْوَجْهِ. قَالَ الفراء: خص الخرطوم بالسمة وأنه فِي مَذْهَبِ الْوَجْهِ لِأَنَّ بَعْضَ الشَّيْءِ يُعَبِّرُ بِهِ عَنْ كُلِّهِ. وقال ابن عباس: سنحطمه بِالسَّيْفِ، وَقَدْ فَعَلَ ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ: سَنُلْحِقُ بِهِ شيئا لا يفارقه، وَقَدْ أَلْحَقَ اللَّهُ بِمَا ذَكَرَ مِنْ عُيُوبِهِ عَارًا لَا يُفَارِقُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، كَالْوَسْمِ عَلَى الْخُرْطُومِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكِسَائِيُّ: سَنَكْوِيهِ على وجهه.
[17 - 18] {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ} [القلم: 17] يَعْنِي اخْتَبَرْنَا أَهْلَ مَكَّةَ بِالْقَحْطِ والجوع، {كَمَا بَلَوْنَا} [القلم: 17] ابتلينا، {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17] بستان باليمن {إِذْ أَقْسَمُوا} [القلم: 17] حلفوا، {لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17] ليقطعن ثَمَرَهَا إِذَا أَصْبَحُوا قَبْلَ أَنْ يعلم المساكين، {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} [القلم: 18] لا يَقُولُونَ: إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
[19] {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ} [القلم: 19] عذاب {مِنْ رَبِّكَ} [القلم: 19] لَيْلًا وَلَا يَكُونُ الطَّائِفُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَكَانَ ذَلِكَ الطَّائِفُ نَارًا نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ فَأَحْرَقَتْهَا، {وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 19]
[20] {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [القلم: 20] كالليل المظلم الأسود، الْأَسْوَدِ بِلُغَةِ خُزَيْمَةَ.
[21] {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} [القلم: 21] نَادَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا لَمَّا أَصْبَحُوا.
[22] {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ} [القلم: 22] يَعْنِي الثِّمَارَ وَالزُّرُوعَ وَالْأَعْنَابَ، {إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} [القلم: 22] قاطعين للنخل.
[23] {فَانْطَلَقُوا} [القلم: 23] مشوا إليها، {وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} [القلم: 23] يَتَسَارُّونَ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ سِرًّا.
[24] {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ - وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ} [القلم: 24 - 25] الْحَرْدُ فِي اللُّغَةِ يَكُونُ بِمَعْنَى الْقَصْدِ وَالْمَنْعِ وَالْغَضَبِ، قَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَأَبُو الْعَالِيَةِ،: عَلَى جِدٍّ وَجَهْدٍ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ وَمُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: على أمر مجتمع قَدْ أَسَّسُوهُ بَيْنَهُمْ، وَهَذَا عَلَى مَعْنَى الْقَصْدِ لِأَنَّ الْقَاصِدَ إِلَى الشَّيْءِ جَادٌّ مُجْمِعٌ عَلَى الْأَمْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَالْقُتَيْبيُّ: غَدَوْا من بيتهم على منع المساكين، وَقَالَ الشَّعْبِيُّ وَسُفْيَانُ: عَلَى حَنَقٍ وَغَضَبٍ مِنَ الْمَسَاكِينِ. وَعَنِ ابْنِ عباس: على قدرة، {قَادِرِينَ} [القلم: 25] عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى جَنَّتِهِمْ وَثِمَارِهَا لَا يَحُولُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُمْ أَحَدٌ.
[26] {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} [القلم: 26] أَيْ لَمَّا رَأَوْا الْجَنَّةَ مُحْتَرِقَةً قَالُوا: إِنَّا لَمُخْطِئُونَ الطَّرِيقَ أَضْلَلْنَا مَكَانَ جَنَّتِنَا لَيْسَتْ هَذِهِ بِجَنَّتِنَا.
[27] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} [القلم: 27] حرمنا خيرها ونفعها لمنعنا الْمَسَاكِينَ وَتَرْكِنَا الِاسْتِثْنَاءَ.(6/967)
[28] {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أعدلهم أعقلهم وَأَفْضَلُهُمْ، {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] هَلَّا تُسْتَثْنُونَ، أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ تَرْكَ الِاسْتِثْنَاءِ فِي قَوْلِهِمْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَسَمَّى الِاسْتِثْنَاءَ تَسْبِيحًا لِأَنَّهُ تَعْظِيمٌ لِلَّهِ وَإِقْرَارٌ بِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا بِمَشِيئَتِهِ. وقيل: هلا تسبحون الله وتقولوا. سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَشْكُرُونَهُ عَلَى مَا أَعْطَاكُمْ. وَقِيلَ: هَلَّا تَسْتَغْفِرُونَهُ مِنْ فعلكم.
[29] {قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} [القلم: 29] نَزَّهُوهُ عَنْ أَنْ يَكُونَ ظَالِمًا فِيمَا فَعَلَ وَأَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالظُّلْمِ فَقَالُوا: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [القلم: 29] بِمَنْعِنَا الْمَسَاكِينَ.
[30] {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} [القلم: 30] يَلُومُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي مَنْعِ الْمَسَاكِينِ حُقُوقَهُمْ وَنَادَوْا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بالويل.
[31] {قَالُوا يا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} [القلم: 31] فِي مَنْعِنَا حَقَّ الْفُقَرَاءِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: طَغَيْنَا نِعَمَ اللَّهِ فَلَمْ نَشْكُرْهَا وَلَمْ نَصْنَعْ مَا صَنَعَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ.
[32] ثُمَّ رَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} [القلم: 32] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: بَلَغَنِي أَنَّ الْقَوْمَ أَخْلَصُوا وَعَرَفَ اللَّهُ مِنْهُمُ الصِّدْقَ فَأَبْدَلَهُمْ بِهَا جنة يقال لها الحيوان.
[33] {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} [القلم: 33] أَيْ كَفِعْلِنَا بِهِمْ نَفْعَلُ بِمَنْ تَعَدَّى حُدُودَنَا وَخَالَفَ أَمْرَنَا، {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 33]
[34] ثُمَّ أَخْبَرَ بِمَا عِنْدَهُ لِلْمُتَّقِينَ فَقَالَ: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [القلم: 34] فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إِنَّا نُعْطَى فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلَ مِمَّا تُعْطَوْنَ. فَقَالَ اللَّهُ تَكْذِيبًا لَهُمْ.
[35- 37] {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ - مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ - أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ} [القلم: 35 - 37] نَزَلَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، {فِيهِ} [القلم: 37] في هذا الكتاب، {تَدْرُسُونَ} [القلم: 37] تقرءون.
[38] {إِنَّ لَكُمْ فِيهِ} [القلم: 38] فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، {لَمَا تَخَيَّرُونَ} [القلم: 38] تَخْتَارُونَ وَتَشْتَهُونَ.
[39] {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ} [القلم: 39] عهود ومواثيق، {عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} [القلم: 39] مُؤَكَّدَةٌ عَاهَدْنَاكُمْ عَلَيْهَا، فَاسْتَوْثَقْتُمْ بِهَا منا فلا تنقطع، {إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} [القلم: 39] الخير والكرامة عند الله.
[40] ثُمَّ قَالَ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} [القلم: 40] كفيل أي أيهم يكفل لَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَا لِلْمُسْلِمِينَ.
[41] {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ} [القلم: 41] أَيْ عِنْدَهُمْ شُرَكَاءُ لِلَّهِ أَرْبَابٌ تَفْعَلُ هَذَا. وَقِيلَ: شُهَدَاءُ يَشْهَدُونَ لَهُمْ بِصِدْقِ مَا يَدَّعُونَهُ. {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} [القلم: 41]
[42] {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42] قِيلَ: عَنْ أَمْرٍ فَظِيعٍ شَدِيدٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ أَشَدُّ سَاعَةٍ فِي الْقِيَامَةِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ: عَنْ شِدَّةِ الْأَمْرِ. وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: تَقُولُ الْعَرَبُ لِلرَّجُلِ إِذَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ عَظِيمٍ يَحْتَاجُ فِيهِ إِلَى الْجِدِّ وَمُقَاسَاةِ الشِّدَّةِ شَمَّرَ عَنْ سَاقِهِ، وَيُقَالُ إِذَا اشْتَدَّ الْأَمْرُ فِي الْحَرْبِ: كشفت الحرب عن ساق. قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] يعني الكفار والمنافقون، تَصِيرُ أَصْلَابُهُمْ كَصَيَاصِيِّ الْبَقَرِ فَلَا يستطيعون السجود.
[قوله تعالى خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا] يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ. . .(6/968)
[43] {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ} [القلم: 43] وَذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرْفَعُونَ رُءُوسَهُمْ مِنَ السُّجُودِ وَوُجُوهُهُمْ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ, وَتَسْوَدُّ وُجُوهُ الْكَافِرِينَ والمنافقين: {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [القلم: 43] يَغْشَاهُمْ ذُلُّ النَّدَامَةِ وَالْحَسْرَةِ، {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم: 43] قَالَ إِبْرَاهِيمُ التَّيْمِيُّ: يَعْنِي إِلَى الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ بِالْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانُوا يَسْمَعُونَ حي على الصلاة حَيَّ عَلَى الْفَلَّاحِ فَلَا يُجِيبُونَ، {وَهُمْ سَالِمُونَ} [القلم: 43] أَصِحَّاءُ فَلَا يَأْتُونَهُ، قَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: وَاللَّهِ مَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ إِلَّا عَنِ الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنِ الْجَمَاعَاتِ.
[44] {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} [القلم: 44] أَيْ فَدَعْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ بِالْقُرْآنِ، وَخَلِّ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَاهُ لَا تَشْغَلْ قَلْبَكَ بِهِ وَكِلْهُ إلي فإني أكفيك أمره، {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ} [القلم: 44] سَنَأْخُذُهُمْ بِالْعَذَابِ، {مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] فَعُذِّبُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
[45 - 48] {وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ - أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ - أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ - فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [القلم: 45 - 48] اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ لِقَضَاءِ رَبِّكَ، {وَلَا تَكُنْ} [القلم: 48] فِي الضَّجَرِ وَالْعَجَلَةِ، {كَصَاحِبِ الْحُوتِ} [القلم: 48] وَهُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى، {إِذْ نَادَى} [القلم: 48] ربه وهو فِي بَطْنِ الْحُوتِ، {وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] مَمْلُوءٌ غَمًّا.
[49] {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ} [القلم: 49] أدركه {نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} [القلم: 49] حِينَ رَحِمَهُ وَتَابَ عَلَيْهِ، {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} [القلم: 49] لَطُرِحَ بِالْفَضَاءِ مِنْ بَطْنِ الْحُوتِ، {وَهُوَ مَذْمُومٌ} [القلم: 49] يذم ويلام بالذنب.
[50 - 51] {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ} [القلم: 50] اصْطَفَاهُ، {فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ - وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ} [القلم: 50 - 51] وَذَلِكَ أَنَّ الْكُفَّارَ أَرَادُوا أَنْ يُصِيبُوا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - بالعين فنظروا إِلَيْهِ قَوْمٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَقَالُوا: مَا رَأَيْنَا مِثْلَهُ وَلَا مِثْلَ حججه، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ يُنْفِذُونَكَ، يقال: زَلِقَ السَّهْمُ إِذَا أُنَفِذَ، قَالَ السُّدِّيُّ: يُصِيبُونَكَ بِعُيُونِهِمْ. قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: يُعِينُونَكَ. وَقِيلَ: يُزِيلُونَكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَصْرَعُونَكَ. وَقِيلَ: يَصْرِفُونَكَ عَمًّا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: لَيْسَ يُرِيدُ أَنَّهُمْ يُصِيبُونَكَ بِأَعْيُنِهِمْ كَمَا يُصِيبُ الْعَائِنُ بِعَيْنِهِ مَا يُعْجِبُهُ، وَإِنَّمَا أَرَادَ أَنَّهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ إِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ نَظَرًا شَدِيدًا بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، يَكَادُ يُسْقِطُكَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي مِنْ شِدَّةِ عَدَاوَتِهِمْ يَكَادُونَ بِنَظَرِهِمْ نَظَرَ الْبَغْضَاءِ أَنْ لصرعوك، وهذا مستعمل في الكلام يَقُولُ الْقَائِلُ: نَظَرَ إِلَيَّ نَظَرًا يَكَادُ يَصْرَعُنِي، وَنَظَرًا يَكَادُ يَأْكُلُنِي، يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّهُ قَرَنَ هَذَا النَّظَرَ بِسَمَاعِ الْقُرْآنِ. وَهُوَ قَوْلُهُ: {لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ} [القلم: 51] وَهْمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ أَشَدَّ الْكَرَاهِيَةِ فَيُحِدُّونَ إِلَيْهِ النَّظَرَ بِالْبَغْضَاءِ، {وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} [القلم: 51] أي ينسبونه لجنون إِذَا سَمِعُوهُ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ.
[52] فَقَالَ الله - تعالى -: {وَمَا هُوَ} [القلم: 52] يَعْنِي الْقُرْآنَ، {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 52] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَوْعِظَةٌ(6/969)
لِلْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْحَسَنُ: دَوَاءُ إِصَابَةِ الْعَيْنِ أَنْ يَقْرَأَ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الآية.
[سورة الحاقة]
[قوله تعالى الحاقة ما الحاقة. . .]
(69) سورة الحاقة [1] {الْحَاقَّةُ} [الْحَاقَّةُ: 1] يَعْنِي الْقِيَامَةَ سُمِّيَتْ حَاقَّةً لِأَنَّهَا حَقَّتْ فَلَا كَاذِبَةَ لَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّ فِيهَا حَوَاقُّ الْأُمُورِ وَحَقَائِقُهَا، وَلِأَنَّ فِيهَا يَحِقُّ الْجَزَاءُ عَلَى الْأَعْمَالِ، أَيْ يَجِبُ، يُقَالُ: حَقَّ عَلَيْهِ الشَّيْءُ إِذَا وَجَبَ يحق حقوقا.
[2] {مَا الْحَاقَّةُ} [الْحَاقَّةُ: 2] هَذَا اسْتِفْهَامٌ مَعْنَاهُ التَّفْخِيمُ لِشَأْنِهَا، كَمَا يُقَالُ: زَيْدٌ مَا زَيدٌ، عَلَى التَّعْظِيمِ لِشَأْنِهِ.
[3] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} [الْحَاقَّةُ: 3] أَيْ أَنَّكَ لَا تَعْلَمُهَا إِذْ لَمْ تُعَايِنْهَا وَلَمْ تَرَ مَا فِيهَا مِنَ الْأَهْوَالِ.
[4] {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة: 4] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ: بِالْقِيَامَةِ، سُمِّيَتْ قَارِعَةً لِأَنَّهَا تَقْرَعُ قُلُوبَ الْعِبَادِ بِالْمَخَافَةِ. وَقِيلَ: كَذَّبَتْ بِالْعَذَابِ الَّذِي أَوْعَدَهُمْ نَبِيُّهُمْ حَتَّى نَزَلَ بِهِمْ فَقَرَعَ قُلُوبَهُمْ.
[5] {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5] أَيْ بِطُغْيَانِهِمْ وَكُفْرِهِمْ. قِيلَ: هِيَ مصدر، وقيل: نعت، أي بأفعالهم الطَّاغِيَةِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ، كَمَا قَالَ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشَّمْسِ: 11] وَقَالَ قَتَادَةُ: بِالصَّيْحَةِ الطَّاغِيَةِ، وَهِيَ الَّتِي جَاوَزَتْ مَقَادِيرَ الصِّيَاحِ فأهلكتهم.
[6] {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} [الحاقة: 6] عَتَتْ عَلَى خُزَّانِهَا فَلَمْ تُطِعْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ عَلَيْهَا سَبِيلٌ، وَجَاوَزَتِ الْمِقْدَارَ فَلَمْ يَعْرِفُوا كَمْ خرج منها.
[7] {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ} [الحاقة: 7] أَرْسَلَهَا عَلَيْهِمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: سَلَّطَهَا عَلَيْهِمْ. {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ} [الحاقة: 7] قَالَ وَهْبٌ: هِيَ الْأَيْامُ الَّتِي تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ أَيْامَ الْعَجُوزِ ذَاتُ بَرْدٍ وَرِيَاحٍ شَدِيدَةٍ. قِيلَ: سُمِّيَتْ عجوزا لأنها عَجُزِ الشِّتَاءِ. وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ عَجُوزًا مِنْ قَوْمِ عَادٍ دَخَلَتْ سِرْبًا فَتَبِعَتْهَا الرِّيحُ، فَقَتَلَتْهَا الْيَوْمَ الثَّامِنَ مِنْ نزولِ الْعَذَابِ وانقطع العذاب.
{حُسُومًا} [الحاقة: 7] قَالَ مُجَاهِدُ وَقَتَادَةُ: مُتَتَابِعَةً لَيْسَ فيها فترة، فعلى هذا هو حَسْمِ الْكَيِّ، وَهُوَ أَنْ يُتَابَعَ على موضع الداء بالمكوة حَتَّى يَبْرَأَ، ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ شَيْءٍ تُوبِعَ: حَاسِمٌ، وَجَمْعُهُ حُسُومٌ، مِثْلَ شَاهِدٍ وَشُهُودٌ، وَقَالَ الْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: حُسُومًا دَائِمَةً. وَقَالَ النَّضِرُ بْنُ شُمَيْلٍ: حَسَمَتْهُمْ قَطَعَتْهُمْ وَأَهْلَكَتْهُمْ، وَالْحَسْمُ: الْقَطْعُ وَالْمَنْعُ وَمِنْهُ حَسْمُ الداء. قال الزجاج: أي تَحْسِمُهُمْ حُسُومًا تُفْنِيهِمْ وَتُذْهِبْهُمْ. وَقَالَ عطية: شؤما كَأَنَّهَا حَسَمَتِ الْخَيْرَ عَنْ أَهْلِهَا.
{فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا} [الحاقة: 7] أَيْ فِي تِلْكَ اللَّيَالِي وَالْأَيْامِ، {صَرْعَى} [الحاقة: 7] هَلْكَى جَمْعُ صَرِيعٍ، {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] سَاقِطَةٍ، وَقِيلَ: خَالِيَةِ الْأَجْوَافِ.
[8] {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 8] أَيْ مِنْ نَفْسٍ بَاقِيَةٍ يَعْنِي لم يبق منهم أحد.
[قوله تعالى وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ] بِالْخَاطِئَةِ. . .
[9] {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ} [الحاقة: 9] قَرَأَ أَهْلُ الْبَصْرَةِ وَالْكِسَائِيُّ: بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْبَاءِ أَيْ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ جُنُودِهِ وَأَتْبَاعِهِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ. أَيْ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْأُمَمِ الكافرة، {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} [الحاقة: 9] يعني أَيْ قُرَى قَوْمِ لُوطٍ يُرِيدُ أَهَّلَ الْمُؤْتَفِكَاتِ. وَقِيلَ: يُرِيدُ الْأُمَمَ الذين ائتفكوا بخطيئتهم، {بِالْخَاطِئَةِ} [الحاقة: 9] أَيْ بِالْخَطِيئَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَهِيَ الشِّرْكُ.
[10] {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} [الحاقة: 10] يَعْنِي لُوطًا وَمُوسَى، {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} [الحاقة: 10] نَامِيَةً، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا -: شَدِيدَةً. وَقِيلَ: زَائِدَةً عَلَى عَذَابِ الْأُمَمِ.
[11] {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ} [الحاقة: 11] أَيْ عَتَا وَجَاوَزَ حَدَّهُ حَتَّى عَلَا عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَارْتَفَعَ فَوْقَهُ يَعْنِي زَمَنَ نُوحٍ عَلَيْهِ السلام، {حَمَلْنَاكُمْ} [الحاقة: 11] أَيْ حَمَلْنَا آبَاءَكُمْ وَأَنْتُمْ(6/970)
في أصلابهم، {فِي الْجَارِيَةِ} [الحاقة: 11] فِي السَّفِينَةِ الَّتِي تَجْرِي فِي الماء.
[12] {لِنَجْعَلَهَا} [الحاقة: 12] أَيْ لِنَجْعَلَ تِلْكَ الْفَعْلَةَ الَّتِي فَعَلْنَا مِنْ إِغْرَاقِ قَوْمِ نُوحٍ وَنَجَاةِ مَنْ حَمَلْنَا مَعَهُ، {لَكُمْ تَذْكِرَةً} [الحاقة: 12] عبرة وعظة {وَتَعِيَهَا} [الحاقة: 12] أي تحفظها، {أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} [الحاقة: 12] أَيْ حَافِظَةٌ لِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. قَالَ قَتَادَةُ: أُذُنٌ سَمِعَتْ وَعَقَلَتْ مَا سَمِعَتْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لِتَحْفَظَهَا كُلُّ أُذُنٍ فَتَكُونُ عِبْرَةً وَمَوْعِظَةً لِمَنْ يَأْتِي بَعْدُ.
[13] {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] وَهِيَ النَّفْخَةُ الْأُولَى.
[14] {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [الحاقة: 14] رفعت أماكنها، {فَدُكَّتَا} [الحاقة: 14] كسرتا، {دَكَّةً} [الحاقة: 14] كسرة، {وَاحِدَةً} [الحاقة: 14] فَصَارَتَا هَبَاءً مَنْثُورًا.
[15] {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} [الحاقة: 15] قَامَتِ الْقِيَامَةُ.
[16] {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 16] ضَعِيفَةٌ قَالَ الْفَرَّاءُ. وَهْيُهَا تَشَقُّقُهَا.
[17] {وَالْمَلَكُ} [الحاقة: 17] يعني الملائكة، {عَلَى أَرْجَائِهَا} [الحاقة: 17] نَوَاحِيهَا، وَأَقْطَارِهَا مَا لَمْ يَنْشَقَّ منها، وأحدها رجا وَتَثْنِيَتُهُ رِجَوَانِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: تَكُونُ الملائكة على حافاتها حَتَّى يَأْمُرَهُمُ الرَّبُّ فَيَنْزِلُونَ فَيُحِيطُونَ بِالْأَرْضِ وَمَنْ عَلَيْهَا. {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ} [الحاقة: 17] أَيْ فَوْقَ رُءُوسِهِمْ يَعْنِي الْحَمْلَةَ، {يَوْمَئِذٍ} [الحاقة: 17] يوم القيامة، {ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] أي ثمانية أملاك. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ أَيْ ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ.
[18] {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} [الحاقة: 18] على الله، {لَا تَخْفَى} [الحاقة: 18] قرأ بِالْيَاءِ, وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالتَّاءِ، {مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18] أَيْ فِعْلَةٌ خَافِيَةٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْكُمْ شَيْءٌ. قَالَ أَبُو مُوسَى: يُعْرَضُ النَّاسُ ثَلَاثَ عَرَضَاتٍ، فَأَمَّا عَرْضَتَانِ فَجِدَالٌ وَمَعَاذِيرُ، وَأَمَّا الْعَرْضَةُ الثَّالِثَةُ فَعِنْدَهَا تَطَايُرُ الصُّحُفِ فَآخِذٌ بِيَمِينِهِ وَآخِذٌ بِشَمَالِهِ.
[19] وَذَلِكَ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] الهاء في {كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 19] هاء الوقف.
[20] {إِنِّي ظَنَنْتُ} [الحاقة: 20] عَلِمْتُ وَأَيْقَنْتُ، {أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 20] أي أُحَاسَبُ فِي الْآخِرَةِ.
[21] {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ} [الحاقة: 21] يعني حالة من العيش، {رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] مرضية.
[22] {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة: 22] رفيعة.
[23] {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23] ثمارها قريبة لمن يتناولها يَنَالُهَا قَائِمًا وَقَاعِدًا وَمُضْطَجِعًا يَقْطَعُونَ كَيْفَ شَاءُوا.
[24] وَيُقَالُ لَهُمْ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ} [الحاقة: 24] قَدَّمْتُمْ لِآخِرَتِكُمْ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، {فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] الْمَاضِيَةِ يُرِيدُ أَيْامَ الدُّنْيَا.(6/971)
[25] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ} [الحاقة: 25] قَالَ ابْنُ السَّائِبِ: تُلْوَى يَدُهُ اليسرى خَلْفَ ظَهْرِهِ ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَهُ. وَقِيلَ: تُنْزَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى مِنْ صَدْرِهِ إِلَى خَلْفِ ظَهْرِهِ ثُمَّ يعطى كتابه. {فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} [الحاقة: 25] يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُؤْتَ كِتَابَهُ لِمَا يَرَى فِيهِ مِنْ قَبَائِحِ أعماله.
[26 - 27] {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ - يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} [الحاقة: 26 - 27] يَقُولُ: يَا لَيْتَ الْمَوْتَةَ الَّتِي مُتُّهَا فِي الدُّنْيَا كَانَتِ الْقَاضِيَةُ مِنْ كُلِّ مَا بَعْدَهَا، وَالْقَاطِعَةُ للحياة، فلم أحي بعدها. والقاضية موت لا حياة بعدها، يَتَمَنَّى أَنَّهُ لَمْ يُبْعَثْ لِلْحِسَابِ. قال قتادة: يتمنى الموت وإن لم يَكُنْ عِنْدَهُ فِي الدُّنْيَا شَيْءٌ أَكْرَهَ مِنَ الْمَوْتِ.
[28] {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ} [الحاقة: 28] لَمْ يَدْفَعْ عَنِّي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْئًا.
[29] {هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} [الحاقة: 29] ضَلَّتْ عَنِّي حُجَّتِي، عَنْ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: زَالَ عَنِّي مِلْكِي وَقُوَّتِي. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي حِينَ شَهِدَتْ عَلَيْهِ الْجَوَارِحُ بِالشِّرْكِ. يَقُولُ اللَّهُ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ:
[30] {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ} [الحاقة: 30] اجْمَعُوا يَدَهُ إِلَى عُنُقِهِ.
[31] {ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ} [الحاقة: 31] أَيْ أَدْخِلُوهُ الْجَحِيمَ.
[32] {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} [الحاقة: 32] فَأَدْخِلُوهُ فِيهَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: سبعون ذراعا بذراع الملك، فيدخل في دبره ويخرج من منخره. وقيل: يدخل في فيه ويخرج من دبره.
[33 - 34] {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ - وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الحاقة: 33 - 34] لَا يُطْعِمُ الْمِسْكِينَ فِي الدُّنْيَا ولا يأمر أهله بذلك.
[قوله تعالى فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ] إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ. . .
[35] {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} [الحاقة: 35] قَرِيبٌ يَنْفَعُهُ وَيَشْفَعُ لَهُ.
[36] {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} [الحاقة: 36] وَهُوَ صَدِيدُ أَهْلِ النَّارِ مَأْخُوذٌ مِنَ الْغَسْلِ كَأَنَّهُ غُسَالَةُ جُرُوحِهِمْ وَقُرُوحِهِمْ. قَالَ الضَّحَّاكُ وَالرَّبِيعُ: هُوَ شَجَرٌ يَأْكُلُهُ أَهْلُ النَّارِ.
[37] {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} [الحاقة: 37] أي الكافرون. 38,
[39] {فَلَا أُقْسِمُ} [الحاقة: 38] (لَا) رَدٌّ لِكَلَامِ الْمُشْرِكِينَ كَأَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ كَمَا يَقُولُ الْمُشْرِكُونَ أُقْسِمُ، {بِمَا تُبْصِرُونَ - وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38 - 39] أَيْ بِمَا تَرَوْنَ وَبِمَا لَا تَرَوْنَ. قَالَ قَتَادَةُ: أَقْسَمَ بِالْأَشْيَاءِ كلها فيدخل فيه جميع المكونات وَالْمَوْجُودَاتِ. وَقَالَ: أَقْسَمَ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَقِيلَ: مَا تُبْصِرُونَ مَا عَلَى وجه الأرض وما لَا تُبْصِرُونَ مَا فِي بَطْنِهَا. وقيل: ما تُبْصِرُونَ مِنَ الْأَرْوَاحِ. وَقِيلَ: مَا تبصرون: الإنس وما لَا تُبْصِرُونَ: الْمَلَائِكَةُ وَالْجِنُّ. وَقِيلَ: النِّعَمُ الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ. وَقِيلَ: مَا تُبْصِرُونَ: مَا أَظْهَرَ اللَّهُ لِلْمَلَائِكَةِ واللوح والقلم، وما لَا تُبْصِرُونَ مَا اسْتَأْثَرَ بِعِلْمِهِ فَلَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أَحَدًا.
[40] {إِنَّهُ} [الحاقة: 40] يَعْنِي الْقُرْآنَ، {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 40] أَيْ تِلَاوَةُ رَسُولٍ كَرِيمٍ يَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 41,
[42] {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ - وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} [الحاقة: 41 - 42] قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ (يُؤْمِنُونَ، وَيَذْكُرُونَ) بِالْيَاءِ فِيهِمَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِالتَّاءِ، وَأَرَادَ بِالْقَلِيلِ نَفْيَ إِيمَانِهِمْ أَصْلًا كَقَوْلِكَ لِمَنْ لا يزور: قَلَّمَا تَأْتِينَا، وَأَنْتَ تُرِيدُ لَا تَأْتِينَا أَصْلًا. 43,
[44] {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ - وَلَوْ تَقَوَّلَ} [الحاقة: 43 - 44] تخرص واختلق، {عَلَيْنَا} [الحاقة: 44] محمد، {بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ} [الحاقة: 44] وَأَتَى بِشَيْءٍ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ.
[45] {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45] قِيلَ (مِنْ) صِلَةٌ، مَجَازُهُ: لَأَخَذْنَاهُ وَانْتَقَمْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أَيْ بِالْحَقِّ، كَقَوْلِهِ: (كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ) ، أَيْ مِنْ قِبَلِ الْحَقِّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَخَذْنَاهُ بِالْقُوَّةِ وَالْقُدْرَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَأَخَذْنَا بِيَدِهِ الْيُمْنَى، وَهُوَ مِثْلُ مَعْنَاهُ. لَأَذْلَلْنَاهُ، وَأَهَنَّاهُ كَالسُّلْطَانِ، إِذَا أَرَادَ الِاسْتِخْفَافَ بِبَعْضِ من بين يديه، يَقُولُ لِبَعْضِ أَعْوَانِهِ: خُذْ بِيَدِهِ فَأَقِمْهُ.
[46] {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} [الحاقة: 46] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ(6/972)
نِيَاطَ الْقَلْبِ، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الْحَبْلُ الَّذِي فِي الظَّهْرِ. وَقِيلَ: هُوَ عِرْقٌ يَجْرِي فِي الظَّهْرِ حَتَّى يَتَّصِلَ بِالْقَلْبِ، فَإِذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ.
[47] {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] مَانِعِينَ يَحْجِزُونَنَا عَنْ عُقُوبَتِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنْ مُحَمَّدًا لَا يَتَكَلَّفُ الْكَذِبَ لِأَجْلِكُمْ، مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ لَوْ تكلمه لَعَاقَبْنَاهُ، وَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى دَفْعِ عُقُوبَتِنَا عَنْهُ، وَإِنَّمَا قَالَ: {حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] بِالْجَمْعِ وَهُوَ فِعْلٌ وَاحِدٌ ردًا عَلَى مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ: {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [الْبَقَرَةِ: 285]
[48] {وَإِنَّهُ} [الحاقة: 48] يعني القرآن، {لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 48] أَيْ لَعِظَةٌ لِمَنِ اتَّقَى عِقَابَ اللَّهِ. 49,
[50] {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ - وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} [الحاقة: 49 - 50] يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَنْدَمُونَ عَلَى تَرْكِ الْإِيمَانِ بِهِ.
[51] {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} [الحاقة: 51] أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ.
[52] {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 52]
[سورة المعارج]
[قوله تعالى سَأَلَ سَائِلٌ بعذاب واقع. . .]
(70) سورة المعارج [1] {سَأَلَ سَائِلٌ} [المعارج: 1] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ (سَالَ) بِغَيْرِ هَمْزٍ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِالْهَمْزِ، فَمَنْ هَمَزَ فَهُوَ مِنَ السُّؤَالِ، وَمَنْ قَرَأَ بِغَيْرِ هَمْزٍ قِيلَ: هُوَ لُغَةٌ فِي السُّؤَالِ، يُقَالُ: سَالَ يَسَالُ مَثَلُ خَافَ يَخَافُ، وقيل: هو من السيل، وسال وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ جَهَنَّمَ، يُرْوَى ذَلِكَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: {بِعَذَابٍ} [المعارج: 1] قِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى (عَنْ) كَقَوْلِهِ: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} [الْفُرْقَانِ: 59] أَيْ عَنْهُ خَبِيرًا، وَمَعْنَى الْآيَةِ سَأَلَ سائل عن عذاب، {وَاقِعٍ} [المعارج: 1] نَازِلٍ كَائِنٍ عَلَى مَنْ يُنَزَّلْ، وَلِمَنْ ذَلِكَ الْعَذَابُ.
[2] فَقَالَ اللَّهُ مُبِينًا مُجِيبًا لِذَلِكَ السَّائِلِ: {لِلْكَافِرينَ} [المعارج: 2] وَذَلِكَ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ لَمَّا خَوَّفَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَذَابِ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: من أهل الْعَذَابِ؟ وَلِمَنْ هُوَ؟ سَلُوا عَنْهُ مُحَمَّدًا فَسَأَلُوهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ - لِلْكَافِرينَ} [المعارج: 1 - 2] أَيْ هُوَ لِلْكَافِرِينَ، هَذَا قَوْلُ الحسن وقتادة. وقيل: التاء صِلَةٌ وَمَعْنَى الْآيَةِ: دَعَا دَاعٍ وَسَأَلَ سَائِلٌ عَذَابًا وَاقِعًا لِلْكَافِرِينَ أَيْ عَلَى الْكَافِرِينَ، اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى، وَهُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ حَيْثُ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ وَسَأَلَ الْعَذَابَ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، الآية، فَنَزَلَ بِهِ مَا سَأَلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَقُتِلَ صَبْرًا. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ. {لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} [المعارج: 2]
[3] {مِنَ اللَّهِ} [المعارج: 3] أي بعذاب من الله، {ذِي الْمَعَارِجِ} [الْمَعَارِجِ: 3] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ ذِي السَّمَاوَاتِ، سَمَّاهَا مَعَارِجَ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَعْرُجُ فِيهَا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ذِي الدَّرَجَاتِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: ذِي الْفَوَاضِلِ وَالنِّعَمِ، وَمَعَارِجُ الملائكة.(6/973)
[4] {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [المعارج: 4] يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {إِلَيْهِ} [المعارج: 4] أَيْ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] من سني الدنيا. قال عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَأَرَادَ أَنَّ مَوْقِفَهُمْ لِلْحِسَابِ حَتَّى يُفْصَلُ بَيْنَ النَّاسِ خَمْسُونَ أَلْفَ سَنَةٍ مِنْ سِنِي الدُّنْيَا. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لَوْ وَلِيَ مُحَاسَبَةَ الْعِبَادِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ غَيْرُ الله لم يفرغ منه في خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ عَطَاءٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ومقاتل.
[5] {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} [المعارج: 5] يَا مُحَمَّدُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ يُؤْمَرَ بِالْقِتَالِ.
[6, 7] {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا} [المعارج: 6] يعني العذاب، {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} [المعارج: 7] لِأَنَّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ وهو يوم القيامة.
[8] {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} [المعارج: 8] كَعَكِرِ الزَّيْتِ. وَقَالَ الْحَسَنُ. كَالْفِضَّةِ إِذَا أُذِيبَتْ.
[9] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [المعارج: 9] كَالصُّوفِ الْمَصْبُوغِ. وَلَا يُقَالُ عِهْنٌ إِلَّا لِلْمَصْبُوغِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَالصُّوفِ المنفوش.
[10] {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} [المعارج: 10] قَرَأَ الْبَزِّيُّ عَنْ ابْنِ كَثِيرٍ (لَا يُسْأَلُ) بِضَمِّ الْيَاءِ أَيْ لَا يُسْأَلُ حَمِيمٌ عَنْ حَمِيمٍ، أَيْ لَا يُقَالُ لَهُ: أَيْنَ حَمِيمُكَ؟ وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ، أَيْ لَا يَسْأَلُ قَرِيبٌ قَرِيبًا لشغله بشأن نفسه.
[قوله تعالى يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ] عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ. . .
[11] {يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج: 11] يَرَوْنَهُمْ وَلَيْسَ فِي الْقِيَامَةِ مَخْلُوقٌ إِلَّا وَهُوَ نُصْبُ عَيْنِ صَاحِبِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فَيُبْصِرُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأَخَاهُ وَقَرَابَتَهُ فَلَا يَسْأَلُهُ، وَيُبَصَّرُ حَمِيمَهُ فَلَا يُكَلِّمُهُ لِاشْتِغَالِهِ بِنَفْسِهِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَتَعَارَفُونَ سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ ثُمَّ لَا يَتَعَارَفُونَ بَعْدَهُ. وَقِيلَ: يُبَصَّرُونَهُمْ يُعَرَّفُونَهُمْ أَيْ يُعَرَّفُ الْحَمِيمُ حَمِيمَهُ حَتَّى يَعْرِفَهُ، وَمَعَ ذَلِكَ لَا يَسْأَلُهُ عن شأنه لشغله بنفسه.
{يَوَدُّ الْمُجْرِمُ} [المعارج: 11] يَتَمَنَّى الْمُشْرِكُ، {لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ} [المعارج: 11]
[12 - 13] {وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ - وَفَصِيلَتِهِ} [المعارج: 12 - 13] عَشِيرَتِهِ الَّتِي فَصَلَ مِنْهُمْ. وَقَالَ مجاهد: قبيلته. وقال غيره: أقربائه الأقربين. {الَّتِي تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] أي تَضُمُّهُ وَيَأْوِي إِلَيْهَا.
[14] {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ} [المعارج: 14] يود لو يفتدي بهم جميعا، {ثُمَّ يُنْجِيهِ} [المعارج: 14] ذلك الفداء من عذاب الله.
[15] {كَلَّا} [المعارج: 15] لَا يُنْجِيهِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ شَيْءٌ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {إِنَّهَا لَظَى} [المعارج: 15] وَهِيَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. وقيل: هِيَ الدِّرَكَةُ الثَّانِيَةُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَتَلَظَّى أَيْ تَتَلَهَّبُ.
[16] {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} [المعارج: 16] وهي الأطراف: اليدان، والرجلان، والأطراف. وقال مُجَاهِدٌ: لِجُلُودِ الرَّأْسِ. وَرَوَى إِبْرَاهِيمُ بن المهاجر عنه: اللَّحْمَ(6/974)
دُونَ الْعِظَامِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: تَنْزِعُ النَّارُ الْأَطْرَافَ فَلَا تَتْرُكُ لَحْمًا وَلَا جِلْدًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: تَنْزِعُ الجلد واللحم عن العظام.
[17] {تَدْعُو} [المعارج: 17] النَّارُ إِلَى نَفْسِهَا، {مَنْ أَدْبَرَ} [المعارج: 17] على الإيمان، {وَتَوَلَّى} [المعارج: 17] عَنِ الْحَقِّ فَتَقُولُ إِلَيَّ يَا مُشْرِكُ، إِلَيَّ يَا مُنَافِقُ، إِلَيَّ إِلَيَّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَدْعُو الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ بِأَسْمَائِهِمْ بِلِسَانٍ فَصِيحٍ ثُمَّ تَلْتَقِطُهُمْ كَمَا يَلْتَقِطُ الطَّيْرُ الحب.
[18] {وَجَمَعَ} [المعارج: 18] أي جمع المال، {فَأَوْعَى} [المعارج: 18] أَمْسَكَهُ فِي الْوِعَاءِ وَلَمْ يُؤَدِّ حَقَّ اللَّهِ مِنْهُ.
[19] {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} [المعارج: 19] رَوَى السُّدِّيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْهَلُوعُ الْحَرِيصُ عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: شَحِيحًا. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: ضَجُورًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْحَسَنُ: بَخِيلًا. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَزُوعًا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: ضَيِّقَ الْقَلْبِ. وَالْهَلَعُ. شِدَّةُ الْحِرْصِ، وَقِلَّةُ الصَّبْرِ. وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: تَفْسِيرُهُ مَا بَعْدَهُ. 20,
[21] وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا - وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 20 - 21] يعني إِذَا أَصَابَهُ الْفَقْرُ لَمْ يَصْبِرْ، وإذا أصابه المال لم ينفق.
[22] ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 22] استثنى الجمع من الواحد لِأَنَّ الْإِنْسَانَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ.
[23] {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 23] يُقِيمُونَهَا فِي أَوْقَاتِهَا يَعْنِي الْفَرَائِضَ.
[قوله تعالى وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ] وَالْمَحْرُومِ. . .
[24- 33] {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ - لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ - وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ - وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ - إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} [المعارج: 24 - 28] {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المعارج: 29] {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ - فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ - وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} [المعارج: 30 - 33] أي يقومون فيها بالحق ولا يَكْتُمُونَهَا وَلَا يُغَيِّرُونَهَا.
[34 - 35] {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ - أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} [المعارج: 34 - 35]
[36] {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [المعارج: 36] أَيْ فَمَا بَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا، كَقَوْلِهِ: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] {قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} [المعارج: 36] مُسْرِعِينَ مُقْبِلِينَ إِلَيْكَ مَادِّي أَعْنَاقِهِمْ وَمُدِيمِي النَّظَرِ إِلَيْكَ مُتَطَلِّعِينَ نَحْوَكَ، نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْكُفَّارِ كَانُوا يَجْتَمِعُونَ حَوْلَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْتَمِعُونَ كَلَامَهُ وَيَسْتَهْزِئُونَ بِهِ وَيُكَذِّبُونَهُ، فَقَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: مَا لَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَيَجْلِسُونَ عِنْدَكَ وَهُمْ لَا يَنْتَفِعُونَ بِمَا يَسْتَمِعُونَ.
[37] {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} [المعارج: 37] حلقا وفرقا.
[38] {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ} [المعارج: 38] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَعْنَاهُ أَيَطْمَعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخُلَ جَنَّتِي كَمَا يُدْخُلُهَا الْمُسْلِمُونَ وَيَتَنَعَّمَ فيها وقد كذب نبي؟
[39] {كَلَّا} [المعارج: 39] لا يدخلها، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} [المعارج: 39] أَيْ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ، نَبَّهَ النَّاسَ عَلَى أَنَّهُمْ خُلِقُوا مِنْ أَصْلٍ وَاحِدٍ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُونَ وَيَسْتَوْجِبُونَ الجنة بالإيمان والطاعة.
[40 - 41] {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} [المعارج: 40] يَعْنِي مَشْرِقَ كُلِّ يَوْمٍ مِنْ السَّنَةِ وَمَغْرِبَهُ، {إِنَّا لَقَادِرُونَ - عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} [المعارج: 40 - 41] عَلَى أَنْ نَخْلُقَ أَمْثَلَ مِنْهُمْ وأطوع لله، {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج: 41]
[42] {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا} [المعارج: 42] في باطلهم، {وَيَلْعَبُوا} [المعارج: 42] فِي دُنْيَاهُمْ، {حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [المعارج: 42] نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ.
[43] {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ} [المعارج: 43] أي القبور، {سِرَاعًا} [المعارج: 43] إِلَى إِجَابَةِ الدَّاعِي، {كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ} [المعارج: 43] قرأ ابن عامر وَحَفْصٌ (نُصُبٍ) بِضَمِّ النُّونِ وَالصَّادِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الصَّادِ، يَعْنُونَ إِلَى شَيْءٍ مَنْصُوبٍ، يُقَالُ: فَلَانٌ نَصْبَ عَيْنِي. وَقَالَ الكلبي: إلى علم ودراية. وَمَنْ قَرَأَ بِالضَّمِّ قَالَ(6/975)
مُقَاتِلٌ وَالْكِسَائِيُّ: يَعْنِي إِلَى أَوْثَانِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَهَا مِنْ دُونِ الله. قَالَ الْحَسَنُ: يُسْرِعُونَ إِلَيْهَا أَيُّهُمْ يستلمها أولا {يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] أي يسرعون.
[44] {خَاشِعَةً} [المعارج: 44] ذليلة خاصعة {أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [المعارج: 44] يَغْشَاهُمْ هَوَانٌ، {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [المعارج: 44] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
[سُورَةُ نُوحٍ]
[قوله تعالى إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ] قَوْمَكَ. . .
(71) سورة نوح [1] {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} [نوح: 1] بِأَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ، {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1] الْمَعْنَى: إِنَّا أَرْسَلْنَاهُ لِيُنْذِرَهُمْ بِالْعَذَابِ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا.
[2] {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح: 2] أنذركم وأبين لكم.
[3 - 4] {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ - يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 3 - 4] (مِنْ) صِلَةٌ أَيْ يَغْفِرْ لَكُمْ دنوبكم. وَقِيلَ: يَعْنِي مَا سَلَفَ مِنْ ذُنُوبِكُمْ إِلَى وَقْتِ الْإِيمَانِ، وَذَلِكَ بَعْضُ ذُنُوبِهِمْ، {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} [نوح: 4] أن يعافيكم إلى منتهى آجالهم فَلَا يُعَاقِبْكُمْ، {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [نوح: 4] يَقُولُ آمِنُوا قَبْلَ الْمَوْتِ، تَسْلَمُوا من العذاب، فإن أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ وَلَا يُمْكِنُكُمُ الْإِيمَانُ.
[5 - 6] {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا - فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} [نوح: 5 - 6] نِفَارًا وَإِدْبَارًا عَنِ الْإِيمَانِ وَالْحَقِّ.
[7] {وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ} [نوح: 7] إِلَى الْإِيمَانِ بِكَ، {لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [نوح: 7] لِئَلَّا يَسْمَعُوا دَعْوَتِي، {وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] غَطَّوْا بِهَا وُجُوهَهُمْ لِئَلَّا يَرَوْنِي، {وَأَصَرُّوا} [نوح: 7] على كفرهم، {وَاسْتَكْبَرُوا} [نوح: 7] عن الإيمان بك، {اسْتِكْبَارًا} [نوح: 7]
[8] {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا} [نوح: 8] مُعْلِنًا: بِالدُّعَاءِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بِأَعْلَى صَوْتِي.
[9] {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ} [نوح: 9] أي كَرَّرْتُ الدُّعَاءَ مُعْلِنًا، {وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا} [نوح: 9] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الرَّجُلَ بَعْدَ الرَّجُلِ، أُكَلِّمُهُ سِرًا بَيْنِي وَبَيْنَهُ، أَدْعُوهُ إِلَى عِبَادَتِكَ وَتَوْحِيدِكَ.
[قوله تعالى يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيُمْدِدْكُمْ] بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا. . .
[10 - 11] {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا - يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 10 - 11] وَذَلِكَ أَنْ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوهُ زَمَانًا طَوِيلًا حَبَسَ اللَّهُ عَنْهُمُ الْمَطَرَ وَأَعَقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ أربعين سنة، فهلكت أولادهم وأموالهم وَمَوَاشِيهِمْ، فَقَالَ لَهُمْ نُوحٌ: اسْتَغْفَرُوا رَبَّكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، أَيِ اسْتَدْعَوْا الْمَغْفِرَةَ بِالتَّوْحِيدِ، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مدرارا. 12,
[13] {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12] قَالَ عَطَاءٌ: يُكَثِّرْ أَمْوَالَكُمْ وَأَوْلَادَكُمْ {وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا - مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} [نوح: 12 - 13] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: لَا تَرَوْنَ لِلَّهِ عَظَمَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ:(6/976)
مَا لَكَمَ لَا تُعَظِّمُونَ اللَّهَ حَقَّ عَظَمَتِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا تخافون الله حق عظمته. والرجاء: بمعنى الخوف، والوقار. العفة، اسْمٌ مِنَ التَّوْقِيرِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ. قَالَ: الْحَسَنُ: لَا تَعْرِفُونَ لِلَّهِ حَقًا وَلَا تَشْكُرُونَ لَهُ نِعْمَةً. قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: مَا لَكَمَ لَا تَرْجُونَ فِي عِبَادَةِ اللَّهِ أَنْ يُثِيبَكُمْ عَلَى تَوْقِيرِكُمْ إِيَّاهُ خيرا.
[14] {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا} [نوح: 14] تارات، حال بَعْدَ حَالٍ نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً إِلَى تَمَامِ الْخَلْقِ.
[15] {أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا - وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 15 - 16] قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي فِي السَّمَاءِ الدُّنْيَا، كَمَا يُقَالُ: أَتَيْتُ بَنِي تَمِيمٍ وَإِنَّمَا أَتَى بَعْضَهُمْ، وَفُلَانٌ مُتَوَارٍ فِي دُورِ بَنِي فُلَانٍ وهو في دار واحدة.
[16] {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا} [نوح: 16] مِصْبَاحًا مُضِيئًا.
[17] {وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا} [نوح: 17] أراد مبدأ خلق أبي البشر آدَمَ خَلَقَهُ مِنَ الْأَرْضِ، وَالنَّاسُ ولده، قوله: (نَبَاتًا) اسْمٌ جُعِلَ فِي مَوْضِعِ المصدر أي نباتا قَالَ الْخَلِيلُ: مَجَازُهُ: أَنْبَتَكُمْ فَنَبَتُّمْ نباتا.
[18] {ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا} [نوح: 18] بعد الموت، {وَيُخْرِجُكُمْ} [نوح: 18] مِنْهَا يَوْمَ الْبَعْثِ أَحْيَاءً {إِخْرَاجًا} [نوح: 18]
[19] {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا} [نوح: 19] فَرَشَهَا وَبَسَطَهَا لَكُمْ.
[20] {لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا} [نوح: 20] طُرُقًا وَاسِعَةً.
[21] {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي} [نوح: 21] يعني لَمْ يُجِيبُوا دَعْوَتِي، {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} [نوح: 21] يَعْنِي اتَّبَعَ السَّفَلَةُ وَالْفُقَرَاءُ الْقَادَةَ والرؤساء الذين هم لَمْ يَزِدْهُمْ كَثْرَةُ الْمَالِ وَالْوَلَدِ إِلَّا ضَلَالًا فِي الدُّنْيَا وَعُقُوبَةً فِي الْآخِرَةِ.
[22] {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا} [نوح: 22] أَيْ كَبِيرًا عَظِيمًا، يُقَالُ: كَبِيرٌ وكبار، بالتخفيف، وكبار بالتشديد، شدد المبالغة، كُلُّهَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ كَمَا يُقَالُ: أمر عجيب وعجاب بالتشديد أَشَدُّ فِي الْمُبَالَغَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي مَكْرِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالُوا قولا عظيما. قال الضَّحَّاكُ: افْتَرَوْا عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبُوا رُسُلَهُ. وَقِيلَ. مَنَعَ الرُّؤَسَاءُ أَتْبَاعَهُمْ عن الإيمان بنوح وحرشوهم على قتله.
[23] {وَقَالُوا} [نوح: 23] لهم، {لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح: 23] أي عبادتها {وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا} [نوح: 23] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ بِضَمِّ الْوَاوِ وَالْبَاقُونَ بِفَتْحِهَا، {وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح: 23] هَذِهِ أَسْمَاءُ آلِهَتِهِمْ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: هَذِهِ أَسْمَاءُ قَوْمٍ صَالِحِينَ كَانُوا بَيْنَ آدَمَ وَنُوحٍ، فَلَمَّا مَاتُوا كَانَ لَهُمْ أَتْبَاعٌ يقتدون بهم ويأخذون بعدهم مأخذهم فِي الْعِبَادَةِ فَجَاءَهُمْ إِبْلِيسُ وَقَالَ لَهُمْ: لَوْ صَوَّرْتُمْ صُوَرَهُمْ كَانَ أَنْشَطَ لَكُمْ وَأَشْوَقَ إِلَى الْعِبَادَةِ، فَفَعَلُوا ثُمَّ نَشَأَ قَوْمٌ بَعْدَهُمْ فَقَالَ لَهُمْ إِبْلِيسُ: إِنَّ الَّذِينَ مَنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَهُمْ فَعَبَدُوهُمْ، فَابْتِدَاءُ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ كَانَ مِنْ ذَلِكَ(6/977)
وَسُمِّيَتْ تِلْكَ الصُّوَرُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِأَنَّهُمْ صَوَّرُوهَا عَلَى صُوَرِ أُولَئِكَ القوم من المسلمين.
[24] {وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا} [نوح: 24] أَيْ ضَلَّ بِسَبَبِ الْأَصْنَامِ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ كَقَوْلِهِ - عَزَّ وَجَلَّ -: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ} [إِبْرَاهِيمَ: 36] وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَضَلَّ كُبَرَاؤُهُمْ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ. {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا} [نوح: 24] هَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِمْ بَعْدَمَا أَعْلَمَ اللَّهُ نُوحًا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]
[25] {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ} [نوح: 25] أي من خطيئاتهم، (وما) صِلَةٌ، وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو (خَطَايَاهُمْ) وكلاهما جمع خطيئة، {أُغْرِقُوا} [نوح: 25] بالطوفان، {فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 25] قَالَ الضَّحَّاكُ: هِيَ فِي حَالَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الدُّنْيَا يُغْرَقُونَ مِنْ جَانِبٍ وَيَحْتَرِقُونَ مِنْ جَانِبٍ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: فَأُدْخِلُوا نَارًا فِي الْآخِرَةِ، {فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} [نوح: 25] لَمْ يَجِدُوا أَحَدًا يَمْنَعُهُمْ مِنْ عذاب الله الواحد القهار.
[26] {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} [نوح: 26] أَحَدًا يَدُورُ فِي الْأَرْضِ فَيَذْهَبُ ويجيء من الدوران، وقال القتيبي: إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الدَّارِ أَيْ نَازِلُ دَارٍ.
[27] {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ} [نوح: 27] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْكَلْبِيُّ وَمُقَاتِلٌ: كَانَ الرَّجُلُ يَنْطَلِقُ بِابْنِهِ إِلَى نُوحٍ فَيَقُولُ: احْذَرْ هَذَا فَإِنَّهُ كَذَّابٌ وَإِنَّ أَبِي حَذَّرَنِيهِ فَيَمُوتُ الْكَبِيرُ وَيَنْشَأُ الصَّغِيرُ عَلَيْهِ، {وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نُوحٍ: 27] قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ وَمُقَاتِلٌ وَالرَّبِيعُ وَغَيْرُهُمْ: إِنَّمَا قَالَ نُوحٌ هَذَا حِينَ أَخْرَجَ اللَّهُ كُلَّ مُؤْمِنٍ مِنْ أَصْلَابِهِمْ وَأَرْحَامِ نِسَائِهِمْ، وَأَعْقَمَ أَرْحَامَ نِسَائِهِمْ وَأَيْبَسَ أَصْلَابَ رِجَالِهِمْ قَبْلَ الْعَذَابِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: سَبْعِينَ سَنَةً، وَأَخْبَرَ اللَّهُ نُوحًا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَلِدُونَ مُؤْمِنًا فَحِينَئِذٍ دَعَا عَلَيْهِمْ فَأَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وَأَهْلَكَهُمْ كُلَّهُمْ.
[28] {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] وَاسْمُ أَبِيهِ لَمْكُ بْنُ مَتُّوشَلَخَ وَاسْمُ أُمِّهِ سَمْحَاءُ بِنْتُ أَنُوشَ وكانا مؤمنين، {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ} [نوح: 28] داري {مُؤْمِنًا} [نوح: 28] وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالْكَلْبِيُّ: مَسْجِدِي. وَقِيلَ: سفينتي. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [نوح: 28] هَذَا عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ آمن بالله وملائكته وَصَدَّقَ الرُّسُلَ، {وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28] هَلَاكًا وَدَمَارًا فَاسْتَجَابَ اللَّهُ دُعَاءَهُ فأهلكهم.
[سورة الجن]
[قوله تعالى قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ] فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا. . .
(72) سورة الجن [1] {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الْجِنِّ: 1] وَكَانُوا تِسْعَةً مِنْ جِنِّ نَصِيبِينَ. وَقِيلَ: سَبْعَةٌ، اسْتَمَعُوا قِرَاءَةَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرْنَا خَبَرَهُمْ فِي سُورَةِ الْأَحْقَافِ. {فَقَالُوا} [الجن: 1] لَمَّا رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ، {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا} [الجن: 1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَلِيغًا أَيْ قُرْآنًا ذَا عَجَبٍ يُعْجَبُ مِنْهُ لبلاغته.
[2] {يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} [الجن: 2] يَدْعُو إِلَى الصَّوَابِ مِنَ التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ، {فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا} [الجن: 2]
[3] {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} [الجن: 3] جَلَالُ رَبِّنَا وَعَظَمَتِهِ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ، يُقَالُ: جَدَّ الرَّجُلُ أَيْ عَظُمَ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَنَسٍ: إذا كَانَ الرَّجُلُ إِذَا قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ جَدَّ فِينَا، أَيْ عَظُمَ قَدْرُهُ، وَقَالَ السُّدِّيُّ: {جَدُّ رَبِّنَا} [الجن: 3] أَيْ أَمْرُ رَبِّنَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: غِنَى رَبِّنَا. وَمِنْهُ قِيلَ لِلْجَدِّ: حَظٌّ، وَرَجُلٌ مَجْدُودٌ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قُدْرَةُ رَبِّنَا. قَالَ الضَّحَّاكُ: فِعْلُهُ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: آلَاؤُهُ وَنَعْمَاؤُهُ عَلَى خَلْقِهِ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ: عَلَا مُلْكُ رَبِّنَا. {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} [الجن: 3] قيل: تعالى جَلَالُهُ وَعَظَمَتُهُ عَنْ أَنْ يَتَّخِذَ صاحبة وولدا.
[4] {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} [الجن: 4] هُوَ إِبْلِيسُ، {عَلَى اللَّهِ شَطَطًا} [الجن: 4] كَذِبًا وَعُدْوَانًا وَهُوَ وَصْفُهُ بِالشَّرِيكِ والولد.
[5] {وَأَنَّا ظَنَنَّا} [الجن: 5] حَسَبْنَا {أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ} [الجن: 5](6/978)
قَرَأَ يَعْقُوبُ (تَقَوَّلَ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وتشديدها {عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الجن: 5] أَيْ كُنَّا نَظُنُّهُمْ صَادِقِينَ فِي قَوْلِهِمْ: إِنَّ لِلَّهِ صَاحِبَةً وَوَلَدًا حَتَّى سَمِعْنَا الْقُرْآنَ.
[6] قَالَ اللَّهُ {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الْجِنِّ: 6] وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ مِنَ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا سَافَرَ فأمسى في الوادي قال: أعوذ بسيد سُفَهَاءِ قَوْمِهِ، فَيَبِيتُ فِي أَمْنٍ وجوار منهم حتى يصبح {فَزَادُوهُمْ} [الجن: 6] يعني زاد الإنسان الجن باستعاذتهم بقادتهم {رَهَقًا} [الجن: 6] قال ابن عباس: إثما. وقال مجاهد: طغيانا. وقال مقاتل: غيا. وقال الحسن: شرا. وقال إِبْرَاهِيمُ: عَظَمَةً وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَزْدَادُونَ بِهَذَا التَّعَوُّذِ طُغْيَانًا، يَقُولُونَ: سدنا الجن والإنس، والرهق فِي كَلَامِ الْعَرَبِ الْإِثْمُ وَغِشْيَانُ المحارم.
[7] {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} [الجن: 7] يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى -: إِنَّ الْجِنَّ ظنوا، {كَمَا ظَنَنْتُمْ} [الجن: 7] يَا مَعْشَرَ الْكُفَّارِ مِنَ الْإِنْسِ {أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} [الجن: 7] بعد موته.
[8] {وَأَنَّا} [الجن: 8] يقول الجن، {لَمَسْنَا السَّمَاءَ} [الجن: 8] قَالَ الْكَلْبِيُّ: السَّمَاءُ الدُّنْيَا، {فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا} [الجن: 8] من الملائكة {وَشُهُبًا} [الجن: 8] مِنَ النُّجُومِ.
[9] {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا} [الجن: 9] من السماء، {مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9] أَيْ كُنَّا نَسْتَمِعُ، {فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} [الجن: 9] أُرْصِدَ لَهُ لِيُرْمَى بِهِ، قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: إِنَّ الرَّجْمَ كَانَ قَبْلَ مَبْعَثِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَكِنْ لَمْ يَكُنْ مِثْلَ مَا كَانَ بَعْدَ مَبْعَثِهِ فِي شِدَّةِ الْحِرَاسَةِ، وَكَانُوا يَسْتَرِقُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، فَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنِعُوا مِنْ ذَلِكَ أَصْلًا. ثُمَّ قَالُوا:
[10] {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ} [الجن: 10] بِرَمْيِ الشُّهُبِ، {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} [الجن: 10]
[11] {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] دُونَ الصَّالِحِينَ. {كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا} [الجن: 11] أَيْ جَمَاعَاتٍ مُتَفَرِّقِينَ وَأَصْنَافًا مُخْتَلِفَةً، وَالْقِدَّةُ: الْقِطْعَةُ مِنَ الشَّيْءِ، يُقَالُ: صَارَ الْقَوْمُ قِدَدًا إِذَا اخْتَلَفَتْ حَالَاتُهُمْ، وَأَصْلُهَا مِنَ الْقَدِّ وَهُوَ الْقَطْعُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنُونَ مُسْلِمِينَ وكافرين، وقيل: أهواء مختلفة وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: شِيَعًا وَفِرَقًا لِكُلِّ فِرْقَةٍ هَوًى كَأَهْوَاءِ النَّاسِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَلْوَانًا شَتَّى. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَصْنَافًا.
[12] {وَأَنَّا ظَنَنَّا} [الجن: 12] علمنا وأيقنا، {نُعجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ} [الجن: 12] أَيْ لَنْ نَفُوتَهُ إِنْ أَرَادَ بِنَا أَمْرًا، {وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا} [الجن: 12] إِنْ طَلَبَنَا.
[13] {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى} [الجن: 13] الْقُرْآنَ وَمَا أَتَى بِهِ مُحَمَّدٌ، {آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا} [الجن: 13] نُقْصَانًا مِنْ عَمَلِهِ وَثَوَابِهِ، {وَلَا رَهَقًا} [الجن: 13] ظلما. وقيل: مكروها يغشاه.
[قوله تعالى وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ] فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا. . .
[14] {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} [الجن: 14] وَهْمُ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن: 14] الْجَائِرُونَ الْعَادِلُونَ عَنِ الْحَقِّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الَّذِينَ جَعَلُوا لِلَّهِ نِدًّا،(6/979)
يُقَالُ: أَقْسَطَ الرَّجُلُ إِذَا عَدَلَ فَهُوَ مُقْسِطٌ، وَقِسْطٌ إِذَا جَارَ فَهُوَ قَاسِطٌ. {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} [الجن: 14] أَيْ قَصَدُوا طَرِيقَ الْحَقِّ وَتَوَخَّوْهُ.
[15] {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ} [الجن: 15] الَّذِينَ كَفَرُوا، {فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا} [الجن: 15] كَانُوا وَقُودَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
[16] ثُمَّ رَجَعَ إِلَى كُفَّارِ مَكَّةَ فَقَالَ: {وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ} [الجن: 16] اخْتَلَفُوا فِي تَأْوِيلِهَا، فَقَالَ قَوْمٌ. لو استقاموا على طريق الْحَقِّ وَالْإِيمَانِ وَالْهُدَى فَكَانُوا مُؤْمِنِينَ مطيعين، {لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا} [الجن: 16] كثيرا، قال مقاتل: وذلك بعد ما رَفَعَ عَنْهُمُ الْمَطَرَ سَبْعَ سِنِينَ. وَقَالُوا: مَعْنَاهُ لَوْ آمَنُوا لَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ فِي الدُّنْيَا وَأَعْطَيْنَاهُمْ مَالًا كَثِيرًا وَعَيْشًا رَغَدًا، وَضَرْبُ الْمَاءِ الْغَدَقِ مَثَلًا لِأَنَّ الْخَيْرَ وَالرِّزْقَ كُلَّهُ فِي الْمَطَرِ، كَمَا قَالَ: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ} [المائدة: 66] الآية. وَقَالَ: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ} [الأعراف: 96] الآية.
[17] وقوله - تعالى -: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [الجن: 17] أَيْ لِنَخْتَبِرَهُمْ كَيْفَ شُكْرُهُمْ فِيمَا خولوا. وَقَالَ آخَرُونَ: مَعْنَاهَا وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى طَرِيقَةِ الْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ لَأَعْطَيْنَاهُمْ مَالًا كَثِيرًا وَلَوَسَّعْنَا عَلَيْهِمْ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ عُقُوبَةً لَهُمْ وَاسْتِدْرَاجًا حتى يفتتنوا بها فنعذبهم كَمَا قَالَ اللَّهُ: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 44] الآية.
{وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا} [الجن: 17] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: شَاقًّا، وَالْمَعْنَى ذا صعيد أَيْ ذَا مَشَقَّةٍ. قَالَ قَتَادَةُ. لَا رَاحَةَ فِيهِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: لَا فَرَحَ فِيهِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَا يَزْدَادُ إِلَّا شِدَّةً. وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الصُّعُودَ يَشُقُّ عَلَى الإنسان.
[18] {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] يَعْنِي الْمَوَاضِعَ الَّتِي بُنِيَتْ لِلصَّلَاةِ وَذِكْرِ اللَّهِ، {فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18] قَالَ قَتَادَةُ. كَانَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى إِذَا دَخَلُوا كَنَائِسَهُمْ وَبِيَعَهُمْ أَشْرَكُوا بِاللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُخْلِصُوا لِلَّهِ الدَّعْوَةَ إِذَا دَخَلُوا الْمَسَاجِدَ وَأَرَادَ بِهَا الْمَسَاجِدَ كُلَّهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: أَرَادَ بِهَا الْبِقَاعَ كُلَّهَا لِأَنَّ الْأَرْضَ جُعِلَتْ كُلُّهَا مَسْجِدًا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: قَالَتِ الْجِنُّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَيْفَ لَنَا أَنْ نَشْهَدَ مَعَكَ الصَّلَاةَ وَنَحْنُ نَاءُونَ؟ فنزلت: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18]
وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسَاجِدِ الْأَعْضَاءُ الَّتِي يَسْجُدُ عَلَيْهَا الْإِنْسَانُ وَهِيَ سَبْعَةٌ: الْجَبْهَةُ وَالْيَدَانِ وَالرُّكْبَتَانِ وَالْقَدَمَانِ، يقول: هذه الأعضاء التي تقع عَلَيْهَا السُّجُودُ مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ فَلَا تسجدوا عليها لغيره. فَإِنْ جَعَلْتَ الْمَسَاجِدَ مَوَاضِعَ الصَّلَاةِ فَوَاحِدُهَا مَسْجِدٌ بِكَسْرِ الْجِيمِ، وَإِنْ جَعَلْتَهَا الْأَعْضَاءَ فَوَاحِدُهَا مَسْجَدٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ.
[19] {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن: 19] يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - {يَدْعُوهُ} [الجن: 19] يعني يعبده ويقرأ القرآن وذلك حِينَ كَانَ(6/980)
يُصَلِّي بِبَطْنِ نَخْلَةَ وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، {كَادُوا} [الجن: 19] يَعْنِي الْجِنَّ، {يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا} [الجن: 19] أَيْ يَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَيَزْدَحِمُونَ حِرْصًا عَلَى اسْتِمَاعِ الْقُرْآنِ، هَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ وَرِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عَنْهُ: هَذَا مِنْ قَوْلِ النَّفَرِ الَّذِينَ رَجَعُوا إِلَى قَوْمِهِمْ مِنَ الْجِنِّ أَخْبَرُوهُمْ بِمَا رَأَوْا مِنْ طَاعَةِ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقْتِدَائِهِمْ بِهِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: يَعْنِي لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ بِالدَّعْوَةِ تَلَبَّدَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ، وَتَظَاهَرُوا عَلَيْهِ لِيُبْطِلُوا الْحَقَّ الَّذِي جَاءَهُمْ بِهِ، وَيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، وَيُتِمَّ هَذَا الْأَمْرَ وينصره على سق ناوأه، وَأَصْلُ اللُّبَدِ الْجَمَاعَاتُ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ اللِّبَدُ الَّذِي يُفْرَشُ لِتَرَاكُمِهِ وَتَلَبَّدَ الشَّعْرُ إِذَا تَرَاكَمَ.
[20] {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي} [الجن: 20] قَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ (قل) على الأمر، قرأ الْآخَرُونَ (قَالَ) يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي، قَالَ مُقَاتِلٌ: وَذَلِكَ أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ قَالُوا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقَدْ جِئْتَ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ فَارْجِعْ عَنْهُ فَنَحْنُ نُجِيرُكَ، فَقَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي، {وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا} [الجن: 20]
[21] {قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا} [الجن: 21] لَا أَقْدِرُ أَنْ أَدْفَعَ عَنْكُمْ ضررا، {وَلَا رَشَدًا} [الجن: 21] أي لا أسوق لكم أو إِلَيْكُمْ رَشَدًا، أَيْ خَيْرًا، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ يَمْلِكُهُ.
[22] {قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ} [الجن: 22] لن يمنعني منه أحد عَصَيْتُهُ. {وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا} [الجن: 22] مَلْجَأً أَمِيلُ إِلَيْهِ. وَمَعْنَى الْمُلْتَحَدِ أَيِ الْمَائِلِ، قَالَ السُّدِّيُّ: حِرْزًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُدْخَلًا فِي الْأَرْضِ مِثْلَ السِّرْبِ.
[23] {إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ} [الجن: 23] فَفِيهِ الْجِوَارُ وَالْأَمْنُ وَالنَّجَاةُ، قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ مُقَاتِلٌ: ذَلِكَ الَّذِي يُجِيرُنِي مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، يَعْنِي التَّبْلِيغَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ فَذَلِكَ الَّذِي أَمْلِكُهُ بِعَوْنِ اللَّهِ وَتَوْفِيقِهِ. وَقِيلَ: لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا لَكِنْ أُبَلِّغُ بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ فَإِنَّمَا أَنَا مُرْسَلٌ بِهِ لَا أَمْلِكُ إِلَّا مَا مُلِّكْتُ. {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الجن: 23] وَلَمْ يُؤْمِنْ، {فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} [الجن: 23]
[24] {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} [الجن: 24] يَعْنِي الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {فَسَيَعْلَمُونَ} [الجن: 24] عِنْدَ نُزُولِ الْعَذَابِ، {مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا} [الجن: 24] أهم أم المؤمنين.
[25] {قُلْ إِنْ أَدْرِي} [الجن: 25] أَيْ مَا أَدْرِي، {أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ} [الجن: 25] من العذاب وقيل. يوم الْقِيَامَةُ، {أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا} [الجن: 25]
[26 - 27] {عَالِمُ الْغَيْبِ} [الجن: 26] رفع على نعت أَجَلًا وَغَايَةً تَطُولُ مُدَّتُهَا يَعْنِي: أَنَّ عِلْمَ وَقْتِ الْعَذَابِ غَيْبٌ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ. قَوْلُهُ (رَبِّي) ، وَقِيلَ: هُوَ عَالَمُ الْغَيْبِ، {فَلَا يُظْهِرُ} [الجن: 26] لَا يُطْلِعُ، {عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا - إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} [الجن: 26 - 27] إِلَّا مَنْ يَصْطَفِيهِ لِرِسَالَتِهِ فَيُظْهِرَهُ عَلَى مَا يَشَاءُ مِنَ الْغَيْبِ لِأَنَّهُ يَسْتَدِلُّ عَلَى نُبُوَّتِهِ بِالْآيَةِ المعجزة التي تخبر عَنِ الْغَيْبِ، {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} [الجن: 27] ذِكْرُ بَعْضِ الْجِهَاتِ دَلَالَةً عَلَى جَمِيعِهَا رَصدًا أَيْ يَجْعَلُ بَيْنَ يديه وخلفه مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَهُ مِنَ الشَّيَاطِينِ أَنْ يَسْتَرِقُوا السَّمْعَ، وَمِنَ الْجِنِّ أَنْ يَسْتَمِعُوا الْوَحْيَ فَيُلْقُوا إِلَى الْكَهَنَةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ وَغَيْرُهُ: كَانَ اللَّهُ إِذَا بَعَثَ رَسُولًا أَتَاهُ إِبْلِيسُ فِي صُورَةِ مَلَكٍ يُخْبِرُهُ فَيَبْعَثُ اللَّهُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمَنْ خَلْفِهِ رَصَدًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْرُسُونَهُ وَيَطْرُدُونَ الشَّيَاطِينَ، فَإِذَا جَاءَهُ شَيْطَانٌ فِي صُورَةِ مَلَكٍ أَخْبَرُوهُ بِأَنَّهُ شَيْطَانٌ فَاحْذَرْهُ، وَإِذَا جَاءَهُ مَلَكٌ قَالُوا لَهُ: هَذَا رَسُولُ ربك.
[28] {لِيَعْلَمَ} [الجن: 28] قَرَأَ يَعْقُوبُ لِيُعْلَمَ بِضَمِّ الْيَاءِ أي ليعلم الناس، {أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا} [الجن: 28] وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِفَتْحِ الْيَاءِ أَيْ لَيَعْلَمَ الرَّسُولُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ أَبْلَغُوا، {رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ} [الجن: 28] أَيْ عَلِمَ اللَّهُ مَا عِنْدَ الرُّسُلِ فَلَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ شَيْءٌ، {وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا} [الجن: 28] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَحْصَى مَا خَلَقَ(6/981)
وَعَرَفَ عَدَدَ مَا خَلَقَ فَلَمْ يَفُتْهُ عِلْمُ شَيْءٍ حَتَّى مَثَاقِيلِ الذَّرِّ وَالْخَرْدَلِ، وَنُصِبَ (عَدَدًا) عَلَى الحال، وإن شتت على المصدر، أي عد عددا.
[سورة المزمل]
[قوله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا] نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا. . .
(73) سورة المزمل [1] {يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ} [الْمُزَّمِّلُ: 1] أَيِ الْمُلْتَفِفُ بِثَوْبِهِ، وَأَصْلُهُ (الْمُتَزَمِّلُ) أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الزَّايِ، ومثله (المدثر) أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الدَّالِ، يُقَالُ: تَزَمَّلَ وَتَدَثَّرَ بِثَوْبِهِ إِذَا تَغَطَّى بِهِ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: أَرَادَ يَا أَيُّهَا النَّائِمُ قُمْ فَصَلِّ قَالَ الحكماء: كَانَ هَذَا الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوَّلِ الْوَحْيِ قَبْلَ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ، ثُمَّ خُوطِبَ بَعْدُ بِالنَّبِيِّ وَالرَّسُولِ.
[2] {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} [المزمل: 2] أَيْ لِلصَّلَاةِ، (إِلَّا قَلِيلًا) ، وَكَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرِيضَةً فِي الِابْتِدَاءِ ثم بين قَدْرَهُ فَقَالَ:
[3] {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا} [المزمل: 3] إِلَى الثُّلُثِ.
[4] {أَوْ زِدْ عَلَيْهِ} [المزمل: 4] على النصف إلى الثلثين، وخيره بين هذه المنازل، فَكَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ يَقُومُونَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَادِيرِ، وَكَانَ الرَّجُلُ لَا يَدْرِي متى ثلث الليل ومتى النصف ومتى الثلثان، فكان يَقُومُ حَتَّى يُصْبِحَ مَخَافَةَ أَنْ لَا يَحْفَظَ الْقَدْرَ الْوَاجِبَ، وَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ وَخَفَّفَ عَنْهُمْ وَنَسَخَهَا بِقَوْلِهِ: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى} [المزمل: 20] الْآيَةَ، فَكَانَ بَيْنَ أَوَّلِ السُّورَةِ وآخرها سنة، وقال مُقَاتِلٌ وَابْنُ كَيْسَانَ: كَانَ هَذَا بِمَكَّةَ قَبْلَ أَنْ تُفْرَضَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ، ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ بِالصَّلَوَاتِ الخمس، {وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا} [المزمل: 4] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيِّنْهُ بَيَانًا. قال الحسن: اقرأه قراءة بينة. قال مجاهد: ترسل فيه ترسلا. قال قَتَادَةُ: تَثَبَّتْ فِيهِ تَثَبُّتًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: اقْرَأْهُ عَلَى هَيْنَتِكَ ثَلَاثَ آيَاتٍ أَوْ أَرْبَعًا أو خمسا.
[5] {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا} [المزمل: 5] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: شَدِيدًا. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَهُذُّ السُّورَةَ وَلَكِنَّ الْعَمَلَ بها ثقيل. قال قتادة: ثقيلا هو والله فرائضه وحدوده. قال مُقَاتِلٌ: ثَقِيلٌ لِمَا فِيهِ مِنَ الأمر والنهي والحدود. قال أَبُو الْعَالِيَةِ: ثَقِيلٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كعب: ثقيل على المنافقين. قال الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: قَوْلًا خَفِيفًا عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلًا فِي الْمِيزَانِ. قال الفراء: ثقيلا ليس بالخفيف السفساف لأنه كلام ربنا. قال ابْنُ زَيْدٍ: هُوَ وَاللَّهِ ثَقِيلٌ مُبَارَكٌ كَمَا ثَقُلَ فِي الدُّنْيَا ثَقُلَ فِي الْمَوَازِينِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
[6] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} [المزمل: 6] أَيْ سَاعَاتِهِ كُلَّهَا، وَكُلُّ سَاعَةٍ مِنْهُ نَاشِئَةٌ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَنْشَأ أَيْ تَبْدُو، وَمِنْهُ نَشَأَتِ السحابة إذا بدت، وكل مَا حَدَثَ بِاللَّيْلِ وَبَدَا فَقَدْ نَشَأَ فَهُوَ نَاشِئُ، وَالْجُمَعُ نَاشِئَةٌ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ وَابْنَ الزُّبَيْرِ عَنْهَا فَقَالَا: اللَّيْلُ كُلُّهُ نَاشِئَةٌ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ زَيْدٍ: أَيْ سَاعَةَ قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَقَدْ نَشَأَ، وَهُوَ بِلِسَانِ الْحَبَشِ الْقِيَامُ، يُقَالُ: نَشَأَ فَلَانٌ أَيْ قَامَ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: النَّاشِئَةُ الْقِيَامُ بَعْدَ النَّوْمِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: هِيَ الْقِيَامُ مِنْ آخَرِ اللَّيْلِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ. هِيَ الْقِيَامُ مِنْ أول اللَّيْلِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كُلُّ صَلَاةٍ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ فَهِيَ نَاشِئَةٌ مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: نَاشِئَةُ اللَّيْلِ قِيَامُ اللَّيْلِ، مَصْدَرٌ جَاءَ عَلَى فَاعِلَةٍ كَالْعَافِيَةِ بِمَعْنَى الْعَفْوِ. {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} [المزمل: 6] قرأ ابن عامر وأبو عمر: وِطَاءً بِكَسْرِ الْوَاوِ مَمْدُودًا بِمَعْنَى المواطأة والموافقة، يقال وطأت فلانا مُوَاطَأَةَ الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَاللِّسَانِ، بِاللَّيْلِ تَكُونُ أَكْثَرَ مِمَّا يَكُونُ بالنهار. وقرأ والآخرون: بِفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الطَّاءِ أَيْ أَشَدُّ عَلَى الْمُصَلِّي وَأَثْقَلُ مِنْ صَلَاةِ النَّهَارِ، لِأَنَّ اللَّيْلَ لِلنَّوْمِ والراحة. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَثْبَتُ فِي الْخَيْرِ وَأَحْفَظُ(6/982)
لِلْقِرَاءَةِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَثْبَتُ قِيَامًا أَيْ أَوَطَأُ لِلْقِيَامِ وَأَسْهَلُ لِلْمُصَلِّي مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ، لِأَنَّ النَّهَارَ خلق لتصرف العبادة، وَاللَّيْلَ لِلْخَلْوَةِ فَالْعِبَادَةُ فِيهِ أَسْهَلُ. وَقِيلَ: أَشَدُّ نَشَاطًا. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَفْرَغُ لَهُ قَلْبًا مِنَ النهار لأنه لا تعرض فيه حوائج. وقال الحسن: أشد وطأ في الخير وَأَمْنَعُ مِنَ الشَّيْطَانِ. {وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 6] وَأَصْوَبُ قِرَاءَةً وَأَصَحُّ قَوْلًا لِهَدْأَةِ النَّاسِ وَسُكُونِ الْأَصْوَاتِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَبْيَنُ قَوْلًا بِالْقُرْآنِ، وَفِي الْجُمْلَةِ عِبَادَةُ اللَّيْلِ أَشَدُّ نَشَاطًا وَأَتَمُّ إِخْلَاصًا وَأَكْثَرُ بَرَكَةً وَأَبْلَغُ فِي الثواب.
[7] {إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزمل: 7] أَيْ تَصَرُّفًا وَتَقَلُّبًا وَإِقْبَالًا وَإِدْبَارًا فِي حَوَائِجِكَ وَأَشْغَالِكَ، وَأَصْلُ السَّبْحِ سُرْعَةُ الذَّهَابِ، وَمِنْهُ السِّبَاحَةُ فِي الْمَاءِ. وَقِيلَ: سَبْحًا طَوِيلًا أَيْ فَرَاغًا وَسِعَةً لِنَوْمِكَ وَتَصَرُّفِكَ فِي حَوَائِجِكَ فَصَلِّ مِنَ اللَّيْلِ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ يَعْمُرُ (سَبْخًا) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ اسْتِرَاحَةً وَتَخْفِيفًا لِلْبَدَنِ.
[8] {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ} [المزمل: 8] بِالتَّوْحِيدِ وَالتَّعْظِيمِ، {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 8] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: أَخْلِصْ إليه إخلاصا. قال الْحَسَنُ: اجْتَهِدْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: تفرغ لعبادته. وقال سُفْيَانُ: تَوَكَّلْ عَلَيْهِ تَوَكُّلًا. وَقِيلَ. انْقَطِعْ إِلَيْهِ فِي الْعِبَادَةِ انْقِطَاعًا، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الْبَابِ، يُقَالُ: تبتلت الشيء أي قطعته، والتبتيل: تَفْعِيلٌ، مِنْهُ يُقَالُ: بَتَّلْتُهُ فَتَبَتَّلَ، المعنى: بتل إليه نفسك، ولذلك قال: تبتيلا. قال ابن زيد: التَّبَتُّلُ رَفْضُ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَالْتِمَاسُ مَا عِنْدَ اللَّهِ - تَعَالَى -.
[9] {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ} [المزمل: 9] أَهْلُ الْحِجَازِ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَفْصٌ (رَبُّ) بِرَفْعِ الْبَاءِ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَرِّ عَلَى نَعْتِ الرَّبِّ فِي قَوْلِهِ: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ - لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا} [المزمل: 8 - 9] قَيِّمًا بِأُمُورِكَ فَفَوِّضْهَا إِلَيْهِ.
[10] {وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا} [المزمل: 10] نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ.
[11] {وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا} [المزمل: 11] نَزَلَتْ فِي صَنَادِيدِ قُرَيْشٍ الْمُسْتَهْزِئِينَ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: نَزَلَتْ في المطعمين ببدر فلم يَكُنْ إِلَّا يَسِيرٌ حَتَّى قُتِلُوا ببدر.
[12] {إِنَّ لَدَيْنَا} [المزمل: 12] عندنا في الآخرة، {أَنْكَالًا} [المزمل: 12] قُيُودًا عِظَامًا لَا تَنْفَكُّ أَبَدًا، وَاحِدُهَا نَكَلٌ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: أَغْلَالًا من حديد، {وَجَحِيمًا} [المزمل: 12]
[13] {وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ} [المزمل: 13] غير سائغة يأخذ بالحق لَا يَنْزِلُ وَلَا يَخْرُجُ وَهُوَ الزقوم {وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 13]
[14] {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ} [المزمل: 14] أَيْ تَتَزَلْزَلُ وَتَتَحَرَّكُ، {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل: 14] رَمْلًا سَائِلًا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ الرمل الذي أَخَذْتَ مِنْهُ شَيْئًا تَبِعَكَ مَا بَعْدَهُ، يُقَالُ: أَهَلْتُ الرَّمْلَ أُهِيلُهُ هَيْلًا إِذَا حَرَّكْتُ أَسْفَلَهُ حَتَّى انْهَالَ مِنْ أَعْلَاهُ.(6/983)
[15] {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا} [المزمل: 15]
[16] {فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا} [المزمل: 16] شَدِيدًا ثَقِيلًا، يَعْنِي عَاقَبْنَاهُ عُقُوبَةً غَلِيظَةً يُخَوِّفُ كُفَّارَ مَكَّةَ.
[17] {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ} [المزمل: 17] أَيْ كَيْفَ لَكُمْ بِالتَّقْوَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذْ كَفَرْتُمْ فِي الدُّنْيَا يَعْنِي لَا سَبِيلَ لَكُمْ إِلَى التَّقْوَى إِذَا وَافَيْتُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ كَيْفَ تَتَّقُونَ الْعَذَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَبِأَيِّ شَيْءٍ تَتَحَصَّنُونَ مِنْهُ إِذَا كَفَرْتُمْ؟ {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] شمطا من هوله وشدته، وذلك حِينَ يُقَالُ لِآدَمَ قُمْ فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ ذُرِّيَّتِكَ.
[18] ثُمَّ وَصَفَ هَوْلَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فَقَالَ: {السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] مُتَشَقِّقٌ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ بِهِ أَيْ: بِذَلِكَ الْمَكَانِ. وَقِيلَ: الْهَاءُ تَرْجِعُ إِلَى الرَّبِّ أَيْ بِأَمْرِهِ وَهَيْبَتِهِ، {كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا} [المزمل: 18] كائنا.
[19] {إِنَّ هَذِهِ} [المزمل: 19] أي آيات القرآن {تَذْكِرَةٌ} [المزمل: 19] تَذْكِيرٌ وَمَوْعِظَةٌ {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19] بالإيمان والطاعة.
[قوله تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ] اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ. . .
[20] {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى} [المزمل: 20] أَقَلَّ {مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ} [المزمل: 20] يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ وَكَانُوا يَقُومُونَ مَعَهُ، {وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [المزمل: 20] قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ لَا يَفُوتُهُ عِلْمُ مَا تَفْعَلُونَ، أَيْ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَقَادِيرَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ فَيَعْلَمُ الْقَدْرَ الَّذِي تَقُومُونَ مِنَ اللَّيْلِ، {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ} [المزمل: 20] قَالَ الْحَسَنُ: قَامُوا حَتَّى انْتَفَخَتْ أَقْدَامُهُمْ، فَنَزَلَ: (عَلِمَ أَنْ لَنْ تحصوه) ، لن تطيقوه. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانَ الرَّجُلُ يُصَلِّي الليل كله، مخافة ألا يُصِيبُ مَا أُمِرَ بِهِ مِنَ الْقِيَامِ، فَقَالَ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ: لَنْ تُطِيقُوا مَعْرِفَةَ ذَلِكَ. {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] فَعَادَ عَلَيْكُمْ بِالْعَفْوِ وَالتَّخْفِيفِ، {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] يَعْنِي فِي الصَّلَاةِ، قَالَ الْحَسَنُ: يَعْنِي فِي صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَالْعَشَاءِ. قال قيس بن حَازِمٍ: صَلَّيْتُ خَلْفَ ابْنَ عَبَّاسٍ بِالْبَصْرَةِ فَقَرَأَ فِي أَوَّلِ رَكْعَةٍ بِالْحَمْدِ وَأَوَّلِ آيَةٍ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ قَامَ فِي الثَّانِيَةِ فَقَرَأَ بِالْحَمْدِ وَالْآيَةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْبَقَرَةِ، ثُمَّ رَكَعَ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ علينا بوجهه فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقُولُ. فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ.
قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] يَعْنِي الْمُسَافِرِينَ لِلتِّجَارَةِ يَطْلُبُونَ مِنْ رِزْقِ اللَّهِ، {وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] لَا يُطِيقُونَ قِيَامَ اللَّيْلِ، رَوَى إِبْرَاهِيمُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: أيما رجل جلب شيئا ما إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ بِمَنْزِلَةِ الشُّهَدَاءِ، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [المزمل: 20] {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ} [الْمُزَّمِّلِ: 20] أَيْ مَا تَيَسَّرَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْقُرْآنِ. قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ كَانَ هَذَا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ ثُمَّ نُسِخَ بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل: 20] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ مَا سِوَى الزَّكَاةِ مِنْ صِلَةِ الرَّحِمِ، وَقِرَى الضَّيْفِ. {وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا} [المزمل: 20] تَجِدُوا ثَوَابَهُ فِي الْآخِرَةِ أَفْضَلَ مما أعطيتم، {وَأَعْظَمَ أَجْرًا} [المزمل: 20] مِنَ الَّذِي أَخَّرْتُمْ، وَلَمْ تُقَدِّمُوهُ {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ} [المزمل: 20] لِذُنُوبِكُمْ، {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المزمل: 20]
[سورة المدثر]
[قوله تَعَالَى يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ. . .]
(74) سورة المدثر
[1 - 2] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ - قُمْ فَأَنْذِرْ} [المدثر: 1 - 2] أَيْ أَنْذِرْ كُفَّارَ مَكَّةَ.
[3] {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} [المدثر: 3] أي عَظِّمْهُ عَمَّا يَقُولُهُ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ.
[4] {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: نَفْسَكَ فَطَهِّرْ من الذَّنْبِ، فَكَنَّى عَنِ النَّفْسِ بِالثَّوْبِ، وَهُوَ(6/984)
قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ وَالضَّحَّاكِ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عن قوله: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} [المدثر: 4] فَقَالَ: لَا تَلْبَسْهَا عَلَى مَعْصِيَةٍ ولا على غدر. وَرَوَى أَبُو رَوْقٍ عَنِ الضَّحَّاكِ مَعْنَاهُ: وَعَمَلَكَ فَأَصْلِحْ. قَالَ السُّدِّيُّ: يُقَالُ لِلرَّجُلِ إِذَا كَانَ صَالِحًا إِنَّهُ لَطَاهِرُ الثِّيَابِ، وَإِذَا كَانَ فَاجِرًا إِنَّهُ لَخَبِيثُ الثِّيَابُ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَقَلْبَكَ وَنِيَّتَكَ فَطَهِّرْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَالْقُرَظِيُّ: وَخُلُقَكَ فَحَسِّنْ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ وَابْنُ زَيْدٍ: أَمَرَ بِتَطْهِيرِ الثِّيَابِ مِنَ النَّجَاسَاتِ الَّتِي لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ مَعَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا لَا يَتَطَهَّرُونَ وَلَا يُطَهِّرُونَ ثِيَابَهُمْ. وقال طاوس: وَثِيَابَكَ فَقَصِّرْ لِأَنَّ تَقْصِيرَ الثِّيَابِ طهرة لها.
[5] {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} [المدثر: 5] الْمُرَادُ بِالرِّجْزِ الْأَوْثَانُ، قَالَ: فَاهْجُرْهَا وَلَا تَقْرَبْهَا. وَقِيلَ: الزَّايُ فِيهِ مُنْقَلِبَةٌ عَنِ السِّينِ، وَالْعَرَبُ تُعَاقِبُ بَيْنَ السِّينِ وَالزَّايِ لِقُرْبِ مُخْرِجِهِمَا، وَدَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الْحَجِّ: 30] وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَاهُ. اتْرُكِ الْمَآثِمَ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالرَّبِيعُ: الرُّجْزَ بِضَمِّ الرَّاءِ الصَّنَمُ، وبالكسر النجاسة والمعصية. قال الضَّحَّاكُ: يَعْنِي الشِّرْكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْعَذَابَ، وَمَجَازُ الْآيَةِ: اهْجُرْ مَا أَوْجَبَ لَكَ الْعَذَابَ مِنَ الأعمال.
[6] {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [الْمُدَّثِّرِ: 6] أَيْ لَا تُعْطِ مَالَكَ مُصَانَعَةً لِتُعْطَى أكثر منه، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: لَا تُعْطِ شَيْئًا طَمَعًا لِمُجَازَاةِ الدُّنْيَا، يَعْنِي أَعْطِ لِرَبِّكَ وَأَرِدْ بِهِ اللَّهَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ لَا تَمْنُنْ عَلَى اللَّهِ بِعَمَلِكَ فَتَسْتَكْثِرُهُ، قَالَ الرَّبِيعُ: لَا يكثرن عَمَلَكَ فِي عَيْنِكَ فَإِنَّهُ فِيمَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَأَعْطَاكَ قَلِيلٌ. وَرَوَى خُصَيْفٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: وَلَا تَضْعُفْ أَنْ تَسْتَكْثِرَ مِنَ الْخَيْرِ، من قولهم: حبل منين إِذَا كَانَ ضَعِيفًا، دَلِيلُهُ قِرَاءَةُ ابْنِ مَسْعُودٍ (وَلَا تَمْنُنْ أَنْ تستكثر من الخير) ، وقال ابْنُ زِيدٍ مَعْنَاهُ: لَا تَمْنُنْ بِالنُّبُوَّةِ عَلَى النَّاسِ فَتَأْخُذَ عَلَيْهَا أَجْرًا أَوْ عَرَضًا مِنَ الدُّنْيَا.
[7] {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} [المدثر: 7] قِيلَ: فَاصْبِرْ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَوَامِرِهِ ونواهيه لأجل ثواب الله. وقال مُجَاهِدٌ: فَاصْبِرْ لِلَّهِ عَلَى مَا أوذيت فيه. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ. مَعْنَاهُ حَمَلْتَ أمرا عظيما فيه مُحَارَبَةَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ فَاصْبِرْ عَلَيْهِ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَقِيلَ: فَاصْبِرْ تَحْتَ مَوَارِدِ الْقَضَاءِ لِأَجْلِ اللَّهِ.
[8] {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} [المدثر: 8] أَيْ نُفِخَ فِي الصُّورِ، وَهُوَ الْقَرْنُ الَّذِي يَنْفُخُ فِيهِ إِسْرَافِيلُ يعني النفخة الثانية.
[9] {فَذَلِكَ} [المدثر: 9] أي النفخ في الصور، {يَوْمَئِذٍ} [المدثر: 9] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {يَوْمٌ عَسِيرٌ} [المدثر: 9] شديد. 10) {عَلَى الْكَافِرِينَ} [المدثر: 10] يَعْسُرُ فِيهِ الْأَمْرُ عَلَيْهِمْ، {غَيْرُ يَسِيرٍ} [المدثر: 10] غَيْرُ هَيِّنٍ.(6/985)
[11] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا} [المدثر: 11] أَيْ خَلَقْتُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَحِيدًا فَرِيدًا لَا مَالَ لَهُ وَلَا وَلَدَ، نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيِّ كَانَ يُسَمَّى الْوَحِيدُ فِي قَوْمِهِ.
[12] {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} [المدثر: 12] أَيْ كَثِيرًا. قِيلَ: هُوَ مَا يُمَدُّ بِالنَّمَاءِ كَالزَّرْعِ وَالضَّرْعِ وَالتِّجَارَةِ.
[13] {وَبَنِينَ شُهُودًا} [المدثر: 13] حُضُورًا بِمَكَّةَ لَا يَغِيبُونَ عَنْهُ وَكَانُوا عَشَرَةً، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: كَانُوا سَبْعَةً وَهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ وَخَالِدٌ وَعِمَارَةُ وَهُشَامٌ وَالْعَاصُ وَقَيْسٌ وَعَبْدُ شَمْسٍ، أَسْلَمَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةٌ خَالِدٌ وَهُشَامٌ وعمارة.
[14] {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} [المدثر: 14] أَيْ بَسَطْتُ لَهُ فِي الْعَيْشِ وَطُولِ الْعُمُرِ بَسْطًا. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْمَالَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ كَمَا يُمَهَّدُ الْفَرْشُ.
[15] {ثُمَّ يَطْمَعُ} [المدثر: 15] يرجو، {أَنْ أَزِيدَ} [المدثر: 15] أَيْ أَنْ أَزِيدَهُ مَالًا، وَوَلَدًا، وتمهيدا.
[16] {كَلَّا} [المدثر: 16] لَا أَفْعَلُ وَلَا أَزِيدُهُ، قَالُوا: فَمَا زَالَ الْوَلِيدُ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فِي نُقْصَانٍ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى هَلَكَ {إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} [المدثر: 16] معاندا.
[17] {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} [المدثر: 17] سَأُكَلِّفُهُ مَشَقَّةً مِنَ الْعَذَابِ لَا راحة له فيها.
[قوله تعالى إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ثُمَّ] قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. . .
[18] {إِنَّهُ فَكَّرَ} [المدثر: 18] في محمد والقرآن {وَقَدَّرَ} [المدثر: 18] فِي نَفْسِهِ مَاذَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ فِي مُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ.
[19] {فَقُتِلَ} [المدثر: 19] لَعْنٌ، وَقَالَ الزُّهْرِيُّ: عُذِّبَ، {كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 19] عَلَى طَرِيقِ التَّعَجُّبِ وَالْإِنْكَارِ وَالتَّوْبِيخِ. 20) {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} [المدثر: 20] كَرَّرَهُ لِلتَّأْكِيدِ، وَقِيلَ: مَعْنَاهُ لُعِنَ عَلَى أَيِ حَالٍ قَدَّرَ مِنَ الْكَلَامِ، كَمَا يُقَالُ لَأَضْرِبَنَّهُ كَيْفَ صَنَعَ أَيْ عَلَى أَيِّ حَالٍ صنع.
[21] {ثُمَّ نَظَرَ} [المدثر: 21] فِي طَلَبِ مَا يَدْفَعُ بِهِ الْقُرْآنَ وَيَرُدَّهُ.
[22] {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] كَلَحَ وَقَطَّبَ وَجْهَهُ وَنَظَرَ بِكَرَاهِيَةٍ شَدِيدَةٍ كَالْمُهْتَمِّ الْمُتَفَكِّرِ فِي شَيْءٍ.
[23] {ثُمَّ أَدْبَرَ} [المدثر: 23] عن الإيمان {وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر: 23] تَكَبَّرَ حِينَ دُعِيَ إِلَيْهِ.
[24] {فَقَالَ إِنْ هَذَا} [المدثر: 24] ما هذا الذي يقرأه محمد، {إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24] يُرْوَى وَيُحْكَى عَنِ السَّحَرَةِ.
[25] {إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} [المدثر: 25] يَعْنِي يَسَارًا وَجَبْرًا فَهُوَ يَأْثُرُهُ عنهما. وقيل: يرويه عن مسلمة صَاحِبِ الْيَمَامَةِ.
[26] قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {سَأُصْلِيهِ} [المدثر: 26] سأدخله {سَقَرَ} [المدثر: 26] وَسَقَرُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جَهَنَّمَ. 27,
[28] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ - لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} [المدثر: 27 - 28] أَيْ لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ فِيهَا شَيْئًا إِلَّا أَكَلَتْهُ وَأَهْلَكَتْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُمِيتُ وَلَا تُحْيِي يَعْنِي لَا تُبْقِي مَنْ فِيهَا حَيًّا وَلَا تَذَرُ مَنْ فِيهَا مَيِّتًا، كُلَّمَا احْتَرَقُوا جُدِّدُوا. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا تُبْقِي لَهُمْ لَحْمًا وَلَا تَذَرُ لَهُمْ عَظْمًا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِذَا أَخَذَتْ فِيهِمْ لَمْ تُبْقِ مِنْهُمْ شَيْئًا وَإِذَا أُعِيدُوا لَمْ تَذَرْهُمْ حَتَّى تُفْنِيَهُمْ، وَلِكُلِّ شَيْءٍ مَلَالَةٌ وَفَتْرَةٌ إِلَّا جهنم.
[29] {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} [المدثر: 29] مُغَيِّرَةٌ لِلْجِلْدِ حَتَّى تَجْعَلَهُ أَسْوَدَ، يقال: لاحة السقم والحزن إذ غيره، قال مُجَاهِدٌ: تَلْفَحُ الْجِلْدَ حَتَّى تَدَعَهُ أَشَدَّ سَوَادًا مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: مُحْرِقَةٌ لِلْجِلْدِ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ كَيْسَانَ: تُلَوِّحُ لَهُمْ جَهَنَّمُ حَتَّى يروها عيانا.
[30] {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] أَيْ عَلَى النَّارِ تِسْعَةَ عَشَرَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَهُمْ خَزَنَتُهَا مَالِكٌ ومعه ثمانية عشر.
[31] {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} [المدثر: 31] لَا رِجَالًا آدَمِيِّينَ فَمَنْ ذَا يَغْلِبُ الْمَلَائِكَةَ؟ {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ} [المدثر: 31] أَيْ عَدَدَهُمْ فِي الْقِلَّةِ، {إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} [المدثر: 31] أي ضلالة لهم {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [المدثر: 31] لِأَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ أَنَّهُمْ تِسْعَةَ عَشَرَ، {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} [المدثر: 31] يَعْنِي مَنْ آمَنُ مِنْ أَهْلِ(6/986)
الْكِتَابِ يَزْدَادُونَ تَصْدِيقًا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا وَجَدُوا مَا قَالَهُ مُوَافِقًا لِمَا فِي كتبهم، {وَلَا يَرْتَابَ} [المدثر: 31] لا يَشُكَّ، {الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} [المدثر: 31] فِي عَدَدِهِمْ، {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [المدثر: 31] شك ونفاق، {وَالْكَافِرُونَ} [المدثر: 31] مُشْرِكُو مَكَّةَ {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} [المدثر: 31] أَيَّ شَيْءٍ أَرَادَ بِهَذَا الْحَدِيثِ. " وَأَرَادَ بِالْمَثَلِ الْحَدِيثَ نَفْسَهُ {كَذَلِكَ} [المدثر: 31] أَيْ كَمَا أَضَلَّ اللَّهُ مَنْ أَنْكَرَ عَدَدَ الْخَزَنَةِ وَهَدَى مَنْ صَدَّقَ، كَذَلِكَ {يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} [المدثر: 31] قَالَ مُقَاتِلٌ: هَذَا جَوَابُ أَبِي جَهْلٍ حِينَ قَالَ: أَمَا لِمُحَمَّدٍ أعوان إلا تسعة؟ قَالَ عَطَاءٌ: وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ يَعْنِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ خَلَقَهُمْ لِتَعْذِيبِ أَهْلِ النَّارِ، لَا يَعْلَمُ عِدَّتَهُمْ إِلَّا اللَّهُ وَالْمَعْنَى إِنَّ تِسْعَةَ عَشَرَ هُمْ خَزَنَةُ النَّارِ، وَلَهُمْ مِنَ الْأَعْوَانِ وَالْجُنُودِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا لا يعلمهم إِلَّا اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى ذِكْرِ سَقَرَ فَقَالَ: {وَمَا هِيَ} [المدثر: 31] يعني النار، {إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} [المدثر: 31] إِلَّا تَذْكِرَةً وَمَوْعِظَةً لِلنَّاسِ.
[32] {كَلَّا وَالْقَمَرِ} [المدثر: 32] هذا قسم يقول حقا.
[33] {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [المدثر: 33] دَبَرَ اللَّيْلُ وَأَدْبَرَ إِذَا وَلَّى ذاهبا.
[34] {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 34] أَضَاءَ وَتَبَيَّنَ.
[35] {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} [المدثر: 35] يَعْنِي أَنَّ سَقَرَ لَإِحْدَى الْأُمُورِ الْعِظَامِ، وَوَاحِدُ الْكُبَرِ كُبْرَى، قَالَ مقاتل والكلبي: أراد بالكبر كانت جَهَنَّمَ وَهِيَ سَبْعَةٌ: جَهَنَّمُ وَلَظَى وَالْحُطَمَةُ وَالسَّعِيرُ وَسَقَرُ وَالْجَحِيمُ وَالْهَاوِيَةُ.
[36] {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} [المدثر: 36] يَعْنِي النَّارَ نَذِيرًا لِلْبَشَرِ. قَالَ الْحَسَنُ: وَاللَّهِ مَا أَنْذَرَ اللَّهُ بشي أدهى منها.
[37] {لِمَنْ شَاءَ} [المدثر: 37] بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ لِلْبَشَرِ {مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ} [المدثر: 37] فِي الْخَيْرِ وَالطَّاعَةِ,، {أَوْ يَتَأَخَّرَ} [المدثر: 37] عنها في الشر والمعصية، المعنى: أَنَّ الْإِنْذَارَ قَدْ حَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِمَّنْ آمَنَ أَوْ كَفَرَ.
[قوله تعالى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ. . .]
[38] {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] مُرْتَهِنَةٌ فِي النَّارِ بِكَسْبِهَا مَأْخُوذَةٌ بعملها.
[39] {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} [المدثر: 39] فَإِنَّهُمْ لَا يَرْتَهِنُونَ بِذُنُوبِهِمْ فِي النَّارِ وَلَكِنْ يَغْفِرُهَا اللَّهُ لَهُمْ. قَالَ قَتَادَةُ عَلَّقَ النَّاسَ كُلَّهُمْ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ. وَاخْتَلَفُوا فِيهِمْ رُوِيَ عَنْ عَلَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُمْ أَطْفَالُ الْمُسْلِمِينَ وَرَوَى أَبُو ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمْ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى يَمِينِ آدَمَ يَوْمَ الْمِيثَاقِ، حِينَ قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: (هَؤُلَاءِ فِي الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي) وَعَنْهُ أَيْضًا: هُمُ الَّذِينَ أُعْطُوا كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا: هُمُ الَّذِينَ كَانُوا مَيَامِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمُ الْمُسْلِمُونَ الْمُخْلِصُونَ. وَقَالَ الْقَاسِمُ: كُلُّ نَفْسٍ مَأْخُوذَةٌ بِكَسْبِهَا مَنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ إِلَّا مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْفَضْلِ، وَكُلُّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْكَسْبِ فَهُوَ رَهِينٌ بِهِ، وَمَنِ اعْتَمَدَ عَلَى الْفَضْلِ فَهُوَ غَيْرُ مَأْخُوذٍ بِهِ.(6/987)
[40,
[41] {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ - عَنِ الْمُجْرِمِينَ} [المدثر: 40 - 41] المشركين.
[42] {مَا سَلَكَكُمْ} [المدثر: 42] أدخلكم، {فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] فَأَجَابُوا.
[43] {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] لِلَّهِ.
[44-47] {وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ - وَكُنَّا نَخُوضُ} [المدثر: 44 - 45] فِي الْبَاطِلِ، {مَعَ الْخَائِضِينَ - وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ - حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} [المدثر: 45 - 47] وَهُوَ الْمَوْتُ.
[48] قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر: 48] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: تَشْفَعُ الْمَلَائِكَةُ وَالنَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ وَالصَّالِحُونَ وَجَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا أَرْبَعَةٌ، ثُمَّ تَلَا: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ} [المدثر: 43] إلى قوله: {بِيَوْمِ الدِّينِ} [المدثر: 46] قَالَ عِمْرَانُ بْنُ الْحُصَيْنِ: الشَّفَاعَةُ نَافِعَةٌ لِكُلِّ وَاحِدٍ دُونَ هَؤُلَاءِ الذين تسمعون.
[49] {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] عن مَوَاعِظِ الْقُرْآنِ مُعْرِضِينَ نُصِبَ عَلَى الْحَالِ، وَقِيلَ صَارُوا مُعْرِضِينَ.
[50] {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ} [المدثر: 50] جمع حمار، {مُسْتَنْفِرَةٌ} [المدثر: 50] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِكَسْرِهَا، فَمَنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ فَمَعْنَاهَا مُنَفَّرَةٌ مَذْعُورَةٌ، وَمَنْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ فَمَعْنَاهَا نَافِرَةٌ، يُقَالُ: نَفَرَ وَاسْتَنْفَرَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا يُقَالُ عَجِبَ وَاسْتَعْجَبَ.
[51] {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 51] قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: الْقَسْوَرَةُ جماعة الرُّمَاةُ لَا وَاحِدَ لَهَا مِنْ لَفْظِهَا، وَهِيَ رِوَايَةُ عَطَاءٍ عَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هُمُ الْقُنَّاصُ وَهِيَ رِوَايَةُ عطيه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ زيد بن أسلم: من رِجَالٌ أَقْوِيَاءُ وَكُلُّ ضَخْمٍ شَدِيدٍ عِنْدَ الْعَرَبِ قَسْوَرٌ وَقَسْوَرَةٌ. وَعَنْ أَبِي الْمُتَوَكِّلِ قَالَ: هِيَ لَغَطُ الْقَوْمِ وَأَصْوَاتُهُمْ. وَرَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هِيَ حِبَالُ الصَّيَّادِينَ. وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: هِيَ الْأَسَدُ، وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ وَالْكَلْبِيِّ وَذَلِكَ أَنَّ الْحُمُرَ الْوَحْشِيَّةَ إِذَا عَايَنَتِ الْأَسَدَ هَرَبَتْ، كَذَلِكَ هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكِينَ إِذَا سَمِعُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ الْقُرْآنَ هَرَبُوا مِنْهُ. قَالَ عِكْرِمَةُ: هِيَ ظُلْمَةُ اللَّيْلِ، وَيُقَالُ لِسَوَادِ أَوَّلِ اللَّيْلِ قَسْوَرَةٌ.
[52] {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} [المدثر: 52] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: إِنَّ كُفَّارَ قُرَيْشٍ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِيُصْبِحَ عِنْدَ رَأْسِ كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا كِتَابٌ مَنْشُورٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّكَ لَرَسُولُهُ نُؤْمَرُ فِيهِ بِاتِّبَاعِكَ. قَالَ الْكَلْبِيُّ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: يَا مُحَمَّدُ بَلَغَنَا أَنَّ الرَّجُلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَانَ يُصْبِحُ مَكْتُوبًا عِنْدَ رَأْسِهِ ذَنْبُهُ وَكَفَّارَتُهُ، فَأْتِنَا بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَالصُّحُفُ الْكُتُبُ وَهِيَ جُمَعُ الصَّحِيفَةِ ومنشرة منشورة.
[53] فقال الله - تعالى -: {كَلَّا} [المدثر: 53] لَا يُؤْتَوْنَ الصُّحُفَ. وَقِيلَ: حَقًّا وَكُلُّ مَا وَرَدَ عَلَيْكَ مِنْهُ فَهَذَا وَجْهُهُ {بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} [المدثر: 53] أَيْ لَا يَخَافُونَ عَذَابَ الْآخِرَةِ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَوْ خَافُوا النَّارَ لَمَا اقْتَرَحُوا هَذِهِ الْآيَاتِ بَعْدَ قيام الأدلة.
[54] {كَلَّا} [المدثر: 54] حقا {إِنَّهُ} [المدثر: 54] يعني القرآن {تَذْكِرَةٌ} [المدثر: 54] موعظة.
[55] {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} [المدثر: 55] اتعظ به.
[56] {وَمَا يَذْكُرُونَ} [المدثر: 56] قَرَأَ نَافِعٌ وَيَعْقُوبُ: تَذْكُرُونَ بِالتَّاءِ وَالْآخَرُونَ بِالْيَاءِ، {إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [المدثر: 56] قَالَ مُقَاتِلٌ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ لَهُمُ الْهُدَى. {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} [المدثر: 56] أي أهل أن تتقى مَحَارِمُهُ وَأَهْلُ أَنْ يَغْفِرَ لِمَنِ اتقاه.
[سورة القيامة]
[قوله تعالى لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ. . .]
(75) سورة القيامة [1] {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الْقِيَامَةِ: 1] قَرَأَ الْقَوَّاسُ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ (لَأُقْسِمُ) الْحَرْفُ الْأَوَّلُ بِلَا أَلِفٍ قَبْلَ الْهَمْزَةِ.
[2] {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [القيامة: 2] بِالْأَلِفِ، وَكَذَلِكَ قَرَأَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ الْأَعْرَجُ، عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ أَقْسَمَ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلَمْ يُقْسِمْ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَقْسَمَ بِهِمَا جَمِيعًا وَ (لَا) صِلَةَ فِيهِمَا أَيْ أَقْسَمَ بِيَوْمِ(6/988)
الْقِيَامَةِ وَبِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: هُوَ تَأْكِيدٌ كَقَوْلِكَ لَا وَاللَّهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: (لا) رد لكلام الْمُشْرِكِينَ الْمُنْكِرِينَ، ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ وَأُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللوامة {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} [الْقِيَامَةِ: 2] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةُ: تَلُومُ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَلَا تَصْبِرُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ. قال قتادة: اللوامة: الفاجرة. قال مُجَاهِدٌ: تَنْدَمُ عَلَى مَا فَاتَ وتقول: لو فعلت ولم أَفْعَلْ. قَالَ الْفَرَّاءُ: لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ بَرَّةٍ وَلَا فَاجِرَةٍ إِلَّا وهي تلوم نفسها، إن صانت عَمِلَتْ خَيْرًا قَالَتْ: هَلَّا ازْدَدْتُ، وإن عملت شرا قالت: لَيْتَنِي لَمْ أَفْعَلْ. قَالَ الْحَسَنُ: هِيَ النَّفْسُ الْمُؤْمِنَةُ قَالَ: إِنَّ الْمُؤْمِنَ وَاللَّهِ مَا تَرَاهُ إِلَّا يَلُومُ نَفْسَهُ: مَا أَرَدْتُ بِكَلَامِي ما أردت بكلامي. وإن الفاجر يمضي قدما، يحاسب نفسه ولا يعاتبها. قال مُقَاتِلٌ: هِيَ النَّفْسُ الْكَافِرَةُ تَلُومُ نَفْسَهَا فِي الْآخِرَةِ عَلَى مَا فَرَّطَتْ فِي أَمْرِ اللَّهِ فِي الدنيا.
[3] {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ} [القيامة: 3] يَعْنِي الْكَافِرَ {أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] بَعْدَ التَّفَرُّقِ وَالْبِلَى فَنُحْيِيهِ، قِيلَ: ذَكَرَ الْعِظَامَ، وَأَرَادَ نَفْسَهُ لِأَنَّ الْعِظَامَ قَالِبُ النَّفْسِ لَا يَسْتَوِي الْخَلْقُ إِلَّا بِاسْتِوَائِهَا. وَقِيلَ: هُوَ خَارِجٌ عَلَى قَوْلِ الْمُنْكِرِ أو يجمع اللَّهُ الْعِظَامَ كَقَوْلِهِ: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78]
[4] {بَلَى قَادِرِينَ} [القيامة: 4] أي نقدر يُرِيدُ بَلْ قَادِرِينَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَا، مَجَازُ الْآيَةِ: بَلَى نَقْدِرُ عَلَى جَمْعِ عِظَامِهِ وَعَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَهُوَ: {عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] أَنَامِلَهُ فَنَجْعَلُ أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ شَيْئًا وَاحِدًا كَخُفِّ الْبَعِيرِ وَحَافِرِ الْحِمَارِ، فَلَا يَرْتَفِقُ بِهَا بِالْقَبْضِ وَالْبَسْطِ وَالْأَعْمَالِ اللَّطِيفَةِ، كَالْكِتَابَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَغَيْرِهَا، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ: مَعْنَاهُ ظَنَّ الْكَافِرُ أَنَا لَا نَقْدِرُ عَلَى جَمْعِ عِظَامِهِ بَلَى نَقْدِرُ عَلَى أَنْ نُعِيدَ السُّلَامَيَاتِ عَلَى صِغَرِهَا فَنُؤَلِّفُ بَيْنَهَا حَتَّى نُسَوِّيَ الْبَنَانَ، فَمَنْ قَدَرَ عَلَى جَمْعِ صِغَارِ الْعِظَامِ فَهُوَ عَلَى جَمْعِ كِبَارِهَا أَقْدَرُ.
[5] {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} [القيامة: 5] يقول: لا جهل ابْنُ آدَمَ أَنَّ رَبَّهُ قَادِرٌ عَلَى جَمْعِ عِظَامِهِ لَكِنَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَفْجُرَ أَمَامَهُ أَيْ يَمْضِي قدما في مَعَاصِي اللَّهِ مَا عَاشَ رَاكِبًا رَأْسَهُ لَا يَنْزِعُ عَنْهَا وَلَا يَتُوبُ، هَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَالْحَسَنِ وَعِكْرِمَةَ وَالسُّدِّيِّ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ يُقْدِمُ عَلَى الذَّنْبِ وَيُؤَخِّرُ التَّوْبَةَ فَيَقُولُ: سَوْفَ أَتُوبُ سَوْفَ أَعْمَلُ حَتَّى يَأْتِيَهُ الْمَوْتُ عَلَى شَرِّ أَحْوَالِهِ وَأَسْوَأِ أَعْمَالِهِ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ الْأَمَلُ يَقُولُ: أَعِيشُ فَأُصِيبُ مِنَ الدُّنْيَا كَذَا وَكَذَا وَلَا يَذْكُرُ الْمَوْتَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ زَيْدٍ: يُكَذِّبُ بِمَا أَمَامَهُ مِنَ الْبَعْثِ وَالْحِسَابِ. وَأَصْلُ الْفُجُورِ الْمَيْلُ وَسُمِّي الْفَاسِقُ وَالْكَافِرُ فَاجِرًا لِمَيْلِهِ عَنِ الْحَقِّ.
[6] {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} [الْقِيَامَةِ: 6] أَيْ مَتَى يَكُونُ ذَلِكَ، تَكْذِيبًا بِهِ.
[7] قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} [القيامة: 7] قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: شَخَصَ الْبَصَرُ فَلَا يَطْرِفُ مِمَّا يَرَى مِنَ الْعَجَائِبِ الَّتِي كَانَ يُكَذِّبُ بِهَا فِي الدُّنْيَا. قِيلَ: ذَلِكَ عِنْدَ الْمَوْتِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: عِنْدَ رُؤْيَةِ جهنم تبرق أَبْصَارُ الْكُفَّارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالْخَلِيلُ: بَرِقَ بِالْكَسْرِ أَيْ فَزِعَ وَتَحَيَّرَ لما يرى من العجائب، وبرق بِالْفَتْحِ أَيْ شَقَّ عَيْنَهُ وَفَتَحَهَا مِنَ الْبَرِيقِ وَهُوَ التَّلَأْلُؤُ.
[8] {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} [القيامة: 8] أَظْلَمَ وَذَهَبَ نُورُهُ وَضَوْءُهُ.
[9] {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} [القيامة: 9] صارا أَسْوَدَيْنِ مُكَوَّرَيْنِ كَأَنَّهُمَا ثَوْرَانِ عَقِيرَانِ. وَقِيلَ: يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا فِي ذَهَابِ الضياء. وقال كعطاء بْنُ يَسَارٍ: يُجْمَعَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ يُقْذَفَانِ فِي الْبَحْرِ فَيَكُونَانِ نار الله الكبرى. وقيل: يجمعان ثم يقذفان في النار. وقيل: يجمعان فيطلعان من المغرب.
[10] {يَقُولُ الْإِنْسَانُ} [القيامة: 10] أَيِ الْكَافِرُ الْمُكَذِّبُ {يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} [القيامة: 10] أَيْ الْمَهْرَبُ وَهُوَ مَوْضِعُ الْفِرَارُ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ أَيْ أَيْنَ الْفِرَارُ.
[11] قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {كَلَّا لَا وَزَرَ} [القيامة: 11] لَا حِصْنَ(6/989)
وَلَا حِرْزَ وَلَا مَلْجَأَ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: لَا جَبَلَ وَكَانُوا إِذَا فَزِعُوا لَجَئُوا إِلَى الْجَبَلِ فَتُحَصَّنُوا به. وقال - تَعَالَى -: لَا جَبَلَ يَوْمَئِذٍ يَمْنَعُهُمْ.
[12] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} [القيامة: 12] أَيْ مُسْتَقَرُّ الْخَلْقِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْمَصِيرُ وَالْمَرْجِعُ نَظِيرُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -. {إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [الْعَلَقِ: 8] {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} [آل عمران: 28] وَقَالَ السُّدِّيُّ: الْمُنْتَهَى نَظِيرُهُ: {وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى} [النَّجْمِ: 42]
[13] {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13] قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ: بما قدم قبل الموت مِنْ عَمَلٍ صَالِحٍ وَسَيِّئٍ، وَمَا أَخَّرَ بَعْدَ مَوْتِهِ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُ بِهَا. وَقَالَ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: بِمَا قَدَّمَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ وَأَخَّرَ مِنَ الطَّاعَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: بِمَا قَدَّمَ مِنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَأَخَّرَ مِنْ حَقِّ اللَّهِ فَضَيَّعَهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِأَوَّلِ عَمَلِهِ وَآخِرِهِ. وَقَالَ عطاء: قَدَّمَ فِي أَوَّلِ عُمُرِهِ وَمَا أَخَّرَ فِي آخِرِ عُمُرِهِ. وَقَالَ زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ بِمَا قَدَّمَ مِنْ أَمْوَالِهِ لِنَفْسِهِ وَمَا أَخَّرَ خَلْفَهُ لِلْوَرَثَةِ.
[14] {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] قَالَ عِكْرِمَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: مَعْنَاهُ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ نَفْسِهِ رُقَبَاءُ يَرْقُبُونَهُ وَيَشْهَدُونَ عَلَيْهِ بِعَمَلِهِ، وَهِيَ سَمْعُهُ وَبَصَرُهُ وَجَوَارِحُهُ، وَدَخَلَ الْهَاءُ فِي الْبَصِيرَةِ لِأَنَّ المراد بالإنسان هنا جَوَارِحُهُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ، يَعْنِي لِجَوَارِحِهِ، فَحَذَفَ حَرْفَ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ} [الْبَقَرَةِ: 233] أَيْ لِأَوْلَادِكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِاسْمٍ مُؤَنَّثٍ، أَيْ بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ عَيْنٌ بَصِيرَةٌ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَعَطَاءٌ: بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ شَاهَدٌ وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَالْهَاءُ فِي بَصِيرَةٍ لِلْمُبَالِغَةِ، دَلِيلُ هَذَا التَّأْوِيلِ قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الْإِسْرَاءِ: 14]
[15] {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 15] يَعْنِي يَشْهَدُ عَلَيْهِ الشَّاهِدُ وَلَوِ اعْتَذَرَ وَجَادَلَ عَنْ نَفْسِهِ لَمْ ينفعه، كما قال {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} [غَافِرٍ: 52] وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَعَطَاءٍ. قَالَ الْفَرَّاءُ: وَلَوِ اعْتَذَرَ فَعَلَيْهِ مِنْ نَفْسِهِ مَنْ يُكَذِّبُ عُذْرَهُ، وَمَعْنَى الْإِلْقَاءِ: الْقَوْلُ كَمَا قَالَ: {فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النَّحْلِ: 86] وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ: {وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} [القيامة: 15] يَعْنِي وَلَوْ أَرْخَى السُّتُورَ وَأَغْلَقَ الْأَبْوَابَ، وَأَهْلُ الْيَمَنِ يُسَمُّونَ السِّتْرَ مِعْذَارًا وَجَمْعُهُ مَعَاذِيرُ، وَمَعْنَاهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ: وَإِنْ أَسْبَلَ السِّتْرَ ليخفي ما كان يَعْمَلُ فَإِنَّ نَفْسَهُ شَاهِدَةٌ عَلَيْهِ.
[16] وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - إذ نزل جبريل بالوحي كان يُحَرِّكُ لِسَانَهُ وَشَفَتَيْهِ فَيَشْتَدُّ عَلَيْهِ، وَكَانَ يُعْرَفَ مِنْهُ» فَأَنْزَلَ اللَّهُ -عز وجل- هذه الآية (1)
_________
(1) أخرجه البخاري في التفسير (8 / 682) ، ومسلم في الصلاة رقم (448) (1 / 230) .(6/990)
[17] {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} [القيامة: 17] قَالَ: عَلَيْنَا أَنْ نَجْمَعَهُ فِي صَدْرِكَ، وَقُرْآنَهُ.
[18] {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 18] فَإِذَا أَنْزَلْنَاهُ فَاسْتَمِعْ.
[19] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19] علينا أن نبينه بلسانك، «وكان إذا أتاه جبريل أَطْرَقَ فَإِذَا ذَهَبَ قَرَأَهُ كَمَا وعده اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.»
[قَوْلُهُ تَعَالَى كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ] . . .
[20 - 21] {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ - وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20 - 21] أَيْ يَخْتَارُونَ الدُّنْيَا عَلَى الْعُقْبَى وَيَعْمَلُونَ لَهَا يَعْنِي كَفَّارَ مَكَّةَ.
[22 - 23] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} [القيامة: 22] يوم القيامة {نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: حَسَنَةٌ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَسْرُورَةٌ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: نَاعِمَةٌ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِيضٌ يَعْلُوهَا النُّورُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: مُضِيئَةٌ. وَقَالَ يَمَانٌ: مُسْفِرَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: مُشْرِقَةٌ بِالنَّعِيمِ. يُقَالُ: نَضَّرَ اللَّهُ وَجْهَهُ يُنَضِّرُ نَضْرًا، وَنَضَّرَهُ اللَّهُ، وَأَنْضَرَهُ، وَنَضُرَ وَجْهُهُ، يَنْضُرُ، نَضْرَةً، وَنَضَارَةً. قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [الْمُطَفِّفِينَ: 24] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ النَّاسِ: تَنْظُرُ إِلَى رَبِّهَا عَيَانًا بِلَا حِجَابٍ. قَالَ الْحَسَنُ: تَنْظُرُ إِلَى الْخَالِقِ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَنْضُرَ وهي تنظر إلى الخالق.
[24] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} [القيامة: 24] عَابِسَةٌ كَالِحَةٌ مُغْبَرَّةٌ مُسَوَّدَةٌ.
[25] {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] تَسْتَيْقِنُ أَنْ يُعْمَلَ بِهَا عَظِيمَةٌ مِنَ الْعَذَابِ، وَالْفَاقِرَةُ: الدَّاهِيَةُ الْعَظِيمَةُ، وَالْأَمْرُ الشَّدِيدُ يَكْسِرُ فَقَارَ الظَّهْرِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: قَاصِمَةُ الظَّهْرِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: هِيَ دُخُولُ النَّارِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: هِيَ أن يحتجب عَنْ رُؤْيَةِ الرَّبِّ - عَزَّ وَجَلَّ -.
[26] {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ} [القيامة: 26] يَعْنِي النَّفْسَ كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مذكور، {التَّرَاقِيَ} [القيامة: 26] فحشرج بها عند الموت، والتراقي جَمْعُ التَّرْقُوَةِ، وَهِيَ الْعِظَامُ بَيْنَ ثُغْرَةِ النَّحْرِ وَالْعَاتِقِ وَيُكَنَّى بِبُلُوغِ النَّفْسِ التَّرَاقِيَ عَنِ الْإِشْرَافِ عَلَى الموت.
[27] {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة: 27] أَيْ قَالَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ: هَلْ مِنْ طَبِيبٍ يَرْقِيهِ وَيُدَاوِيهِ فَيَشْفِيَهُ بَرُقْيَتِهِ أَوْ دَوَائِهِ، وَقَالَ قَتَادَةُ: الْتَمَسُوا لَهُ الْأَطِبَّاءَ فَلَمْ يُغْنُوا عَنْهُ مِنْ قَضَاءِ اللَّهِ شَيْئًا. وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ وَمُقَاتِلُ بْنُ سُلَيْمَانَ: هَذَا مِنْ قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: مَنْ يَرْقَى بِرُوحِهِ فَتَصْعَدُ بِهَا مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ أَوْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ.
[28] {وَظَنَّ} [القيامة: 28] أيقن الذين بَلَغَتْ رُوحُهُ التَّرَاقِيَ، {أَنَّهُ الْفِرَاقُ} [القيامة: 28] مِنَ الدُّنْيَا.
[29] {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} [القيامة: 29] قال قتادة: الشدة بالشدة. قال عَطَاءٌ: شِدَّةُ الْمَوْتِ بِشِدَّةِ الْآخِرَةِ. قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: تَتَابَعَتْ عَلَيْهِ الشدائد. قال السُّدِّيُّ: لَا يَخْرُجُ مِنْ كَرْبٍ إِلَّا جَاءَهُ أَشَدُّ مِنْهُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمْرُ الدُّنْيَا بِأَمْرِ الْآخِرَةِ فَكَانَ فِي آخِرِ يَوْمٍ مِنَ الدُّنْيَا وَأَوَّلِ يَوْمٍ مِنْ أَيْامِ الْآخِرَةِ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اجْتَمَعَ فِيهِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: النَّاسُ يُجَهِّزُونَ جَسَدَهُ وَالْمَلَائِكَةُ يُجَهِّزُونَ رُوحَهُ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمَا سَاقَاهُ إذا التفا فِي الْكَفَنِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: هُمَا ساقاه إذا التفا عِنْدَ الْمَوْتِ.
[30] {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} [القيامة: 30] أي مرجع العباد إِلَى اللَّهِ يُسَاقُونَ إِلَيْهِ.
[31] {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى} [القيامة: 31] يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ لَمْ يُصَدِّقْ بِالْقُرْآنِ وَلَا صَلَّى لِلَّهِ.
[32] {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [القيامة: 32] عَنِ الْإِيمَانِ.
[33] {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ} [القيامة: 33] رجع إليهم، {يَتَمَطَّى} [القيامة: 33] يتبختر ويختال في مشيه، قيل: أَصْلُهُ يَتَمَطَّطُ أَيْ يَتَمَدَّدُ، وَالْمَطُّ هُوَ الْمَدُّ.
[34 - 35] {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى - ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} [القيامة: 34 - 35] هَذَا وَعِيدٌ عَلَى وَعِيدٍ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لِأَبِي جَهْلٍ، وَهِيَ كَلِمَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَاهُ أَنَّكَ أَجْدَرُ بِهَذَا الْعَذَابِ وَأَحَقُّ وَأَوْلَى به، تقال للرجل حيث يُصِيبُهُ مَكْرُوهٌ(6/991)
يَسْتَوْجِبُهُ. وَقِيلَ: هِيَ كَلِمَةٌ تَقُولُهَا الْعَرَبُ لِمَنْ قَارَبَهُ الْمَكْرُوهُ. وَأَصْلُهَا من الولي وَهُوَ الْقُرْبُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123]
[36] {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} [القيامة: 36] هَمَلًا لَا يُؤْمَرُ وَلَا يُنْهَى، قال السُّدِّيُّ: مَعْنَاهُ الْمُهْمَلُ وَإِبِلٌ سُدًى إِذَا كَانَتْ تَرْعَى حَيْثُ شَاءَتْ بِلَا رَاعٍ.
[37] {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} [القيامة: 37] تُصَبُّ فِي الرَّحِمِ، قَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: (يُمَنَّى) بِالْيَاءِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِالتَّاءِ لِأَجْلِ النُّطْفَةِ.
[38] {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} [القيامة: 38] فجعل فيه الروح وسوف خَلْقَهُ.
[39] {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [القيامة: 39] وخلق مِنْ مَائِهِ أَوْلَادًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا.
[40] {أَلَيْسَ ذَلِكَ} [القيامة: 40] الَّذِي فَعَلَ هَذَا، {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]
[سورة الإنسان]
[قوله تعالى هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ] يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا. . .
(76) سورة الإنسان [1] {هَلْ أَتَى} [الإنسان: 1] قد أتى، {عَلَى الْإِنْسَانِ} [الْإِنْسَانَ: 1] يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، {حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} [الإنسان: 1] قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] لَا يُذْكَرُ وَلَا يُعْرَفُ وَلَا يُدْرَى مَا اسْمُهُ وَلَا مَا يُرَادُ بِهِ، يُرِيدُ: كَانَ شَيْئًا وَلَمْ يَكُنْ مَذْكُورًا، وَذَلِكَ مِنْ حِينِ خَلَقَهُ مِنْ طِينٍ إِلَى أن نفخ فيه الروح.
[2] {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} [الْإِنْسَانَ: 2] يَعْنِي وَلَدَ آدَمَ، {مِنْ نُطْفَةٍ} [الإنسان: 2] يَعْنِي مَنِيِّ الرَّجُلِ وَمَنِيِّ الْمَرْأَةِ. {أَمْشَاجٍ} [الإنسان: 2] أَخْلَاطٍ وَاحِدُهَا مَشْجٌ ومَشِيجٌ، مِثْلُ خِدْنٍ وَخَدِينٍ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَالرَّبِيعُ: يَعْنِي مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ يَخْتَلِطَانِ فِي الرحم فيكون منهما الولد، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: أَرَادَ بِالْأَمْشَاجِ اخْتِلَافُ أَلْوَانِ النُّطْفَةِ فَنُطْفَةُ الرَّجُلِ بَيْضَاءُ وحمراء وَنُطْفَةُ الْمَرْأَةِ خَضْرَاءُ وَحَمْرَاءُ وَصَفْرَاءُ، وَقَالَ يَمَانٌ: كُلُّ لَوْنَيْنِ اخْتَلَطَا فهو أمشاج، وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ أَطْوَارُ الْخَلْقِ: نُطْفَةً، ثُمَّ عَلَقَةً ثُمَّ مُضْغَةً، ثُمَّ عَظْمًا ثُمَّ يَكْسُوهُ لَحْمًا ثُمَّ يُنْشِئُهُ خَلْقًا آخَرَ. {نَبْتَلِيهِ} [الإنسان: 2] نَخْتَبِرُهُ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] قال بعض أهل العربية: وفيه تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، مَجَازُهُ: فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا لِنَبْتَلِيَهُ، لِأَنَّ الِابْتِلَاءَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْخِلْقَةِ.
[3] {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} [الإنسان: 3] أَيْ بَيَّنَّا لَهُ سَبِيلَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالَةِ، وَعَرَّفْنَاهُ طَرِيقَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ. {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] إِمَّا مُؤْمِنًا سَعِيدًا وَإِمَّا كَافِرًا شَقِيًّا. وَقِيلَ: مَعْنَى الْكَلَامِ الْجَزَاءُ يَعْنِي بَيَّنَّا لَهُ الطَّرِيقَ إِنْ شَكَرَ أَوْ كَفَرَ.
[4] ثُمَّ بَيَّنَ مَا لِلْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ} [الإنسان: 4] يعني في جهنم، {وَأَغْلَالًا} [الإنسان: 4] يعني في أيديهم تغل في أعناقهم، {وَسَعِيرًا} [الإنسان: 4] وقودا شديدا.(6/992)
[5] {إِنَّ الْأَبْرَارَ} [الإنسان: 5] يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِي إِيمَانِهِمُ المطيعين لربهم، {يَشْرَبُونَ} [الإنسان: 5] في الآخرة، {مِنْ كَأْسٍ} [الإنسان: 5] فيه شراب {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان: 5] قَالَ قَتَادَةُ: يُمْزَجُ لَهُمْ بِالْكَافُورِ وَيُخْتَمُ بِالْمِسْكِ، قَالَ عِكْرِمَةُ: مِزَاجُهَا طَعْمُهَا، وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: أَرَادَ كَالْكَافُورِ فِي بَيَاضِهِ وَطِيبِ رِيحِهِ وَبَرْدِهِ، لِأَنَّ الْكَافُورَ لَا يُشْرَبُ، وَهُوَ كَقَوْلِهِ {حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا} [الْكَهْفِ: 96] أَيْ كَنَارٍ، وَهَذَا معنى قول مجاهد ومقاتل وَمُجَاهِدٍ: يُمَازِجُهُ رِيحُ الْكَافُورِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: طُيِّبَتْ بِالْكَافُورِ وَالْمِسْكِ والزنجبيل. قال عَطَاءٌ وَالْكَلْبِيُّ: الْكَافُورُ اسْمٌ لِعَيْنِ ماء في الجنة.
[قوله تَعَالَى عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا] تَفْجِيرًا. . .
[6] {عَيْنًا} [الإنسان: 6] نصب تبعا للكافور وقيل: نَصْبٌ عَلَى الْمَدْحِ. وَقِيلَ: أَعْنِي عَيْنًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى مِنْ عَيْنٍ، {يَشْرَبُ بِهَا} [الإنسان: 6] قِيلَ: يَشْرَبُهَا وَالْبَاءُ صِلَةٌ. وَقِيلَ: بِهَا أَيْ مِنْهَا، {عِبَادُ اللَّهِ} [الإنسان: 6] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَوْلِيَاءُ اللَّهِ، {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] أَيْ يَقُودُونَهَا حَيْثُ شَاءُوا مِنْ مَنَازِلِهِمْ، وَقُصُورِهِمْ، كَمَنْ يَكُونُ لَهُ نهر يفجره ههنا إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ.
[7] {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] هَذَا مِنْ صِفَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا: أَيْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا كَذَلِكَ، قَالَ قَتَادَةُ: أَرَادَ يُوفُونَ بِمَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الصَّلَاةِ والزكاة والصوم والحج والعمرة، وغيره مِنَ الْوَاجِبَاتِ، وَمَعْنَى النَّذْرِ الْإِيجَابُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ: إِذَا نَذَرُوا فِي طَاعَةِ اللَّهِ وَفَّوْا بِهِ، {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] فَاشِيًا مُمْتَدًّا، يُقَالُ: اسْتَطَارَ الصُّبْحُ إِذَا امْتَدَّ وَانْتَشَرَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: كان شره فاشيا في السموات، فَانْشَقَّتْ وَتَنَاثَرَتِ الْكَوَاكِبُ، وَكُوِّرَتِ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَفَزِعَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَفِي الْأَرْضِ: فَنُسِفَتِ الْجِبَالُ وَغَارَتِ الْمِيَاهُ وَتَكَسَّرَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى الْأَرْضِ مِنْ جَبَلٍ وَبِنَاءٍ.
[8] {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} [الإنسان: 8] أَيْ عَلَى حُبِّ الطَّعَامِ وَقِلَّتِهِ وَشَهْوَتِهِمْ لَهُ وَحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ، وَقِيلَ على حب الله، {مِسْكِينًا} [الإنسان: 8] فَقِيرًا لَا مَالَ لَهُ، {وَيَتِيمًا} [الإنسان: 8] صَغِيرًا لَا أَبَ لَهُ {وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٌ: هُوَ الْمَسْجُونُ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَمَرَ اللَّهُ بِالْأُسَرَاءِ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْهِمْ وَإِنَّ أَسْرَاهُمْ يَوْمَئِذٍ لَأَهْلُ الشِّرْكِ. وَقِيلَ: الأسير المملوك. وقيل المرأة، يَقُولَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اتَّقَوْا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُمْ عَوَانٌ» (1) أَيْ أُسَرَاءُ.
[9] {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] وَالشُّكُورُ مَصْدَرٌ كَالْعُقُودِ وَالدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ. قَالَ مُجَاهِدٌ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: إِنَّهُمْ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، فَأَثْنَى عَلَيْهِمْ.
[10] {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا} [الإنسان: 10] تَعْبَسُ فِيهِ الْوُجُوهُ مِنْ هَوْلِهِ وشدته، ونسب الْعَبُوسُ إِلَى الْيَوْمِ، كَمَا يُقَالُ: يوم صائم وليل نائم. وَقِيلَ: وُصِفَ الْيَوْمُ بِالْعَبُوسِ لِمَا فيه من الشدة، {قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 10] قَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: الْقَمْطَرِيرُ الَّذِي يَقْبِضُ الْوُجُوهَ وَالْجِبَاهَ بِالتَّعْبِيسِ. وقال الْكَلْبِيُّ: الْعَبُوسُ الَّذِي لَا انْبِسَاطَ فيه، والقمطرير: الشَّدِيدُ، قَالَ الْأَخْفَشُ: الْقَمْطَرِيرُ: أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ الْأَيَّامِ وَأَطْوَلُهُ فِي الْبَلَاءِ، يُقَالُ: يَوْمٌ قَمْطَرِيرٌ وَقُمَاطِرٌ إِذَا كَانَ شَدِيدًا كَرِيهًا.
[11] {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} [الإنسان: 11] الذي، يخافون، {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً} [الإنسان: 11] حسنا في وجوههم، {وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] فِي قُلُوبِهِمْ.
[12] {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} [الإنسان: 12] عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ وَاجْتِنَابِ مَعْصِيَتِهِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: عَلَى الْفَقْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: عَلَى الْجُوعِ {جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12] قال
_________
(1) قطعة من حديث أخرجه الطحاوي في مشكل الآثار (3 / 212) والترمذي في أبواب الرضاع (4 / 326) قال: " حسن صحيح " وابن ماجه في النكاح برقم (1851) 1 / 594.(6/993)
الْحَسَنُ: أَدْخَلَهُمُ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَأَلْبَسَهُمُ الحرير.
[13] {مُتَّكِئِينَ} [الإنسان: 13] نصب على الحال، {فِيهَا} [الإنسان: 13] في الجنة {عَلَى الْأَرَائِكِ} [الإنسان: 13] السُّرُرُ فِي الْحِجَالِ، وَلَا تَكُونُ أَرِيكَةً إِلَّا إِذَا اجْتَمَعَا، {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13] أَيْ صَيْفًا وَلَا شِتَاءً. قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي شَمْسًا يُؤْذِيهِمْ حَرُّهَا وَلَا زَمْهَرِيرًا يُؤْذِيهِمْ بِرْدُهُ، لِأَنَّهُمَا يُؤْذِيَانِ فِي الدُّنْيَا. وَالزَّمْهَرِيرُ: الْبَرْدُ الشديد.
[14] {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} [الإنسان: 14] أَيْ قَرِيبَةً مِنْهُمْ ظِلَالُ أَشْجَارِهَا، وَنُصِبَ (دَانِيَةً) بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: (مُتَّكِئِينَ) ، وَقِيلَ: عَلَى مَوْضِعِ قَوْلِهِ: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13] وَيَرَوْنَ (دَانِيَةً) ، وَقِيلَ: عَلَى الْمَدْحِ. {وَذُلِّلَتْ} [الإنسان: 14] سخرت وقربت، {قُطُوفُهَا} [الإنسان: 14] ثمارها {تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14] يَأْكُلُونَ مِنْ ثِمَارِهَا قِيَامًا وَقُعُودًا وَمُضْطَجِعِينَ، وَيَتَنَاوَلُونَهَا كَيْفَ شَاءُوا عَلَى أي حال كانوا.
[15 - 16] {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا - قَوَارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ} [الإنسان: 15 - 16] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَرَادَ بَيَاضَ الْفِضَّةِ فِي صَفَاءِ الْقَوَارِيرِ، فَهِيَ مِنْ فِضَّةٍ فِي صَفَاءِ الزُّجَاجِ، يَرَى مَا فِي دَاخِلِهَا مِنْ خَارِجِهَا، {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان: 16] الْكَأْسَ عَلَى قَدْرِ رِيِّهِمْ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، أَيْ قَدَّرَهَا لَهُمُ السُّقَاةُ وَالْخَدَمُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ عَلَيْهِمْ يُقَدِّرُونَهَا ثُمَّ يُسْقَوْنَ.
[17] {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} [الإنسان: 17] يُشَوِّقُ وَيُطْرِبُ، وَالزَّنْجَبِيلُ: مِمَّا كَانَتِ الْعَرَبُ تَسْتَطِيبُهُ جِدًّا، فَوَعَدَهُمُ اللَّهُ - تَعَالَى - أَنَّهُمْ يُسْقَوْنَ فِي الْجَنَّةِ الْكَأْسَ الْمَمْزُوجَةَ بِزَنْجَبِيلِ الْجَنَّةِ. قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يُشْبِهُ زَنْجَبِيلَ الدُّنْيَا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلُّ مَا ذكره اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ مِمَّا فِي الْجَنَّةِ وَسَمَّاهُ لَيْسَ لَهُ فِي الدُّنْيَا مِثْلٌ. وَقِيلَ: هُوَ عَيْنٌ فِي الْجَنَّةِ يُوجَدُ مِنْهَا طَعْمُ الزَّنْجَبِيلِ. قَالَ قَتَادَةُ: يَشْرَبُهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا، وَيُمْزَجُ لِسَائِرِ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
[18] {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 18] قَالَ قَتَادَةُ: سَلِسَةٌ مُنْقَادَةٌ لَهُمْ يصرفونها حيث شاءوا، قال مجاهد: حديدة الجرية. قال أَبُو الْعَالِيَةِ وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: سُمِّيَتْ سَلْسَبِيلًا لِأَنَّهَا تَسِيلُ عَلَيْهِمْ فِي الطُّرُقِ وَفِي مَنَازِلِهِمْ، تَنْبُعُ مِنْ أَصْلِ الْعَرْشِ مِنْ جَنَّةِ عَدْنٍ إِلَى أَهْلِ الْجِنَانِ، وَشَرَابُ الْجَنَّةِ عَلَى بَرْدِ الْكَافُورِ وَطَعْمِ الزَّنْجَبِيلِ وَرِيحِ الْمِسْكِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: سُمِّيَتْ سَلْسَبِيلًا لِأَنَّهَا فِي غَايَةِ السَّلَاسَةِ تَتَسَلْسَلُ فِي الْحَلْقِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (تُسَمَّى) أَيْ تُوصَفُ لِأَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ سَلْسَبِيلًا صِفَةٌ لَا اسْمٌ.
[19] {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} [الإنسان: 19] قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ فِي بَيَاضِ اللُّؤْلُؤِ وَحُسْنِهِ، وَاللُّؤْلُؤُ إِذَا نُثِرَ مِنَ الْخَيْطِ عَلَى الْبِسَاطِ، كَانَ أَحْسَنَ مِنْهُ مَنْظُومًا. وَقَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: إِنَّمَا شُبِّهُوا بِالْمَنْثُورِ لِانْتِثَارِهِمْ فِي الْخِدْمَةِ، فَلَوْ كَانُوا صَفًّا لَشُبِّهُوا بِالْمَنْظُومِ.
[20] {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ} [الإنسان: 20] أَيْ إِذَا رَأَيْتَ بِبَصَرِكَ(6/994)
وَنَظَرْتَ بِهِ ثَمَّ يَعْنِي فِي الجنة، {رَأَيْتَ نَعِيمًا} [الإنسان: 20] لا يوصف، {وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] وَهُوَ أَنَّ أَدْنَاهُمْ مَنْزِلَةً يَنْظُرُ إِلَى مُلْكِهِ فِي مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ يَرَى أَقْصَاهُ كَمَا يَرَى أدناه. قال مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ أَنَّ رَسُولَ رَبِّ الْعِزَّةِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقِيلَ: مُلْكًا لَا زَوَالَ لَهُ.
[21] {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ} [الإنسان: 21] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. وَحَمْزَةُ (عَالِيهِمْ) سَاكِنَةَ الْيَاءِ مَكْسُورَةَ الْهَاءِ، فَيَكُونُ فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ ثِيَابُ سُنْدُسٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِنَصْبِ الْيَاءِ وَضَمِّ الْهَاءِ عَلَى الصِّفَةِ، أَيْ فَوْقَهُمْ، وَهُوَ نَصْبٌ عَلَى الظَّرْفِ، ثِيَابُ سُنْدُسٍ {خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] قِيلَ: طَاهِرًا مِنَ الْأَقْذَارِ وَالْأَقْذَاءِ لَمْ تُدَنِّسْهُ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ كَخَمْرِ الدُّنْيَا. وَقَالَ أَبُو قِلَابَةَ وَإِبْرَاهِيمُ: إِنَّهُ لَا يَصِيرُ بَوْلًا نَجِسًا وَلَكِنَّهُ يَصِيرُ رَشْحًا فِي أَبْدَانِهِمْ، كَرِيحِ الْمِسْكِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ بالطعام فيأكلون، فَإِذَا كَانَ آخِرُ ذَلِكَ أُتُوا بالشراب الطهور، فيشربون فتطهر بُطُونَهُمْ وَيَصِيرُ مَا أَكَلُوا رَشْحًا يخرج من جلودهم أَطْيَبَ مِنَ الْمِسْكِ الْأَذْفَرِ، وَتَضْمُرُ بُطُونُهُمْ وَتَعُودُ شَهْوَتُهُمْ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُوَ عَيْنُ مَاءٍ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا نَزَعَ اللَّهُ مَا كَانَ فِي قَلْبِهِ مِنْ غِلٍّ وَغِشٍّ وَحَسَدٍ.
[22] {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22] أَيْ مَا وُصِفَ مِنْ نَعِيمِ الْجَنَّةِ كَانَ لَكُمْ جَزَاءً بِأَعْمَالِكُمْ، وَكَانَ سَعْيُكُمْ عَمَلُكُمْ فِي الدُّنْيَا بِطَاعَةِ اللَّهِ مَشْكُورًا، قَالَ عَطَاءٌ: شكرتكم عليه وأثبتكم أَفْضَلَ الثَّوَابِ.
[23] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} [الإنسان: 23] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مُتَفَرِّقًا آيَةً بَعْدَ آيَةٍ، وَلَمْ يَنْزِلْ جُمْلَةً وَاحِدَةً.
[24] {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ} [الإنسان: 24] يَعْنِي مِنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ، {آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] يعني وكفورا، والألف صلة.
[قوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا] . . .
[25 - 26] قوله - عز وجل -: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا - وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} [الإنسان: 25 - 26] يَعْنِي صَلَاةَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26] يَعْنِي التَّطَوُّعَ بَعْدَ الْمَكْتُوبَةِ.
[27] {إِنَّ هَؤُلَاءِ} [الإنسان: 27] يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} [الإنسان: 27] أَيِ الدَّارَ الْعَاجِلَةَ وَهِيَ الدُّنْيَا. {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ} [الإنسان: 27] يعني أمامهم، {يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27] شَدِيدًا وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. أَيْ يتركون فَلَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَلَا يَعْمَلُونَ له.
[28] {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا} [الإنسان: 28] قوينا وأحكمنا، {أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: أَسْرَهُمْ أَيْ خَلْقَهُمْ، يُقَالُ رَجُلٌ حَسَنُ الْأَسْرِ أَيِ الْخَلْقِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: يعني أوصالهم شددنا بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ بِالْعُرُوقِ وَالْعَصَبِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي تَفْسِيرِ الأسر قال: الفرج يَعْنِي مَوْضِعَ مَصْرَفَيِ الْبَوْلِ(6/995)
والغائط إذا خرج الأذى انقبضا. {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} [الإنسان: 28] أَيْ إِذَا شِئْنَا أَهْلَكْنَاهُمْ وَأَتَيْنَا بِأَشْبَاهِهِمْ فَجَعَلْنَاهُمْ بَدَلًا مِنْهُمْ.
[29] {إِنَّ هَذِهِ} [الإنسان: 29] يعني هذه السورة، {تَذْكِرَةٌ} [الإنسان: 29] تَذْكِيرٌ وَعِظَةٌ، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان: 29] وسيلة للطاعة. 30،
[31] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30] أَيْ لَسْتُمْ تَشَاءُونَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِلَيْهِ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا - يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ} [الإنسان: 30 - 31] أَيِ الْمُشْرِكِينَ. {أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31]
[سورة المرسلات]
[قوله تعالى وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا. .] .
(77) سورة المرسلات [1] {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} [المرسلات: 1] يَعْنِي الرِّيَاحَ أُرْسِلَتْ مُتَتَابِعَةً كَعُرْفِ الْفَرَسِ. وَقِيلَ: عُرْفًا أَيْ كَثِيرًا، تَقُولُ الْعَرَبُ: النَّاسُ إِلَى فُلَانٍ عُرْفٌ وَاحِدٌ، إِذَا تَوَجَّهُوا إِلَيْهِ فَأَكْثَرُوا، هَذَا مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ وقتادة، قال مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الَّتِي أُرْسِلَتْ بِالْمَعْرُوفِ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ وَنَهْيِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ مَسْرُوقٍ عَنِ ابْنِ مسعود.
[2] {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا} [المرسلات: 2] يَعْنِي الرِّيَاحَ الشَّدِيدَةَ الْهُبُوبِ.
[3] {وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا} [المرسلات: 3] يَعْنِي الرِّيَاحَ اللَّيِّنَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هي الرِّيَاحَ اللَّيِّنَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي يُرْسِلُهَا اللَّهُ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ. وَقِيلَ: هِيَ الرِّيَاحُ الَّتِي تَنْشُرُ السَّحَابَ وَتَأْتِي بِالْمَطَرِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ ينشرون الكتب.
[4] {فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا} [المرسلات: 4] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ: يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَأْتِي بِمَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ: هِيَ آيُ الْقُرْآنِ تُفَرِّقُ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: هِيَ الرِّيَاحُ تُفَرِّقُ السحاب وتبدده.
[5] {فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} [المرسلات: 5] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تُلْقِي الذِّكْرَ إِلَى الْأَنْبِيَاءِ، نَظِيرُهَا: {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ} [غَافِرٍ: 15]
[6] {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} [المرسلات: 6] أي للإعذار والإنذار.
[7] {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} [المرسلات: 7] مِنْ أَمْرِ السَّاعَةِ وَالْبَعْثِ، {لَوَاقِعٌ} [المرسلات: 7] لَكَائِنٌ ثُمَّ ذَكَرَ مَتَى يَقَعُ.
[8] فقال: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات: 8] مُحِيَ نُورُهَا.
[9] {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات: 9] شقت.
[10] فقال: {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات: 10] قُلِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا.
[11] {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] جُمِعَتْ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ لِيَشْهَدُوا عَلَى الْأُمَمِ.
[12] {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} [المرسلات: 12] أَيْ أُخِّرَتْ، وَضَرَبَ الْأَجَلَ لِجَمْعِهِمْ فَعَجِبَ الْعِبَادُ مِنْ ذَلِكَ الْيَوْمِ.
[13] ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} [المرسلات: 13] قال ابن عباس: يوم فصل الرحمن بَيْنَ الْخَلَائِقِ.
[14- 16] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ - أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} [المرسلات: 14 - 16] يَعْنِي الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ بِالْعَذَابِ فِي الدُّنْيَا حِينَ كَذَّبُوا رُسُلَهُمْ.
[17] {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} [المرسلات: 17] السَّالِكِينَ سَبِيلَهُمْ فِي الْكُفْرِ وَالتَّكْذِيبِ، يَعْنِي كَفَّارَ مَكَّةَ بِتَكْذِيبِهِمْ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[قَوْلُهُ تَعَالَى أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ فَجَعَلْنَاهُ] فِي قَرَارٍ مَكِينٍ. . .
[18- 20] {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات: 18] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ - أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 19 - 20] يَعْنِي النُّطْفَةَ.
[21] {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المرسلات: 21] يَعْنِي الرَّحِمَ.
[22] {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} [المرسلات: 22] وهو وقت الولادة.
[23] {فَقَدَرْنَا} [المرسلات: 23] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالْكِسَائِيُّ (فَقَدَّرْنَا) بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّقْدِيرِ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِالتَّخْفِيفِ مِنَ الْقُدْرَةِ، لِقَوْلِهِ: {فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} [المرسلات: 23] وَقِيلَ: مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَقَوْلُهُ: (فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) أَيِ الْمُقَدِّرُونَ. 24,
[25] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ - أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} [المرسلات: 24 - 25] وِعَاءً، وَمَعْنَى الْكَفْتِ: الضَّمُّ وَالْجَمْعُ، يُقَالُ: كَفَتَ الشَّيْءَ إِذَا ضَمَّهُ وَجَمَعَهُ. وَقَالَ الفَرَّاءُ:(6/996)
يُرِيدُ تَكْفِتُهُمْ أَحْيَاءً عَلَى ظَهْرِهَا فِي دُورِهِمْ وَمَنَازِلِهِمْ وَتَكْفِتُهُمْ أَمْوَاتًا في بطنها، أي تحوزهم. 26,
[27] وَهُوَ قَوْلُهُ: {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا - وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} [المرسلات: 26 - 27] جبالا. {شَامِخَاتٍ} [المرسلات: 27] عاليات، {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27] عذبا.
[28] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 28] قَالَ مُقَاتِلٌ: وَهَذَا كُلُّهُ أَعْجَبُ من البعث الذي تكذبون به، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ:
[29] {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المرسلات: 29] فِي الدُّنْيَا.
[30] {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} [المرسلات: 30] يَعْنِي دُخَانَ جَهَنَّمَ إِذَا ارْتَفَعَ انْشَعَبَ وَافْتَرَقَ ثَلَاثَ فِرَقٍ. وَقِيلَ: يَخْرُجُ عُنُقٌ مِنَ النَّارِ فَيَتَشَعَّبُ ثلاث: نور ودخان ولهب، فأما النُّورُ فَيَقِفُ عَلَى رُءُوسِ الْمُؤْمِنِينَ، وَالدُّخَانُ يَقِفُ عَلَى رُءُوسِ الْمُنَافِقِينَ، وَاللَّهَبُ الصَّافِي يَقِفُ عَلَى رُءُوسِ الْكَافِرِينَ.
[31] ثُمَّ وَصَفَ ذَلِكَ الظِّلَّ فقال: {لَا ظَلِيلٍ} [المرسلات: 31] يُظِلُّ مِنَ الْحَرِّ {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [المرسلات: 31] قَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا يَرُدُّ لَهَبَ جَهَنَّمَ عَنْكُمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا اسْتَظَلُّوا بِذَلِكَ الظِّلِّ لَمْ يَدْفَعْ عنهم حر اللهب.
[32] {إِنَّهَا} [المرسلات: 32] يعني جهنم، {تَرْمِي بِشَرَرٍ} [المرسلات: 32] وَهُوَ مَا تَطَايَرَ مِنَ النَّارِ، واحدها شررة. {كَالْقَصْرِ} [المرسلات: 32] وَهُوَ الْبِنَاءُ الْعَظِيمُ، قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: يَعْنِي الْحُصُونَ. وَقَالَ عَبْدُ الرحمن بن عباس عن قوله: (إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ) قَالَ: هي الخشب العظام المقطعة.
[33] {كَأَنَّهُ} [المرسلات: 33] رد الكناية إلى اللفظ، {جِمَالَتٌ} [المرسلات: 33] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ (جِمَالَةٌ) عَلَى جَمْعِ الْجَمَلِ مِثْلُ حَجَرٍ وَحِجَارَةٍ، وَقَرَأَ يَعْقُوبُ بِضَمِّ الْجِيمِ بِلَا أَلِفٍ، أَرَادَ الْأَشْيَاءَ الْعِظَامَ الْمَجْمُوعَةَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ (جِمَالَاتٌ) بِالْأَلِفِ وَكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى جَمْعِ الْجِمَالِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ حِبَالُ السُّفُنِ يُجْمَعُ بَعْضُهَا إِلَى بعض، حتى يكون كأوساط الرجال، {صُفْرٌ} [المرسلات: 33] جَمْعُ الْأَصْفَرِ، يَعْنِي لَوْنَ النَّارِ، وَقِيلَ: الصُّفْرُ مَعْنَاهُ السُّودُ لِأَنَّهُ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّ شَرَرَ نَارِ جَهَنَّمَ أَسْوَدُ كَالْقِيرِ» ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّى سُودَ الْإِبِلِ صُفْرًا لِأَنَّهُ يَشُوبُ سَوَادَهَا شَيْءٌ مِنْ صُفْرَةٍ كَمَا يُقَالُ لِبَيْضِ الظِّبَاءِ: أُدْمٌ، لِأَنَّ بَيَاضَهَا يَعْلُوهُ كُدْرَةٌ. 34,
[35] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ - هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} [المرسلات: 34 - 35] أي في القيامة لأن فيها مَوَاقِفُ، فَفِي بَعْضِهَا يَخْتَصِمُونَ وَيَتَكَلَّمُونَ، وَفِي بَعْضِهَا يُخْتَمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ فَلَا يَنْطِقُونَ.
[36] {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] قَالَ الْجُنَيْدُ: أَيْ لَا عُذْرَ لِمَنْ أَعْرَضَ عَنْ مُنْعِمِهِ وَكَفَرَ بِأَيَادِيهِ وَنِعَمِهِ. 37,
[38] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ - هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} [المرسلات: 37 - 38] بَيْنَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، {جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} [المرسلات: 38] يَعْنِي مُكَذِّبِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَالْأَوَّلِينَ الذين كانوا أَنْبِيَاءَهُمْ.(6/997)
[39] {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [المرسلات: 39] قَالَ مُقَاتِلٌ: إِنْ كَانَتْ لَكُمْ حيلة فاحتلوا لِأَنْفُسِكُمْ. 40,
[41] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ - إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ} [المرسلات: 40 - 41] جَمْعُ ظِلٍّ أَيْ فِي ظِلَالِ الشجر, {وَعُيُونٍ} [المرسلات: 41] الماء.
[42] {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [المرسلات: 42]
[43] وَيُقَالُ لَهُمْ: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المرسلات: 43] فِي الدُّنْيَا بِطَاعَتِي. 44,
[45] {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ - وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} [المرسلات: 44 - 45]
[46] ثُمَّ قَالَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا} [المرسلات: 46] في الدنيا، {إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} [المرسلات: 46] مُشْرِكُونَ بِاللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - مُسْتَحِقُّونَ للعذاب. 47,
[48] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ - وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا} [المرسلات: 47 - 48] يعني صلوا، {لَا يَرْكَعُونَ} [المرسلات: 48] لَا يُصَلُّونَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا-: إِنَّمَا يُقَالُ لَهُمْ هَذَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِينَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ. 49,
[50] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ - فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ} [المرسلات: 49 - 50] أي بعد القرآن, {يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50] إِذَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ.
[سُورَةُ النبأ]
[قوله تعالى عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ النَّبَأ الْعَظِيمِ. . .]
(78) سورة النبأ [1] {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ} [النبأ: 1] أي عن أي شيء يتساءل هَؤُلَاءِ الْمُشْرِكُونَ، وَذَلِكَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى التَّوْحِيدِ وَأَخْبَرَهُمْ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ, وَتَلَا عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ جَعَلُوا يَتَسَاءَلُونَ بَيْنَهُمْ فَيَقُولُونَ: مَاذَا حاء بِهِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -.
[2] ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ تَسَاؤُلَهُمْ عَمَّاذَا فقال: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 2] قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْأَكْثَرُونَ: هُوَ الْقُرْآنُ، ودليله قَوْلُهُ: {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ} [ص: 67] وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْبَعْثُ.
[3 - 4] {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} [النبأ: 3] فمصدق ومكذب, {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 4] كلا نفي يقول: هم سَيَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ تَكْذِيبِهِمْ حِينَ تَنْكَشِفُ الأمور.
[5] {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} [النبأ: 5] وَعِيدٌ لَهُمْ عَلَى إِثْرِ وَعِيدٍ.
ثُمَّ ذَكَرَ صَنَائِعَهُ لِيَعْلَمُوا تَوْحِيدَهُ.
[6] فَقَالَ: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} [النبأ: 6] فراشا.
[7] {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} [النبأ: 7] للأرض حتى تميد.
[8] {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ: 8] أَصْنَافًا ذُكُورًا وَإِنَاثًا.
[9] {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا} [النبأ: 9] أي راحة لأبدانكم.
[10] {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} [النبأ: 10] غِطَاءً وَغِشَاءً يَسْتُرُ كُلَّ شَيْءٍ بظلمته.
[11] {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 11] الْمَعَاشُ: الْعَيْشُ وَكُلُّ مَا يُعَاشُ فِيهِ فَهُوَ مَعَاشٌ، أَيْ جَعَلْنَا منها سَبَبًا لِلْمَعَاشِ وَالتَّصَرُّفِ فِي الْمَصَالِحِ.
[12] {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} [النبأ: 12] يريد سبع سموات.(6/998)
[13] {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا} [النبأ: 13] يعني الشمس، {وَهَّاجًا} [النبأ: 13] مضيئا منيرا.
[14] {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} [النبأ: 14] يَعْنِي الرِّيَاحَ الَّتِي تَعْصِرُ السَّحَابَ، وقال أبو العالية: المعصرات هي السحاب، {مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14] أي صبابا. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُتَتَابِعًا يَتْلُو بَعْضُهُ بعضا.
[15] {لِنُخْرِجَ بِهِ} [النبأ: 15] أي بذلك الماء، {حَبًّا} [النبأ: 15] وَهُوَ مَا يَأْكُلُهُ النَّاسُ، {وَنَبَاتًا} [النبأ: 15] مَا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ مِمَّا تَأْكُلُهُ الأنعام.
[16] {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} [النبأ: 16] ملتفة بالشجر.
[17] {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ} [النبأ: 17] يَوْمَ الْقَضَاءِ بَيْنَ الْخَلْقِ، {كَانَ مِيقَاتًا} [النبأ: 17] لِمَا وَعَدَ اللَّهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ.
[18] {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} [النبأ: 18] زُمَرًا زُمَرًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ للحساب.
[19] {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ} [النبأ: 19] أَيْ شُقَّتْ لِنُزُولِ الْمَلَائِكَةِ، {فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19] أَيْ ذَاتَ أَبْوَابٍ. وَقِيلَ: تَنْحَلُّ وتتناثر حتى تصير فيها أبوابا وطرقا.
[20] {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ} [النبأ: 20] عَنْ وَجْهِ الْأَرْضِ، {فَكَانَتْ سَرَابًا} [النبأ: 20] أَيْ هَبَاءً مُنْبَثًّا لِعَيْنِ النَّاظِرِ كَالسَّرَابِ.
[21] : {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ: 21] طَرِيقًا وَمَمَرًّا فَلَا سَبِيلَ لِأَحَدٍ إِلَى الْجَنَّةِ حَتَّى يَقْطَعَ النَّارَ. وَقِيلَ: كَانَتْ مِرْصَادًا أَيْ مُعَدَّةً لهم، وَقِيلَ: هُوَ مَنْ رَصَدْتُ الشَّيْءَ أرصده إذا ترقبته، والمرصاد فِيهِ الْعَدُوَّ. وَقَوْلُهُ: (إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا) ، أَيْ تَرْصُدُ الْكُفَّارَ.
[22] {لِلطَّاغِينَ} [النبأ: 22] للكافرين، {مَآبًا} [النبأ: 22] مرجعا يرجعون إليه.
[23] {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23] جَمْعُ حِقْبٍ، وَالْحِقْبُ الْوَاحِدُ: ثَمَانُونَ سَنَةً، كُلُّ سَنَةٍ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، كُلُّ شَهْرٍ ثَلَاثُونَ يَوْمًا، كُلُّ يَوْمٍ أَلْفُ سَنَةٍ. قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ لِأَهْلِ النَّارِ مُدَّةً، بَلْ قَالَ: (لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا) فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلَّا إِذَا مَضَى حِقَبٌ دَخْلَ آخَرُ ثُمَّ آخَرُ إِلَى الْأَبَدِ، فَلَيْسَ لِلْأَحْقَابِ عِدَّةٌ إِلَّا الخلود.
[24] {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} [النبأ: 24] قال الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بردا أي روحا وراحة. قال مُقَاتِلٌ: لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا يَنْفَعُهُمْ مِنْ حَرٍّ وَلَا شَرَابًا يَنْفَعُهُمْ مِنْ عَطَشٍ.
[25] {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 25] الْغَسَّاقُ: الزَّمْهَرِيرُ يَحْرِقُهُمْ بِبَرْدِهِ. وَقِيلَ: صديد أهل النار.
[26] {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26] أي جازيناهم جزاء وافق أعمالهم.
[27] {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} [النبأ: 27] لَا يَخَافُونَ أَنْ يُحَاسَبُوا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ بِالْبَعْثِ ولا بأنهم يحاسبون.
[28] {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [النبأ: 28] أي بما جاء به الأنبياء، {كِذَّابًا} [النبأ: 28] يعني تكذيبا.
[29] {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} [النبأ: 29] أَيْ وَكُلَّ شَيْءٍ مِنَ الْأَعْمَالِ بيناه في اللوح المحفوظ.
[30] {فَذُوقُوا} [النبأ: 30] أَيْ يُقَالُ لَهُمْ فَذُوقُوا، {فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} [النبأ: 30]
[قوله تعالى إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا] . . .
[31] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} [النبأ: 31] فوز وَنَجَاةً مِنَ النَّارِ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ: متنزها.
[32] {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} [النبأ: 32] يُرِيدُ أَشْجَارَ الْجَنَّةِ وَثِمَارَهَا.
[33] {وَكَوَاعِبَ} [النبأ: 33] جَوَارِيَ نَوَاهِدَ قَدْ تَكَعَّبَتْ ثُدِيُّهُنَّ، واحدتها كاعب، {أَتْرَابًا} [النبأ: 33] مُسْتَوِيَاتٍ فِي السِّنِّ.
[34] {وَكَأْسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] قال ابن عباس والحسن: مُتْرَعَةً مَمْلُوءَةً. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: مُتَتَابِعَةً. قَالَ عِكْرِمَةُ: صَافِيَةً.
[35] {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} [النبأ: 35] بَاطِلًا مِنَ الْكَلَامِ، {وَلَا كِذَّابًا} [النبأ: 35] تَكْذِيبًا، لَا يُكَذِّبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا.(6/999)
[36] {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} [النبأ: 36] أَيْ جَازَاهُمْ جَزَاءً وَأَعْطَاهُمْ عَطَاءً حِسَابًا أَيْ كَافِيًا وَافِيًا، يُقَالُ: أَحْسَبْتُ فُلَانًا أَيْ أَعْطَيْتُهُ مَا يكفيه حتى قال حسبي.
[37] {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} [النبأ: 37] قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يَقْدِرُ الْخَلْقُ عَلَى أَنْ يُكَلِّمُوا الرَّبَّ إِلَّا بِإِذْنِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: لَا يَمْلِكُونَ شَفَاعَةً إِلَّا بِإِذْنِهِ.
[38] {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ: 38] أَيْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، {وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا} [النبأ: 38] وَاخْتَلَفُوا فِي هَذَا الرُّوحِ، قَالَ الشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ: هُوَ جِبْرِيلُ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الرُّوحُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مَا خَلَقَ اللَّهُ مَخْلُوقًا أَعْظَمَ مِنْهُ، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ قَامَ وَحْدَهُ صَفَّا وَقَامَتِ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ صَفًّا واحدا، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ: الرُّوحُ خُلِقَ عَلَى صُورَةِ بَنِي آدم وليسوا بِنَاسٍ يَقُومُونَ صَفًّا وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا، وَقَالَ الْحَسَنُ: هُمْ بَنُو آدَمَ، {لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} [النبأ: 38] فِي الدُّنْيَا، أَيْ حَقًّا وَقِيلَ: قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
[39] {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} [النبأ: 39] الْكَائِنُ الْوَاقِعُ يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} [النبأ: 39] مَرْجِعًا وَسَبِيلًا بِطَاعَتِهِ، أَيْ فَمَنْ شَاءَ رَجَعَ إِلَى اللَّهِ بِطَاعَتِهِ.
[40] {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} [النبأ: 40] يحني الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ. {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] أَيْ كُلُّ امْرِئٍ يَرَى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا قَدَّمَ مِنَ الْعَمَلِ مُثْبَتًا فِي صَحِيفَتِهِ، {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} [النبأ: 40] يتمنى ذلك.
[سورة النازعات]
[قوله تعالى وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا. . .]
(79) سورة النازعات [1] {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا} [النازعات: 1] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ تَنْزِعُ أَرْوَاحَ الْكُفَّارِ مِنْ أَجْسَادِهِمْ، كَمَا يُغْرِقُ النَّازِعُ فِي الْقَوْسِ فَيَبْلُغُ بِهَا غَايَةَ المد، وَالْمُرَادُ بِالْإِغْرَاقِ: الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَدِّ.
[2] {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا} [النازعات: 2] هِيَ الْمَلَائِكَةُ تُنْشِطُ نَفْسَ الْمُؤْمِنِ، أَيْ تَحِلُّ حَلًّا رَفِيقًا فَتَقْبِضُهَا، كَمَا يُنْشَطُ الْعِقَالُ مِنْ يَدِ البعير، أي يحل برفق.
[3] {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3] هَمُ الْمَلَائِكَةُ يَقْبِضُونَ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ يُسَلُّونَهَا سُلًّا رَفِيقًا، ثُمَّ يَدَعُونَهَا حَتَّى تَسْتَرِيحَ كَالسَّابِحِ بِالشَّيْءِ فِي الماء يرفق به. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ وَالشَّمْسُ والقمر، قال الله - تعالى -: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ السُّفُنُ.
[4] {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} [النازعات: 4] قال مجاهد: هى الملائكة سبقت ابْنَ آدَمَ بِالْخَيْرِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: هِيَ الْمَلَائِكَةُ تَسْبِقُ بأرواح المؤمنين إلى الجنة. وَقَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا فِي السَّيْرِ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هِيَ الْخَيْلُ.
[5] {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} [النازعات: 5] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ(6/1000)
الْمَلَائِكَةُ وُكِّلُوا بِأُمُورٍ عَرَّفَهُمُ اللَّهُ - عز وجل - العمل بها.
وَجَوَابُ هَذِهِ الْأَقْسَامِ مَحْذُوفٌ عَلَى تقديره: لَتُبْعَثُنَّ وَلَتُحَاسَبُنَّ. وَقِيلَ: جَوَابُهُ قَوْلُهُ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تقديره: يوم ترتجف الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا.
[6] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ} [النازعات: 6] يَعْنِي النَّفْخَةَ الْأُولَى يَتَزَلْزَلُ وَيَتَحَرَّكُ لَهَا كُلُّ شَيْءٍ وَيَمُوتُ مِنْهَا جميع الخلق.
[7] {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 7] وَهِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ رَدَفَتِ الْأُولَى وَبَيْنَهُمَا أَرْبَعُونَ سَنَةً. قَالَ قَتَادَةُ: هُمَا صَيْحَتَانِ فَالْأُولَى تُمِيتُ كُلَّ شَيْءٍ وَالْأُخْرَى تُحْيِي كُلَّ شَيْءٍ بِإِذْنِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَقَالَ مجاهد: وأصل الرجفة: الصوت والحركة.
[8] {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ} [النازعات: 8] خائفة قلقة مضطربة.
[9] {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ} [النازعات: 9] ذَلِيلَةٌ كَقَوْلِهِ: {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45] الآية.
[10] . {يَقُولُونَ} [النازعات: 10] يَعْنِي الْمُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ إِذَا قِيلَ لَهُمْ: إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ: {أَئِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ} [النازعات: 10] أَيْ إِلَى أَوَّلِ الْحَالِ وَابْتِدَاءِ الْأَمْرِ فَنُصَيَّرُ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ كما كنا.
[11] {أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً} [النازعات: 11] بالية.
[12] {قَالُوا} [النازعات: 12] يَعْنِي الْمُنْكِرِينَ، {تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ} [النازعات: 12] رَجْعَةٌ خَائِبَةٌ، يَعْنِي إِنْ رُدِدْنَا بَعْدَ الْمَوْتِ لَنَخْسَرَنَّ بِمَا يُصِيبُنَا بَعْدَ الْمَوْتِ.
[13] قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وجل -: {فَإِنَّمَا هِيَ} [النازعات: 13] يعني النفخة الأخيرة، {زَجْرَةٌ} [النازعات: 13] صيحة، {وَاحِدَةٌ} [النازعات: 13] يسمعونها.
[14] {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 14] يَعْنِي وَجْهَ الْأَرْضِ أَيْ صَارُوا على وجه الأرض بعد ما كانوا في جوفها.
[قوله تعالى هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ] الْمُقَدَّسِ طُوًى. . .
[15] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} [النازعات: 15] يَقُولُ قَدْ جَاءَكَ يَا مُحَمَّدُ حَدِيثُ مُوسَى.
[16] {إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات: 16]
[17] فَقَالَ يَا مُوسَى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} [النازعات: 17] عَلَا وَتَكَبَّرَ وَكَفَرَ بِاللَّهِ.
[18] {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى} [النازعات: 18] قَرَأَ أَهْلُ الْحِجَازِ وَيَعْقُوبُ بِتَشْدِيدِ الزَّايِ: أَيْ تَتَزَكَّى وَتَتَطَهَّرَ مِنَ الشرك، وقرأ الآخرون بالتخفيف أَيْ تُسْلِمَ وَتُصْلِحَ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
[19] {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 19] أَيْ أَدْعُوكَ إِلَى عِبَادَةِ رَبِّكَ وَتَوْحِيدِهِ فَتَخْشَى عِقَابَهُ.
[20] {فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى} [النازعات: 20] وَهِيَ الْعَصَا وَالْيَدَ الْبَيْضَاءُ.
[21] {فَكَذَّبَ} [النازعات: 21] بأنهما من الله {وَعَصَى} [النازعات: 21]
[22] {ثُمَّ أَدْبَرَ} [النازعات: 22] تَوَلَّى وَأَعْرَضَ عَنِ الْإِيمَانِ {يَسْعَى} [النازعات: 22] يَعْمَلُ بِالْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ.
[23] {فَحَشَرَ} [النازعات: 23] فجمع قومه وجنوده،(6/1001)
{فَنَادَى} [النازعات: 23] لَمَّا اجْتَمَعُوا.
[24] {فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} [النازعات: 24] فَلَا رَبَّ فَوْقِي. وَقِيلَ: أَرَادَ أَنَّ الْأَصْنَامَ أَرْبَابٌ وَأَنَا رَبُّكُمْ وَرَبُّهَا.
[25] {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى} [النازعات: 25] أَيْ فِي الدُّنْيَا بِالْغَرَقِ وَفِي الآخرة بالنار.
[26] {إِنَّ فِي ذَلِكَ} [النازعات: 26] الَّذِي فُعِلَ بِفِرْعَوْنَ حِينَ كَذَّبَ وعصى، {لَعِبْرَةً} [النازعات: 26] عظة، {لِمَنْ يَخْشَى} [النازعات: 26] اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -.
[27] ثُمَّ خَاطَبَ مُنْكِرِي الْبَعْثِ فَقَالَ: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ} [النازعات: 27] يَعْنِي أَخَلْقُكُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ أَشَدُّ عِنْدَكُمْ وَفِي تَقْدِيرِكُمْ أَمِ السَّمَاءُ؟ وَهُمَا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ وَاحِدٌ، ثم وصف من خلق السماء فقال: {بَنَاهَا} [النازعات: 27]
[28] {رَفَعَ سَمْكَهَا} [النازعات: 28] سقفها {فَسَوَّاهَا} [النازعات: 28] بلا شقوق ولا فطور.
[29] {وَأَغْطَشَ} [النازعات: 29] أظلم، {لَيْلَهَا} [النازعات: 29] وَالْغَطْشُ وَالْغَبْشُ الظُّلْمَةُ، {وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا} [النازعات: 29] أَبْرَزَ وَأَظْهَرَ نَهَارَهَا وَنُورَهَا، وَأَضَافَهُمَا إِلَى السَّمَاءِ لِأَنَّ الظُّلْمَةَ وَالنُّورَ كِلَاهُمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ.
[30] {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ} [النازعات: 30] بعد خلق السماء، {دَحَاهَا} [النازعات: 30] بسطها، والدحو: البسط.
[31-34] {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا - وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا - مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ - فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى} [النازعات: 31 - 34] يَعْنِي النَّفْخَةَ الثَّانِيَةَ الَّتِي فِيهَا الْبَعْثُ وَقَامَتِ الْقِيَامَةُ، وَسُمِّيَتِ الْقِيَامَةُ طَامَّةً لِأَنَّهَا تَطُمُّ عَلَى كُلِّ هَائِلَةٍ مِنَ الْأُمُورِ فَتَعْلُو فَوْقَهَا وتغمر ما سواها، والطامة عِنْدَ الْعَرَبِ: الدَّاهِيَةُ الَّتِي لَا تُسْتَطَاعُ.
[35] {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى} [النازعات: 35] مَا عَمِلَ فِي الدُّنْيَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ.
[36] {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى} [النازعات: 36] قَالَ مُقَاتِلٌ: يُكْشَفُ عَنْهَا الْغِطَاءُ فَيَنْظُرُ إِلَيْهَا الْخَلْقُ.
[37] {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: 37] فِي كُفْرِهِ.
[38] {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النازعات: 38] عَلَى الْآخِرَةِ. 39,
[40] {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى - وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 39 - 40] عن المحارم التي تشتهيها.
[41-42] {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى - يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا} [النازعات: 41 - 42] مَتَى ظُهُورُهَا وَثُبُوتُهَا.
[43] {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] لَسْتَ فِي شَيْءٍ مِنْ عِلْمِهَا وَذِكْرِهَا، أَيْ لَا تَعْلَمُهَا.
[44] {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} [النازعات: 44] أَيْ مُنْتَهَى عِلْمِهَا عِنْدَ اللَّهِ.
[45] {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] أَيْ إِنَّمَا يَنْفَعُ إِنْذَارُكَ مَنْ يخافها.
[46] {كَأَنَّهُمْ} [النازعات: 46] يَعْنِي كُفَّارَ قُرَيْشٍ، {يَوْمَ يَرَوْنَهَا} [النازعات: 46] يُعَايِنُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، {لَمْ يَلْبَثُوا} [النازعات: 46] فِي الدُّنْيَا وَقِيلَ: فِي قُبُورِهِمْ، {إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا} [النازعات: 46] مَعْنَاهُ آخِرَ يَوْمٍ أَوْ أَوَّلَهُ.
[سورة عبس]
[قوله تعالى عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى. . .]
(80) سورة عبس [1] {عَبَسَ} [عبس: 1] كلح، {وَتَوَلَّى} [عبس: 1] أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ.
[2] {أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} [عبس: 2] وَهُوَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَاسْمُهُ عبد الله بن شريح الفهري، «وَذَلِكَ أَنَّهُ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يُنَاجِي عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ وَأَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَأُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ، وَأَخَاهُ أُمَيَّةَ يَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ، يَرْجُو إِسْلَامَهُمْ، فَقَالَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقْرِئْنِي وَعَلِّمْنِي مِمَّا عَلَّمَكَ اللَّهُ، فَجَعَلَ يُنَادِيهِ وَيُكَرِّرُ النِّدَاءَ وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ مُقْبِلٌ عَلَى غَيْرِهِ حَتَّى ظهرت الكراهة فِي وَجْهِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَطْعِهِ كَلَامَهُ، وَأَقْبَلَ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ يُكَلِّمُهُمْ فأنزل الله هذه الآية، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ ذَلِكَ يُكْرِمُهُ، وَإِذَا رَآهُ قَالَ: "مَرْحَبًا بِمَنْ عاتبني فيه ربي» (1)
_________
(1) انظر أسباب النزول للواحدي (ص 517) ، وقال ابن حجر في الكافي الشافي (ص181) : "ذكره الثعلبي بلا إسناد، وأخرج ابن أبي حاتم من رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نحوه، وذكره الطبري من رواية سعيد عن قتادة.(6/1002)
[3] {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 3] يَتَطَهَّرَ مِنَ الذُّنُوبِ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وما يتعلمه منك.
[4] {أَوْ يَذَّكَّرُ} [عبس: 4] يتعظ, {فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى} [عبس: 4] الموعظة.
[5] {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى} [عبس: 5] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنِ اللَّهِ وَعَنِ الْإِيمَانِ بِمَا لَهُ مِنَ المال.
[6] {فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى} [عبس: 6] تَتَعَرَّضُ لَهُ وَتُقْبِلُ عَلَيْهِ وَتُصْغِي إلى كلامه.
[7] {وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى} [عبس: 7] ألا يُؤْمِنُ وَلَا يَهْتَدِي, إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ.
[8] {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى} [عبس: 8] يَمْشِي يَعْنِي ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ.
[9] {وَهُوَ يَخْشَى} [عبس: 9] اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ -.
[10] {فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى} [عبس: 10] تتشاغل وتعرض عنه.
[11] {كَلَّا} [عبس: 11] زَجْرٌ أَيْ لَا تَفْعَلْ بَعْدَهَا مثلها, {إِنَّهَا} [عبس: 11] يعني هذه الموعظة {تَذْكِرَةٌ} [عبس: 11] مَوْعِظَةٌ وَتَذْكِيرٌ لِلْخَلْقِ.
[12] {فَمَنْ شَاءَ} [عبس: 12] من عباد الله {ذَكَرَهُ} [عبس: 12] أي اتعظ به.
ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ جَلَالَتِهِ عِنْدَهُ فقال:
[13] {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ} [عبس: 13] يَعْنِي اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ. وَقِيلَ: كُتُبُ الأنبياء، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -:: (إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى) .
[14] {مَرْفُوعَةٍ} [عبس: 14] رَفِيعَةِ الْقَدْرِ عِنْدَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَقِيلَ: مَرْفُوعَةٍ يَعْنِي فِي السماء السابعة. {مُطَهَّرَةٍ} [عبس: 14] لَا يَمَسُّهَا إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ, وَهُمُ الملائكة.
[15] {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} [عبس: 15] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ: كَتَبَةٌ, وهم الملائكة الكرام الكاتبون , وَقَالَ الْآخَرُونَ: هُمُ الرُّسُلُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَاحِدُهُمْ سَفِيرٌ, وَهُوَ الرَّسُولُ, وَسَفِيرُ الْقَوْمِ الَّذِي يَسْعَى بَيْنَهُمْ بالصلح.
[16] ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ فَقَالَ: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 16] أَيْ كِرَامٍ عَلَى اللَّهِ بَرَرَةٍ مُطِيعِينَ جَمْعُ بَارٍّ.
[17] قَوْلُهُ - عَزَّ وجل -: {قُتِلَ الْإِنْسَانُ} [عبس: 17] أي لعن الكافر {مَا أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] ما أشد كفره مَعَ كَثْرَةِ إِحْسَانِهِ إِلَيْهِ وَأَيَادِيهِ عنده, على طريق التعجب.
ثم تبين مِنْ أَمْرِهِ مَا كَانَ يَنْبَغِي مَعَهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُهُ.
[18] فَقَالَ: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [عبس: 18] لَفْظُهُ اسْتِفْهَامٌ وَمَعْنَاهُ التَّقْرِيرُ.
[19] ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 19] أطوار: نُطْفَةً ثُمَّ عَلَقَةً إِلَى آخِرِ خلقه.
[20] {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20] أَيْ طَرِيقَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أمه, وقال الحسن وَمُجَاهِدٌ: يَعْنِي طَرِيقَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ سهل له العلم به: وَقِيلَ: يَسَّرَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ ما خلقه له وقدر عليه.
[21] {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ} [عبس: 21] جَعَلَ لَهُ قَبْرًا يُوَارَى فِيهِ.(6/1003)
[22] {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عَبَسَ: 22] أحياه بعد موته.
[23] {كَلَّا} [عبس: 23] رد عَلَيْهِ أَيْ لَيْسَ كَمَا يَقُولُ ويظن هذا الكافر، {لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ} [عبس: 23] أَيْ لَمْ يَفْعَلْ مَا أَمَرَهُ به ربه وَلَمْ يُؤَدِّ مَا فُرِضَ عَلَيْهِ، وَلَمَّا ذَكَرَ خَلْقَ ابْنِ آدَمَ ذَكَرَ رِزْقَهُ لِيَعْتَبِرَ.
[24] فَقَالَ: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ} [عبس: 24] كَيْفَ قَدَّرَهُ رَبُّهُ وَدَبَّرَهُ لَهُ وجعله سببا لحياته.
[25] ثم بين فقال: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا} [عبس: 25] يَعْنِي الْمَطَرَ.
[26] {ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا} [عبس: 26] بالنبات.
[27] {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} [عبس: 27] يَعْنِي الْحُبُوبَ الَّتِي يُتَغَذَّى بِهَا.
[28] {وَعِنَبًا وَقَضْبًا} [عبس: 28] وَهُوَ الْقَتُّ الرَّطْبُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يُقْضَبُ فِي كُلِّ الْأَيَّامِ أي يقطع.
[29] {وَزَيْتُونًا} [عبس: 29] وَهُوَ مَا يُعْصَرُ مِنْهُ الزَّيْتُ، {وَنَخْلًا} [عبس: 29] جمع نخلة.
[30] {وَحَدَائِقَ غُلْبًا} [عبس: 30] غلاظا، وقال مجاهد ومقاتل: الغلب الشجر الملتفة بعضها في بعض.
[31] {وَفَاكِهَةً} [عبس: 31] يريد ألوان الفواكه، {وَأَبًّا} [عبس: 31] يَعْنِي الْكَلَأَ وَالْمَرْعَى الَّذِي لَمْ يَزْرَعْهُ النَّاسُ، مِمَّا يَأْكُلُهُ الْأَنْعَامُ وَالدَّوَابُّ. قَالَ عِكْرِمَةُ: الْفَاكِهَةُ مَا يأكل الناس، والأب ما يأكله الدواب.
[32] {مَتَاعًا لَكُمْ} [عبس: 32] مَنْفَعَةً لَكُمْ يَعْنِي الْفَاكِهَةَ، {وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 32] يَعْنِي الْعُشْبَ.
[33] ثُمَّ ذَكَرَ الْقِيَامَةَ فقال: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ} [عبس: 33] يَعْنِي صَيْحَةَ الْقِيَامَةِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَصُخُّ الْأَسْمَاعَ أَيْ تُبَالِغُ في أسماعها حَتَّى تَكَادَ تُصِمُّهَا.
[34-36] {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34 - 36] لَا يَلْتَفِتُ إِلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ لشغله بنفسه.
[37] {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] يشغله عن شأن غيره.
[38] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ} [عبس: 38] مشرقة مضيئة.
[39] {ضَاحِكَةٌ} [عبس: 39] بالسرور، {مُسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 39] فَرِحَةٌ بِمَا نَالَتْ مِنْ كَرَامَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.
[40] {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40] سواد وكآبة مما يشاهدونه من الغم والهم.
[41] {تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 41] تعلوها وتغشاها ظلمة وكسوف.
[42] {أُولَئِكَ} [عبس: 42] الذين يصنع بهم هذا، {هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 42] جَمْعُ الْكَافِرِ وَالْفَاجِرِ.
[سُورَةُ التَّكْوِيرِ]
[قوله تعالى إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ] . . .
(81) سورة التكوير [1] {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] أصل التَّكْوِيرِ جَمْعُ بَعْضِ الشَّيْءِ إِلَى بَعْضٍ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ الشَّمْسَ يُجْمَعُ بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ ثُمَّ تُلَفُّ، فَإِذَا فُعِلَ بِهَا ذَلِكَ ذَهَبَ ضوؤها.
[2] {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 2] أَيْ تَنَاثَرَتْ مِنَ السَّمَاءِ وَتَسَاقَطَتْ.
[3] {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} [التكوير: 3] عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ فَصَارَتْ هَبَاءً منبثا.
[4] {وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ} [التكوير: 4] وَهِيَ النُّوقُ الْحَوَامِلُ الَّتِي أَتَى عَلَى حَمْلِهَا عَشَرَةُ أَشْهُرٍ، وَاحِدَتُهَا عشراء لِمَا جَاءَهُمْ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ القيامة.
[5] {وَإِذَا الْوُحُوشُ} [التكوير: 5] يعني دواب البر، {حُشِرَتْ} [التكوير: 5] جُمِعَتْ بَعْدَ الْبَعْثِ لِيُقْتَصَّ لِبَعْضِهَا من بعض.
[6-7] {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُوقِدَتْ فَصَارَتْ نَارًا تَضْطَرِمُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي فُجِّرَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ الْعَذْبُ وَالْمِلْحُ، فَصَارَتِ الْبُحُورُ كُلُّهَا بحرا واحدا. وَقِيلَ: صَارَتْ مِيَاهُهَا بَحْرًا وَاحِدًا مِنَ الْحَمِيمِ لِأَهْلِ النَّارِ. وَقَالَ الحسن: يبست. {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] يُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مَعَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، وَيُقْرَنُ بَيْنَ الرَّجُلِ السُّوءِ مَعَ الرَّجُلِ السوء في النار،(6/1004)
وهذا قَوْلِ عِكْرِمَةَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: أُلْحِقَ كُلُّ امْرِئٍ بِشِيعَتِهِ، الْيَهُودِيُّ باليهودي والنصراني بالنصراني، وَقَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ: زُوِّجَتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْحُورِ الْعِينِ، وَقُرِنَتْ نُفُوسُ الْكَافِرِينَ بِالشَّيَاطِينِ. وَرُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ قَالَ: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ رُدَّتِ الْأَرْوَاحُ فِي الْأَجْسَادِ.
[8] {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} [التكوير: 8] وهي الجارية المدفونة حية.
[9] {بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 9] وَمَعْنَى سُؤَالِهَا تَوْبِيخُ قَاتِلِهَا لِأَنَّهَا تقول: قتلت بغير ذنب.
[10] {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ} [التكوير: 10] يَعْنِي صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ تُنْتَشَرُ لِلْحِسَابِ.
[11] {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ} [التكوير: 11] قَالَ الْفَرَّاءُ: نُزِعَتْ فَطُوِيَتْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: قُلِعَتْ كَمَا يُقْلَعُ السَّقْفُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: تَكْشِفُ عَمَّنْ فِيهَا. وَمَعْنَى الْكَشْطِ رَفْعُكَ شَيْئًا عَنْ شَيْءٍ قَدْ غَطَّاهُ كَمَا يُكْشَطُ الْجِلْدُ عَنِ السَّنَامِ.
[12] {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} [التكوير: 12] قَرَأَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ وَالشَّامِ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ (سُعِّرَتْ) بِالتَّشْدِيدِ، وَقَرَأَ الْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ أَيْ أُوقِدَتْ لِأَعْدَاءِ الله.
[13] {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} [التكوير: 13] قربت لأولياء الله.
[14] {عَلِمَتْ} [التكوير: 14] عند ذلك كل {نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَهَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] وَمَا بَعْدَهَا.
[15 - 16] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ - الْجَوَارِ الْكُنَّسِ} [التكوير: 15 - 16] معناه أقسم بالخنس، قَالَ قَتَادَةُ: هِيَ النُّجُومُ تَبْدُو بِاللَّيْلِ وَتَخْنَسُ بِالنَّهَارِ، فَتُخْفَى فَلَا ترى، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى الْخُنَّسِ أَنَّهَا تَخْنَسُ أَيْ تَتَأَخَّرُ عَنْ مطالعها في كل عام تأخيرا تَتَأَخَّرُهُ عَنْ تَعْجِيلِ ذَلِكَ الطُّلُوعِ، تخنس عنه بتأخرها. والكنس أَيْ تَكْنَسُ بِالنَّهَارِ فَلَا تُرَى.
[17] {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17] قَالَ الْحَسَنُ: أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ. وَقَالَ الْآخَرُونَ: أَدْبَرَ: تَقُولُ الْعَرَبُ: عَسْعَسَ اللَّيْلُ وَسَعْسَعَ إِذَا أَدْبَرَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا الْيَسِيرُ.
[18] {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18] أَقْبَلَ وَبَدَا أَوَّلُهُ وَقِيلَ امْتَدَّ ضوؤه وارتفع.
[19] {إِنَّهُ} [التكوير: 19] يَعْنِي الْقُرْآنَ، {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [التكوير: 19] يَعْنِي جِبْرِيلَ أَيْ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ عَنِ اللَّهِ - تَعَالَى -.
[20] {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 20] في المنزلة.
[21] {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] أَيْ فِي السَّمَاوَاتِ تُطِيعُهُ الْمَلَائِكَةُ وَمِنْ طَاعَةِ الْمَلَائِكَةِ إِيَّاهُ أَنَّهُمْ فَتَحُوا أَبْوَابَ السَّمَاوَاتِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ بِقَوْلِهِ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفَتَحَ خَزَنَةُ الْجَنَّةِ أَبْوَابَهَا بِقَوْلِهِ، (أَمِينٍ) عَلَى وَحْيِ اللَّهِ وَرِسَالَتِهِ إِلَى أَنْبِيَائِهِ.
[22] {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 22] يَقُولُ لِأَهْلِ مَكَّةَ وَمَا صَاحِبُكُمْ يَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَجْنُونٍ. وَهَذَا(6/1005)
أَيْضًا مِنْ جَوَابِ الْقَسَمِ أَقْسَمَ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِهِ جِبْرِيلُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا لَيْسَ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ مَكَّةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ مَجْنُونٌ، وَمَا يَقُولُ مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ.
[23] {وَلَقَدْ رَآهُ} [التكوير: 23] يَعْنِي رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ على صورته، {بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} [التكوير: 23] وَهُوَ الْأُفُقُ الْأَعْلَى مِنْ نَاحِيَةِ المشرق.
[24] {وَمَا هُوَ} [التكوير: 24] يَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -، {عَلَى الْغَيْبِ} [التكوير: 24] أَيِ الْوَحْيِ، وَخَبَرِ السَّمَاءِ وَمَا اطَّلَعَ عَلَيْهِ مِمَّا كَانَ غَائِبًا عَنْهُ مِنَ الْأَنْبَاءِ وَالْقَصَصِ، {بِضَنِينٍ} [التكوير: 24] إِنَّهُ يَأْتِيهِ عِلْمُ الْغَيْبِ فَلَا يبخل به عليهم بَلْ يُعَلِّمُكُمْ وَيُخْبِرُكُمْ بِهِ، وَلَا يَكْتُمُهُ كَمَا يَكْتُمُ الْكَاهِنُ مَا عِنْدَهُ حَتَّى يَأْخُذَ عَلَيْهِ حُلْوَانًا.
[25] {وَمَا هُوَ} [التكوير: 25] يَعْنِي الْقُرْآنَ، {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} [التكوير: 25] قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَقُولُ إِنَّ الْقُرْآنَ لَيْسَ بِشِعْرٍ وَلَا كَهَانَةٍ كَمَا قالت قريش.
[26] {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] أَيْ أَيْنَ تَعْدِلُونَ عَنْ هَذَا الْقُرْآنِ، وَفِيهِ الشِّفَاءُ وَالْبَيَانُ، قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيُّ طَرِيقٍ تَسْلُكُونَ أَبْيَنُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ الَّتِي قَدْ بَيَّنْتُ لَكُمْ.
[27] ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ: {إِنْ هُوَ} [التكوير: 27] أَيْ مَا الْقُرْآنُ، {إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [التكوير: 27] مَوْعِظَةٌ لِلْخَلْقِ أَجْمَعِينَ.
[28] {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 28] أَيْ يَتْبَعَ الْحَقَّ وَيُقِيمَ عَلَيْهِ.
[29] {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [التكوير: 29] أَيْ أَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْمَشِيئَةَ فِي التَّوْفِيقِ إِلَيْهِ وَأَنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِمَشِيئَةِ اللَّهِ وَفِيهِ إِعْلَامٌ أَنَّ أَحَدًا لَا يَعْمَلُ خَيْرًا إِلَّا بِتَوْفِيقِ اللَّهِ وَلَا شَرًّا إِلَّا بِخِذْلَانِهِ.
[سُورَةُ الانفطار]
[قوله تعالى إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ] . . .
(82) سورة الانفطار [1] {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1] انشقت.
[2] {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 2] تساقطت.
[3] {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3] فُجِّرَ بَعْضُهَا فِي بَعْضٍ، وَاخْتَلَطَ الْعَذْبُ بِالْمِلْحُ فَصَارَتْ بَحْرًا وَاحِدًا.
[4] {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ} [الانفطار: 4] بحثت وقلب ترابها وبعث من فيها من الموتى أحياء.
[5] {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الانفطار: 5] قِيلَ: مَا قَدَّمَتْ مِنْ عَمَلٍ صالح أو سيئ، وما أَخَّرَتْ مِنْ سُنَّةٍ حَسَنَةٍ أَوْ سَيِّئَةٍ. وَقِيلَ: مَا قَدَّمَتْ مِنَ الصدقات وأخرت من التركات.
[6] {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6] مَا خَدَعَكَ وَسَوَّلَ لَكَ الْبَاطِلَ حَتَّى أَضَعْتَ مَا وَجَبَ عَلَيْكَ، والمعنى: ماذا أمنك من عقابه؟
[7] {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} [الانفطار: 7] قرأ أهل الكوفة بالتخفيف فصرفك وَأَمَالَكَ إِلَى أَيِّ صُورَةٍ شَاءَ حَسَنًا وَقَبِيحًا وَطَوِيلًا وَقَصِيرًا. وَقَرَأَ الْآخَرُونَ:(6/1006)
بِالتَّشْدِيدِ أَيْ قَوَّمَكَ وَجَعَلَكَ مُعْتَدِلَ الْخَلْقِ وَالْأَعْضَاءِ.
[8] {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 8] قال مجاهد: فِي أَيِّ شَبَهٍ مِنْ أَبٍ أو أم أو عم, وذكر الفراء قولا آخر, إما طويلا أو قصيرا أو حسنا أو غير ذلك.
[9] {كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} [الانفطار: 9] بِالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ.
[10] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] رُقَبَاءَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يَحْفَظُونَ عَلَيْكُمْ أعمالكم.
[11] {كِرَامًا} [الانفطار: 11] على الله، {كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11] يَكْتُبُونَ أَقْوَالَكُمْ وَأَعْمَالَكُمْ.
[12] {يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 12] مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.
[13] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] الْأَبْرَارُ الَّذِينَ بَرُّوا وَصَدَقُوا فِي إِيمَانِهِمْ بِأَدَاءِ فَرَائِضِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَاجْتِنَابِ مَعَاصِيهِ. 14,
[15] {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ - يَصْلَوْنَهَا} [الانفطار: 14 - 15] يخلونها, {يَوْمَ الدِّينِ} [الانفطار: 15] يوم القيامة.
[16] {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [الانفطار: 16]
[17] ثُمَّ عَظَّمَ ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} [الانفطار: 17] كرر تفخيما لِشَأْنِهِ. 18,
[19] فَقَالَ: {ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ - يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا} [الانفطار: 18 - 19] قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي لِنَفْسٍ كَافِرَةٍ شَيْئًا مِنَ الْمَنْفَعَةِ، {وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] أي يوم لا يُمَلِّكِ اللَّهُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَحَدًا شَيْئًا كَمَا مَلَّكَهُمْ فِي الدنيا.
[سورة المطففين]
[قوله تعالى وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى] النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. . .
(83) سورة المطففين [1] {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} [المطففين: 1] يَعْنِي الَّذِينَ يَنْقُصُونَ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ويبخسون حقوق الناس.
[2] ثم بين الْمُطَفِّفِينَ مَنْ هُمْ فَقَالَ {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ} [المطففين: 2] وَأَرَادَ إِذَا اكْتَالُوا مِنَ النَّاسِ أَيْ أَخَذُوا مِنْهُمُ، وَ (مِنْ) ، و (على) يتعاقبان.
[3] {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] أَيْ كَالُوا لَهُمْ أَوْ وَزَنُوا لهم أي للناس، وقوله: (يُخْسِرُونَ) أي ينقصون.
[4, 5] {أَلَا يَظُنُّ} [المطففين: 4] يستيقن، {أُولَئِكَ} [المطففين: 4] الَّذِينَ يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، {أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ - لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 4 - 5] يَعْنِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
[6] {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ} [المطففين: 6] من قبورهم، {لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 6] أي لأمره ولجزائه ولحسابه.
[7] قوله - عز وجل -: {كَلَّا} [المطففين: 7] رَدْعٌ أَيْ لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ فَلْيَرْتَدِعُوا، وَتَمَامُ الْكَلَامِ هَاهُنَا، وَقَالَ الْحَسَنُ: كَلَّا ابْتِدَاءٌ يَتَّصِلُ بِمَا بَعْدَهُ عَلَى مَعْنَى حَقًّا، {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} [المطففين: 7] الَّذِي كُتِبَتْ فِيهِ أَعْمَالُهُمْ، {لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7] قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو: (سِجِّينٌ) هِيَ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى فيها أرواح الكفار. وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ: هِيَ الْأَرْضُ السُّفْلَى، وَفِيهَا إِبْلِيسُ وَذُرِّيَّتُهُ، وَقَالَ وَهْبٌ: هِيَ آخِرُ سُلْطَانِ إِبْلِيسَ، وقال عكرمة: {لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7] أَيْ لَفِي خَسَارٍ وَضَلَالٍ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ. هُوَ فِعِّيلٌ مِنَ السِّجْنِ، كَمَا يُقَالُ: فِسِّيقٌ وَشِرِّيبٌ، مَعْنَاهُ لَفِي حَبْسٍ وَضِيقٍ شَدِيدٍ.
[8] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ} [المطففين: 8] قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمَّا كُنْتَ تَعْلَمُهُ أَنْتَ وَلَا قومك.
[9] {كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 9] لَيْسَ هَذَا تَفْسِيرُ السَّجِينِ بَلْ هُوَ بَيَانُ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ فِي قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ} [المطففين: 7] أي هو كتاب الفجار مَرْقُومٌ، أَيْ مَكْتُوبٌ فِيهِ أَعْمَالُهُمْ مُثْبَتَةٌ عَلَيْهِمْ كَالرَّقْمِ فِي الثَّوْبِ، لَا يُنْسَى وَلَا يُمْحَى حَتَّى يجازوا به.
[10 - 13] {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ - الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} [المطففين: 10 - 11] {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ - إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [المطففين: 12 - 13]
[14] {كَلَّا} [المطففين: 14] قَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ لَا يُؤْمِنُونَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14](6/1007)
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ كَانَتْ نُكْتَةً سَوْدَاءَ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ مِنْهَا وَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ فِي كتابه» (1) .
وَأَصْلُ الرَّيْنِ الْغَلَبَةُ، يُقَالُ: رَانَتِ الْخَمْرُ عَلَى عَقْلِهِ تَرِينُ رَيْنًا وريونا إذا غلبت عليه حتى سكر، وَمَعْنَى الْآيَةِ: غَلَبَتْ عَلَى قُلُوبِهِمُ الْمَعَاصِي وَأَحَاطَتْ بِهَا. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الذَّنْبُ عَلَى الذَّنْبِ حَتَّى يَمُوتَ الْقَلْبُ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [المطففين: 14] طَبَعَ عَلَيْهَا.
[15] {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [الْمُطَفِّفِينَ: 15] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كلَّا: يُرِيدُ لَا يُصَدِّقُونَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ. (إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) ، قَالَ بَعْضُهُمْ: عَنْ كَرَامَتِهِ وَرَحْمَتِهِ مَمْنُوعُونَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ أَلَّا يَنْظُرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يُزَكِّيَهُمْ. وَقَالَ أَكْثَرُ المفسرين: عن رؤيته.
ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ الْكُفَّارَ مَعَ كَوْنِهِمْ مَحْجُوبِينَ عَنِ اللَّهِ يَدْخُلُونَ النَّارَ فَقَالَ:
[16] {ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ} [المطففين: 16] لداخلو النار.
[17] {ثُمَّ يُقَالُ} [المطففين: 17] أَيْ تَقُولُ لَهُمُ الْخَزَنَةُ، {هَذَا} [المطففين: 17] أَيْ هَذَا الْعَذَابُ، {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [المطففين: 17]
[قوله تعالى كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ.] . .
[18] {كَلَّا} [المطففين: 18] قَالَ مُقَاتِلٌ: لَا يُؤْمِنُ بِالْعَذَابِ الَّذِي يَصْلَاهُ.
ثُمَّ بَيَّنَ مَحَلَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ فَقَالَ: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] {عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ لَوْحٌ مِنْ زَبَرْجَدَةٍ خَضْرَاءَ مُعَلَّقٌ تَحْتَ الْعَرْشِ أَعْمَالُهُمْ مَكْتُوبَةٌ فِيهِ، وَقَالَ كَعْبٌ وَقَتَادَةُ: هُوَ قَائِمَةُ الْعَرْشِ الْيُمْنَى. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْجَنَّةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَعَانِي: عُلُوٌّ بَعْدَ عُلُوٍّ وَشَرَفٌ بَعْدَ شَرَفٍ، وَلِذَلِكَ جُمِعَتْ بِالْيَاءِ والنون. 19,
[20] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ - كِتَابٌ مَرْقُومٌ} [المطففين: 19 - 20] ليس هذا بتفسير عليين بَلْ هُوَ بَيَانُ الْكِتَابِ الْمَذْكُورِ في قوله: {إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] أَيْ مَكْتُوبٌ أَعْمَالُهُمْ كَمَا ذَكَرْنَا في كتاب الفجار.
[21] {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 21] يَعْنِي الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ فِي عِلِّيِّينَ يَشْهَدُونَ وَيَحْضُرُونَ ذَلِكَ الْمَكْتُوبَ، أَوْ ذَلِكَ الْكِتَابَ إِذَا صُعِدَ بِهِ إِلَى عِلِّيِّينَ. 22,
[23] {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ - عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22 - 23] إِلَى مَا أَعْطَاهُمُ اللَّهُ مِنَ الْكَرَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَنْظُرُونَ إلى عدوهم كيف يعذبون.
_________
(1) أخرجه الترمذي في التفسير (9 / 253) وقال: (حديث حسن صحيح) ، والنسائي في التفسير (2 / 505) وفي عمل اليوم والليلة (ص 317) ، وابن ماجه في الزهد برقم (4244) (2 / 1418) ، والإمام أحمد في المسند (2 / 297) ، والطبري (30 / 98) ، وصححه الحاكم (2 / 517) ، وابن حبان برقم (1771) والمصنف في شرح السنة (5 / 89) .(6/1008)
[24] {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: 24] إِذَا رَأَيْتَهُمْ عَرَفْتَ أَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النِّعْمَةِ مِمَّا تَرَى فِي وُجُوهِهِمْ مِنَ النُّورِ وَالْحُسْنِ وَالْبَيَاضِ.
[25] {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ} [المطففين: 25] خمر صافية طيبة، {مَخْتُومٍ} [المطففين: 25] خُتِمَ وَمُنِعَ مِنْ أَنْ تَمَسَّهُ يَدٌ إِلَى أَنْ يَفُكَّ خَتْمَهُ الْأَبْرَارُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: (مَخْتُومٍ) أَيْ مطين.
[26] {خِتَامُهُ} [المطففين: 26] أي طينه، {مِسْكٌ} [المطففين: 26] كَأَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: خِتَامُهُ عِنْدَ اللَّهِ مِسْكٌ وَخِتَامُ خَمْرِ الدُّنْيَا طين {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: 26] فَلْيَرْغَبِ الرَّاغِبُونَ بِالْمُبَادَرَةِ إِلَى طَاعَةِ الله - عز وجل -.
[27] {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ} [المطففين: 27] شراب يَنْصَبُّ عَلَيْهِمْ مِنْ عُلْوٍ فِي غرفهم ومنازلهم، وأصل كلمة السنام مِنَ الْعُلُوِّ، يُقَالُ لِلشَّيْءِ الْمُرْتَفِعِ: سنام، ومنه سنام البعير.
[28] {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ} [المطففين: 28] (عَيْنًا) نَصْبٌ عَلَى الْحَالِ، (يَشْرَبُ بِهَا) أَيْ مِنْهَا، وَقِيلَ: يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ صِرْفًا.
[29] قَوْلُهُ - عَزَّ وجل -: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا} [المطففين: 29] أشركوا يعني كفار قريش، {كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [المطففين: 29] من فقراء المؤمنين {يَضْحَكُونَ} [المطففين: 29] وَبِهَمْ يَسْتَهْزِءُونَ.
[30] {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ} [المطففين: 30] يعني مر المؤمنون بالكفار، {يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30] وَالْغَمْزُ الْإِشَارَةُ بِالْجَفْنِ وَالْحَاجِبِ، أَيْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِمْ بِالْأَعْيُنِ اسْتِهْزَاءً.
[31] {وَإِذَا انْقَلَبُوا} [المطففين: 31] يَعْنِي الْكُفَّارَ، {إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ} [المطففين: 31] مُعْجَبِينَ بِمَا هُمْ فِيهِ يَتَفَكَّهُونَ بذكرهم.
[32] {وَإِذَا رَأَوْهُمْ} [المطففين: 32] رَأَوْا أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، {قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ} [المطففين: 32] يَأْتُونَ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرَوْنَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ.
[33] {وَمَا أُرْسِلُوا} [المطففين: 33] يعني المشركين، {عَلَيْهِمْ} [المطففين: 33] يعني على المؤمنين، {حَافِظِينَ} [المطففين: 33] أَعْمَالَهُمْ، أَيْ لَمْ يُوَكَّلُوا بِحِفْظِ أعمالهم.
[34] {فَالْيَوْمَ} [المطففين: 34] يَعْنِي فِي الْآخِرَةِ، {الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] إذا اطَّلَعُوا مِنَ الْجَنَّةِ إِلَى أَعْدَائِهِمْ وَهُمْ يُعَذَّبُونَ فِي النَّارِ ضَحِكُوا.
[35] {عَلَى الْأَرَائِكِ} [المطففين: 35] من الدر والياقوت، {يَنْظُرُونَ} [المطففين: 35] إِلَيْهِمْ فِي النَّارِ.
[36] {هَلْ ثُوِّبَ} [المطففين: 36] هَلْ جُوزِيَ، {الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [المطففين: 36] أَيْ جَزَاءَ اسْتِهْزَائِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ وَمَعْنَى الِاسْتِفْهَامِ هَاهُنَا: التَّقْرِيرُ. وَثُوِّبَ وَأُثِيبَ وَأَثَابَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ.
[سُورَةُ الِانْشِقَاقِ]
[قوله تعالى إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ] . . .
(84) سورة الانشقاق [1] {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] انْشِقَاقُهَا مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ.
[2] {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا} [الانشقاق: 2] أَيْ سَمِعَتْ أَمْرَ رَبِّهَا بِالِانْشِقَاقِ وَأَطَاعَتْهُ، مِنَ الْأُذُنِ وَهُوَ الِاسْتِمَاعُ، {وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 2] أَيْ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تُطِيعَ ربها.
[3] {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} [الانشقاق: 3] مَدَّ الْأَدِيمِ الْعُكَاظِيِّ، وَزِيدَ فِي سعتها.
[4] {وَأَلْقَتْ} [الانشقاق: 4] أخرجت، {مَا فِيهَا} [الانشقاق: 4] من الموتى والكنوز، {وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 4] خَلَتْ مِنْهَا.
[5] {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 5] وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ (إِذَا) قِيلَ: جَوَابُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: إِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ يَرَى الْإِنْسَانُ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ.
[6] وَقِيلَ جَوَابُهُ: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا} [الانشقاق: 6] ومجازه {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] لَقِيَ كُلُّ كَادِحٍ مَا عَمِلَهُ. وَقِيلَ: جَوَابُهُ وَأَذِنَتْ، وَحِينَئِذٍ تَكُونُ الواو زائدة وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا) ، أَيْ سَاعٍ إِلَيْهِ فِي عملك، والكدح: سعي الْإِنْسَانِ وَجُهْدُهُ فِي الْأَمْرِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ حَتَّى يَكْدَحَ ذَلِكَ فيه، أي يؤثر {فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6] أَيْ مُلَاقِي جَزَاءَ عَمَلِكَ خَيْرًا كَانَ أَوْ شَرًّا. [7، 8] {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} [الانشقاق: 7] ديوان أعماله،(6/1009)
{بِيَمِينِهِ} [الانشقاق: 7] {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حُوسِبَ عُذِّبَ " قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) ؟ فَقَالَ: "إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ، وَلَكِنْ من نوقش في الحساب يهلك» (1) .
[9] {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ} [الانشقاق: 9] يَعْنِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْحُورِ العين والآدميات، {مَسْرُورًا} [الانشقاق: 9] بِمَا أُوتِيَ مِنَ الْخَيْرِ وَالْكَرَامَةِ.
[10] {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10] فَتُغَلُّ يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى عُنُقِهِ وَتُجْعَلُ يَدُهُ الشِّمَالُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ مِنْ وَرَاءِ ظهره.
[11] {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق: 11] يُنَادِي بِالْوَيْلِ وَالْهَلَاكِ إِذَا قَرَأَ كِتَابَهُ يَقُولُ: يَا وَيْلَاهُ يَا ثبوراه.
[12، 13] {وَيَصْلَى سَعِيرًا - إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 12 - 13] يَعْنِي فِي الدُّنْيَا بِاتِّبَاعِ هَوَاهُ وَرُكُوبِ شَهْوَتِهِ.
[14] {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} [الانشقاق: 14] أَنْ لَنْ يَرْجِعَ إِلَيْنَا وَلَنْ يبعث.
[15] ثم قال: {بَلَى} [الانشقاق: 15] أَيْ لَيْسَ كَمَا ظَنَّ بَلْ يَحُورُ إِلَيْنَا وَيُبْعَثُ {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} [الانشقاق: 15] خَلَقَهُ إِلَى أَنْ بَعْثَهُ.
[16] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} [الانشقاق: 16] قَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: هُوَ الْحُمْرَةُ الَّتِي تَبْقَى فِي الْأُفُقِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ. وَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يَعْقُبُ تِلْكَ الْحُمْرَةَ.
[17] {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 17] أَيْ جَمَعَ وَضَمَّ يُقَالُ: وَسَقْتُهُ أَسِقُهُ وَسْقَا أَيْ جَمَعْتُهُ، وَاسْتَوْسَقَتِ الْإِبِلُ إِذَا اجْتَمَعَتْ وَانْضَمَّتْ، وَالْمَعْنَى: وَاللَّيْلِ وَمَا جَمَعَ وَضَمَّ مَا كَانَ بِالنَّهَارِ مُنْتَشِرًا مِنَ الدَّوَابِّ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّيْلَ إِذَا أَقْبَلَ أَوَى كُلُّ شَيْءٍ إِلَى مَأْوَاهُ.
[18] {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق: 18] اجْتَمَعَ وَاسْتَوَى وَتَمَّ نُورُهُ وَهُوَ في الأيام البيض.
[19 - 20] {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] قَرَأَ أَهْلُ مَكَّةَ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (لَتَرْكَبُنَّ) بِفَتْحِ الْبَاءِ، يَعْنِي لَتَرْكَبَنَّ يا محمد. قَالَ الشَّعْبِيُّ وَمُجَاهِدٌ: سَمَاءً بَعْدَ سَمَاءٍ، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي تُصْعَدُ فِيهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ دَرَجَةً بَعْدَ دَرَجَةٍ وَرُتْبَةً بَعْدَ رُتْبَةٍ فِي الْقُرْبِ مِنَ اللَّهِ - تَعَالَى - والرفعة، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ) حَالًا بَعْدَ حَالٍ، قَالَ: هَذَا نَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقِيلَ: أَرَادَ بِهِ السَّمَاءَ تَتَغَيَّرُ لَوْنًا بَعْدَ لَوْنٍ، فَتَصِيرُ تَارَةً كَالدِّهَانِ وَتَارَةً كَالْمُهْلِ، فتنشق بِالْغَمَامِ مَرَّةً وَتُطْوَى أُخْرَى.
وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِضَمِّ الْبَاءِ لِأَنَّ الْمَعْنَى بِالنَّاسِ أَشْبَهُ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مِنْ قَبْلُ: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بيمينه، وشماله وذكر من بعده {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] وأراد
_________
(1) أخرجه البخاري في العلم (1 / 196) ومسلم في الجنة وصفة نعيمها رقم (2876) (4 / 2204) .(6/1010)
لَتَرْكَبُنَّ حَالًا بَعْدَ حَالٍ وَأَمْرًا بَعْدَ أَمْرٍ فِي مَوْقِفِ الْقِيَامَةِ، يَعْنِي الْأَحْوَالَ تَنْقَلِبُ بِهِمْ فَيَصِيرُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى غَيْرِ الْحَالِ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا. وَ (عَنْ) بِمَعْنَى بَعْدَ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي الْمَوْتَ ثُمَّ الْحَيَاةَ ثُمَّ الْمَوْتَ ثُمَّ الْحَيَاةَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: مَرَّةً فَقِيرًا وَمُرَّةً غَنِيًا. وَقَالَ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ عَنِ ابن عباس: يعني الشدائد والأهوال والموت، ثُمَّ الْبَعْثَ ثُمَّ الْعَرْضَ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: حَالًا بَعْدَ حَالٍ رَضِيعٌ ثُمَّ فَطِيمٌ ثُمَّ غُلَامٌ ثُمَّ شاب ثم شيخ {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ.
[21] {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] لا يصلون.
[22] {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 22] بِالْقُرْآنِ وَالْبَعْثِ.
[23] {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} [الانشقاق: 23] فِي صُدُورِهِمْ مِنَ التَّكْذِيبِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: يَكْتُمُونَ.
[24، 25] {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ - إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 24 - 25] غَيْرُ مَقْطُوعٍ وَلَا مَنْقُوصٍ.
[سُورَةُ البروج]
[قوله تعالى وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ] . . .
(85) سورة البروج [1 - 2] {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ - وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ} [البروج: 1 - 2] هُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ.
[3] {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] الأكثرون: أَنَّ الشَّاهِدَ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودُ يوم عرفة. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: الشَّاهِدُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ النَّحْرِ. قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: الشَّاهِدُ يَوْمُ التَّرْوِيَةِ، وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ عَرَفَةَ. وَرَوَى يُوسُفُ بْنُ مِهْرَانَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الشَّاهِدُ مُحَمَّدٌ - صلى الله عليه وسلم - والمشهود يَوْمُ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ تَلَا: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النِّسَاءِ: 41] وَقَالَ: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103] وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى: الشَّاهِدُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -، والمشهود اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، بَيَانُهُ قَوْلُهُ: {وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] وعن مجاهد قال: الشاهد آدم والمشهود يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الشَّاهِدُ الإنسان والمشهود يوم القيامة، وعن ابْنِ عَبَّاسٍ: الشَّاهِدُ هُوَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - وَالْمَشْهُودُ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: الشَّاهِدُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَالْمَشْهُودُ سَائِرُ الْأُمَمِ، وَقِيلَ: الشَّاهِدُ أَعْضَاءُ بَنِي آدَمَ، بَيَانُهُ: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ} [النور: 24]
[4] {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج: 4] أي لعن، والأخدود: الشَّقُّ الْمُسْتَطِيلُ فِي الْأَرْضِ كَالنَّهْرِ، وجمعه أخاديد.
[5] {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} [البروج: 5] بَدَلٌ مِنَ الْأُخْدُودِ، قَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: نَجَّى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أُلْقُوا فِي(6/1011)
النَّارِ بِقَبْضِ أَرْوَاحِهِمْ قَبْلَ أَنْ تَمَسَّهُمُ النَّارُ وَخَرَجَتِ النَّارُ إِلَى مَنْ عَلَى شَفِيرِ الْأُخْدُودِ مِنَ الْكُفَّارِ فَأَحْرَقَتْهُمْ.
[6] {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} [البروج: 6] أي عند النار جلوس يعذبون الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانُوا قُعُودًا عَلَى الْكَرَاسِيِّ عِنْدَ الْأُخْدُودِ.
[7] {وَهُمْ} [البروج: 7] يَعْنِي الْمَلِكَ وَأَصْحَابَهُ الَّذِينَ خَدُّوا الْأُخْدُودَ، {عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ} [البروج: 7] مِنْ عَرْضِهِمْ عَلَى النَّارِ وَإِرَادَتِهِمْ أَنْ يَرْجِعُوا إِلَى دِينِهِمْ، {شُهُودٌ} [البروج: 7] حضور.
[8] {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ} [البروج: 8] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مَا كَرِهُوا مِنْهُمْ، {إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ} [البروج: 8] قَالَ مُقَاتِلٌ: مَا عَابُوا مِنْهُمْ. وَقِيلَ: مَا عَلِمُوا فِيهِمْ عَيْبًا. قَالَ الزَّجَّاجُ: مَا أَنْكَرُوا عَلَيْهِمْ ذَنْبًا إِلَّا إِيمَانَهُمْ بِاللَّهِ {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} [البروج: 8]
[9] {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [البروج: 9] من أفعالههم، {شَهِيدٌ} [البروج: 9]
[10] {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا} [البروج: 10] عذبوا وأحرقوا، {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [البروج: 10] يقال: فتنت الشيء إذ أَحْرَقَتَهُ، نَظِيرُهُ: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} [الذَّارِيَاتِ: 13] {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ} [البروج: 10] بكفرهم، {وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} [البروج: 10] بِمَا أَحْرَقُوا الْمُؤْمِنِينَ. وَقِيلَ: وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَحْرَقَهُمْ بِالنَّارِ الَّتِي أحرقوا بها المؤمنين، وارتفعت إِلَيْهِمْ مِنَ الْأُخْدُودِ، قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ وَالْكَلْبِيُّ.
[11] ثُمَّ ذَكَرَ مَا أَعَدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: 11] وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَابِ الْقَسَمِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ. جَوَابُهُ {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} [البروج: 4] يَعْنِي لَقَدْ قُتِلَ. وَقِيلَ: فِيهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: جَوَابُهُ:
[12] {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} [البروج: 12] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: إِنَّ أَخْذَهُ بِالْعَذَابِ إِذَا أَخَذَ الظَّلَمَةَ لَشَدِيدٌ، كَقَوْلِهِ: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هُودٍ: 102]
[13] {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} [البروج: 13] أَيْ يَخْلُقُهُمْ أَوَّلًا فِي الدُّنْيَا ثُمَّ يُعِيدُهُمْ أَحْيَاءً بَعْدَ الْمَوْتِ.
[14] {وَهُوَ الْغَفُورُ} [البروج: 14] لذنوب المؤمنين، {الْوَدُودُ} [البروج: 14] المحب لهم.
[15] {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} [البروج: 15] قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ (الْمَجِيدِ) بِالْجَرِّ عَلَى صِفَةِ الْعَرْشِ أَيِ السَّرِيرِ الْعَظِيمِ. وَقِيلَ: أَرَادَ حُسْنَهُ فَوَصَفَهُ بِالْمَجْدِ كَمَا وَصَفَهُ بِالْكَرَمِ، فَقَالَ: {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 116] وَمَعْنَاهُ الْكَمَالُ، وَالْعَرْشُ: أَحْسَنُ الْأَشْيَاءِ وَأَكْمَلُهَا، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالرَّفْعِ عَلَى صِفَةِ ذُو الْعَرْشِ.
[16] {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] لا يحجزه شيء يريده وللايمتنع مِنْهُ شَيْءٌ طَلَبَهُ.
[17] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ} [البروج: 17] قَدْ أَتَاكَ خَبَرُ الْجُمُوعِ الْكَافِرَةِ الذين تجندوا على الأنبياء، ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ هُمْ؟
[18، 19] فَقَالَ: {فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ - بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البروج: 18 - 19] مِنْ قَوْمِكَ يَا مُحَمَّدُ، {فِي تَكْذِيبٍ} [البروج: 19] لك وللقرآن كدأب مِنْ قَبْلِهِمْ، وَلَمْ يَعْتَبِرُوا بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ.
[20] {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} [البروج: 20] عَالِمٌ بِهِمْ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، يَقْدِرُ أَنْ يُنْزِلَ بِهِمْ مَا أَنْزَلَ بِمَنْ كَانَ قَبْلَهُمْ.
[21] {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} [البروج: 21] كَرِيمٌ شَرِيفٌ كَثِيرُ الْخَيْرِ، لَيْسَ كَمَا زَعَمَ الْمُشْرِكُونَ أَنَّهُ شِعْرٌ وكهانة.
[22] {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 22] قَرَأَ نَافِعٌ مَحْفُوظٌ بِالرَّفْعِ عَلَى نعت الْقُرْآنَ مَحْفُوظٌ مِنَ التَّبْدِيلِ وَالتَّغْيِيرِ وَالتَّحْرِيفِ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِالْجَرِّ عَلَى نَعْتِ اللوح وهو الذي يعرف باللوح المحفوظ، وهو أم الكتاب، ومنه تنسخ الْكُتُبُ، مَحْفُوظٌ مِنَ الشَّيَاطِينِ، وَمِنَ الزيادة فيه والنقصان.
[سورة الطارق]
[قوله تعالى وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ] . . .(6/1012)
(86) سورة الطارق [1] {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} [الطارق: 1] وهذا قسم، والطارق النَّجْمُ يَظْهَرُ بِاللَّيْلِ، وَمَا أَتَاكَ لَيْلًا فَهُوَ طَارِقٌ.
[2] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ} [الطَّارِقُ: 2]
[3] ثُمَّ فَسَّرَهُ فَقَالَ: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 3] أَيِ الْمُضِيءُ. الْمُنِيرُ، قَالَ مُجَاهِدٌ: المتوهج.
[4] {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ} [الطارق: 4] جَوَابُ الْقَسَمِ، {لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] كُلُّ نَفْسٍ عَلَيْهَا حَافِظٌ مِنْ رَبِّهَا يَحْفَظُ عَمَلَهَا وَيُحْصِي عَلَيْهَا مَا تَكْتَسِبُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْحَفَظَةُ من الملائكة.
[5] {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ} [الطارق: 5] أي فليتفكر مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ رَبُّهُ، أَيْ فَلْيَنْظُرْ نَظَرَ الْمُتَفَكِّرِ.
[6] ثُمَّ بَيَّنَ فَقَالَ: {خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] مَدْفُوقٍ أَيْ مَصْبُوبٍ فِي الرَّحِمِ، وَهُوَ الْمَنِيُّ، فَاعِلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كقوله: {عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] وَالدَّفْقُ الصَّبُّ وَأَرَادَ مَاءَ الرَّجُلِ وَمَاءَ الْمَرْأَةِ لِأَنَّ الْوَلَدَ مَخْلُوقٌ مِنْهُمَا، وَجَعَلَهُ وَاحِدًا لِامْتِزَاجِهِمَا.
[7] {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ} [الطارق: 7] يَعْنِي صُلْبَ الرَّجُلِ وَتَرَائِبَ الْمَرْأَةِ والترائب جُمَعُ التَّرِيبَةِ وَهِيَ عِظَامُ الصَّدْرِ والنحر.
[8] {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8] قَالَ مُجَاهِدٌ: عَلَى رَدِّ النُّطْفَةِ فِي الْإِحْلِيلِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: عَلَى رَدِّ الْمَاءِ فِي الصُّلْبِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّهُ عَلَى رَدِّ الْإِنْسَانِ مَاءً كَمَا كَانَ مِنْ قَبْلُ لِقَادِرٌ، وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - عَلَى بعث الانسان وإعادته بعد الموت قَادِرٌ. وَهَذَا أَوْلَى الْأَقَاوِيلِ.
[9] لِقَوْلِهِ: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} [الطارق: 9] وَذَلِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، تُبْلَى السَّرَائِرُ تظهر الخفايا. قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ: السَّرَائِرُ فَرَائِضُ الْأَعْمَالِ، كَالصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَالْوُضُوءِ وَالِاغْتِسَالِ مِنَ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّهَا سَرَائِرُ بَيْنَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَبَيْنَ الْعَبْدِ، فَلَوْ شَاءَ الْعَبْدُ لَقَالَ: صُمْتُ وَلَمْ يَصُمْ، وَصَلَّيْتُ وَلَمْ يصل.
[10] {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 10] أَيْ مَا لِهَذَا الْإِنْسَانِ الْمُنْكِرِ لِلْبَعْثِ مِنْ قُوَّةٍ يَمْتَنِعُ بِهَا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ وَلَا نَاصِرَ يَنْصُرُهُ مِنَ اللَّهِ.
[11] ثُمَّ ذَكَرَ قَسَمًا آخَرَ فَقَالَ: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ} [الطارق: 11] أَيْ ذَاتِ الْمَطَرِ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ كُلَّ عَامٍ وَيَتَكَرَّرُ. وَقَالَ ابْنُ عباس: هو السحاب يرجع المطر.
[12] {وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 12] أي تصدع وَتَنَشَقُّ عَنِ النَّبَاتِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ.
[13] وجواب القسم قوله: {إِنَّهُ} [الطارق: 13] يعني القرآن، {لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] حَقٌّ وَجِدٌ يَفْصِلُ بَيْنَ الْحَقِّ والباطل.
[14] {وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ} [الطارق: 14] بِاللَّعِبِ وَالْبَاطِلِ.
[15] ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ فَقَالَ: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا} [الطارق: 15] يَخَافُونَ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَيُظْهِرُونَ مَا هُمْ عَلَى خلافه.(6/1013)
[16] {وَأَكِيدُ كَيْدًا} [الطارق: 16] وكيد الله استدراجهم إِيَّاهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ.
[17] {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ} [الطارق: 17] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا وَعِيدٌ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - لَهُمْ، {أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا} [الطارق: 17] قَلِيلًا وَمَعْنَى مَهِّلْ وَأَمْهِلْ أَنْظِرْ وَلَا تَعْجَلْ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ يَوْمَ بَدْرٍ، وَنُسِخَ الْإِمْهَالُ بِآيَةِ السَّيْفِ.
[سورة الأعلى]
[قوله تعالى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى. . .]
(87) سورة الْأَعْلَى [1] {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الْأَعْلَى: 1] يَعْنِي قُلْ سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى، وَقَالَ قَوْمٌ: مَعْنَاهُ نَزِّهْ رَبَّكَ الْأَعْلَى عَمَّا يَصِفُهُ بِهِ الملحدون، وَقَالَ آخَرُونَ: نَزِّهْ تَسْمِيَةَ رَبِّكَ بأن تذكره وأنت معظم ولذكره محترم.
[2] {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلى: 2] قَالَ الْكَلْبِيُّ: خَلَقَ كُلَّ ذِي رُوحٍ فَسَوَّى الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْعَيْنَيْنِ. قال الزَّجَّاجُ: خَلَقَ الْإِنْسَانَ مُسْتَوِيًا، وَمَعْنَى سَوَّى: عَدَلَ قَامَتَهُ.
[3] {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3] قال مُجَاهِدٌ: هَدَى الْإِنْسَانَ لِسَبِيلِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالسَّعَادَةِ وَالشَّقَاوَةِ، وَهَدَى الْأَنْعَامَ لِمَرَاتِعِهَا. وَقَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: قَدَّرَ لِكُلِّ شَيْءٍ مَسْلَكَهُ فَهَدَى، عَرَّفَهَا كَيْفَ يَأْتِي الذَّكَرُ الْأُنْثَى. وَقِيلَ: قدر الأرزاق فهدى لِاكْتِسَابِ الْأَرْزَاقِ وَالْمَعَاشِ. وَقِيلَ: خَلَقَ الْمَنَافِعَ فِي الْأَشْيَاءِ وَهَدَى الْإِنْسَانَ لوجه استخراجها منها.
[4] {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} [الأعلى: 4] أَنْبَتَ الْعُشْبَ وَمَا تَرْعَاهُ النَّعَمُ. مِنْ بَيْنِ أَخْضَرَ وَأَصْفَرَ وَأَحْمَرَ وأبيض.
[5] {فَجَعَلَهُ} [الأعلى: 5] بعد الخضرة، {غُثَاءً} [الأعلى: 5] هَشِيمًا بَالِيًا، كَالْغُثَاءِ الَّذِي تَرَاهُ فوق السيل. {أَحْوَى} [الأعلى: 5] أَسْوَدَ بَعْدَ الْخُضْرَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْكَلَأَ إِذَا جَفَّ وَيَبِسَ اسْوَدَّ.
[6، 7] {سَنُقْرِئُكَ} [الأعلى: 6] سَنُعَلِّمُكَ بِقِرَاءَةِ جِبْرِيلَ عَلَيْكَ، {فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6] {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} [الأعلى: 7] أَنْ تَنْسَاهُ وَمَا نَسَخَ اللَّهُ تلاوته من القرآن، {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ} [الأعلى: 7] مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ، {وَمَا يَخْفَى} [الأعلى: 7] مِنْهُمَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ والعلانية.
[8] {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} [الأعلى: 8] قَالَ مُقَاتِلٌ: نُهَوِّنُ عَلَيْكَ عَمَلَ الْجَنَّةِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ ابْنِ عباس: نيسرك لأن تعمل خيرا، واليسرى عَمَلُ الْخَيْرِ. وَقِيلَ: نُوَفِّقُكَ لِلشَّرِيعَةِ اليسرى وهي الحنيفية السمحة.
[9] {فَذَكِّرْ} [الأعلى: 9] عِظْ بِالْقُرْآنِ، {إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} [الأعلى: 9] الْمَوْعِظَةُ وَالتَّذْكِيرُ، وَالْمَعْنَى: نَفَعَتْ أَوْ لم تنفع.
[10] {سَيَذَّكَّرُ} [الأعلى: 10] سيتعظ، {مَنْ يَخْشَى} [الأعلى: 10] الله - عز وجل -.
[11] {وَيَتَجَنَّبُهَا} [الأعلى: 11] أَيْ يَتَجَنَّبُ الذِّكْرَى وَيَتَبَاعَدُ عَنْهَا، {الْأَشْقَى} [الأعلى: 11] الشَّقِيُّ فِي عِلْمِ اللَّهِ.
[12] {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} [الأعلى: 12] الْعَظِيمَةَ وَالْفَظِيعَةَ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ وَأَشَدُّ حَرًّا مِنْ نَارِ الدُّنْيَا.
[13] {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا} [الأعلى: 13] فيستريح، {وَلَا يَحْيَا} [الأعلى: 13] حَيَاةً تَنْفَعُهُ.
[14] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] تَطَهَّرَ مِنَ الشِّرْكِ وَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَقَالَ الْحَسَنُ: مَنْ كَانَ عَمَلُهُ زَاكِيًا. وَقَالَ آخرون: هو صَدَقَةَ الْفِطْرِ.
[15] {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} [الأعلى: 15] قَالَ: خَرَجَ إِلَى الْعِيدِ فَصَلَّى صلاته، وَقِيلَ: الصَّلَاةُ هَاهُنَا الدُّعَاءُ.
[16] {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [الأعلى: 16]
[17] {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الأعلى: 17] قَالَ عَرْفَجَةُ الْأَشْجَعِيُّ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ لَنَا: أَتَدْرُونَ لِمَ آثَرْنَا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ؟ قُلْنَا: لَا، قَالَ: لِأَنَّ الدُّنْيَا أُحْضِرَتْ وَعُجِّلَ لَنَا طَعَامُهَا وَشَرَابُهَا وَنِسَاؤُهَا وَلَذَّاتُهَا وَبَهْجَتُهَا، وَأَنَّ الْآخِرَةَ نُعِتَتْ لَنَا وَزُوِيَتْ عَنَّا فَأَحْبَبْنَا الْعَاجِلَ وتركنا الآجل.
[18] {إِنَّ هَذَا} [الأعلى: 18] يَعْنِي مَا ذُكِرَ مِنْ قَوْلِهِ: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] إلى أَرْبَعِ آيَاتٍ، {لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} [الأعلى: 18] أي الْكُتُبِ الْأُولَى الَّتِي أُنْزِلَتْ قَبْلَ الْقُرْآنِ ذَكَرَ فِيهَا فَلَاحَ الْمُتَزَكِّي وَالْمُصَلِّي وَإِيثَارَ الْخَلْقِ(6/1014)
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ، وَأَنَّ الْآخِرَةَ خَيْرٌ وَأَبْقَى.
[19] ثُمَّ بَيَّنَ الصُّحُفَ فَقَالَ: {صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى} [الأعلى: 19] قَالَ عِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ: هَذِهِ السُّورَةُ في صحف إبراهيم وموسى.
[سورة الغاشية]
[قوله تعالى هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ] خَاشِعَةٌ. . .
(88) سورة الغاشية [1] {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} [الغاشية: 1] قَدْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْقِيَامَةِ تَغْشَى كُلَّ شَيْءٍ بِالْأَهْوَالِ.
[2] {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ} [الغاشية: 2] يعني يوم القيامة، {خَاشِعَةٌ} [الغاشية: 2] ذليلة.
[3] {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ} [الغاشية: 3] قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يَعْنِي الَّذِينَ عَمِلُوا وَنَصَبُوا فِي الدُّنْيَا عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ مِنْ عَبَدَةِ الْأَوْثَانِ وَكُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ مِثْلَ الرُّهْبَانِ وَغَيْرِهِمْ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُمُ اجْتِهَادًا فِي ضَلَالَةٍ، يَدْخُلُونَ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَى النَّصَبِ الدَّأْبُ فِي الْعَمَلِ بالتعب، وقال عكرمة والسدي: عامدة فِي الدُّنْيَا بِالْمَعَاصِي، نَاصِبَةٌ فِي الآخرة في النار، وقال الْحَسَنُ: لَمْ تَعْمَلْ لِلَّهِ فِي الدُّنْيَا فَأَعْمَلَهَا وَأَنْصَبَهَا فِي النَّارِ.
[4] {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} [الغاشية: 4] قَالَ ابْنِ عَبَّاسٍ: قَدْ حَمِيَتْ فَهِيَ تَتَلَظَّى عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ.
[5] {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية: 5] مُتَنَاهِيَةٍ فِي الْحَرَارَةِ قَدْ أُوقِدَتْ عَلَيْهَا جَهَنَّمُ مُنْذُ خُلِقَتْ، فَدُفِعُوا إِلَيْهَا وِرْدًا عِطَاشًا. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَوْ وَقَعَتْ مِنْهَا قَطْرَةٌ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَابَتْ، هَذَا شَرَابُهُمْ، ثُمَّ ذَكَرَ طَعَامَهُمْ فَقَالَ:
[6 - 7] {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ} [الغاشية: 6] قال مجاهد: هُوَ نَبْتٌ ذُو شَوْكٍ لَاطِئٍ بِالْأَرْضِ، تُسَمِّيهِ قُرَيْشٌ الشَّبْرَقَ فَإِذَا هَاجَ سُمَّوْهَا الضَّرِيعَ، وَهُوَ أَخْبَثُ طعام وأبشعه، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَإِنَّ الضَّرِيعَ الشَّوْكُ الْيَابِسُ الذي ليس لَهُ وَرَقٌ، وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ شوك من نار {لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ} [الغاشية: 7]
[8] ثُمَّ وَصَفَ أَهْلَ الْجَنَّةِ فَقَالَ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ} [الغاشية: 8] قَالَ مُقَاتِلٌ: فِي نِعْمَةٍ وَكَرَامَةٍ.
[9] {لِسَعْيِهَا} [الغاشية: 9] في الدنيا، {رَاضِيَةٌ} [الغاشية: 9] فِي الْآخِرَةِ حِينَ أُعْطِيَتِ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهَا.
[10 - 11] {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ - لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً} [الغاشية: 10 - 11] لغوا وباطلا.
[12- 14] {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ - فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ - وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية: 12 - 14] عندهم.
[15] {وَنَمَارِقُ} [الغاشية: 15] وسائد ومرافق، {مَصْفُوفَةٌ} [الغاشية: 15] بَعْضُهَا بِجَنْبِ بَعْضٍ وَاحِدَتُهَا نُمْرُقَةٌ بضم النون.
[16] {وَزَرَابِيُّ} [الغاشية: 16] يعني البسط العريضة {مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 16] مَبْسُوطَةٌ، وَقِيلَ: مُتَفَرِّقَةٌ فِي الْمَجَالِسِ.
[17] {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: لَمَّا نَعَتَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي هَذِهِ السُّورَةِ مَا فِي الْجَنَّةِ عَجِبَ مِنْ ذلك أهل الكفر وكذبوه، فذكر(6/1015)
لهم اللَّهُ - تَعَالَى - صُنْعَهُ فَقَالَ: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17] وكانت الإبل أعظم عَيْشِ الْعَرَبِ، لَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كثيرة فكما صَنَعَ لَهُمْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا صَنَعَ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِيهَا مَا صنع.
[18] {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ} [الغاشية: 18] عَنِ الْأَرْضِ حَتَّى لَا يَنَالَهَا شيء يغيرها.
[19] {وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ} [الغاشية: 19] عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُرْسَاةً لَا تَزُولُ.
[20] {وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 20] بُسِطَتْ، قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هَلْ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَ الْإِبِلِ أَوْ يَرْفَعَ مِثْلَ السَّمَاءِ أَوْ يَنْصِبَ مِثْلَ الْجِبَالِ أَوْ يَسْطَحَ مِثْلَ الْأَرْضِ غَيْرِي؟
[21 - 22] {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ - لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22] بِمُسَلَّطٍ فَتَقْتُلَهُمْ وَتُكْرِهَهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ، نَسَخَتْهَا آيَةُ الْقِتَالِ.
[23] {إِلَّا مَنْ تَوَلَّى} [الغاشية: 23] اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ عَمَّا قَبْلَهُ مَعْنَاهُ لكن من تولى، {وَكَفَرَ} [الغاشية: 23] بَعْدَ التَّذْكِيرِ.
[24] {فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ} [الغاشية: 24] وهو أن بدخله النار. وإنما قالط الْأَكْبَرَ لِأَنَّهُمْ عُذِّبُوا فِي الدُّنْيَا بِالْجُوعِ وَالْقَحْطِ وَالْقَتْلِ وَالْأَسْرِ.
[25] {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] رُجُوعَهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، يُقَالُ: آبَ يئوت أوبا وإيابا.
[26] {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغَاشَيَةِ: 26] يَعْنِي جَزَاءَهُمْ بَعْدَ الْمَرْجِعِ إِلَى اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -.
[سُورَةُ الْفَجْرَ]
[قوله تعالى وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ] . . .
(89) سورة الفجر [1] {وَالْفَجْرِ} [الفجر: 1] أَقْسَمَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - بِالْفَجْرِ، رَوَى أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ انْفِجَارُ الصُّبْحِ كُلَّ يَوْمٍ. وَهُوَ قَوْلُ عِكْرِمَةَ، وقال عطية عنه: صلاة لصبح، وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ فَجْرُ أَوَّلِ يَوْمٍ مِنَ الْمُحَرَّمِ تَنْفَجِرُ مِنْهُ السَّنَةُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: فَجْرُ ذِي الحجة لأنه قرن بِهِ اللَّيَالِي الْعَشْرُ.
[2] {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهَا الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وقال أبو روق عن الضحاك: هي العشر الأول من شهر رمضان. وَرَوَى أَبُو ظَبْيَانَ عَنِ ابْنِ عباس قال: هِيَ الْعَشْرُ الْأَوَاخِرُ مِنْ شَهْرِ رمضان. وقال يمن بْنُ رَبَابٍ: هِيَ الْعَشْرُ الْأُوَلُ مِنَ الْمُحَرَّمِ الَّتِي عَاشِرُهَا يَوْمُ عاشوراء.
[3] {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3] اختلفوا فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، قِيلَ: الشَّفْعُ الْخَلْقُ، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} [النبأ: 8] وَالْوَتْرُ: هُوَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَمَسْرُوقٌ: الشَّفْعُ الْخَلْقُ كله، والوتر هو الله، قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الْإِخْلَاصِ: 1] قَالَ الْحَسَنُ وَابْنُ زَيْدٍ: الشَّفْعُ وَالْوَتْرُ الْخَلْقُ كُلُّهُ مِنْهُ شَفْعٌ وَمِنْهُ وَتْرٌ. وَرَوَى قَتَادَةُ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هُوَ الْعَدَدُ مِنْهُ شَفْعٌ وَمِنْهُ وَتْرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هَمَا الصَّلَوَاتُ منها شفع ومنها وتر.
[4] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] أَيْ إِذَا سَارَ وَذَهَبَ كَمَا قال: {وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} [الْمُدَّثِّرِ: 33] وَقَالَ قَتَادَةُ: إِذَا جَاءَ وَأَقْبَلَ وَأَرَادَ كل ليلة.
[5] {هَلْ فِي ذَلِكَ} [الفجر: 5] أي فيما ذكرت، {قَسَمٌ} [الفجر: 5] أَيْ مَقْنَعٌ وَمُكْتَفًى فِي الْقَسَمِ، {لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 5] للذي عَقْلٍ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ يَحْجُرُ صَاحِبَهُ عَمًّا لَا يَحِلُّ وَلَا يَنْبَغِي، وَأَصْلُ الْحَجْرِ الْمَنْعُ وَجَوَابُ الْقَسَمِ قَوْلُهُ: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] وَاعْتَرَضَ بَيْنَ الْقَسَمِ وَجَوَابِهِ قَوْلُهُ - عز وجل -:
[6 - 7] {أَلَمْ تَرَ} [الفجر: 6] قَالَ الفَرَّاءُ: أَلَمْ تُخْبَرْ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: أَلَمْ تَعْلَمْ وَمَعْنَاهُ التَّعَجُّبُ. {كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ - إِرَمَ} [الفجر: 6 - 7] يُخَوِّفُ أَهْلَ مَكَّةَ يَعْنِي كَيْفَ أَهْلَكَهُمْ، وَهُمْ كَانُوا أَطْوَلَ أَعْمَارًا وَأَشَدَّ قُوَّةً مِنْ هَؤُلَاءِ، وَاخْتَلَفُوا في إرم فَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} [الفجر: 7] دِمَشْقُ، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ، وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: هِيَ الْإِسْكَنْدَرِيَّةُ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هي أمة.(6/1016)
وقيل: معناه الْقَدِيمَةُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: هُمْ قبيلة من عاد.
[8] {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 8] وَسُمُّوا ذَاتَ الْعِمَادِ لِهَذَا لِأَنَّهُمْ كانوا أَهْلَ عُمُدٍ وَخِيَامٍ وَمَاشِيَةٍ سَيَّارَةٍ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمُّوا ذَاتَ الْعِمَادِ لِطُولِ قَامَتِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يعني طولهم مثل العماد. وَقَوْلُهُ: (لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ) ، أَيْ لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُ تِلْكَ الْقَبِيلَةِ فِي الطُّولِ وَالْقُوَّةِ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالُوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً} [فصلت: 15] وَقِيلَ: سُمُّوا ذَاتَ الْعِمَادِ لِبِنَاءٍ بناه بعضهم.
[9] {وَثَمُودَ} [الفجر: 9] أَيْ وَبِثَمُودَ، {الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ} [الفجر: 9] قطعوا الحجر، {بِالْوَادِ} [الفجر: 9] يَعْنِي وَادِي الْقُرَى كَانُوا يَقْطَعُونَ الجبال فيجعلون فيها بيوتا.
[10] {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} [الفجر: 10] سُمِّي بِذَلِكَ لِأَنَّهُ كَانَ يُعَذِّبُ النَّاسَ بِالْأَوْتَادِ، وَقَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي سورة ص (1) .
[11] {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ} [الفجر: 11] يَعْنِي عَادًا وَثَمُودَ وَفِرْعَوْنَ عَمِلُوا فِي الْأَرْضِ بِالْمَعَاصِي وَتَجَبَّرُوا.
[12 - 13] {فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ - فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 12 - 13] قَالَ قَتَادَةُ: يَعْنِي لَوْنًا مِنَ الْعَذَابِ صَبَّهُ عَلَيْهِمْ، قَالَ أَهْلُ الْمَعَانِي: هَذَا عَلَى الِاسْتِعَارَةِ لِأَنَّ السَّوْطَ عِنْدَهُمْ غَايَةُ الْعَذَابِ، فَجَرَى ذَلِكَ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنَ الْعَذَابِ. قال الزَّجَّاجُ: جَعَلَ سَوْطَهُ الَّذِي ضَرَبَهُمْ بِهِ الْعَذَابَ.
[14] {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 14] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَعْنِي بِحَيْثُ يرى ويسمع ويبصر ما تقول وتفعل وتهجس به العباد. قَالَ الْكَلْبِيُّ: عَلَيْهِ طَرِيقُ الْعِبَادِ لَا يَفُوتُهُ أَحَدٌ. قَالَ مُقَاتِلٌ: مَمَرُّ النَّاسِ عَلَيْهِ، وَالْمِرْصَادُ وَالْمَرْصَدُ: الطَّرِيقُ. وَقِيلَ: مَرْجِعُ الْخَلْقِ إِلَى حُكْمِهِ وَأَمْرِهِ وَإِلَيْهِ مَصِيرُهُمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ: يَرْصُدُ أَعْمَالَ بَنِي آدَمَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَفُوتُهُ شَيْءٌ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ كَمَا لَا يَفُوتُ مَنْ هُوَ بِالْمِرْصَادِ.
[15] {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ} [الفجر: 15] امتحنه، {رَبُّهُ} [الفجر: 15] بالنعمة، {فَأَكْرَمَهُ} [الفجر: 15] بالمال، {وَنَعَّمَهُ} [الفجر: 15] بِمَا وَسَّعَ عَلَيْهِ، {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15] بِمَا أَعْطَانِي.
[16] {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ} [الفجر: 16] بالفقر، {فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] أَيْ ضَيَّقَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ. وَقِيلَ: قَدَّرَ بِمَعْنَى قَتَّرَ وَأَعْطَاهُ قَدْرَ مَا يَكْفِيهِ. {فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} [الفجر: 16] أَذَلَّنِي بِالْفَقْرِ، وَهَذَا يَعْنِي بِهِ الْكَافِرَ تَكُونُ الْكَرَامَةُ وَالْهَوَانُ عِنْدَهُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْحَظِّ فِي الدُّنْيَا وقلته.
[قوله تعالى كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ. . .]
[17] فقال: {كَلَّا} [الفجر: 17] لم أبتله بالمغنى لِكَرَامَتِهِ وَلَمْ أَبْتَلِهِ بِالْفَقْرِ لِهَوَانِهِ، فَأَخْبَرَ أَنَّ الْإِكْرَامَ وَالْإِهَانَةَ لَا تَدُورُ عَلَى الْمَالِ وَسَعَةِ الرِّزْقِ، وَلَكِنَّ الْفَقْرَ وَالْغِنَى بِتَقْدِيرِهِ فَيُوَسِّعُ على الكافر لا لكرامته، وبقدر عَلَى الْمُؤْمِنِ لَا لِهَوَانِهِ، إِنَّمَا يكرم المرء
_________
(1) آية (12) .(6/1017)
بطاعته ويهينه بمعصيته، {بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} [الفجر: 17] لا تحسنوا إِلَيْهِ. وَقِيلَ: لَا تُعْطُونَهُ حَقَّهُ.
[18] {وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الفجر: 18] أَيْ لَا تَأْمُرُونَ بِإِطْعَامِهِ، وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ (تَحَاضُّونَ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَأَلِفٍ بَعْدَهَا أَيْ لَا يَحُضُّ بَعْضُكُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ.
[19] {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} [الفجر: 19] أي الميراث، {أَكْلًا لَمًّا} [الفجر: 19] شديدا يَأْكُلَ نَصِيبَهُ وَنَصِيبَ غَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُوَرِّثُونَ النِّسَاءَ وَلَا الصِّبْيَانَ، وَيَأْكُلُونَ نَصِيبَهُمْ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْأَكْلُ اللَّمُّ الَّذِي يَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ يَجِدُهُ لَا يَسْأَلُ عَنْهُ أَحَلَالٌ هُوَ أَمْ حَرَامٌ، وَيَأْكُلُ الَّذِي لَهُ وَلِغَيْرِهِ.
[20] {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20] أي كثيرا يعني يحبون جمع المال ويولعون به، يقال: جم المال فِي الْحَوْضِ إِذَا كَثُرَ وَاجْتَمَعَ.
[21] {كَلَّا} [الفجر: 21] مَا هَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَيْ لَا يفعلون ما أمروا به من إكرام الْيَتِيمِ وَإِطْعَامِ الْمِسْكِينِ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ تَلَهُّفِهِمْ عَلَى مَا سَلَفَ مِنْهُمْ حِينَ لَا يَنْفَعُهُمْ، فَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: {إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} [الفجر: 21] مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ وَكُسِرَ كُلُّ شَيْءٍ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ جَبَلٍ وَبِنَاءٍ وَشَجَرٍ فَلَمْ يَبْقَ عَلَى ظهرها شيء.
[22] {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22] قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ صُفُوفَ الْمَلَائِكَةِ، وَأَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ صَفٌّ عَلَى حِدَةٍ. قَالَ الضَّحَّاكُ: أَهْلُ كُلِّ سَمَاءٍ إِذَا نَزَلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانُوا صَفًا مُخْتَلِطِينَ بِالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهَا فَيَكُونُ سَبْعَ صُفُوفٍ.
[23] {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ} [الفجر: 23] يَعْنِي يَوْمَ يُجَاءُ بِجَهَنَّمَ، {يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ} [الفجر: 23] يَتَّعِظُ وَيَتُوبُ الْكَافِرُ، {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} [الفجر: 23] قَالَ الزَّجَّاجُ: يُظْهِرُ التَّوْبَةَ وَمِنْ أَيْنَ لَهُ التَّوْبَةُ.
[24] {يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] أَيْ قَدَّمُتُ الْخَيْرَ وَالْعَمَلَ الصَّالِحَ لِحَيَاتِي فِي الْآخِرَةِ، أَيْ لِآخِرَتِي الَّتِي لَا مَوْتَ فِيهَا.
[25، 26] {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ - وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} [الفجر: 25 - 26] بِفَتْحِ الذَّالِ وَالثَّاءِ عَلَى مَعْنَى لَا يُعَذَّبُ أَحَدٌ فِي الدُّنْيَا كَعَذَابِ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوثَقُ كوثاقه يَوْمَئِذٍ، وَقِيلَ: هُوَ رَجُلٌ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ، يَعْنِي لَا يُعَذَّبُ كَعَذَابِ هَذَا الْكَافِرِ أَحَدٌ، وَلَا يُوثَقُ كَوَثَاقِهِ أَحَدٌ، بِكَسْرِ الذَّالِ وَالثَّاءِ، أَيْ لَا يعذب أحد من الدُّنْيَا كَعَذَابِ اللَّهِ الْكَافِرَ يَوْمَئِذٍ، وَلَا يُوثَقُ كَوَثَاقِهِ أَحَدٌ، يَعْنِي لَا يَبْلُغُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ كَبَلَاغِ اللَّهِ فِي الْعَذَابِ، وَالْوَثَاقِ وهو الْإِسَارُ فِي السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ.
[27] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ} [الفجر: 27] إلى ما وعد الله المصدقة بما قال الله.
[28] {ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ} [الفجر: 28] إلى الله، {رَاضِيَةً} [الفجر: 28] بالثواب، {مَرْضِيَّةً} [الفجر: 28] عنك.
[29] {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] أَيْ مَعَ عِبَادِي فِي جَنَّتِي. وَقِيلَ: فِي جُمْلَةِ عِبَادِي الصَّالِحِينَ المطيعين المصطفين.
[30] {وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر: 30]
[سورة البلد]
[قوله تعالى لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا] الْبَلَدِ. . .
(90) سورة البلد [1] {لَا أُقْسِمُ} [القيامة: 1] يعني أقسم، {بِهَذَا الْبَلَدِ} [الْبَلَدِ: 1] يَعْنِي مَكَّةَ.
[2] {وَأَنْتَ حِلٌّ} [البلد: 2] أي حلال، {بِهَذَا الْبَلَدِ} [الْبَلَدِ: 2] تَصْنَعُ فِيهِ مَا تُرِيدُ مِنَ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ لَيْسَ عَلَيْكَ مَا عَلَى النَّاسِ فِيهِ مِنَ الإثم، أحل اللَّهُ لِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ، حَتَّى قَاتَلَ وَقَتَلَ وَأَمَرَ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ، ومِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ وَغَيْرِهِمَا، فَأَحَلَّ دِمَاءَ قَوْمٍ وَحَرَّمَ دِمَاءَ قَوْمٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - لَمَّا أَقْسَمَ بِمَكَّةَ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عظيم قدرها من حُرْمَتِهَا فَوَعَدَ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ يَحِلُّهَا لَهُ حَتَّى يُقَاتِلَ فِيهَا، وَأَنْ يَفْتَحَهَا عَلَى يَدِهِ(6/1018)
فَهَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ - عَزَّ وجل - بأن يحلها له.
[3] {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 3] يَعْنِي آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذُرِّيَّتَهُ.
[4] {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] رَوَى الْوَالِبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي نَصَبٍ. قَالَ الْحَسَنُ: يُكَابِدُ مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَشَدَائِدَ الْآخِرَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: فِي مَشَقَّةٍ فَلَا تَلْقَاهُ إلا يكابد أمر الدنيا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: فِي شِدَّةٍ. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: فِي شِدَّةِ خَلْقٍ حَمْلِهِ وَوِلَادَتِهِ وَرَضَاعِهِ، وَفِطَامِهِ وَفِصَالِهِ وَمَعَاشِهِ وحياته وموته.
[5] {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} [البلد: 5] أَيْ يَظُنُّ مِنْ شِدَّتِهِ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ اللَّهُ - تَعَالَى -.
[6] {يَقُولُ أَهْلَكْتُ} [البلد: 6] يعني أنفقت، {مَالًا لُبَدًا} [البلد: 6] أَيْ كَثِيرًا بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مِنَ التَّلْبِيدِ فِي عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
[7] {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} [البلد: 7] قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: أَيَظُنُّ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَرَهُ، وَلَا يَسْأَلُهُ عَنْ مَالِهِ مِنْ أين اكتسبه وأين أنفقه؟
[8، 9] فَقَالَ: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ - وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} [البلد: 8 - 9] قَالَ قَتَادَةُ: نِعَمُ اللَّهِ مُتَظَاهِرَةٌ يقررك بها كيما تشكر.
[10] {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: طَرِيقُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَالْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْهُدَى وَالضَّلَالَةِ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ قَالَ: الثَّدْيَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ المسيب والضحاك، والنجد: طريق ارتفاع.
[11] {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] يَقُولُ: فَهَلَّا أَنْفَقَ مَالَهُ فِيمَا يجوز به العقبة مِنْ فَكِّ الرِّقَابِ وَإِطْعَامِ السَّغْبَانِ، فَيَكُونُ خَيْرًا لَهُ مِنْ إِنْفَاقِهِ عَلَى عَدَاوَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هَذَا قَوْلُ ابْنِ زَيْدٍ وَجَمَاعَةٍ، وَقِيلَ: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أَيْ لَمْ يَقْتَحِمْهَا وَلَا جَاوَزَهَا. وَالِاقْتِحَامُ: الدُّخُولُ فِي الْأَمْرِ الشَّدِيدِ، وَذِكْرُ الْعَقَبَةِ هَاهُنَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِمُجَاهِدَةِ النَّفْسِ وَالْهَوَى وَالشَّيْطَانِ فِي أَعْمَالِ الْبِرِّ، فَجَعَلَهُ كالذي يتكلف صعود العقبة، تقول لَمْ يَحْمِلْ عَلَى نَفْسِهِ الْمَشَقَّةَ بِعِتْقِ الرَّقَبَةِ وَلَا طَعَامٍ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ قَتَادَةَ. وَقِيلَ: إِنَّهُ شَبَّهَ ثِقَلَ الذُّنُوبِ عَلَى مُرْتَكِبِهَا بِعَقَبَةٍ فَإِذَا أَعْتَقَ رَقَبَةً وَأَطْعَمَ كَانَ كَمَنِ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَجَاوَزَهَا، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ هَذِهِ الْعَقَبَةَ جَبَلٌ فِي جَهَنَّمَ، وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: عَقَبَةٌ شَدِيدَةٌ فِي النَّارِ دُونَ الْجِسْرِ، فَاقْتَحَمُوهَا بطاعة الله - تعالى -. وقال ابْنُ زَيْدٍ: يَقُولُ فَهَلَّا سَلَكَ الطريق التي فيها النجاة ثُمَّ بَيَّنَ مَا هِيَ فَقَالَ: [12- 14] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ - فَكُّ رَقَبَةٍ - أَوْ إِطْعَامٌ} [البلد: 12 - 14] أراد بِفَكِّ الرَّقَبَةِ إِعْتَاقَهَا وَإِطْلَاقَهَا، وَمَنْ أعتق رقبة كانت الرقبة فداءه من النار، وَقَالَ عِكْرِمَةُ قَوْلُهُ: (فَكُّ رَقَبَةٍ) يَعْنِي فَكَّ رَقَبَةٍ مِنَ الذُّنُوبِ بِالتَّوْبَةِ. {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14] مَجَاعَةٍ،(6/1019)
يُقَالُ: سَغَبَ يَسْغُبُ سَغْبًا إِذَا جاع.
[15] {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 15] أَيْ ذَا قَرَابَةٍ يُرِيدُ يَتِيمًا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ.
[16] {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] قَدْ لَصِقَ بِالتُّرَابِ مِنْ فَقْرِهِ وَضُرِّهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الْمَطْرُوحُ فِي التُّرَابِ لا يقيه شيء. والمتربة مَصْدَرُ تَرِبَ يَتْرَبُ تَرَبًا وَمَتْرَبَةً إِذَا افْتَقَرَ.
[17] {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17] ثم بين أن هذا الْقُرَبَ إِنَّمَا تَنْفَعُ مَعَ الْإِيمَانِ، وَقِيلَ: (ثُمَّ) بِمَعْنَى الْوَاوِ، {وَتَوَاصَوْا} [البلد: 17] أوصى بعضهم بعضا، {بِالصَّبْرِ} [البلد: 17] عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ وَأَوَامِرِهِ، {وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} [البلد: 17] بِرَحْمَةِ النَّاسِ.
[18- 20] {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ - وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ - عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [البلد: 18 - 20] مُطْبَقَةٌ عَلَيْهِمْ أَبْوَابُهَا لَا يَدْخُلُ فِيهَا رَوْحٌ وَلَا يَخْرُجُ مِنْهَا غم، يُقَالُ: آصَدْتُ الْبَابَ وَأَوْصَدْتُهُ إِذَا أغلقته وأطبقته.
[سورة الشمس]
[قوله تعالى وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا. .] .
(91) سورة الشمس [1] {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] قال مجاهد والكلبي: ضوؤها، وَالضُّحَى: حِينَ تَطْلُعُ الشَّمْسُ، فَيَصْفُو ضوؤها. قَالَ قَتَادَةُ: هُوَ النَّهَارُ كُلُّهُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: حَرُّهَا، كَقَوْلِهِ فِي طه: {وَلَا تَضْحَى} [طه: 119] يَعْنِي لَا يُؤْذِيكَ الْحَرُّ.
[2] {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا} [الشمس: 2] تَبِعَهَا وَذَلِكَ فِي النِّصْفِ الْأَوَّلِ مِنَ الشَّهْرِ إِذَا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، تَلَاهَا الْقَمَرُ فِي الْإِضَاءَةِ وَخَلَفَهَا فِي النُّورِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: وَذَلِكَ حين استدار يعني كمل ضوؤه فصار تَابِعًا لِلشَّمْسِ فِي الْإِنَارَةِ وَذَلِكَ فِي اللَّيَالِي الْبِيضِ.
[3] {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا} [الشمس: 3] يَعْنِي إِذَا جَلَّى الظُّلْمَةَ كِنَايَةً عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ لِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا.
[4] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: 4] يَعْنِي يَغْشَى الشَّمْسَ حِينَ تَغِيبُ فَتُظْلِمُ الْآفَاقُ.
[5] {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] قَالَ الْكَلْبِيُّ: وَمَنْ بَنَاهَا وَخَلَقَهَا، وقال عطاء: يريد وَالَّذِي بَنَاهَا. وَقَالَ الفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: (مَا) بِمَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ وَبِنَائِهَا كَقَوْلِهِ: {بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي} [يس: 27]
[6] {وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس: 6] بسطها.
[7] {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 7] عَدَلَ خَلْقَهَا وَسَوَّى أَعْضَاءَهَا، قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ جَمِيعَ مَا خَلَقَ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ.
[8] {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 8] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ: بَيَّنَ لَهَا الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. وَقَالَ فِي رِوَايَةِ عَطِيَّةَ: عَلَّمَهَا الطَّاعَةَ وَالْمَعْصِيَةَ. وَرَوَى الْكَلْبِيُّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عنه: عرفها ما تأتي وما تتقي. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: أَلْزَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: جَعَلَ فِيهَا ذَلِكَ يَعْنِي بِتَوْفِيقِهِ إِيَّاهَا لِلتَّقْوَى، وَخِذْلَانِهِ إِيَّاهَا لِلْفُجُورِ. وَاخْتَارَ الزَّجَّاجُ هَذَا، وَحَمَلَ الْإِلْهَامَ عَلَى التَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ إِنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - خَلَقَ فِي الْمُؤْمِنِ التَّقْوَى وَفِي الْكَافِرِ الفجور.
[9] {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشَّمْسِ: 9] وَهَذَا مَوْضِعُ الْقَسَمِ أَيْ فَازَتْ وَسَعِدَتْ نَفْسٌ زَكَّاهَا اللَّهُ، أَيْ أَصْلَحَهَا وَطَهَّرَهَا مِنَ الذُّنُوبِ وَوَفَّقَهَا لِلطَّاعَةِ.
[10] {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10] أي خانت وَخَسِرَتْ نَفْسٌ أَضَلَّهَا اللَّهُ فَأَفْسَدَهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ فَأَصْلَحَهَا وَحَمَلَهَا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -، (وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) أَهْلَكَهَا وَأَضَلَّهَا وَحَمَلَهَا عَلَى الْمَعْصِيَةِ، فَجَعَلَ الفعل للنفس، ودساها أَصْلُهُ: دَسَّسَهَا مِنَ التَّدْسِيسِ، وَهُوَ إِخْفَاءُ الشَّيْءِ، فَأُبْدِلَتِ السِّينُ الثَّانِيَةُ ياء، وَالْمَعْنَى هَاهُنَا: أَخْمَلَهَا وَأَخْفَى مَحَلَّهَا بالكفر والمعصية.
[11] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11] بِطُغْيَانِهَا وَعُدْوَانِهَا أَيِ الطُّغْيَانُ حَمَلَهُمْ عَلَى التَّكْذِيبِ.(6/1020)
[12] {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا} [الشمس: 12] أَيْ قَامَ، وَالِانْبِعَاثُ: هُوَ الْإِسْرَاعُ فِي الطَّاعَةِ لِلْبَاعِثِ، أَيْ كَذَّبُوا بِالْعَذَابِ وَكَذَّبُوا صَالِحًا لَمَّا انْبَعَثَ أَشْقَاهَا وَهُوَ قُدَارُ بْنُ سَالِفٍ، وكان أشقر أزرق قصيرا قام لعقر الناقة.
[13] {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ} [الشمس: 13] صالح، {نَاقَةَ اللَّهِ} [الشمس: 13] أَيِ احْذَرُوا عَقْرَ نَاقَةِ اللَّهِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْصُوبٌ عَلَى مَعْنَى ذروا ناقة الله، {وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] شُرْبَهَا أَيْ ذَرُوا نَاقَةَ اللَّهِ وَذَرُوا شُرْبَهَا مِنَ الْمَاءِ، فَلَا تَعْرِضُوا لِلْمَاءِ يَوْمَ شُرْبِهَا. [14 - 15] {فَكَذَّبُوهُ} [الشمس: 14] يعني صالحا، {فَعَقَرُوهَا} [الشمس: 14] يَعْنِي النَّاقَةَ. {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ} [الشمس: 14] قَالَ عَطَاءٌ وَمُقَاتِلٌ: فَدَمَّرَ عَلَيْهِمْ ربهم فأهلكهم. قال المدرج: الدمدمة الهلاك باستئصال. {بِذَنْبِهِمْ} [الشمس: 14] بتكذيبهم الرسول وعقرها الناقة، {فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] فَسَوَّى الدَّمْدَمَةَ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا، وَعَمَّهُمْ بِهَا فَلَمْ يَفْلِتْ مِنْهُمْ أَحَدٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: سَوَّى الْأُمَّةَ وَأَنْزَلَ الْعَذَابَ بِصَغِيرِهَا وَكَبِيرِهَا، يَعْنِي سَوَّى بينهم، {وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15] عَاقِبَتَهَا. قَالَ الْحَسَنُ: مَعْنَاهُ لَا يَخَافُ اللَّهُ مِنْ أَحَدٍ تَبِعَةً في إهلاكهم. وهي رواية عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ وَالْكَلْبِيُّ: هُوَ رَاجِعٌ إِلَى العاقر فِي الْكَلَامِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ: إذا انْبَعَثَ أَشْقَاهَا وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا.
[سورة الليل]
[قوله تعالى وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى] . . .
(92) سورة الليل [1] {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} [الليل: 1] أَيْ يَغْشَى النَّهَارَ بِظُلْمَةٍ فَيَذْهَبُ بضوئه.
[2] {وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 2] بَانَ وَظَهَرَ مِنْ بَيْنِ الظُّلْمَةِ.
[3] {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} [الليل: 3] يعني ومن خلق، وقيل: هي (ما) المصدرية أي خلق الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. قَالَ مُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: يعني آدم وحواء.
[4] قوله {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل: 4] إِنْ أَعْمَالَكُمْ لِمُخْتَلِفَةٌ فَسَاعٍ فِي فِكَاكِ نَفْسِهِ وَسَاعٍ فِي عَطَبِهَا.
[5] {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] (أَعْطَى) مَالَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، (واتقى) ربه.
[6] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] قَالَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالضَّحَّاكُ: وَصَدَّقَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهِيَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْجَنَّةِ. دَلِيلُهُ قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى} [يونس: 26] يعني الجنة. وقيل: صدق بِالْحُسْنَى أَيْ بِالْخَلَفِ، أَيْ أَيْقَنَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - سَيَخْلُفُهُ. وَهِيَ رِوَايَةُ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: بِمَوْعُودِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - الَّذِي وَعَدَهُ أي يفي به.
[7] {فَسَنُيَسِّرُهُ} [الليل: 7] فسنهيئه في الدنيا، {لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] أَيْ لِلْخَلَّةِ الْيُسْرَى وَهِيَ الْعَمَلُ بِمَا يَرْضَاهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -.(6/1021)
[8] {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ} [الليل: 8] بالنفقة في الخير، {وَاسْتَغْنَى} [الليل: 8] عَنْ ثَوَابِ اللَّهِ فَلَمْ يَرْغَبْ فِيهِ.
[9، 10] {وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى - فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى} [الليل: 9 - 10] سنهينه لِلشَّرِّ بِأَنْ نُجْرِيَهُ عَلَى يَدَيْهِ حَتَّى يَعْمَلَ بِمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ، فَيَسْتَوْجِبُ بِهِ النَّارَ. قَالَ مُقَاتِلٌ: نُعَسِّرُ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَ خيرا.
[11] {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ} [الليل: 11] الَّذِي بَخِلَ بِهِ، {إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 11] قَالَ مُجَاهِدٌ: إِذَا مَاتَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ: هَوَى فِي جهنم.
[12] {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى} [الليل: 12] يَعْنِي الْبَيَانَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: عَلَيْنَا أَنْ نُبَيِّنَ طَرِيقَ الْهُدَى مِنْ طَرِيقِ الضَّلَالِ، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ، قَالَ: عَلَى اللَّهِ بَيَانُ حَلَالِهِ وَحَرَامِهِ. قَالَ الْفَرَّاءُ: يَعْنِي مَنْ سَلَكَ الْهُدَى فَعَلَى اللَّهِ سَبِيلُهُ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ} [النَّحْلِ: 9] يَقُولُ: مَنْ أَرَادَ اللَّهَ فَهُوَ عَلَى السَّبِيلِ الْقَاصِدِ.
[13] {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} [الليل: 13] فَمَنْ طَلَبَهُمَا مِنْ غَيْرِ مَالِكِهِمَا فقد أخطأ الطريق.
[14] {فَأَنْذَرْتُكُمْ} [الليل: 14] يَا أَهْلَ مَكَّةَ {نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] أَيْ تَتَلَظَّى يَعْنِي تَتَوَقَّدُ وَتَتَوَهَّجُ.
[15 - 16] {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى} [الليل: 15] {الَّذِي كَذَّبَ} [الليل: 16] الرسول، {وَتَوَلَّى} [الليل: 16] عن الإيمان.
[17] {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17] يُرِيدُ بِالْأَشْقَى الشَّقِيَّ، وَبِالْأَتْقَى التَّقِيَّ.
[18] {الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ} [الليل: 18] يعطي ماله، {يَتَزَكَّى} [الليل: 18] يَطْلُبُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ اللَّهِ زَاكِيًا لَا رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً، يَعْنِي أَبَا بَكْرٍ الصَّدِيقَ، فِي قَوْلِ الْجَمِيعِ، قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ: كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَبْتَاعُ الضَّعْفَةَ فَيُعْتِقُهُمْ، فَقَالَ أَبُوهُ: أَيْ بُنَيَّ لَوْ كُنْتَ تَبْتَاعُ مَنْ يَمْنَعُ ظَهْرَكَ؟ قَالَ: مَنْعَ ظَهْرِي أُرِيدُ، فنزل: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} [الليل: 17] إلى آخر السورة.
[19] {وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} [الليل: 19] يد يكافئه عليها.
[20] {إِلَّا} [الليل: 20] لَكِنْ {ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل: 20] يَعْنِي لَا يَفْعَلُ ذَلِكَ مُجَازَاةً لِأَحَدٍ بِيَدٍ لَهُ عِنْدَهُ، وَلَكِنَّهُ يَفْعَلُهُ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى في الدار الآخرة.
[21] {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 21] بِمَا يُعْطِيهِ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْجَنَّةِ وَالْكَرَامَةِ جَزَاءً عَلَى مَا فَعَلَ.
[سُورَةُ الضحى]
[قوله تعالى وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ] وَمَا قَلَى. . .
(93) سورة الضحى [1] قوله - عز وجل -: {وَالضُّحَى} [الضحى: 1] أَقْسَمَ بِالضُّحَى وَأَرَادَ بِهِ النَّهَارَ كُلَّهُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَابَلَهُ بِاللَّيْلِ إذا سجى، نظيره قوله: {أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى} [الْأَعْرَافِ: 98] أَيْ نَهَارًا. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: يَعْنِي وَقْتَ الضُّحَى، وَهِيَ السَّاعَةُ الَّتِي فِيهَا ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ، وَاعْتِدَالُ النَّهَارِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ وَالصَّيْفِ والشتاء،
[2] {وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى} [الضحى: 2] قَالَ الْحَسَنُ: أَقْبَلَ بِظَلَامِهِ، وَهِيَ رِوَايَةُ الْعَوْفِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَقَالَ الْوَالِبِيُّ عَنْهُ: إِذَا ذَهَبَ، قَالَ عَطَاءٌ وَالضَّحَّاكُ: غَطَّى كُلَّ شَيْءٍ بِالظُّلْمَةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: اسْتَوَى. وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ: سَكَنَ وَاسْتَقَرَّ ظَلَامُهُ فَلَا يَزْدَادُ بَعْدَ ذَلِكَ. يُقَالُ: لَيْلٌ سَاجٍ وَبَحْرٌ ساج إذا كان ساكنا.
[3] {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] هَذَا جَوَابُ الْقَسَمِ: أَيْ مَا تَرَكَكَ مُنْذُ اخْتَارَكَ وَلَا أَبْغَضَكَ مُنْذُ أَحَبَّكَ.
[4 - 5] {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى - وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضَّحَى: 4 - 5] قَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الشَّفَاعَةُ فِي أُمَّتِهِ حَتَّى يَرْضَى، وَهُوَ قَوْلُ عَلَيٍّ وَالْحَسَنِ، قيل: (وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ) مِنَ الثَّوَابِ. وَقِيلَ: مِنَ النَّصْرِ وَالتَّمْكِينِ وَكَثْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ، (فَتَرْضَى) .
ثُمَّ أَخْبَرَهُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - عَنْ حَالَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا قَبْلَ الْوَحْيِ، وَذَكَّرَهُ نِعَمَهُ فَقَالَ - جَلَّ ذِكْرُهُ -:
[6] {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى} [الضحى: 6] أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا(6/1022)
صَغِيرًا فَقِيرًا حِينَ مَاتَ أَبَوَاكَ وَلَمْ يُخَلِّفَا لَكَ مَالًا وَلَا مأوى، فجعل لك مأوى تأوي إليه، وضمك إِلَى عَمِّكَ أَبِي طَالِبٍ حَتَّى أَحْسَنَ تَرْبِيَتَكَ وَكَفَاكَ الْمُؤْنَةَ.
[7] {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى} [الضحى: 7] يَعْنِي ضَالًّا عَمًّا أَنْتَ عَلَيْهِ فَهَدَاكَ لِلتَّوْحِيدِ وَالنُّبُوَّةِ: قَالَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ وَابْنُ كَيْسَانَ: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا) عَنْ مَعَالِمَ النُّبُوَّةِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ غافلا عنها، فهداك إليها، وَقِيلَ: ضَالًّا فِي شِعَابِ مَكَّةَ فَهَدَاكَ إِلَى جَدِّكَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ.
[8] {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] أَيْ فَقِيرًا فَأَغْنَاكَ بِمَالِ خَدِيجَةَ ثم بالغنائم، وقال مقاتل: فرضاك بِمَا أَعْطَاكَ مِنَ الرِّزْقِ وَاخْتَارَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ: لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا عَنْ كَثْرَةِ الْمَالِ وَلَكِنَّ اللَّهَ رضاه بِمَا آتَاهُ وَذَلِكَ حَقِيقَةُ الْغِنَى. ثُمَّ أَوْصَاهُ بِالْيَتَامَى وَالْفُقَرَاءِ.
[9] فَقَالَ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ} [الضحى: 9] قال مجاهد: لا تحتقر الْيَتِيمَ فَقَدْ كُنْتَ يَتِيمًا. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: لَا تَقْهَرْهُ عَلَى مَالِهِ فَتَذْهَبَ بِحَقِّهِ لِضَعْفِهِ، وَكَذَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَفْعَلُ فِي أَمْرِ الْيَتَامَى، تَأْخُذُ أَمْوَالَهُمْ وَتَظْلِمُهُمْ حُقُوقَهُمْ.
[10] {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ} [الضحى: 10] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: يُرِيدُ السَّائِلَ عَلَى الْبَابِ، يَقُولُ: لَا تَنْهَرْهُ لَا تَزْجُرْهُ إِذَا سَأَلَكَ، فَقَدْ كُنْتَ فَقِيرًا فَإِمَّا أَنْ تُطْعِمَهُ وَإِمَّا أَنْ تَرُدَّهُ رَدًّا لَيِّنًا، يُقَالُ: نَهَرَهُ وَانْتَهَرَهُ إِذَا اسْتَقْبَلَهُ بِكَلَامٍ يزجره. قال قَتَادَةُ: رُدَّ السَّائِلَ بِرَحْمَةٍ وَلِينٍ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ فِي قَوْلِهِ: (أَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) ، قَالَ: طَالِبُ الْعِلْمِ.
[11] {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] قال مجاهد: يعني النبوة، وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ مُجَاهِدٍ: يَعْنِي الْقُرْآنَ وَهُوَ قَوْلُ الْكَلْبِيِّ، أَمْرَهُ أن يقرأه، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اشْكُرْ لِمَا ذُكِرَ مِنَ النِّعْمَةِ عَلَيْكَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ جَبْرِ الْيَتِيمِ وَالْهُدَى بعض الضَّلَالَةِ وَالْإِغْنَاءِ بَعْدَ الْعَيْلَةِ، وَالتَّحَدُّثِ بنعمة الله شكرا.
[سورة الشرح]
[قوله تعالى أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ. . .]
(94) سورة الشرح [1] {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] أَلَمْ نَفْتَحْ وَنُوَسِّعْ وَنُلَيِّنْ لَكَ قَلْبَكَ بِالْإِيمَانِ وَالنُّبُوَّةِ وَالْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ؟
{وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} [الشرح: 2] قَالَ الْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: حططنا عَنْكَ الَّذِي سَلَفَ مِنْكَ فِي الجاهلية، وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: يَعْنِي الْخَطَأَ وَالسَّهْوَ. وَقِيلَ: ذُنُوبُ أُمَّتِكَ فأضافها إليه لاشتغال قلبه بهم.
[3] {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} [الشرح: 3] أَثْقَلَ ظَهْرَكَ فَأَوْهَنَهُ حَتَّى سُمِعَ له نقيض أي صوت. وَقَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْنِي خَفَّفْنَا عَنْكَ أعباء النبوة والقيام بأمرها.(6/1023)
[4] {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) ، قَالَ: قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى -: "إِذَا ذُكِرْتُ ذُكِرْتَ مَعِي» (1) وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ) إذا ذكرت ذكرت. وَقَالَ عَطَاءٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ الْأَذَانَ وَالْإِقَامَةَ وَالتَّشَهُّدَ وَالْخُطْبَةَ عَلَى الْمَنَابِرِ وَلَوْ أَنَّ عَبْدًا عَبَدَ اللَّهَ وَصَدَّقَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَلَمْ يَشْهَدْ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ لَمْ يَنْتَفِعْ بِشَيْءٍ، وكان كافرا. ثُمَّ وَعَدَهُ الْيُسْرَ وَالرَّخَاءَ بَعْدَ الشِّدَّةِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ كَانَ بِمَكَّةَ في شدة.
[5 - 6] فَقَالَ. {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا - إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6] أَيْ مَعَ الشِّدَّةِ الَّتِي أَنْتَ فيها من جهاد المشركين يسرا وَرَخَاءٌ بِأَنْ يُظْهِرَكَ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْقَادُوا لِلْحَقِّ الَّذِي جِئْتَهُمْ بِهِ، إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا كَرَّرَهُ لِتَأْكِيدِ الْوَعْدِ وَتَعْظِيمِ الرَّجَاءِ. وَقَالَ الْحَسَنُ لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَبْشِرُوا قَدْ جَاءَكُمُ الْيُسْرُ، لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ» .
[7] {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7] أَيْ فَاتْعَبْ وَالنَّصَبُ: التَّعَبُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ وَمُقَاتِلٌ وَالْكَلْبِيُّ: فَإِذَا فَرَغْتَ مِنَ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ فَانْصَبْ إِلَى رَبِّكَ فِي الدُّعَاءِ، وَارْغَبْ إِلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ يُعْطِكَ. وَرَوَى عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ مُجَاهِدٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: إِذَا صَلَّيْتَ فَاجْتَهِدْ فِي الدُّعَاءِ وَالْمَسْأَلَةِ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ الْفَرَائِضِ فَانْصَبْ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ. وَقَالَ الشَّعْبِيُّ: إِذَا فَرَغْتَ مِنَ التَّشَهُّدِ فَادْعُ لِدُنْيَاكَ وَآخِرَتِكَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ جِهَادِ عَدُوِّكَ فَانْصَبْ فِي عِبَادَةِ رَبِّكَ. وَقَالَ مَنْصُورٌ عَنْ مُجَاهِدٍ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا فَانْصَبْ فِي عِبَادَةِ رَبِّكَ وَصَلِّ. وَقَالَ حَيَّانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ: إِذَا فَرَغْتَ مِنْ تَبْلِيغِ الرِّسَالَةِ فَانْصَبْ، أَيِ: اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ.
[8] {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} [الشرح: 8] قَالَ عَطَاءٌ: تَضَرَّعْ إِلَيْهِ رَاهِبًا مِنَ النَّارِ رَاغِبًا فِي الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: فَارْغَبْ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِكَ. قَالَ الزَّجَّاجُ: أَيِ اجْعَلْ رَغْبَتَكَ إِلَى اللَّهِ وَحْدَهُ.
[سُورَةُ التين]
[قوله تعالى وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ وَطُورِ سِينِينَ. . .]
(95) سورة التين [1] {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] قال ابن عباس: هو تينكم الَّذِي تَأْكُلُونَهُ وَزَيْتُونُكُمْ هَذَا الَّذِي تعصرون منه الزيت. وقيل: خَصَّ التِّينَ بِالْقَسَمِ لِأَنَّهَا فَاكِهَةٌ مختصة لا عجم فيها، شبيهة بفواكه الجنة. والزيتون شَجَرَةٌ مُبَارَكَةٌ جَاءَ بِهَا الْحَدِيثُ وهو تمر وَدُهْنٌ يَصْلُحُ لِلِاصْطِبَاغِ وَالِاصْطِبَاحِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: هُمَا جَبَلَانِ. قَالَ قَتَادَةُ: التِّينُ الْجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ دِمَشْقُ والزيتون الْجَبَلُ الَّذِي عَلَيْهِ بَيْتُ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُمَا يُنْبِتَانِ التِّينَ وَالزَّيْتُونَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُمَا مَسْجِدَانِ بِالشَّامِ. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: التِّينُ مَسْجِدُ دِمَشْقَ والزيتون مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: التِّينُ مَسْجِدُ أَصْحَابِ الكهف والزيتون مسجد إيليا.
[2] {وَطُورِ سِينِينَ} [التين: 2] يَعْنِي الْجَبَلَ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَذَكَرْنَا مَعْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} [الْمُؤْمِنُونَ: 20]
[3] {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3] أَيِ الْآمَنِ، يَعْنِي مَكَّةَ يَأْمَنُ فِيهِ النَّاسُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ، هذه أَقْسَامٌ وَالْمُقْسَمُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ:
[4] {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] أَعْدَلِ قَامَةٍ وَأَحْسَنِ صُورَةٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ كُلَّ حَيَوَانٍ مُنْكَبًّا عَلَى وَجْهِهِ إِلَّا الْإِنْسَانَ خَلَقَهُ مَدِيدَ الْقَامَةِ يَتَنَاوَلُ مَأْكُولَهُ بِيَدِهِ مُزَيَّنًا بِالْعَقْلِ وَالتَّمْيِيزِ.
[5] {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 5] يُرِيدُ إِلَى الْهَرَمِ وَأَرْذَلِ الْعُمُرِ، فينقص عقله ويضعف بدنه،
_________
(1) أخرجه الطبري (30 / 235) وأبو يعلى في المسند (2 / 131) وابن حبان برقم (1772) ص 439 من موارد الظمآن وفيه ابن لهيعة وقد اختلط، وروايات دراج عن أبي الهيثم فيها ضعف.(6/1024)
وَالسَّافِلُونَ هُمُ الضُّعَفَاءُ وَالزَّمْنَى وَالْأَطْفَالُ، فالشيخ الكبير مِنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا، وَأَسْفَلَ سَافِلِينَ نكرة تعم الجنس وَفِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ (أَسْفَلَ السَّافِلِينَ) . وَقَالَ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ: يَعْنِي ثُمَّ رَدَدْنَاهُ إِلَى النَّارِ، يَعْنِي إِلَى أَسْفَلِ السَّافِلِينَ، لِأَنَّ جَهَنَّمَ بَعْضُهَا أَسْفَلَ مِنْ بَعْضٍ.
[6] ثُمَّ اسْتَثْنَى فَقَالَ: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [التين: 6] فَإِنَّهُمْ لَا يُرَدُّونَ إِلَى النَّارِ. وَمَنْ قَالَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَالَ: رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ، فَزَالَتْ عُقُولُهُمْ وَانْقَطَعَتْ أَعْمَالُهُمْ، فَلَا يُكْتَبُ لَهُمْ حَسَنَةٌ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [التين: 6] فَإِنَّهُ يُكْتَبُ لَهُمْ بَعْدَ الْهَرَمِ، وَالْخَرَفِ، مِثْلَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ في حال الشباب والصحة {فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [التين: 6] غَيْرُ مَقْطُوعٍ لِأَنَّهُ يُكْتَبُ لَهُ كَصَالِحِ مَا كَانَ يَعْمَلُ. قَالَ الضَّحَّاكُ: أَجْرٌ بِغَيْرِ عَمَلٍ ثُمَّ قَالَ: إِلْزَامًا لِلْحُجَّةِ.
[7] {فَمَا يُكَذِّبُكَ} [التين: 7] أيها الإنسان {بَعْدُ} [التين: 7] أَيْ بَعْدَ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ، {بِالدِّينِ} [التين: 7] بِالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ وَالْمَعْنَى، أَلَا تَتَفَكَّرُ فِي صُورَتِكَ وَشَبَابِكَ وَهَرَمِكَ فَتَعْتَبِرُ وَتَقُولُ إِنَّ الَّذِي فَعَلَ ذَلِكَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَبْعَثَنِي وَيُحَاسِبَنِي، فَمَا الَّذِي يُكَذِّبُكَ بِالْمُجَازَاةِ بَعْدَ هَذِهِ الْحُجَجِ.
[8] {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ} [التين: 8] بأقضى القاضين، قال مقاتل: يَحْكُمُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ أَهْلِ التَّكْذِيبِ يا محمد.
[سورة العلق]
[قوله تعالى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. . .]
(96) سورة العلق [1] {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: عَلَى أَنَّ هَذِهِ أَوَّلُ سُورَةٍ نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَوَّلُ مَا نَزَلَ خَمْسُ آيَاتٍ مِنْ أَوَّلِهَا إِلَى قَوْلِهِ: {مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] وَالْمَعْنَى: اذْكُرِ اسْمَهُ، أُمِرَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْقِرَاءَةَ بِاسْمِ اللَّهِ تَأْدِيبًا، {الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1] قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَعْنِي الْخَلَائِقَ ثُمَّ فسره فقال:
[2] {خَلَقَ - خَلَقَ} [العلق: 1 - 2] يعني ابن آدم، {مِنْ عَلَقٍ} [العلق: 2] جمع علقة.
[3] {اقْرَأْ} [العلق: 3] كَرَّرَهُ تَأْكِيدًا، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} [العلق: 3] فَقَالَ الْكَلْبِيُّ: الْحَلِيمُ عَنْ جَهْلِ الْعِبَادِ لَا يَعْجَلُ عَلَيْهِمْ بِالْعُقُوبَةِ.
[4] {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} [العلق: 4] يَعْنِي الْخَطَّ وَالْكِتَابَةَ.
[5] {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 5] مِنْ أَنْوَاعِ الْهُدَى وَالْبَيَانِ. وَقِيلَ: عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا. وَقِيلَ: الْإِنْسَانُ هَاهُنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بَيَانُهُ: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النِّسَاءَ: 113]
[6] {كَلَّا} [العلق: 6] حقا {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6] لَيَتَجَاوَزُ حَدَّهُ وَيَسْتَكْبِرُ عَلَى رَبِّهِ.
[7] {أَنْ} [العلق: 7] لأن، {رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7] أَنْ رَأَى نَفْسَهُ غَنِيًّا، قَالَ الْكَلْبِيُّ: يَرْتَفِعُ عَنْ مَنْزِلَةٍ إِلَى مَنْزِلَةٍ فِي اللِّبَاسِ وَالطَّعَامِ وَغَيْرِهِمَا.(6/1025)
[8] {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} [العلق: 8] أي المرجع في الآخرة.
[9، 10] {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9 - 10] نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلٍ نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الصلاة، وَمَعْنَى أَرَأَيْتَ هَاهُنَا تَعْجِيبٌ لِلْمُخَاطَبِ، وَكَرَّرَ هَذِهِ اللَّفْظَةَ لِلتَّأْكِيدِ.
[11] {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى} [العلق: 11] يَعْنِي الْعَبْدَ الْمَنْهِيَّ، وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[12] {أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} [العلق: 12] يَعْنِي بِالْإِخْلَاصِ وَالتَّوْحِيدِ.
[13] {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ} [العلق: 13] يعني أبا جهل، {وَتَوَلَّى} [العلق: 13] عَنِ الْإِيمَانِ، وَتَقْدِيرُ نَظْمِ الْآيَةِ: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى - عَبْدًا إِذَا صَلَّى} [العلق: 9 - 10] وهو على الهدى، وأمر بِالتَّقْوَى، وَالنَّاهِي مُكَذِّبٌ مُتَوَلٍّ عَنِ الْإِيمَانِ، فَمَا أَعْجَبَ مِنْ هَذَا!
[14] {أَلَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 14] يَعْنِي أَبَا جَهْلٍ، {بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [العلق: 14] ذلك فيجازيه به.
[15] {كَلَّا} [العلق: 15] لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ، {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} [العلق: 15] عن إيذاء مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وتكذيبه، {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} [العلق: 15] لنأخذن بناصيته فلنجرنه من النَّارِ، كَمَا قَالَ: {فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرَّحْمَنِ: 41] يُقَالُ: سَفَعْتُ بِالشَّيْءِ إِذَا أَخَذْتُهُ وَجَذَبْتُهُ جَذْبًا شَدِيدًا، والناصية: شَعْرُ مُقَدَّمِ الرَّأْسِ.
[16] ثُمَّ قَالَ عَلَى الْبَدَلِ: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} [العلق: 16] أَيْ صَاحِبُهَا كَاذِبٌ خَاطِئٌ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَهَى أَبُو جَهْلٍ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الصَّلَاةِ انْتَهَرَهُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -، فقال أبو جهل: أتنتهرني؟ فَوَاللَّهِ لَأَمْلَأَنَّ عَلَيْكَ هَذَا الْوَادِي إِنْ شِئْتَ خَيْلًا جُرْدًا وَرِجَالًا مردا.
[17] قَالَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} [العلق: 17] أَيْ قَوْمَهُ وَعَشِيرَتَهُ، أَيْ فَلْيَسْتَنْصِرْ بهم.
[18] {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] جَمْعُ زِبْنِيٌّ مَأْخُوذٌ مِنَ الزِّبْنِ، وَهُوَ الدَّفْعُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ زَبَانِيَةَ جَهَنَّمَ سَمُّوا بِهَا لِأَنَّهُمْ يَدْفَعُونَ أَهْلَ النَّارِ إِلَيْهَا، قَالَ الزَّجَّاجُ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ الْغِلَاظُ الشِّدَادُ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَوْ دَعَا نَادِيَهُ لَأَخَذَتْهُ زَبَانِيَةُ اللَّهِ.
[19] ثم قال: {كَلَّا} [العلق: 19] لَيْسَ الْأَمْرُ عَلَى مَا عَلَيْهِ أبو جهل، {لَا تُطِعْهُ} [العلق: 19] في ترك الصلاة، {وَاسْجُدْ} [العلق: 19] صل لله، {وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] من الله.
[سورة القدر]
[قوله تعالى إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. . .]
(97) سورة الْقَدْرِ [1] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [الْقَدْرِ: 1] يَعْنِي الْقُرْآنَ كِنَايَةً عَنْ غير مذكور، أنه أَنْزَلَهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَوَضَعَهُ فِي بَيْتِ الْعِزَّةِ، ثُمَّ كَانَ يَنْزِلُ بِهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ نُجُومًا فِي عِشْرِينَ سَنَةً.
[2] ثُمَّ عَجَّبَ نَبِيَّهُ فَقَالَ: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ} [الْقَدْرِ: 2] سُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِأَنَّهَا لَيْلَةُ تَقْدِيرِ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامُ، يُقَدِّرُ اللَّهُ فِيهَا أَمْرَ السَّنَةِ فِي عِبَادِهِ وَبِلَادِهِ إِلَى السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] وَاخْتَلَفُوا فِي وَقْتِهَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهَا كَانَتْ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ رُفِعَتْ، وَعَامَّةُ الصَّحَابَةِ وَالْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهَا بَاقِيَةٌ إِلَى يَوْمِ القيامة. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هِيَ لَيْلَةٌ مِنْ ليالي السنة، وَالْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: عَلَى أَنَّهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، قَالَ أَبُو رَزِينٍ الْعُقَيْلِيُّ: هِيَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيْلَةُ سَبْعَ عَشْرَةَ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي كَانَتْ صَبِيحَتُهَا وَقْعَةُ بَدْرٍ. وَالصَّحِيحُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُونَ: أَنَّهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ شَهْرِ رمضان، أَبْهَمَ اللَّهُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ لِيَجْتَهِدُوا فِي الْعِبَادَةِ لَيَالِيَ رَمَضَانَ طَمَعًا فِي إِدْرَاكِهَا، كَمَا أَخْفَى سَاعَةَ الْإِجَابَةِ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةَ، وَأَخْفَى الصَّلَاةَ الْوُسْطَى فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، وَاسْمَهُ الْأَعْظَمَ فِي الْأَسْمَاءِ، وَرِضَاهُ فِي الطَّاعَاتِ لِيَرْغَبُوا فِي جَمِيعِهَا، وَسُخْطَهُ فِي الْمَعَاصِي لِيَنْتَهُوا عَنْ جَمِيعِهَا، وَأَخْفَى قِيَامَ السَّاعَةِ(6/1026)
لِيَجْتَهِدُوا فِي الطَّاعَاتِ حَذَرًا مِنْ قِيَامِهَا.
[3] {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} [القدر: 3] مَعْنَاهُ عَمَلٌ صَالِحٌ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَيْرٌ مَنْ عَمِلِ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ.
[4] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ} [القدر: 4] يَعْنِي جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَعَهُمْ، {فِيهَا} [القدر: 4] أَيْ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] أَيْ بِكُلِّ أَمْرٍ مِنَ الْخَيْرِ وَالْبَرَكَةِ، كَقَوْلِهِ: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرَّعْدِ: 11] أَيْ بِأَمْرِ اللَّهِ.
[5] {سَلَامٌ} [القدر: 5] قَالَ عَطَاءٌ: يُرِيدُ سَلَامٌ عَلَى أولياء الله وأهل طاعته. قال الشَّعْبِيُّ: هُوَ تَسْلِيمُ الْمَلَائِكَةِ لَيْلَةَ الْقَدْرِ عَلَى أَهْلِ الْمَسَاجِدِ مِنْ حين تَغِيبُ الشَّمْسُ إِلَى أَنْ يَطْلُعَ الفجر. قال الكلبي: الملائكة ينزلون فيها كُلَّمَا لَقُوا مُؤْمِنًا أَوْ مُؤْمِنَةً سَلَّمُوا عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَطْلُعَ الْفَجْرُ. وَقِيلَ: تَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ} [القدر: 4] ثُمَّ ابْتَدَأَ فَقَالَ: {سَلَامٌ هِيَ} [القدر: 5] أَيْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ سَلَامٌ وَخَيْرٌ كُلُّهَا، لَيْسَ فِيهَا شَرٌّ. قَالَ الضَّحَّاكُ: لَا يُقَدِّرُ اللَّهُ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَلَا يَقْضِي إِلَّا السَّلَامَةَ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: يَعْنِي أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ سَالِمَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ الشَّيْطَانُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا سُوءًا، وَلَا أَنْ يُحْدِثَ فِيهَا أَذًى، {حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ} [القدر: 5] أي إلى مطلع الفجر.
[سورة البينة]
[قوله تعالى لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ] وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ. . .
(98) سورة البينة [1] {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} [البينة: 1] وهم اليهود والنصارى، {وَالْمُشْرِكِينَ} [البينة: 1] وهم عبدة الأوثان، {مُنْفَكِّينَ} [البينة: 1] زَائِلِينَ مُنْفَصِلِينَ، يُقَالُ: فَكَكْتُ الشَّيْءَ فَانْفَكَّ أَيِ انْفَصَلَ، {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} [الْبَيِّنَةُ: 1] لَفْظُهُ مُسْتَقْبَلٌ وَمَعْنَاهُ الْمَاضِي أي حتى أتتهم الْحُجَّةُ الْوَاضِحَةُ، يَعْنِي مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهُمْ بِالْقُرْآنِ فبين لهم ضلالتهم وجهالتهم ودعاهم إلى الإسلام والإيمان، فَهَذِهِ الْآيَةُ فِيمَنْ آمَنَ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ، أَخْبَرَ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنِ الْكُفْرِ حَتَّى أَتَاهُمُ الرَّسُولُ فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ فَآمَنُوا فَأَنْقَذَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْجَهْلِ وَالضَّلَالَةِ.
[2] ثُمَّ فَسَّرَ الْبَيِّنَةَ فَقَالَ: {رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو} [البينة: 2] يقرأ، {صُحُفًا} [البينة: 2] كتابا، يُرِيدُ مَا يَتَضَمَّنُهُ الصُّحُفُ مِنَ الْمَكْتُوبِ فِيهَا، وَهُوَ الْقُرْآنُ لِأَنَّهُ كَانَ يَتْلُو عَنْ ظَهْرِ قَلْبِهِ لا عن كتاب، قوله: {مُطَهَّرَةً} [البينة: 2] مِنَ الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَالزُّورِ.
[3] {فِيهَا} [البينة: 3] أي في الصحف، {كُتُبٌ} [البينة: 3] يَعْنِي الْآيَاتِ وَالْأَحْكَامِ الْمَكْتُوبَةِ فِيهَا، {قَيِّمَةٌ} [البينة: 3] عَادِلَةٌ مُسْتَقِيمَةٌ غَيْرُ ذَاتِ عِوَجٍ.
[4] ثُمَّ ذَكَرَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَقَالَ: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} [البينة: 4] فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، {إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} [الْبَيِّنَةُ: 4] أَيِ الْبَيَانُ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لَمْ يَزَلْ أَهْلُ(6/1027)
الْكِتَابِ مُجْتَمِعِينَ فِي تَصْدِيقِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَعَثَهُ اللَّهُ، فَلَمَّا بُعِثَ تَفَرَّقُوا فِي أَمْرِهِ وَاخْتَلَفُوا، فَآمَنَ بِهِ بعضهم، وكفر آخرون. ثُمَّ ذَكَرَ مَا أُمِرُوا بِهِ فِي كُتُبِهِمْ فَقَالَ:
[5] {وَمَا أُمِرُوا} [البينة: 5] يَعْنِي هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ، {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ} [البينة: 5] يَعْنِي إِلَّا أَنْ يَعْبُدُوا اللَّهَ، {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أُمِرُوا في التوراة والإنجيل إلا بإخلاص العبادة لله موحدين {حُنَفَاءَ} [البينة: 5] مَائِلِينَ عَنِ الْأَدْيَانِ كُلِّهَا إِلَى دين الإسلام، {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البينة: 5] الْمَكْتُوبَةَ فِي أَوْقَاتِهَا {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} [البينة: 5] عند محلها، {وَذَلِكَ} [البينة: 5] الَّذِي أُمِرُوا بِهِ، {دِينُ الْقَيِّمَةِ} [البينة: 5] أي الملة والشريعة المستقيمة. وَقِيلَ: الْقَيِّمَةُ هِيَ الْكُتُبُ الَّتِي جَرَى ذِكْرُهَا، أَيْ وَذَلِكَ دِينُ الْكُتُبِ الْقَيِّمَةِ فِيمَا تَدْعُو إِلَيْهِ وتأمر به.
[6] ثُمَّ ذَكَرَ مَا لِلْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [البينة: 6]
[7 - 8] {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ - جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة: 7 - 8] وَتَنَاهَى عَنِ الْمَعَاصِي، وَقِيلَ: الرِّضَا يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ رِضًا بِهِ وَرِضًا عَنْهُ، فَالرِّضَا بِهِ: رَبًّا وَمُدَبِّرًا، وَالرِّضَا عَنْهُ: فِيمَا يَقْضِي ويقدر.
[سورة الزلزلة]
[قوله تعالى إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ] الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا. . .
(99) سورة الزلزلة [1] {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ} [الزلزلة: 1] حُرِّكَتِ الْأَرْضُ حَرَكَةً شَدِيدَةً لِقِيَامِ الساعة، {زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] تحريكها.
[2] {وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] مَوْتَاهَا وَكُنُوزَهَا فَتُلْقِيهَا عَلَى ظَهْرِهَا.
[3] {وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا} [الزلزلة: 3] ؟ قِيلَ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تقديره:
[4] {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} [الزلزلة: 4] فَيَقُولُ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا، أَيْ تُخْبَرُ الْأَرْضُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا.
[5] {بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} [الزلزلة: 5] أَيْ أَمَرَهَا بِالْكَلَامِ وَأَذِنَ لَهَا بِأَنْ تُخْبِرَ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا.
[6] قَوْلُهُ - تَعَالَى -: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ} [الزلزلة: 6] يَرْجِعُ النَّاسُ عَنْ مَوْقِفِ الْحِسَابِ بعد العرض، {أَشْتَاتًا} [الزلزلة: 6] مُتَفَرِّقِينَ فَآخِذُ ذَاتِ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ وَآخِذُ ذَاتِ الشِّمَالِ إِلَى النار {لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} [الزلزلة: 6] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لِيُرَوْا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنِ الْمَوْقِفِ فِرَقًا لِيَنْزِلُوا مَنَازِلَهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ.
[7] {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [الزلزلة: 7] وَزْنَ نَمْلَةٍ صَغِيرَةٍ أَصْغَرَ مَا يَكُونُ مِنَ النَّمْلِ. {خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]
[8] {وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 8] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَيْسَ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ عَمِلَ خَيْرًا أَوْ شرًا(6/1028)
فِي الدُّنْيَا إِلَّا أَرَاهُ اللَّهُ له يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَرَى حَسَنَاتِهِ وَسَيِّئَاتِهِ فَيَغْفِرُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ ويثيبه بحسناته، وأما الكافر فيرد حسناته ويعذب بسيئاته.
[سورة العاديات]
[قوله تعالى وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا. . .]
(100) سورة العاديات [1] {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} [العاديات: 1] هِيَ الْخَيْلُ الْعَادِيَةُ فِي سَبِيلِ الله تَضْبَحُ، وَالضَّبْحُ صَوْتُ أَجْوَافِهَا إِذَا عدت، "قوله: (ضَبْحًا) نُصِبَ عَلَى الْمَصْدَرِ، مَجَازُهُ: وَالْعَادِيَّاتُ تَضْبَحُ ضَبْحًا. وَقَالَ عَلِيٌّ: هِيَ الْإِبِلُ فِي الْحَجِّ تَعْدُو مِنْ عَرَفَةَ إِلَى الْمُزْدَلِفَةِ وَمِنَ المزدلفة إلى منى.
[2] {فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا} [العاديات: 2] هِيَ الْخَيْلُ تُورِي النَّارَ بِحَوَافِرِهَا إِذَا سَارَتْ فِي الْحِجَارَةِ، يَعْنِي وَالْقَادِحَاتِ قَدْحًا يَقْدَحْنَ بِحَوَافِرِهِنَّ، وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: هِيَ مَكْرُ الرِّجَالِ، يَعْنِي رِجَالَ الْحَرْبِ، وَالْعَرَبُ تَقُولُ إِذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَمْكُرَ بِصَاحِبِهِ: أَمَا وَاللَّهِ لِأَقْدَحَنَّ لَكَ ثُمَّ لْأُوَرِّيَنَّ لَكَ.
[3] {فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا} [العاديات: 3] هِيَ الْخَيْلُ تُغِيرُ بِفُرْسَانِهَا عَلَى الْعَدُوِّ عِنْدَ الصَّبَاحِ، هَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ الْقُرَظِيُّ: هِيَ الْإِبِلُ تَدْفَعُ بِرُكْبَانِهَا يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ جَمْعٍ إِلَى مِنًى، وَالسُّنَّةُ ألا تدفع حَتَّى تُصْبِحَ وَالْإِغَارَةُ سُرْعَةُ السَّيْرِ.
[4] {فَأَثَرْنَ بِهِ} [العاديات: 4] أي هيجن بمكان سيرها كِنَايَةٌ عَنْ غَيْرِ مَذْكُورٍ لِأَنَّ المعنى مفهوم، {نَقْعًا} [العاديات: 4] غُبَارًا وَالنَّقْعُ الْغُبَارُ.
[5] {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا} [العاديات: 5] أي دخلن به وسط العدو، قال القرظي: يعني جمع منى أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ.
[6] {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ} [العاديات: 6] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: لَكَنُودٌ لِكَفُورٌ جَحُودٌ لِنِعَمِ اللَّهِ - تَعَالَى -. قَالَ الْكَلْبِيُّ: هُوَ بِلِسَانِ مُضَرَ وَرَبِيعَةَ: الْكَفُورُ، وَبِلِسَانِ كِنْدَةَ وَحَضْرَمَوْتَ: الْعَاصِي. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي يَعُدُّ الْمَصَائِبَ وَيَنْسَى النِّعَمَ. وَقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ الَّذِي لَا يُعْطِي فِي النَّائِبَةِ مَعَ قَوْمِهِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُوَ قَلِيلُ الْخَيْرِ، وَالْأَرْضُ الْكَنُودُ الَّتِي لَا تنبت شيئا.
[7] {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 7] قَالَ أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ: وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى كَوْنِهِ كَنُودًا لَشَاهِدٌ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْهَاءُ رَاجِعَةٌ إِلَى الْإِنْسَانِ أَيْ إِنَّهُ شَاهِدٌ عَلَى نفسه بما يصنع.
[8] {وَإِنَّهُ} [العاديات: 8] يعني الانسان {لِحُبِّ الْخَيْرِ} [العاديات: 8] أي لحب المال، {لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] أَيْ لَبَخِيلٌ، أَيْ إِنَّهُ مِنْ أَجْلِ حُبِّ الْمَالِ لَبَخِيلٌ. يُقَالُ لِلْبَخِيلِ: شَدِيدٌ وَمُتَشَدِّدٌ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَقَوِيٌّ أَيْ شَدِيدٌ الْحُبِّ لِلْخَيْرِ، أَيِ الْمَالِ.
[9] {أَفَلَا يَعْلَمُ} [العاديات: 9] هذا الإنسان، {إِذَا بُعْثِرَ} [العاديات: 9] أُثِيرَ وَأُخْرِجَ، {مَا فِي الْقُبُورِ} [العاديات: 9]
[10] {وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ} [العاديات: 10] أَيْ مُيِّزَ وَأُبْرِزَ مَا فِيهَا مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ.
[11] {إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ} [العاديات: 11] جَمَعَ الْكِنَايَةَ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ اسْمٌ الجنس، {يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ} [العاديات: 11] عالم، قال الزجاج: اللَّهَ خَبِيرٌ بِهِمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ وَفِي غَيْرِهِ وَلَكِنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ يُجَازِيهِمْ عَلَى كُفْرِهِمْ فِي ذلك اليوم.
[سورة القارعة]
[قوله تعالى الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ] . . .
(101) سورة القارعة [1] {الْقَارِعَةُ} [الْقَارِعَةُ: 1] اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ الْقِيَامَةِ لِأَنَّهَا تَقْرَعُ الْقُلُوبَ بِالْفَزَعِ.
[2] {مَا الْقَارِعَةُ} [الْقَارِعَةُ: 2] تَهْوِيلٌ وَتَعْظِيمٌ.
[3 - 4] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ - يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ} [القارعة: 3 - 4] الفراش الطير الَّتِي تَرَاهَا تَتَهَافَتُ فِي النَّارِ والمبثوث المفرق. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: كَغَوْغَاءِ الْجَرَادِ شَبَّهَ الناس عند البعث بها يَمُوجُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ وَيَرْكَبُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا مِنَ الْهَوْلِ(6/1029)
كَمَا قَالَ: {كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ} [الْقَمَرِ: 7]
[5] {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5] كَالصُّوفِ الْمَنْدُوفِ.
[6 - 7] {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 6] رجحت حسناته، {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الْقَارِعَةُ: 7] مَرْضِيَّةٍ فِي الْجَنَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: ذَاتِ رِضًا يَرْضَاهَا صَاحِبُهَا.
[8] {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 8] رَجَحَتْ سَيِّئَاتُهُ عَلَى حَسَنَاتِهِ.
[9] {فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ} [القارعة: 9] مَسْكَنُهُ النَّارُ سُمِّيَ الْمَسْكَنُ أُمًّا لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي السُّكُونِ إِلَى الْأُمَّهَاتِ، وَالْهَاوِيَةُ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ جهنم، وهو الهواة لَا يُدْرَكُ قَعْرُهَا، وَقَالَ قَتَادَةُ: وهي كلمة عربية كان الرجل إِذَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ شَدِيدٍ، يقال: هوت أمه. وقيل: أراد أم رأسه يَعْنِي أَنَّهُمْ يَهْوُونَ فِي النَّارِ عَلَى رُءُوسِهِمْ، وَإِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ ذَهَبَ قَتَادَةُ وَأَبُو صَالِحٍ.
[10] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ} [القارعة: 10] يَعْنِي الْهَاوِيَةَ وَأَصْلُهَا مَا هِيَ أدخل الهاء فيها للوقف ثُمَّ فَسَّرَهَا.
[11] فَقَالَ: {نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 11] أَيْ حَارَّةٌ قَدِ انْتَهَى حَرُّهَا.
[سورة التكاثر]
[قوله تعالى أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ] . . .
(102) سورة التكاثر [1] {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1] شغلتكم المباهات والمفاخرة بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَالْعَدَدِ عَنْ طَاعَةِ رَبِّكُمْ وَمَا يُنْجِيكُمْ مِنْ سُخْطِهِ.
[2] {حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 2] حَتَّى مُتُّمْ وَدُفِنْتُمْ فِي الْمَقَابِرِ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ فَقَالَ:
[3] {كَلَّا} [التكاثر: 3] لَيْسَ الْأَمْرُ بِالتَّكَاثُرِ، {سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3] وعيد لهم، ثم تكرره تَأْكِيدًا فَقَالَ:
[4] {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 4] قَالَ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ وَعِيدٌ بَعْدَ وَعِيدٍ وَالْمَعْنَى سَوْفَ تَعْلَمُونَ عَاقِبَةَ تَكَاثُرِكُمْ وَتَفَاخُرِكُمْ إِذَا نَزَلَ بِكُمُ الْمَوْتُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: (كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يَعْنِي الْكُفَّارَ، (ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ وكان يقرأ الأولى بالتاء والثانية بالياء.
[5] {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 5] أَيْ عِلْمًا يَقِينًا فَأَضَافَ الْعِلْمَ إِلَى الْيَقِينِ كَقَوْلِهِ: {لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ} [الواقعة: 95] وَجَوَابُ (لَوْ) مَحْذُوفٌ أَيْ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمًا يَقِينًا لَشَغَلَكُمْ مَا تَعْلَمُونَ عَنِ التَّكَاثُرِ وَالتَّفَاخُرِ. قَالَ قَتَادَةُ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ عِلْمَ الْيَقِينِ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ بَاعِثُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ.
[6] {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ} [التكاثر: 6] قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ (لَتَرَوُنَّ) بِضَمِّ التَّاءِ مَنْ أَرَيْتُهُ الشَّيْءَ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ: بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ ترونها بأبصاركم من بعد.
[7] {ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا} [التكاثر: 7] مشاهدة {عَيْنَ الْيَقِينِ} [التكاثر: 7]
[8] {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8] عن ابن مسعود رفعه قال: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8](6/1030)
قَالَ: "الْأَمْنُ وَالصِّحَّةُ". وَقَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ يَسْأَلُ كُلَّ ذِي نعمة عما أنعم عليه. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: النَّعِيمُ صِحَّةُ الْأَبْدَانِ وَالْأَسْمَاعِ وَالْأَبْصَارِ يَسْأَلُ اللَّهُ الْعَبِيدَ فِيمَ اسْتَعْمَلُوهَا، وهو بذلك منهم، قال عكرمة: عن الصحة والفراغ والمال، قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: يَعْنِي عَمَّا أَنْعَمَ عَلَيْكُمْ بِمُحَمَّدٍ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: عَنِ الْإِسْلَامِ وَالسُّنَنِ. وَقَالَ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلِ: تَخْفِيفُ الشَّرَائِعِ وتيسير القرآن.
[سورة العصر]
[قوله تعالى وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ. . .]
(103) سورة العصر [1] {وَالْعَصْرِ} [العصر: 1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالدَّهْرِ. قِيلَ: أَقْسَمَ بِهِ لِأَنَّ فِيهِ عِبْرَةً لِلنَّاظِرِ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ وَرَبِّ الْعَصْرِ، وَكَذَلِكَ فِي أَمْثَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: أَرَادَ بِالْعَصْرِ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، يُقَالُ لَهُمَا الْعَصْرَانِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مِنْ بَعْدِ زَوَالِ الشَّمْسِ إِلَى غُرُوبِهَا. وَقَالَ قَتَادَةُ: آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: أَقْسَمَ بِصَلَاةِ الْعَصْرِ وَهِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى.
[2] {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] أَيْ خُسْرَانٍ وَنُقْصَانٍ، قِيلَ: أَرَادَ بِهِ الْكَافِرَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ اسْتَثْنَى المؤمنين، والخسران ذَهَابُ رَأْسِ مَالِ الْإِنْسَانِ فِي هَلَاكِ نَفْسِهِ وَعُمُرِهِ بِالْمَعَاصِي، وَهُمَا أَكْبَرُ رَأْسِ مَالِهِ.
[3] {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [العصر: 3] فإنهم ليسوا في خسران، {وَتَوَاصَوْا} [العصر: 3] أوصى بعضهم بعضا، {بِالْحَقِّ} [العصر: 3] بِالْقُرْآنِ قَالَهُ الْحَسَنُ وَقَتَادَةُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: بِالْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ، {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر: 3] عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ وَإِقَامَةِ أَمْرِ اللَّهِ. وَرَوَى ابْنُ عَوْنٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: أَرَادَ أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا عُمِّرَ فِي الدُّنْيَا وَهَرِمَ لَفِي نَقْصٍ وَتَرَاجُعٍ إِلَّا الْمُؤْمِنِينَ فَإِنَّهُمْ يُكْتَبُ لَهُمْ أُجُورُهُمْ وَمَحَاسِنُ أَعْمَالِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَعْمَلُونَهَا فِي شبابهم وصحتهم.
[سورة الهمزة]
[قوله تعالى ويل لكل همزة لمزة الذي جمع مالا وعدده. . .]
(104) سورة الهمزة [1] {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} [الهمزة: 1] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ، الْبَاغُونَ للبرآء العنت، وَمَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ الْعَيَّابُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْهُمَزَةُ الَّذِي يَعِيبُكَ فِي الغيب، واللمزة الَّذِي يَعِيبُكَ فِي الْوَجْهِ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَالْحَسَنُ: بِضِدِّهِ، وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَقَتَادَةُ: الْهَمْزَةُ الَّذِي يَأْكُلُ لُحُومَ النَّاسِ وَيَغْتَابُهُمْ، واللمزة الطَّعَّانُ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْهُمَزَةُ الَّذِي يَهْمِزُ النَّاسَ بِيَدِهِ ويضربهم، واللمزة الَّذِي يَلْمِزُهُمْ بِلِسَانِهِ وَيَعِيبُهُمْ. وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: وَيَهْمِزُ بِلِسَانِهِ وَيَلْمِزُ بعينيه. وَمِثْلُهُ قَالَ ابْنُ كَيْسَانَ: الْهُمَزَةُ الَّذِي يُؤْذِي(6/1031)
جليسه بسوء اللفظ، واللمزة الَّذِي يُومِضُ بِعَيْنِهِ وَيُشِيرُ بِرَأْسِهِ، ويرمز بحاجبه. وهما لغتان لِلْفَاعِلِ نَحْوُ سُخَرَةٍ وَضُحَكَةٍ لِلَّذِي يسخر ويضحك من الناس، وَأَصْلُ الْهَمْزِ: الْكَسْرُ وَالْعَضُّ عَلَى الشيء بالعنف.
[2] ثُمَّ وَصَفَهُ فَقَالَ: {الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ} [الهمزة: 2] أَحْصَاهُ، وَقَالَ مُقَاتِلٌ: اسْتَعَدَّهُ وَادَّخَرَهُ وَجَعَلَهُ عَتَادًا لَهُ، يُقَالُ: أَعْدَدْتُ الشَّيْءَ وَعَدَّدْتُهُ إِذَا أَمْسَكْتُهُ.
[3] {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهمزة: 3] فِي الدُّنْيَا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يموت مع يساره.
[4] {كَلَّا} [الهمزة: 4] رد عَلَيْهِ أَنْ لَا يُخَلِّدَهُ مَالُهُ، {لَيُنْبَذَنَّ} [الهمزة: 4] ليطرحن، {فِي الْحُطَمَةِ} [الهمزة: 4] فِي جَهَنَّمَ، وَالْحَطْمَةُ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ مِثْلُ سَقَرَ وَلَظَى سُمِّيَتْ حُطَمَةَ لِأَنَّهَا تَحْطِمُ الْعِظَامَ وَتَكْسِرُهَا.
[5- 7] {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ - نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ - الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ} [الهمزة: 5 - 7] أي التي بلغ أَلَمُهَا وَوَجَعُهَا إِلَى الْقُلُوبِ، وَالِاطِّلَاعُ والبلوغ التطلع بِمَعْنًى وَاحِدٍ، يُحْكَى عَنِ الْعَرَبِ مَتَى طَلَعْتَ أَرْضَنَا أَيْ بَلَغْتَ، وَمَعْنَى الْآيَةِ: أَنَّهَا تَأْكُلُ كُلَّ شَيْءٍ مِنْهُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى فُؤَادِهِ، قَالَهُ الْقُرَظِيُّ وَالْكَلْبِيُّ.
[8] {إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ} [الهمزة: 8] مُطْبَقَةٌ مُغْلَقَةٌ.
[9] {فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة: 9] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَدْخَلَهُمْ فِي عمد فمدت عليهم بعماد، وفي أعناقهم السلاسل سدت عليهم بها الأبواب، وَقَالَ قَتَادَةُ: بَلَغَنَا أَنَّهَا عُمُدٌ يُعَذَّبُونَ بِهَا فِي النَّارِ. وَقِيلَ: هِيَ أَوْتَادُ الْأَطْبَاقِ الَّتِي تُطْبِقُ عَلَى أَهْلِ النَّارِ، أَيْ أَنَّهَا مُطْبِقَةٌ عَلَيْهِمْ بِأَوْتَادٍ مُمَدَّدَةٍ وَهِيَ فِي قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ (بِعُمُدٍ) بِالْبَاءِ، قَالَ مُقَاتِلٌ: أَطْبَقَتِ الْأَبْوَابُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ سُدَّتْ بِأَوْتَادٍ مِنْ حَدِيدٍ مِنْ نَارٍ حَتَّى يَرْجِعَ عليهم غمها وحرها فلا يفتف عَلَيْهِمْ بَابٌ وَلَا يُدْخَلُ عَلَيْهِمْ ريح، وَالْمُمَدَّدَةُ مِنْ صِفَةِ الْعَمَدِ، أَيْ مُطَوَّلَةٍ فَتَكُونُ أَرْسَخُ مِنَ الْقَصِيرَةِ.
[سورة الفيل]
[قوله تعالى أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ] . . .
(105) سورة الْفِيلِ [1] {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1] أبرهة بالعننص بن الصياح وأتباعه الذين قصدوا هدم الكعبة".
[2] {أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ} [الفيل: 2] كيدهم يعني مكرهم وسعيم فِي تَخْرِيبِ الْكَعْبَةِ. وَقَوْلُهُ: فِي تضليل عما أرادوإ، ضلل كَيْدَهُمْ حَتَّى لَمْ يَصِلُوا إِلَى الْكَعْبَةِ، وَإِلَى مَا أَرَادُوهُ بِكَيْدِهِمْ. وقال مُقَاتِلٌ: فِي خَسَارَةٍ وَقِيلَ: فِي بُطْلَانٍ.
[3] {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ} [الفيل: 3] كَثِيرَةً مُتَفَرِّقَةً يَتْبَعُ بَعْضُهَا بَعْضًا. وَقِيلَ: أَقَاطِيعَ كَالْإِبِلِ الْمُؤَبَّلَةِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَبَابِيلُ جَمَاعَاتٌ فِي تَفْرِقَةٍ، يُقَالُ. جَاءَتِ الْخَيْلُ أَبَابِيلُ من ههنا وههنا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَتْ طَيْرًا لَهَا خَرَاطِيمُ كَخَرَاطِيمِ الطَّيْرِ وَأَكُفٌّ كَأَكُفِّ الْكِلَابِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: لَهَا رُؤُوسٌ كَرُؤُوسِ السِّبَاعِ. قَالَ الرَّبِيعُ: لَهَا أَنْيَابٌ كَأَنْيَابِ السِّبَاعِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: خُضْرٌ لَهَا مَنَاقِيرُ صُفْرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ: طَيْرٌ سُودٌ جَاءَتْ مِنْ قَبْلِ الْبَحْرِ فَوْجًا فَوْجًا مَعَ كُلِّ طَائِرٍ ثَلَاثَةُ أَحْجَارٍ حَجَرَانِ فِي رِجْلَيْهِ وَحَجَرٌ فِي مِنْقَارِهِ لَا تُصِيبُ شيثا إِلَّا هَشَمَتْهُ.
[4] {تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} [الفيل: 4] قال ابن مَسْعُودٍ صَاحَتِ الطَّيْرُ وَرَمَتْهُمْ بِالْحِجَارَةِ فَبَعَثَ اللَّهُ رِيحًا فَضَرَبَتِ الْحِجَارَةَ فَزَادَتْهَا شِدَّةً فَمَا وَقَعَ مِنْهَا حَجَرٌ عَلَى رَجُلٍ إِلَّا خَرَجَ مِنَ الْجَانِبِ الْآخَرِ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى رَأْسِهِ خَرَجَ مِنْ دُبُرِهِ.
[5] {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ} [الفيل: 5] كزرع وتين أَكَلَتْهُ الدَّوَابُّ فُرَاثَتْهُ فَيَبِسَ وَتَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ، شَبَّهَ تَقَطُّعَ أَوْصَالِهِمْ بِتَفَرُّقِ أَجْزَاءِ الرَّوْثِ. قَالَ مُجَاهِدٌ: الْعَصْفُ وَرَقُ الْحِنْطَةِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ التِّبْنُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: كَالْحَبِّ إِذَا أُكِلَ فَصَارَ أَجْوَفَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُوَ الْقِشْرُ الْخَارِجُ الَّذِي يَكُونُ عَلَى حَبِّ الْحِنْطَةِ كَهَيْئَةِ الغلاف له.
[سورة قريش]
[قوله تعالى لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ] وَالصَّيْفِ. . .(6/1032)
[106] سورة قريش [1] {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] عد بَعْضُهُمْ سُورَةَ الْفِيلِ. " وَهَذِهِ السُّورَةَ واحدة لا فصل بينهما وقالوا: اللام في {لِإِيلَافِ} [قريش: 1] تَتَعَلَّقُ بِالسُّورَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - ذَكَّرَ أَهْلَ مَكَّةَ عَظِيمَ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِمْ فِيمَا صَنَعَ بِالْحَبَشَةِ، وَقَالَ: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ} [قُرَيْشٍ: 1] وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمَعْنَى جَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، أَيْ هلك أصحاب الْفِيلِ لِتَبْقَى قُرَيْشٌ، وَمَا أَلِفُوا مِنْ رِحْلَةِ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَلِفُوا ذَلِكَ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِمْ فِي الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَالْعَامَّةُ عَلَى أَنَّهُمَا سُورَتَانِ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْعِلَّةِ الْجَالِبَةِ لِلَّامِ فِي قَوْلِهِ: (لِإِيلَافِ) قَالَ الْكِسَائِيُّ وَالْأَخْفَشُ: هِيَ لَامُ التَّعَجُّبِ، يَقُولُ: اعْجَبُوا لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، وَتَرَكِهِمْ عبادة رب البيت. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هِيَ مَرْدُودَةٌ إِلَى مَا بَعْدَهَا تَقْدِيرُهُ: فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ لِإِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ. وَقَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: لِنِعْمَتِي عَلَى قُرَيْشٍ، وَقُرَيْشٌ هُمْ وَلَدُ النَّضِرِ بْنِ كِنَانَةَ، وَكُلُّ مَنْ وَلَدَهُ النَّضْرُ فَهُوَ قُرَشِيٌّ، وَمَنْ لَمْ يَلِدْهُ النَّضْرُ فَلَيْسَ بِقُرَشِيٍّ.
[2] قوله - تعالى -: {إِيلَافِهِمْ} [قريش: 2] بَدَلٌ مِنَ الْإِيلَافِ الْأَوَّلِ، {رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ} [قريش: 2] {رِحْلَةَ} [قريش: 2] نَصْبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ، أَيِ ارْتِحَالَهُمْ رحلة الشتاء والصيف، كَانَتْ لَهُمْ رِحْلَتَانِ فِي كُلِّ عَامٍ لِلتِّجَارَةِ إِحْدَاهُمَا فِي الشِّتَاءِ إِلَى الْيَمَنِ لِأَنَّهَا أَدْفَأُ، وَالْأُخْرَى فِي الصَّيْفِ إِلَى الشَّامِ. وَكَانَ الْحَرَمُ وَادِيًا جَدْبًا لَا زَرْعَ فِيهِ وَلَا ضَرْعَ، وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تَعِيشُ بِتِجَارَتِهِمْ وَرِحْلَتِهِمْ، وَكَانَ لَا يَتَعَرَّضُ لَهُمْ أَحَدٌ بِسُوءٍ، كَانُوا يَقُولُونَ: قُرَيْشٌ سُكَّانُ حَرَمِ اللَّهِ وَوُلَاةُ بَيْتِهِ، فَلَوْلَا الرِّحْلَتَانِ لَمْ يكن لهم مقام بمكة وأمرهم الله بِعِبَادَةِ رَبِّ الْبَيْتِ فَقَالَ:
[3] {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ} [قريش: 3] أَيِ الْكَعْبَةِ.
[4] {الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} [قريش: 4] أَيْ مِنْ بَعْدِ جُوعٍ بِحَمْلِ الْمِيرَةِ إِلَى مَكَّةَ، {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] بِالْحَرَمِ وَكَوْنِهِمْ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ حَتَّى لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُمْ فِي رحلتهم.
[سورة الماعون]
[قوله تعالى أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّين فَذَلِكَ الَّذِي] يَدُعُّ الْيَتِيمَ. . .
(107) سورة الماعون [1] {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ} [الماعون: 1] أَيْ بِالْجَزَاءِ وَالْحِسَابِ.
[2] {فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ} [الماعون: 2] يَقْهَرُهُ وَيَدْفَعُهُ عَنْ حَقِّهِ، وَالدَّعُّ: الدَّفْعُ بِالْعُنْفِ وَالْجَفْوَةِ.
[3] {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} [الماعون: 3] لَا يَطْعَمُهُ وَلَا يَأْمُرُ بِإِطْعَامِهِ لِأَنَّهُ يُكَذِّبُ بِالْجَزَاءِ.(6/1033)
[4 - 5] {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ - الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4 - 5] سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ (الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ) ، قَالَ: "إِضَاعَةُ الْوَقْتِ " (1) قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ يَتْرُكُونَ الصَّلَاةَ إِذَا غَابُوا عَنِ النَّاسِ، وَيُصَلُّونَهَا فِي الْعَلَانِيَةِ إِذَا حَضَرُوا.
[6] لِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ} [الماعون: 6] وَقَالَ فِي وَصْفِ الْمُنَافِقِينَ: {وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ} [النِّسَاءِ: 142] وَقَالَ قَتَادَةُ: سَاهٍ عَنْهَا لَا يُبَالِي صَلَّى أم لم يصل. قيل: لَا يَرْجُونَ لَهَا ثَوَابًا إِنْ صَلَّوْا وَلَا يَخَافُونَ عِقَابًا إِنْ تَرَكُوا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: غَافِلُونَ عَنْهَا يَتَهَاوَنُونَ بِهَا. وَقَالَ الْحَسَنُ: هُوَ الَّذِي إِنْ صَلَّاهَا صَلَّاهَا رِيَاءً، وَإِنْ فَاتَتْهُ لَمْ يَنْدَمْ. وَقَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ: لَا يُصَلُّونَهَا لِمَوَاقِيتِهَا وَلَا يُتِمُّونَ رُكُوعَهَا وَسُجُودَهَا.
[7] {وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} [الْمَاعُونَ: 7] رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: هِيَ الزكاة. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: الْمَاعُونُ الْفَأْسُ وَالدَّلْوُ وَالْقِدْرُ وَأَشْبَاهُ ذلك. وقال مُجَاهِدٌ: الْمَاعُونُ الْعَارِيَةُ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: أَعْلَاهَا الزَّكَاةُ الْمَعْرُوفَةُ، وَأَدْنَاهَا عَارِيَةُ المتاع. وَقِيلَ: الْمَاعُونُ مَا لَا يَحِلُّ مَنْعُهُ مِثْلُ الْمَاءِ وَالْمِلْحِ وَالنَّارِ.
[سورة الكوثر]
[قوله تعالى إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ. . .]
(108) سورة الكوثر [1] {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: الْكَوْثَرُ الْخَيْرُ الْكَثِيرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ أَبُو بِشْرٍ قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: إِنَّ أُنَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهَرٌ فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ القرآن. قال عكرمة: النبوة والكتاب. وَالْمَعْرُوفُ: أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ أعطاه الله رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.
[2] قَوْلُهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر: 2] قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ: إِنْ أُنَاسًا كَانُوا يُصَلُّونَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَيَنْحَرُونَ لِغَيْرِ اللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ وَيَنْحَرَ لِلَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ -. وَقَالَ عِكْرِمَةُ وَعَطَاءٌ وَقَتَادَةُ: فَصَلِّ لِرَبِّكَ صَلَاةَ الْعِيدِ يَوْمَ النَّحْرِ وَانْحَرْ نَسُكَكَ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَمُجَاهِدٌ: فَصَلِّ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ بِجَمْعٍ، وَانْحَرَ الْبُدْنَ بِمِنًى.
[3] قوله - تعالى -: {إِنَّ شَانِئَكَ} [الكوثر: 3] عدوك ومبغضك، {هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر: 3] هُوَ الْأَقَلُّ الْأَذَلُّ الْمُنْقَطِعُ دَابِرُهُ.
[سورة الكافرون]
[قَوْلُهُ تَعَالَى قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ] . . .
(109) سورة الكافرون [1 - 2] {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ - لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1 - 2] فِي الْحَالِ.
[3 - 5] {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] فِي الْحَالِ، {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ} [الكافرون: 4] فِي الِاسْتِقْبَالِ {وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} [الكافرون: 5] فِي الِاسْتِقْبَالِ، وَهَذَا خِطَابٌ لِمَنْ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُمْ لا يؤمنون، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: إِنْ سَرَّكَ أَنْ نَدْخُلَ فِي دِينِكَ عَامًا فَادْخُلْ فِي دِينِنَا عَامًا، فَنَزَلَتْ هذه السورة.
[6] {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون: 6] في الشرك, {وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] الإسلام.
[سورة النصر]
[قوله تعالى إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ. . .]
[110] سورة النصر
_________
(1) أخرجه البيهقي في السنن (2 / 214) مرفوعا وموقوفا، وأبو يعلى في المسند موقوفا (1 / 336) والطبري (30 / 311) والمصنف في شرح السنة (2 / 246) .(6/1034)
[1] {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1] يَا مُحَمَّدُ عَلَى مَنْ عَادَاكَ وَهُمْ قُرَيْشٌ, وَالْفَتْحُ فَتْحُ مَكَّةَ.
[2] {وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا} [النصر: 2] زُمَرًا وَأَرْسَالًا الْقَبِيلَةُ بِأَسْرِهَا وَالْقَوْمُ بِأَجْمَعِهِمْ مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمَّا فَتَحَ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مَكَّةَ عَلَى رَسُولِهِ قالت العرب بعضها البعض: إِذَا ظَفِرَ مُحَمَّدٌ بِأَهْلِ الْحَرَمِ, وَقَدْ كَانَ اللَّهُ أَجَارَهُمْ مِنْ أَصْحَابِ الْفِيلِ, فَلَيْسَ لَكُمْ بِهِ يَدَانِ, فَكَانُوا يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا بَعْدَ أَنْ كَانُوا يَدْخُلُونَ وَاحِدًا وَاحِدًا, وَاثْنَيْنِ اثْنَيْنِ.
[3] {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 3] فإنك حينئذ لاحق به, قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ السُّورَةُ عَلِمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ نُعِيَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ. قَالَ الْحَسَنُ: أُعْلِمَ أَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ أَجْلُهُ فَأُمِرَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّوْبَةِ لِيُخْتَمَ لَهُ بِالزِّيَادَةِ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ. قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: عَاشَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السورة سبعين يوما.
[سورة المسد]
[قوله تعالى تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ. . .]
[111] سورة المسد [1] {تَبَّتْ} [المسد: 1] أَيْ خَابَتْ وَخَسِرَتْ {يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] أَيْ هُوَ, أَخْبَرَ عَنْ يَدَيْهِ وَالْمُرَادُ بِهِ نَفْسُهُ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي التَّعْبِيرِ بِبَعْضِ الشَّيْءِ عَنْ كُلِّهِ. وَقِيلَ: الْيَدُ صِلَةٌ, كَمَا يُقَالُ: يَدُ الدَّهْرِ وَيَدُ الرزايا والبلايا. وقيل: المراد به مَالُهُ وَمُلْكُهُ, يُقَالُ: فَلَانٌ قَلِيلُ ذَاتِ الْيَدِ, يَعْنُونَ بِهِ الْمَالَ والثياب والخسار وَالْهَلَاكُ. وَأَبُو لَهَبٍ هُوَ ابْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَمُّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْمُهُ عَبْدُ العزى وَتَبَّ أَبُو لَهَبٍ، وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ: وَقَدْ تَبَّ. قَالَ الْفَرَّاءُ: الْأَوَّلُ دُعَاءٌ, وَالثَّانِي خَبَرٌ, كَمَا يُقَالُ: أَهْلَكَهُ اللَّهُ, وَقَدْ فَعَلَ.
[2] {مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ} [المسد: 2] أَيْ مَا يُغْنِي, وَقِيلَ: أَيُّ شيء عَنْهُ مَالُهُ, أَيْ مَا يَدْفَعُ عَنْهُ عَذَابَ اللَّهِ مَا جَمَعَ مِنَ الْمَالِ؟ وَكَانَ صَاحِبُ مَوَاشٍ {وَمَا كَسَبَ} [المسد: 2] قِيلَ: يَعْنِي وَلَدَهُ لِأَنَّ وَلَدَ الْإِنْسَانِ مِنْ كَسْبِهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَطْيَبُ مَا يَأْكُلُ أَحَدُكُمْ مِنْ كَسْبِهِ, وَإِنَّ وَلَدَهُ من كسبه» (1) .
[3] ثم وعده بِالنَّارِ فَقَالَ: {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3] أَيْ نَارًا تَلْتَهِبُ عَلَيْهِ.
[4] {وَامْرَأَتُهُ} [المسد: 4] أُمُّ جَمِيلٍ بِنْتُ حَرْبِ بْنِ أمية
_________
(1) حديث صحيح روي من طرق بألفاظ متقاربة أخرجه أبو داود في الإجارات (5 / 182) ، والترمذي في الأحكام (4 / 592) ، وقال: حديث حسن، والنسائي في البيوع (7 / 241) ، وابن ماجه في التجارات برقم (2290- 2 / 768) ، والدارمي في البيوع (2 / 247) ، وصححه ابن حبان ص 268 من موارد الظمآن.(6/1035)
أُخْتُ أَبِي سُفْيَانَ {حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4] قال زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ: كَانَتْ تَحْمِلُ الشَّوْكَ وَالْعَضَاةَ فَتَطْرَحُهُ فِي طَرِيقِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَصْحَابِهُ لِتَعْقِرَهُمْ، وَهِيَ رِوَايَةُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ. كَانَتْ تَمْشِي بِالنَّمِيمَةِ وَتَنْقُلُ الْحَدِيثَ فَتُلْقِي الْعَدَاوَةَ بَيْنَ النَّاسِ، وَتُوقِدُ نَارَهَا كَمَا تُوقَدُ النار الحطب، يُقَالُ: فُلَانٌ يَحْطِبُ عَلَى فُلَانٍ إذا كان يغري به.
[5] {فِي جِيدِهَا} [المسد: 5] فِي عُنُقِهَا، وَجَمْعُهُ أَجْيَادٌ، {حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} [المسد: 5] وَاخْتَلَفُوا فِيهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: سِلْسِلَةٌ مِنْ حَدِيدٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا تَدْخُلُ فِي فِيهَا وَتَخْرُجُ مِنْ دُبُرِهَا، وَيَكُونُ سَائِرُهَا فِي عُنُقِهَا وَأَصْلُهُ من المسد وهو الفتل, والمسد مَا فُتِلَ وَأُحْكِمَ مِنْ أَيِّ شَيْءٍ كَانَ، يَعْنِي السِّلْسِلَةَ الَّتِي فِي عُنُقِهَا فَفُتِلَتْ مِنَ الْحَدِيدِ فَتْلًا مُحْكَمًا. وَرَوَى الْأَعْمَشُ عَنْ مُجَاهِدٍ: مِنْ مَسَدٍ أَيْ مِنْ حديد. قَالَ ابْنُ زَيْدٍ: حَبْلٌ مِنْ شَجَرٍ يَنْبُتُ بِالْيَمَنِ يُقَالُ لَهُ مَسَدٌ، قَالَ قَتَادَةُ: قِلَادَةٌ مَنْ وَدَعٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: كَانَتْ خَرَزَاتٌ في عنقها.
[سورة الإخلاص]
[قوله تَعَالَى قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ. . .]
[112] سورة الإخلاص [1] {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الْإِخْلَاصِ: 1] رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: انْسُبْ لَنَا رَبَّكَ فَأَنْزَلَ الله - تعالى - هَذِهِ السُّورَةَ (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) أَيْ وَاحِدٌ، وَلَا فَرْقَ بين الواحد والأحد.
[2] {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الصَّمَدُ الَّذِي لَا جَوْفَ لَهُ. قَالَ الشَّعْبِيُّ: الَّذِي لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ. وَقِيلَ تَفْسِيرُهُ مَا بَعْدَهُ. رَوَى أَبُو الْعَالِيَةِ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ: الصَّمَدُ الَّذِي لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، لِأَنَّ مَنْ يُولَدُ سَيَمُوتُ وَمَنْ يَرِثُ يُورَثُ مِنْهُ. قَالَ أَبُو وَائِلٍ شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قد انتهى سؤدده. وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: هُوَ السَّيِّدُ الَّذِي قَدْ كَمُلَ فِي جَمِيعِ أَنْوَاعِ السُّؤْدُدِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَيْضًا: هُوَ الْكَامِلُ فِي جَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ. وَقِيلَ: هُوَ السَّيِّدُ الْمَقْصُودُ فِي الْحَوَائِجِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: الصَّمَدُ الْبَاقِي بَعْدَ فَنَاءِ خَلْقِهِ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ: الصَّمَدُ الذي ليس فوقه أحد. وَقَالَ الرَّبِيعُ: الَّذِي لَا تَعْتَرِيهِ الْآفَاتُ. قَالَ مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: الَّذِي لَا عَيْبَ فِيهِ.
[3 - 4] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ - وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 3 - 4] قرأ حمزة وإسماعيل (كُفُوًا) سَاكِنَةُ الْفَاءِ مَهْمُوزًا، وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ بِضَمِّ الْفَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ، وَقَرَأَ الْآخَرُونَ بِضَمِّ الْفَاءِ مَهْمُوزًا، وَكُلُّهَا لُغَاتٌ صَحِيحَةٌ، وَمَعْنَاهُ: الْمِثْلُ أَيْ هُوَ أَحَدٌ، وقيل: هو على التقديم والتأخير مجازه: لم يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ كُفُوًا أَيْ مِثْلًا. قَالَ مُقَاتِلٌ: قَالَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّهِ، وَقَالَتِ اليهود: عزيز ابْنُ اللَّهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، فَأَكْذَبَهُمُ اللَّهُ وَنَفَى عن ذاته الولادة والمثل.
[سورة الفلق]
[قوله تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ] . . .
(113) سورة الْفَلَقِ [1] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الْفَلَقِ: 1] أَرَادَ بِالْفَلَقِ الصُّبْحُ، وَهُوَ قول أكثر المفسرين، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّهُ سِجْنٌ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: وَادٍ فِي جَهَنَّمَ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: يعني الخلق، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَعْرُوفُ.
[2 - 3] {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ - وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 2 - 3] الْمُرَادُ بِهِ الْقَمَرُ إِذَا خَسَفَ وَاسْوَدَّ: وَقَبَ أَيْ دَخَلَ فِي الخسوف أو أخذ فِي الْغَيْبُوبَةِ وَأَظْلَمَ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْغَاسِقُ اللَّيْلُ إِذَا أَقْبَلَ بِظُلْمَتِهِ مِنَ(6/1036)
الْمَشْرِقِ وَدَخَلَ فِي كُلِّ شَيْءٍ وأظلم، والغسق الظُّلْمَةُ، يُقَالُ غَسَقَ اللَّيْلُ وَأَغْسَقَ إِذَا أَظْلَمَ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ، يَعْنِي: اللَّيْلَ إِذَا أَقْبَلَ ودخل، والوقوب: الدُّخُولُ، وَهُوَ دُخُولُ اللَّيْلِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ قَالَ مُقَاتِلٌ: يَعْنِي ظُلْمَةَ اللَّيْلِ إِذَا دَخَلَ سَوَادُهُ فِي ضَوْءِ النَّهَارِ. وَقِيلَ: سُمِّيَ اللَّيْلُ غَاسِقًا لِأَنَّهُ أَبْرَدُ مِنَ النَّهَارِ، والغسق البرد.
[4] {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} [الفلق: 4] يَعْنِي السَّوَاحِرَ اللَّاتِي يَنْفُثْنَ فِي عُقَدِ الْخَيْطِ حِينَ يَرْقَيْنَ عَلَيْهَا. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: هُنَّ بَنَاتُ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ سَحَرْنَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[5] {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} [الفلق: 5] يَعْنِي الْيَهُودَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْسُدُونَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
[سورة الناس]
[قوله تعالى قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس مَلِكِ النَّاسِ. . .]
(114) سورة الناس [1- 4] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ - مَلِكِ النَّاسِ - إِلَهِ النَّاسِ - مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ} [الناس: 1 - 4] يَعْنِي الشَّيْطَانَ يَكُونُ مَصْدَرًا وَاسْمًا، قَالَ الزَّجَّاجُ: يَعْنِي الشَّيْطَانَ ذَا الْوَسْوَاسِ، الْخَنَّاسِ الرَّجَّاعِ، وَهُوَ الشَّيْطَانُ جَاثِمٌ عَلَى قَلْبِ الْإِنْسَانِ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وَإِذَا غُفِلَ وسوس. قال: الْخَنَّاسُ لَهُ خُرْطُومٌ كَخُرْطُومِ الْكَلْبِ فِي صَدْرِ الْإِنْسَانِ فَإِذَا ذَكَرَ الْعَبْدُ رَبَّهُ خَنَسَ. وَيُقَالُ: رَأْسُهُ كَرَأْسِ الْحَيَّةِ وَاضِعٌ رَأْسَهُ عَلَى ثَمَرَةِ الْقَلْبِ يُمَنِّيهِ وَيُحَدِّثُهُ، فَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ خَنَسَ وَإِذَا لَمْ يُذْكَرْ رَجَعَ فَوَضَعَ رَأْسَهُ.
[5] فَذَلِكَ {الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ} [النَّاسِ: 5] بِالْكَلَامِ الْخَفِيِّ الَّذِي يَصِلُ مَفْهُومُهُ إِلَى الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ سماع.
[6] {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6] يَعْنِي يَدْخُلُ فِي الْجِنِّيِّ كَمَا يدخل في الإنسي، ويوسوس الجني كما يوسوس الإنسي، قَالَهُ الْكَلْبِيُّ، وَقَوْلُهُ: فِي صُدُورِ النَّاسِ أَرَادَ بِالنَّاسِ مَا ذَكَرَ مِنْ بَعْدُ وَهُوَ الْجِنَّةُ وَالنَّاسُ، فَسَمَّى الْجِنَّ نَاسًا كَمَا سَمَّاهُمْ رِجَالًا، فَقَالَ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 6] والحمد لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا الله، رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما إلى يوم الدين، والحمد لله رب العالمين.(6/1037)